درس عن هجرتي الصحابة إلى الحبشة - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم التاريخ، التراجم و الحضارة الاسلامية

قسم التاريخ، التراجم و الحضارة الاسلامية تعرض فيه تاريخ الأمم السابقة ( قصص الأنبياء ) و تاريخ أمتنا من عهد الرسول صلى الله عليه و سلم ... الوقوف على الحضارة الإسلامية، و كذا تراجم الدعاة، المشائخ و العلماء

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

درس عن هجرتي الصحابة إلى الحبشة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2016-01-02, 09:29   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
أم سمية الأثرية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أم سمية الأثرية
 

 

 
الأوسمة
وسام التقدير 
إحصائية العضو










Post درس عن هجرتي الصحابة إلى الحبشة

فصل : فتنةُ المعَذَّبِين والهجرة إلى الحبشة
و لمَّا اشتدَّ أذى المشركين على مَن آمن وفَتَنُوا منهم جماعةً حتَّى إنهم كانوا يَصْبِرونهم ، و يُلقونهم في الحرِّ ، و يضعُونَ الصخرةَ العظيمةَ على صدرِ أحدِهم في شدَّة الحر ، حتى إنَّ أحدَهم إذا أُطْلِق لا يستطيعُ أن يجلسَ من شدَّة الألمِ فيقولون لأحدهم : اللَّاتُ إلهُك من دون الله . فيقول مُكْرَهاً : نعم ! و حتى إن الجُعَل ليمُرُّ فيقولون : و هذا إلهُك من دون الله . فيقول نعم ! و مَرَّ الخبيثُ عدوُّ الله أبو جهل عمرو بن هشام بسميةَ أمِّ عمار وهي تعذَّب و زوجُها وابنُها ، فطعنَها بحربةٍ في فرجها فقتلَها ، رضي اللهُ عنها و عن ابنِها و زوجِها .
******************************
عندنا في هذا الفصل فتنةُ المعذَّبين من الصحابةِ رضي اللهُ عنهم وبيانُ الهجرتين الأولى والثانية إلى الحبشة .
وسببُ اشتدادِ أذى المشركين للمسلمين أنهم رَأوا انتشارَ الإسلام، وكثرة من يسلم فاغتاظوا لذلك، وازداد أذاهم .
شأنُ الأعداء أنهم يغيظهم ظهورُ الحق وانتشارُ الحق .
ومما استفدنا من الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ في هذا ( الدَّعوَةُ إِذَا قَوِيَت كَثُرَ أَعدَاؤُهَا).
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } .
ثم ذكر الحافظُ ابنُ كثير ـ رحمه الله تعالى ـ أنواعًا من أذى كفارِ قريش للمسلمين .
فقال: (حتى إنهم كانوا يَصْبِرونهم) قال ابنُ الأثير في النهاية عن حديث :نَهى النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم عَنْ

قَتْل شَيْءٍ مِنَ الدَّواب صَبْراً» قال :هُوَ أَنْ يُمسَك شيءٌ من ذوات الرُّوح حيَّا ثم يُرْمى بِشَيْءٍ حَتَّى يَمُوتَ.
(حتَّى إن أحدَهم إذا أُطلِق)
أُطلق: أي خُلِّي سَبيلُه .
(فيقولون لأحدهم : اللَّاتُ إلهُك من دون الله . فيقول مُكرهاً : نعم !)
في بعض النسخ ( اللَّاتي ) والموافق للقرآن لفظ اللَّاتُ.
وهذا أحد موانع التكفير. فالتكفير له موانع:
الأول: الإكراه ، قال سبحانه و تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل:106] .
الثاني: الخطأ ، فإذا سبق اللسانُ إلى كلمةٍ كفريةٍ لا يضر، قال سبحانه و تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا... } [البقرة:286] وقال سبحانه {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }.
و في صحيح مسلم (2747) من حديث أنسِ بن مالك قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ) .
وفي معناهُ مَنْ أُغلق على عقله وغُطِّيَ عليه ، بسبب غضبٍ ،أو فرح ، أو سُكْرٍ ، ونحو ذلك ففي الصحيحين عن عليٍّ رضي اللهُ عنه أن حمزة سَكِرَ فقال حَمْزَةُ للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولِمن معه من الصحابة : هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي؟ .

الثالث: الجهل ، قال سبحانه و تعالى: {... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) } [الإسراء:15] .
وقال : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } .
وأخرج البخاري (7506) ومسلم (2756) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ: فَإِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ وَاذْرُوا نِصْفَهُ فِي البَرِّ، وَنِصْفَهُ فِي البَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لاَ يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ، فَأَمَرَ اللَّهُ البَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ البَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ " .
فهذا الرجل شكَّ في قدرة الله عز وجل ، والشك في قدرة الله كفر، لكن هذا الرجل لما كان جاهلاً ما ضرَّه في دينه و لا دخل بقوله في الكفر.
وهكذا قصةُ الحواريِّين ، قال سبحانه و تعالى عن الحواريين: { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) } [المائدة:112] .
ما كفَّرهم عيسى عليه السلام لكن أمرهم بتقوى الله وحذَّرهم من هذا القول .
الرابع وهو الأخير: التأويلُ السائغ، هناك تأويلات لا تُبرِّر العذرَ لصاحبها، مثل: أن ينكر شيئاً معلوماً من الدين ضرورة.
كإنكار البعث وجحد الصلوات الخمس و ما أشبه ذلك .
إلا إذا كان حديثَ عهدٍ بإسلام قال الشيخُ ابنُ عثيمين رحمه الله في القواعد المُثلى 89 : قال أهلُ العلم: لا يكفر جاحد الفرائض إذا كان حديث عهد بإسلام حتى يُبيَّن له.اهـ
وهكذا التأويل السائغ مانعٌ من الكفر .
قال الشيخُ ابنُ عثيمين رحمه الله في شرح كشف الشبهات43: من الموانع أيضاً أن يكون شبهة تأويل في الكفر بحيث يظن أنه على حق، لأن هذا لم يتعمد الإثمَ والمخالفة .
قال : فيكون داخلاً في {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }.
قال : ولأن هذا غاية جهده فيكون داخلاً في قوله - تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } .
قال في المغني 8/131: وإن استحل قتلَ المعصومين وأخذ أموالِهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك - يعني يكون كافراً - وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم، وفعلهم ذلك متقربين به إلى الله تعالى .
إلى أن قال وقد عُرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم، وأموالهم، واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاءُ بكفرهم لتأويلهم، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا". اهـ المرادُ
هذه أربعة أمور من موانع التكفير .
والتكفير مسألة خطيرة جدَّاً يُرجَع فيها إلى العلماء ، لأنهم السادةُ والقادةُ ،وهم الذين يُقيمون الحُججَ
كما قال تعالى {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } .
وبسببِ عدم الرجوعِ إلى أهل العلم الراسخين حصل انتشارُ التكفير وقد روى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالفُسُوقِ، وَلاَ يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ، إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ» .
وقولهُ (و حتى إن الجُعَل ليمر فيقولون : وهذا إلهُك من دونِ الله . فيقول نعم !).
قال الدَّمِيري في حياة الحيوان الكبرى (1/ 281 ) : الجُعَل كصُرَد ورُطب جمعه جِعْلان بكسر الجيم والعين ساكنة.
والناس يسمونه أبا جعران لأنه يجمع الجعر اليابس ويدخره في بيته.
وهو أكبر من الخُنفساء شديد السواد، في بطنه لون حمرة، للذكر قرنان، يوجد كثيرا في مراح البقر والجواميس ومواضع الروث .
ويتولَّدُ غالبا من أخثاء البقر ،ومن شأنه جمعُ النجاسة وادِّخارها .
ومن عجيب أمره أنه يموت من ريح الورد وريح الطيب، فإذا أعيد إلى الروث عاش .
وله جناحان لا يكادان يُريان إلا إذا طار ، وله ستة أرجل وسنام مرتفع جداً .
وهو يمشي القهقرى أي يمشي إلى خلف وهو مع هذه المشية يهتدي إلى بيته .
وإذا أراد الطيران تنفَّش فيظهر جناحاه فيطير .
ومن عادتِه أن يحرس النيامَ فمن قام لقضاء حاجته تبعه وذلك من شهوته للغائط لأنه قوَّته.اهـ المراد
(فيقولون : وهذا إلهك من دون الله . فيقول نعم !).
من شدَّة التعذيب يُظهر الكفر مُكْرَهَاً وهو في الباطن مؤمن ولهذا جزمَ أهلُ العلم أنَّ مكة لم يكن فيها نفاقٌ اعتقادي لضعف المسلمين ، ولا يُسلم فيها إلا مَن كان عن رغبة في الإسلام .
وقد فصَّل ابنُ كثير في تفسيره بكلامٍ يُستفادُ منه تاريخ ظهور النفاق -أعاذنا الله منه- .
قال في تفسير قوله تعالى { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ..} إِنَّمَا نَزَلَتْ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ
لِأَنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نِفَاقٌ بَلْ كَانَ خِلَافُهُ، مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يُظْهِرُ الْكُفْرَ مُسْتَكْرَهًا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُؤْمِنٌ.
فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ بِهَا الْأَنْصَارُ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَكَانُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ
يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ عَلَى طَرِيقَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَبِهَا الْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى طَرِيقَةِ أَسْلَافِهِمْ وَكَانُوا ثلاث قبائل: بنو
قينقاع حلفاء الخزرج، بنو النَّضِيرِ وَبَنُو قُرَيْظَةَ حُلَفَاءُ الْأَوْسِ .
فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وَأَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ قَبِيلَتَيِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَقَلَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ نِفَاقٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدُ شَوْكَةٌ تُخَافُ، بَلْ قَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَادَعَ الْيَهُودَ وَقَبَائِلَ كَثِيرَةً مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ حَوَالَيِ المدينة فلما كانت وقعة بدر وأظهر الله كلمته وأعز الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيِّ بْنِ سَلُولَ وَكَانَ رَأْسًا فِي الْمَدِينَةِ وَهُوَ مِنَ الْخَزْرَجِ وَكَانَ سَيِّدَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ فَجَاءَهُمُ الْخَيْرُ وَأَسْلَمُوا وَاشْتَغَلُوا عَنْهُ فَبَقِيَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بدر قال: هذا أمر الله قَدْ تَوَجَّهَ فَأَظْهَرَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَدَخَلَ مَعَهُ طَوَائِفُ مِمَّنْ هُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ وَنِحْلَتِهِ وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
قال : فَمِنْ ثَمَّ وُجِدَ النِّفَاقُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ .
قال : فَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ نافق لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُهَاجِرُ مُكْرَهًا بَلْ يهاجر فيترك مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَرْضَهُ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. اهـ
(و مرَّ الخبيثُ عدُوُّ الله أبو جهل عمرو بن هشام بسميَّة أم عمار، وهي تعذَّب وزوجها وابنها ، فطعنها بحربة في فرجها فقتلها ، رضي الله عنها و عن ابنها وزوجها.)
هؤلاء الثلاثةُ -وهم آلُ ياسرٍ- عذَّبهم المشركون ولهم السَبْق في الإسلام، وهم ممَّن فتنَهم المشركون.
وأوَّل من أظهر الإسلامَ سبعةٌ ، وأمَّا الباقون فكانوا يخفون إسلامهم، خوفاً من إهانةِ وتعذيب المشركين لهم.
أخرج ابنُ ماجة في سننه (150 )عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: " كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا، إِلَّا بِلَالًا، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ " .
والحديث حسن من أجل عاصم ابنِ أبي النجود ، وقد حسَّنه والدي رحمه الله في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين رقم 847.
فهؤلاء السبعةُ سبقوا في إظهار الإسلام ومنهم عمَّار ووالدته سُميَّة رضي الله عنهم جميعاً .
واتوهم أي وافقوهم تقيةً ، نعوذ بالله من الفتن .
وهناك حديث أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (1508 ) والحاكم في المستدرك (5666 )من طريق أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَهْلِهِ، وَهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: «أَبْشِرُوا آلَ يَاسِرٍ، مَوْعِدُكُمُ الْجَنَّةُ».
وأبوالزبير مدلِّسٌ وقد عنعن .
وله شواهدُ وقد ذكرهُ الشيخُ الألباني رحمه الله في صحيح السيرة .
سمية والدة عمار ، كانت عجوزاً ضعيفة ، وقد عذَّبها المشركون لترجع عن دينها .
ويذكرون -والله أعلم -وكذا يذكره أهلُ السير أنه مرَّ بها أبو جهل فطعنها في قُبُلِها فماتت - رضي الله عنها - .
يقول أهل السير: وهي أولُ شهيدة في الإسلام .
ياسر زوجها صحابي جليل وعُذِّب في الله عز وجل ، وكذلك عمار بن ياسر وهو أبواليقظان، هؤلاء الثلاثة ممن عذَّبهم الكفار وفتنوهُم ، والفتنة هي الابتلاء .
****************************
و كان الصِدِّيق رضي الله تعالى عنه إذا مرَّ بأحد من الموالي يُعذَّب ، يشتريه من مواليه ،ويعتقُه ، منهم بلال ، وأمه حمَامة ، و عامر بن فُهيرة ، وأم عُبَيْس ، و زُهيرة ، و النَّهدية ، و ابنتُها ، و جارية لبني عدي ، كان عمر يعذِّبها على الإسلام قبل أن يُسلم . حتى قال له أبوه أبو قحافة : يا بُنيَّ ، أراك تُعتق رقاباً ضعافاً فلو أعتقت قوماً جُلْداً يمنعونك . فقال له أبو بكر : إني أريد ما أريد . فيقال إنه نزلت فيه { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى }، إلى آخر السورة .
******************************
قوله (و كان الصدِّيق رضي الله تعالى عنه) أبوبكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ممن أُذن له في الهجرة إلى الحبشة، لكنه
لما وصل إلى بَرْكِ الغماد - موضع - لقيه ابنُ الدَّغنة فيه وجعله في جواره فرجع رضي اللهُ عنه وتقدم في الشرح (فَأَمَّا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ ).
ونسوقُ الشاهد من قصة أبي بكرٍ في هذا للعبرة والاستفادة .
في صحيح البخاري (3905) أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَأَنَا لَكَ جَارٌ ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلَا يُخْرَجُ أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَانْهَهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ...) الحديث .
(أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي)ما أخبره بالجهة التي يقصدها خوفاً على نفسه. (فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ) أي لم يردُّوا قوله) .
( فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ ) رفعوا الأمر إلى ابن الدغنة.( فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ) كان عندهم محافظة على سمعتهم ووفاء بالوعد.
استفدنا من هذا أن أبابكر ـ رضي الله عنه ـ كان قد أُذن له بالهجرة إلى الحبشة ثم رَجَعَ لما أمَّنَهُ ابن الدَّغِنَة.
( و كان الصدِّيق رضي الله تعالى عنه إذا مرَّ بأحدٍ من الموالي يُعذَّب ، يشتريه من مواليه و يعتقه).
مواليه هنا : أسياده.
(منهم بلال ، وأمه حَمامة ، و عامر بن فُهيرة ، وأم عُبَيْس ، و زهيرة ، و النهدية ، و ابنتها ، و جارية لبني عدي)
هؤلاء موالي لأبي بكرٍ لأنه أعتقهم رضي اللهُ عنهم أجمعين .
بلال : مولى أبوبكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ولاء عتق .
وبلال بن رباح الحبشي مؤذن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
و أمه حمامة صحابية - رضي الله عنها - ممن كان يُعذَّبُ في الله .
ولها ترجمة في الإصابة في معرفة الصحابة للحافظ ابنِ حجر .
عامر بنُ فُهيرة : مولى أبي بكر كان ممن يُعذب في الله وقصته في الهجرة من مكة إلى المدينة مرافقاً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر في صحيح البخاري (3905) .
أُمُّ عبيس :وقع في ط مكتبة الهدي المحمدي الطبعة الأولى : عَبْس .
والصواب ما أثبتناه قال ابن الأثير في أُسْدِ الغابة (7/353) :عبيس: بضم العين المهملة، وفتح الباء الموحدة، وتسكين الياء تحتها نقطتان، وآخره سين مهملة .
(و جارية لبني عدي كان عمرُ يعذبها على الإسلام قبل أن يُسلم).
وقد كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ شديداً على المسلمين قبل إسلامه حتى إنه ثبت في صحيح البخاري من طريق قَيْس ـ وهو ابن أبي حازم ـ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ لِلْقَوْمِ: ( لَوْ رَأَيْتُنِي مُوثِقِي عُمَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَا وَأُخْتُهُ وَمَا أَسْلَمَ وَلَوْ أَنَّ أُحَدًا انْقَضَّ لِمَا صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَنْقَضَّ) .
ربطَ عمرُ سعيدَ بن زيد أحد المبشرين بالجنة ،وزوجته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم أجمعين - فعل ذلك تعذيباً لهم ، ولإرجاعهم من الإسلام إلى الكفر .
وفاطمةُ بنت الخطاب يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى – تحت رقم (763) عن أُمِّ الْفَضْلِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ اسْمَهَا لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةِ وَيُقَالُ إِنَّهَا أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَسْلَمَتْ بَعْدَ خَدِيجَةَ .
قال : وَالصَّحِيحُ أُخْتُ عُمَرَ زَوْجُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ حَدِيثِهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَعُمَرَ مُوثِقِي وَأُخْتَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَاسْمُهَا فَاطِمَةُ .اهـ
هذه فائدة ،السيرة سهلة الحفظ و ممتعة و يفرح بها الصغار.
تقدم أول من أسلم من النساء خديجة .
وأول من أسلم من النساء بعد خديجة فاطمة بنت الخطاب .
وتقدم أول شهيدة في الإسلام سُمية رضي الله عنهن أجمعين .
عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أسلم كان في جُوار العاصِ بوَّب البخاري وقال : بَابُ إِسْلاَمِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
ومن ضِمْنِ ما ذكرهُ تحت هذا الباب برقم (3864) عن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَمَا هُو –أي عمر - فِي الدَّارِ خَائِفًا، إِذْ جَاءَهُ العَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ أَبُو عَمْرٍو، عَلَيْهِ حُلَّةُ حِبَرَةٍ وَقَمِيصٌ مَكْفُوفٌ بِحَرِيرٍ، وَهُوَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، وَهُمْ حُلَفَاؤُنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُكَ؟ قَالَ: " زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونِي إِنْ أَسْلَمْتُ، قَالَ: لاَ سَبِيلَ إِلَيْكَ، بَعْدَ أَنْ قَالَهَا أَمِنْتُ، فَخَرَجَ العَاصِ فَلَقِيَ النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمُ الوَادِي، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا: نُرِيدُ هَذَا ابْنَ الخَطَّابِ الَّذِي صَبَا، قَالَ: لاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ فَكَرَّ النَّاسُ "
، فكرَّ الناس أي تركوا وانصرفوا؛ لأنه في جوار وائل بن العاص .
وعزَّ الله عز وجل الإسلامَ وتمكَّن الإسلامُ شيئاً فشيئاً لمَّا أسلم عمر ـ رضي الله عنه ـ ثبت في صحيح البخاري برقم (3863) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ).
الهداية بيد الله عز وجل ، عمر بن الخطاب قبل أن يسلم كان شديداً على المسلمين، ولما أسلم كان شجاعًا بطلاً مناصرًا للرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وكان إسلامه فتحاً وقوَّةً للإسلام والمسلمين .
(حتى قال له أبوه أبو قحافة)
هذا والد الصدِّيق واسمه عثمان صحابي أسلم وقد كان كبيرًا في السن .
ونذكر هنا فائدة يقول ابن الصلاح ـ رحمه الله تعالى ـ : ( لا نعلم أربعة من الصحابة على نسقٍ سوى هؤلاء الأربعة هم محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة).
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى – في مختصر علوم الحديث (ويقاربهم عبدُ الله بن الزبير أمه أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة )- رضي الله عنهم – جميعاً .
(يا بني ، أراك تُعتِق رقاباً ضعافاً فلو أعتقتَ قوماً جُلْداً يمنعونك )
أي: أقوياء يمنعونك ويكونون أنصاراً لك.
(فقال له أبو بكر : إني أريدُ ما أريد)
أريد الأجر في إنقاذ هؤلاء المستضعفين من أيدي المشركين.
(فيُقال إنه نزلت فيه {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} ، إلى آخر السورة.) [الليل:17،18]
هذا لم يثبت سنده ، جاء عند ابنِ أبي حاتمٍ في تفسير هذه الآية عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَعْتَقَ سبعة كلهم يعذب في الله، بلال وَعَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ وَالنَّهْدِيَّةَ وَابْنَتَهَا وَزِنِّيرَةَ وَأُمَّ عِيسَى وَأَمَةَ بَنِي الْمُؤَمِّلِ، وَفِيهِ نَزَلَتْ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إِلَى آخَرِ السُّورَةِ .
وهذا منقطِعٌ .
قال العلائي رحمه الله في جامع التحصيل 236 قال أبو حاتم وأبو زرعة حديثه –أي عروة- عن أبي بكر الصديق وعمر وعلي رضي الله عنهم مرسل . اهـ
وله طريق أخرى مرسلة عند ابنِ هشام في السيرة 192 .
وقد حُكي ذلكَ إجماعاً قال ابنُ الجوزي في زادِ المسير في تفسير هذه الآية : يعني: أبا بكر الصدِّيق في قول جميع المفسرين .
وقال الحافظ ابنُ كثير في تفسيره : قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ حَكَى الْإِجْمَاعَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى ذَلِكَ .
وَلَا شَكَّ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهَا وَأَوْلَى الْأُمَّةِ بِعُمُومِهَا فَإِنَّ لَفْظَهَا لَفْظُ الْعُمُومِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى }وَلَكِنَّهُ مُقَدَّمُ الْأُمَّةِ وَسَابِقُهُمْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَسَائِرِ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا تَقِيًا كَرِيمًا جَوَادًا بَذَّالًا لِأَمْوَالِهِ فِي طَاعَةِ مَوْلَاهُ وَنُصْرَةِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَكَمْ مِنْ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ بَذَلَهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْكَرِيمِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ عِنْدَهُ مِنَّةٌ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكَافِئَهُ بِهَا، وَلَكِنْ كَانَ فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ عَلَى السَّادَاتِ وَالرُّؤَسَاءِ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ سَيِّدُ ثَقِيفٍ يَوْمَ صُلْحِ الحديبية: أما والله لولا يدلك كَانَتْ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ .
وَكَانَ الصدِّيق قد أغلظ له في المقالة، فإن كَانَ هَذَا حَالُهُ مَعَ سَادَاتِ الْعَرَبِ وَرُؤَسَاءِ القبائل فكيف بمن عداهم، ولهذا قال تعالى:{ وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى}. اهـ
قلت: ومن الأدلة على أنه كان رضي الله عنه كريماً يعطي وينفق من ماله نصرة للإسلام وللحق ما أخرج البخاري في صحيحه(466) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ» ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ؟ إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ العَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِي المَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ، إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ».
رضي اللهُ عنْ أبي بكرٍ الصِّديق وأرضاهُ .
******************************
فلمَّا اشتد البلاءُ أذِن الله سبحانه وتعالى في الهجرة إلى أرض الحبشة و هي في غرْب مكة ، بين البلدين صحارى السودان ، و البحر الآخذ من اليمن إلى القُلزُم .
فكان أول من خرج فاراً بدينه إلى الحبشة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، و معه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وتبعه الناس .
وقيل : بل أوَّل من هاجر إلى أرض الحبشة أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك .
ثم خرج جعفرُ بن أبي طالب و جماعاتٌ رضي الله عنهم وأرضاهم و كانوا قريباً من ثمانينَ رجلاً .
و قد ذكر محمدُ بن إسحاق في جملةِ من هاجرَ إلى أرض الحبشة أبا موسى الأشعري عبدَ الله بن قيس ، وما أدري ما حمله على هذا ؟ فإن هذا أمرٌ ظاهر لا يخفى على مَن دونَه في هذا الشأن ، و قد أنكر ذلك عليه الواقدي وغيرُه من أهل المغازي ، و قالوا : إن أبا موسى إنما هاجر من اليمن إلى الحبشة إلى عند جعفر ، كما جاء ذلك مصرحاً به في الصحيح من روايته رضي الله عنه
******************************
(فلما اشتد البلاءُ أذن الله سبحانه وتعالى في الهجرة إلى أرض الحبشة و هي في غرْب مكة ، بين البلدين صحارى السودان ، و البحر الآخذِ من اليمن إلى القلزم)
وهذه هي الهجرة الأولى إلى الحبشة كانت سنة خمس من المبعث.

(فكان أول من خرج فاراً بدينه إلى الحبشة عثمانُ بن عفان رضي الله عنه)
مختلف في أول من خرج مهاجراً إلى الحبشة.

عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ خرج مهاجراً ومعه زوجته رقية بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، وعثمان بن عفان ممن هاجر الهجرتين إلى الحبشة .
وقد أخرج ابنُ أبي عاصم في السنة (1311)عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: خَرَجَ عُثْمَانُ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَمَعَهُ ابْنَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا احْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُهُمْ، فَكَانَ يَخْرُجُ فَيَتَوَكَّفُ عَنْهُمُ الْخَبَرَ. فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَحِبَهُمَا اللَّهُ، إِنَّ عُثْمَانَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى اللَّهِ بِأَهْلِهِ بَعْدَ لُوطٍ» .
لكن الحديث ضعيف. ذكرناه لمعرفة حاله، فيه بشار بن موسى الخفَّاف، قال عنه الإمام البخاري: منكر الحديث.
وذكره الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ في السلسلة الضعيفة (3181) .
هجرة الصحابة رضوان الله عليهم إلى الحبشة دليل على أنه إذا لم يتيسر الهجرة إلى بلد مسلمة، وكان هناك بلد كفر أخف فإنه يهاجر إليها ، والهجرة فيها مشقة؛ لأن المهاجر يترك أهله ووطنه و داره و ممتلكاته ويخرج فاراً بدينه إلى الله عز وجل ، و لكن في ذلك الأجر، والجزاء بالجنة لمن كانت نيته الهجرة إلى سبحانه وتعالى جعلنا الله و إياكم من أهل الجنة .
والنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يبشر؛ أنَّ هناك هجرةً أخرى ويقول: (إِنَّ الْمُهَاجِرَ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) أي المهاجر الحقيقي ، الذي يترك المعاصي ،ويتقي الله عز وجل هذا يُعدُّ مهاجرًا.
(ثم خرج جعفرُ بنُ أبي طالب و جماعاتٌ رضي الله عنهم وأرضاهم)
مِن هنا يبدأُ ذكرُ الهجرةِ الثانية إلى الحبشة
الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ ذكر في هذا الفصل الهجرتين إلى الحبشة، الهجرة الأولى تكلم عنها في بدايةِ الفصل ، ثم ذكر الهجرة الثانية وبدايتها في قوله: (ثم خرج جعفر بن أبي طالب و جماعات رضي الله عنهم...)
الهجرة الأولى إلى الحبشة كان عدد الذين خرجوا أحد عشر رجلًا و أربع نسوة .
ومن الرجال عثمان بن عفان، و عثمان بن مظعون، و عبدالرحمن بن عوف، و الزبير بن العوَّام وآخرون.
والأربع النسوة أم سلمة، و رقية بنت النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ و سهلة زوجة أبي حذيفة، و ليلى.
وليلى بنت أبي حثمة ابن حذيفة قال الحافظ قال ابن سعد: أسلمت قديما، وبايعت وكانت من المهاجرات الأُوَل، هاجرت الهجرتين إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، يقال: إنها أول ظعينة دخلت المدينة في الهجرة، ويقال أم سلمة . يراجع الإصابة لابن حجر رحمه الله .
هؤلاء الذين ذهبوا إلى الحبشة في الهجرة الأولى تسلَّلُوا، و خرجوا مختَفين؛ لئلا يطَّلِع عليهم كفار قريش فيؤذوهم .
ثم بعد ذلك أخبارٌ أُشيعت أنَّ أهلَ مكة أسلموا، يقول بعضهم السبب في هذه الإشاعة ما في صحيح البخاري (1067) وصحيح مسلم (576)عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجْمَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى - أَوْ تُرَابٍ - فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا "، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا .
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم : هَذَا الشَّيْخُ هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَقَدْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا وَلَمْ يَكُنْ أسْلَمَ قَطُّ .اهـ
فانتشر الكلام بإسلام أهل مكة ـ الله المستعان ـ فرجع بعضُ من هاجر. ولما رجعوا و رأوا أن العذاب والأذى أكثر مما كان، منهم من رجع إلى الحبشة ، ومنهم من بقي .
وبالنسبة لسجود المشركين فيه احتمالات منها : أنهم تأثَّروا بالقرآن، فإن القرآن مؤثِّر فلهذا سجدوا .

و منها أنه التبس عليهم أنه يمدح آلهتهم ، كما قيل (حُبُّك الشيء يعمي ويُصِمُّ).
أما ما جاء أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ مدحَ آلهتَهم في التلاوة و أنه قال كلمات منها : (تلك الغرانيقُ العُلى منها الشفاعة تُرتجى) ، و أنه نزل في ذلك قوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)} [الحج:52] .
فهذا ليس بصحيح وقد وعد الله عز وجل بحفظ دينه، والقصة منكرة ضعَّفها المحققون من أهل العلم.
قال القاضي رحمه الله في إكمال المُعْلِم (2/ 293) :لا يصح هذا فى شىءٍ من طريق النقل ، ولا من طريق العقل ؛ لأنَّ مدح اَلهة غير الله كفر الخ ما قال .
والشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ له رسالة في تضعيفها (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق) .
وكان الوالد الشيخ مقبل الوادعي ـ رحمه الله تعالى ـ أيضاً يضعفها.
والقصة مشهورة ، لكنه قد تشتهر أحاديث وهي مكذوبة، قد تشتهر أقوال وهي مكذوبة، والواجب التثبت.

وأما الهجرة الثانية إلى الحبشة فخرج فيها جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ هو و زوجته أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - .
أسماء بنت عميس تزوجت بثلاثة بجعفر بن أبي طالب، ثم تزوجت بأبي بكر الصديق، ثم تزوجت بعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ
وممن خرج في هذه الهجرة أمُّ حبيبة - رملـة بنتُ أبي سفيان - رضي الله عنها - هي وزوجُها عبيد الله بن جحش خرجا هارِبَين بدينِهما .
أمَّا أمُّ حبيبة فثبتت على إسلامها، و أمَّا زوجها عبيدالله فارتدَّ و تنصَّرـ والعياذ بالله ـ وفي درسنا مواقف في الثبات سنذكرها بعدُ إن شاء اللهُ .
(و كانوا قريباً من ثمانين رجُلاً)
كم كان عدد أصحاب الهجرة الثانية؟ .
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ : (و كانوا قريباً من ثمانين رجلاً) .
وكان عددُ النساء ثماني عشرةَ امرأة.
(و قد ذكر محمدُ بن إسحاق في جُملةِ مَن هاجر إلى أرض الحبشة أبا موسى الأشعري عبدَ الله بن قيس ، وما أدري ما حمله على هذا ؟ الخ)
فيه إشكال أن يكون أبوموسى الأشعري هاجر من مكة إلى الحبشة؛ لأنه ثبت أنه خرج من اليمن إلى الحبشة كما أخرج البخاري في صحيحه (3876) عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكُمْ أَنْتُمْ يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ) .
(فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ)يعني قدَراً، و لم يكن هذا مقصوداً جاءت أمواج فألقتْهم إلى الحبشة.
(فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ )فتحُ خيبر كان في السنة السابعة للهجرة.
من قال بأن أبا موسى الأشعري هاجر من مكة إلى الحبشة فهذا معتمِد على روايةٍ في مسند أحمد (7/ 408) عن عبدالله بن مسعود وهو يدل أن هجرته إلى الحبشة كانت من مكة .
ولكن الرواية فيها حُديج بن معاوية وهو ضعيف ، على هذا لا يعارض ما في الصحيح فإن الضعيف لا يقوى على معارضة الصحيح .
وأما الحافظ ابنُ حجر في فتح الباري تحت رقم (3876) فحسَّن إسنادَه ولهذا احتاج للجمع بين الروايتين وقال : وَقَدِ اسْتُشْكِلَ ذِكْرُ أَبِي مُوسَى فِيهِمْ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا مُوسَى خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ هُوَ وَجَمَاعَةٌ قَاصِدًا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَأَلْقَتْهُمُ السَّفِينَةُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فَحَضَرُوا مَعَ جَعْفَرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ أَبُو مُوسَى هَاجَرَ أَوَّلًا إِلَى مَكَّةَ فَأَسْلَمَ فَبَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَنْ بَعَثَ إِلَى الْحَبَشَةِ فَتَوَجَّهَ إِلَى بِلَادِ قَوْمِهِ وَهُمْ مُقَابِلُ الْحَبَشَةِ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ فَلَمَّا تَحَقَّقَ اسْتِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِالْمَدِينَةِ هَاجَرَ هُوَ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَلْقَتْهُمُ السَّفِينَةُ لِأَجْلِ هَيَجَانِ الرِّيحِ إِلَى الْحَبَشَةِ فَهَذَا مُحْتَمَلٌ وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَخْبَارِ فَلْيُعْتَمَدْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . اهـ
وينظر زاد المعاد (3/25) فلابن القيم كلامٌ على هذا .
(و قد أنكر ذلك عليه الواقدي)
محمد بن عمر من أصحاب المغازي وهو متروك.
******************************
فانحازَ المهاجِرون إلى ممْلكةِ أصْحمةَ النجاشي فآواهم و أكرمَهم ، فكانوا عنده آمنين . فلما علمت قريشٌ بذلك بعثتْ في إثرهم عبدَ الله بن أبي ربيعة و عمرو بن العاص بهدايا و تُحَف من بلادهم إلى النجاشي ، ليردَّهم عليهم ، فأبى ذلك عليهم و تشفَّعوا إليه بالقوَّاد من جُنده ، فلم يُجِبهم إلى ما طلبوا ، فوشَوا إليه : إنَّ هؤلاءِ يقولون في عيسى قولاً عظيماً ، يقولون : إنه عبدٌ ، فأُحضِر المسلمونَ إلى مجلسه ، و زعيمُهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال : ما يقول هؤلاءِ إنكم تقولون في عيسى ؟ ! فتلا عليه جعفر سورة " كهيعص " فلما فرغ أخذ النَّجاشيُّ عوداً من الأرض فقال : ما زاد هذا على
ما في التوراة و لا هذا العُود ، ثم قال : اذهبوا فأنتم شُيومٌ بأرضي ، من سبَّكم غُرِّم ، و قال لعمرو وعبد الله : و الله لو
أعطيتموني دَبْراً من ذهب -يقول : جبلاً من ذهب -ما سلمتهم إليكما ، ثم أمر فرُدَّت عليهما هداياهما ، و رَجعا مقبُوحَيْنِ بشرِّ خَيبةٍ و أسوئِها.
******************************
(فانحاز المهاجرون إلى ممْلكةِ أصحمة النجاشي)
أصحمة اسم النجاشي، والنجاشي رجل فاضل، وهو من جملة المُخضرمين، و لما مات النجاشي صلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عليه صلاة الغائب كما في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي اليَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ خَرَجَ إِلَى المُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا» .
ثم ذكر قصة الذين هاجروا إلى الحبشة وكيد قريش لهم لمَّا علمت إيواء النجاشي لهم ومحاولتهم رد المهاجرين إلى مكة فأرسلوا اثنينِ أحدُهما عمرو بنُ العاص بن وائل من دُهاة العرب والثاني عبدالله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي .
والقصة في مسند أحمد من حديث أم سلمة رضي اللهُ عنها بسندٍ حسن ونسوقُ الشاهدَ للاستفادة والتذكير .
تقول أمُّ سلمةَ رضي اللهُ عنها : إنه لَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ: الْأَدَمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إِلَّا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ وَأَمَرُوهُمَا أَمْرَهُمْ وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعَا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ إِلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ قَالَتْ: فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، وَخَيْرِ جَارٍ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إِلَّا دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ، ثُمَّ قَالَا: لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِنَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسَلِّمَهُمْ إِلَيْنَا، وَلَا يُكَلِّمَهُمْ فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ. ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُمْ إِلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالَا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ .
ثم قالا له نحواً مما قالا لبطارقة النجاشي .
فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إِلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ. قَالَ: فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ ثُمَّ قَالَ لَا هَايْمُ اللهِ إِذًاً لَا أُسْلِمَهُمْ إِلَيْهِمَا وَلَا أَكَادُ قَوْمًا جَاوَرُونِي، وَنَزَلُوا بِلَادِي وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ أَسْلَمْتُهُمْ إِلَيْهِمَا وَرَدَدْتُهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي قَالَتْ: ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا. ثُمَّ قَالَ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ مَا عَلِمْنَا وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ فَلَمَّا جَاءُوهُ، وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ، سَأَلَهُمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ؟ .
قَالَتْ: فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ. حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، " فَدَعَانَا: إِلَى اللهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ. وَنَهَانَا عَنْ: الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ. وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ ". قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ، وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَبَدْنَا اللهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا فَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا، وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ.
قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ كهيعص. قَالَتْ: فَبَكَى وَاللهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ انْطَلِقَا فَوَاللهِ لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْكُمْ أَبَدًا وَلَا أَكَادُ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللهِ لَآتِيَنَّهُ غَدًا أَعِيبُهُمْ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ.
قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا،: لَا تَفْعَلْ؛ فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا.
قَالَ: وَاللهِ لَأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ. قَالَتْ: ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ الْغَدَ. فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ فِيهِ مَا قَالَ اللهُ وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ قَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ.
قَالَتْ: فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا. ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ: مَا قَالَ فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللهِ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي.، وَالسُّيُومُ: الْآمِنُونَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرَ ذَهَبٍ وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ، وَالدَّبْر بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْجَبَلُ، رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِهَا الحديث .
والرواية التي ذكرها ابنُ كثير (شُيوم ) قَوْمٌ شُيُومٌ: آمِنُونَ، حَبَشِيَّةٌ. كذا في لسانِ العرب .
(من سبَّكم غرم ) عليه غرامة سجن أو مال أو عقوبةٌ هذا في السبِّ فكيف بالأذى والضرب والقتل .
و حديث أم سلمة في الصحيح المسند للوالد الشيخ مقبل الوادعي ـ رحمهما الله تعالى ـ .
(بشر خَيبة و أسوئِها)
الخيبةُ : الحِرمان .

وهذا الفصل في أذى المشركين للمسلمين بأنواعٍ من العذاب .
وثبات الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - مع شدة التعذيب الذي وقع لهم، والإهانة التي حصلت لهم، ولم يرجعوا عن دينهم ـ نسأل الله الثبات ـ .
وثبات النجاشي فإنه لما قال للمهاجرين إليه : اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي ، من سبكم غرم، نخرت بطارقته قال ابنُ الأثير في النهاية : أَيْ تَكَلَّمَتْ، وَكَأَنَّهُ كلامٌ مَعَ غَضَبٍ ونُفُور.
فقال النجاشي وإن نخَرتم لن أُسْلمهم) .
عكس هِرَقل عظيم الروم ، هرقل جمع أصحابَه (فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالَ رُدُّوهُمْ عَلَيَّ وَقَالَ إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَقَدْ رَأَيْتُ فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ) متفقٌ عليه .
بقى على كفره حتى توفي ، وقد كان في نفسه أن يُسلِمَ لكنه ما ثبَت أثَّر عليه جلساؤه ،فمن أسباب عدم الثبات جُلساءُ السوء ، وخاف أيضاً على المُلك، فالمُلك سُكْر وفتنة .
الجليس له تأثير عظيم في الخير وفي الشر، و لهذا ربنا تبارك و تعالى يقول: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) }[الفرقان] .
يدعو بالويل على نفسه، يتحسر على مصاحبته لجليس السوء فقد سعى في إضلاله قولا وفِعْلا .
وفي سورة الصافات { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)}
)مَدِينُونَ) أي مبعوثون. (مُطَّلِعُونَ): نطَّلع إلى هذا الذي كان يدعونا إلى الفساد والكفر والضلال يقول لأهل الجنة: (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)أي: في وسط النار ـ والعياذ بالله - (قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ) كدت أن تهلكني بدعوتك . (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) عزو النعمة إلى معطيها وهو الله عز وجل، وهكذا في كل الأحوال الإنسان يعترف بفضل الله عز وجل ، وهذا من تمام التوحيد ،لا يقول : هذا بذكائي ، وبحسن تصرفي ، الذي يعزو إلى نفسه ، هذا مخطئ ، هذا نقصٌ في التوحيد ، قال تعالى منكراً ذلك على قارون : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } [القصص:78] .
وهذا من الأخطاء في العقيدة ننتبه إلى هذا الأمر في كلامنا و تصرفاتنا و نربي أبنائنا على عزوِ النعمة إلى الله عز وجل .

درسُنا هذا اليوم عن هجرتي الصحابة إلى الحبشة لمَّا اشتدَّ أذى المشركينَ لهم .

وصبرُهم وثباتُهم على دين الله عز وجل، ومن قال شيئاً فإنما هو إكراهٌ رضي الله عنهم أجمعين .


https://alwadei967.blogspot.fr/2015/12/29-1437.html

الكاتب أم عبدالله الوادعية









 


آخر تعديل أم سمية الأثرية 2016-01-02 في 20:48.
رد مع اقتباس
قديم 2016-01-02, 13:10   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
الشاهين الصياد
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك










رد مع اقتباس
قديم 2016-01-02, 13:27   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
أم سمية الأثرية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أم سمية الأثرية
 

 

 
الأوسمة
وسام التقدير 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الشاهين الصياد مشاهدة المشاركة
بارك الله فيك

وفيكم بارك الله









رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
دبزة, شحاتة, هجرة

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 09:02

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2023 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc