آصف شوكت: فارس من هذا الزمان
ليس من قبيل الصدفة البتة، أن يتم استهداف ثلاثة من قادة الجيش الوطني السوري النظامي الباسل في حمأة وخضم أشرس وأنبل وأقدس وأطهر معركة يخوضها أي جيش من الجيوش عبر التاريخ ضد جحافل تآمر شيطاني سرطاني دولي مستشرس وهائل، ويسطر من خلالها أروع الملاحم البطولية، بل من أبسط معايير القراءات المهنية الجادة والرصينة للحدث أن يتم الربط بين هذا وذاك ولاسيما بعد الفشل الذريع في إحداث أية فجوة في جسد هذا الجيش الوطني الباسل، ولذا هللت أبواق الفتنة والضلال والشماتة والتشفي والعار، في عواصم الإثم والإفك والغدر والعدوان، إضافة، طبعاً، للإعلام الصهيوني (وفرحة شيمون بيريز لم يعطها لأحد كما يقال)، لاستشهاد ثلاثة من فرسان سوريا وقادتها العسكريين الكبار، ممن شكلوا، على الدوام، وكما كشف السيد حسن نصر الله، هاجساً مؤرقاً للإسرائيليين، والأمريكان، وعربان التخاذل والعمالة والانبطاح والخنوع والخنزرة والارتداد.
لقد كانت تلك الأبواق العاهرة المأجورة تكرّم من حيث لا تدري هؤلاء القادة الكبار، الذين قضوا جل أعمارهم في ميادين القتال، وفي ساحات الوغي والشرف وقطعات جيشنا السوري الوطني النظامي الباسل، حتى جعلوه، بعزمهم وإخلاصهم، واحداً من أقوى جيوش العالم، وقوة صاروخية وأمنية تهاب، ولقد أبرز عدوان الستة عشر شهراً الفائتة مدى قوة وصلابة وتماسك وبسالة وشجاعة هذا الجيش الوطني البطل الذي أفشل كل الرهانات وأسقط كل الحسابات، وخذل كل الإمعات، وفاجأ الأصدقاء قبل الأعداء، وكان من الطبيعي، والحال، أن تقوم تلك الأصوات الفاجرة، والداعرة، والفاسقة والمتخاذلة بإطلاق الزغاريد لحظة استشهاد هؤلاء البواسل الميامين الأفذاذ. لم يكن لي اية صلة، ذات يوم، أو معرفة، بالقادة العسكريين، ولا تقرباً من المؤسسة العسكرية والأمنية السورية، إلا من خلال تلك السنتين التي قضيتهما، بكل انضباط وتفان والتزام بشرف الجندية ومتطلباتها، كضابط مجند في إحدى القطعات العسكرية في دمشق، منذ حوالي الثلاثين عاماً خلت.
وإن عدم معرفتي المباشرة، عن كثب بحياة العمادين الشهيدين البطلين داوود راجحة، وحسن توركماني، بسبب الطابع التقني والفني الأضيق لمهمتهما المحصورة في الجانب العسكري لا يقلل البتة من قيمتهما الرمزية والمعنوية والعسكرية والوطنية العظيمة والتي لها مكانة خاصة وجليلة بنفسي وأنا أقدس وأجل جيش وطني الباسل وأدين له بالولاء والوفاء والأبدي، غير أن انخراطي في الشأن العام، وبحكم "مشاغباتي" الدائمة و"إشكالياتي" الكتابية والفضائية التي تخرج أحياناً عن السياق والمعتاد في حقب السبات الأبدي، فقد قدرت لي الظروف والأيام، أن أكون "ضيفاً" زائراً، في أحايين متفاوتة، على بعض الجهات، وبين فينة وأختها، كانت من أسخن فترات سوريا قاطبة تأوجت بهذا المد العدواني الأطلسي-البدوي- الأردوغاني ضد وطننا الحبيب والغالي سوريا، تحت همروجة الربيع العربي.
واستطعت من خلالها، وكان العماد الشهيد الراحل البطل آصف شوكت على قمة هرم أمني عظيم، هو شعبة المخابرات العسكرية السورية، ومن خلال ذاك التجاذب والتشاكس والتماحك أن استنبط جوانب كثيرة عن شخصية الرجل جوانب رائعة، ساحرة، فذة ونادرة، لا بد ستستوقفك وتلفت نظرك، حاز بها على مناقب اصيلة ليس الشرف، والعزة، والإباء والكرم والبذل والإقدام والرجولة والتسامح والحلم والفروسية والنخوة والأريحية والتواضع وطيبة "ابن البلد" وسعة الصدر والهدوء سوى عناوين ضئيلة أمام ما امتلكه الفارس من كنز هائل من مناقب وصفات وخصال. فلم يعرف، مثلاً، عن الفارس المغوار سوى السيرة الحميدة، وقصص المجد والفخار والتضحيات والبطولات الوطنية، وإحباط المؤامرات، ومساعدة المقاومين والثوار الحقيقيين في جنوب لبنان، وفي فلسطيننا الحبيبة الرازحة تحت الاحتلال والتي لا تستنهض أية نخوة من عربان المذلة والتآمر والمهانة والتقحب والانبطاح، وكاد التصدي لأعداء سوريا في الداخل والخارج، وتحقيق الأمن والأمان للمواطن السوري في كل مكان يكون الهاجس الوحيد للفارس المقدام. وكانت السيرة العطرة، والسمعة الحسنة والطيبة وحب الناس واحترامهم هي الثروة الكبيرة التي خرج بها الفارس الكبير من دار الفناء.
فلم تتلوث يديه، يوماً، بدماء أي بريء سوري(1)، ولم يعرف عنه فظاظة أو فساوة وسوء خلق وحقد ورغبة في ثأر وتشف وانتقام، ولم يقم بأية تجاوزات للقانون، وهو على رأس واحد من أقوى الأجهزة الأمنية في العالم قاطية، ولا يسأل عما يفعل، وفوق ذلك كله، والأهم، أنه لم ينخرط بفساد وصفقات، أو يكون طماعاً، أو باحثاً عن شهوة سلطة، أو ضعيفاً أمام إغراء مال، أو متهاوناً في الواجبات، فيما يحاول اليوم بعض اللصوص الكبار، وعبدة المال والدولار المسوخ المفضوحين الأقزام، من رموز الفساد والنهب والإفقار والإفساد التاريخي، أن "يبيضوا" علينا بالبطولات الفارغة البلهاء ويدّعون، عبثاً، بأنهم شرفاء وثوار. ويبقى تعامل الفارس الأغر النبيل، وبحكم خلفيته الأكاديمية، وثقافته العالية كدكتور في التاريخ(2)، مع جمهرة المثقفين، واحدة من خصاله التي لا يمكن أن تنسى، والتي يعرفها، وخبرها الكثير من كتاب سوريا، وباحثيها الكبار، وكيف كان يتعامل معهم برقي نادر، وتفهم كامل كان يثير عجب واحترام ودهشة هؤلاء، الذين لم يكونوا يتصوروا أبداً، وواقع الحال، بأنهم كانوا يتعاملون مع جنرال أمني كبير، مهاب الجانب، مطاع ولا يرد له كلام، بل ربما مع داعية سلام مخضرم، أو كاتب زميل لهم، أو صديق عزيز من أصدقاء الصبا والشباب.
ولقد كانت الجنازة الشعبية الحاشدة، الحافلة، والمهيبة، والتي حضرتها أمواج بشرية لا حصر لها، كنت واحداً منها قادماً من مدينة اللاذقية، بمثابة استفتاء شعبي فطري وطبيعي لما يحتله الفارس النبيل من مكانة ومهابة وتقدير وشعبية واحترام في نفوس ألسوريين، ويكاد قول الشاعر: "عز في الحياة وعز في الممات.....لعمري تلك إحدى المكرمات"، (وفي رواية أخرى المعجرات)، يعبر عن هذا التشييع الحافل المهيب لواحد من رموز سوريا الكبار الأباة.
وهكذا تأبى النسور إلا أن تقضي وهي في عنان وكبد السماء، وهكذا لا يترحل الفرسان الميامين إلا في ساحات الوغى وميدان القتال ومن على شروج وصهوات الجياد المطهمة مضرجين بالزكي والطاهر من الدماء، ومكفنين برموش الناس، وللتذكير فقط، لم يكن الاغتيال السياسي، يوماً، بطولة وشجاعة، وهو ليس من شيم الرجال بل محض عملية غدر وخسة ونذالة تلحق العار بمرتكبها وتشي بعجزه ووضاعته وعدم قدرته على مواجهة خصمه وجها لوجه وبشجاعة الرجال، كما أنها ليس من إنجاز جرذان الناتو وحثالات الوهابية الأوباش فمدّعو البطولة هؤلاء هم مجرد أدوات وضيعة وقذرة بيد قوى وأجهزة الشر وشياطين الإثم وأبالسة الدمار ومجرمي الموساد.
لكن نختم بهذا البيت من الشعر: مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة....غداة ثوى إلا اشتهت أنه قبر ونزيد القول مثوى شهداء سوريا جميعاً، قادة، وجنوداُ، وضباط، عسكريين ومدنيين، هو في قلب كل وطني سوري حر شري، وسيبقون في وجدان وضمير أبناء سوريا، أبد الدهر، وعلى مر الأيام(3).
(1)-نعم نقولها بكل ثقة، وهي شهادة للتاريخ، ووثيقة وفاء للبطل الشهيد، لم تتلوث يد الفارس النبيل بدم بريء سوري، وأما التصدي لجرذان الناتو، وحثالات الوهابية، ونفايات التاريخ ال,غاد القتلة الأوباش مرتزقة الناتو وأردوغان، فذلك، أي وأيم الحق الذي فيه يمترون، واجب وطني مقدس، ومهمة نبيلة يقوم بها فقط كل فارس وجندي وضابط سوري، حمى سوريا القلب والحب من أن تتحول لحمام دم وجنـّبها وأن تكون صومال آخر، ودولة يعيث فيها هؤلاء البرابرة خراباً وشؤماً وهمجية وبربرية ودماراً.
(2)- هناك ظاهرة لافتة في أجهزة الأمن السورية تتمثل بوجود مجموعة من جنرالاتها من حاملي الدكتوراه عن جدارة، ومن جامعات غربية محترمة، ما يفسر أسراراً كبيرة في نجاح، وتفوق، وقوة هذه الأجهزة على مثيلاتها ليس في المنطقة وحسب، بل ربما في العالم.، ومع ذلك تبقى هناك ملاحظات عامة، لا تخلو، كنا قد أشرنا إليها في مقالات سابقة.
(3)- ترددت كثيراً في حياة الشهيد البطل آصف شوكت، بكتابة حرف واحد، أو كلمة واحدة عن هذا الرجل المقدام الصنديد، مخافة أن يعتبر الكلام تملقاً، وتقرباً، وتزلفاً، من فارس كان مجرد ذكر اسمه يثير الرهبة والمهابة بين عتاة الرجال وأشدهم بأساً ورجولة، ويطلب وده الجميع، ولكن بما أن الفارس النبيل صار في دنيا الحق، فلم تعد أية كلمة تعني ذلك، بقدر ما تعني الوفاء والمحبة والاحترام لرجل يستحق كل ذلك في الحياة وفي الممات، وبالطبع لا أنوي ولا أبغي من ذلك لا منصب ولا عز ولا جاه ولم تكن مواقفنا يوماً نابة من حسابات التكسب والارتزاق بل تشبثاً أكثر وأكثر بأوابد المبادئ ومواقف الرجال.
بقلم : نضال نعيسة