الجريمة الدولية - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الجامعة و البحث العلمي > منتدى الحقوق و الاستشارات القانونية > قسم البحوث العلمية والمذكرات

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

الجريمة الدولية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2013-12-30, 00:28   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
adoula 41
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B10 الجريمة الدولية

مقدمة:



لم تستطـع عصـبة الأمم، التي حـاولت تأطـير التنظـيم الدولـي الحـديث مباشـرة بعـد الحـرب العالمـية الأولى، منـع الانتشـار الدولـي الخطير لجرائم الحـرب والجـرائم ضـد الإنسانـية، مما عجـل بقـيام حـرب عالمـية ثانـية ساهمـت بشـكل جـلي في التأسيـس لنظـام قانونـي دولي جديد، وضعه الحلفاء المنتصـرون على النازيـة والفاشـية، بغـية القضـاء تدريجـيا ونهائيا على جرائم الحـرب والجـرائم ضـد الإنسانيـة، أو على الأقـل التقلـيل منها ومحاصـرتها قانونيـا وقضائـيا بفعالـية.
ورغـم أن الجريـمة الدولـية لا تقتصـر فقـط على جـرائم الحـرب والجـرائم ضـد الإنسانـية، فقد شـكل التصـدي لهـذه الأخـيرة المحـور الأسـاس من انشـغالات قـادة العالـم حـاليا، فـي ظـل ترسانـة قانونـية مـن الاتفاقيات والمعاهـدات الدولـية، التي تحـاول جاهـدة حمايـة حقـوق الإنسان في السـلم والحـرب.
غير أن سلبـيات العولمـة أوجـدت بجـرائم دولـية جـديدة خـلال بدايـة هـذه الألفـية الثالـثة، على غـرار تبييـض الأمـوال، والإرهـاب الدولـي العابـر للحـدود بل للقـارات، والجريـمة الإلكترونـية التي يـكون مسرحـها الكمبيـوتر والانتـرنت..
أدى كل مـا سبـق إلى توسـع اهتـمام الفقـه والقضـاء بالجريـمة الدولـية، خاصـة بعـد فشـل منظـمة الأمم المتحـدة، التي خلفـت عصبة الأمم مباشـرة بعد الحـرب العالمـية الثانـية، في تكريـس نظـام دولـي أكـثر عـدلا، وأقل جريمة، وخـال من جـرائم الحـرب والجـرائم ضـد الإنسانـية.
كما تزامـن الانتشـار واسـع النطـاق للجريـمة الدولـية في نهاية القـرن العشريـن وبدايـة هـذه الألفـية الثالـثة مع بـروز اتفاقـيات ومعاهـدات دولـية متلاحـقة، حـاول عبرهـا فقـهاء القانـون الجنائـي الدولـي تحديد مخـتلف صـور وأنـواع الجـرائم الدولـية، وتمييزهـا، سـواء في الخصـائص أو الأركـان، عن باقـي الجـرائم الداخـلية التي تتم داخـل إقلـيم كل دولـة.
تجـدر الإشـارة فـي هـذا الصـدد أن القانـون الدولـي قد اعتـرف منذ القـدم بحيويـة مصـالح معيـنة، واعتـبر انتهاكـها عمـلا معاقـبا علـيه، ثم خـول للدولـة المعنـية حـق إيقـاع العـقاب، حـيث كانـت جريـمة التجـسس والخـيانة الحربـية تمـثل النمـط التقليـدي لتلك الوقـائع، ولعـل جريمـة القرصـنة كانـت أقـدم تلك الجـرائم، حيـث كـان هنـاك عـرف سائـد بين الأمـراء الأوروبيين، يتم بموجـبه عقـد معاهـدات خاصـة لمـنع ومعاقـبة جريـمة القرصـنة فـي أعـالي البحـار.
ولأن القانـون الدولـي الجـنائي يهـدف أساسـا إلى حمايـة النظـام الدولـي العـام، والحـفاظ على مخـتلف القـيم والمصـالح التي تهـم الجماعـة الدولـية، ويحـتكم إليها غالبـية أعضـاء المجـتمع الدولـي، فقد تزايـدت أبحـاث الفقـه واجتهـادات القضـاة الدوليين لتطـوير وتعـزيز سـبل مكافحـة مخـتلف الجـرائم الدولـية، ولـم لا التقـنين الاستـباقي لمنعهـا أصـلا مـن الوقـوع، أو على الأقـل للحـد منـها ومن انتشـارها الخطـير، خاصـة فـي ظـل توسـع فـرص ومساحـات هـذا الانتشـار بفعـل التطـور التكنولوجـي والعولـمة.
تأسيـسا على مـا سبـق، تحـاول هـذه الدراسـة الإجابـة عن سـؤال مركـزي:
إلى أي مـدى يمـكن الإحاطـة قانونـيا وقضائـيا بماهـية وخصـائص وأركـان الجريـمة الدولـية؟
تتفـرع عنه جمـلة مـن التسـاؤلات الفرعـية، على غـرار:
1 – هـل هنـاك تعـريف محـدد للجريـمة الدولـية؟
2 – مـا هـي أهم خصـائص الجريـمة الدولـية؟
3 – مـا الذي يمـيز الجريـمة الدولـية عـن باقـي الجـرائم الأخـرى؟
4 – كيف يمـكن التفريـق بين مختـلف أنـواع وصـور الجريـمة الدولـية؟
5 – مـا هـي أبـرز أركـان الجريـمة الدولـية؟
للإجابـة عن هـذه التسـاؤلات، سيتـم تقسـيم هـذه الدراسـة إلى فصلين، يتعـرض الفصـل الأول إلى أساسـيات الجريـمة الدولـية، على غرار التعريـف، والتمـييز عـن باقـي الجـرائم العاديـة، إضافـة إلى الخصـائص والأنـواع والصـور.
فيـما سيتنـاول الفصـل الثانـي بالشـرح والتفصـيل مخـتلف أركـان الجريـمة الدولـية، بـدءا بالركـن الشرعـي والركـن المـادي، الذيـن تشتـرك فيهـما الجـريمة الدولـية مع أركـان الجـرائم الأخـرى العاديـة، إضافـة طبـعا إلى الركـن الدولـي، الذي يميزهـا عـن تلك الجـرائم.

و لقد تم التركيز في الأساس في هذه المذكرة على المعلومات النظرية من آراء فقهية و معاهدات دولية ثم و بالموازاة مع ذلك حاولنا إسقاط هذه المعلومات على الواقع المعاش على المستوى الدولي سواء من حيث مدى احترام مختلف الدول لمبادئ القانون الدولي فيما يتعلق بخصائص الجريمة الدولية أو من خلال إعطاء تكييف قانوني لبعض الأحداث و الوقائع التي جرت على الساحة الدولية من حيث قابليتها لأن تكون جريمة دولية أم لا و من أمثلة ذلك مثلا ما يجري مؤخرا و مازال يجري على الأراضي الفلسطينية من عدوان على يد الكيان الصهيوني و أيضا ما جرى في العراق و في إفريقيا و أمريكا الجنوبية من أحداث تصلح لأن تكون موضوع مناقشة في موضوعنا هذا.









 


آخر تعديل adoula 41 2013-12-30 في 00:28.
رد مع اقتباس
قديم 2013-12-30, 00:32   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
adoula 41
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B10 الفصل الأول

الفصـل الأول مدخـل إلى الجريـمة الدولـية


تمهـيد:
ساهمـت العولمـة خـلال بدايـة هـذه الألفـية الثالـثة في توسـيع الاهتـمام قانونـيا وقضائـيا بالجريـمة الدولـية، خاصـة بعد أن شهـدت تجـديدا واسـع النطـاق في القـرن العشريـن، إثـر ظهـور التنظـيم الدولـي الحـديث ممـثلا فـي عصـبة الأمم، التي خلفـتها بعد الحـرب العالمـية الثانـية منظـمة الأمم المتحـدة، تزامنا مع بـروز اتفاقـيات دولـية متلاحـقة تعالـج مخـتلف صـور وأنـواع الجـرائم الدولـية، بعد تحـديد تعريفـها من طـرف فقـهاء القانـون الجنائـي الدولـي، الذي اعتـرف منذ القـدم بـما يسمـى " جـرائم الحـرب "، حـيث كان التجـسس والخـيانة الحربـية أقـدم صـور تلك الجـرائم .
يسـلط هذا الفصل الأول الأضـواء على الفـرق بين الجريـمة الدولـية وباقـي الجـرائم الأخـرى التي تشبـهها ظاهريـا، خاصـة الجـريمة السياسـية وجـريمة القانـون الداخـلي العام، والجريمة العالمـية، فيما كانت أهم خصائص الجريمة الدولية شـدة خطـورتها وجسامـتها، مسألـة التسلـيم، استبعـاد قاعـدة التقـادم من التطبـيق.
كما سوف يتطـرق هذا الفصل أيضا بالتفصـيل لمخـتلف صـور وأنـواع الجـرائم الدولـية، خاصـة الجـرائم ضـد السـلام العالمـي، كالعـدوان والدعـاية الإعلامـية لحـرب الاعتـداء، التآمـر ضـد السـلام، وجـرائم الحـرب، كاستعـمال وسـائل قتـال محظـورة: الأسلحـة المتفجـرة والحارقـة والمسمومـة، الأسلحـة الكيـماوية، السـلاح الجرثومـي أو البيولوجـي، السـلاح النـووي أو الـذري، إضافة إلى الإتـيان بتصرفـات محرمـة، على غرار الاعتـداء على المدنيين أو المقاتلين العزل الأسرى والجرحى أثناء سير المعارك الحربية، الجرائـم التي ترتـكب في ظـل الاحـتلال، إضافة إلى الجـرائم ضـد الإنسانـية كإبـادة الجـنس البشـري وجريـمة التمـييز العنصـري مستعينين في الوقت نفسه بأمثلة من الواقع المعاش على المستوى الدولي و مدى انطباق هذه الجرائم عليها من ناحية التكييف.
المبحـث الأول: تعريـف الجريمة الدولـية والتمـييز بينها وبين بـاقي الجـرائم
اختـلف فقـهاء القانـون الجنائـي الدولـي في تعريـف الجريـمة الدولـية تعريـفا محـددا، غـير أنهم استطاعـوا التمـييز بينـها وبين الجـرائم الأخـرى، بفضـل توضـيح أبـرز خصائصـها.
المطلـب الأول : تعريـف الجريـمة الدولـية
أولا: تعريف Classer
يعرف الفقـيه « Classer » الجريـمة الدولـية بأنها "واقـعة إجرامـية مخالـفة لقواعـد القانـون الدولـي، تضـر بمصـالح الدول التي بحمـيها القانـون" .
ثانـيا: تعـريف Pella
يعـرف الفقـيه « Pella » الجريـمة الدولـية بأنها "كل سلـوك محظـور يقـع تحـت طائـلة الجـزاء الجنائـي الذي يطـبق وينـفذ باسـم المجموعـة الدولـية" .
ثالثا: التعريـف المستخـلص
بـناء على ما سـبق، يمـكن أن نستخـلص تعريـفا أكـثر شمـولا وملاءمـة لماهـية الجريـمة الدولـية، بحيث نستطـيع من خلالـه أن تستشـف أركـان الجريـمة الدولـية:
"الجريـمة الدولـية هـي كـل سلـوك إنسانـي إجرامـي، صـادر عـن فـرد بإرادة إجرامـية، يترتـب عنـه الإخـلال بالنظـام الدولـي، والمسـاس بمصلحـة دولـية معيـنة، غالـبا ما تكـون مشمولـة بحمايـة القانـون الدولـي عن طريـق الجـزاء الجنائـي".
المطـلب الثانـي : التمـييز بين الجريـمة الدولـية وباقـي الجـرائم
تتمـيز الجريـمة الدولـية عن الجريـمة العاديـة من عـدة نـواح، يمـكن التطـرق إلى بعضـها عند مقارنـة الجريـمة الدولـية بثلاثـة أنـواع من الجـرائم الأخـرى التي تشبـهها ظاهريـا، وتتمـيز عنها من حـيث المضمـون.
أولا: الجريـمة الدولـية وجريـمة القانـون العـام الداخلـي
تتمـيز الجريـمة الدولـية عن جريمـة القانـون العـام من حيث المصـدر والأطـراف، فمصـدر الأولى هو العرف الدولـي والمعاهـدات الدولـية، ومصـدر الثانـية هي القوانـين المكتوبـة التي يتكـفل المشـرع الوطنـي بإصدارهـا.
أما من حيث الموضـوع، فإن الجريمة الدولـية تقع ضد مصلحـة دولـية أو إنسانـية تقـوم بها الدولـة ذاتها، أو ينفـذها أشخـاص برضـائها أو بتشجيـعها، فيمـا تقع الجريمة الداخـلية ضد مصلحة وطنية يحمـيها التشريع الداخـلي، وأطرافـها أفـراد عاديـون على وجـه العمـوم .
ثانـيا: الجريـمة الدولـية والجريـمة السياسـية
إذا كانت الجريـمة كعـمل سياسـي يجرمـه القانـون، الأصـل فيها أن تتجـه نـية الفـرد إلى العـدوان على الحـقوق السياسـية للدول بدوافـع سياسـية معيـنة، كمبـدأ تسلـيم المجرمـين بين الدول ، فإن الجريمة الدولـية لكونها محكومـة بقواعـد العـرف الدولـي وترتـكب ضد مصـالح الجماعـة الدولـية فإنه يجـوز تطـبيق قاعـدة التسلـيم فيها.
وهـذا ما نصـت عليه المـادة السابـعة من اتفاقـية منع جريـمة الإبـادة الجماعـية والمعاقـبة عليها لسـنة 1948، والمادة 11 من الاتفاقية الدولية لقمع الفصل العنصري والمعاقبة عليه لسنة 1973، والمادتـين 8 و9 من مبادئ التعـاون الدولي في تعقـب واعتـقال وتسلـيم ومعاقـبة الأشخـاص المذنبـين بارتـكاب جرائـم حـرب وجرائم ضد الإنسانـية، الصـادرة بقرار للجمعـية العامـة للأمم المتحـدة بتاريـخ 03/ 12/1973 .
ثالـثا: الجريـمة الدولـية والجريـمة العالمـية
تشـترك مخـتلف الأمـم والمجتمعات في جملة من القيـم الأساسـية، التي تعـمل على صيانتـها، وتمـنع الاعتـداء عليـها، خاصـة إذا تعلـق الأمـر بالقـيم الإنسانـية المشتركـة.
يتخـذ هذا الموقف صفة العالمية في محاربة بعض الجرائم كتزييف النقـود والوقـاية من تبييـض الأمـوال، ومكافحـة الإرهـاب والمخـدرات، فهذه الجرائم كلها ذات صبـغة عالمـية، إذ تجرمـها مخـتلف الدول و تتعـاون في محاربـتها.
ومع ذلك، فالقانـون الداخـلي هو الذي يحـكمها، وينص عليها التشريع الوطني، وتخـتص بنظرهـا المحـاكم الوطنـية، وقد حـذت الجزائر مثلا حـذو معظم الدول بوضع تشريعـات وطنـية تقـي من هذا النـوع من الجـرائم العالمـية وكيفـية محاربـتها .
إلا أن هذه المفاهـيم تخـتلف عن الجريمة الدولـية، التي تجـد مصادرهـا في العـرف والاتفاقـيات الدولـية، وتنشـأ لأجـلها محـاكم جنائـية دولـية للنظـر فيها.
ومع ذلك، يـرى جانب من الفقـه أنه أمـام تنامي خطـورة هـذه الأنـواع من الجرائـم، وتهديـده للمصـالح الحيويـة للمجتـمع الدولـي، فمـن الضـروري تصنـيف هذه الجـرائم الدولـية، ومن الفقه من طـالب بإدراج هذه الجرائـم ضمـن الاختصـاص الموضعـي للمحـكمة الجنائـية الدولـية في أول فرصـة يتم فيها تعـديل نظامـها الأساسـي، شـرط أن يـكون ذلك بعـد دراسـة مستفيضـة لهـذا الموضـوع ..
المبحـث الثانـي: خصـائص الجريـمة الدولـية
بما أن الجريـمة الدولـية هي جريـمة عرفـية، وهـذا ما جعـلها تتصـف بالغمـوض وعـدم التحـديد، غير أنه مع استقـرار العـرف تأكـدت جمـلة من الحـقائق أعطـت للجريـمة الدولـية بعـض الخصـائص الذاتـية والقانونـية التي تميزهـا عن الجريـمة العاديـة، على غـرار:
أولا: خطـورة الجريـمة الدولـية وجسامـتها
من الطبيعـي جـدا أن تفـوق جسامـة الجريمـة الدولـية وخطورتـها مثيـلاتها في الجريمـة الداخـلية، يتضـح ذلك خاصة من حـيث اتسـاع نطـاق وأثـار الجريـمة الدولـية، إذ يكـفي أن نذكـر بأنـه من الجرائـم الدولـية مـا يستهـدف إبـادة شعـب كامل، وتدمـير مـدن، وقـتل بالجـملة، وتعـذيب مجموعـات، وغير ذلك من الأعـمال الفظيـعة التي يعجـز القلـم عن وصفـها ووصـف نتائجـها المدمـرة .
لقد وصفـت لجـنة القانـون الدولـي الجريـمة الدولـية بما يلي: "يبـدو أن هناك إجـماع حـول معـيار الخطـورة، فالأمـر يتعـلق بجرائـم تمـس أساسـا المجـتمع البشـري نفسـه، ويمـكن استخـلاص الخطـورة إما من طـابع الفعـل / الجـرم لقسوتـه وفضاعـته ووحشيـته، وإمـا من اتسـاع أثـاره عندمـا تشـمل ضحايـا يمثلـون شعوبـا أو سكانـا أو اثنـيات، ويمـكن استخـلاص خطـورة الجريمة من الدافـع لدى الفاعـل، كأن يكـون التطهـير العرقـي مثـلا، ويمـكن أن تتجـلى خطـورة الجريـمة الدولـية من خـلال اجتـماع هـذه العوامـل كلها، وهذه الخطـورة هي الدعامـة الأساسـية لقـيام أركـان الجريـمة الدولـية" .
ثانـيا: مسألـة التسلـيم في الجرائـم الدولـية
كانـت المعاهـدات في الماضـي تنـص على الجرائـم القابـلة للتسلـيم على سبيل الحصـر، وكانـت في جملـتها من الجنح، ولكن ابتـداء من سنة 1950 لوحـظ أن المعاهـدات الدولـية بـدأت تنتـهج منهجـا جـديدا، إذ أصبحت كل جريمة تتجـاوز العقوبـة فيها حـد العامين من الحـبس يمكن التسلـيم فيها، وهـذا يدل على رغـبة المجـتمع الدولي في توسـيع نطـاق الجرائم القابـلة للتسلـيم بوصـفه أحـد مظاهـر التعـاون الدولـي .
غير أن تطبـيق هـذا المبـدأ على الجرائـم الدولـية عامـة، وعلى الجـرائم ضد الإنسانـية خاصـة، يطـرح عـدة صعوبـات، فالمبـدأ الهـام المعمـول بـه في مسألـة التسلـيم في معظـم التشريعـات هو مبـدأ عـدم جـواز تسلـيم الدولـة لمواطنـيها، إلا أنه يجـب استبـعاد هذا المبـدأ بالنسبة للجرائـم الدولـية، لما لهـذا النـوع من الجرائـم من صبـغة خطـيرة ووحشـية فائـقة، ويتوجـب حينـئذ تسلـيم مرتكـبي هـذه الجرائـم إلى المحكـمة الجنائـية الدولـية، التي تتولـى زجـرهم ومحاكمـتهم باسم المجـتمع الدولـي.
تجـدر الإشـارة إلى وقـوع خلـط في آراء فقـهاء القانـون الدولـي في بدايـة الأمـر، إذ المجـتمع الدولي إلى ضـرورة التمـييز بين الجرائم الإرهابـية بوصـفها جرائـم دولـية، والجرائـم السياسـية التي لا يجـوز التسلـيم فيها.
إلا أنه في خطـوة لاحـقة، أقـر المجـتمع الدولـي بصـورة واضحـة وجـوب تسلـيم المجرمـين الدولـيين، جـاء ذلك في المـادة 228 من معاهـدة فرسـاي سـنة 1919، وفي التـزام الحلـفاء بوجـوب التسلـيم حسـب تصـريح موسـكو 1943، وبعـد الحـرب العالمـية الثانـية تأكـد هـذا الاتجـاه بصـفة نهائـية، خاصة من خلال الأمثـلة الواقعـية التالـية :
- طالبـت قـرارات الأمم المتحـدة المتعاقـبة بمحاكـمة وتسلـيم المجرمـين، على غرار القـرار رقـم 2712 (د-25) الصـادر فـي 15/12/1970، والقـرار رقـم 2840 (د-26) الصـادر في 1970، والقـرار رقـم 3074 الصـادر في 03/12/1973، والذي نص في مادته الخامسـة على مـا يلي:
"يقـدم للمحـكمة الأشخـاص الذيـن تقـوم ضـدهم دلائـل علـى أنهـم ارتكـبوا جرائـم حـرب أو جـرائم ضـد الإنسانـية، ويعاقـبون إذا وجـدوا مذنبـين، وذلك كقاعـدة عامـة في البلـدان التي ارتكـبوا فيها هـذه الجـرائم، وفـي هـذا الصـدد تتعـاون الدول في كل ما يتصـل بتسلـيم هـؤلاء الأشخـاص".
- نصـت المـادة 32 مـن البروتوكـول الأول 1977 الملحـق باتفاقـيات جنيف 1949 على ما يلي: "على الدول المتعاقـدة أن تتضـامن في حالـة التسلـيم".
أمـام هـذه المعطـيات، اقتـرح مقـرر اللجـنة الدولـية لإعـداد مشـروع تقنـين الجـرائم ضد سـلام وأمـن الإنسانـية 1987 المبـدأ التالـي:
"على كل دولـة ألقـي القبـض في إقليـمها على مرتكـبي جريـمة مخـلة بسـلم الإنسانـية وجـب محاكمـته أو تسليـمه".
- في حالـة تعـدد طلـبات التسلـيم، ورد في المـادة 90 من النظـام الأساسـي للمحكـمة الجنائـية الدولـية المعتـمدة في رومـا بتاريخ 17/07/1998 مـا يلـي:
1- في حالـة تلقـي دولـة طـرف طلـب من المحكـمة لتقديـم شخـص بموجـب المـادة 89، وتلقـيها أيضا طلـبا من أيـة دولـة أخـرى بتسلـيم نفس الشخـص بسبب السلـوك ذاتـه الذي يشـكل أسـاس الجريـمة التي تطلـب المحـكمة من أجـلها تقديـم الشخـص المعني، يكون على الدولـة الطـرف أن تخطـر المحكـمة والدولـة الطالـبة بهـذه الواقـعة.
2- إذا كانت الدولـة الطالـبة دولـة طـرف، كـان على الدولـة الموجـه إليها الطلـب أن تعطـي الأولـية للطلـب المقـدم من طـرف المحـكمة.
مما تقـدم، يتبـين أن مسألـة التسلـيم جـائزة ومطلوبـة في الجرائم الدولـية، و أنه لا يمكن الاحتجـاج بفكـرة الجريـمة السياسـية في نطـاق القانـون الدولـي الجنائـي، لمنـع تسلـيم الأشخـاص المطلوبـين في جرائـم دولـية.
ثالـثا: استبعـاد قاعـدة التقـادم من التطبـيق فـي الجرائـم الدولـية
يعنـي التـقادم سقـوط العقوبـة أو الدعـوى العمومـية بمضـي مـدة معيـنة، وهـو قاعـدة أخـذت بها معظـم التشريعـات الوطنـية الداخلـية للـدول، أمـا على الصعـيد الدولـي فلم يـكن لهـذه القاعـدة تطبـيق، كما لم يـرد ذكـرها في النظـام الأسـاسي لمحكـمة نورمبـورغ، ولا في مشـروع تقنـين الجرائـم ضـد سـلام وأمـن البشريـة عـام 1954.
فعندمـا أعلنـت ألمانـيا الاتحاديـة سـنة 1964 بأن قانونـها الجـنائي يأخـذ بقاعـدة تقـادم الجرائـم بمضـي 20 سـنة على ارتكابـها، أثـار هـذا الموقـف استنـكار العالم كلـه، وتقدمـت على إثـره بولونـيا بمذكـرة إلى الأمم المتحـدة تطالـب من لجنـتها القانونـية البـث في هذه المسألـة، فأجـابت هـذه اللجـنة في 10/04/1965 بالإجـماع بـأن الجـرائم الدولـية لا تتقادم.
كما نصـت المـادة الأولى من اتفاقـية عـدم تقـادم جـرائم الحـرب والجـرائم المرتكـبة ضد الإنسانـية، والتي صـدرت عن الجمعـية العامـة للأمم المتحـدة في قرارها 2391 (د-23).
صـدر قراران بعد ذلك عن الأمم المتحدة الأول في 15/12/1970 تحت رقم 2712 (د-25) والثاني مؤرخ في 18/12/1971 تحت رقم 2840 (د– 26)، أكـد كلاهـما على عدم تقـادم جرائم الحـرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانـية.
انضمت بعض الدول إلى هذه الاتفاقـية بدون تحفـظ، في حين تحفظـت بعض الدول الأخرى المنضـمة إلى الاتفاقـية، مؤيـدةً تطبيق قاعـدة " عدم التـقادم " على الجرائم ضد الإنسانـية دون تطبيقها على جرائم الحـرب، لكن لجـنة القانـون الدولـي لم تكـن من أنصـار هـذا التمـييز في تطبـيق قاعـدة التقـادم بين الجـرائم ضد الإنسانـية وجـرائم الحـرب، وجـاء في المادة الخامسة من المشـروع الذي أعدتـه "إن الجريـمة المخـلة بسـلم الإنسانـية وأمنـها غير قابـلة للتـقادم" ، فيما أكـدت المادة 29 من نظـام رومـا الأساسـي نفس المبـدأ .
رابـعا: استبـعاد نظـام العفـو من التطـبيق فـي الجـرائم الدولـية
العفـو هو تـنازل المجـتمع عن بعـض حقوقـه المترتـبة عن الجريـمة، وهـو نوعان: عفـو خـاص يشـمل العقوبـة، وعفـو شامـل يشمـل الجريـمة، والفـرع الأول يخضـع لسلطـة تقديـر رئيس الجمهوريـة، ومنصـوص عليه في الدستـور، وبمقتضـاه يصـدر عفـوا عن المجـرم بعد إدانـته، بإسقـاط كل أو جـزء من العقوبـة المحـكوم بـها، أمـا العفـو عن الجريـمة فهـو إجـراء تشريعـي هدفـه إزالـة وصـف الجريمـة عن كل فعـل هـو بذاتـه جريـمة طبـقا لأحـكام القانـون.
لكن هذا النظـام بنوعـيه لا يتطـابق مع أهـداف القانـون الدولـي الجنائـي، لكـون الجـرائم الدولـية فيـها من الجسامـة والخطـورة مـا يجـعل العفـو أمـرا مستهجـنا، عـلاوة على غـياب السلطـة التي بإمـكانها إصـدار هـذا العفـو في مجـال القانـون الدولـي الجنائـي.
خامسـا: استبـعاد الحصانـة فـي الجـرائم الدولـية
تعطـي التشريعـات الوطنـية بعض الأشخـاص من ذوي المكانـة السامـية حصانـة خاصـة، لا يحـاكم بموجـبها من اقتـرف جريـمة منهـم أمـام المحـاكم الوطنـية بموجـب قانـون العقوبـات.
لا يُعـد هـذا الاستثـناء تعديـا على مبـدأ مسـاواة الأشخـاص أمـام القانـون، ويرجـع ذلك إلى اعتـبارات خاصـة تقتضـيها المصلحـة العامـة أو العـرف الدولـي، ومـن أمثـلة ذالك حصانـة رئيس الدولـة وأعضـاء البرلمـان أثنـاء تأديـة مهامـهم، وحصانـة رؤسـاء الدول الأجنبـية خـارج بلادهـم، وحصانـة رجـال السـلك الدبلومـاسي.
غير أن القانـون الجنائـي الدولـي استقـر على عـدم إعفـاء الرئيـس الذي يرتـكب جريمـة دولـية ، إذ نصـت المـادة 07 من لائحـة نورمبـورغ على ما يلي:
"إن المركـز الرسمـي للمتهمـين سـواء باعتـبارهم رؤسـاء دولـة، أو باعتـبارهم من كـبار الموظفـين لا يعتـبر عـذرا معفـيا من المسؤولـية، أو سبـبا من أسـباب تخفـيف العقوبـة".
تـكرر ذلك في مشـروع تقنـين الجـرائم ضد سـلام وأمـن البشريـة لسـنة 1954، وكـذا في مشـروع قانـون الجـرائم المخـلة بسـلم الإنسانـية وأمنـها لسـنة 1987، كما تعـزز هـذا المبـدأ على أرض الواقـع بالمحاكـمات، التي بـدأت بمحاكـمات نورمبـورغ وطوكـيو، والتي قـدم إليـها كـبار مجرمـي الحـرب الألمـان واليابانـيين، وصـولا إلى محاكـمة الرئيـس اليوغسلافـي سلوبـودان ميلـوزوفيتـش، وكـبار قـادة الصـرب، على الجـرائم التي اقترفوهـا في البوسـنة والهرسـك .
إضافـة إلى المحـاولات الرامـية حـاليا إلى محاكـمة الرئيـس الحـالي للسـودان عمـر حسـن البشـير، من طـرف المدعـي العـام للمحـكمة الجنائـية الدولـية، بتهـمة ارتـكابه جـرائم حـرب وإبـادة، على الرغـم مـن أن السـودان ليـس طرفـا في معاهـدة إنشـاء هـذه المحـكمة الجنائـية الدولـية.
المبحـث الثالـث: أنـواع وصـور الجريـمة الدولـية
تتخـذ الجرائـم الدولـية أشـكالا وأنواعـا عديـدة، كما تأخـذ صورا متعـددة، وذلك على أساس المصلحة المعتدى عليها، وهو المعـيار الغالـب في تقسـيم الجـرائم الدولـية إلى المجموعـات التالـية:
المطلـب الأول: الجـرائم ضـد السـلام العالمـي
تعـد الجـرائم ضـد السـلام العالمـي مـن أهـم وأخطـر الجــرائم الدولـية، لأن السـلام العالمـي يعتـبر مـن أهـم المصـالح الدولـية التي يحـرص القانـون الدولـي الجـنائي على حمايتـها، إذ يمثل تهديـده أو الاعتـداء علـيه خطـورة جسـيمة وضـررا بليـغا بالمجـتمع الدولـي، يتعـين التصـدي لـه بحـزم وصرامـة وتجريـمه .
وصفـت محاكـمة نورمبـورغ لسـنة 1946 الجـرائم ضـد السـلم: "بأنـها أكـبر الجـرائم الدولـية، ولا تختـلف عـن جـرائم حـرب أخـرى إلا في كونـها تضـم في ذاتـها شـر الكـل المتراكـم".
تعـد جريـمة العـدوان مـن أهـم الجـرائم وأخطـرها على السـلام العالمـي، بسبـب مـا ينجـم عنـها مـن أثـار سيـئة على الدول المعتـدى علـيها، بل على المجـتمع الدولـي بأسـره، وبسبـب ذلك لم يقصـر القانـون الدولـي الجـنائي في تجـريم أفعـال حـرب الاعتـداء فقـط، و إنمـا جـرم أيضـا الأفعـال السابقـة على وقوعـها، على غـرار الاعتـداء، أو التحـريض، أو الدعايـة لها، أو الأمـر على ارتكابـها.
أولا: جريـمة العـدوان
رغم أن غالبـية الدول تؤكـد إمكانـية وضـع تعـريف للعـدوان، فإن دولا أخرى وعلى رأسـها الولايـات المتحـدة الأمريـكية وبريطانـيا تؤكـد استحالـة تعـريف العدوان تعريـفا دقيـقا، جامـعا مانـعا، ومقبـولا من طـرف جمـيع الدول.
كما أضافـت هاتـان الدولتـان أنـه إذا أمـكن التغلـب على تلك الاستحالـة القانونـية الفنـية، فسيـكون من المستحـيل سياسـيا تعـريف العـدوان في الظـروف الدوليـة الحاضـرة، وبالتالي سيكون التعريـف في مثـل هـذه الحالـة ضـارا، لا قيـمة عملـية لـه على الإطـلاق .
لكن المؤيـدين لوضـع تعريـف للعـدوان اعتمـدوا على عـدة أسانـيد قانونـية وسياسـية، منها ضـرورة الدفـاع عن السلـم والأمـن العالمـيين، والعدالـة والحريـة، وحـق الشعـوب في تقريـر مصيرهـا، وبناء نظـام دولـي عـام، ورأي عـام عالمـي ديمقراطـي.
تقتضـي كل هـذه الأسـباب وضـع تعـريف قانونـي لحمايـة تلك المبادئ، لذلك عـرف الفقـيه « Pella » العـدوان بأنـه: "كل لجـوء للقـوة من قـبل جماعـة دولـية، فيما عـدا أحـوال الدفـاع الشرعـي، أو المساهـمة في عـمل مشتـرك تعتـبره منظمـة الأمم المتحـدة مشروعـا".
كما عرفـه الفقـيه أمـادو « Amado » بأنـه: "كل حـرب لا تباشـر استعـمالا لحـق الدفـاع الشرعـي، أو لتطبـيق نصـوص المادة 42 من ميـثاق الأمم المتحـدة، تعتـبر حربـا عدوانـية" .
فيما ذهبـت لجـنة القانـون الدولـي في سـنة 1951 أنـه ليـس من المرغـوب فيه تعريـف الاعتـداء بواسطـة تعـداد تفصيلـي للأعمـال العدوانـية، لأنـه لا يمـكن أن يكـون شامـلا وتامـا، ورأت نفس اللجـنة ضـرورة الأخـذ بتعـريف عـام للعـدوان، وهـو:
"التهـديد باستخـدام القـوة، أو استخدامـها من طـرف دولـة أو حكومـة ضد دولـة أو حكومـة أخـرى، بأي شـكل وبـأي نـوع مـن الأسلحـة، وبـأي طريقـة أخـرى، سـواء كـان صريحـا أو ضمنـيا، وأي كان السبـب أو الغـرض المقصـود، مـا عـدا الدفـاع الشرعـي عن النفـس الفـردي أو الجـماعي، أو إتباعـا لقـرار أو توصـية من هيـئة مختصـة للأمم المتحـدة".
غير أن الملاحظ في هـذا الصـدد، أن هـذا التعريـف قد تم رفضـه، ولـم يأخـذ به مـن قبل الجمعـية العامـة للأمم المتحـدة.
يؤِخـذ على التعريـفات السابـقة أنها عامـة ومرنـة وغامضـة، مما يجـعل تطبيـقها بحالتـها الراهـنة أمـرا صعـبا، إذ تحـتاج دائـما إلى تفسـير مما ينتهـي بها إلى تعـدد التعريـفات وتناقضـها بالنسـبة للفـعل الواحـد، مما يفتـح المجـال أمـام المعتـدي لكي يفلـت من المسؤولـية والعقـاب، مستفـيدا مـن الغمـوض وبـطء الإجـراءات اللازمـة لتفسـير التعـريف الغامـض، لذلك يبـدو أن التعـريف العـام للعـدوان عديـم الفائـدة .
ولحـل هـذا الإشـكال، لجـأ الفقـه إلى التعريـف الحصـري للعـدوان، لأنـه يعتـبر أسلوبـا يعـدد الأفعـال العدوانـية على سبيـل الحصـر في القائـمة، وكل فعـل خـارج عن القائـمة لا يعتـبر عمـلا عدوانـيا.
على الرغم من تعـدد التعريـفات الحصريـة للعـدوان، إلا أن تعريف الفقـيه «Politis» الذي قدمـه في مؤتمـر نـزع السـلاح، المنعقـد سـنة 1933 بحضـور61 دولـة، يظـل التعـريف الأسـاسي في هـذا الخصـوص .
جـاء في هـذا التقـرير أنـه يعتـبر من قبـيل الأعمـال العدوانـية:
1- إعـلان الدولـة الحـرب على دولـة أخـرى.
2- غـزو دولـة لإقلـيم دولـة أخـرى بقـوات مسلحـة، ولـو لم يـكن هناك إعـلان حـرب.
3- مهاجـمة دولـة بقواتـها المسلحـة البريـة أو البحريـة إقلـيم دولـة أخـرى، أو مهاجـمة القـوات البريـة أو البحريـة أو الجويـة لتلك الدولـة، ولو لم تعـلن عليـها الحـرب.
4- حصـار الدولـة لموانـئ أو شواطـئ دولـة أخـرى.
5- مساعـدة دولـة لعصابـات مسلحـة متواجـدة على إقليـمها بقصـد غـزو دولـة أخـرى، أو رفضـها الاستجابـة لمطالـب الدولـة الأخـرى، باتخـاذ الإجـراءات اللازمـة لحرمـان هـذه القـوات من المساعـدة أو الحمايـة.
كما نصـت المـادة (2) من هـذا التعريـف على أنـه: "لا يمـكن أن تشـكل أيـة اعتـبارات مهـما كـان نوعـها: سياسـية أو عسكريـة أو اقتصاديـة أو غيرهـا عـذرا أو مبـررا للعـدوان" .
يؤخـذ على التعريف الحصـري للعـدوان أنـه يتسـم بالجمـود، ولا يستجـيب للتطـورات الحديـثة فـي مجـال التسـلح، والاستراتيجـيات الحربـية، أو أساليـب الحـرب البـاردة وحـرب الأعصـاب، ولهـذا السبـب يسمـح للمعتـدي بالإفـلات من العـقاب إذا مـا ارتكـب أحـد أفعـال العـدوان التي يكشـف عنـها التطـور فـي المستقـبل.
يقـف التعـريف المختلـط للعـدوان موقـفا وسطـا بين التعريفـين السابقـين، وهـذا النهـج حسـب "قرافـن" معمـول به في القوانين الداخلـية، حيث يلجـأ المشـرع بالنسـبة لبعـض المسائـل إلى إيـراد تعـريف عـام، ثم يلحـق بـه تعـدادا علـى سبيل المـثال للحـالات النموذجـية، أو يـورد عـكس ذلك تعـدادا للحـالات ثم يلحـقه بعبـارة عامـة تسمـح بإدخـال الأحـوال الأخـرى التي تعـد من نفـس الطبيـعة .
حظـي هـذا التعريـف بتأييـد جـانب كبـير من الفقـه الدولـي الجنائـي، كما اعتنقـته عـدة دول تقدمـت بمشروعـات لتعريـف العـدوان في لجـنة تعريـف العـدوان لسـنة 1953، وتبنـته الجمعـية العامـة للأمم المتحـدة فـي قـرارها رقـم 1/3314 الصـادر فـي 14/12/1974 واضـعا هـذا التعـريف:
"العـدوان هـو استخـدام القـوة المسلحـة مـن جـانب دولـة ضـد سيـادة دولـة أخـرى، أو وحـدتها الإقليمـية، أو استقـلالها السياسـي، أو بـأي أسلـوب آخـر يتناقـض وميـثاق الأمم المتحـدة".
من جـهة أخـرى، بموجـب القـرار المتخـذ من قـبل الجمعـية العامـة في دورتـها التاسـعة والعشـرين، اعتـبرت الأفعـال التالـية أفعـالا عدوانـية :
1- قـيام دولـة مـا بغـزو أو مهاجـمة دولـة أخـرى، فضـلا عـن الاحـتلال العسـكري.
2- قصـف أراضـي دولـة أخـرى باستخـدام القـوات المسلحـة.
3- حصـار موانـئ أو سواحـل دولـة مـا باستخـدام القـوات المسلحـة لدولـة أخـرى.
4- أيـة هجـمات على القـوات البريـة أو الجويـة أو البحريـة مـن قبـل القـوات المسلحـة لدولـة أخـرى.
5- استخـدام القـوات المسلحـة لدولـة مـا والمتواجـدة فـي أراضـي دولـة أخـرى، وموافقـتها بشـكل يناقـض الاتفاقـية المعقـودة بـين الطرفـين.
6- سـماح دولـة مـا لدولـة ثانـية باستخـدام أراضـي الأولـى للقـيام بعـدوان ضـد دولـة ثالـثة.
7- إرسـال جماعـات أو مرتزقـة أو جنـود غـير نظامـيين مـن قـبل دولـة مـا، للقـيام بأعمـال القـوة المسلحـة فـي دولـة أخـرى.
وبما أن المجـتمع الدولـي سـلم بـكون جريـمة العـدوان من أخطـر الجـرائم المزعزعـة للسـلم والأمـن العالمـيين، فقد نصـت المـادة الأولـى من مشـروع تقنـين الجنايـات ضد سـلام وأمـن البشريـة، المـؤرخ في 28/07/1954 على أن الجنايـات الموجـهة ضد سـلام وأمـن البشريـة، المعرفـة فـي هـذا القانـون، ومنها جريـمة العـدوان المذكـورة في المادة الثانـية من نفس المشـروع ضمن تعـداد جنايـات القانـون الدولـي، ويعاقـب الأفـراد الذيـن تثبـت مسؤوليتـهم عنـها.
إلا أن هـذا المشـروع ومـا لحـقه من اتفاقـيات دولـية لم يتضمـن عقوبـة محـددة لجريـمة حـرب الاعتـداء، ونظريـا لكـون هـذه الجريـمة من أقسـى الجـرائم الدولـية وأخطـرها على السـلام العالمـي، فإنـه يجـب أن يعاقـب مرتكبـوها بأقصـى العقوبـات.
غير أن العقوبـات الدولـية المسـلم بها في العـرف الدولـي وفـي محاكـمات نورمبـورغ وطوكـيو هـي الإعـدام والسجـن، والغرامـة والمصـادرة، فيما نصـت المادة 77 من نظـام رومـا الأساسـي على العقوبـات عن الجـرائم الدولـية، وهـي السجـن المؤبـد، السجـن المؤقـت الذي لا تزيـد مدتـه عـن 30 سنـة، الغرامـة والمصـادرة.
وقـد استبـعد نظـام رومـا الأساسـي عقوبـة الإعـدام من بين العقوبـات المقـررة للجـرائم الدولـية، مع أنه يجـب أن تطـبق هـذه العقوبـة بالنسـبة للجـرائم الدولـية، وخاصـة بالنسـبة لجريـمة الاعتـداء بما تخلـفه مـن ضحايـا ودمـار وخـراب.
في هذا المجـال، يـرى الفقـيه "ستيفـن آر راتنـز" من جامـعة تكسـاس الأمريكـية أنه لـو وضـع تعـريف محـدد للعدـوان وللعقوبـات المقابـلة لـه، فـإن القضايـا الجنائـية المتعلـقة بهـذه الجريـمة، والتحقيـقات فيها سوف تكون في أغلـب الحـالات مثقـلة بالسياسـة، ولا تناسـب المحـاكم.
وهـو ما يفسـر عـدم استعـداد مجلـس الأمـن منـح المحـكمة الجنائـية ليوغسلافـيا سلطـة قضائـية على هـذه الجريـمة، وكـان قـرار الدول التي وضعـت نظام رومـا الأساسي لمحكـمة الجنايـات الدولية عـدم منح المحكمة سلطة قضائية على الجرائم ضـد السـلام، إلا إذا عدلـت الدول رسمـيا النظام الأساسي لنضيـف إليه تعريـفا للجريـمة، وشروطـا لممارسـة السلطـة القضائـية، وهـكذا تبـدو الدول وكأنها تقـول أن العـدوان جريـمة مجـردة، ولكنها متـرددة في مقاضـاتها .
بنـاء على مـا سـبق، أصبحـت حاجـة المجـتمع الدولـي إلى الاعتـراف بعـدم شرعـية جريـمة العـدوان أكـثر من ملحـة، إذ يتعـين الإقـرار من طـرف جمعـية الدول المتفـقة على نظام رومـا الأساسي بضـرورة هـذه الحقيـقة، وأن يعلنـوا أن القادة والرؤسـاء المتسببـون فـي جـرائم الحـروب العدوانـية يجـب أن يحاسـبوا، ولكن إذا نظرنـا إلى الآفـاق وإلى واقـع المجتـمع الدولـي حالـيا، فسـوف نـرى أن احتـمال مقاضـاة أي مـن هـؤلاء الزعـماء المجرمـين تصطـدم بقاعـدة الحصانـة، التي تجـعل من هـذه الفـكرة مجـرد بحـث بلا نهايـة عادلـة غائـبة.
ثانـيا: جريـمة الدعـاية الإعلامـية لحـرب الاعتـداء
تعتـبر وسائل الإعـلام، سـواء كـانت مقـروءة كالصحـف والمجـلات والكتب، أو مسموعـة ومرئـية كالإذاعـة والتلفزيـون والسينـما والمسـرح وشبـكة الانترنيـت، من أهـم مصـادر الثقافـة، ولها تبعـا لذلك شـأن بالـغ في تكويـن ثقافـة المجتـمع، فهي بحسـب طبيعـتها أداة فعالـة لتحقـيق الأغـراض المنتظـرة منها، فهـي سـلاح ذو حـدين، تستخـدم فـي الخـير، كما تستخـدم فـي الشـر، حسبـما يوجـهها مـن يسيطـر عليـها.
على هـذا الأسـاس، يمـكن أن تستعـمل وسائـل الإعـلام فـي الدعايـة للحـرب العدوانـية، بـأن توجـه الجمهـور وتعبئـة الـرأي العـام ضد السـلام، وبـث روح العـداوة بين الشعـوب، مع توجيـهها نحـو الحـروب العدوانـية.
وإذا كـان من المسـلم بـه أن العـمل التحضـيري معاقـب عليه فـي القانـون الدولـي الجنائـي كما أشرنـا من قـبل، فـإن مجـرد الدعايـة الإعلامـية لحـرب الاعتـداء قد تسـبق فـي بعـض أحـوالها مرحـلة التحضـير لتلك الحـرب .
اتجـه المجتـمع الدولـي منذ عهـد عصـبة الأمم إلى تجـريم الدعايـة للحـرب، فقد حـث المؤتمـر الثامـن والعشريـن المنعقـد في بروكسل عـام 1931 على هجـر كل دعايـة إعلامـية للحـرب، و جـاء فيه:
"إن الأمـل في القـوى المخلصـة لاتفاقـية بريـان – كيلـوج، والتي أعلنـت عـن إقلاعـها عن اللجـوء إلى الحـرب، سـوف تدمـج فـي قوانينـها العقابـية التدابـير الكفيـلة بقـدر الإمـكان بمـنع وقـمع كل من يسـعى بالكلـمة أو القلـم، أو بأيـة وسيـلة أخـرى للتحـريض على الحـرب" .
كانت الإذاعـة ولازالـت تعتـبر مـن أهـم الوسـائل الإعلامـية فـي تكويـن الـرأي العـام، وقـد سعـى المجتـمع الدولـي بشتـى منظماتـه، ومنذ نهايـة الحـرب العالمـية الأولـى إلى تنظـيم هـذه الوسيـلة تنظيـما يخـدم السـلام.
حيث صـدر بتاريخ 08/11/1947 قرار الأمم المتحدة (11/110) الذي يحـرم الدعايـة الإعلامـية للحـرب بصـورة واضحـة لا لبس فيها، وقد جـاء فيه: "إن الشعـوب تتمسـك بميـثاق الأمم المتحـدة وغايـاته في تجنـيب الأجـيال القادمـة ويـلات الحـروب، بعد أن ضـاقت البشريـة مـرارة حربـين عالميتـين في فتـرة قصيـرة، وضـرورة العيـش بسـلام بين أفـراد الجـنس البشـري، وبما أن الميـثاق يدعـو الجمـيع إلى احـترام الحريـات الأساسـية، ومنها حريـة التعـبير، فإن الجمعـية العامـة تديـن كل أنـواع الدعايـة، وفي أي دولـة كانت، إذا كان من شأنها أن تثيـر وتشجـع على تهـديد السـلام وانتهاكـه"، ونفس الاتجـاه الدولـي الخـاص بالحـقوق المدنـية والسياسـية، الصـادر عن الأمم المتحـدة 16/12/1966 .
صـدر الإعـلان حـول المبادئ الأساسـية الخاصـة بإسـهام وسائل الإعـلام في دعـم السـلام والتفاهـم الدولـي عـن المؤتمـر العـام لليونسـكو في دورتـه العشريـن بتاريـخ 28/11/1978 .
ثالـثا: جريـمة التآمـر ضـد السـلام
يعتـبر التآمـر الدولـي من الأفعـال التي تجرمـها المواثـيق الدولـية لخطورتـها، وهـو مـا يتماشـى مع التشريعـات الوطنـية التي تجـرم المؤامـرة كجـرم، عندمـا يكون موضـوع الجريـمة التي يخشـى من وقوعـها موضوعـا خطـيرا.
والمؤامـرة هـي المرحـلة التي تتوسـط العـزم والفعـل، وبهـذا المعنـى تعـد المؤامـرة عدوانـا لم يتحـقق بعـد ، كما يمـكن تعريـف المؤامـرة على ضـوء مبادئ القانـون الدولـي الجنائـي على أنـها: "الاتـفاق بين اثنـين أو أكـثر من قـادة الدول على تنفـيذ خطـة مرسومـة للقـيام بعمـل عدوانـي ضـد مصلحـة من المصـالح الدولـية التي يعـتبر الاعتـداء عليـها جريـمة دولـية".
هناك العـديد من المواثـيق التي جـرمت المؤامـرة، على غـرار:
1- لائحـة لنـدن في المادة السادسة، حيث سمـت المؤامـرة كجريمـة دولـية عندمـا تهـدف إلى ارتكـاب جريمـة من جـرائم السـلام المذكـورة في نفـس المـادة.
2- لائحـة طوكيـو في مادتـها الخامسـة.
3- المبـدأ السـادس من المبادئ المستخلصـة من محاكمات نورمبرغ.
4- المشـروع الخـاص ضد السـلام وأمن البشريـة في المادة الثانـية، الفقـرة 13 والتي نصها:
"يجـرم التآمـر بقصـد ارتكـاب الجـرائم المنصـوص عليها في الفقـرات السابـقة من المـادة".
المطـلب الثانـي : جـرائم الحـرب
ترعـرع العـرف الدولـي في أواخـر القـرون الوسطـى وأوائـل عصـر النهضـة، فانتـبه إلى جرائـم الحـرب في بعـض صورهـا من خـلال الفقـه الكنسـي، وأعمـال بعـض المفـكرين الذين دعـوا إلى تنظـيم سياسـة المتحـاربين ضمـن مبادئ عامـة، أهمـها ضـرورة المحافظـة على حـياة الأبريـاء وأموالـهم، ووجـوب معامـلة الأسـرة معامـلة حسـنة، والابتـعاد عن الأعـمال التي تمـس حـياة الأطفـال والنسـاء، والعجـزة ورجـال الكنيسـة.
تكثـفت هـذه الجـهود في العصـور الحديـثة، فأثمـرت معاهـدات ومواثـيق دولـية، سرعـان ما سعـت إلى تنظـيم عـادات الحـروب وقوانيـنها، إذ فرضـت قيـودا على سلـوك الجيـوش وواجـباتها، وأنـواع الأسلحـة التي لا يجـوز استعـمالها في الحـرب .
عقـب انتـهاء الحـرب العالمـية الأولـى، اجتمعـت لجـنة المسؤولـيات التي تشكـلت سـنة 1919، والتي قدمـت تقريـرا يتضمـن تسمـية 32 جريـمة من جـرائم الحـرب، وكـذا لجـنة أعمـال الحـرب المكونـة في لندن عـام 1943 لتحـديد جرائم الحـرب التي اقترفـها الألمـان وحلـفاؤهم بحـق شعـوب المناطـق والدول التي احتلوهـا.
ساهمـت الأمم المتحـدة في هـذا المجـال بدور فعـال، ومن أهم الأعمـال التي أنجـزتها اتفاقـيات جنيف الأربعـة الصـادرة عن الأمم المتحـدة في 12/08/1949 والمتعلـقة بحمايـة المدنيـين والعسكريين من الجرحـى والمرضـى وأسـرى الحـرب، وكذلك الملحـقان الإضافـيان لها، والصـادران عن الأمم المتحـدة عـام 1977 بهـدف تحـديث وإتمـام هـذه الاتفاقـيات، والتي بدورهـا تعـد تحديـثا و تعديـلا لاتفاقـيات جنيـف لسـنة 1929 .
أمـا على مستـوى تطـور القضـاء الجنائـي الدولـي، فـإن جـرائم الحـرب حددتـها مبادئ نورمبورغ بأنها انتهاكـات قوانـين أو أعـراف الحـرب، كالاغتـيال وسـوء المعامـلة، وترحـيل السكان المدنيين في الأراضي المحـتلة، وإسـاءة معامـلة أسـرى الحـرب أو راكبـي البحـر، أو قتل الرهـائن أو التدمـير الغاشـم للمـدن الفقيـرة والقـرى، أو التخـريب الذي لا تبـرره الضـرورة العسكريـة.
وبما أن هـذه الجـرائم قد وردت على سبيـل المـثال لا الحصـر، يمـكن إجـمال القواعـد الأساسـية الواجـب إتباعـها أثـناء الحـروب فيما يلـي :
1- يمـنع قتـل أو جـرح عـدو يستسـلم أو يصـبح عاجـزا عـن القـتال .
2- للمقاتلـين المأسـورين والمدنـيين الذين يقعـون تحـت سيطـرة الخصـم حـق احـترام حياتـهم وكرامتـهم، وحقوقـهم الشخصـية ومعتقداتـهم، ويلـزم حمايتـهم من أي عمل من أعـمال العنـف والانتـقام، ومن حقـهم تلقـي طـرود الإغاثـة.
3- للأشخـاص العاجـزين عن القـتال وغير المشتركـين بشـكل مباشـر في الأعمـال العدائـية حـق احـترام حياتـهم وسـلامتهم البدنـية والروحـية، ويحمـي هـؤلاء الأشخـاص ويعامـلون معامـلة إنسانـية في جمـيع الأحـوال دون أي تمـييز مجحـف.
4- يتمـتع جمـيع الأشخـاص بالضمانـات القضائـية الأساسـية، ولا يعـد الشخـص مسئـولا عن عمل لم يقترفـه، ولا يعـرض أحـد للتعـذيب البدنـي أو النفسـي، أو العقوبـات البدنـية أو المعامـلة القاسـية أو المهيـنة .
5- ليـس لأطـراف النـزاع أو الأفـراد قواتـها المسلحـة حـق مطلـق في اختـيار طـرق وأساليـب الحـروب، التي من شأنـها إحـداث خسـائر لا مبـرر لها أو آلام مفرطـة.
6- يحـرم اللجـوء إلى الغـدر، حيـث أن القتـال وفـقا لأحـكام قانـون الحـرب وأعرافـها يتـبع طريـقة معيـنة ظاهـرة، فـلا يجـوز مثـلا استخـدام نفس لباس العـدو، أو حمـل رايـته، أو استعـمال المقاتـل إشـارات الصليـب الأحـمر، أو ملابـس مدنـية، كما لا يجـوز الاعتـداء على رايـة الهدنـة وعلى جـنود الخصـم أثناء فتـرات الهدنـة أو وقـف إطـلاق النـار.
نصـت المادة الثامنة من النظام الأساسي للمحـكمة الجنائـية الدولـية على أن جرائـم الحـرب تشـمل:
أ‌- الانتهاكـات الجسمـية لاتفاقـيات جنـيف المؤرخـة فـي 12/08/1949 ضد الأشخـاص أو الممتلـكات، الذيـن تحميـهم اتفاقـيات جنيـف ذات الصلـة.
ب‌- الانتهاكـات الخطـيرة للقوانـين والأعـراف الساريـة على النزاعـات الدولـية المسلحـة في النطـاق الثابـت للقانـون الدولـي.
جـ- في حالـة وقـوع نـزاع مسـلح غير ذي طـابع دولـي، تؤخـذ بعين الاعتـبار الانتهاكـات الجسمـية للمادة 3 المشتركـة بين اتفاقـيات جنيف الأربعـة في 12 أوت 1949.
د- لا تطـبق المنازعـات المسلحـة غير ذات الطابـع الدولـي على حـالات الاضطرابـات والتوتـرات الداخـلية، مثل أعمـال الشغـب أو أعمـال العنـف المنفـردة أو المتقطـعة، وغيرهـا من الأعـمال ذات الطبيـعة المماثـلة.
هـ- الانتهاكـات الخطـيرة الأخـرى للقوانـين والأعـراف الساريـة على المنازعـات المسلحـة غير ذات الطـابع الدولـي في النطـاق الثابـت للقانـون الدولـي.
و- لا تنطـبق الفقرة (هـ) السابـقة على حـالات الاضطرابـات والتوتـرات الداخـلية، على غـرار أعـمال الشغـب أو العنـف، أو غيرهـا من الأعمـال ذات الطبيعـة المماثـلة، وتنطـبق على المنازعـات المسلحـة التي تقـع فـي إقلـيم دولـة عندمـا يوجـد صـراع مسـلح متـبادل بيـن السلطـات الحكومـية وجماعـات مسلحـة منظـمة، أو فيـما بين الجماعـات.
تمـيز النظـام الأسـاسي للمحـكمة الجنائـية الدولـية بتحـديده لجـرائم الحـرب لكل من المحـكمة الجنائـية الدولـية ليوغسلافـيا السابقة وروانـدا، ففيـما اقتصـرت المحـكمة الأولـى على مـا تضمنـته اتفاقـيات جنيـف، مع استبـعاد مـا أضافـه البروتوكـول الأول، فـإن المحـكمة الثانـية تضمنـت مخالفـة للمادة الثانـية المشتركـة فـي اتفاقـيات جنيـف والنصـوص الأساسـية فـي البروتوكـول الثانـي.
بينـما كان النظـام الأسـاسي في كـل من المحاكمتـين يعني دعـم مبـادئ القانـون الدولـي، فقد عنـى كذلك النظـام الأسـاسي للمحـكمة الجنائـية الدولـية بهـذا المعـنى، إذ نص فـي المـادة العاشـرة منه على أنـه ليـس في هـذا البـاب مـا يفسـر على أنـه يقيـد أو يمـس بـأي شـكل مـن أشـكال قواعـد القانـون الدولـي القائمـة أو المتطـورة المتعلـقة بأغـراض أخـرى غـير النظـام الأسـاسي .
يمكن أن تأخـذ جرائـم الحـرب عـدة مواقـف خطـيرة، أهمـها:
1- استعـمال وسـائل قتـال محظـورة:
منذ وقـت طـويل، تنـبه المجتـمع الدولـي إلى مـا ينجـم مـن أضـرار ماديـة ونفسـية وعصبـية جسيـمة تصيـب الإنسان، سـواء كان مقاتـلا أو مدنـيا، مما لا تفرضـه ضـرورات الحـرب، وذلك باستخـدام وسـائل قتالـية معيـنة.
يمـكن، في هذا الصـدد، إيجـاز بعـض الأمثـلة عن الأسلحـة والمـواد المحظـور استخدامـها دولـيا أثـناء العملـيات القتالـية فيـما يلـي:
أ- الأسلحـة المتفجـرة والحارقـة والمسمومـة:
تتمـثل أساسـا في النابـالم والفوسفـور، إذ تم حظرهمـا لأول مـرة سنة 1868 بمناسـبة إعـلان سـان بترسبـورغ، ليتأبـد هـذا التجـريم بموجـب اتفاقـيات لاهـاي سنة 1899 و1907، إذ حرمـت هـذه الاتفاقـيات استخـدام السـم أو الأسلحـة المسمومـة، لما تمثـله من غـدر وخيانـة.
اتخـذت الأمم المتحـدة نفـس المنحـى بقرارهـا رقـم 3464 فـي 11/12/1975، كما حظـر نظـام رومـا الأسـاسي استخـدام السمـوم أو الأسلحـة المسمومـة (المـادة 8/ب-17) كـما حظـر استخـدام الرصـاص المتفجـر في جـسم الإنسـان (المـادة 8/ب-19) .
ب – الأسلحـة الكيـماوية:
تم حظـرها لأنها أسلحـة مصنوعـة مـن مـواد كيماويـة، ولها خصائـص تجعـلها قاتـلة وسامـة، كالغـازات الخانـقة التي تـؤدي إلى شـلل الأعصـاب، ولا يقتصـر ضـرر هـذه الأسلحـة علـى المتقاتلـين فقـط، بـل يـؤدي استعـمالها إلى تجـاوز مقتضـيات الحـرب، مما يتعـارض مع أبسـط قواعـد الإنسانـية.
حـرم استعـمال هـذا السـلاح دولـيا بموجـب عـدة مواثيـق ومعاهـدات دولـية، منها: إعـلان لاهـاي 1899 بشأن الأسلحـة السامـة، ومعاهـدة فرسـاي 1919 المادة (171/ف2)، ومعاهـدة واشنطـن 1922 المـادة (3)، وبروتوكـول جنيـف 1925، وبروتوكـول لنـدن 1936 الخـاص بالأسالـيب الإنسانـية الواجـبة فـي الحـرب البحريـة.
كما أدان المؤتمـر الدولـي لحقـوق الإنسان المنعقـد في طهـران عـام 1968 استعـمال هـذه الأسلحـة، ودعـا إلى وجـوب منعـها، فيما تم تحـريم استخـدام الغازات الخانقـة أو السامـة أو غيرهـا من الغازات، وجمـيع مـا في السوائـل أو المـواد أو الأجهـزة بموجـب المادة (8- ب18) مـن نظـام رومـا الأساسـي .
جـ - السـلاح الجرثومـي أو البيولوجـي:
يقصـد بأسالـيب الحـرب الجرثومـية تلك التي يلجـأ فيها المتحـاربون إلى قذف مكروبـات تتضمـن أمراضـا معيـنة، بغـرض قتـل الإنسان أو الحـيوان أو النـبات، والغـرض مـن استخـدام الأسلحـة البيولوجـية في الحـرب ينطـوي على اتجـاه نحـو إبـادة عنصـر الشعـب فـي دولـة العـدو، وهـو أمـر يجـاوز مقتضـيات الحـرب بكثـير، عـلاوة على أن استخـدام هـذه الأسلحـة يتم عـن غـدر وخيانـة وهمجـية ترتـد بالإنسان إلى القرون الوسطـى، كما يتصـادم استخـدام هـذه الأسلحـة كلـيا مع فلسـفة وأحـكام القانـون الدولـي الإنسانـي .
عقـدت فـي عـام 1972 معاهـدة تقضـي بتحـريم إنـتاج الأسلحـة البيولوجـية وتخزيـنها وتطويـرها وبتدمـير المخـزون منها، ودخـلت هـذه المعاهـدة النفـاذ فـي 26/03/1975 .
د- السـلاح النـووي أو الـذري:
يعتـبر السـلاح النـووي مـن أخطـر الأسلحـة الفتاكـة التي عرفـها الإنسان حتى الآن، ولذلك سـارع المجـتمع الدولـي إلى الدعـوة إلى تنظـيم استعـمال الطاقـة الذريـة فـي الأغـراض السلمـية فقط، ومنع انتشارها، مع نبـذ استخـدامها في الحـروب، أو السيطـرة عليها.
حـدث ذلك بعد أن ذاقـت البشريـة مـرارة استعمـال هـذا السـلاح حـتى وهـو فـي أبسـط صـورة، بعـد أن قامـت الولايـات المتحـدة الأمريـكية بضـرب مدينتـي هيروشيـما وناغـازاكـي اليابانيتـين عـام 1945.
من أهـم الخطـوات التـي اتخـذتها الأمم المتحـدة لمنـع الأسلحـة الذريـة وتحريمـها ما يلي:
- إنشـاء لجـنة الطاقـة الذريـة عـام 1946.
- أصـدرت الجمعـية العامـة للأمم المتحـدة في سنة 1952 قـرارها القاضـي بـأن دراسـة موضـوع الأسلحـة النوويـة يجـب أن يناقـش في إطـار "لجـنة نـزع السـلاح".
- أنشـأت الأمم المتحـدة في سـنة 1955 لجـنة علمـية لمتابـعة تأثـير الإشـعاع النـووي.
- تم بتاريـخ 05/08/1963 في موسـكو توقـيع معاهـدة بين الولايـات المتحـدة الأمريكـية والإتحـاد السوفـياتي، بحضـور الأمـين العـام للأمم المتحـدة آنذاك "يوثانت" والتي تمـنع إجـراء التجـارب النوويـة فـي الجـو أو الفضـاء الخارجـي أو تحـت المـاء.
- توصلـت الأمم المتحـدة بتاريـخ 12/16/1968 إلى توقـيع معاهـدة عـدم انتشـار الأسلحـة النوويـة .
وتوالـت فيما بعـد الاتفاقـيات الثنائـية بيـن كـل مـن الولايـات المتحـدة الأمريكـية والاتحـاد السوفياتـي حـول الحـد مـن الأسلحـة النوويـة ومنع انتشارهـا.
2- إتـيان تصرفـات محرمـة:
جـرمت المواثـيق والمعاهـدات الدولـية بعـض التصرفـات غـير المبـررة للمقاتلـين أثناء سـير العملـيات الحربـية، كما جرمـت أيضا التصرفـات غير المبـررة التي يقوم بها جيش الاحـتلال في المناطـق المحـتلة من إقلـيم دولـة أخـرى، على غـرار:
أ – الاعتـداء على المدنيين أو المقاتلين العزل الأسرى والجرحى أثناء سير المعارك الحربية:
اعتـبر نظـام رومـا الأسـاسي فـي مادتـه الثانـية أن الانتهاكـات الجسمـية لاتفاقـيات جنيـف الأربعـة السابـقة جـرائم حـرب، ثم أورد بعض الأمثـلة لهـذه الانتهاكـات الأخـرى للقوانـين والأعـراف الساريـة على المنازعـات الدولـية المسلحـة في النطـاق الثابـت للقانـون الدولـي.
ب – الجرائـم التي ترتـكب في ظـل الاحـتلال:
إن تصرفـات المحـتل التي تضـر بالمواطنيـن تصرفـات باطلـة وغير مشروعـة، وهـي تشـكل جريـمة دولـية، ومـن أمثـلة الجرائـم الدولـية فـي هـذا الميـدان:
- يحظـر علـى المحـتل ضـم الأقالـيم المحـتلة، لكونـه حالـة فعلـية مؤقـتة، لا يترتـب عنها نقـل السيـادة علـى الإقليـم المحـتل، حتى ولـو وافقـت دولـة السـيادة على ضـم جـزء من إقليمـها فـي معاهـدات الصـلح، فـإن الاتجـاه الحـديث فـي القانـون الدولـي لا يأخـذ بـه، إلا إذا كـان ذلك نتيجـة ضغـط أو إكـراه واقـع عليـها .
- لا يجـوز للمحـتل أن يفـرض على السـكان عقوبـات مالـية أو جزائـية جماعـية، أو أن يفـرض عليـهم عمـلا يتنافـى مع ولائـهم لبلـدهم، ونصـت المـادة 45 مـن لائحـة لاهـاي على ذلك، كما نصـت المـادة 68 مـن اتفاقـية جنيـف الرابـعة الخاصـة بحمايـة المدنـيين على أنـه: "لا توقـع عقوبـة الإعـدام علـى الأشخـاص المحمـيين، مـا لـم يلفـت نظـر المحكـمة بوجـه خـاص إلى حقيـقة أن عـدم كـون المتـهم مـن رعايـا دولـة الاحـتلال فإنـه ليـس ملزمـا بتقديـم أي واجـب للـولاء لـها" .
- لا يجـوز أن يُفـرض على المواطنـين أي عمـل إجـباري، أو أن يتم إبعـادهم عن بلدهـم.
- لا يجـوز للمحـتل أن يتعـرض لعقـارات الإقلـيم بإتـلاف أو نهـب، ففي تقريـر لمنظـمة العفـو الدولـية ورد فيه: "أن إسرائيل يجـب أن تدان بجريـمة من جرائـم الحـرب، وذلك بعد قيامـها بتجـريف عشـرات الهكـتارات من المـنازل الخاصـة بالفلسطينـيين في جـنوب مديـنة رفـح، فخـلال سنتي 2002 و2003 فقط قـام الاحـتلال الإسرائيلـي بتجـريف 10% مـن الأراضي الزراعـية فـي غـزة، واقتـلع 226000 شجـرة، وفقـد 11000 فلسطينـي منازلـهم في قطـاع غـزة وحـده" .
- يحـرم على المحتلـين قتـل الرهـائن.
- يحـرم على المحـتل تشجـيع الاستيطـان فـي إقلـيم الدولـة المحـتلة.
- يحـرم علـى المحـتل الإبطـاء غير المبـرر فـي إعـادة أسـرى الحـرب أو المدنـيين إلى بلادهـم.
- على المحـتل حمايـة المنـشآت الثقافـية وأماكـن العـبادة فـي الإقلـيم المحـتل .
- وجـب على المحـتل أن يمـكّن الشخـص المعـادي مـن محاكـمة قانونـية وعادلـة.
تم ذكـر الأمثـلة السابـقة على سبيل المـثال فقط لا على سبـيل الحصـر، لكـون الاتفاقـيات الدولـية التي نصـت عليها لا تستوعـب كل جرائـم الحـرب.
يمكن الاستنـتاج إذن أن خلاصـة هـذه الصـورة من صـور الجـرائم الدولـية أن جريـمة الحـرب مازالـت تمـارس بمنطـق القـوة، خلافـا لكل المعاهـدات والمواثـيق الدولـية التي تنظـم الحـروب والاحـتلال.
وصـف البروفيسـور "نعـوم تشومسكي" الهجـوم الأمريكي على الفلوجـة بأنـه:
"يمثل أحـد جرائـم الحـرب الكـبرى، فالرئـيس الأمريـكي بـوش مؤهـل تمامـا أن يـكون عرضـة لعقوبـة الإعـدام، بموجـب معاهـدات جنيـف والقانـون الأمريـكي بسبـب تلك الجريـمة وحدهـا".
كما شبـه تشومسـكي مـا جـرى في الفلوجـة بالأحـداث التي شهدتـها مديـنة سريبرنيـشا البوسنـية، بقولـه: "سريبرنيـشا قطـعة أرض صغيـرة ارتـكب فيها الصـرب أعمـالا انتقامـية، فنقلـوا كافـة الأطفـال والنسـاء إلى خـارج المنطـقة، واحتفظـوا بالرجـال داخـل المديـنة، وقامـوا بنحـرهم، لكن مـا يتعـلق بالفلوجـة، لم تقـم الولايـات المتحـدة بنقـل الأطـفال والنسـاء خـارج المنطـقة، لقد قصفـهم طيـلة شهـر كـامل.
وعند الاستـيلاء على مستشفـى المديـنة، أخـذ الجـنود الأمريـكان العراقـيين المرضـى من أسِرَّتِـهم وقيدوهـم تحـت أقدامـهم، رغم أن المستشفـيات والطـاقم الطبـي والمرضى محمـيين بموجـب اتفاقـيات جنيـف من قـبل الأطـراف المتحاربـة فـي أي نـزاع كان"، مضيفا أنه: "لا يمكـننا أن نعـثر على خـرق لمعاهـدات جنيـف أكثر من هـذا الخـرق" .
المطلـب الثالـث: الجـرائم ضـد الإنسانـية
لقد نصـت المـادة الخامسـة مـن النظـام الأسـاسي للمحـكمة الجنائـية الدولـية ليوغسلافـيا السابقـة على أن الأفعـال التي تشـكل جرائـم ضـد الإنسانـية هـي نفسـها تقريـبا المذكـورة بلائحـة (نورمبـورغ) ، مع إضافـة جرمـي الاغتصـاب والبـغاء الجـبري، اللذين عانـى منهما سـكان البوسـنة.
ونفس الحـال أقرتـه المحـكمة الدولـية لروانـدا عـام 1994، وقـد أشـارت المادة السابـعة من النظـام الأسـاسي للمحـكمة الجنائـية الدولـية إلى الجـرائم ضـد الإنسانـية، إذ يمكن تقسـيم الأفعـال التي حددهـا النص كجـرائم ضـد الإنسانـية إلـى أفعـال القـتل أو الإبـادة أو الاسترقـاق أو الإبعـاد مـن جـهة، والاضطـهاد المبنـي على أسـباب سياسـية أو عنصريـة أو دينـية مـن جـهة أخـرى، وينم هـذا التقسـيم عن وجـود نوعـين من الجـرائم ضد الإنسانـية، هـما:
أولا: جـرائم إبـادة الجـنس البشـري ( Génocide)
لم تـكن جريـمة الإبـادة الجماعـية تحظـى بالاهتـمام حتى أخـذت الحـرب العالمـية الثانـية تلقـي بظـلال مآسـيها على الساحـة الدولـية، فأجـمع عـدد كبـير مـن المجـتمع الدولـي على ضـرورة معاقـبة مرتكـبي هـذه الجـرائم وصاحـب تسمـية هـذه الجريـمة بجريـمة إبـادة الجنـس البشـري هـو المحـامي البولنـدي والذي أبيـدت عائلـته على يـد النازيـين أي أن هـذا المحـامي والإنسان والضحـية " رافـاييل لميـكين "« Lemkin » هـو صاحـب إدخـال هـذا المصطـلح، رغم أن أصـل هـذا المصطـلح هـو يونـاني Genocode»» والتي تعنـي إبـادة الجـنس أو الأمـة، أو العنصـر أو القبيـلة، وتنفـذ هـذه الجريـمة حسـب لميـكين على مرحلتـين:
المرحـلة الأولـى: تهديـم الإطـار الوطنـي للجماعـة المضطـهدة
المرحـلة الثانـية: استبـدال الإطـار الوطنـي المهـم بنظـام يفرضه الذي ينظـم هذه المأساة .
في حـين تظـهر هـذه الجريـمة كما يـرى الفقـيه " فـابر" في ثلاثـة مظاهـر هي:
1- الإبـادة الجسديـة: وهـي الاعتـداء على الحـقوق اللصيـقة بشخـص الإنسان، كالحـياة والسلامـة الجسديـة .
2-الإبـادة البيولوجـية: تنصـب على قطـع مصـادر الحـياة والنمـو البشـري كإجـهاض النسـاء وتعقـيم الرجـال.
3-الإبـادة الثقافـية: وهـذا تقـع على المنظومـة التفكيريـة السلوكـية والعقائديـة المتمثـلة بتحـريم اللـغة الوطنـية والاعتـداء على التقالـيد الدينـية .
وتم اعتـبار جريـمة إبـادة الجنـس البشـري مـن الجـرائم الدولـية كما أشـارت الإتفاقـية الخاصـة بمكافحـة جريـمة إبـادة الجـنس البشـري والمصـادق عليـها عـام 1948، والتي أكـدت المـادة الأولـى، منها على أنـه: "تؤكـد الدول المتعاقـدة أن الأفعـال التي ترمـي إلى إبـادة الجـنس البشـري، سـواء ارتكـبت فـي زمـن الحـرب أو في زمن السلم، تعـد جريـمة فـي نظـر القانـون الدولـي".
ثانـيا: جريـمة التمـييز العنصـري
يقـوم التمـييز العنصـري على كـل فعـل ينطـوي على اضطـهاد أو سـوء معامـلة، أو فعـل غـير إنسانـي أخـر لفـرد أو لمجموعـة مـن الأفـراد، على أسـاس العـرق أو الجـنس أو اللـغة أو الديـن أو الـرأي السـياسي..الخ، بهـدف الاضطـهاد أو الهيمـنة على ذلك الفـرد أو تلك المجموعـة مـن الأفـراد ، وأن الأصـل بـأن جمـيع البشـر متسـاوون ويولـدون أحـرارا ومتسـاوون فـي الكرامـة، وفـي الحقـوق والحريـات.
إلا أن هـذا الأصـل لا يحـترم دائـما، بل يتم الخـروج علـيه أحيانـا، ويتخـذ هـذا الخـروج صـورة عـدم المسـاواة بيـن المواطنـين داخـل الدولـة الواحـدة، أو بين مواطنـي الدول المختلـفة، وينقسـم المجـتمع الواحـد إلى طبـقات تعلـو بعضهـا فـوق بعـض، فتضطـهد إحداهـما الأخـرى، أو تسـيء معاملـتها، وتتمـتع إحـداهـا بامتـيازات لا تتمـتع بها الأخـرى، مما يـؤدي إلى الفصـل العنصـري بين فئات المجتـمع الواحـد.
ليسـت العنصريـة مفهومـا حديـثا، ففـي التاريـخ القـديم كـان الإغريـق ينكـرون المساواة بين اليونانـيين وغيرهم من الشعـوب، وكـان الرؤسـاء يدعـون التفـوق الرومـاني على الأجـناس الأخـرى التي أطلقـوا عليـها اسم " البرابـرة "، كما قـال اليهـود أنهم شعـب الله المخـتار، وأطلـق العـرب على غيـرهم اسم العجـم إلى أن جـاء الإسـلام فأزال هـذه العنصريـة .
وفي العصـر الحـديث، ظهـرت فـكرة تفـوق الجنـس الأبيض على الأسـود، فخـلال الثلاثينـيات من القـرن الماضـي ظهـر مفهـوم تفـوق الجنـس الآري، وتحـول إلى مفهـوم قانونـي في جـنوب إفريقـيا سـنة 1948 وفي بعـض الحكومـات الاستعماريـة الأخـرى .
وفـي سـنة 1941، عقـد في لنـدن هـو المؤتمـر الدولـي للأجـناس تحـت شعـار "لا يوجـد أجـناس متفوقـة"، ردا على سياسـة الألمـان الذين كانـوا يقولـون بـأن ألمانـيا أمـة مـن الأسـياد.
ولـكن أول تحـريم للعنصريـة ورد فـي الوثـائق الدولـية كـان سـنة 1945 فـي المادة السادسـة مـن لائحـة نورنمبـورغ، والمادة الخامسـة مـن لائحـة طوكـيو ثم الإعـلان العالمـي لحقـوق الإنسان، الصـادر فـي 10/12/1948، وبصفـة خاصـة مـن المـادة الثانـية وإعـلان الأمـم المتحـدة الصـادر فـي 20/11/1963 المتعـلق بالقضـاء على جمـيع أشـكال التمـييز العنصـري فـي مادتـه التاسـعة، والتي نصـت على أنـه: "يعتـبر جريـمة ضـد المجـتمع ويعاقـب عليه بمقتضـى القانـون كل تحريـض على العنـف، وكل عمل مـن أعمـال العنـف يأتـيه أي فـرد مـن الأفـراد أو المنظـمات ضـد أي عـرق أو أي جماعـة مـن لـون أو أصـل آخـر".
ثم صـدرت الاتفاقـية الدولـية للقضـاء على جمـيع أشـكال التمـييز العنصـري وتم اعتمادهـا فـي الجمعـية العامـة بقرارهـا الصـادر في 21/12/1965 ثم صـدرت الاتفاقـية الدولـية لقمـع جريـمة الفصـل العنصـري والمعاقـبة عليها، الصـادرة عـن الجمعـية العامـة للأمم المتحـدة في 30/11/1973، والتي أكـدت على أن الفصـل العنصـري جريـمة ضد الإنسانـية، وأنها انتـهاك لمـبادئ القانـون الدولـي، وتشـكل تهـديدا خطـيرا للسـلم والأمـن الدولـيين.
عـددت المادة الثانـية مـن اتفاقيـة قمـع جريـمة التمـييز العنصـري، المشـار إليها سابـقا مجموعـة مـن الأفعـال الإنسانـية التي تعتـبر جـرائم دولـية، و المشـار إليها كـذلك بنـص المـادة السابعـة مـن نظـام رومـا الأسـاسي، وتتمـثل كالتالـي:
أ- حرمـان عضـو أو أعضـاء فـي فئـة أو فـئات عنصريـة مـن الحـق فـي الحـياة والحريـة الشخصـية، إذ يعنـي الحرمـان مـن الحـق في الحـياة القتـل، فيما يعني الحرمـان من الحريـة الشخصـية التوقـيف أو السجـن بدون مبـرر قانـوني، وكـذا الأذى الخطـير.
يتحـقق الحرمـان السـابق كذلك في الصـور التالـية :
- قـتل أعضـاء في فـئة أو فـئات عنصريـة.
- إلحـاق أذى خطـير بدنـي أو عقـلي بأعضـاء في فئـة أو فـئات عنصريـة، أو بالتعـدي على حريتـهم أو كرامتـهم، بإخضـاعهم إلى التعذيـب أو للمعامـلة، أو العقوبـة القاسـية أو اللاانسانـية أو الحـط من الكرامـة.
- التعسـف في توقـيف فئة أو فئات عنصريـة أو سجـنهم بصـورة غير قانونـية.
ب- إخضـاع فئـة أو فئات عنصريـة قصـدا لظـروف معيـنة، يقصـد منها أن تقضـي إلى الهـلاك الجسـدي كلـيا أو جزئـيا لها.
ج- اتخـاذ أي تدابـير تشريعـية أو غير تشريعـية يقصـد منها منـع فئة أو فئات عنصريـة من المشاركـة في الحـياة السياسـية أو الاجتماعـية لهـذه الفـئة.
د- اتخـاذ التدابـير، بمـا فيـها التدابـير التشريعـية، بهـدف تقسـيم السـكان وفـق معـايير عنصريـة، عن طريـق حواجـز وعـوازل تفصـل بين أعضـاء فئة أو فئات عنصريـة، وحظـر التـزاوج فيما بين الأشخـاص المنتسـبين إلى فئات عنصريـة مختلـفة، ونـزع العـقارات المملوكـة لفئة أو فئات عنصريـة أو لأفـراد منها.
هـ- استغـلال عمـل أعضـاء فئة أو فئات عنصريـة، لاسيـما بإخضـاعهم للعـمل القسـري.
و- اضطهـاد المنظمـات والأشخـاص بحرمـانهم من الحـقوق والحريـات الأساسـية لمعارضتـهم للفصـل العنصـري.
خلاصـة الفصـل الأول:
قبل تناول مختـلف أركـان الجريـمة الدولـية في الفصل الثانـي، كان لا بد أن يحـاول هـذا الفصـل الأول تبيـان ماهـية الجريـمة الدولـية، التي استقـر تعريفـها، بعد سـرد عـدة تعـاريف لعـدة فقـهاء فـي القانـون الجـنائي الدولـي، على أنها كـل سلـوك إنسانـي إجرامـي، صـادر عـن فـرد بإرادة إجرامـية، يترتـب عنـه الإخـلال بالنظـام الدولـي، والمسـاس بمصلحـة دولـية معيـنة، غالـبا ما تكـون مشمولـة بحمايـة القانـون الدولـي عن طريـق الجـزاء الجنائـي.
وقد تمـيزت الجريـمة الدولـية عن باقـي الجـرائم الأخـرى التي تشبـهها ظاهريـا، وتتمـيز عنها من حـيث المضمـون، خاصة الجريمة السياسية وجريمة القانون الداخلي العام، والجريمة العالمـية، فيما كانت أهم خصائص الجريمة الدولية شـدة خطـورتها وجسامـتها، مسألـة التسلـيم، استبعـاد قاعـدة التقـادم من التطبـيق.
كما تطـرق هذا الفصل أيضا بالتفصـيل لمخـتلف صـور وأنـواع الجـرائم الدولـية، ممثلة في الجـرائم ضـد السـلام العالمـي، خاصة العـدوان والدعـاية الإعلامـية لحـرب الاعتـداء، التآمر ضد السلام، وجرائم الحرب، كاستعـمال وسـائل قتـال محظـورة: الأسلحـة المتفجـرة والحارقـة والمسمومـة، الأسلحـة الكيـماوية، السـلاح الجرثومـي أو البيولوجـي، السـلاح النـووي أو الـذري، إضافة إلى الإتـيان بتصرفـات محرمـة، على غرار الاعتـداء على المدنيين أو المقاتلين العزل الأسرى والجرحى أثناء سير المعارك الحربية، الجرائـم التي ترتـكب في ظـل الاحـتلال، كما تعتبر الجـرائم ضـد الإنسانـية من أهم صور الجرائم الدولية، جـرائم إبـادة الجـنس البشـري وجريـمة التمـييز العنصـري.










رد مع اقتباس
قديم 2013-12-30, 00:34   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
adoula 41
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B10 الفصل الثاني

الفصـل الثانـي: أركـان الجريـمة الدولـية



تمهـيد:
خلافـا للجريمـة الداخلـية، لا تكتـفي الجريمـة الدولـية بتوافـر الأركـان التقليديـة المعروفـة فقط، والمتمثـلة في الركـن الشرعـي والمـادي والمعنـوي، بل يضـاف لها الركـن الممـيز لها، وهـو طبـعا الركـن الدولـي.
في هـذا السـياق، يحـاول هذا الفصـل تبيـان مـدى تقـبل فقـهاء القانون الدولي الجنائي لتطبيق نفس مبادئ الركـن الشرعـي للجرائم العادية الداخلية على الجريمـة الدولـية، خاصة فيما يتعلق باستخـدام مبـدأ لا جريـمة ولا عقوبـة إلا بنص، نظـرا لخصوصـية وحداثة الدراسات القانونية والقضائية في مجال الجريـمة الدولـية، بعد أن تم التوصـل مؤخـرا فقط إلى تعريف هذا النوع الجديد من الجرائم، عن طريـق الاستقـرار على مـا تواتـر عليه العـرف الدولـي.
لقـد ترتـب عن اعتـبار العـرف الدولـي مصـدرا وحـيدا للجـرائم الدولـية عـدة نتائج، على غـرار غمـوض فكـرة الجـريمة الدولـية، وكيفـية التعامـل مع قاعـدة عـدم الرجعـية فـي القانـون الدولـي الجنائـي، إضافـة إلى اللجـوء للقـياس والتفسـير الموسـع.
وإذا كان الركـن المـادي في الجرائم العادية ينصـرف إلى ماديـات الجريـمة، أي المظهـر الذي تظهـر فيه إلى العالـم الخـارجي، على شـكل سلـوك إيجـابي أو سلبـي. فـإن الأمـر لا يخـتلف كثيـرا فيما يخـص الجـريمة الدولـية، باستثـناء بعـض الفـروق القليـلة، خاصة ما سوف يتضـح من خـلال دراسـة صـور السلـوك المـكون لهـذا الركـن، إضافـة إلى المساهـمة والشـروع فـي الجريـمة الدولـية.
غـير أن الإثـراء الأكـبر الذي سـوف يتوسـع فيه هذا الفصـل يتعـلق بتبـيان كبـرى الاختلافـات بين أركـان الجريـمة الدولـية وأركـان باقـي الجـرائم العاديـة الداخـلية سـوف تتجـلى في الركـن الدولـي، الذي يتدخـل فيه العنصـر السياسـي / الإيديولـوجي، وتدبيـر دولـة مـا، أو مجموعـة من الدول، وتنفـذ الدولـة للجريـمة الدولـية بالاعتـماد على قوتـها وقدرتـها ووسائـلها الخاصـة.
المبحـث الأول: الركـن الشرعـي للجريمـة الدولـية
تقـوم الجريـمة سـواء كانـت داخلـية أو خارجـية على مبـدأ الشرعـية، وذلك لكون القانـون الجنائـي عمومـا مبنـيا على مبـدأ الإنـذار والتحـذير، ولتحـقيق هـذا الركـن الشرعـي يتطـلب أن يكون الفعـل المـادي متعارضـا مع سلطـة يحمـيها القانـون، ويقـر نص تجـريمها، كما يوقـع عقابـا جنائـيا على مرتكبـيها .
وبما أن المصالح الداخـلية للفـرد والمجتـمع داخـل الدولـة الواحـدة يحمـيها القانـون الجـنائي الداخـلي، والمصالح الدولـية يحمـيها القانـون الجنائـي الدولـي، الذي يعـد حديـث النشـأة، فلا بـد من دراسـة الحالتـين تباعـا كمـا يلـي:
المطـلب الأول: مبـدأ الشرعـية فـي القانـون الجـنائي الداخـلي
يمـثل مبـدأ لا جريـمة ولا عقوبـة إلا بنص أساسـا فـي التشريعـات الجنائـية الداخلـية لمخـتلف دول العالم، إذ تنص دسـاتير هـذه الدول على ضـرورة الالتـزام بهـذا المبـدأ، حتى لا تصـدر نصوصـا تشريعـية فيها ما يسـري بأثـر رجعـي على الماضـي.
المطلب الثانـي: مبـدأ الشرعـية فـي القانـون الدولـي الجـنائي
نظـرا لخصوصـية الجريـمة الدولـية، فـإن مبـدأ الشرعـية فـي مجـال القانـون الدولـي الجنائـي يرجـع أصـله إلى العـرف الدولـي، أي أن فكرة الجريـمة الدولـية لا وجـود لها في نصـوص مكتوبـة، وإنما يمكن الاهتـداء إلى تعريفـها والمعاقـبة عليها عن طريـق الاستقـرار على مـا تواتـر عليه العـرف الدولـي .
هناك العـديد من النصـوص الدولـية، كالمعاهـدات والاتفاقـيات الدولـية، التي تم فيها تقنيـن الأعـراف الدولـية السابـقة، وأن دور هـذه المعاهـدات كـان كاشـفا ومؤكـدا للعـرف الدولـي، أمثـلة ذلك مـا جـاء فـي لائحـة (نورمبـورغ) فـي المادة السادسـة الكاشـفة عن الجرائم ضد الإنسانـية، وتضمنـته جريـمة إبـادة الجـنس البشـري لسـنة 1948، واتفاقـيات جنيـف الإنسانـية لعـام 1949، إلا أن مبـدأ الشرعـية المستنـد على ( لا جريمـة ولا عقوبـة إلا بنـص )، أثـار جـدلا فقهـيا بين مؤيدين ومعارضين، وتبلـورت هـذه الآراء في عـدة نظريـات:
- تلتـزم الأولـى بحرفـية نص المبـدأ، فتـرى ضـرورة العمل بـه حرفـيا، والتقـيد بـه سـواء فـي المجـال الداخـلي أو الدولـي.
- ترجـح الثانـية الطابـع النسبـي للمبـدأ، والأخـذ بمقتضـى روح النـص.
- فيما تـرى الثالـثة أنه لا يجـب الالتـزام حرفـيا بالمبـدأ، بل يمـكن التخـلي قليـلا عـن هـذه الحرفـية ومؤقـتا، نظـرا لحداثـة القانـون الدولـي الجنائـي وطبيعـته العرفـية المتطـورة.
- بينما تـرى النظريـة الرابعـة أن مبـدأ الشرعـية يفتـرض وجـود حـياة هادئـة للدولـة، وهـذا مـا لا يتوافـر في الجـرائم الدولـية.
يتبـين من خـلال النظريـات السابقة أنها كلها تتناول مبـدأ الشرعـية، حيث ذهبـت محـكمة نورمبـورغ بهذا الخصوص إلى اعتـماد المفهـوم الواسـع لمبـدأ الشرعـية، أي بروح المبـدأ في مجـال القانـون الدولي الجـنائي، إلى أن يتم تدويـن نصـوص هـذا القانـون، ولكن الفقـه يـرى أن العـرف الدولـي سيبقـى مصـدر التجـريم فـي الجـرائم الدولـية، حتى ولـو نصـت المعاهـدات الدولـية على تجـريم بعض الأفعـال، باعتـبار أن هـذه المعاهـدات لا تنشـئ الجـرائم، وإنما تكشـف عـن العـرف الذي جـرمها .
وهـكذا، فـإن قاعـدة الشرعيـة المكتوبـة لا تجـد مكانها في القانـون الدولـي الجنائـي، إذ يعنـي التمسـك بالقاعـدة حرفـيا أنـه لا جريـمة دولـية بـلا مكتـوب يحـدد ويبين العقوبـات المقـررة لها، ومنه يطـرح التساؤل التالـي: هـل تنـكر القانـون الدولـي الجنائـي لمبـدأ الشرعـية؟
إن أهمـية المبـدأ على المستـوى الدولـي تـوازي أو تفـوق أهميـته على الصعـيد الداخـلي، لأن الأخـذ بهـذا المبـدأ يحـول دون استبـداد السلطـة ويعـزز العدالـة، ويبعـد الانتـقام، ولكن أهـم عائـق يحـول دون تحـقيق ذلك هـو غياب المشـرع الدولـي، إضافـة إلى كـون هـذا القانـون الذي نصبـو إليـه قانون عرفـي ، ومع ذلك فمبـدأ الشرعـية في مجـال القانـون الدولـي الجـنائي يستحـق التناول بمزيـد من الأهمـية، للبحـث في مـدى إمكانـية تطبيـق هـذا المبـدأ من خـلال تحـليل شقـيْ هـذا المبـدأ كالتالي:
أولا: لا جريـمة إلا بنص
يجـد القانـون الدولي الجـنائي غالـبا أحكامـه في العادة التي تكتسـب قـوة العـرف الملـزم باطـراد العمل بها، واقترانـها بعنصـر اليقـين والإلـزام القانوني، إذ غالـبا مـا يشـير الكشـف عن الجريمة الدولـية صعوبـات جـمة، نظـرا لكـون العرف الدولي بغموضـه بسـمح بحريـة واسـعة للتفسـير والقـياس .
وبالرغم من الجـهود المبذولـة من طـرف الأمم المتحـدة بمخـتلف أجهزتها المتخصصـة، فإنها لم تنل نصيبـها من الوضـوح والدقـة، كما هـو عليه الحـال في التشريـعات الوطنـية، نظـرا لما أشرنـا إليه سابـقا إلى افتـقار القانـون الدولـي إلى سلطـة تشريعـية مركـزية تفـرض إرادتـها على الدول بهـذا الخصـوص، مما يجـعل الباب مفتوحـا للقضـاء باللجـوء إلى التفسـير الواسـع والقـياس، وهـو مـا لا تقـره التشريعـات الوطنـية.
بناء عليه، فـإن القانـون الجـنائي الدولي بسمـته التطوريـة يلجـأ في سـد القصـور الذي يشوبـه إلى القانـون الجنائـي الوطنـي، وهـذا ما أشـارت عليه المادة السابـعة من الاتفاقـية الأوروبـية لحـقوق الإنسان، التي تنـص على عـدم جـواز إدانـة أحـد بجريـمة جنائـية عن فعـل أو امتـناع مـا لم يشـكل جريمـة طبـقا للقانـون الدولـي أو الوطـني وقـت الارتكـاب، مضيـفة أنه ليـس في هذه المادة ما يحـول دون محاكـمة أو معاقـبة أي شخـص عن فعـل أو امتـناع، إذا كـان ذلك يعتـبر وقـت ارتكابـه تصرفـا جرمـيا طبـقا للمبادئ العامـة للقانـون، المعترف بها من قبل الدول المتحضـرة أو جماعـة الأمم، وتشـمل هذه العبارة المبادئ العامة للقانـون الدولي، والمبادئ العامة للقانـون الدولي الجـنائي على حـد سواء .
وعليه، فـإن تطبيـق مبـدأ لا جريـمة إلا بنص يجـد بعـض المرونـة في القانـون الدولـي الجـنائي، نظرا للخاصـية العرفـية التي يتسم بها هـذا النظـام، ومع ذلك فتطبـيقه بالشـكل الذي أقرتـه التشريـعات الجنائـية الوطنـية ليس بالأمـر المستبعـد في المستقـبل، والذي يقتـرن وجـوده بإنشـاء قضـاء جنائـي دولـي يتولـى تطبيـق نصـوص جنائـية محـددة سلـفا بموجـب تقنـين دولـي شامـل، خاصـة إذا أخذنـا بعين الاعتـبار كون المبـدأ المذكـور من مبادئ العدالـة، ويدخـل ضمـن البرنـامج الواسـع الذي تبنـته الأمم المتحـدة لحمايـة حـقوق الإنسان على نطـاق دولـي.
جـاء في حيثـيات محكـمة نورمبـورغ ما يـلي: " لابـد أن تبين أولا أن مبـدأ جريـمة ولا عقوبـة إلا بنص هو ليـس قـيدا مفروضـا على السـيادة، بل هو مبـدأ من مبادئ العدالـة، والقول بعـدم معاقـبة أولئك الأشخـاص الذين خالفـوا وتحـدوا المعاهـدات وهاجمـوا الدول المحـايدة دون إنـذار بسبـب عـدم وجـود نص قانونـي صريـح يحـرم أعمالـهم.
إذ كـان ينبغـي أن يدرك أولئك الأشخـاص بأنهم ارتكـبوا أعمـالا غير مشروعـة، وبنفـس المنطـلق فإن عـدم معاقبتـهم هو الآخـر أمـر يتنافـى مع قواعـد العدالـة، إذ كـان ينبغي أن عملـهم هذا مناف لقواعـد القانـون الدولـي عندمـا ارتكـبوا أعمـالا بصـورة متعمـدة، منفذيـن مخططـا للغـزو والعـدوان، وعندمـا تؤخـذ هـذه الناحـية بعـين الاعتبـار يتبيـن للمحكمة أن لا مجـال للأخـذ بمبدأ لا جريـمة ولا عقاب إلا بالنسبة لهـذه القضـية".
تنص المادة 22 من نظـام رومـا الأساسـي على أنه: "لا يسـال الشخـص جنائـيا بموجـب هذا النظـام الأساسي ما لم يشكل السلـوك المعنـي وقـت وقوعـه جريـمة تدخـل في اختصاص المحكـمة، ويـؤول تعـريف الجريـمة تأويـلا دقيـقا، ولا يجـوز توسـيع نطـاقها عن طـريق القـياس.
وفي حالـة الغمـوض، يفسـر التعـريف لصاـلح المتـهم محـل التحـقيق أو المقاضـاة أو الإدانـة، ولا تؤثـر هـذه المـادة على تكييـف أي سلـوك على أنـه سلـوك إجرامـي بموجـب القانـون الدولـي، خـارج إطـار هـذا النظـام الأسـاسي".
ثانـيا: لا عقوبـة إلا بنـص
تبـعا لما تبين سابـقا من خـلال كل مـا أشرنـا إليه بخصـوص المـبدأ الذي ينـص على أنـه لا جريـمة إلا بنـص، فـإن تطبيـق الشـق الأخـير من هـذا المبـدأ وهـو ( لا عقوبـة إلا بنـص ) يمـكن أن يتأثـر بنفـس الاعتـبارات التي أحاطـت بالشـق الأول من المبـدأ.
فإذا كانت اتفاقـية لندن لسـنة 1945 نصـت على تجـريم واضـح لأفعـال معيـنة، وأنشـأت محكـمة دولـية تولـت تطبيـق تلك القواعـد، إلا أن ميـثاق المحكمة لم يتضـمن تحـديد العقوبـات واجـبة التطـبيق من قـبل المحـكمة، بل فوضـت المادة 27 من الميثاق للمحـكمة بأن تحـكم بـأي عقوبـة تـرى أنها عادلـة.
وحـذت لجـنة القانـون الدولـي في إعدادهـا لمشـروع تقنـين الجـرائم ضد أمـن وسلـم البشريـة حـذو المواثـيق السابـقة، فلم يتضمـن هـذا المشـروع تحـديدا للعقوبـات واجـبة التطـبيق، بل تـرك للمحـكمة المختصـة بموجـب المادة 05 من المشروع أن تقـرر مقـدار العقوبـة عند محاكـمة المتهـم بارتكاب أي جريـمة مـن الجـرائم المنصـوص عليها في التقنـين، مع الأخـذ بعين الاعتـبار خطـورة الجريـمة.
يشـكل هـذا النص إقـرارا بأن قاعـدة لا عقوبـة إلا بنص لم تلـق القبـول العـام في القانـون الدولـي الجـنائي، لكن المادة 23 من نظـام رومـا الأسـاسي نصـت بصـورة جلـية على أنـه: "لا يعاقـب أي شخـص بإدانـة المحـكمة إلا وفـقا لهـذا النظـام الأسـاسي".
حـددت المـادة 77 من هذا النظام مختلف العقوبـات واجـبة التطـبيق، وهي السجـن المؤقـت لفتـرة أقصاهـا 30 سنة، والسجـن المؤبـد والغرامـة والمصـادرة، فيما نصـت المادة 80 من نفس النظـام على أنه: "ليس في هذا الباب من النظام الأساسي ما يمنع الدول من توقـيع العقوبـات المنصـوص عليها في قوانينـها الوطنـية، أو يحـول دون تطـبيق قوانـين الدول التي لا تنص على العقوبـات المحـددة في هـذا الباب".
المطلـب الثالث: النتائج المترتـبة على اعتـبار العـرف الدولي مصـدرا وحـيدا للجرائم الدولية
يترتب عن اعتـبار العـرف الدولـي مصـدرا وحـيدا للجـرائم الدولـية عـدة نتائج، سوف تنعكس بدورهـا على فـكرة الجريـمة الدولـية وعلى المبادئ القانونـية التي تحـكمها .
1- غمـوض فـكرة الجـريمة الدولـية:
تفتقـر الجريـمة الدولـية إلى النمـوذج القانـوني لها، والذي يمـكن الاهتـداء بـه في تحـديد أركانها، خاصـة وأن مصـدرها الأسـاسي هـو العـرف الدولـي، وعلـة ذلك أن العـرف هـو دائـما فـي حالـة تطـور مستـمر.
يبقـى مفهـوم الجريـمة الدولـية بالمقابـل عرضـةً للتغـيير، وينعـكس ذلك على عمل القاضـي، الذي يعجـز فـي كثـير من الأحـيان عـن حصـر أركـان الجريمة الدولـية، من خـلال عـدم تمـكنه من تقـدير الوقـائع باعتـبارها جـرائم دولـية أو أنها مجـرد أفعـال لا جـرائم.
وحتى مع وجـود معاهـدات دولـية تجـرم أفعـالا بذاتـها، يثـور الخـلاف حـول تفسـير هـذه الأفعـال وتحـديدها، لـكون تلك المعاهـدات تفتقـر فـي الغالـب إلى صياغـة قانونـية واضحـة تبيـن ماهـية الجريـمة الدولـية التي تدرسـها.
2- قاعـدة عـدم الرجعـية فـي القانـون الدولـي الجنائـي:
تعتبـر قاعـدة عـدم الرجعـية نتيجـة حتمـية لمبـدأ الشرعـية، إذ تنص على عـدم جـواز سريـان القانـون على الأفـعال التي سبقـت وجـوده من حـيث التجـريم، و معنى ذلك أنه يجـب تحـديد زمـن القانـون المجـرم للفـعل، حتى يتمـكن القاضـي استبـعاد تطبيـقه بالنسـبة للأفـعال التي سبقـت صـدوره.
ولكن مـا دام أن مصـدر الجـرائم الدولـية هـو العـرف، وأن الأخـير بالإضافـة إلى صعوبـة تحـديد تـاريخ ميـلاده بالتدقيـق فهـو يتغـير باستمـرار ، وبذلك يتعسـر تطبيـق هذه القاعـدة في مجـال القانـون الدولـي الجنائـي.
كما أننا من جـهة أخـرى لا نستطـيع أن نعتـمد على المعاهـدات الدولـية، التي لا تعـد منشـئة للتجـريم، وإنما هي كاشـفة عنه فحـسب، بمعـنى أن التجـريم موجـود فـي العـرف قبل قـيام المعاهـدة، وأن هـذه الأخـيرة لم تفعـل شيـئا سـوى أنها كشفـت عـن العـرف المجـرم وقـامت بتسجـيله.
3- القـياس والتفسـير الموسـع:
إذا كان مبـدأ الشرعـية يقتضـي فـي القانـون الداخـلي عـدم اللجـوء إلى القـياس في نطـاق التجـريم، خشـية أن يؤدي ذلك إلى خـلق جـرائم جـديدة لم ينص عليها القانـون، فإن الأمـر بالنسـبة للجريـمة الدولـية التي مصدرهـا العـرف مختلف عن ذلك، إذ على هـذا الأسـاس، يؤدي انعـدام مشـرع دولـي يواكـب التطـورات بالنسـبة للأفـعال التي تمـس مصلحـة الجماعـة الدولـية وتجريـمها، إلى جعـل القيـاس مجـازا نوعـا مـا، ونفس القـول ينطبـق على مسألـة التفسـير الموسـع، فقد نصـت فلائحـة نورمبـورغ عـددت جـرائم الحـرب في مادتـها السادسـة على سبيل المثال لا الحصـر في مادتـها الخامسـة على ما يلي:
"جـرائم الحـرب هي مخالـفة قوانـين وعـادات الحـرب، دون ذكـر الأمثـلة المذكـورة في اللائحـة نفسـها، وكل هـذا يـدل على إمكانـية إضافـة الأفعـال التي تـرد بالنص عمـلا بالتفسـير الموسـع.
والـرأي الراجـح أنـه كلـما اكتـمل القانـون الدولـي الجنائـي وأخـذ الاتجـاه السلـيم من حيث تعريف الجريمة الدولـية وبيان أركـانها، وتدويـنها بصياغة قانونـية صحيحـة، كلما أصبح الأخـذ بالقياس أمرـا غير مرغـوب فيه، أمـا حالـيا فمـن السابـق لأوانـه القـول بضرورة استبعـاد القياس والتـزام التفسـير الضيـق فـي قانـون عرفـي لا يـزال في طـور التكـوين.
المطـلب الرابـع: ضـرورة وجـود تشريـع جنائـي دولـي مرتبـط بالجريـمة الدولـية
لا يشـبه خضـوع الجريـمة الدولـية لمبـدأ الشرعـية نفس ما يتم تطبيقـه فيما يخص هـذا المبدأ في مجـال القانـون الجنائـي الداخـلي، وبما أن العـرف اعتـبر منذ زمـن طـويل أهم مصـدر في القانـون الدولـي الجـنائي، وفرضـت طبيعتـه اللجـوء إلى التفسـير الواسـع أو القيـاس، فإن المعاهـدات الدوليـة في مجـملها تقنـن العـرف في الغالـب، وتكرسـه وتزيـده إيضاحـا وتحـديدا، وإن كـانت صياغـته تـكون فـي الغالـب غامضـة أو غير دقيـقة، مما يستوجـب الاستعانـة بالتفسـير والقـياس لتحـديد موضوعـها ، ولكن يمـكن التغلـب على هـذه الإشكالـية بطريقتـين، يراهمـا أغلـب الفقـه أكثـر ملاءمـة لتمـكين وتطبيـق مبـدأ الشرعـية في مجـال القانـون الدولـي الجنائـي، وهمـا:
الطريقـة الأولـى: تضمـين الأنظـمة الأساسـية المحـاكم الدولـية الجنائـية بأنـواع الجـرائم الدولـية والعقوبـات المقابـلة لها، وجـعل الاتفاقيـات الدولـية التي تعـالج مسـألة الجريـمة الدولـية دقيـقة فـي تحـديد الجـرائم التي تعالجـها وكذلك العقوبـات المقابـلة لها.
الطريـقة الثانـية: تدعـيم مبـدأ عالمـية حـق العـقاب، بحيث يتوسـع الاختصـاص القانونـي والقضـائي الدولـي بتضمـين التشريـعات الوطنيـة مخـتلف أنـواع الجـرائم الدولـية والعقوبـات المقابـلة لها، حتى إذا عجـز القانـون والقضـاء الجـنائي الدولـي عـن زجـر بعـض تلك الجـرائم تصـدى لها القانـون الداخـلي للدولـة التي يـؤول إليها الاختصاص المـكاني أو الموضـوعي للنظـر ومعالجـة تلك الجـرائم .
المبحـث الثانـي: الركـن المـادي للجريـمة الدولـية
تتضمـن دراسـة الركـن المـادي تعريـفه، ثم صـور السلـوك المـكون لهـذا الركـن، مع دراسـة المساهـمة والشـروع فـي الجريـمة الدولـية.
المطـلب الأول: تعـريف الركـن المـادي
ينصـرف الركـن المـادي إلى ماديـات الجريـمة، أي المظهـر الذي تظهـر فيه إلى العالـم الخـارجي، ويتحـلل الركـن المـادي عـادة إلى ثلاثـة عناصـر: السلـوك (فعـل/أو /امتـناع)، النتيجـة، رابطـة السببـية.
فالسلـوك نشـاط إيجـابي أو موقـف سلـبي، ينسـب صـدوره إلى الجـاني، أما النتيجـة فهـي الأثـر الخـارجي الذي يتجـسد فيه الاعتـداء على حـق يحمـيه القانـون، فيما تعني رابطـة السببـية تلك الصـلة التي تربـط مـا بين السلـوك والنتيجـة، أي العلاقـة التي بمقتضاهـا يمكن تبيـان مـدى الصلـة مـا بين النتيجـة والسلوك، وهي صـلة المسبب بالسبب .
يعتـبر السلـوك البشـري الإرادي ركـنا مـن أركـان الجريـمة الدولـية، التي يمكن أن تقـع في المحـيط الدولـي فتـقع النتيجـة حصيـلة ذلك التصـرف، وهـو مـا يطـلق علـيه بالجريـمة التامـة، أو أنها لا تبـلغ تلك المرحـلة وتقتصـر على أعـمال الإعـداد والتحضـير.
كمـبدأ عـام في التشريـعات الوطنـية، لا يسلـط عقـاب على الأعـمال التحضيريـة، في حين أن هـذه المرحـلة تدخـل ضمـن نطـاق السلـوك الإجـرامي في القانـون الدولي الجـنائي، خاصـة إذا تعـلق الأمـر بذلك النـوع مـن الجـرائم الدولـية التي ترتبـط بصمـيم السـلم والأمـن الدولـييْن.
اعتبـرت أعـمال التحضـير والإعـداد للحـرب العدوانـية تصرفـات معاقـب عليها بموجـب المـادة 07 مـن لائحـة محـكمة طوكـيو، والمادة 6 من لائحـة نورومبـورغ، كذلك اعتـبر مشروع تقـنين الجـرائم ضد أمـن وسـلم البشريـة من ضمن الجـرائم الدولـية:
"كـل تهـديد باللجـوء إلى العـدوان تقـوم به سلطـات دولـة ضد دولـة أخرى" المادة 02/02.
يتحـقق الركـن المـادي للجريمـة فـي التشريعـات الوطنـية بصـورتين، إما التصـرف الايجـابي أو التصـرف السلـبي، ففـي الصـورة الأولى تتحـقق الجريـمة نتيجـة لامتـزاج إرادة الإنسـان بحركـاته العضويـة، منتجـة بذلك عـملا يحظـره القانـون، في حـين يـكون مظـهر الإرادة فـي التصـرف السلـبي هـو الامـتناع عـن إنجـاز حركـات عضويـة يأمـر القانـون بأدائـها ، ومهما يكن فـإن تطـلب الركـن المادي لقـيام الجريـمة أمـر يجـعل من اليسـير إثـبات وقـوع هـذه الجـريمة، وعلى العـكس مـن هـذا فـإن تجـريم النوايـا والعـقاب عليها لا يخـلو من شطـط، إذ من الصعـب إن لم يكن من المستحـيل عملـيا إثـبات هـذه النوايـا .
المطـلب الثانـي: صـور السلـوك المـكون للركـن المـادي
يعتبـر السلـوك كما أشرنـا إلى ذلك سابـقا نشـاطا إيجـابيا أو موقـفا ينسـب صـدوره إلى الجـاني، ونتيجـته هـي الأثـر الخـارجي الذي يتجـسد فيه الاعتـداء على حـق يحمـيه القانـون، ومـن هـذا التعـريف يمـكن أن نستـنتج أن للسلـوك صورتـين سلـوك إيجـابي وآخـر سلـبي.
أولا: السلـوك الإيجـابي
يتمـثل هـذا السلـوك فـي القـيام بعـمل يحظـره القانـون، ويـؤدي إلى قـيام الجريـمة، فالدولـة التي تقـوم بشـن هجـوم على دولـة أخـرى، أو تغزوهـا، أو تضـربها بالقنابـل، أو تفـرض عليها حصـارا بريـا أو بحريـا أو جـويا، تسـلك سلوكـا مخالـفا للقانـون، وتعـد مرتكبة لجريـمة دولـية.
يوجـب العـرف الدولـي على الدولـة أن تمـتنع عن ارتـكاب الأعـمال التي تفضـي إلى الجـرائم الدولـية، وإذا خالفـت دولـة معيـنة مـا أمـر بـه القانـون بالامـتناع عن إتيان فعل معـين، وذلك بأن قامـت به فعـلا عُـدَّ عمـلها هـذا سلوكـا ايجابـيا نجـمت عـنه جريـمة دولـية.
وصـورة الفـعل الايجـابي المؤدي إلى الجريـمة هي الصـورة الغالـبة في القانـون، لكون تجـريم الأفعـال يعنـي النهـي عن إتيانـها.
ولكن السلـوك الايجـابي في مفهـوم القانـون الدولـي الجنائـي يتعـدى مفهومـه في القانـون الوطـني، فيشـمل التهـديد بالقـيام بأعـمال، كما أشرنـا سابـقا من خـلال المادة 02 من مشـروع تقنـين الجـرائم ضد سـلام وأمـن البشريـة (1954).
إذا تناولـنا صـورة مـن صـور الجـرائم الدولـية، كالجـرائم ضـد الإنسانـية، وبالأخـص جريـمة إبـادة الجـنس البشـري، فإن الركـن المـادي لها يتجـسد بصـفة قد تـكون شامـلة في السلـوك الايجـابي، الذي يتجـلى في الأفعـال التي نصـت عليها المادة السادسـة من النظـام الأسـاسي للمحـكمة الجنائـية الدولـية، والتي جـاءت مطابـقة تمامـا لما عليه المادة الثانـية من اتفاقـية سنة 1948 لمنـع جريـمة إبـادة الجـنس البشـري والجـزاء عليها.
ومع ذلك، من حـيث الأفعـال التي يتـكون منها الركـن المـادي لتلك الجـريمة، وحيث جـاء كـما يلـي: "تعـني الإبـادة الجماعـية أي فعـل من الأفعـال التالـية، يرتـكب بقصـد إهـلاك جماعـة قومـية أو إثنـية، أو عرقيـة أو دينـية، بصفـتها هـذه، إهلاكـا كلـيا أو جزئـيا:
1- قـتل أفـراد الجماعـة.
2- إلحـاق ضـرر جسـدي أو نفسـي جسـيم بأفـراد الجماعـة.
3- إخضـاع الجماعـة عمـدا لأحـوال معيشـية يقصـد بها الإهـلاك النفسـي
كلـيا أو جزئـيا.
4- فـرض تدابـير تستهـدف الإنجـاب داخـل الجماعـة.
5- نقـل أطفـال الجماعـة عنـوة إلى جماعـة أخـرى".
ففي الحالـة الأولـى، والمتمثـلة في قـتل أفـراد الجماعـة، يقصـد بهذا السلـوك الايجـابي ضـرورة وقـوع عملـية القـتل الجـماعي، ولا يهـم العـدد هـنا بقـدر أهمـية الفـعل، والإبـادة هـنا جريـمة موجـهة إلى الجـنس البشـري، سـواء مـن الرجـال أو الأطـفال أو النسـاء.
أمـا بخصـوص الحالـة الثانـية، والمتمثـلة في إلحـاق أذى أو ضـرر جسـدي أو عقـلي جسـيم بأعضـاء الجماعـة، فإنها وسيـلة أخـرى من وسـائل الإبـادة، وإن كـانت أقـل وحشـية من القـتل، ولا تـؤدي إلى الإبـادة المطلـقة، إلا أنها تنطـوي على قـدر كـبير من العـدوان الإنسـاني، مثل تعـرض أفـراد الجماعـة للإصابـات بأمـراض معديـة، أو ضربـهم ضربـا مبرحـا يفضـي إلى إحـداث عاهـات مستديـمة بهم، أو تعذيبـهم إلى الحـد الذي يصـيب ملكـاتهم العقلـية، وهي أفعـال تمـهد للإبـادة البطيـئة، مما يفقـد أعضـاء الجماعـة القـدرة على ممارسـة وظـائفهم في الحـياة الاجتماعـية .
ونفـس القـول يشـمل باقـي حـالات وصـور الجـرائم ضد الإنسانـية، حـيث يتجـلى السلـوك الإجـرامي مـن خلالـها فـي أفعـال ماديـة ايجابـية تـؤدي إلـى إلحـاق الأذى الجسـدي أو النفسـاني بالضحايـا.
يقـوم الركـن المادي، الذي يتجـلى في سلـوك إيجـابي في مخـتلف الجـرائم ضد الإنسانـية، عـادة على "مجموعـة من الأفـعال الخطـيرة التي تصـيب المصالح الجوهـرية لإنسان أو مجموعـة من البشـر، يجمعـهم ربـاط واحـد: سياسـي، أو عرقـي، أو دينـي، أو ثقافـي، أو قومـي، أوإثنـي، أو متعـلق بنـوع الجـنس، كما يجب في هذه الحـالات أن ترتـكب الأفـعال الماديـة المذكـورة في إطـار هجـوم واسـع النطـاق أو منهجـي ضد أي مجموعـة مـن السـكان المدنـيين" (المادة 7/1 من نظـام رومـا الأساسـي).
يقصـد بالهجـوم الموجـه ضد مجموعـة مـن السـكان المدنـيين ذلك النهـج السلوكـي المتضـمن "تكـرار الأفـعال المجرمـة ضد أي مجموعـة مـن السـكان المدنـيين، التي تنتـمي إلى إحـدى الروابـط السابـقة، تنفـيذا لسياسـة دولـة أو منظـمة تقضـي بارتـكاب هـذا الهجـوم، أو تعزيـزا لهـذه السياسـة" (م 7/2/أ مـن نظـام رومـا الأسـاسي) وتقع الجريـمة ضـد الإنسانـية بأحـد الأفعـال الماديـة الايجـابية التالية (م7/1 مـن أ إلى ك من نظـام رومـا الأسـاسي):
1 – القـتل العمـد بالسلـوك الإيجـابي، أي كـانت الوسيـلة التي يتحـقق بها إرهـاق الروح.
2 - الإبـادة وقـد أشرنـا إليها سابـقا.
3 - الاسترقـاق، ويعـني ممارسـة أي مـن السلطـات المترتـبة عن حـق الملكـية، أو هـذه السلطـات جميـعها على شخـص مـا، في سبـيل الاتجـار بالأشخـاص، ولا سيـما النسـاء والأطـفال (م7/2/جـ).
4 – إبعـاد السـكان أو النـقل القسـري لهـم، ويعـني نقلـهم قسـرا مـن المنطـقة التي يقيمـون فيها، وذلك عـن طريـق الطـرد، أو أي فعـل قسـري آخـر، دون مبـررات يسـمح بها القانـون الدولـي ( م7/2/د).
5 - السجـن أو الحرمـان الشـديد مـن الحريـة البدنـية دون تهـمة أو محاكـمة.
6 – التعـذيب: ويعـني إلحـاق ألـم شـديد أو معانـاة شـديدة، سـواء بدنـيا أو عقلـيا، بشخـص موجـود تحـت إشـرافه أو سيطـرته، مثل تعـذيب المحـكوم عليهم، أو المعتقلـين في السجـون.
7 – الاغتصـاب والاستعبـاد الجنـسي، أو الإكـراه على البـغاء، أو الحـمل القسـري، أو التعقـيم القسـري، أو أي شـكل مـن أشـكال العنـف الجنـسي على مثل هذه الدرجـة من الخطـورة، مثل هـتك العـرض، على غرار مـا حـدث من الجـنود الصربـيين ضد نسـاء البوسنة والهرسك في يوغسلافـيا السابـقة.
8 - اضطـهاد أي جماعـة محـددة أو مجموعـة محـددة من السـكان لأسـباب سياسـية أو عرقـية أو قومـية أو إثنـية أو ثقافـية أو دينـية، أو متعلقـة بنـوع الجـنس، أو لأسبـاب أخـرى من المسلم عالمـيا أن القانـون الدولـي لا يجـيزها.
ويعـني الاضطـهاد حرمـان جماعـة من السـكان حرمانـا متعمـدا وشـديدا مـن الحـقوق الأساسـية بما يخـالف القانـون الدولـي، وذلك بسبب هويـة الجماعـة، أما الاختـفاء ألقسـري للأشخـاص فيعنـي إلـقاء القبـض على الأشخـاص، أو احتجـازهم، أو اختطـافهم مـن قبل دولـة، أو منظـمة سياسـية، أو بـإذن أو دعـم منها لهـذا الفـعل.
يقصـد بجريـمة الفصـل العنصـري أيـة أفعـال لا إنسانـية، مثل الاضطـهاد المنهجـي من جـانب جماعـة عرقـية واحـدة إزاء جماعـات عرقـية أخـرى، وترتـكب بنـية الإبـقاء على النظـام، إذ يلاحـظ بصـفة عامـة أنـه يشتـرط في الأفـعال السابـقة التي يتكون منها الركـن المـادي في الجريـمة ضـد الإنسانـية أن تكون جسيـمة، وتقديـر درجـة الجسامـة أمـر متـروك للسلطـة التقديريـة للقضـاء الدولـي الجـنائي، وإن كانت بعض الأفعـال السابـقة تعتـبر جسيـمة بطبيعـتها كالقـتل العمـد، والاسترقـاق الجمـاعي المتـكرر .
من تطبيـقات ذلك القـتل الجـماعي الذي اقترفـته النازيـة خـلال الحـرب العالمـية الثانـية، فقد اعتـرف القائـد الألمانـي "essoH" عند محاكمـته بقتـل ثلاثـة ملايـين مـن البشـر، أن الخطـة التي وضعـها كانت تقضـي بقـتل مليونـين ونصـف ليـس إلا!!
كما علـق على ذلك القائـد "Frank" عند محاكمـته أيضـا بأن هـذا الاعتـراف بقـتل هذا العـدد الكـبير من الأبريـاء سيظـل مدعـاة للخـزي والعـار، ولـن يغيـب عن ذاكـرة الناس قبـل ألف عـام.
ثانـيا: السلـوك السلبـي
يجـرم القانـون الدولـي الجـنائي سلـوك الامتـناع لذاتـه، ويعتـبره تصرفـا جرمـيا، فقد نص مشـروع تقنـين الجـرائم ضد أمـن وسـلم البشريـة على عـدد من الجـرائم السلبـية، مثال ذلك مـا نصـت علـيه (المـادة 2 الفقـرة 4) حـول امتنـاع سلطـة الدولـة عـن منـع العصابـات المسلحـة من استخـدام إقليـمها كقاعـدة للعملـيات، أو كنقطـة للإغـارة على إقلـيم دولـة أخـرى، إضافـة إلى مـا نصـت عليه أيضـا الفقـرة السابعـة من نفـس المادة بشـأن امتـناع الدولـة عـن الحـد من التسـلح، الذي اعتبرتـه إخـلالا بالتـزام دولـي يفـرض هـذا التحـديد.
جـاءت المادة الأولـى من الأنظمـة الملحـقة باتفاقـية لاهـاي الرابعـة لسنة 1907 بعـبارة (الشخص المسؤول) مشـيرة إلى مسؤوليـته عن أعمال تابـعة، كما أقـرت لجـنة المسؤوليات المنبثـقة عن مؤتمـر السـلام التمهـيدي لسنة 1919 مسؤولية الرؤسـاء عن جرائم مرؤوسيـهم، وبنـتْ تلك المسؤولـية على علم الرئيـس بالجـرائم التي يرتكـبها مرؤوسـوه وعلى إمكانـية منعـهم لها.
وعندمـا قـدم الأستـاذ "Spiro Polaus" المقـرر الخـاص للجـنة القانـون الدولـي بشـأن مشـروع تقنـين الجـرائم ضد أمـن وسـلم البشريـة تقريـره إلى اللجـنة، اقتـرح فيه بعـد أن أشـار إلى مـا جـرى عليه العـرف الدولـي بشأن تجـريم التصـرف السلـبي وضـع النص التالـي: " أي شخـص يشغـل مركـزا رسمـيا أم مدنـيا يقصـر في اتخـاذ الإجـراءات اللازمـة بموجـب سلطـاته، وفي ضمـن اختصاصـه لمنـع التصرفـات المعاقـب عليها بموجـب مشـروع التقـنين، سـوف يسـأل طبـقا للقانـون الدولـي ويكون عرضـة للعـقاب" .
وقد حـذت معظـم هـذه الاتفاقـيات الوطنـية الخاصـة بمعاقبـة مجـرمي الحـرب والتي صـدرت عقـب الحـرب العالمـية الثانـية حـذو هـذه النصـوص القانونـية الدولـية، فأعلنـت عن مبـدأ من مبادئ القانـون تم بموجـبه فـرض التـزام على القائـد بمـنع مرؤوسيه من اقتـراف جـرائم الحـرب.
وتثـبت المسؤولـية الجنائـية بحـقه في حـال امتناعـه عـن إتيـان ذلك التصـرف، حيث يعتـبر فاعـلا أصلـيا أو شريـكا حسـب الأحـوال، ويجـب لكي تثبـت المسؤولـية الجنائـية بحـقه أن يتوافـر لديـه علـم بأن مرؤوسـيه عازمـون على ارتكاب الجـرائم، أو أنهم قد ارتكبوهـا ولم تتجـه إرادتهم بالتصـرف لمنع تلك الجـرائم ومعاقـبة مرؤوسـيه عنها .
أقـر القضـاء أن الوطنـي والدولـي هـذه الفكـرة فـي قضايـا كثـيرة بعـد الحـرب العالمـية الثانـية، ففـي قضـيةHaigh Command Trial التي نظرت فيها المحـكمة العسكريـة الأمريكـية نورمبـورغ عـام 1948 أعلـنت المحكمة صراحـة على أن: "القائـد يجـب أن يعلم بالجـرائم التي يرتكبها مرؤوسـوه، و يقـبل أو يشترك أو بهـمل إهمالا خطيرا في منع ارتكابها".
أما في قضـية الجـنرال Yamashite التي نظرت فيها المحكمة الأمريكية العلـيا، فقد أوضحـت التهـمة بأن الشخـص المذكـور خـلال الفتـرة الممتـدة 1944 و1945 عندمـا قصـر قائـد القـوات المسلحـة اليابانـية في حـربها ضد الولايـات المتحـدة وحلفائـها بشكل غير مشـروع، فأهمـل في أداء واجباتـه بالسيطـرة على العملـيات التي نفذهـا مرؤوسـوه، وذلك بأن سمح لهم بارتكاب مجـازر وحشـية وجرائم أخـرى مروعـة ضد شعـب الولايـات المتحـدة وحلفائها والأقطار التابعة لها، وخاصة في الفليبين، لـذا يعتبـر بعمـله هـذا قد خـرق قانـون الحـرب.
كما جـاء في حيثـيات حـكم المحـكمة أنه قد دفـع أمام المحـكمة أن التهـمة لم توضـح حقيقة كون المتـهم قد ارتكب أو أمـر بارتكاب تلك الأفعـال، وبالنتيجة لا يمكن اتهامه بتهمة خرقـه لقوانيـن الحـرب، ولكن هذا الاعتراف تجاهـل حقيقة كون جوهـر التهـمة الموجـهة إليه هي ليست كذلك، بل عن تقصيره في أداء الواجـب الملقى على عاتقه كقائـد عسكري، وذلك بعدم السيطرة على العملـيات التي يرتكبها الجـند الذي يأتمـرون بإمـارته، وعن سماحـه لهم بارتكـاب جـرائم على نطـاق واسـع.
تدور المسألـة إذن فيما إذا كـان قانـون الحـرب يفـرض على كل قائـد عسكري واجـب اتخـاذ كل الإجـراءات الفعالـة ضمـن نطـاق سلطـاته بالسيطـرة على الجـند التابعـين لـه، بحيث تحـول بينهم وبين صـدور أي فعـل ينتـهك قوانـين الحـرب، وفيما إذا كان بالإمكان مساءلته شخصـيا عن تقصـيره باتخـاذ تلك الإجـراءات عند وقـوع تلك الخـروق.
وقـد خلصـت المحكمة إلى أن كل قائـد عسكري مكلف بواجـب اتخـاذ الإجـراءات التي في وسـعه اتخـاذها ضمـن نطـاق سلطـته، وطبـقا للظـروف، من أجل حـماية أسـرى الحـرب والسكان المدنيين، مشـيرة بذلك إلى المـواد من 1 إلى 43 من أنظـمة لاهـاي الملحـقة باتفاقـية لاهـاي الرابعة لسنة 1907، والمادة 26 من اتفاقية جنيف لسنة 1929، وبذلك أعتبر الجنرال Yamashite مسئولا عن تلك الجـرائم.
من الحكم السابق، يبدو أن المحكمة اعتبـرت المتهم مسؤولا عن الجـرائم التي ارتكبها مرؤوسـوه بامتناعـه عن الإهمـال في اتخـاذ الإجـراءات الضروريـة لمنعـهم من اقترافـها، وعليه أعتـبر الامتناع مساويـا للتصـرف الايجـابي بموجـب نص المادة 13/1 من اتفاقية جنيف الثالثة لسنة 1949 والتي جاء فيها: "أي عمل غير مشروع أو امتناع من قبل السلطة المحتجزة يسبب الموت، أو يعـرض امتنـاع أسـرى الحـرب للخطـر يعتـبر ممنوعـا ويعـد من الخـروق الخطيرة لهذه الاتفاـقية".
قـد لا يقع تصـرف الدولة مثلا أو مسئوليها تحـت صـورة السلـوك الايجـابي أو السلـوك السلبي، ولكنها مع ذلك تمتـنع عن عمـل لـو قامـت به لمنعـت حـدوث الجريـمة، ويقـدم الفقه عن ذلك عـدة أمثلة كالقتل عن طريق الامتناع عن تقديم الطعام للأسير، أو عدم تقديم الدواء للمجـرم من الأعداء الذين أوقعـوه في الأسـر، أو منع بيع الدواء لإقليم العـدو الذي تحـتله الدولـة، ففي هذه الأحـوال تقـوم الجريمة الدولية بمجـرد الامتناع.
ويفـرق الفقه بين هـذه الصـورة من السلـوك – أي مجـرد الامتنـاع – وبين صـورة السلـوك السلبي نفسـه، ففي جـرائم السلـوك بالامتناع لا تقـوم الجـريمة إلا إذا تحـققت النتيجـة، إذ أن الامتناع نفسه ليس جرمـا إلا في صـورة السلـوك السلبي، أمـا في جـرائم السلـوك السلبـي فـإن الدولـة تحجـم عن عمل من واجـبها القـيام به، لذلك فامتناعـها نفسه هـو المقصـود بالتجـريم بغـض النظـر عن تحـقق النتيجـة أو عـدم تحـقق النتيجـة.
ومـرد تجـريم النتائج التي حدثـت بسبب الامتنـاع يعـزى إلى تنكـر الدولة لالتزامها بموجـب العـرف والمعاهـدات الدولـية، وعليه فإن امتناع الدولـة عن التصـرف بما يمنـع الجريـمة بغيـاب أي عرف يلزمها بذلك لا يكون جريمة الامتناع ولو حـدثت الجريـمة المنهـي عليها، وعلى هذا الأساس فإننا لا نخـرج عما هو معـروف في القانـون الجنائي الداخلي، حيث لا يعتبر الممتنع مسئولا ولـو حـدثت الجريـمة، إلا إذا خالـف التزامـا قانونـيا أو تعاقديـا أو حتى التزامـا أدبيـا يقع على عاتقـه .
المطلـب الثالـث: المساهـمة والشـروع في الجريـمة الدولـية
أولا: المساهـمة في الجريـمة الدولـية
يتمـيز القانـون الدولـي الجنائـي بوجـود نظريـة عامـة تحـكم نظريـة المساهـمة الجنائـية، وتقـوم على وجـوب المساواة التامـة بين جمـيع المساهمين في اقتراف الجريمة الدولـية، وهذا ما تأكـد في بعض المواثيـق الدوليـة التي نذكر منها خصوصـا ما نصت عليه المادة السادسة من لائحـة نورمبرغ في فقرتها الأخـيرة: "إن للمدبـرين والمنظمـين والمحضـرين والشركاء الذين ساهمـوا في تجهـيز أو تنفـيذ خطـة مرسومـة، أو مؤامـرة لارتكاب إحـدى الجـرائم الدولـية يعـدون مسئولين عن كل الأفعـال المرتكبة من جميع الأشخـاص تنفيـذا لتلك الخطـة".
ونفس الاتجـاه ذهبـت إليه عـدة نصـوص دولـية، من أهمـها المادة 05 الفقـرة الأخـيرة من لائحـة طوكـيو، والمادة 03 من اتفاقـية منع إبـادة الجـنس البشـري لسنة 1948، والمادة الثانـية فقـرة 13 من مشـروع قانـون الجرائـم ضد سـلام وأمـن البشرية 1954 .
ولذلك، فإن الأخـذ بهـذا المفهـوم يؤدي إلى وضـع جمـيع المساهمـين في الجريمة منزلـة الفاعـل الأصـلي، وعليه فإن السلـوك الإجـرامي في نطـاق القانـون الدولـي الجنائـي يأخـذ صـورة أوسـع من الصـورة التي هي عليه في القانون الداخـلي، إذ يشمـل التآمـر وتدمـير الخطـة، والتنظـيم والمساعـدة والتحـريض، وكل صـور المشاركـة الأخـرى بالإعـداد للجريـمة أو اقترافـها.
ثانـيا: الشـروع في الجريـمة الدولـية
الشـروع في جريـمة ناقصـة غير مكتمـلة، وهو جريـمة توافـر لها الركـن المعنـوي، ولكن تخـلف فيها الركـن المادي بصـورة كلـية أو جزئـية فهو جريـمة ناقصـة ، وهذا النقص في البيـان القانونـي للجريـمة يتعـلق بماديـات الجـريمة، وينصـب تحـديدا على النتيجـة الإجرامـية التي لم تقع لسبب لا دخـل لإرادة الفاعل به، مع توافـر القصـد الجـنائي كصـورة للركـن المعنـوي في هـذه الجريمة، وعلي ذلك الأساس كانت حكـمة تجريم الشروع، الذي يتمـثل في النـية الإجرامـية التي توافـرت لـدى الجـاني، والتي اقتـرنت بالسلـوك الإجرامـي.
وفي مجـال القانـون الدولـي الجنائـي، أخـذ الاتجـاه الفقهـي السائـد بالنظريـة الشخصـية التي تربـط الشـروع بنـية الجـاني، فـإذا دلـت أعمالـه وظروفـه على أنه مقـدم على ارتكاب الجريـمة لا محالـة، اعتبـر أنه شـرع في الجريـمة.
فطالـما أن القانـون الدولـي يجـرم الأعمـال التحضيريـة والأمـثلة عـديدة على ذلك، فقد تم تجـريم الإعـداد أو التحضـير أو التخـطيط أو التدبيـر للحـرب العدوانـية، أو التآمـر أو حتى الدعايـة الإعلامـية للحـرب، وكلها أعمال تحضيريـة جـرمها العـرف الدولـي وسجلـتها المعاهـدات الدولـية .
نشـير أخـيرا إلى أن عـدول الشخـص عن إتمـام الجريـمة عـدولا اختياريـا، أو يكون حائـلا بأي وسيـلة أخـرى دون ارتكاب هذه الجريـمة يكون سـببا معفـيا من العـقاب، حسب مـا نصت عليه المادة 25 من النظـام الأسـاسي للمحـكمة الجنائـية الدولـية .
المطلـب الرابـع: أسـباب الإباحـة النافـية للجريـمة الدولـية
إن المقصـود بأسباب الإباحـة في القانـون الداخـلي هـو توافـر الظـروف والوقائـع التي بوجودهـا يتم نفي الصـفة غير المشروعـة عن الفعل المجـرم بموجـب نص جزائـي، فأسباب الإباحـة إذن تفترض أن الفعل قد توافـرت فيه كافة العناصـر والأركـان اللازمـة لقيام الجريـمة، والمبينـة في نص التجـريم، ثم ينحصر دورهـا في إخـراج هذا الفعل من نطاق التجـريم، حيث تنتفي عنه صـفة عدم المشروعـية فيصـبح مباحـا .
إن أسباب الإباحـة يجـد مصـدره في أن العـلة من التجـريم هي حمايـة حـقوق ومصـالح اجتماعـية جـديرة بالحماية الجنائـية، غير أن الفعل قد يرتكب في ظـروف تنتـفي معها عـلة التجـريم، بحيث تصـبح المصلحـة المحمـية مع توافـر تلك الظـروف غير جـديرة بالحـماية، ولذلك فحـالات الإباحـة تجـد وعلـة وجـودها في انتـفاء عـلة التجـريم إذا وقع الفعل مع أحـد تلك الحالات.
يسايـر القانـون الدولـي الاتجـاه السابـق، فيقـر أسبـاب الإباحـة التي تتمـثل في المعامـلة بالمـثل والدفـاع الشرعـي، وحالـة الضـرورة وطاعـة الأمـر الصادر من رئيس ورضـا المجني عليه، والحـق المستند من قانـون الشعوب، وحـق التدخـل لصالح الإنسانـية .
أولا: المعامـلة بالمـثل
تتمـثل أساسا في رد فعل الدولـة المعتـدى عليها ضد الدولـة المعتديـة بعمل غير شرعـي مماثـل، فالعمل الذي قامـت به الدولـة كـرد فعـل هو عمل غير مشـروع من حيث الأصل، لكنه بحسـب بعض الآراء المؤيـدة لمبـدأ المعامـلة بالمـثل يعد عمـلا مبـررا يخـلو من معنى الاعتـداء، إذ يقصـد منه مجـرد مقابـلة الشـر بشـر مثله، وبذلك فإن المعامـلة بالمثل ليست معاملة خاصـة، أو عدالـة خاصة ترتكـز على شريعـة القصـاص أو أخـذ الحـق باليـد.
هناك تعريفـات متعـددة لمبدأ المعامـلة بالمثل، أو ما يصطـلح عليه بالأعـمال الانتقامـية، فقد عرفها الفقـيه "أوبنهايم" بأنها: "أفـعال غير مشروعـة دولـيا ومضـرة تتخـذ من قبل دولـة ضد دولـة أخـرى، كاستثـناء مسمـوح به لإكـراه الدولـة الأخـيرة حتى توافـق على التسويـة المناسـبة للخـلاف الناجـم عن جريـمة دولـية" .
يمكن للأفـعال الانتقامـية أن تأخـذ أي شكل غير مشـروع فيه اعتـداء على أشخـاص وممتلكات الدولة المعتديـة، إلا أنه يظـهر حـاليا في الفقه الحـديث للقانـون الدولي اتجـاه نحو عدم الاعتـراف بالأعمال الانتقامـية باعتبارهـا سببا من أسباب الإباحـة، يشـمل كل الأعـمال الانتقامية سـواء أكانت في وقت الحـرب أو في وقت السـلم، ويكون ذلك العمـل لا يتماشـى مع الأعـراف المستجـدة التي تمنع الدول اللجـوء إلى الحـرب لتسويـة خلافـاتها مع الدول الأخرى، كما تمت مؤاخـذة هذا المبدأ على كونه مجـافيا لفكرتـي العدالـة والأخـلاق، كونه يصيب الأبرياء من جـهة، واعتـباره تطبيق عملـي للفـكرة الممقوتة القائـلة بان الغاية تبـرر الوسيلة .
وبالرغم مما سبق ذكـره، فإن الرأي السائـد في الفقه يذهـب إلى اعتبار المعامـلة بالمثل عملا مبـررا تقتضيه الضروريـات العملية في الحياة الدولـية، حيث لا تستطيع الدولـة المعتدى عليها أن تلجـأ إلى مخاصـمة الدولة المعتدية قضائـيا، نظـرا لغـياب القانـون الدولي الجنـائي، وافتـقار العالم لأداة فعلـية تنفـذ الحـكم القضائـي إن وجـد، وقد تحـددت شـروط تطـبيق هذا المبـدأ على النحـو التالـي:
1- أن يكون الفعل غير المشـروع الذي قامـت به الدولـة ردا على فعل غير مشـروع سبقه من قبل الدولـة الأخرى.
2- أن يكون هذا الفعل غير المشـروع متناسـبا مع العـدوان الذي تعرضـت له الدولـة.
3- أن يكون اختـيار الدولـة لقيامـها بالعـمل غير المشـروع مبنـيا على أسـاس استحالـة حصولـها على رد العـدوان، أو الحصول على حقـها المهـدور بالوسـائل السلمـية.
وإذا مـا توافـرت هـذه الشـروط، عـد عمـل الدولـة غير المشـروع ردا على الاعتـداء الذي سبقه عمـلا مبـررا، وانتفـى الجـرم عنه، وأخـيرا أصبح الشك يتسـرب إلى أهمـية هـذا المبـدأ ومـدى ضـرورة الأخـذ به خاصة في زمـن السلم، لكون العمل الانتقامـي حينها سوف يكون محفوفـا بالمخاطـر، حيث سيرد عليه بالقـوة أيضا، وهذه هي الحـرب بعينها .
والمفروض في وقت السلم هـو اللجـوء إلى الوسـائل السلمـية لحـل المنازعات الدوليـة، وذلك من إتـيان تلك الأعمال الانتقامـية التي تتعـارض مفاهيمـها مع مبادئ الأمم المتحـدة وميثاقـها ومجـمل المعاهـدات والمواثيـق الدولـية الأخـرى، أمـا في زمـن الحـرب فإن للمـبدأ أهمـية خاصة في ردع المعتـدي، الذي يخـشى من الأفعال المضـادة المماثلة، ومع ذلك يجـب الاجتـهاد لتجنـيب الأبريـاء من الطرفـين مغـبة الجـرائم المقترفـة، فلا يجـوز أن يكون هؤلاء وسيـلة للعمـل الانتقامـي، وإلا عـد ذلك من الجـرائم الدولـية مهما كانت أسبابها، ولا يجـوز إباحـتها تحـت أي ظـرف كـان.
ثانـيا: الدفـاع الشرعـي
يتمثل في الحـق الذي يقـرره القانـون الدولي لدولـة أو لمجموعـة دول باستخـدام القـوة لصـد عـدوان مسلح حـال، يرتـكب ضد سلامـة إقليمـها، أو استقـلالها السياسـي، شـرط أن يكون استخـدام القـوة هـو الوسيـلة الوحـيدة لدرء ذلك العـدوان ومتناسـبا معه، ويتوقـف حين يتخـذ مجـلس الأمـن التدابـير اللازمـة لحـفظ السـلم والأمـن الدولـيين .
ترسـخ مبـدأ الدفـاع الشرعـي في القانون الدولي الجـنائي منذ فترة بعيـدة، فقد عرض الفقـيه "بادفان" في أحـد مؤلفاتـه حادثتين مهمتين، تعـدان مرجـعا لمبـدأ الدفـاع الشرعـي في نطـاق القانـون الدولي الجـنائي .
إحـداهما حادثـة الكارولين 1837 وتتخـلص في لجـوء بعض المتمـردين الكنـديين إلى الولايـات المتحـدة، ثم جـهزوا وبمساعدة بعض المواطنين الأمريكيين مركـبا اسمه الكارولين، لكي يعـودوا إلى كندا، ويقدمـوا يد العـون لمن يبقى منهم في كندا، وعندما علمت الحكومـة الكندية بالأمـر أرسلت إلى الأراضي الأمريكية قـوات انجليزيـة، فهاجمت المركب وهو راسٍ في أحـد الموانئ الأمريكـية وحطمـته وأرسلته في مياه شـلالات نياجـارا، وقد احتجـت واشنطـن على ذلك، فردت الحكومـة الكندية عليها بأن تصرفـها هذا مبرر على أسـاس الدفـاع الشرعي، واعتبـر vanteD asP أن الدفـاع الشرعـي مثار في هذه الحالـة لتبرير تصـرف غير مشروع طبقا لقاعدة القانون الدولي، وهي واجـب احـترام إقلـيم الغـير.
تكـرس هـذا الاتجـاه بعـد أكـثر مـن قـرن على وقـوع هـذه الحادثـة بنص المادة 51 من ميـثاق الأمم المتحـدة، التي جـاء فيها ما يلي: "ليس في هـذا الميـثاق مـا أو ينقـص الحـق الطبيعـي للدول فـرادى أو جماعـات في الدفـاع عن أنفسـهم، إذا اعتـدت قـوة مسلحـة على أحـد أعضـاء هـذه الهيـئة، وذلك عـلى أن يتخـذ مجـلس الأمـن التدابـير اللازمـة لحـفظ السـلم والأمـن الدولـيين".
كما جـاء نص المادة الثامـنة من مشـروع تقنـين الجـرائم ضد سـلم وأمـن البشريـة 1954 مكرسـا لهـذا الحـق على النحـو التالي:
"لا يعـد جريمـة دولـية كـل عـدوان يتضـمن استخـدام الدولـة لقواتـها المسلحـة ضـد دولـة أخـرى، لأغـراض الدفـاع الشرعـي أو الجـماعي، أو تنفـيذا أو تطبيـقا لتوصـية هيـئة مختصـة من هيـئات الأمم المتحـدة".
وبذلك، فقد تأكـد الدفـاع الشرعـي في القانـون الدولي الجـنائي أسـوة بما هـو منصـوص عليه في القانـون الداخـلي، ليضـمن للدولـة المعـتدى عليـها حـقها في استعـمال القـوة اللازمـة والمناسـبة لصـد العـدوان الموجـه ضدهـا، ولا يجـرم عملـها هـذا مـا دام أن حـياة الدولـة كحـياة الأفـراد.
يقـول الفقـيه "مونتيسكيو" عند استعراضـه فـي أحـد مؤلفاتـه لمسألـة الدفـاع الشرعـي وتطبيـقه في نطـاق القانـون الدولـي الجـنائي: "فكما يحـق للناس أن يقتـلوا في حالـة الدفـاع الشرعـي عن النفس، يحـق للدول أيضا أن تحـارب دفاعـا عن نفسـها، فالدولـة لها الحـق في أن تؤمـن بقـاءها، لأنـه حـق ككل بقاء أخـر".
أمـا إذا نظـرنا إلى النصـوص الدولـية الحـديثة فـي مجـال القانـون الدولـي الجـنائي، فإننا نجـد أن حالـة الدفـاع الشرعـي مكرسـة بموجـب المـادة 14 مـن مشـروع مدونـة الجـرائم المخـلة بسـلم الإنسانـية وأمنها، بعنـوان الدفـاع الشرعـي والإكـراه وحالـة الضـرورة، حيث نصـت هـذه المادة على أنـه: "لا تعتـبر جريـمة الأفـعال المرتكـبة في معـرض الدفـاع الشرعـي أو تحـت الإكـراه أو في حالـة الضـرورة" .
ومـا يلاحـظ على هـذا النـص أنـه جعـل حالـة الدفـاع الشرعـي وحالـة الإكـراه والضـرورة أسبابـا لإباحـة الفعل المعـتبر جريـمة دولـية في حالـة انتفـاء تلك الأسـباب، على خـلاف مـا ذهبـت إليه المـادة 31 فقـرة (جـ) و (د) من نظـام رومـا الأسـاسي للمحكمة الجنائـية الدولـية، حيث اعتـبرت توافـر حالـة من هـذه الحـالات سبـبا مانـعا للمسؤولـية الجنائـية الدولـية عن الجـاني، وليـس من أسباب الإباحـة، التي تعـتبر ذات موضوعـية تتعـلق بتقـييم الفـعل في علاقـته بالمصـالح المحمـية جنائـيا، ولا دخـل لها في تكويـن الركـن المعنـوي للجـريمة.
ثالـثا: حالـة الضـرورة
تتمـثل في الحالـة التي تـكون فيها الدولـة مهـددة بخـطر جسـيم حـال، أو على وشـك الوقـوع مما قد يعـرض بقاءهـا للخـطر، ويجـب أن لا يـكون لها دخـل في نشـوء ذلك الخـطر، ولا يمـكن دفعـه إلا بإهـدار مصـالح أجنـبية محمـية بمقتـضى القانـون الدولـي .
وشهـدت الحـرب العالمـية الثانـية سلسـلة مـن الاعتـداءات الألمانـية باسـم الضـرورة، فقد اكتسحـت القـوات النازيـة سـنة 1940 الدانمـرك والنـرويج، ثم هولنـدا وبلجيـكا، ولم تـكن أي من هـذه الدول الأربعـة طرفـا في الحـرب، كما أنه لم يصـدر منها أي تصـرف مخـالف لقواعـد الحـياد، و بتعـبير آخـر كانت دولا بريـئة.
كما ذكـر الوزيـر الألمانـي " فـون بيتـمان هولـويج" في 04/08/1944 أن احـتلال بلجـيكا كـان ظلـما، ولكن الضـرورة لا يحكـمها قانـون.
مما سبـق، يتضـح أن استعـمال القـوة ضـد دول بريـئة لا يعـد سببا من أسـباب إباحـة الجـرم، وتعـد الدولـة المعتديـة قد ارتـكبت جـريمة دولـية كامـلة الأركان، ويجـب مساءلتـها جنائـيا.
ولذلك، اشتـرط الفقـه لحالـة الضـرورة توافـر شـروط محـددة سبـبا من أسـباب الإباحـة، وهـذه الشـروط هـي:
أولا: شـروط الخطـر
تتمـثل في: أ – الخطـر الجسـيم: وشـرط الجسامـة مسألـة موضوعـية تطـلق على الخطـر من حـيث درجـة مساسـه بالمصلحـة المحمـية.
ب – محـل الخطـر: وهو المسـاس بالسلامـة أو السيادة الإقليمـية والاستقلال السياسي للدولـة.
جـ - الخطـر الحـال أو الوشـيك الوقـوع: ويتوجـب أن يكون الخطـر الجسـيم حـالا، أو على وشـك الوقـوع، فالخطـر المستقـبل أو الخطـر الذي حصل في الماضـي وانتهى، لا يمكن الارتكان إليه لارتكاب أفعـال ضروريـة.
ثانـيا: شـروط الفعـل الضـروري
تتمـثل في: أ – اللـزوم: يشتـرط لتوافـر حالـة الضـرورة أن يكون الالتجـاء إلى العـدوان من قبل الدولـة المتمسـكة بحالـة الضـرورة هو الوسيـلة الوحـيدة لتلاقـي ذلكم الخطـر المحـدق بها.
ب – التناسـب: لا تقـوم حالـة الضـرورة إلا إذا كان العـدوان المقتـرف من حيث الجسامـة هو الوسيـلة الوحـيدة التي تكون بوسـع الدولـة ارتكـابها.
ويـرى البعـض من الفقـهاء أن توافـر شـروط الضـرورة على الصعـيد الدولـي يبـرر للدول الأخـذ بها، أسـوة بما هو معـروف ومأخـوذ به في القانـون الداخـلي، وقد انحـاز إلى هـذا الرأي بعض الفقـهاء الألمان على وجـه الخصـوص، الذين يؤكـدون على أن الدولـة تستطـيع الاحتجـاج بحالـة الضـرورة، للمحافظـة على نفسها أو صيانـة لمصالحـها أو حفاظـا على كيانها، ولـو أدى الاحتجـاج بحالـة الضـرورة هذه إلى القـيام بعـمل عدوانـي على دولـة ثالـثة بريـئة، ومن هـذا المنطـلق بـرر الألمـان غـزوهم لبلجـيكا وهولـندا والدانمـرك والنـرويج عـام 1940 كما سبـق وأن أشرنـا إليـه .
غير أن غالبـية الفقـه تعـارض هـذا الرأي، وتمـيل إلى وجـوب استبـعاد حالـة الضـرورة من التطـبيق في المجـال الدولـي، مستنديـن إلى عـدة اعتـبارات، منها:
أ – اخـتلاف الدولـة كشخـص معنـوي عن الأفـراد الطبيعـيين: فمـيل الإنسان لرعـاية مصالحـه الجوهـرية عند تعرضـها للخـطر هو ميل طبيعـي أو مؤسس على حـب البـقاء كحالـة يتسـامح فيها القانـون، ولكن هـذا الأمـر لا يمـكن تعميـمه على الدولـة لأنها شخـص معنـوي تنقصـه الغرائـز الطبيعـية التي يملـكها الأفـراد.
ب – الخشية من أن تستغل الدولة حالة الضـرورة للقيام بالاعـتداء على غيرهـا من الدول: ففي غياب السلطة القضائية الدولية التي يمكنها التحـقق من توافـر حالـة الضـرورة قد تلجـأ الدولـة إلى تفسـير شـروط حالـة الضـرورة على هواهـا ومع ما يتناسب مع مصالحـها.
ت – إن الأخـذ بقاعـدة الضـرورة يؤدي إلى موقـف متناقـض: فعـند اعترافـنا للدولـة بحـق القـيام بعـمل عدوانـي ضد دولـة ثالـثة بريـئة بدعـوى الضـرورة، فإنـه من الواجـب أن تعـترف من بـاب أولـى بأن لهـذه الدولة الثالـثة حـق رد العـدوان، الذي وقـع عليها عمـلا بحـقها في الدفـاع الشرعـي، وهنا نقـع في تناقـض حيث أجـزنا العـدوان كحالـة الضـرورة، ثم أجـزنا رد الفعل عليه كدفـاع شرعـي، وتلك نتيجـة تؤدي إلى نشـوب حـرب بين الدول بهـدف القانـون الدولـي إلى منعـها وتلافيـها .
رابـعا: إطاعـة الأمـر الصـادر من الرئيـس
طبـقا للقانـون الداخـلي، فـإن الرئيـس المطـاع في الاستجابـة للأوامـر التي يصدرهـا يعـد سـببا معفـيا للمرؤوس، ويبيـح الفعـل المرتـكب إذا كان تنفيـذه لذلك الأمـر قد تم بحـسن نـية وبشـروط معيـنة.
وفي القانـون الدولـي الجنائـي، يـرى البعض بأن تنفـيذ الأمـر الصـادر من رئيس تجـب طاعـته يعد سـببا للإباحـة بفعـل واجـب الطاعـة الذي يلتزم به المرؤوس، في حين يرى الاتجـاه الغالـب من الفقـه بأن تنفـيذ الأمـر الصـادر من رئيس يعـد مانـعا للمسؤولـية وليس سـببا للإباحـة .
وقـد تعـرض الفقـه الدولـي لهـذه المسألـة في عـدة مناسـبات، أهمـها:
- مـا جـاء في تقـرير الجمعـية الدولـية في لندن، المنشـور في ديسمبر 1943: "إنه فيما تعلـق بالمرؤوسـين، لا يعـتبر أمـر الدولـة أو أمـر الرئيـس عـذرا، إلا إذا كان هـذا الأمـر يمـثل حالـة الضـرورة".
- مـا جـاء في لائحـة محكـمة نورمبـرغ المادة الثامنة: "لا يعـد سببا معفـيا من المسؤولية دفـاع المتـهم بأنه كان يعـمل بناء بتعليـمات رئيـس أعـلى، وإنما يعتـبر هذا سببا مخـففا للعقوبـة إذا رأت المحـكمة أن العدالـة تقتضـي ذلك".
جـاء في المادة الرابـعة من مشـروع تقنـين الجـرائم ضد سـلام وأمـن البشريـة 1954 أنـه: "لا يعـفى من المسؤولـية فـي القانـون الدولـي المتـهم في جريـمة من الجـرائم الدولـية إذا كان يعـمل بأمـر من حكومـته أو رئيسـه الأعـلى، بشـرط أن يكون لديه مكانـة عـدم إطاعـة الأمـر في الظـروف التي أرتكب فيها الفعـل".
كما أكـد المقـرر الخـاص بتقنين الجرائم ضد سـلام وأمـن البشريـة (1987) النص على هـذا المبدأ كمانع من موانع المسؤولـية، إذ نصت المادة التاسعة من اقتراحـه على ما يلي: "يشـكل استثـناءا على مبـدأ المسؤولـية الأمر الصادر من حكومـة أو رئيس إداري، إذا كان الفاعل غير قـادر معنويـا على الاختـيار، وأصبح الفقه يقـر بعـدم مسؤولية الفـرد الذي ينفـذ أمـر رئيسـه، إلا إذا كان لديه إمكانـية عـدم إطاعـة الأمـر".
وعلى ذلك، فإننا نجـد أنه من العدالـة بمـكان وجـوب مراعـاة الشخصـية، ومـدى إمكانية الشخـص في أن يخـالف الأمـر الصـادر له، وترك ذلك للمحكمة التي عليها أن تقدر كل هذه الظـروف، في سبيل البـث في مسؤولـية المرؤوس الذي يحـتج عن الأمـر الصـادر له.
مما سبق ذكـره، يتضـح لنا أن الاحتجـاج بتنفـيذ الأوامـر العـليا لا يعـد سببا من أسباب الإباحـة أو عـذرا معفـيا من العـقاب، بل يمكن أن يكون ظـرفا من ظـروف التخـفيف كما أجـمع عليه غالبية الرأي من فقـهاء القانـون الدولـي، وقد يكون مانـعا من موانـع المسؤولية في حـالات حصريـة، أساسها عدم القدرة المعنويـة على الاخـتيار.
المبحـث الثالـث: الركـن المعنـوي للجريـمة الدولـية
المطلب الأول: القصـد الجنائـي للركـن المعنـوي
ليست الجريمـة ظاهـرة ماديـة خالصـة قوامـها الفـعل فقط، ولكنها كذلك كـيان نفسـي / معنوي / اجتماعي، ومن ثم استقـر في القانـون الجـنائي الحـديث ذلك المبدأ الذي يقضـي بأن ماديـات الجريمة لا تنشئ مسؤولـية، ولا تستوجـب عقابـا مـا لم تتوافـر إلى جانبها العناصر النفسـية التي يتطلـبها كـيان الجـريمة ، إذ تجـتمع هذه العناصـر في ركن يختـص بها، ويحـمل اسم "الركـن المعنـوي للجـريمة".
وللقصـد الجـنائي مكانـة هامـة في الركـن المعنـوي للجريـمة، فإذا قلـنا أن الإرادة هي جوهـر الركـن المعنـوي، فإنها كذلك جوهـر القصـد الجـنائي، إذ أجـمع أغـلب فقـهاء القانـون على أن الركـن المعنـوي للجـريمة هو الذي يوفـر الرابطـة المعنويـة بين الجـاني والجريـمة المقترفـة، وتتخـذ تلك الرابطـة في الأصل مظـهر العمـد، وفي بعض الأحـيان مظهـر الخـطأ غير العمـدي .
يمكن لاشتـراط أن تتوافـر هذه الرابطـة المعنويـة أو الصلة النفسـية لقـيام الجـريمة أن يمكننا من تمييز الأفعـال التي يجـب المساءلة عنها عن الأفعال التي لا تكون موضـوع مساءلـة قانونـية، إذ بتوافـر هذه الصـلة، تقـوم المسؤولـية وتنعـدم بعـدم توافرهـا.
يعـد اشتـراط الركـن المعنـوي لقـيام الجـريمة وترتـب المسؤولـية ضمانـا لتحـقيق العدالـة، التي تقضي بتوقـيع الجـزاء على المخطـئ، ولا يعـد مخطـئا إلا من قام بإرادته بارتـكاب الفعل المجـرم.
ولكي توصـف إرادة الإنسان بأنها إرادة آثـمة، يتطـلب القانـون الجـنائي الداخـلي بعض الشـروط، التي يجـب توافـر هـذه الإرادة حتى يمـكن الاعتـداد بها، وتتمـثل هذه الشـروط في أن تكون تلك الإرادة هي إرادة شخـص طبيعـي، ممـيز، عاقـل وحـر الاختـيار، فهل يتطـلب القانون الدولـي الجـنائي مثل هذه الشـروط لقيام الركـن المعنـوي في الجرائم الدولـية؟










رد مع اقتباس
قديم 2013-12-30, 00:36   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
adoula 41
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B10 تابع للفصل الثاني

إن ضـرورة ووجـوب توافـر الركـن المعـنوي أمـر لا جـدال فيه لقـيام الجريمة الدولـية، ولكن الإرادة والعـقل والتمـييز صـفات طبيعـية لا تثبـت إلا للأفـراد، ولهذا فإنه وللإجـابة على هـذا التساؤل يجب أولا أن نبحـث فيمـن يتحـمل المسؤولـية في القانـون الدولـي الجـنائي: الفـرد أم الدولـة؟
المطـلب الثانـي: الخـلاف حـول من يتحـمل المسؤولـية في نطـاق القانون الدولي الجنائي
إن تحـمل المسؤولـية الجنائـية عند ارتكاب الجـريمة الدولية ليست محـل جـدل في القانـون الدولـي الجـنائي من حيث أساسـها، بل أن ينصب على محـل هذه المسؤولية، وبناء على هذا الاخـتلاف البـين انقسم الفقه الدولي الجـنائي المعاصـر بالنسبة للمسؤولية عن الجريمة الدولـية إلى ثلاث مذاهـب هي:
المذهـب الأول: مسؤولـية الدولـة
يرى أنصـار هذا المذهـب أن الدولـة وحـدها هي المسئولـة عن الجـريمة الدولـية، ويستند هـذا الرأي إلى القول بأن الدولـة هي وحـدها الشخـص المخـاطب بأحـكام القانـون الدولي، فهي التي توقـع المعاهـدات الدولية وتلتـزم بها، وباعتـبار الدولـة تكويـنا اجتماعـيا له سلطـة سياسـية، وبما أن المنافـع الناجـمة عن هذه السلطـة تؤول إليها، فمن الممكن إذن مساءلتها جنائـيا عما ارتكبته بسبب السلطـة .
تعتبر هذه المسؤولـية ضـرورة عملـية في مجـتمع منظـم قانونـيا، إذ لا يجـدر أن تكون هناك حريـة دون مسؤولـية، وقد اعتـرض كل من ممثل بريطانيا وفرنسا في محكمة نورمبورغ على نظريـات إعفاء الدولـة من المسؤولية الجنائـية وعدم خضوعـها للقانـون.
غير أن الفقـيه "Hartly Shawcross" وصف هذه النظريـات بأنها باطلـة ومنافـية للعدالـة، لأنها تعلـن أن الدولـة ذات السـيادة لا يمـكنها ارتكاب أي جريـمة، كما لا يمكن اقتـراف أي جريـمة دولـية إلا من قبل أشخـاص يتصـرفون باسمـها .
كان لموضـوع المسؤولية الجنائـية عن الجرائم الدولـية التي ترتكب باسم الدولـة نصـيب وافـر من النقـاش على المستـوى الدولـي، سـواء كان ذلك من قبل الفقـه الدولـي، أو الهيئات العلمـية غير الرسمـية، أو على الصعـيد الرسمي، إذ دار معظم هـذا النـقاش حـول تعـيين الشخـص القانونـي الذي تسـند إليه المسؤولية الجنائـية: هل هـو الدولـة؟ وهل يمكن مساءلتها جنائيا أم تتم مساءلـة الفـرد؟ أم هل تسنـد المسؤولية للاثنـين معا؟
نوقشـت هذه المسألـة أيضا أمـام الجمعـية العامـة للأمم المتحـدة ، وأمـام لجـنة القانـون الدولـي ، وتم بحـث هذه المسألـة جـيدا أمـام اللجنـة السادسـة التابعـة للجمعـية العامـة، وذلك بمناسـبة الاقتـراح الذي تقدمـت به بريطانـيا حـول تعـديل المـواد 10 و07 و05 من مشـروع اتفاقـية إبـادة الأجـناس.
فقد أثـارت بريطانـيا إقحـام مسؤوليـة الدولـة الجنائـية عن جـرائم إبـادة الأجـناس، التي ترتكبها أو التي تسمـح بارتكابها، وذلك بتعـديل المادة 05 من مشـروع الاتفاقـية التي تنص على مسؤولـية الأفـراد فقط، وذلك حـيال الصياغـة التالـية محـلها: "أن المسؤولـية الجنائـية عن أي عمل من أعمال إبـادة الأجـناس، وفـق ما هو منصـوص عليه في المواد 02 و04 سوف لا يقتصـر على الأفـراد والجمعـيات، بل إنها تشـمل أيضا الدول والحكومـات وأعضاء أو سلطـات الدولـة الذين يقترفـون تلك الأفعـال" ، فيما أشار الفقيه "أمـادور" في أول تقـرير يرفعـه إلى لجـنة القانـون الدولـي إلى أن مسؤولـية الدولـة الجـنائية أمـر يستحـق الدرس ومسألـة تستحـق التأمـل.
مما تقـدم، يبـدو أن هناك من يؤكـد فكرة مساءلـة الدولـة جنائـيا عن الجرائم التي ترتكب باسمـها، فهي جـرائم ترتكبها الدولـة بواسطـة أفـراد ليس بصفاتهم الفرديـة وإنما بصفاتـهم الرسمـية أو بصفـتهم أعضـاء دولـة .
ويعـود ذلك لكون هذه الجـرائم ترتكب باسم الدولـة، وبالتالي توصـف بأنها جـرائم ارتكبتها الدولـة، مما يؤدي إلى إثـارة مسؤوليتها الجـنائية لحكامها، والسـؤال المطـروح في هذا الصـدد: مـاذا يعـني وصف مسؤولية الدولـة عن الجرائم المرتكبة باسمها بأنها مسؤوليـة جنائية؟
وبما أن الدولـة مـا هي إلا شخـص معنـوي، وهي هيئة قائـمة على أسـاس الافتـراض والتصـور، فإن الإشـارة إلى مسؤولية الدولـة الجنائية يعني بالضبط المسؤولـية الجنائـية لشعـب الدولـة بأجمـعه عن الجـرائم التي يرتكبها أعضاء الدولـة، وهل هذا يستقـيم مع قواعد القانـون الدولي الجـنائي، ومع المبادئ العامـة للقانـون الجـنائي الوطني.
لقد ثـار نقـاش واسع في أوسـاط الفقـهاء حـول هذه المسألـة، فتعـددت النظريـات، لكن عند الرجـوع إلى وثائـق القانـون الدولي الجـنائي لم يـرد فيها ما يشـير إلى إقـرار مفهـوم مسؤولـية الدولـة الجنائـية، كما لم يـرد في الأنظـمة الأساسـية للمحـاكم العسكريـة الدولـية في نورمبورغ وطوكـيو مـا يشـير إلى ذلك، ولا في معاهـدات الصلح التي أبرمـت عام 1947 ولا في تقنين الجـرائم ضد أمـن وسـلم البشريـة .
لقد أشرنـا سابقا أن هذه الفكرة طرحتها بريطانـيا عندما قدمـت اقتراحـا بتعديل المادة 05 من مشـروع اتفاقـية إبـادة الأجـناس، إذ تم طـرح الموضـوع أمام اللجـنة السادسة في الدورة الثالثة لانعـقاد الجمعـية العامـة، ودار حولـه نقاش مستفيـض، لكن أغلبية الممثلـين في اللجنة عـارض وجـهة النظـر البريطانـية، فتم التسلـيم بعـدم خضـوع غير الأفراد للمساءلـة الجنائـية عن إتـيان جـرائم باسم الدولـة، الأمـر الذي أدى ببريطانـيا إلى سحـب اقتراحها، كما دخـلت المسألة موضوع المناقشـة أمام القانـون الدولي، فأنـكر أغلـب أعضـاء اللجـنة وجـود صـورة لمسؤولية الدولـة، وهي المسؤولية الجـنائية .
يتضح من جميع ما تقـدم، أن فكرة مسؤولية الدولة الجنائية لا وجـود لها في القانـون الدولي، مع أن المسؤولية عن الجرائم المرتكبة باسم الدولـة تثـير نوعـين من مسؤولـية الدولـة ومسؤولية الأفـراد العاملين باسمـها، إلا أن مسؤولـية الدولـة مدنـية عن خـرق جسـيم للقانـون الدولي، يترتب عنها غالـبا عقوبـات مالـية واقتصاديـة.
المذهـب الثانـي: مسؤوليـة الأفـراد الطبيعـيين
يرى أنصـار هذا المبدأ أن المسؤولية الجنـائية المترتـبة عن الجـريمة الدولـية يكون محـلها الأشخـاص الطبيعيـون فقط، أسـوة بالقانـون الجـنائي الداخـلي الذي يمـيل نحو الفرديـة، أي الاهتمام بالفـرد بوصـفه مقترفـا للجـريمة، ولكي يكون هذا الفرد مسـؤولا جنائـيا يجب أن يكون مدركـا وحـر الاختـيار.
وعليه، فإننا نقـرر أن هذه المبادئ الخاصـة بالمسؤولـية مطبـقة بحذافـيرها على الجـريمة الدوليـة، ولم يعتـرف القانـون الجـنائي الدولـي إلا بالمسؤولية الجنائية المترتبة على الأفراد الطبيعيين .
كما أكـد هذا المذهـب أيضا أن الأفـراد الذين يتصرفـون للدولـة أو بناء على أمرهـا، أو برضاها هم محـل المسؤولية الجنائية الدولـية، وبالتالي فإن الاتهامـات المخـتلفة والموجـهة ضد الأفـراد المتصفين بصفتـهم الرسمـية في أعمال الحكومـة، ويكونـون محـلا للمسؤولية الجـنائية الدولـية.
كمثال على ذلك، كانت تصريحـات الحـلفاء طـوال فترة الحـرب العالمية الثانـية بمحاكـمة النازيين، بوصفـهم أفـرادا طبيعـيين لإثـارتهم الحـرب، وارتكابهم جـرائم الحـرب والجـرائم ضد الإنسانـية، كما جـاء في المبدأ الأول من مبادئ نورمبورغ: "إن كل شخـص يرتكب عمـلا يعد جـريمة دولـية يكون مسؤولا، وبالتالي يخـضع للعـقاب".
أيـد مشـروع التقـنين الخـاص بالجـرائم ضد سـلم وأمـن البشريـة هذا المبدأ في مادته الأولى، التي جـاء فيها: "إن الجـرائم ضد أمـن وسلم البشريـة المذكـورة في هذا التقنين تعـد جرائم دولـية، ويجـب معاقـبة الأشخـاص الطبيعـيين المسؤولـين عنها".
وبالرجـوع إلى لائحـة نورمبورغ في مادتها الأولى، تنص على: "أن المحكمة تخـتص بمحاكـمة وعقاب كل الأشخـاص الذين ارتكبوا شخصـيا، أو بصفتهم أعضاء في منظـمات أثناء عملهم لحـساب دول المحـور جـرائم دولـية".
جـاء في حـكم المحكمة: "إنهم رجـال أولئك الذين اقترفـوا الجـرائم الدولـية، وليسـوا كائـنات مجـردة، ولا يمكن كفالـة واحـترام نصـوص القانـون الدولي إلا بعـقاب الأفـراد الطبيعـيين مقترفـي هذه الجـرائم".
كما جـاء في المادة الرابـعة من اتفاقـية منع جريـمة الإبـادة الجماعـية والمعاقبة عليها 1948: "يعاقـب مرتكبو الإبـادة الجماعـية، أو أي من الأفعال الأخـرى المذكورة في المادة الثالثة سواء كانوا حكامـا دستوريين، أو موظفـين عاديين أو أفـرادا".
كما ورد في المادة الثالثة من الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري (1973) ما يلي: "تقـع المسؤولية الجـنائية الدولية، أيـا كان الدافـع، على الأفـراد وأعضاء المنظـمات والمؤسسات وممثلي الدولـة، سـواء كانوا مقيمين في إقليم الدولـة التي ترتكب فيها الأفعـال أو إقليم دولـة أخـرى".
نخـلص أخـيرا إلى أن الحـكام والقـادة هم الذيـن تتوافـر لديهم النوايـا الإجـرامية، ولذلك يثبـت في حـقهم الاستناد المعـنوي والمسؤولـية الجنائـية، التي تتطـلب إدراكـا وتمـيزا واختـيارا، لا تتوفـر في الدولـة باعتـبارها شخصـية معنويـة.
وبإقـرارنا المسؤوليـة الجـنائية للأفـراد الطبيعـيين فقط، نكون قد جنبـنا الأبريـاء من الشعـب عبء تلك المسؤولية، لأنهم كانـوا غائبين عن أولئك الحـكام أو القـادة الذين أصـدروا القـرار الإجـرامي، وهذا مـا يتماشـى مع مبـادئ العدالـة ومبدأ شخصـية المنصـوص عليه في معظـم القوانـين الجـنائية المعاصـرة والقانـون الدولـي الجـنائي .
إن الاعتـراف بالمسؤولـية الفرديـة عن الجـرائم الدولـية، يتضـمن معنـى تفـويت الفـرص على المجـرمين الحقيقـيين، وتغلـيب فكـرة العدالـة على الانتقـام، بحيث لا تبقي المغامـرات الشخصـية والاستهـتار بمصـائر الشعـوب عمـلا يتقـنه بعـض الحـكام الذين يأملـون من ورائه تحـقيق المجـد لأنفسـهم.
وأخـيرا، فقد تعـزز مبـدأ المسؤولـية الفرديـة عن الجـرائم الدوليـة بعـدة مبادئ في نطـاق القانـون الدولـي الجنائـي، نذكـر منها مبـدأ سيـادة أو سمـو القانـون الدولـي على القانـون الداخـلي بحـيث أجـمع الفـرد محـلا للمسؤولـية في القانـون الدولـي الجـنائي مباشـرة، ومبدأ مسؤوليـة رئيـس الدولـة أو الحـاكم لاقترافـه الجـريمة الدولية، ومبـدأ عـدم جـواز الاحتجـاج بالأمـر الصـادر عن رئيس لإعفاء الفـرد من مسؤوليته عن الجريمة الدولية .
و إذا تطرقنا في هذا الموضوع إلى آخر الوثائق الدولية حداثـة في مجـال القانـون الدولي الجـنائي، نجـد وأن ميـثاق رومـا الأسـاسي قد أقـر الرأي الراجـع إلى مسؤولـية الفـرد الجنائـية دون غيـره مهما كانت الصـفة التي يحـملها، فلقد نصـت المادة 25 من النظـام الأسـاس للمحـكمة الجنائـية الدولـية على أنـه:
1- يكون للمحـكمة اختصـاص على الأشخـاص الطبيعـيين عملا بهذا النظام الأساسـي.
2- الشخـص الذي يرتكب جـريمة تدخـل في اختصـاص المحـكمة يكون مسئـولا عنها بصـفة فرديـة، كما يصبح عرضـة للعـقاب وفـقا لهـذا النظـام الأسـاسي.
3- وفـقا لهـذا النظـام الأسـاسي يسـأل الشخـص جنائـيا ويكون عرضـة للعـقاب بأحـد الأفعـال المذكـورة في الفقـرات مـن أ إلى و.
4- لا يؤثـر أي في هذا النظـام الأسـاسي يتعـلق بالمسؤولـية الجـنائية الفرديـة في مسؤولية الدولـة بموجـب القانـون الدولـي.
وما يلاحـظ على هذه المادة أن واضعـيها تأثـروا بالاتجـاه المعاصـر للقانـون الدولي الجـنائي في الأخـذ بالمسؤولـية الفرديـة للأشخـاص الطبيعـيين عند ارتكابها للجـرائم الدولـية، وقد حـذت المادتان 27 و28 حـذو المادة 25، إذ أشارتـا إلى مسؤولـية قـادة ورؤسـاء الدول والموظفـين السامـيين فيها، سـواء كانـوا إداريين أو منتخـبين، عن الأعمال المرتكبة من طرفهم أو بإذنهم أو بإهمالهم أو بتجاهلهم، والموصوفـة كجـرائم دولـية، وأن مسؤوليتهم الجنائية هذه مسؤولية شخصـية، وأن صفاتهم الرسمـية لا تعفيـهم من مسؤولـية، ولا تشكل في حـد ذاتها سـببا لتخـفيف العقوبـة.
المطـلب الثالـث: صـور الركـن المعنـوي في الجـريمة الدولـية
تتخـذ إرادة الفرد في اتجاهـها لتحـقيق الجريـمة إما صـورة الإرادة الواعـية التي تقصد إحـداث النتيجة على النحـو الذي حـدده القانون وتسـمى القصـد الجـنائي، أو تتخـذ صـورة الإرادة المهمـلة التي تقـوم بالفعـل فتقـع النتيجـة عن غير قصد منها وتسمـى الخطأ.
إذا مـا قارنا بين القصد الجنائي والخطـأ غير العمـدي، سنجـد الأول يفـوق الثانـي في الأهمـية، فالأصل في الجـرائم أن تكون عمديـة، والاستثـناء أن تكون غير عمديـة، ولذلك كانت الجـرائم العمديـة أكـثر عـددا، وهي إلى جانب ذلك أشـد جسامـة وأشـد عقابـا .
وإذا سلمنا بأن الركن المعنوي في الجريـمة الدوليـة كما هو في جـرائم القانـون العام أساسـه الإثم ( أو الخطأ بمعناه الواسع )، فإن الخطأ تبعا له صورتـان هما العمـد والإهـمال، أو كما ذكرنا سابقا القصد الجنائي والخطأ ( بمفهومه الضيق )، وقد رأينا أن القانـون الدولي الجـنائي يعاقـب على الجـرائم المرتكبة بإهـمال، حيث أجـمع القضـاء الدولي والوطني على وجـوب معاقـبة الرئيس الأعلى عن الجرائم التي مرؤوسوه في حال امتناعه بإهمال عن منعهم من ارتكابها .
أولا: القصـد الجنائـي
يعـرف بأنه "إحاطـة الجـاني بكل العناصر المكونة للواقعـة الإجـرامية مع تحـقيقها"، مما يترتب عن ذلك منطقـيا انتـفاء القصد الجـنائي عند انتـفاء أحـد العنصـرين .
تتفـق أحكام القانون الدولي الجـنائي في هذا الشأن مع القانـون الجـنائي الداخـلي، إذ تتطلـب الجـرائم الدولـية العمديـة قـيام القصد الجـنائي المكون من عنصري العلم والإرادة.
1- عنصـر العلم في القصـد الجـنائي
العلم حالـة ذهنـية وظاهـرة نفسـية تعني نشـوء علاقـة بين أمـر وبين النشاط الذهني لشخـص من الأشخـاص، فتغـدو هذه الواقـعة عنصـرا من عناصر الخـبرة الذهنـية التي يخـتزنها الشخـص، بحيث يستطـيع الاستعانـة به في حكـمة على الأشـياء، وفي تحـديد كيفـية تصرفـه إزاء الظـروف المحيـطة به .
إن عناصـر الواقـعة الإجرامـية التي يلـزم العلـم بها لقـيام القصـد هي كل العناصر الضروريـة التي يتطلـبها المشـرع لإعطـاء الواقـعة وصفـها القانـوني بحيث يمـكن تميزهـا عن الوقـائع الأخـرى المشروعـة وغير المشروعـة.
وإذا كان العـلم شـرط لتوافـر القصـد الجـنائي، فإن الجـهل أو الغلـط في الوقـائع الأساسـية التي تقـوم عليها الجـريمة يؤدي إلى انتـقاءه، فالجـهل يعنـي انتـفاء العـلم، كما أن الغلـط يعنـي العـلم على نحـو يخـالف الحـقيقة، وفي كلـتا الحـالتين ينتـقي العـلم، بحـقيقة الواقـعة وينتـفي معها القصـد الجـنائي.
ويتطـلب القانـون الدولـي الجـنائي وجـوب عـلم الجـاني بالوقـائع الإجـرامية ليقـوم بذلك القصـد الجـاني، بل وقد تشـددت محـكمة نورمبـرغ فاشترطـت ضـرورة توافـر العلـم الحـقيقي بجـميع العناصـر المكونـة للجـريمة لقـيام القصـد الجـنائي، مؤكـدة على أن الجـهل بالوقـائع أو الغلـط فيها ينفي القصـد الجـنائي.
لقد اعتبـرت تلك المحكمة في أغلبـية أحكامـها أن القصد غير المباشـر (القصـد الاحتـمالي) غير كـاف لقـيام المسؤولـية العمديـة بالنسـبة لنتائج الفـعل الإجـرامي التي لم يتوقعهـا الجـاني، وحكـمت محـكمة نورمبـرغ ببـراءة المتـهم شاخـت من المساهـمة في الأعمال التحضيرية للحـرب، لأنها لم تتوصـل إلى ثابـتة حـول تأكـيد واقعـة « Schacht » علمـه بالنوايـا العدوانـية ضد السـلام، كما حكمت ببراءة "Von Pan" لعـدم ثبـوت القصـد الجـنائي لديـه.
2- عنصـر الإرادة في القصـد الجـنائي:
تعـد الإرادة العنصـر الأسـاسي في القصـد الجـنائي، إذ يعاقـب الإنسان لأنه مسئول أدبـيا عن أفعالـه التي أتـاها بإرادتـه الآثمـة، وهي التي يعـول عليها في إسـناد التصرفـات الجـرمية إليه وعقابـه عنها، ولا تكون الإرادة آثـمة إلا إذا كانت مدركـة، أي لديها مكانـة التمـيز بين الأفـعال المحرمـة والمباحـة.
كما لا تكون كذلك إلا إذا كانت مخـتارة، أي لديـها قـدرة على المفاصـلة بين دوافـع السلـوك، يبينـه الإقـدام على مـا هو مبـاح والإحجـام عما هو محظـور، والقانـون الدولـي الجـنائي هو الآخـر يقـيم المسؤوليـة على أسـاس أدبـي لذلك، فالركـن المعنـوي في الجـريمة الدولـية، كما هو في جـرائم القانـون العام أساسـه الإثـم، أي الخـطأ بمفهومـه الواسـع ، والذي يعـبر عنه بالعمـد الذي تتجـلى فيه إرادة الجـاني إتـيان ماديـات الجريـمة بصـورة جلـية.
ثانـيا: الخـطأ
قد تقـع الجـريمة بدون قصـد، وبالرغم من ذلك تتم مساءلـة الجـاني لأنه لم يتجـنبها إذا كان باستطاعتـه ذلك، فالجـاني هذا أخطـأ، والخطـأ يعـني الإهمـال أو الرعونـة أو عـدم الاحتـياط أو عـدم الانتـباه، ويجـد الخطـأ تطبيقاتـه في القانـون الداخـلي على نحـو يفـوق كثيـرا تطبيقاتـه في القانـون الدولـي، لكون معظـم الجـرائم الدولـية هي جـرائم عمديـة.
ولكن هناك جـرائم دولـية غير عمديـة، فالضـابط الذي يقصـف إحـدى المـدن بهـدف ضـرب العسكريـين لكنه يخـطئ ويصيـب الأبريـاء يعـد مرتكـبا لجـريمة دولـية بالخطـأ، إذا ثبت أنه أهمـل ولم يحـتط للأمـر، وإنه كان بوسـعه تجـنب إصابـة المدنـيين الأبريـاء، ويبقى القصـد الجـاني هو الصـورة الأعم في قـيام الركـن المعنـوي في الجـرائم الدولـية ، وهذا ما نصـت عليه أحـدث النصـوص الدولـية فنجـد المادة 30 من نظـام رومـا الأسـاسي تنص على مـا يلي، تحـت الركـن المعنـوي:
1- ما لم ينص على غير ذلك لا يسأل الشخـص جنائـيا عن ارتكاب جـريمة تدخـل في اختصاص المحـكمة، ولا يكون عرضـة للعـقاب على هذه الجريـمة، إلا إذا تحققت الأركـان الماديـة مع توافـر القصـد والعـلم.
2- لأغـراض هذه المادة يتوافـر القصـد لدى الشخـص عندمـا:
أ – يقصـد هـذا الشـخص، فيما يتعـلق بسلوكـه، ارتكاب هذا السلـوك.
ب - يقصد هذا الشخـص، فيما يتعـلق بالنتيجـة، التسبـب في تلك النتيجـة، أو يدرك أنها ستحـدث في إطـار المسـار العادي للأحـداث.
3- لأغـراض هـذه المادة، يعـني مصطـلح "العلـم" أن يكون الشخـص مدركـا أنه توجـد ظـروف أو ستحـدث نتائج في المسـار العـادي للأحـداث، وتفسـر كلمـتا "يعـلم" أو "عن علـم" تبـعا لذلك.
المطلـب الرابـع: موانـع المسؤولـية الجـنائية فـي مجـال الجـريمة الدولـية
تتمـثل إمـا في انعـدام الوعـي، أو انعـدام الإرادة، أو على الأقـل الانتـقاض منهـما، وفي الحـالتين تنتفـي المسؤولية الجـنائية، ويستحـيل بالتالي توقيـع العقوبـة على الفاعـل دون أن يخـل هذا بإمكانـية إنـزال التدابـير الاحـترازية به متى توافـرت خطورتـه الإجـرامية .
ويقصـد بموانـع المسؤوليـة تلك الظـروف الشخصـية التي توافـرها لا تكـون لإرادة الجـاني قـيمة قانونـية في توافـر الركـن المعنـوي للجـريمة، ولذلك فموانـع المسؤولـية تباشـر أثـرها على الركـن المعنوي للجريمة فتنفـيه، ومثل ذلك الإكـراه المعنوي، وأسباب انعـدام الأهلـية كالجـنون، وصغـر السـن .
إن القانون الدولي الجنائي يتماشـى مع هذا الاتجـاه، ويقـر بموانـع المسؤوليـة التي تتمـثل في عيـب بالأهلـية الجـنائية للجـاني، أو في عيـوب تمـس إرادته ورضـاه، فقد نصت المادة 31 عن أسـباب وموانع المسؤولية الجـنائية في ظل النظـام الأساسي للمحـكمة الجنائـية الدولية المعتمـدة بروما في 17/07/1998.
بالإضافـة إلى أسباب امتناع المسؤولية الجنائية المنصـوص عليها في النظام الأساسي، فإن الشخـص لا يسـأل جنائيا إذا كان وقت ارتكابه السلـوك ضمن هذه الحـالات:
أ – يعانـي مرضـا أو قصـورا عقلـيا، بعـدم قدرتـه على إدراك عدم مشروعـية أو طبيـعة سلوكـه، أو قدرتـه على التحـكم في سلوكـه بما يتماشى مع مقتضـيات القانـون.
ب – في حالـة سكر، مما يعدم قدرتـه على إدراك عدم مشروعـية أو طبيـعة سلوكـه، أو قدرته على التحـكم في سلوكه بما يتماشى مع مقتضيات القانـون، ما لم يكن الشخـص قد سكر باخـتياره في ظل الظـروف كان يعلم فيها أنه يحـتمل أن يصدر عنه نتيجة السكر سلـوك جريمة تدخـل في اختصاص المحكمة أو تجـاهل فيها هذا الاحـتمال.
ت – يتصـرف على نحو معقـول للدفـاع عن نفسه أو عن شخـص أخـر، أو يدافـع في حالة جـرائم الحـرب عن ممتلكات لا غنى عنها لبقاء الشخـص أو شخص أخـر، أو عن ممتلكات لا غنى عنها لإنجـاز مهـمة عسكرية ضد استخـدام وشيك أو غير وشيك للقـوة، وذلك يتناسب مع درجـة الخـطر الذي يهـدد هذا الشخص أو الشخص الآخـر، أو الممتلكات المقصـود حمايتها واشتراك الشخص في عملية دفاعـية أن تقوم بها قوات لا تشكل في حـد ذاتها سببا لامتناع المسؤولية الجـنائية بموجب هذه الفقـرة الفرعـية .
ث – إذا كان سلـوك المدعي يشكل جـريمة تدخل في اختصاص المحكمة قد حـدث تحت تأثـير إكراه ناتج عن تهديد بالمـوت الوشـيك، أو بحـدوث ضرر بدني جسيـم مستـمر ضد الشخص أو الشخص الآخـر، وتصـرف تصرفـا لازمـا ومعقـولا لتجـنب هذا التهـديد، شريطـة ألا يقصد الشخص أن يتسبب في ضـرر أكثر من الضرر المراد تجـنبه، ويكون ذلك التحـديد:
1- صـادرا عن أشخـاص آخريـن.
2- أو تشـكل بفعـل ظـروف أخـرى خارجـة عن إرادة ذلك الشخـص.
أولا: موانـع المسؤولية الناشـئة عن انعـدام الوعـي
هذه الموانع إذا تم استخلاصها من مخـتلف التشريعـات القانونـية فإنها تتمـثل في: صغر السن، الجـنون، الغيبوبـة الناشئة عن السكر الاضطـراري، وفي هذه الأحـوال الثلاثة يتجـرد الشخص من ملكة الوعـي أو الإدراك، ويتجـرد من القدرة على فهم دلالـة أفعالـه وإدراك توابعـها القانونـية .
1- صغـر السـن: قد يكون سببا في انتـفاء الوعي كليا أو عـدم كفايـته، إذ ينبغي على المسؤولية الجـنائية أن تتعامل على أساس تلك الحـقيقة، إلا أن الوعـي والإرادة لا تتوافر للصغـير دفعـة واحـدة وإنما تدريجـيا، وبغض النظر عن اخـتلاف التشريعات حـول السن التي يكون فيها الصبي ممـيزا، والتي يكون فيها بالغا، فإن المادة 26 من نظـام رومـا الأساسي نصت على ما يلي: "لا يكون للمحـكمة اختصاص على أي شخـص يقـل عمـره عن ثمانـية عشـر عامـا وقت ارتكاب الجـريمة المنسوبـة إليه".
2- الجنـون أو الحالـة العقلـية: الجـنون هو فقـدان الشخـص لملكاته العقلـية على نحو يترتب عليه تجـرده من الوعي والقـدرة على التمـييز ، وقد تعرضـت اللجـنة الدولـية المكلـفة بتحضـير وإنشـاء محكمة دولـية في الباب الثانـي مكرر من المبادئ العامة للقانـون الجـنائي، لمسألـة الجـنون وقصـور القدرة العقلـية إلى عدة اقتراحـات أهمـها :
أ - لا يكون الشخـص مسؤولا جنائـيا ( يكون الشخـص مجنونا بموجـب القانون ) إذ عانى وقت تصرفـه بارتكاب الجـريمة من مرض عقلي أو قصور عقلي يسفر عن افتقـاره إلى القدرة الجوهريـة التي تلزمـه لتقدير الطـابع الإجـرامي ( عـدم المشروعـية ) لتصرفـه، أو تلزمه لمطابـقة تصرفه مع مقتضـيات القانـون، وتسبب ذلك المرض العقـلي أو القصـور العقلي، في تصـرف يشكل جريمة، وفي حال عدم افتقار الشخص إلى قدرة جوهرية تتماشى طبيعتها ودرجتها مع ما ذكر في الفقرة الأولى، وإن كانت تلك القدرة قد قلـت إلى حـد بعـيد وقت تصـرف الشخص يتعـين أن يخـفف الحـكم.
ب – الاخـتلالات العقلـية، إذ لا تقع المسؤولية الجـنائية على الشخص الذي كان مصابـا عند وقـوع الفعل باخـتلال عقلي أو عصبي ألغى قدرته على التمـييز أو السيطـرة على أفعالـه.
تقع المسؤولية الجنائية على الشخص إذا لم تؤد الاختلالات العصبـية التي كان مصابـا بها عند وقـوع الفعل إلى التأثـير على قدرته على التمـييز، أو على قدرته على التمييز، أو على أفعـال دون إلغائها، وتأخـذ المحكمة هذه الظـروف بعين الاعتـبار الحكم بالعقوبـة وتحـديد نظـامها.
تبلـورت هذه الاقتراحـات من خلال ما ورد في نص مشروع التحضير لإنشاء محكمة جنائية دولـية بنص المادة 25 فقرة ( أ ) المشار إليه سابـقا تحـت عنـوان: "أسباب نفـي المسؤولـية الجنائـية" ، حيث جـاءت صياغتـها كما يلي:
"بالإضافـة إلى الأسباب الأخـرى لنفي المسؤولية الجنائـية، التي يسمح بها النظام الأسـاسي، لا يكون الشخص مسؤولا جنائيا إذا كان وقت تصرفـه يعـاني من مرض عقلي أو قصـور، حيث يلغى ذلك الشخص على تقدير عدم مشروعـية سلوكه أو طابعـه أو قدرتـه على التحـكم في تصرفـه بما يتماشى مع مقتضـيات القانـون، وقد تأكـد ذلك من خـلال المادة 31 من نظـام رومـا الأسـاسي للمحـكمة الجـنائية الدولـية المعتمـد في رومـا يوم 17/07/1998 .
3 - الغيبوبـة الناشـئة عن السكر والمـواد المخـدرة: يقـرر المشـرع اعتبار الغيبوبـة الناشئة عن تناول مـادة مسكرة أو مخـدرة مانـعا من موانع المسؤولية الجنائـية إذا تم ذلك اضطـرارا أي بدون علم الجـاني، أو بعلم لكنه بدون إرادتـه، فالشخص الذي يرتكب جريمة تحت وطأة هذه الظروف تمتنع مساءلته جنائيا ، وقد تعرضت اللجـنة الدولية للقانـون الدولي بإنشاء محكمة جنائـية دولية إلى السـكر في الباب 03 مكرر، وأشـارت أنه: "يكون الشخص مخـمورا أو في حالـة تخـدر إذا كان يعجـز تحت تأثيـر الكحـول أو المخـدرات وقت القيام بالفعل الذي يشكل في ظـروف مغايـرة جـريمة، عن صياغة عنصر الإضمـار التي تتطلبه الجريمة المذكـورة، ولا ينطـبق هذا الدفـاع عن الشخص يتعاطى الخـمر طوعـا، وقد تبينت النـية سلفا على ارتـكاب الجـريمة".
وقد نصت المادة 31 الفقـرة (ب) من نظام رومـا الأساسي أسباب امتناع المسؤولية الجـنائية بأنه: "في حالـة سكر مما يعـدم قدرته على إدراك عدم مشروعـية أو طبيـعة سلوكـه، أو قدرته على التحكم في سلوكه بما يتماشى مع مقتضيات القانـون، ما لم يكن الشخص قد سكر باخـتياره في ظل الظـروف يعلم فيها أنه يحـتمل أن يصدر عنه نتيجـة السكر سلـوك بشكل جريـمة تدخـل في اختصاص المحـكمة فيها هذا الاحتـمال".
ونلاحـظ أن هذه المادة فرقـت بين نوعين من السـكر: الأول غير الاختـياري، والثاني هو السكر الاختياري، ففي الحالة الأولى أين يكون الشخص فاقـدا للشعـور والإدراك نتيجـة السكر أو التخـذير تم دون إرادتـه، فيجـعل لسكره هذا أثـرا مانـعا للأهلـية بالنسبة للأفعال المرتكبة أثناء الغيبوبـة، وبالتالي لا يمكن توجـيه أي لـوم إلى إرادته في هذا الشأن، وتتحـقق تلك الفروض في حالة القـوة القاهـرة، وفي الحـالات التي يتناول فيها المسكر على غير علم من الجـاني بأن ما تناوله يعتبر مسكرا، كما لو قدمـه له آخرون بطريقة الحـيلة والخـداع، أو كان هو حسن النية فيما يتناولـه جاهـلا حقيقـة ما يتناولـه، معتقـدا أنها مادة غير مسكرة .
ثانـيا: موانـع المسؤولـية الناتجـة عن انعـدام الإرادة
لا يكفي لقـيام المسؤولية الجـنائية توافـر الوعـي أو التمـييز لدى مرتكب الجـريمة، بل يجب أن يكون متمتـعا بحـرية الاخـتيار، فقد يكون الجـاني ممـيزا واعـيا للحـقيقة والدلالات، ولكنه قد يتجـرد في نفس الوقت من إرادته كلـيا، كما في حالـة الإكـراه المادي أو ما شـابه ذلك كالقـوة القاهـرة، وقد ينقـص من إرادته فحسب على نحو يجعـلها إرادة مقيـدة غير حـرة، ومثال ذلك حالـة الإكـراه المعنـوي .
1- الإكـراه:
يعتـبر الإكـراه بنوعـيه إذا بلغ حـدا من الجسامـة بحيث يجـرد الإرادة اختيارهـا، من موانع المسؤولـية الجـنائية في التشريعـات الوطنـية الجـنائية، وقد اعتبر الإكـراه كذلك فيما يتعلـق بالجـرائم الدولية، وذلك في أحـكام كثيرة صـدرت بعد الحـرب العالمـية الثانـية، وهي نصـوص القوانـين الخاصـة الصـادرة بخصـوص محاكـمة مجـرمي الحـرب، حيث اعتبـرت الإكـراه عـذرا نافـيا للمسؤولـية الجـنائية في حالـة توفـر الشـروط التالية:
أ – إذا ارتكبت الجـريمة لتجـنب خطر حال وجد، ولا يمكن تعويض الضرر بعد حصوله.
ب – أن لا تكون هناك وسائل للتخـلص من هذا الخطر .
يرى الفقيه "بيلا" أن الإكـراه المادي يمنع المسؤولية في القانون الدولي الجـنائي سـواء بالنسبة للدول أو للأفـراد، ومن المعلوم أن هذا الفقيه يرى أن الدولـة قد تكون جـانية ومسؤولـة في القانـون الدولي الجـنائي، ويضـرب مثلا للإكـراه المادي للدولـة القويـة التي تغـزو بجيـوشها أرض دولـة صغـيرة، وتعـتبر أراضيها لمهاجـمة دولـة ثالثة، فتتركها تلك الدولـة الفقيرة بذلك، وتتخـذ من أراضيها قاعـدة للهجـوم لعدم قدرتها على المقاومـة .
يترك للقضاء السلطـة التقديرية في مدى تأثـير الإكـراه على سلب حرية الاختيار وفـقا لظروف كل قضية وملابسـاتها، فقد جـاء في قضاء المحكمة العسكرية الأمريكية في نورمبـرغ (ppurK) ما يشـير إلى ذلك، إذ أن تأثير الإكراه على الإرادة يجب أن يحـدد بمعايير شخصية وليست موضوعيـة، وفي قضية ( Einsatz Gruppen ) من نفس السنة وأمام نفس المحكمة، وردت في حيثيات حكمها أنه: "لا يوجد هناك قانون يلـزم الشخـص البريء بالتضحـية بحـياته أو أن يقاسـي آلامـا خطـيرة من أجل تجنـب ارتكاب جـريمة ما".
كما توصلت لجـنة القانون الدولي سنة 1950 بعد اختلاف كبير في آراء أعضائها إلى أن الإكـراه الحاصل على شخـص بسبب الأوامـر العلـيا يجـعل اختـياره مفقـودا، ومنه المسؤولية الجنائية تنتفي عنه، وقد وضعت هذه اللجـنة الصيـغة التالية: "إن حقيقة كـون الشخـص قد عمل طبـقا لأوامـر حكومته أو رئيسه الأعـلى سـوف لا يكون سببا لإعفائه من المسؤولـية طبـقا للقانـون الدولي، شـرط أن تكون حـرية الاختيار متاحـة له في الواقـع" .
نصت المادة 14 من مشـروع مدونة الجـرائم المخـلة بسلم وأمـن الإنسانـية: "لا تعتبر جريمة الأفعال المرتكـبة في معـرض الدفـاع الشرعي أو تحت الإكراه أو في حالة الضرورة" .
وكذلك نصت المادة 31 فقرة ( د) من نظام رومـا الأساسي للمحكمة الجـنائية الدولية عن أسباب امتناع المسؤولية الدولـية: "إذا كان السلـوك المدعي أنه يشكل جريـمة يدخـل في اختصاص المحكمة قد حـدث تحت تأثير إكـراه، ناتج عن تهـديد بالمـوت الوشيك، أو بحـدوث ضرر بدني جسيم مستمـر أو وشيك ضد ذلك الشخص أو شخص آخر، وتصرف الشخص تصرفـا لازمـا ومعقـولا لتجنب هذا التهديد، شريطـة ألا بقصد الشخص أن يتسبب في ضـرر أكـبر من الضرر المراد تجنبـه، ويكون ذلك التهـديد صادرا عن أشخاص آخرين، أو تشكل بفعل ظـروف أخرى خارجـة عن إرادة ذلك الشخص، فهذا الشخص لا يسأل جنائيـا إذا توافـرت فيه هذه الشروط وقت ارتكاب هذا السلـوك".
2- الغلـط:
لا يتوافـر الركن المعنـوي للجريمة إلا بتوافر عنصري إرادة النشـاط والعلم المتمثل في المعرفة أو الإحاطـة بكافة عناصر الواقعـة الإجرامـية، كما هي محـددة في نموذجـها الإجرامي بالنص القانونـي، وإذا انعـدم هذا العمل كان هناك ما يسمى بالجهل، وإذا توافر ولكن على نحو زائف أو مغاير للحـقيقة، كان هناك ما يسمى بالغلـط، وكلاهما معـدم للعمـد، الذي لا يقوم الركن المعنوي في الجـرائم العمدية إلا به .
يتطلـب القانـون الدولـي الجـنائي وجـوب علم الجـاني بالواقـع الإجـرامي، بل تشددت محكمة نورمبرغ فاشترطت ضرورة توافـر العلم الحقيقي بجمـيع العناصر المكونة للجـريمة لقيام القصد الجـنائي، مؤكدة على أن الجـهل بالوقائع أو الغلط فيها ينفي القصد الجنائـي.
وقد اعتبرت في معظم أحكامها أن القصد غير مباشر ( القصد الاحتمالي ) غير كاف لقيام المسؤولية العمدية بالنسبة لنتائج الفعل الإجرامي التي لم يتوقعها الجاني، وبناء على تشددها القائل بوجـوب توافر القصد الجنائي المباشر في الجرائم الدولية، حكمت محكمة نورمبرغ ببراءة "شاخت" من المساهمة في الأعمال التحضيرية للحـرب، لأنها لم تتوصل إلى أدلة ثابتة حول تأكيد واقعة علمه بالنوايا العدوانـية ضد السـلام .
أما إذا انصب الغلط في القانـون، فهناك قاعـدة عامة في التشريعات الجنائية الحديثة تقضي بأن: "الجهل بالقانون لا يعتبر عـذرا" ، فلا يقبل من الجـاني احتجاجه بجـهل القانـون أو أنه وقع في الغلط أثناء تفسـيره.
في مجـال القانـون الدولي الجنـائي الحـديث، وردت عدة اقتراحات أثناء إنشاء محكمة جنائية دولية لعام 1998، خصت الغلط في الواقع أو في القانون وحصل نقاش فقهي بين مؤيد ومعارض، ولكن واقع القانون الدولي وطبيعة القواعد تدعم وجـهة نظـر الذين أنكروا تطبيق تلك القاعدة في نطاقه، إذ أنه في القانون الدولي يجـعل من مسألة تجـوز نشاط الفرد محيطه الوطني لبلوغ المحيط الدولي يشكل أمـرا استثنائيا.
تشير إلى ذلك تقارير لجنة الأمم المتحدة لجـرائم الحـرب، حيث ورد في أحد تقاريرها إشارة إلى أن فقهاء القانون غالبا ما عارضوا تطبيق قاعدة الجهل بالقانون لا يعتبر عذرا في نطاق القانون الدولي بصورتها المطلقة، لكون الفاعل لا يحسب حسبانا للإلمام بقواعد القانون الدولي كما هو الحال عليه في قانونه الوطني، الذي يكون على اتصال دائم به من خلاله تجاربه: "فكل شخص لابد من أن يحيط علما وأن يكون في وضع يمكنه من الإحاطة بما تحرمه القوانين الوطنية، لكن ليس من المعقول أن تفترض علم الجندي البسيط بكل الأفعال المحرمـة طبقا للقانون الدولي" .
و لذلك فتطبيق قاعدة (( الجهل بالقانون لا يعتبر عذرا )) في القانون الدولي بشكل مطلق أمر يتنافى مع طبيعة قواعده المتجددة، لذلك نجد أغلب المحاكمات التي دارت بعد الحرب العالمية الثانية بخصوص مجرمي الحرب اعتبرت الجهل بالقانون الدولي عذرا نافيا للعنصر المعنوي، وبالتالي للمسؤولية الجنائـية.
وكما تطرقـنا سلفا أثناء تحليلنا للركن المـادي للجـريمة الدولية وكيفية تجليه في نماذج كثيرة من تلك الجـرائم بإحـدى صـوره المتماثلة في السلوكيين السلبي والإيجابي، فإن الركن المعنوي للجريمة الدولية يتجـلى بوضـوح في جـريمة الحرب مثلا، بصفتها جريمة عمدية يتطلب ركنها المعنوي ضـرورة توافـر القصـد الجـنائي وهو القصد العام الذي يتكون من العلم والإرادة، فيجب أن يعلم الجـاني أن الأفعال التي يأتيها تخالف قوانين وعادات الحـرب كما حددها القانون الدولي العام الجنائي في العرف والمعاهدات والمواثيق الدولية، فإذا انتقى هذا العلم انتقى القصد الجنائي، ولا تقع الجـريمة، ولا يكفي أن يثبت الجاني أنه لا يعلم بالمعاهـدة التي تحـظر هذا الفعل، وإنما يجب عليه أن يثبت عدم علمه بالمعروف الدولي الذي يحرمه، كما لا يكفي لانتقاء العلم الامتناع عن التوقيع عن المعاهدة التي تحـظر الفعل، إذ أن الامتناع في حد ذاته يؤكد سوء نية الدولة المبيتة ، فإذا كان المجتمع الدولي لا يستطيع إرغام أي عضو فيه على التوقيع، فإنه مع ذلك يعتبره مسؤولا عن الجريمة الدولـية.
في جريمة الإبادة الجماعية التي تعد من الجرائم العمدية يجب أن يتخذ ركنها المعنوي صورة القصد الجنائي، الذي يتكون من العلم والإرادة، ولكن لا يكفي لتوافر هذا القصد تحقيق القصد العام فقط، وإنما يجب أن يتوافر إلى جانبه قصد خاص وهو قصد الإبادة.
يجب أن يعلم الجاني أن فعله ينطوي على قتل أو ايذاء جسدي أو عقلي جسـيم، وأن يعلم أنه يقع على مجموعة ترتبط بروابط قومـية أو أثنية أو عرقية أو دينية، كما يجب أن تتصرف الارادة إلى ذلك الفعل، وإلى جانب القصد العام السابق يجب أن يتوافر لدى الجاني قصد خاص وهو "قصد الإبـادة"، أي قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة معيـنة.
إذ أن ينصرف علمه وإرادته أيضا أثناء ارتكاب الأفعال المادية السابقة إلى إبادة كلية أو جزئية لأعضاء تلك الجماعة، لذلك يمكن تصـور وقـوع جريمة الإبادة حتى ولو لم تتحقق الإبادة بالفعل، طالما أنه صدر عن الجـاني الأفعال المادية السابقة، وكان قصده مركـزا على إبادة تلك الجماعـة.
المبحـث الرابـع: الركـن الدولـي للجـريمة الدولـية
المطلـب الأول: تعريـف الركـن الدولـي
يقصـد بالركـن الدولـي قـيام الجـريمة الدولـية بناء على تخـطيط مدبـر مـن الدولـة، أو مجموعـة من الدول، وتنفـذ الدولـة الجريـمة الدولـية بالاعتـماد على قوتـها وقدرتـها ووسائـلها الخاصـة .
أحيانـا، قد ينفـذ الجريـمة بعـض الأفـراد، ومع ذلك يتوفـر للجـريمة الدولـية ركـنها الدولـي، إذا مـا تصـرف هـؤلاء باسـم الدولـة أو كوكـلاء عنها، أو بالاستعـانة بقدراتـها.
وبذلك، فالجريمـة الدولـية هـي مـن صنـع الدولـة، أو مـن صنـع القـادرين على اتخـاذ القـرار فيها، أو بناء على توجـيهها وإرادتـها، إذ يصعـب على الفـرد مهما عـظم اسمه أن يرتـكب الجريـمة الدولـية بإمكانياتـه ووسائـله الشخصـية.
المطـلب الثانـي: شـروط وعناصـر الركـن الدولـي
بما أن الركـن الدولـي هـو الذي يمـيز الجـريمة الدولـية عن الجريمـة الجنائـية الداخـلية، فإنه يمكن القـول أن لهذا الركـن جانـبان:
الجـانب الأول: شخـصي
يتجـسد في ضـرورة أن تكون الجـريمة الدولـية باسـم الدولـة، أو برضـا منها، ومع أن السلـوك في الجـريمة الدولـية يرتكـبه الشخـص الطبيـعي، أي الإنسان، فإنـه لا يرتكبه بصفـته الشخصـية تلك، وإنما بناء على طلـب من الدولـة، أو باسمـها، أو برضـا منها.
الجـانب الثانـي: موضـوعي
يتمـثل في أن المصلحـة المشمولـة بالحـماية لها صـفة دولـية، فالجـريمة الدولـية تقـع مساسـا بالمصـالح، أو قيـم المجـتمع الدولـي، أو مرافـقه الحيويـة .
يتدخـل القانـون الدولـي الجـنائي هنـا ليسـبغ حمايـته الجنائـية على هـذه المصـالح، لكـون العـدوان عليـها يخـل بالدعـائم الأساسـية التي يقـوم عليها بنـيان المجـتمع الدولـي، كما يهـدد جهـود تنظـيم العلاقـات الدولـية على أسـاس الـود والتـفاهم بين الدول.
وتتضـح الصـورة أكـثر لبيـان الركـن الدولـي في الجـريمة الدولـية، إذ عند استعراض أنـواع هـذه الجـرائم يتحـقق الركـن في جريـمة التمـييز العنصـري مثلا حـين ترتـكب أفـعال التمـييز السابـقة بـناء على خطـة سياسـية رسمـتها الدولـة، وتنفذهـا أو ترضى بتنفيذهـا، سـواء من طرف الحـكام وكبار المسؤولـين، أو من طرف الموظفـين أو حتى الأفـراد العاديـين.
وتقـع جـريمة التمـييز العنصـري سـواء كـان الجـاني تابـعا للدولـة والمجـني عليه تابـعا لدولـة أخـرى، وهـذا هـو الركـن الدولـي بمعـناه الدقـيق، أم كـان الجـاني والمجـني علـيه تابعـين لدولـة واحـدة، وهـذا هـو الاستثـناء من الركـن الدولـي بمعـناه السابـق، وذلك نظـرا لطبيعـته الخاصـة التي تتمـيز بها الجـرائم ضد الإنسانـية بصفة عامة .
وهـكذا تقـع المسؤولـية الدولـية الجنائـية أيـا كـان الدافـع على عاتـق الأفـراد وأعضـاء المنظـمات والمؤسسات وممثـلي الدول، سـواء كانـوا مقيمـين في إقلـيم الدولـة التي ترتكب فيها الأعمـال، أو في إقلـيم دولـة أخـرى، وهـو مـا أشـارت إليه المادة الثالـثة من الاتفاقـية الدولـية لقمـع جريمـة الفصـل العنصـري في فقرتـها الأولـى .
تتم مساءلـة الجمـيع لتحمـيلهم مسؤولـية دولـية كامـلة عن هـذه الجـريمة، بمن فيهم مرتكـبها والمساهم فيها، والمحـرض عليها والمساعـد أو المشجـع أو المـؤازر لمن ارتكـبها، حسب الفقـرة الثانـية من المادة الثانـية في الاتفاقـية المذكـورة.
و في جريـمة العـدوان مثـلا، يتجـلى الركـن الدولـي في أن هـذه الجـريمة ترتكب بناء على خطـة مدبـرة من قبل دولـة أو مجموعـة دول، أو بناء على الإهمـال أو عـدم احتياطـها، مما يـؤدي إلى انتـهاك القيم الأساسـية في المجـتمع الدولي، التي تحـرص العائـلة الدولـية على صيانتـها، ونلاحـظ أن الركـن الدولـي هو عنصـر مـزدوج بين الدولـة المعتديـة والدولـة الضحـية .
وقد تأكـد ذلك في كافـة الجـرائم المنصـوص عليها في المادة الثانـية من مشـروع تقنيـن الجـرائم ضد أمـن وسـلم البشريـة، والتي جـاء فيها: "إن العـدوان المسـلح والتهـديد به والتحضـير لاستخـدام القـوة المسلحـة في العـدوان، وتنظـيم عصابـات مسلحـة بقصـد الإغـارة على إقلـيم دولـة أخـرى، ومباشـرة أو تشجـيع النشاط الذي يرمـي إلى إثـارة الحـرب الأهلـية في دولـة أخـرى، أو مباشـرة نشـاط إرهـابي في دولـة أخـرى، أو إقليم خاضـع لنظـام دولـي، والتدخـل في الشـؤون الداخـلية والخارجـية لدولـة أخـرى بتدابـير قهريـة ذات طابـع اقتصـادي أو سياسـي، بقصـد شـل إدارتها والحصـول على فوائـد من أي نـوع كـان، لا يمـكن ارتكـابها إلا مـن قبـل سلطـات دولـة".
وقـد أكـدت ذلك محـاكم نورمبـرغ في حكـمها بأن تعـبير "الحـرب العدوانـية" لا ينطـبق إلا على الضـباط العظـام والموظفـين الكـبار، كما لا يعتـبر عمـلا عدوانـيا اشتـباك القـوات المسلحـة التابـعة لدولـة مع أفـراد أو مع شركـة أو هيـئة أو جماعـة من الأفـراد، أو إغـارة عصابـات مسلحـة على قـوات الدولـة، أو العـكس إذا لم تكن هذه الإغـارة الأخـيرة بناء على خطـة الدولـة.
وفي جـرائم الحـرب التي تقـع أثناء الحـرب، أو بمناسبـتها، كقـتل الأسـرى، وسـوء معامـلة المدنـيين في الأراضي المحـتلة، وظـروف الاعتـقال القاسـية، وتعـذيب المعتقـلين بطـرق لا إنسانـية، واستعـمال السـلاح المحـرم دولـيا، نجـد أن الأفـراد يتصرفـون باسـم الدولـة المحـاربة أو الدولـة المحـتلة ولحسابها، أو بوصفهم وكـلاء عنها.
وكل مـا يأتونـه من أفعـال تكـون جـرائم حـرب رغم قيـام الدول في كثـير من الأحـيان بالتبـرؤ من بعض الأعمال اللامشروعـة التي يأتيـها هـؤلاء الأفـراد، وتكييـفها على أسـاس أنها أفعال معزولـة تمـت وفـقا لتصرفـات فرديـة، ولكن التكـرار الممنـهج لهـذه الأعمـال يؤكـد بما لا يـدع مجـالا للشـك أنها تتم وفقـا لأوامـر علـيا صـادرة مـن مراكـز اتخـاذ القـرار في تلك الدول.
المطـلب الثالـث: أهمـية توافـر الركـن الدولـي في قيـام الجـريمة الدولـية
إن الركـن الدولـي للجـريمة يعطـيها بعـدا خاصـا، إذ يجـعلها تتمـيز بالخطـورة وضخامـة النتائـج، ولهـذا فإنها لـن تكـون حتى في أبسـط صورهـا إلا جنائـيا، ولا يمـكن أن نتصـور وجـود جريـمة دولـية ثم تكييـفها على أسـاس جنحـة أو مخالـفة.
وعليه، فإن مسـاس الجـريمة الدولـية بالمصـالح الجوهـرية للمجـتمع الدولـي يجـعل وصفـها هـذا وصـفا خطـيرا وممـيزا يمـيزها عن الجـريمة العاديـة، التي يعالجـها القانـون الجـنائي الداخـلي للدول مهما كانت خطـورتها أو تكييـفها القانـوني.
تكـمن أهمـية الركـن الدولـي للجـريمة الدولـية في استئـثار القضـاء الدولي ببسـط سلطاتـه للنظـر في هـذه الجـرائم، لما لها من وقـع في ضمـير الجماعـة الدولـية، وعليه فإن الركـن الدولي للجريمة الدولـية هو ذلك الأسـاس أو المعـيار الوحـيد الذي يتمـيز به هذا النـوع من الجـرائم عن الجـرائم الداخـلية.
بل إن توافـر العنصـر السياسـي والإيديولـوجي في بناء الركـن الدولـي للجـريمة الدولـية يعطـي لهـذه الأخـيرة الخصـائص الأساسـية، التي بموجـبها تتمـيز عن الجـرائم الوطنـية والخاضـعة لسلطـان القانـون الجنائـي الداخـلي.
فجـرائم الإبـادة والإرهـاب والتمـييز العنصـري مثلا لا يمـكن أن نصفـها بالجـرائم الدولـية، حتى ولو كان لديها بعـدا عالمـيا، إلا إذا تدخـل ذلك العنصـر السياسـي والإيديولـوجي، وكان السـبب المباشـر للدول أو الأفـراد الذين يتكلـمون أو يأتمـرون أو يمثلـون هـذه الدول في إتـيان تلك الأفعـال التي تضـر بالمصلحـة الحيويـة للمجـتمع الدولي.
تبقى الجـريمة الدولـية مميـزة عن باقـي الجـرائم الأخـرى بركنها الدولي، الذي يجـعل منها مفهومـا قانونـيا واسـعا، وتخـضع في معالجـتها لنظـام قضـائي دولـي مـازال لحـد هذا التاريخ لم يـرس قواعـده على أسـاس متفـق عليه دولـيا.
خلاصـة الفصـل الثانـي:
يستـند الركـن الشرعـي للجريمـة الدولـية على مرونـة كبيـرة في استخـدام مبـدأ لا جريـمة ولا عقوبـة إلا بنص، نظـرا لخصوصـية الجريـمة الدولـية التي لم يكن لفكـرتها وجـود سابـقا في نصوص مكتوبـة، وإنما تم التوصـل مؤخـرا إلى تعريفـها والمعاقـبة عليها عن طريـق الاستقـرار على مـا تواتـر عليه العـرف الدولـي.
وقـد ترتـب عن اعتـبار العـرف الدولـي مصـدرا وحـيدا للجـرائم الدولـية عـدة نتائج، على غـرار غمـوض فكـرة الجـريمة الدولـية، وكيفـية التعامـل مع قاعـدة عـدم الرجعـية فـي القانـون الدولـي الجنائـي، إضافـة إلى اللجـوء للقـياس والتفسـير الموسـع.
أما الركـن المـادي للجريـمة الدولـية، فقد تضمـن دراسـة صـور السلـوك المـكون لهـذا الركـن، مع دراسـة المساهـمة والشـروع فـي الجريـمة الدولـية، بعد تعـريف الركـن المـادي بأنه ينصـرف إلى ماديـات الجريـمة، أي المظهـر الذي تظهـر فيه إلى العالـم الخـارجي، على شـكل سلـوك إيجـابي أو سلبـي.
فالسلـوك الإيجـابي يتمـثل فـي القـيام بعـمل يحظـره القانـون ويـؤدي إلى قـيام الجريـمة، فالدولـة التي تقـوم بشـن هجـوم على دولـة أخـرى، أو تغزوهـا، أو تضـربها بالقنابـل، أو تفـرض عليها حصـارا بريـا أو بحريـا أو جـويا، تسـلك سلوكـا مخالـفا للقانـون، وتعـد مرتكبة لجريـمة دولـية، كما أن السلـوك الايجـابي في مفهـوم القانـون الدولـي الجنائـي يتعـدى مفهومـه في القانـون الوطـني، فيشـمل التهـديد بالقـيام بأعـمال عدائـية.
أمـا السلـوك السلبـي، فإنـه يتجـلى في تجـريم القانـون الدولـي الجـنائي لسلـوك الامتـناع لذاتـه، الذي يعتـبره تصرفـا جرمـيا، كامتنـاع سلطـة الدولـة عـن منـع العصابـات المسلحـة من استخـدام إقليـمها كقاعـدة للعملـيات، أو كنقطـة للإغـارة على إقلـيم دولـة أخـرى، إضافـة إلى امتـناع الدولـة عـن الحـد من التسـلح، الذي يعتـبر إخـلالا بالتـزام دولـي يفـرض هـذا التحـديد.
تحـتل الإرادة مكانة محوريـة في الركـن المعنـوي للجريـمة الدولـية، تزامنا مع اعتبارهـا أيضا جوهـر القصـد الجـنائي، إذ أجـمع أغـلب فقـهاء القانـون على أن الركـن المعنـوي للجـريمة هو الذي يوفـر الرابطـة المعنويـة بين الجـاني والجريـمة المقترفـة، وتتخـذ تلك الرابطـة في الأصل مظـهر العمـد، وفي بعض الأحـيان مظهـر الخـطأ غير العمـدي.
اعتبـر فقـهاء القانـون الجـنائي الدولـي الركـن الدولي المعـيار الوحـيد الذي يتمـيز به هذا النـوع من الجـرائم عن الجـرائم الداخـلية، إذ يتجـلى في قـيام الجـريمة الدولـية بناء على تخـطيط مدبـر مـن الدولـة، أو مجموعـة من الدول، وتنفـذ الدولـة الجريـمة الدولـية بالاعتـماد على قوتـها وقدرتـها ووسائـلها الخاصـة.










رد مع اقتباس
قديم 2013-12-30, 00:37   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
adoula 41
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B10 الختمة و المراجع

الــــخـــــاتـــمة :
حاولـت هذه الدراسـة تسليـط الأضـواء القانونـية والقضـائية على الجـريمة الدولـية، عن طـريق تبيـان ماهـيتها وصورهـا، وأركـانها وخصائصـها، إذ استقـر تعريفـنا لها، بعد سـرد عـدة تعـاريف لعـدة فقـهاء فـي القانـون الجـنائي الدولـي، على أنها كـل سلـوك إنسانـي إجرامـي، صـادر عـن فـرد بإرادة إجرامـية، يترتـب عنـه الإخـلال بالنظـام الدولـي، والمسـاس بمصلحـة دولـية معيـنة، غالـبا ما تكـون مشمولـة بحمايـة القانـون الدولـي عن طريـق الجـزاء الجنائـي.
كما أوضحـت هـذه الدراسـة أيضا مدى تمـيز الجريـمة الدولـية عن باقـي الجـرائم الأخـرى التي تشبـهها ظاهريـا، وتتمـيز عنها من حـيث المضمـون، خاصة الجريـمة السياسـية وجريـمة القانـون الداخـلي العـام، والجـريمة العالمـية، فيما كانت أهم خصائص الجريمة الدولية شـدة خطـورتها وجسامـتها، مسألـة التسلـيم، استبعـاد قاعـدة التقـادم من التطبـيق متناولين في نفس الوقت بعض الإشكالات التي أثريت في الواقع العملي بمناسبة تطبيق هذه المبادئ.
وفيما يخص صـور وأنـواع الجـرائم الدولـية،فتناولنا أهمها و مدعمين ذلك بأمثلة من الواقع، و تتمثل هذه الصور على الأخص في الجـرائم ضـد السـلام العالمـي، خاصة العـدوان والدعـاية الإعلامـية لحـرب الاعتـداء، التآمـر ضـد السـلام، وجـرائم الحـرب، كاستعـمال وسـائل قتـال محظـورة: الأسلحـة المتفجـرة والحارقـة والمسمومـة، الأسلحـة الكيـماوية، السـلاح الجرثومـي أو البيولوجـي، السـلاح النـووي أو الـذري، إضافـة إلى الإتـيان بتصرفـات محرمـة، على غـرار الاعتـداء على المدنيين أو المقاتلـين العـزل الأسـرى والجرحـى أثناء سـير المعـارك الحربية، الجرائـم التي ترتـكب في ظـل الاحـتلال، كما تعتبر الجـرائم ضـد الإنسانـية من أهم صـور الجـرائم الدولـية، جـرائم إبـادة الجـنس البشـري وجريـمة التمـييز العنصـري.
وخلافـا للجـرائم الداخـلية الوطنـية التي تتم داخـل إقلـيم كل دولـة، بينت هذه الدراسة أن الركـن الشرعـي للجريمـة الدولـية لا بد أن يتمـتع بمرونـة كبيـرة في استخـدام مبـدأ لا جريـمة ولا عقوبـة إلا بنص، نظـرا لخصوصـية الجريـمة الدولـية التي لم يكن لفكـرتها وجـود سابـقا في نصوص مكتوبـة، وإنما تم التوصـل مؤخـرا إلى تعريفـها والمعاقـبة عليها عن طريـق الاستقـرار على مـا تواتـر عليه العـرف الدولـي.
لقـد ترتـب عن اعتـبار هذا الأخـير مصـدرا وحـيدا للجـرائم الدولـية تميزهـا بالغمـوض وظهور مشاكل كبيرة في تطبيق قاعـدة عـدم الرجعـية فـي القانـون الدولـي الجنائـي، إضافـة إلى اللجـوء للقـياس والتفسـير الموسـع.
تضمـن الركـن المـادي للجريـمة الدولـية دراسـة صـور السلـوك المـكون لهـذا الركـن، دون إغـفال المساهـمة والشـروع فـي الجريـمة الدولـية، خاصة وأن الركـن المـادي، حسب تعريـفه، ينصـرف إلى ماديـات الجريـمة والمظهـر الذي تظهـر فيه إلى العالـم الخـارجي على شـكل سلـوك إيجـابي أو سلبـي.
فالسلـوك الإيجـابي يتمـثل فـي القـيام بعـمل يحظـره القانـون ويـؤدي إلى قـيام الجريـمة، فالدولـة التي تقـوم بشـن هجـوم على دولـة أخـرى، أو تغزوهـا، أو تضـربها بالقنابـل، أو تفـرض عليها حصـارا بريـا أو بحريـا أو جـويا، تسـلك سلوكـا مخالـفا للقانـون، وتعـد مرتكبة لجريـمة دولـية، كما أن السلـوك الايجـابي في مفهـوم القانـون الدولـي الجنائـي يتعـدى مفهومـه في القانـون الوطـني، فيشـمل التهـديد بالقـيام بأعـمال عدائـية.
أمـا السلـوك السلبـي، فإنـه يتجـلى في تجـريم القانـون الدولـي الجـنائي لسلـوك الامتـناع لذاتـه، الذي يعتـبره تصرفـا جرمـيا، كامتنـاع سلطـة الدولـة عـن منـع العصابـات المسلحـة من استخـدام إقليـمها كقاعـدة للعملـيات، أو كنقطـة للإغـارة على إقلـيم دولـة أخـرى، إضافـة إلى امتـناع الدولـة عـن الحـد من التسـلح، الذي يعتـبر إخـلالا بالتـزام دولـي يفـرض هـذا التحـديد.
تزامنا مع اعتبارهـا أيضا جوهـر القصـد الجـنائي، تحـتل الإرادة مكانة محوريـة في الركـن المعنـوي للجريـمة الدولـية، إذ أجـمع أغـلب فقـهاء القانـون على أن الركـن المعنـوي للجـريمة هو الذي يوفـر الرابطـة المعنويـة بين الجـاني والجريـمة المقترفـة، وتتخـذ تلك الرابطـة في الأصل مظـهر العمـد، وفي بعض الأحـيان مظهـر الخـطأ غير العمـدي.
اعتبـر فقـهاء القانـون الجـنائي الدولـي أن الركـن الدولي هو المعـيار الوحـيد الذي تتمـيز به الجريـمة الدولـية من الجـرائم عن الجـرائم الداخـلية، ويرتكـز الركـن الدولـي على قـيام الجـريمة الدولـية بناء على تخـطيط مدبـر مـن الدولـة، أو مجموعـة من الدول، وتنفـذ الدولـة الجريـمة الدولـية بالاعتـماد على قوتـها وقدرتـها ووسائـلها الخاصـة.
يعطـي توافـر عنصـر سياسـي / إيديولـوجي في بناء الركـن الدولـي للجـريمة الدولـية لهـذه الأخـيرة الخصـائص الأساسـية، التي تمـيزها عن باقـي الجـرائم الوطنـية والخاضـعة لسلطـان القانـون الجنائـي الداخـلي.

المراجع
– المراجـع العربـية:
1-1- الكتـب والمؤلـفات:
1 / عـادل قـورة: محاضـرات فـي قانـون العقوبـات ( القسم العام / الجريـمة )، ديـوان المطبوعـات الجامعـية، الجـزائر، طبـعة بدون تـاريخ.
2 / عـباس هاشـم السعـدي: مسؤولـية الفـرد الجنائية عن الجريمة الدولية، دار المطبوعـات الجامعـية، الإسكندريـة، مصـر، 2002، ص12 – 13.
3 / عبد الله سليـمان سليـمان: المقدمـات الأساسيـة في القانـون الدولـي الجـنائي، ديـوان المطبوعـات الجامعـية، الجـزائر، 1992.
4 / عبد الفـتاح خضـر: الجـريمة / أحـكامها العامـة في الاتجاهات المعاصرة والفقه الإسـلامي، مطبـعة معـهد الإدارة العامـة، المملـكة العربـية السعوديـة، 1985.
5 / عبد القـادر البقـيرات: العدالـة الدولـية الجنائية، ( معاقبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانـية)، ديـوان المطبوعـات الجامعـية، الجـزائر، 2005.
6 / علـي عبد القـادر قهـوجي: القانـون الدولـي الجـنائي ( أهم الجـرائم الدولـية / المحـاكم الجـنائية الدولـية )، منشـورات الحـلبي الحقوقـية، بيـروت، لبـنان، الطبـعة الأولـى، 2001.
7 / سليـمان عبد المنعـم: دروس في القانـون الجـنائي الدولـي، دار الجامـعة الجديدة للنشـر، الإسكندريـة، مصـر، 2000.
8 / مأمـون سلامـة: قانـون العقوبـات / القسـم العـام، دار الفـكر العربـي، القاهـرة، مصر، 1979.
9 / محـمد علـي السـيد: في الجـريمة السياسـية، منشـورات الحـلبي الحقوقـية، بيـروت، لبـنان، 2003.
10 / محـمد محـمود خـلف: حـق الدفـاع الشرعـي في القانـون الدولـي الجـنائي، مكتـبة النهضـة المصريـة، القاهـرة، مصـر، الطبـعة الأولـى، 1974.
11 / محـمود صـالح العادلـي: الجريـمة الدولية / دراسة مقارنة، دار الفكر العربي، الإسكندريـة، مصـر، الطبـعة الأولـى، 2002.
12 / محـمود نجـيب حسنـي: النظريـة العامـة للقصـد الجـنائي ( دراسـة تأصيـلية مقارنـة للركـن المعنـوي في الجـرائم العمـدية )، دار النهضـة العربية، القاهـرة، مصـر، الطبـعة الثالـثة، 1988.
13 / مصطفـى كامـل شحاتـة: الاحـتلال الحـربي وقواعـد القانون الدولي المعاصرة، الشركـة الوطنـية للنشـر والتوزيـع، الجـزائر، 1981.
1-2- النصـوص القانونـية والاتفاقـيات والمواثـيق الدولـية:
أ- النصـوص القانونـية:
1 / القانـون رقم 04/18، المـؤرخ في 25/12/2004، المتعـلق بالوقـاية من المخـدرات والمؤثـرات العقلـية وقـمع الاستعـمال والاتجـار غير المشـروع بهما، ديـوان المطبوعـات الجامعـية، الجـزائر، الطبـعة الأولـى، 2004.
2 / القانـون رقم 05/01، المـؤرخ في 06/02/2005، المتعـلق بالوقـاية من تبييض الأمـوال وتمـويل الإرهـاب ومكافحـتهما، ديـوان المطبوعـات الجامعية، الجزائر، الطبـعة الأولى، 2005.
3/ ميثاق السلم و المصالحة الوطنية الصادر بتاريخ 15 غشت 2005.
4/ قانون الوئام المدني الصادر بتاريخ جانفي 2000.
ب – الاتفاقـيات والمواثـيق الدولـية:
1 / اتفاقـية منـع جريمـة الإبـادة الجماعـية والمعاقـبة عليها، اعتمدت وعرضت للتوقـيع والتصـديق بقـرار من الجمعـية العامة 260 ( د- 3 ) المؤرخ في 09/12/1948، تـاريخ بـدء النفـاذ 12/01/1951.
2 / الاتفاقـية الدولـية لقمـع الفصـل العنصـري والمعاقـبة عليه، اعتمـدت وعرضـت للتوقـيع والتصـديق بقـرار من الجمعـية العامـة للأمم المتحـدة 3086 (د-28) المـؤرخ في 30/11/1973 وبـدأ نفاذهـا في 18/07/1976.
3 / العـهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المعروض للتوقيع في 16/12/1966، والذي صـار نافـذا في 23/03/1976.
4 / نظـام رومـا الأسـاسي المتضـمن إنشـاء المحـكمة الجنائـية الدولـية، المعتمد من طـرف مؤتمـر الأمم المتحـدة الدبلومـاسي للمفوضـين بتاريـخ 17/07/1998.
5 / الإعـلان العالمـي لحـقوق الإنسان في 10/12/1948.
6 / النظـام الأسـاسي للمحـكمة الجنائـية الدولـية.
1- 3- المحاضـرات والدوريـات والتقاريـر:
1 / المحاضـر الرسمـية للجمعـية العامـة المتحـدة، الدورة الثانـية، القسم الأول، اللجـنة السادسـة، الملاحـق، وثيـقة رقم 01.
2 / المحـاضر الرسمـية للجمعـية العامـة للأمم المتحـدة، الدورة الخامسـة، ملحـق رقم (12) (أ/1316).
3 / الكتاب السنـوي للجـنة القانـون الدولـي لسنة 1950، الجزء الأول.
4 / حولـية لجـنة القانـون الدولـي، المجـلد الثانـي، تقريـر لجنـة القانـون الدولـي إلى الجمعـية العامـة عن أعـمال دورتها السادسـة والأربعـين، الأمم المتحـدة، نيويـورك وجنـيف 1996.
5 / الكتاب السنـوي للجـنة القانـون الدولـي 1950، الجـزء الأول.
6 / تقريـر لجـنة القانـون الدولـي، الدورة التاسـعة والثلاثون، الملحق رقم 10 (10/42 – 1987) الصـادر عن الأمم المتحـدة.
7 / تقريـر اللجـنة التحضيريـة لإنشـاء محـكمة جنائـية دولـية، المجلد الثاني، مجموعـة المقترحـات، الجمعـية العامـة، الوثيـقة الرسمـية، الدورة الحـادية والخمسـون، الملحـق رقم 22 ألف ( 22/51/A) الأمم المتحدة نيويـورك.
8 / تقريـر اللجـنة التحضيريـة لإنشـاء محكـمة جنائـية دولـية من 16 مارس إلى 03 أفريل 1998، تقريـر الاجتـماع المنعـقد بين الدورات في الفترة من 19 إلى 30 جانفي 1998 في هولـندا، الجمعـية العامـة للأمم المتحـدة، 249 AC/A.
9 / تقـرير "سبيروبولـوس"، المقـرر الخـاص للجـنة القانـون الدولـي 1950.
10 / محاضـرة الفقـيه "رافائيل ليمكين" في جامـعة كاروليـنا الشمالـية بالولايات المتحـدة في مارس 1946 بعنـوان: "جـريمة الإبـادة الجماعـية".
3 – المراجـع الإلكترونـية: ( تاريـخ آخـر إطـلاع: 20/10/2008 )
1 / htt://iraqcp.org//member3/0060207w.htm
2 / htt://www.crimesofwar.org/Arabic/legal17.htm
- 3 / htt://www.ahram.org.eg/archive/2002/1/10/optin6.htm
- 4 / htt://www.atmf.ras.eu.org./article.php3?idarticle=310.
5 / htt://www.albassrah.nrt/maqalat-mukhtara/Arabic/0305/jamil-050305.htm










رد مع اقتباس
قديم 2013-12-30, 00:37   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
adoula 41
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B10 رد

النسخة الأصلية موجودة على الرابط التالي:

https://www.4shared.com/rar/d_kEVYwV/__online.html?










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
الجريمة, الدولية


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 00:04

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc