كم من عظماء الرجال زالت عظمتهم أو قلت قيمتهم بمرور الزمان عليهم ، وتنبه الناس تنبيها صحيحا لأعمالهم ، ووزنهم بموازين عصرهم . ولكن رسول الله محمد – صلى الله عليه وسلم – ظلت قيمته قيمته ، وعظمته عظمته ، مهما اختلفت العصور ، وتغيرت الموازين ، بل إن الزمن ليزيد عظمته وضوحا ، والموازين الأخلاقية الجديدة تزيد مكانته رفعة .
وكم حاول خصومه في مختلف العصور أن ينتقصوا من قدره بشتى الأساليب ومختلف الأكاذيب ، فنالوا من أنفسهم ولم ينالوا منه ، وحرموا لذة الحق وبقي الحق .
وكم له – صلى الله عليه وسلم – من نواحي عظمة ومظاهر سمو ، ولكن لعل أروعها جميعا ما جاء به من دعوة ، وماقام به من إصلاح .
لقد نشأ في جو خانق ، وبيئة مضطربة فاسدة ، وحالة اجتماعية تبعث اليأس ، فجعل من الشر خيرا ، ومن الاضطراب أمنا ، ومن الفساد صلاحا ، فالعرب قد وهبت نفسها للأصنام ، وجعلت البيت الحرام – الذي بني ليعبد الله فيه – تعبد فيه من دون الله . ومن تنصر منهم أو تهود كان قد تنصر أو تهود بنصرانية أو يهودية فقدت روحها ، وتقسمتها المذاهب والشيع ، ودخل على تعاليمها الأولى كثير من البدع ، فلم تنجح فيهم يهودية ولانصرانية ، والحنفاء الذين ظهروا قبيل الإسلام كان صوتهم ضعيفا ، عجزوا – كما عجزت اليهودية والنصرانية – أن يغيروا شيئا من حياة العرب وعقلية العرب . ثم كانت حياتهم سلسلة سلب ونهب ، كل قبيلة وحدة ، بل كل فرع قبيلة وحدة ، وكل قبيلة في عداء مع من جاورها ، لا أمن على الحياة ، ولا أمن على المال ، لايفقهون معنى «أمة» ولايفهمون معنى لحياة سياسة أو مدنية ، ولايعرفون معنى لعلم أو فن ؟ فلو أنت قلت إن أحدا من الأنبياء والمصلحين لم يجد من اختلال أمته وفسادها ماوجد محمد – صلى الله عليه وسلم – من العرب ، وإن أحدا منهم لم ينجح في إصلاح أمته كما نجح – عليه الصلاة والسلام- في إصلاح العرب وغير العرب ، إن قلنا الصواب .
ففي عشرين عاما استطاع بتأييد من الله أن يغير كل هذه الفوضى ، وأن يغير كل هذه المظاهر ، وفوق ذلك أن يغير هذا الروح ، فجعل من القبائل وأشباه القبائل أمة عربية واحدة ، ورد الأصنام إلى أماكنها في الأرض ، وساوى بينها وبين أخواتها من الحجارة ، وحول عبادتهم إلى إله واحد فوق الأرض وفوق السماء ، وفوق المادة كلها ، هو وحده الصمد «لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدا » فرفع من نفوسهم المرتبطة بالحجارة ، والمتصلة بالأرض ، لتحلق فوق السماء ، ولتنظر إلى العالم كله نظرة سامية عميقة ، ولتحتقر عرض الدنيا في سبيل نصرة الحق .
وجد نصف العرب ( وهو المرأة ) ضعيفا فقواه ، مسلوب الحق فرد إليه حقه ، فهي كالرجل في العبادات ، وهي كالرجل في المعاملات ، ولها كالرجل كل الحقوق المدنية ، فأكمل بذلك ترقية النصف الآخر وجعلها أقدر على إصلاح الجيل الجديد بما نالت من حرية جديدة .
آمن الرجال والنساء بتعاليم الإسلام الجديدة يعتنقونها ويذودون عنها ، ويرون واجبا عليهم نشرها وتضحية النفس والمال في سبيلها ، تحمسوا للدين ، ولكن لا كما يتحمس الرهبان في الصوامع ، إذا هجروا دنياهم لدينهم ، بل لم يمنعهم إخلاصهم لدينهم من تحسين دنياهم ، فهم يدينون ولا ينسون نصيبهم من الدنيا ، يتاجرون ويصلون ، ويملكون المال ويزكون ، ويعملون للدنيا كأنهم يعيشون أبدا ، ويعملون للآخرة كأنهم يموتون غدا ، يبلغون الذروة في عالم الروح ، ويبلغون الذروة في عالم المادة ، ففي عالم المادة إن حاربوا الفرس والروم غلبوهم وأزالوا ملكهم ، وفي عالم الروح إن سابقوا الأمم الأخرى في روحانيتهم سبقوهم ، فلا وثنية ولا عبادة لصور ، ولا عبادة لكائن ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولا إله إلا الله .
لئن فاخر المصلحون بتعاليمهم وبدعوتهم ، فليس رسم الخطط وحده كافيا في التباهي ، إنما المباهات الحقة في التنفيذ والنجاح فيه ، وإلا فكل رجل فوق المستوى المألوف يستطيع أن يحلم بعالم خير من هذا العالم ، ويرسم لهذا العالم السعيد صوره الخلابة البديعة . ولكن المصلح الحق من يضع الخطط الملائمة للحاضر والمستقبل ، ثم يضع الخطط الصالحة لتنفيذ ذلك كله إلى الغاية . ولقد أظهر النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك كله البراعة الفائقة ، فلم يكن حالما ، ولكنه فكر ثم وصل ثم عمل .
كم أجهد نفسه في التفكير وأجهد روحه في البحث ، وكانت عزلته في غار حراء وسيلة من وسائل تفكيره . وفيم كان يفكر ويطيل تفكيره ؟ في سوء ماعليه العالم ، وفي سوء مايعتقد العرب وغير العرب ، وفي سوء الحالة الاجتماعية في العالم الذي رآه في جزيرة العرب ، وفي العالم الذي رآه في الشام . قد يكون هذا الفساد واضحا ، ولكن ماهو الحق وأين الحق ؟ كان هذا هو زمن التفكير ونوع التفكير ، ثم اهتدى وكان الوحي إيذانا بالهداية .
ثم كان له بعد ذلك من الله قوة في التنفيذ لاتبارى ، ويدعو إلى الحق ولايحيد ، ويعذب من أجل الدعوة ، فينال العذاب من جسمه ولاينال من نفسه ، فهو يضرب و يرمى بالحجارة و يسيل دمه ، ولكن العذاب مع ذلك كله يزيد في دعوته قوة وفي نفسه عزيمة .
ثم هو لا ييأس أبدا ، فإذا أخفقت خطة وضع أخرى ، فإذا لم تنجح خطة الطائف فليدع غير الطائف من الأوس والخزرج حتى يكتب له النجاح .
ثم هو شجاع في كل ماتتطلبه الدعوة ، تتوالى عليه الأحداث وهو مطمئن ، ويتفرق عنه أهله فلا يجزع ، وتبدو عليه طلائع الهزيمة في وقعة أحد ، يشج في وجهه ويسيل الدم على خده ، وينكشف المسلمون ويصيب فيهم العدو ، ويقتل عمه حمزة ، وهو هو في ثباته ، وهو هو في إيمانه ، ويقتل ، وهوهو في أمله ، جميع الفؤاد رابط الجأش .
فلما أن أمكنه الله من عدوه لم يذكر دمه ، ولم يذكر أفاعيل خصومه ، ولم يذكر قتلهم لأهله وأصحابه ، إنما ذكر دعوته وذكر خير السبل في الوصول إلى تحقيقها ، وذكر مايجب أن يفعل لإنجاحها ، فلما فتح مكة كان همه أن يدخل الكعبة ومعه بلال فيؤذن فيها ويكسر الأصنام ويقول : «جاء الحق وزهق الباطل » وهذا هو مايذكره . أما الناس فليسوا موضع نقمته ، وخير أن يستجلبهم لدعوته بعفوه فيقول : «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء » فأسرهم بعفوه ، وجعل منهم قوة فعالة في سبيل دعوته ، وهكذا لم نجد مثلا يجمع بين القوة والرحمة ، والصلابة والمغفرة ، والإصرار واعتدال المزاج كما رأينا في هذه الأفعال .
تعاليمه الإصلاحية إلهية خالدة : أما شخصه فالإنسان يخضع لكل قوانين الإنسان من شباب وشيخوخة وموت وغير ذلك .
وسبب خلود تعاليمه أنها إنسانية عامة ، لم تخضع في جوهرها وأسسها الأولى لظروف الزمان ولا ظرف المكان ، فلم ينظر فيها إلى العرب وحدهم ، ولا إلى الروم وحدهم ، ولا إلى الناس في زمنه ، إنما نظر فيها إلى الإنسان من حيث هو إنسان ، فبقيت مابقي الإنسان ، ولم يفرق فيها بين عربي وغير عربي ، ولم يتميز فيها غني عن فقير ، ولا أبيض عن أسود ، ولا طبقة في الشعوب عن طبقة ، ولا شرقي عن غربي ، ولم يكن فيها نعرة جنسية ، ولانغمة أرستقراطية ، ولكن فيها أن الإنسان أخو الإنسان ، والأبيض أخو الأسود ، والرجل أخو المرأة والغني أخو الفقير ، والملك أخو الرعية . وكانت كل رسالته وكل أقواله ترمي إلى غاية واحدة : ألا يفر الإنسان من هذا العالم بالعزلة ، ولكن يكون قوة فعالة لاستئصال الشر وفعل الخير ، وتمام الانسجام بينه وبين من يعيش معهم ، وتحقيق العدل والإحسان له ولهم ، وأن يعيش لخير نفسه وخير من معه وخير العالم ، يجب أن تكسر الحدود الجغرافية والحدود الصناعية والفوارق الجنسية ، وأن يعيش العالم وحدة تحكمه قوانين عادلة ، وتسوده تعاليم حقة ، ويعتنق أهله عقائد صحيحة أساسها كلها الخير العام للإنسانية ، وهي إن اختلفت في الفروع بحسب الأقاليم وبحسب البيئة الطبيعية والاجتماعية ، فلن تختلف في الأصول التي تربط الإنسان بالله خير رباط ، وتربط الإنسان بالإنسان خير رباط ، وتخضع لحكم العقل مجردا عن التخريف والتضليل ، ولحكم العواطف سليمة صحيحة قوية .
فأي شيء من هذه التعاليم لايبقى مابقي الإنسان ؟ بل أي شيء من هذه التعاليم لاتعلو قيمته كلما علا الإنسان في قيمته ورقى في إدراكه ؟
لقد كان كل نبي قبله يحمل مصباحا لقومه ، فجاء – صلى الله عليه وسلم – يحمل مصباحا للعالم . آمن – عليه الصلاة والسلام – بالأنبياء جميعا ، وبرسالتهم جميعا ، وبإصلاحهم جميعا ، ودعا من يؤمن به أن يؤمن بهم ، وعلم أن الحق في كل زمان واحد ، قد دعا إليه كل نبي قبله ، وأنه داع دعوتهم ، مرسل بمثل رسالتهم ، مطهر لما لحق تعاليمهم من الشوائب ، ومصلح لما أدخله الأتباع من الفساد ، متقدم في رسالته تقدم الزمان في عقليته ، مبعوث إلى الكافة ، مرسل إلى العالمين.
- فهل حفظنا الوعد وصنا العهد وبلغنا الرسالة وأدينا الأمانة ؟؟؟؟