تشريف الإسلام للمرأة - الصفحة 3 - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الفقه و أصوله

قسم الفقه و أصوله تعرض فيه جميع ما يتعلق بالمسائل الفقهية أو الأصولية و تندرج تحتها المقاصد الاسلامية ..

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

تشريف الإسلام للمرأة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2012-10-10, 10:18   رقم المشاركة : 31
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

لسان الصدق
أما لسان الصدق فهو ما يبقيه الله عز وجل من الثناء بعد موت الصالحين، فإن الذرات تنطق بصدقهم بعد أن رحلوا عن الدنيا، كما يقول القائل: كم الفرق بين أناس موتى تحيا القلوب بذكرهم، وأناس أحياء تموت القلوب برؤيتهم؟! فيبقي الله عز وجل اللسان العطر، والثناء والمدائح لـ ابن حنبل وبشر بن الحارث الحافي ولغيرهما من العباد ومن الزهاد ومن علماء المسلمين.
فـ بشر بن الحارث الحافي هذا الإمام العظيم الذي قال لما سئل عنه الإمام أحمد قال: مثله مثل رجل ركب على رمح، فهل أبقى مكاناً لغيره، ولما خرجوا بجنازته خرجوا به بعد الفجر وبعد الصلاة عليه، فوالله! ما وصلوا إلى قبره إلا بعد صلاة العشاء، حتى بكى علي بن المديني شيخ البخاري وصاح: هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة، هذا عز الدنيا قبل عز الآخرة.
يقول الشاعر عن الصادقين: والناس موتى وهم يحيون في المقل يعني يحيون في حبات الأعين.
وكما جاء في الأثر: أن الجبل ينادي باسم الصادق: هل مر بك ذاكر لله عز وجل؟ فقال: نعم، قال: أبشر.
بل أكثر من هذا، فإن الجماد يعرف الصادق من الكاذب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مروا عليه بجنازة: (مستريح أو مستراح منه! قالوا: يا رسول الله! ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: المستريح العبد المؤمن؛ يستريح من تعب الدنيا ومن نصبها إلى رحمة الله عز وجل، والمستراح منه العبد الفاجر تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب)، إذاً: حتى الشجر والجماد والدواب تعرف الصادق من الكاذب: تحيا بكم كل أرض تنزلون بها كأنكم في بقاع الأرض أمطار وتشتهي العين فيكم منظراً حسناً كأنكم في عيون الناس أقمار لا أوحش الله ربعاً من زيارتكم يا من لهم في الحشا والقلب تذكار كم قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ساحر كذاب وإنه مجنون، بعدما كانوا يلقبونه بالصادق، فلما جاءهم بأمر الله قالوا عنه أنه كذاب، وقد صدقت بنبوته الجمادات: والحق أبلج لو يبغون رؤيته هيهات يبصر من في ناظريه عمى وصرخة الحق تأباها مسامعهم من يسمع الحق منهم يشتكي الصمما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).

(24/5)


مقعد الصدق
جاء في حديث أبي سعيد الخدري قال: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون أنتم النجم الغابر في الأفق من المغرب أو المشرق لتفاضل ما بينهم، قال سيدنا أنس: قلنا يا رسول الله! تلك منازل النبيين لا يبلغها أحد سواهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين).
ومقعد الصدق هي الجنة سماها الله بذلك، كما سمى الله عز وجل دينه بالصدق: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزمر:33] فحصر الإسلام كله في الصدق.

(24/6)


قدم الصدق
أما قدم الصدق فهو ما تقدمه أنت من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفسر بعض العلماء قدم الصدق بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا ينجي العبد إلا صدق القلب، وإقرار القلب ويقينه بربوبية الله عز وجل وألوهيته، فقد ينطق الرجل ويعرف بقلبه أن الله عز وجل واحد، وأنه منفرد بالألوهية وأنه هو الرب، قد يعرف بذلك ولا يصدق، فلا يكون عند الله عز وجل إلا كافراً.
قال سيدنا موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، ففرعون كان يعلم أن للكون إلهاً، ولم يصدق بذلك.
وأبو طالب كان يعلم بقلبه أن للكون إلهاً، ولم يصدق بذلك: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً إذاً: يوجد فرق بين معرفة القلب المعرفة الفهمية بوجود الله عز وجل وألوهيته، وبين صدق القلب، كما قال الله عز وجل عن المنافقين: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]، فيؤكد الله عز وجل على كذب نياتهم، وبكذب ما في قلوبهم وإن قالوها بألسنتهم.
ولذلك فإن الصدق أساس كل شيء؛ لأنه إن كان القلب غير مصدق بألوهية الله عز وجل فالعبد يكون بذلك منافقاً، فأساس كل شيء الصدق.

(24/7)


كلام أهل العلم في الصدق
ثم تعال بعد ذلك إلى كلام أهل العلم في الصدق، فهناك صدق في الأقوال، ولذلك عندما قال الوليد بن عبد الملك لـ عمر بن عبد العزيز: كذبت، قال: ما كذبت مذ علمت أن الكذب يشين صاحبه.
وقال محمد بن كعب: والله! ما يكذب الكاذب إلا لهوان نفسه عليه! ولذا ذكر من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله عز وجل ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم: (ملك كذاب)؛ فالقطر كله ملكه ويكذب، فما الذي يضطره إلى الكذب وهو يستطيع أن يفعل ما يفعل؟! قال عليه الصلاة والسلام: (ملك كذاب، وعائل مستكبر) يعني فقيراً متكبراً.
(وشيخ زان)، أي: بعدما انقطعت أسباب الشهوة ومادة الشهوة من هذا العجوز مازال الفجور فيه.
وقال مطرف بن طريف: والله! ما أود أني كذبت كذبة وأن لي بها الدنيا بأسرها.
وقال إياس بن معاوية بن قرة: والله! ما أود أن أكذب كذبة أعلم أن الله يغفرها وأعطى عليها عشرة آلاف درهم ولا يعلم بها إلا أبي معاوية بن قرة.
ويقول عبد الملك بن مروان لـ إسماعيل بن عبيد الله مؤدب أولاده: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم الكذب وإن كان فيه القتل.
ومن عظم الصدق وفضله أن الله عز وجل يقول: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95]، ومن عظم الصدق أن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، وأثنى الله عز وجل على أنبيائه بالصدق، قال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:56]، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54]، وقال الله تعالى عن مريم: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:75].
قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد:19]، والصديقية أعلى مراتب الدين بعد مرتبة النبوة والرسالة، وهي أعلى من مرتبة التحديث، وعمر كان محدثاً، قال عليه الصلاة والسلام: (إن كان في أمتي محدثون فـ عمر)، والمحدثون أي: أن المولى عز وجل يقذف في قلوبهم الإلهام، فيخبر بشيء في الغد فيحدث مثل حادثة: يا سارية الجبل! ومن استرعى الذئب ظلم.
وأعلى مقامات الصديقية كانت لسيدنا أبي بكر الصديق، قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]، وصدق به سيدنا أبو بكر الصديق، قال سيدنا علي رضي الله عنه: والذي نفسي بيده! إن الله سمى أبا بكر في السماء صديقاً.
وأكثر الناس لو قلت لهم: أتعرف اسم سيدنا أبو بكر الصديق؟ تجد تسعين في المائة من المسلمين لا يعلمون اسمه الحقيقي، وإنما يعلمونه بكنيته وصفته أبو بكر الصديق، لكن اسمه الحقيقي لا يعلمونه وما ضره ذلك، فقد انتشر بين الناس صدقه فالكل يعرفه بأنه الصديق.
ومسيلمة مدعي النبوة، كل الناس يعلمون أنه مسيلمة الكذاب، إلى درجة أنه عندما ذهب إليه سيدنا عمرو بن العاص قبل أن يسلم، فقال له: أسمعك ما جاء به جبريل، قال: أسمعني، قال له: والذاريات ذرواً فالطاحنات طحناً، فالعاجنات عجناً إهالة وسمناً، ثم قال له: ما رأيك؟ قال: والله يا مسيلمة! إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب، أو قال: إنك -يا مسيلمة! - تعرف أنني أكذبك.

(24/8)


درجات الصدق

(24/9)


الصدق في القصد
ومن درجات الصدق: صدق القصد، وهو الذي يكون بقلبه مريداً وجه الله عز وجل والدار الآخرة، فالدرجة الأولى: أنه لا يصبر على صحبة ضد، ولا يتحمل داعية تدعوه إلى نقض عقد، ولا يقعد عن الحال بجد.
ومعنى هذا الكلام أن الرجل الصادق الذي يريد وجه الله عز وجل والدار الآخرة، ويريد أن يصحح ما فاته وما فرط من حق الله عز وجل وغفلته عما أريد له من الحياة مع الحق فلا يصبر على صحبة ضد، فعندما يتوب لا يستطيع أن يعيش مع أهل البطالة والغفلة، ولا يصبر على صحبة ضد، كما يقول القائل: والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي ولا جلست إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي وقال آخر: وشغلت عن فهم الحديث سوى ما كان عنك فإنه شغلي وأديم نحو محدثي وجهي لأرى أن قد عقلت وعندكم عقلي فالإنسان إذا رضي بصحبة أهل البطالة فليعلم أنه ميت يسعى إلى موتى مثله، زمن يسعى إلى زمنى مثله، قبر يسعى إلى قبور مثله.
ولا يصبر على صحبة ضد، ولا يقعد عن الحال بجد، فيقول: فاتني الكثير مع الله عز وجل وما بقيت إلا بقية قد تكون نفساً أو نفسين أو أنفاساً.
ولا ينقض مع الله عهد، فهذه هي الدرجة الأولى من درجات الصدق.
الدرجة الثانية: لا يتمنى الحياة إلا للحق، ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص.
فلا يتمنى الحياة من أجل أن يستلذ بالشهوة من طعام أو شراب أو نكاح، وإنما يتمنى الحياة من أجل الحق، فكل شيء يقربه إلى الله عز وجل، كما قال سيدنا عمر: لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا: لولا سيري على جياد الخيل في سبيل الله، أو أضع جبهتي في التراب ساجداً، أو أجالس قوماً ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر، يعني: لولا الجهاد والصلاة في الليل، وحضور مجالس العلم ما أحببت البقاء في الدنيا.
وسيدنا معاذ بن جبل مقدام العلماء يقول: اللهم إنك تعلم أني ما كنت أحب البقاء في الدنيا لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار، وإنما لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
قيل لـ حذيفة بن اليمان: ما تشتهي عند الموت، قال: أشتهي الجنة.
قيل لـ عمرو بن عبد قيس: ما تشتهي؟ قال: ليلة بعيد ما بين طرفيها، -ليلة شتاء طويلة- أحييها تهجداً لله عز وجل، هذه الدرجة الثانية من درجات الصدق.
الدرجة الثانية لا يتمنى الحياة إلا للحق، ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص، يعني: إذا أعطاه الله رخصة مثل رخصة قصر الصلاة في السفر، فهو لا يأتيها من أجل الترفيه، وإنما يأتيها رضاء بحكم الله عز وجل وتنفيذاً لأمر الله عز وجل، فلا يلتفت إلى ترفيه الرخص، فقد يأتي شخص ويقول لك في مسألة الحجاب والنقاب، يقول: أبحث عن الأولى، وآخر يقول: أنا آخذ بقول جمهور أهل العلم أن الحجاب ليس بفرض، وآخر يقول: آخذ بقول الإمام أحمد أن النقاب هو فرض، والمصيبة أن يأتي أحد الناس يستوي عنده الراجح والمرجوح فيقول: هات لي أسهل قول قال به عالم، ثم يرقع دينه بأقوال العلماء السهلة، بل وبالأقوال التي ظهر أنها خاطئة.
والغناء لا يوجد شخص قال إنه يجوز، فيترك كل العلماء والأحاديث ويقول لك: قد قال ابن حزم بجوازها وقد خطأه العلماء فيها.
وبعض متأخري الأحناف قالوا: حجاب المرأة -وهذا قول ضعيف جداً ولا يقول به أحد- حجاب المرأة إلى منتصف ساقيها، فلو أتيت بامرأة لابسة إلى منتصف ساقيها وتغني الأغاني على مذهب ابن حزم إذاً: فهذه ممكن تكون أختاً ملتزمة! وكذلك يشرب نبيذ التمر على قول أبي حنيفة والبغداديين، وبعد ذلك لا يوجد التزام بالدين، وهذا يؤدي بصاحبه إلى الزندقة، كما قال أهل العلم: من تتبع رخص العلماء وأقوال العلماء الخاطئة وجعل منها ديناً يدين الله عز وجل به فهذا يؤدي به إلى الزندقة، فإن كان يوجد رخصة شرعية فافعلها فإن هذا من رحمة الله تبارك وتعالى بك، وإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه.
الدرجة الثالثة: الصدق في معرفة الصدق: ومعنى ذلك أنك أولاً تعرف الصدق، وما هو المخالف له، وما هي درجاته، ثم بعد ذلك تبدأ في بنيان أمرك على هذا، ونتيجة الصدق أن يرضى عنك ربنا، وتعرف أن الله عز وجل راضٍ عنك قالوا: حتى تصل إلى هذا فإنك تضطر إلى متابعة رسول الله في أي شيء، فإذا رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً وتابعته رضي الله عنك في النهاية.
إذاً: عليك أن تتحرى المتابعة لتفوز برضا الله عز وجل ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهناك صدق بعد هذا من مقامات الدين، وهو صدق في المحاسبة، فهل أنت فعلاً تحاسب نفسك؟ قال ميمون بن مهران: الصادق في محاسبته يحاسب نفسه على الفلتات والزلات والهفوات مثل الشريك البخيل، يظل قائماً على رأسك فيحاسبك على الشيء اليسير، وكذلك أنت تحاسب نفسك على كل هفوة وغفلة، وعلى كل بادرة بدرت منك في حق مولاك.
يقول عمر: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتهيئوا للعرض الأكبر على ربكم، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
كان أحد العباد يأتي في موطن الجهاد يقول: اللهم إن نفسي هذه تزعم في الرخاء أنها تحبك، اللهم إن كانت صادقة فأعطها ما تريد، وإن كانت كاذبة فاحملها على ما تكره، وأطعم لحمي سباعاً وطيراً، وكان له ما أراد.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (إن تصدق الله يصدقك)، وقال: (أفلح إن صدق).
وهذا رجل من العباد لبس أحسن ثيابه، وكان ثوباً أبيض وجبة بيضاء، فلما مر بمروج قال: ما أحلى تحدر الدم على هذه الجبة، وأشار إلى منطقة في صدره، فلما مر بهذا المرج قال: ما أجمل هذا الوادي لو أن رجلاً صاح: يا خيل الله اركبي! قالوا: فوالله! ما أتم كلمته حتى دعا داعي الجهاد، وقد رأى هو في المنام قبلها أن امرأة من أهل الجنة تقول له: سيكون إفطارك غداً عندنا في الجنة، فأصبح من يومه صائماً، فلما دعا داعي الجهاد كان في طليعة القوم، فقذف بالرمح في نفس المكان الذي أشار إليه، ولكن كان الجرح صغيراً لا يقتل نملة، فظل يداعب جرحه، ويقول: والله! إنك لصغير وقد يبارك الله في الصغير فيصبح كبيراً، ومع غروب الشمس فاضت روحه إلى بارئها، ومات وهو صائم.
الصدق في محاسبة النفس: توبة بن الصمة كان بالرقة وكان محاسباً لنفسه، وكان عمره اثنتين وستين سنة، فحسب عدد أيام عمره فوجدها (21500) يوم، قال: كيف ألقى الجليل بـ (21500) ذنب، هذا إذا كان في كل يوم ذنب واحد، فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟ فغشي عليه فمات من شدة محاسبته نفسه وكان صادقاً، فرأى ابنه من يقول له: يا لك رقدة إلى الفردوس الأعلى! أبوك حاسب نفسه حتى أنه مات في المحاسبة.
والصدق في التوبة: فلا تكون توبتك توبة علة، فقد يكون سن الرجل سبعين سنة، وبعد ذلك يقول: الحمد لله تبنا إلى الله عز وجل، وهو لم يتب بعد، ولكن بسبب انقطاع مادة الشهوة، ولذلك يتمنى الرجوع ويقول: ما أجمل الشباب! ويتذكر حلاوة مواقعة الذنب الفينة بعد الفينة، فهذه علامة أنه كذاب.
رجل يتوب لغرض دنيوي، يقول: أتوب من أجل أن يوسع الله لي الرزق، فهذا يتوب لعز التوبة ولا يتوب لذي الجلال، والرجل الذي يتذكر حلاوة الذنب الفينة بعد الفينة، هذا يدل على أن توبته توبة علة.
أما توبة الصدق مثل توبة ماعز فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (والله! لقد تاب توبة لو فرقت على أمة لوسعتهم)، ومثل صدق الغامدية في توبتها، عند أن سبها سيدنا خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مهلاً يا خالد! والله! لقد تابت توبة لو فعلها صاحب مكس لوسعته).
ومثل توبة الفضيل بن عياض فقد كان سارقاً، وكان صاحب نساء، وبينما هو ذات يوم يتسلق الجدار ليصل إلى معشوقته سمع قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] قال: آن الأوان يا رب! ونزل من على الجدار وأراد أن يذهب إلى خربة لينام فيها، فسمع التجار الذين كانوا في الخربة قالوا: إن الفضيل اليوم على الطريق، فلا تخرجوا.
فأعلن توبته، وتمر الأيام وسيدنا سفيان بن عيينة شيخ الإمام الشافعي يميل على يد الفضيل ويقبلها، وعندما مات قال هارون الرشيد: بموت الفضيل يرتفع الحزن والورع من الأرض.
سيدنا عبد الله بن المبارك يقول: كنت كلما قسا قلبي نظرت إلى وجه الفضيل فجدد لي الحزن فأمقت نفسي.
الفضيل بن عياض علم وسيد من سادات الربانيين، يثني عليه العلماء، وكان في البداية سارقاً وقاطعاً للطريق، وصاحباً للنساء.
وبشر بن الحارث الحافي فالإمام أحمد عندما ثبت في محنة خلق القرآن قال لهم: ماذا قال عنا بشر؟ قالوا: قد رضي قولك وفعلك، قال: الحمد الله الذي رضى بشراً بما صنعنا، وكان في بداية أمره يعشق اللهو، وكان غنياً من الأغنياء وكان يجمع في بيته مغنيات وقياناً، فمر بالقصر رجل من الزهاد، قال: لمن هذا القصر؛ لعبد أم لحر؟ -يسأل خادمة البيت- قالت: لحر، قال: صدقت يا بنية! والله لو كان عبداً لاستعمل آداب العبودية، أي: لو كان عبداً لله بالفعل فإنه سيتأدب مع ربه، فسمع بشر بن الحارث الحافي، فخرج وراءه وارتمى على الأرض ومرغ خديه على الأرض، وقال: بل عبد، ثم تاب، ولم يلبس حذاء طول عمره، وكان يقول: طريق صالحت به ربي ألتزمه ما حييت.
وعندما أكون صادقاً في التوبة فإن ربنا يعطني بساتين طاعات في القلب لا أشعر بها.
قال ذو النون المصري: رأيت ضفدعة خرجت من غدير وإذا بأفعى ترتقي ظهرها، فقلت: والله إن لهذه الضفدعة والحية لشأنا

(24/10)


الصدق في النيات والأعمال
ومن درجات الصدق: الصدق في النيات، في أن تنوي بباطنك أن يكون هذا العمل خالصاً لله عز وجل، لا تبتغي جاهاً ولا منزلة ولا هرباً من ذم الناس، وإنما تريد بباطن عملك وجه الله عز وجل: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19 - 21].
ثم بعد ذلك: الصدق في الأعمال، وهو استواء ظاهر العمل على المتابعة لله ولرسوله، أي: أن يكون ظاهر العمل وعلى الكتاب والسنة.
بل قال أبو يعقوب النهرجوري: الصدق استواء السريرة والعلانية بأن يكون ما تبطن مثلما تظهر تماماً، ولذلك بكى أحد العباد وهو أبو عبد الرحمن الزاهد وقال: يا رب! عاملت عبادك فيما بيني وبينهم بالأمانة وعاملتك فيما بيني وبينك بالخيانة.
إذاً: الصدق في الأعمال استواء ظاهر العمل وباطنه، أن يكون ظاهر العمل على الكتاب والسنة واستواء السريرة والعلانية.

(24/11)


الصدق في العزم
ثم هناك صدق في العزم، مثلاً: يقول رجل: أعزم لو أعطاني الله عز وجل مالاً لأتصدقن به أو سأخرج لله منه، مثلما قال سيدنا عمر: والله! لئن أتقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر الصديق، وهو صادق في عزمه هذا.
وهناك كثير من الخطباء يذكر قصة الصحابي الجليل ثعلبة بن حاطب وهذه القصة كلها كذب وحديثها لا يصح، وهي: أن ثعلبة كان يسمى حمامة المسجد، وقال: إن أعطاني الله مالاً لأتصدقن.
والله عز وجل أعطاه مالاً فلم يتصدق، والرسول سأل عنه، فقالوا: لقد غاب عن الجماعة، ولم يخرج زكاة ماله.
وهذا الكلام كله كذب لم يحصل، وإن قال به بعض الخطباء؛ لأن الرجل الذي يمتنع عن الزكاة في الدولة الإسلامية يؤخذ منه شطر ماله، فشطر ماله عزمة من عزمات ربنا كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصدق على الوفاء بالعزم بأن يعزم قبل أن يعمل الشيء، ثم يوفي بعزمه هذا، لذلك لما غاب سيدنا أنس بن النضر عن أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي غزوة بدر حز ذلك في نفسه، ثم قال: والله! لئن أشهدني الله مشهداً معهم ليرين الله ما أصنع.
أي: سيرى الله ماذا سأعمل بالكافرين، فلما كان يوم أحد واستقبل الجبل، قال له سيدنا سعد بن معاذ: إلى أين يا أبا عمرو؟! قال: إليك عني، واها لريح الجنة! إني لأشم ريحها دون أحد.
ولذلك قال أبو تراب النخشبي: إن الصادق يعطيه الله عز وجل حلاوة العمل قبل الشروع فيه، فسيدنا أنس بن النضر لم يحارب بعد وإذا به يشم رائحة الجنة.
قالوا: ثلاثة لا تخطئ الصادق: الحلاوة والملاحة والهيبة، حلاوة المنطق مثل سيدنا الحسن البصري، والملاحة مثل سيدنا وكيع بن الجراح الذي ينظر إليه الإنسان فيقول: هذا ملك كريم، والهيبة مثل سيدنا مالك بن أنس، فقد كان أمير المدينة يقول: والله! لحملي غبار العقيق على رأسي -أي: أن أحمل غبار جبل على رأسي- أهون علي من لقاء مالك.
فوالله! ما عرفت الذل إلا ببابه.
فسيدنا أنس بن النضر قال: إليك عني واها لريح الجنة! إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد، فلما تقدم إلى القتال قاتل حتى قتل، قالت أخته الربيع بنت النضر: فما عرفته إلا ببنانه، وفيه نزل قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
ومن الصادقين صديق الأنصار سيدنا سعد بن معاذ كما يلقبه ابن القيم يقول: إنه صديق الأنصار، فقد كانت منزلته لصدقه في الأنصار مثل منزلة أبي بكر في المهاجرين، وفي يوم بدر قال لرسول صلى الله عليه وسلم: إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك.
هذا الصديق العظيم ثاني الصديقين في هذه الأمة سيدنا سعد بن معاذ، أصيب في أكحله في غزوة من الغزوات فتناثر الدم -وأكبر شريان في جسمه هو الشريان الموجود في الكاحل- وتقاطر الدم على كل من في الخيمة، وأراد رسول الله أن يعالجه فلم يبرأ الجرح، وكذلك فعل سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر حتى بكى سيدنا رسول الله، وضعه في حجره وبكى، قال: (اللهم إني قد رضيت عن سعد، فارض عنه).
ومازال يعالجه والجرح لم يشف، انظر قوة دفع الدم من الشريان فنطق هذا الصديق بكلمة واحدة قال: اللهم إن كنت قد أبقيت رسولك لحرب يهود فأبقني، قالوا: فوالله! ما نزف الشريان وما قطر الشريان قطرة واحدة بعد ذلك، واحتبس الدم وعالجوه عند رفيدة الطبيبة الأنصارية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه كل يوم، ونزل سيدنا جبريل في يوم من الأيام على رسول الله وكان مؤتزراً بعمامته فقال: من هذا الذي مات من أمتك؟ ونزل إلى الأرض من الملائكة سبعون ألف ملك لجنازته ما نزلوا إلى الأرض قبل يومهم هذا، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع إلى رفيدة، فقالت: يا رسول الله! اشتد به الوجع فأتى قومه بنو عبد الأشهل فحملوه إلى ديارهم، فأسرع رسول الله السير لتشييعه، فقالوا: يا رسول الله! أتعبتنا جداً تقطعت شسوعنا، قال: (أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة، فلما وقف رسول الله على بابه وجد أمه تنوح)، وأغلب النساء النائحات يكن كاذبات، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن الصدق وصل من قلب سعد إلى أمه، فما ناحت عليه إلا بصدق، قالت له: ويل ابنك سعد حزامة وجداً وفارساً معداً، تبكي فروسيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل نائحة تكذب إلا أم سعد أو إلا نائحة سعد).
ولما وضعوه في قبره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عرش الرحمن اهتز لموت سعد)، لأنه بعدما حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود فرفضوا أن ينزلوا على حكم رسول الله، وقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ؛ ظناً منهم أنه سيحابيهم، فسيدنا سعد حكم فيهم وقال: حكمي فيهم أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى نساؤهم وذراريهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله! لقد حكمت فيهم يا سعد! بحكم الله من فوق سبع سماوات)، وفي رواية: (والله يا سعد! لقد حكمت فيهم بحكم الملك) أي: الحكم الذي يريده الله، وحكم الله هو الذي نطقت به يا سعد، فانظر لرجل موافق حكمه وقوله قول الله عز وجل، أي رجال أعز من هؤلاء؟! ثم بعد أن تم إعدام اليهود على ضوء سعف النخيل، وكان سيدنا علي بن أبي طالب هو الذي يتولى قطع أعناقهم، وبعد أن رجموهم ذهب سيدنا سعد ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم افجره؛ شوقاً إليك، أي: الشريان الذي كان ينزف، فانفجر الشريان؛ لأنه صدق في الدعاء وفي القول، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: (إن عرش الرحمن اهتز لموت سعد)، وفي رواية جود إسنادها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء قال: (إن عرش الرحمن اهتز فرحاً بموت سعد اشتاق إلى الله عز وجل)، ولما أخذوا في دفنه خرجت روائح المسك من قبره.

(24/12)


الصدق في الأقوال
أول درجات الصدق: الصدق في الأقوال: حتى يتم للعبد كمال الصدق، فلابد أن يكون عنده صدق في الأقوال، وصدق في الأحوال، وصدق في الأعمال.
صدق في الأقوال: استواء اللسان على الصدق.
صدق الأعمال: أن يكون ظاهر العمل على المتابعة للكتاب والسنة.
صدق في الأحوال: أن تكون النية لله عز وجل، وأن يكون باطن العمل لله عز وجل.
والصدق مفتاح الصديقية، ولا ينال هذه الدرجة كاذب على الله عز وجل بنفي ما أثبت من الأسماء والصفات، أو إثبات ما نفي، أو بتحريم ما أحل، أو بتحليل ما حرم، ولا ينالها كاذب على الله عز وجل فيما شرعه.
وكمال هذه الدرجة أن يحترز الإنسان عن المعاريض، يعني: لا يلجأ إلى المعاريض إلا إذا علم هلاك عمره، يعني: لا تعلم ابنك وتقول له: قل: أبي ليس هاهنا، بحيث إنه يعمل دائرة ويضع أصبعه في نصف الدائرة، فيقصد: أبي ليس في هذه الدائرة، فلا يلجأ لهذه المعاريض إلا عندما تتيقن أنه سيضيع عمرك، وأنه سيظل السائل عنك يتكلم معك عشر ساعات، أما أن تعلم لابنك أن يقول: أبي ليس هاهنا ويضع أصبعه في نصف الدائرة، ويظن بهذا أنه ليس كاذباً، فيجب أن يراعي حقيقة المعاني التي ينطق بها.
رجل عند أن يدخل في الصلاة يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً، وقلبه عند مباراة الأهلي والزمالك، فلا ينفع هذا، فهو لم يوجه وجهه ولا شيء من هذا القبيل.
رجل عند أن يدخل في الصلاة يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، إذاً: لن يتحلى العبد بالعبودية التامة لله عز وجل حتى يتخلص من كل رق: رق الشهوات والأموال والجاه والرياسة، وهنا تحل العبودية الكاملة لله عز وجل.
إذاً: للعبودية معنى، فكل من تقيد بقيد شيء فهو عبد له، قال عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة!).
وكمال الصدق في القول أن تصدق في موطن لا ينجيك فيه إلا الكذب، مثل سيدنا ربعي بن حراش وهو أحد رواة الكتب الستة، وهذا العبد الصادق ما كذب قط، وكان الحجاج يطارد ابنيه، فقالوا للحجاج: لو قلت لـ ربعي عن مكان ولديه لم يكذبك أبداً، فأتى بـ ربعي بن حراش فقال له: أين ولداك؟ قال: الله المستعان! هما في البيت، يعني: مخبئهم في البيت، فأعجبه صدقه فعفا عن ولديه، قال: عفونا عنهما من أجل صدقك.
الجيلاني إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، من أئمة الحنابلة، تعلم على يديه ابن قدامة، والإمام ابن قدامة شيخ كبار الحنابلة، قال الجيلاني: خرجت في طلب العلم وأنا ابن سبع، فمررنا بأرض يقال لها همدان، فخرج علينا جماعة من الأعراب -من اللصوص- سرقوا كل ما عندنا، فأتى إلي لص كبير، وقال: ما معك؟ قلت: أربعون ديناراً -يعني: أربعون جنيهاً من الذهب- فتركه، ثم أتى إليه لص آخر قال: ما تحمل؟ قال: أربعون ديناراً، فأتى به إلى كبير اللصوص، قال: ما حملك على أن تقول ذلك، لماذا لم تكذب؟ قال: عاهدت أمي على الصدق فلا أخون عهدها، فبكى كبير قطاع اللصوص وقال: أنت لا تخون عهد أمك وأنا لا أبالي ألا أخون عهد الله عز وجل، فأنا تائب اليوم على يديك، فقال بقية اللصوص: كنت كبيرنا في السرقة، فأنت اليوم كبيرنا في التوبة، وتابوا على يد الجيلاني على يد طفل صادق.

(24/13)


الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
لقد خلق الله السماوات والأرض قبل أن يخلق بني آدم، وقدر فيها الخير والشر، وجعل من عباده الأخيار والفجار، وفاوت بينهم في الأعمال والمنازل في الدنيا والآخرة، فلا يستوي أولياء الرحمن وأولياء الشيطان في كل المراحل والأزمان.

(25/1)


محنة في فلسطين في زمن الذل والهوان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: فكل كلمات المعاجم لا تكفي لتصوير ذل المسلمين وبؤسهم في فلسطين: القدس في القيد تبكي من فوارسها دمع المنابر يشكو للمصلينا قدساه في اليم ماتت قدسنا ذبحت ونحن في العار نسقي وحلنا طينا أي الحكايا ستروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا ولكن لن تعود القدس بالمظاهرات، ولن تعود القدس بالتهييج الفارغ، ولن تعود القدس بخروج بنت مدرسة ثانوية متبرجة غاية التبرج ثم تهيج الناس في الشوارع بأغان أو بكذا، أو برجل لابس بنطلون (شرلستون) أو كذا ويمسك بيده فتاة مثلاً وهم في قلب المظاهرة، وإنما تعود القدس بعودة جيوش صلاح الدين الأيوبي.
والتاريخ يعيد نفسه، وصلت الأمة الإسلامية في أوقات من الذل والهوان إلى أكثر مما نحن فيه في أيام التتر، كان الجندي التتري يقول للمسلم: انتظرني هاهنا حتى آتي بحجر أقتلك به، فينتظره المسلم.
ثم من الله عز وجل بـ قطز، وسيمن الله عز وجل بـ صلاح الدين الأيوبي من جديد يوم أن تكون الأمة مهيأة لذلك، يوم أن يكون الصفوة من الكوادر مهيئين لذلك بالدعوة إلى الله عز وجل، والصبر على الدعوة أفضل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال القرطبي: تدعو! وتدعو! وتدعو! حتى يأذن الله تبارك وتعالى بالفرج وليس لك إلا هذا، وأن توضح للناس أن عداءنا لهؤلاء القوم عداوة دينية مستحكمة، كما يقول المولى عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
والدين كله فرق، سمى الله عز وجل كتابه فرقاناً، وسمى يوم بدر يوم الفرقان، وجعل رسوله صلى الله عليه وسلم فرقاً ما بين الباطل والحق.
ولقد أقسم الله عز وجل أنه لا يسوي بين المتضادين، ويجمع بين المتماثلين، قال الله عز وجل: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14] قولوا للناس: تعالوا إلى رحاب الله عز وجل، إذا أردتم أن تدخلوا فلسطين فاستقيموا على درب الله عز وجل.
إن فلسطين لن تعود إلا بالاتباع، انظر هل أنت مع الله عز وجل؟! هل أنت ممن بقي مع الله عز وجل أو من بقي عن الله عز وجل؟! هل أنت راغب عن الله عز وجل أم راغب إلى الله عز وجل؟! هل أنت منقطع إلى الله عز وجل أم شارد عن طريق الله عز وجل؟!

(25/2)


مقارنات بين المؤمن والفاجر

(25/3)








 


رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:18   رقم المشاركة : 32
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


الفرق بين المؤمن والفاجر في العيش
كم بين الأولياء والأعداء؟ وهل تستوي الظلمة والضياء، واليقين والتهمة، والوصلة والفرقة، والمعتكف على بساط الأنس، والمنحرف عن الباب، والمتصف بالولاء، والمنحرف عن الوفاء؟ لا يستوي المشغول بهم والمشغول عنهم، والمنقطع إليهم والمحجوب عنهم، لا يستوي من اصطفاه في الأزل ومن ران على قلبه سوء العمل.
أفمن كان في حال القرب يجر أذياله كمن هو في مذلة الفراق يقاسي وباله؟! أفمن كان في روح القربة ونسيم الزلفة كمن هو في هول العقوبة يعاني مشقة الكلفة؟! أفمن هو في روح إقبالهم عليه كمن هو في محنة إعراضهم عنه؟! أفمن بقي مع الله عز وجل كمن رغب عن الله عز وجل؟! أفمن هو في نهار العرفان وضياء الإحسان كمن هو في ليالي الكفران ووحشة العصيان؟! أفمن أيد بنور البرهان وطلعت عليه شموس العرفان كمن اتسم بالخذلان ووسم بالحرمان؟! لا يستويان ولا يلتقيان.
هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقصت خطى حمالة الخطب فكما لا يجتنى من الشوك العنب، كذلك لا ينزل الله الأبرار منازل الفجار.
هما طريقان: أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي ليس من بات قريراً عينه مثل من أصبح قصراً دارسا ليس من أكرم بالقرب كمن ظل يهذي بلعل وعسى ليس من ألبس أثواب التقى مثل من ألبس ثوباً دنسا ليس من سير به مثل الذي بات يرعى للحمى مبتئسا ليس من شاهد صبحاً واضحاً مثل من شاهد ليلاً غلسا ليس من أشبه غصناً يانعاً مثل من أشبه عوداً يابسا قال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18].
وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:20 - 22].
وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28].
وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22].
وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58].
وقال تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40].
وقال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20].
وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17].
وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد:19].
وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36].
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
من أخصر القضايا في القرآن الكريم: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، تجد في القرآن أربعمائة وخمسين وجهاً تقريباً للمقارنة بين المقبل على الله عز وجل والمعرض عنه، وهذا يحتاج جمعه لمدة سنتين، فلو أخذنا نقطة واحدة: عيش هذا وعيش هذا، كما قال الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126].
قال الإمام ابن القيم في الحياة الطيبة: قد فسرت الحياة الطيبة بالقناعة والرضا والرزق الحسن، وغير ذلك والصواب: أنها حياة القلب وسروره، وبهجته ونعيمه، ومعرفة الله ومحبته، والإنابة إليه والتوكل عليه، فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة.
ألم يقل الإمام ابن القيم: مساكين أهل الدنيا! خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أجمل ما فيها: لذة الأنس بالله عز وجل.
ويقول: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً.
ويقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب.
ويقول إبراهيم بن أدهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف.
إن كنت في سعادة حقاً فلم تحرم غيرك من المسلمين من الدعوة إلى هذه السعادة؟! إن كنت في نعيم الأنس بالله عز وجل فلم لا تصبر على دعوة الناس؟! لو أن معك ألف ملتزم فقط، وصبرت على الدعوة إلى الله عز وجل، وتهذيب من معك بالعلم والعمل والصبر على الدعوة، فكم سيكون معك بعد عشر سنوات؟ لو علمت أن هذا الذي تربيه أنت يدعو إلى الله عز وجل، وينشر ما يتعلمه كم سيكون العدد بعد عشر سنوات؟! لو صبرت بدلاً من التهييج الفارغ سيكون هناك عدد كبير جداً، احصره ثم اسأل نفسك كم ضيعت من السنوات مع الله عز وجل؟ اصبر على الدعوة إلى الله عز وجل، واصطبر لعبادته مثلما صبر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(25/4)
الفرق بين المؤمن والفاجر في الحياة
يقول ابن القيم: قد ذكر غير واحد من أهل العلم منهم أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي وغيره: أن أعمال الرسل والأنبياء والمؤمنين في الدنيا أفضل من نعيم الجنة أي: أن أعمال المؤمنين في الدنيا من صلاة، وزكاة، وجهاد نفس، ومحبة لله عز وجل، وشوق إلى الله عز وجل: أفضل من نعيم الجنة، لماذا؟ قال: لأن نعيم الجنة حظ الناس من الله عز وجل وتمتعهم، فأين يقاس إلى الإيمان؟ حظ الناس من التمتع والأكل والشرب ونكاح الحور العين أين يقاس مع الإيمان وأعماله، والصلوات، وقراءة القرآن، والجهاد في سبيل الله؟! فالإيمان متعلق به سبحانه، وهو حقه على العباد.
ونعيم الجنة متعلق بهم وهو حظهم، فهم إنما خلقوا للعبادة وعلى الطرف الآخر قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] جمهور المفسرين فسروها أنها عذاب القبر.
قال ابن القيم: والحقيقة أن المعيشة الضنك في الدور الثلاث، فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله فله من ضيق الصدر، ونكد العيش، وكثرة الخوف، وشدة الحرص والتعب على الدنيا، والتحسر على فواتها قبل حصولها وبعد حصولها، والآلام التي في خلال ذلك ما لا يشعر به القلب لسكرته وانغماسه في السكر، فأي عيش أضيق من هذا العيش لو كان في القلب شعور؟! في قلبه الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة، فهو في جحيم قبل الجحيم الأكبر: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل:71 - 72] ذقتم قليلاً من العيش النكد قبل الجحيم الأكبر في الدار الآخرة.
يقول ابن القيم: فهذا المتاع ذاته شقوة في الدنيا والآخرة، غصة تعقبه، وعقابيل تتبعه، يتخبط في القلق والحيرة والتكفؤ والاندفاع من طرف إلى طرف، ضنك الانقطاع عن الله عز وجل، وضنك القلق والشك والحرص والحذر والحسرة على كل ما يفوت، هو منكوس موكوس منحوس، عنده غبش ولبس في الرؤية وتأرجح في الخطوة، وحيرة وشرود في الاتجاه، وطريق بهيم لا معالم فيه.
قولوا للناس: من وجد الله فماذا فقد؟! ومن فقد الله فماذا وجد؟!! كما لا يجتنى من الشوك العنب، لا ينزل الله الأبرار منازل الفجار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت الدنيا همه؛ فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له منها، ومن كانت الآخرة همه؛ جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
(25/5)
الفرق بين المؤمن والفاجر في القرب من الله
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: فهذا مع الله عز وجل، وذاك مع الشياطين هذا في معية الله الخاصة وهذا تتنزل عليه الشياطين!! هذا تتنزل عليه الملائكة تثبته، وربما تسلم عليه، مثلما فعلت مع عمران بن حصين لما صبر على أذى المرض قال: إن الملائكة لتسلم علي.
وكما قال الصحابة: إن السكينة تنطق على لسان عمر، أي: إن الملائكة تنطق على لسان عمر.
أي حال حال هذا الذي يفر الشيطان من وجهه؛ (ما رآك الشيطان في طريق يا ابن الخطاب إلا وسلك سبيلاً غيره).
فاروق الإسلام، سمي الفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل.
من وجد الله فماذا فقد؟ ومن فقد الله فماذا وجد؟!! من كان مع الله فإن الله يدافع عنه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].
ويصلي عليه: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب:43] صلاة الله ثناؤه على العبد، فماذا تريد بعد ذلك؟! كفاك جزاء على الطاعة أن رضي منك أن يستغفر لك حملة العرش ما تساوي الأرض ومن عليها حتى يستغفر حملة العرش لعابد؟! يستغفر لك الأنبياء قبل مجيئك إلى دار الدنيا نوح عليه السلام أول نبي أرسل يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] إذاً: دخلت في الجملة، بل يقيم الله عز وجل رسوله ليستغفر لك قبل مجيئك إلى الدنيا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19].
فلو حسبت عملك كله في دار الدنيا مدة سبع سنوات وتخرج منه مكالمة الهاتف والموبايلات والأكل والشرب والذهاب إلى العمل وحصرت العبادة المحضة مدة سبع سنوات لوجدت أنها لا تساوي شيئاً؛ لكن ينمي الله عز وجل هذا العمل القليل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة - مليون حسنة - ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفعه ألف ألف درجة في الجنة، وبنى له بيتاً في الجنة) قولوا للناس هذا حببوا إلى الناس الإيمان والعمل الصالح ذكروهم بفضل الله يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] يعني: يقتلون أولياءه، ثم يدعوهم بعد ذلك إلى التوبة، وهذه حاله مع من أعرض عنه مع من فتن أولياءه ثم تاب فكيف حاله مع من بقي مع الله عز وجل؟! والآخر يقول عنه المولى عز وجل: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] رجل في سلم مع الله عز وجل سلام العقل والضمير والأسرة والمجتمع سلم مع الكون سلم مع الحياة وآخر في حرب مع الله عز وجل! هذا يسلم المولى عز وجل عليه: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات:78] {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات:109] والآخر يقول فيه المولى عز وجل: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود:99].
هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، إنهم وأن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم.
هؤلاء مولاهم الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11].
هذا تفرح الأرض به، وتشتاق لمشيه عليها، وهذا تشمئز الأرض منه تلعنه حشرات الأرض وهوامها ينادي الجبل باسمه: هل مر بك ذاكر لله عز وجل؟ فإن قال: نعم، قال: أبشر بخير يوم طلع عليك.
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان:29] هذا في شأن العاصي أو الكافر، أما المؤمن فإن الأرض تبكي عليه عند موته، تبكي غدوه ورواحه إلى المسجد، ومصعد عمله من السماء! فما ظنك بنهار هذا ونهار ذاك، وليل هذا وليل ذاك، وسماء هذا وسماء ذاك، وعلم هذا وعلم ذاك، ونوم هذا ونوم ذاك، وثوب هذا وثوب ذاك؟! يعني: حتى لو لم يكن الثوب ملبوساً، فستجد هذا الثوب جلباباً أبيض وطاقية فيها مسك وسواك، وثوب العاصي فيه ضنك، فهذا الثوب يعرف وإن لم يكن ملبوساً، فما ظنك بكل لحظة من لحظات حياته، فهذا في جحيم وهذا في نعيم! انظر إلى قلب هذا وقلب ذاك طمأنينة هذا القلب وريبة هذا القلب سلامة هذا القلب ومرض هذا القلب خشوع هذا القلب وكبر ذاك القلب تقوى هذا القلب وزيغ هذا القلب لين هذا القلب وقسوة هذا القلب وجل هذا القلب وغيظ ذاك القلب! هذا القلب المنيب الصالح، وذاك القلب اللاهي والمغمور في المنكر، طول عمله في استحسان القبائح والركون إلى الظلمة قبول الفتن واطراح الحياء من الخلق والجرأة على الخالق والشح والإعجاب والوهن والاستكانة للعدو والاشمئزاز القلب والصد والشذوذ كل هذا بعد عن الله! يقول الله في الحديث القدسي: (من تقرب إلي شبراً تقربت منه ذارعاً، ومن تقرب إلي ذارعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) ومن أتاني هرولة؟! سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها) هذا في الجوارح فكيف بمن تقرب إلى الله عز وجل بروحه وقلبه؟! قال ابن القيم: وهذه منازل في القرب لا تحيط بها العقول وتكفي الإشارة إليها فقط: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب دون نزوله ما معنى: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها) وقوله: (من أتاني يمشي أتيته هرولة)، إذاً يأتيه المولى عز وجل كيف؟!! منازل في القرب لا تحيط بها العقول، وهذه منازل في الجفوة والإعراض ووحشة القلب لا يحيط بها شيء.
(25/6)
الفرق بين المؤمن والفاجر عند سكرات الموت وما بعدها
وعند السكرات هذا تتنزل عليه الملائكة فتقول له: (اخرجي أيتها الروح الطيبة! كانت في الجسد الطيب، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان) وهو يتقلب في نعيم الجنة، بعد ذاك لا ينسى بشارة ملك الموت له.
وهذا الآخر كما قال الله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27].
انظر إلى هذا وذاك! هذا تصعد روحه في كفن من أكفان الجنة، هل يساوي عمله هذا الكفن؟! والله لا يساويه، وهذا جاءه الكفن خصيصاً من الجنة، بل لا تخرج روحه إلا في ضبائر الريحان يؤتى له: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة:88 - 89] يؤتى له بضبائر الريحان من الجنة يشمها، وعند شمها تقبض روحه.
هذا يشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، بعد ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وسمك كل سماء خمسمائة عام، يعني: تشيعه الملائكة مسيرة ألف سنة ضوئية أنت لو مشيت في جنازة شخص ست ساعات تقول: ارموا بها في هذا المكان، كفى مشياً! أما الفاجر فلا تفتح له أبواب السماوات هذا يقال له: (أن صدق عبدي) وهذا يقال له: (أن كذب عبدي)؟! والله لو لم يكن من جزاء إلا هذا لكفى.
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! اللهم صل على محمد وآله.
اللهم إنا لا نملك إلا الدعاء لإخواننا من أهل فلسطين، اللهم ارفع الكرب عنهم، اللهم ارفع الكرب عنهم، اللهم ارفع الكرب عنهم، اللهم ثبتهم، اللهم ثبتهم، اللهم ثبتهم، اللهم احم أعراضهم، واحقن دمائهم، احم أعراضهم واحقن دمائهم، واحفظ أبطالهم، اللهم احفظ أبطالهم، اللهم احفظ أبطالهم.
اللهم ثبت قلوبهم، وسدد رميهم، اللهم عليك بمن ظلمهم، خذ لدينك منهم حتى ترضى، وخذ لأعراض المسلمين حتى ترضى، خذ لبيوت المسلمين حتى ترضى، وخذ لأطفال المسلمين حتى ترضى، خذ لنساء المسلمين حتى ترضى.
إذا أردتم أن تنصروا أهل فلسطين فكونوا من الصالحين وادعوا الناس إلى صراط الله عز وجل، وسيأذن الله عز وجل بالنصر، نحن أحرص على أمن هذا البلد من أي إنسان كائناً من كان، هذه البلدة بلدتنا، حبيبة إلينا؛ لأنها أرض من أرض الإسلام ندعو إلى الله عز وجل فيها، فاملئوا البلاد طولاً وعرضاً بالدعوة إلى الله عز وجل، علموا الناس وادعوهم إلى صراط الله عز وجل، واصبروا على دعوتهم عسى الله عز وجل أن يأذن بنصر من عنده.
(25/7)
القدس
إن للقدس مكانة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى، فهي مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، ومجتمع الملائكة، ومهد عيسى، وملك سليمان بن داود، ومهاجر إبراهيم، ومأوى الرسالات، وقد شرفها سبحانه وذكرها في كتابه، وجعل أمرها للمسلمين في كل زمان ومكان، فواجبنا نحوها أن نسعى إلى تحريرها من أيدي اليهود الغاصبين، كما حررها عمر وصلاح الدين.
(26/1)
مكانة القدس في الإسلام وواجب المسلمين نحوها
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
القدس مدينة السلام، ومسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، ومجتمع الملائكة، ومهد عيسى، وملك سليمان بن داود، ومهاجر إبراهيم عليه السلام، ومأوى الرسالات والديانات.
هذه القدس التي شرفها الله عز وجل بذكرها في كتابه الكريم، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] فهي قدسية الفرع والآباء والأجداد، قدسية التراب المبارك حوله، فقد نص القرآن على قدسيتها وعلى طهارتها، وبسببها أوقف الله عز وجل الشمس ليوشع بن نون نبي من أنبياء الله عز وجل، وهو فتى موسى الذي تولى حكم بني إسرائيل بعد وفاة نبي الله موسى، فلما توفي نبي الله موسى بأرض التيه قبل أن يفتح بيت المقدس فتحه فتاه يوشع بن نون نبي بني إسرائيل، فكان يقاتل الكفار الذين في هذه المدينة، فحبس الله عز وجل له الشمس عن المغيب حتى يستكمل فتح هذه المدينة المباركة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حبست الشمس على بشر قط إلا على يوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن سليمان عليه السلام: (إن سليمان عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالاً ثلاثة: سأله حكماً يصادف حكمه فأوتيه) يعني: أن يحكم فيما يتعرض له من الفتاوى بحكم يوافق حكم الله عز وجل، ثم قال: (وسأل الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا تنهزه -أي: لا تأتي به- إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) هذا الحديث صححه الشيخ الألباني.
يعني: أن سيدنا سليمان بن داود سأل ربه حكماً يوافق حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي أحد بيت المقدس للصلاة فيه لا يخرجه من بيته إلا الصلاة فيه، أن يغفر الله عز وجل له كل ذنوبه، وأن يخرجه من خطاياه كيوم ولدته أمه، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) يعني: لا يأتي أحد للصلاة في بيت المقدس إلا غفر الله له ذنوبه كلها وكل ما تقدم من ذنبه، وهذه كرامة عظيمة ومنقبة لبيت المقدس، والخلافة المقدسة التي ستكون علامة هذه النبوة في آخر الزمان سيكون مقرها بيت المقدس في فلسطين، كما جاء في حديث عبد الله بن حوالة لما وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسه قال له: (كيف أنت يا ابن حوالة إذا نزلت الخلافة بالأرض المقدسة؟ لساعة يومئذ أقرب إليكم من قرب يدي هذه من رأسك).
هذه المدينة المقدسة وجّه النبي صلى الله عليه وسلم جل اهتمامه -بعد أن حرر الكعبة من الأوثان- وجّه كل همّه تجاه بيت المقدس، فأرسل أعز أحبابه زيد بن حارثة وابن عمه جعفر الطيار الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أشبهت خلقي وخُلُقي) وعبد الله بن رواحة، وجههم إلى مؤتة، وهي من أرض فلسطين، وسالت دماء زيد وجعفر الطيار وعبد الله بن رواحة على ثرى فلسطين في مؤتة، ولم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقد بيده الشريفة اللواء لـ أسامة بن زيد يدفعه لملاقاة الروم، ولما داهمت جيوش المرتدين المدينة وأحاطت بالمدينة كلها، قالوا لـ أبي بكر الصديق: لا تنفذ بعث أسامة، قال: والله! لو أخذت خيول الروم بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذت بعث أسامة، وما كنت لأحل عقداً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.
ووجّه الصديق الجيوش لفتح بلاد الشام، وفتح سيدنا عمرو بن العاص أكثر مدن فلسطين، فتح غزة ويافا ونابلس، وكانت الجيوش التي وقفت على أبواب فلسطين تحت قيادة أمين هذه الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح، ورفض القساوسة ببيت المقدس أن يسلموا المفتاح إلا لـ عمر، وأرسل أبو عبيدة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بأن يأتي لفتح بيت المقدس، فأتى على دابته، فقال له أبو عبيدة لما تلقاه في الشام: يا أمير المؤمنين! إنك تلقى وجهاء الناس وكبراءهم فلو غيرت دابتك وثوبك، وقد أعطاه ثوب كتان بدلاً من ثوبه المرقع، فضربه عمر في صدره وقال: لو قالها غيرك يا أبا عبيدة! ليس الأمر هاهنا -يعني: ليس الأمر من شأن الأرض ومن عليها- إنما الأمر هناك وأشار إلى السماء، ثم قال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، ثم جعل عمر يقول: أما تنظر إلى هؤلاء ينظرون إلى مراكب قوم لا خلاق لهم، ولما دخل عمر بيت المقدس وجدهم قد جمعوا النجاسات والحيض ووضعوها في بيت المقدس، فجعل عمر رضي الله عنه يجمع بثوبه الشريف هذه النجاسات ويخرجها منه، فلما رأى الصحابة والتابعون فعل أمير المؤمنين عمر جعلوا يفعلون ما يفعل، وأخذ عمر العهد على نصارى إيليا (بيت المقدس)، وهذه الوثيقة العمرية مسجلة في التاريخ، واشترط النصارى على أنفسهم الآتي: أن نوقر المسلمين في مجالسهم، وأن يقام لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، وأن تدق الأجراس في جوف الكنائس دقاً خفيفاً بحيث لا يسمعها المسلمون، وألا نتشبه بالمسلمين في لبس نعل ولا في فرق شعر إلى غير ذلك.
هذه وثيقة فيها كل العز، وكان من نص الوثيقة: أنه لا يسمح لليهود بدخولها.
وهؤلاء اليهود يكذبون ويقولون: إن لنا أصلاً في القدس وإن الهيكل دُمِّر تدميراً كاملاً، والحفريات طوال مائة سنة في الواقع لم تعثر على حجر واحد من حجارة الهيكل المزعوم، ويقولون: إن لنا حضارة في بيت المقدس منذ ثلاثة آلاف سنة، مع أن النصارى بأنفسهم اشترطوا على المسلمين ألا يسكن اليهود في بيت المقدس، وظلت القدس عزيزة عظيمة في أيدي المسلمين، وسيدنا عمر بن عبد العزيز لما أراد البيعة جمع ولاة الأمر وأخذ البيعة له منهم في بيت المقدس، وعبد الملك بن مروان أخذ بيعة الخلافة في بيت المقدس، والوليد بن عبد الملك باني قبة الصخرة أيضاً أخذ الخلافة في بيت المقدس، وزكوات مصر أوقفت في الخلافة الأموية لمدة سبع سنوات كاملة، أوقفها الوليد بن عبد الملك على بناء قبة الصخرة وما حول بيت المقدس؛ فلماذا هان هذا المسجد وهذه الأماكن الطيبة الطاهرة علينا؟ بيروت في اليم ماتت قدسنا ذُبحت ونحن في العار نسقي وحلنا طينا أي الحكايا ستروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا القدس في القيد تبكي من فوارسها دمع المنابر يشكو للمصلينا أقزامنا ضيعونا حينما فسقوا باعوا المآذن والقرآن والدينا أقزامنا من توارى صوتهم فزعاً والأرض تسبى وبيروت تنادينا أقزامنا من أضاعوا السيف من يدنا وأودعونا سجون الليل تطوينا قم من ترابك يا بن العاص في دمنا ثأر طويل لهيب العار يكوينا قم يا بلال وأذن صمتنا عدم كل الذي كان طهراً لم يعد فينا هل من صلاح يداوي جرح أمته ويطلع الصبح ناراً من ليالينا هل من صلاح لشعب هده أمل ما زال رغم عناد الجرح يشفينا جرحي عنيد وجرحي أنت يا وطني جئنا نداويك تأبى أن تداوينا إني أرى القدس في عينيك ساجدة تبكي عليك وأنت الآن تبكينا ما زال في العين طيف القدس يجمعنا لا الحلم مات ولا الأحزان تنسينا
(26/2)
ذكر وقت احتلال الصليبيين للقدس ودور آل زنكي وصلاح الدين في تحريرها منهم
لقد كان أول احتلال للصليبيين للقدس في يوم الجمعة سنة (482هـ) وكان في عهد الفاطميين غلاة الشيعة الزنادقة المارقين بمصر، ويومها سلموا القدس للصليبيين ولم يدافعوا عنها، ولم يقاتلوا في سبيلها، ولم يرفعوا سلاحاً في وجه الصليبيين، فتكالبت الجيوش الصليبية على احتلال بيت المقدس، واحتلوا الرها أول مدينة احتلت من بلاد الشام، ثم احتلوا أنطاكية، ثم دخلوا إلى بيت المقدس بعد حصار أربعين يوماً، ولما دخلوها لم يوفوا للمسلمين بأي عهد، حتى سار القائد الصليبي الذي فتح بيت المقدس في شوارع القدس وصار الدم إلى ركبتيه، وقتلوا سبعين ألف مسلم، وجعلوا الصليب على قبة الصخرة، وجعلوا من المحراب مربطاً لخيولهم وخنازيرهم، وبقي الصليبيون (91) سنة في القدس، وفعلوا بالمسلمين الأفاعيل.
وهناك رسالة دكتوراه محضرة في جامع الأزهر عن الحقد الصليبي تثبت أنه في أثناء احتلال الصليبيين لمدينة معرة النعمان ذبحوا بعض المسلمين وشووهم وأكلوا لحومهم، وهذا ثابت، وهو ينم عن الحقد الصليبي والتعصب الصليبي ضد الإسلام والمسلمين.
ثم بدأ المسلمون يستيقظون في عهد عماد الدين زنكي، واستردوا مدينة الرها، وهي أول مدينة استردوها من الصليبيين، وفرح المسلمون فرحاً عظيماً، حتى سموها فتح الفتوح، ثم مات عماد الدين زنكي قبل أن يكمل تحرير بيت المقدس، فتولى الأمر من بعده ولده نور الدين محمود زنكي سلطان الشام، وكان صلاح الدين الأيوبي عاملاً من عمّاله فأرسله إلى مصر مع عمه أسد الدين شيركوه.
ونور الدين محمود زنكي السلطان الزاهد العابد أعد منبراً ليدخل به بيت المقدس يوم تحريره ليخطب عليه؛ وعندما حاصر الصليبيون مدينة دمياط أرسل إلى أسد الدين شيركوه وصلاح الدين بالجيوش من الشام، واشتد به الأمر واجتمع مع أركان حربه فقالوا له: إن لك حديثاً يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلسلة كلها بالتبسم فتبسم أنت حتى تكمل السلسلة لك قال: إني لأستحي من الله عز وجل أن يراني مبتسماً والفرنج محاصرون لدمياط، يقول عنه إمام مسجده: ولقد امتنع والله عن تناول الطعام والشراب من كثرة الغم والحزن الذي اعتراه.
هذا السلطان العظيم سلطان الشام كانت له مواقف عظيمة في صد الصليبيين، منها: موقعة حارم فقد اجتمع له ثلاثون ألف صليبي يتزعمهم كل ملوك أوروبا، فقتل عشرة آلاف وأسر عشرة آلاف، ولما اشتدت الوطأة في موقعة حارم نزل عن فرسه واحتمى خلف تل وجعل يعفر خده في التراب ويقول: اللهم لا تنصر عبدك محموداً وانصر دينك وعبادك، ما شأن محمود الكلب بين الله وبين عباده؟ فلما اشتد حصار الصليبيين لدمياط رأى إمام المسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: بشِّر نور الدين محمود زنكي بأن الله قد رفع الحصار عن دمياط، قال: قلت: يا رسول الله وما علامة ذلك؟ قال: قل له: العلامة علامة تل حارم؛ قال: فتلقيته عند دخوله المسجد قبيل صلاة الفجر فقلت له: أيها السلطان أبشرك بانتصار المسلمين في دمياط، فقال: وما علامة ذلك؟ قال: إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: قل لـ محمود: العلامة علامة تل حارم يوم أن عفرت وجهك في التراب وقلت: اللهم انصر بلادك ودينك ولا تنصر محموداً ما شأن محمود بين الله وبين عباده؟ هذه القصة ذكرها ابن الأثير وابن كثير والإمام الذهبي في تاريخه.
فخر نور الدين محمود زنكي ساجداً لله عز وجل فرحاً باكياً.
هذا السلطان العظيم كان يكثر التهجد بالليل، وكذلك كانت زوجته عصمة الدين بنت الأتابك خاتون، ففي ذات ليلة قامت امرأته غاضبة من نومها، فسألها عن سر غضبها فقالت: فاتني ورد البارحة فلم أصل من الليل شيئاً، وقال ابن الأثير: إن بعض المسلمين لما دخلوا بيت المقدس أيام أخذ الفرنجة لها سمعوهم يقولون: إن القسيم بن القسيم -يعنون نور الدين محمود زنكي - لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، وإنما لأنه يصف قدمه بين يدي ربه ليلاً، فلا بد أن ربه ناصره علينا.
قال ابن الأثير: فهذه شهادة الكفار في حقه، شهدوا له أن هذا العبد صالح وسينصره الله تبارك وتعالى.
(26/3)
تولي صلاح الدين أمور الحكم ودوره في تحرير القدس
ومات نور الدين محمود زنكي قبل أن يكحّل ناظريه بفتح بيت المقدس، وأكمل المسيرة صلاح الدين الأيوبي سنة (555) هجرية.
قال أبو حميد الطويل: دخلت على إمام الموصل الشيخ عمر الملا فوجدت رجلاً من المصريين يقول له: رأيت فيما يرى النائم أن أرضاً مملوئة بالخنازير وأن رجلاً معه سيف يقتل هذه الخنازير، قال: فظننت أنه المسيح عيسى بن مريم فقلت: المسيح عيسى بن مريم؟ قال: لا، بل يوسف -فـ يوسف هذا هو صلاح الدين الأيوبي - والناس ظنوا أن يوسف بن تاشفين هو الذي سيحرر بيت المقدس، أو ظنوه المستنجد بالله الخليفة العباسي، فلما كان تحرير بيت المقدس على يد يوسف صلاح الدين الأيوبي تذكر هذا العبد الصالح تلك الرؤية الصالحة.
ورأت أم صلاح الدين يوم حملت به من يبشرها: أن بطنك هذه تحمل سيفاً من سيوف الله عز وجل، ألا يا صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر يحاصرنا في اليوم بليون كافر ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر حصانك في سيناء يشرب دمعه ويا لعذاب الخيل إذ تتذكر وتأبى جراحي أن تضم شفاها كأن جراح الحب لا تتخثر تناديك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبر نساء فلسطين تكحلن الأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصّر وليمون يافا يابس في حقوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر وأصرخ يا أرض المروآت احبلي لعل صلاحاً ثانياً سوف يظهر مرض صلاح الدين الأيوبي فقال له قاضيه الفاضل ووزيره: انذر لله عز وجل إن شفاك الله من مرضك أن توجه كل همك لتحرير بيت المقدس، فنذر لله عز وجل بذلك، فلما شفاه الله من مرضه وفّى بهذا النذر، وأرسل إليه شاب من دمشق كان سجيناً في بيت المقدس يقول له: يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكّس جاءت إليك رسالة تسعى من البيت المقدس كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أدنس فتوجه صلاح الدين الأيوبي لفتح بيت المقدس والتقى بالصليبيين في حطين في آخر ربيع الآخر، وكان عدد الصليبيين ستين ألفاً ومعهم ملوك أوروبا، وانتصر صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين، وكانت معركة عظيمة لم يُسمع بها إلا في زمن الصحابة والتابعين، فمن رأى الأسرى قال: ليس هناك قتيل، ومن رأى القتلى قال: ليس هناك أسير، فقد أسر ثلاثين ألفاً، وقتل ثلاثين ألفاً، ووقع كل ملوك أوروبا في الأسر ومنهم رجل اسمه البرنس أرناط وكان شديد العداوة لله ورسوله، حتى أنه قبض على جماعة من المسلمين عند قرية الشوبك، فجعلوا يسألونه بالله وبالعهد الذي قطعه مع المسلمين فقال: نادوا محمداً ليخلصكم ثم قتلهم، فنذر صلاح الدين الأيوبي إن مكنه الله من أرناط أن يقتله، فلما وقع ملوك أوروبا كلهم في الأسر قتله، وكان يوماً عظيماً للمسلمين.
قال ابن الأثير: ولقد رأينا الفلاَّح من بلاد الشام يجر بطنب خيمته يسوق ستة وثلاثين أو خمسة وثلاثين من أسرى الفرنجة، ورأينا الرجل من الصليبيين يُباع بـ (زربول) يعني: نعل في لغة الشام -يباع الرجل منهم (بزربول) وهذا يدل على هوانهم في تلك الموقعة.
ولما تقدم الملوك الأسرى فكان من عادة العرب لو سقوا أسيراً أو أطعموه لا يقتلونه، فالسلطان جفري صاحب الكرك أراد أن ينجي أرناط من قتل صلاح الدين له فأعطاه الشراب الذي قدّمه له صلاح الدين ليسقيه من عطشه، فقال له صلاح الدين: أنت الذي سقيته، أنا ما سقيته، ثم قال: أنا نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليه الإسلام فأبى، فقتله بسيفه؛ غضبة لله ولرسوله.
وفي السابع والعشرين من رجب سنة (583 هجرية) حاصرت جيوش صلاح الدين بيت المقدس من كل الجوانب، واستعد المجاهدون والمتطوعة برميها بالنفاطات وبالمجانيق، وعند ذلك عرض بليان بن نيزران والي القدس من قبل الصليبيين على صلاح الدين الأيوبي أن يتنازل له بالقدس صلحاً، فقال له صلاح الدين: والله! لا آخذها إلا عنوة كما أخذتموها من المسلمين عنوة، وأقتل رجالكم وأسبي نساءكم، فقال له بليان بن برزان: إذاً والله نقتل كل من معنا من أسرى المسلمين -وكانوا خمسة آلاف أسير- ونقتل نساءنا وأطفالنا، ونهدم المصانع -يعني: البيوت- ونغور نبع بيسان، ثم نخرج إليكم نقاتلكم في الصحراء، لا يقتل منا قتيل إلا قتل منكم عشرة ودون قيامة تقوم القيامة، وهنا استشار صلاح الدين رجال مشورته ورق لأسرى المسلمين، ورضي أن يخرجوا من بيت المقدس وترك لهم مهلة أربعين يوماً، والذي لا يستطيع أن يدفع من الرجال عشرة دنانير ومن النساء خمسة دنانير وعن كل طفل وطفلة ديناران يقع في أسر المسلمين، فوقع في أسر المسلمين بهذا الشرط بعد أربعين يوماً ستة عشر ألف أسير، وضم إلى بيت مال المسلمين مائتا ألف دينار، ودخل المسلمون في السابع والعشرين من شهر رجب بيت المقدس وكان يوم جمعة، ولم يستطيعوا أن يصلوا الجمعة في ذلك اليوم؛ لكثرة ما كان فيه من النجاسات والخنازير، وظلوا أسبوعاً كاملاً يغسلون بيت المقدس بالماء الطاهر، ثم بعد ذلك بماء الورد الفاخر، وأنزل الصليب من فوق قبة الصخرة، وعلا الأذان، وخفت صوت القسيسين والرهبان، وعُبد الواحد، وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وصدر المنشور من السلطان أن يتولى رجل من قريش الإمامة في المسجد، فأتى بكل آيات الحمد المذكورة في القرآن الكريم؛ وكانت هذه الأيام أياماً عظيمة.
ويا قدس هل أبقيت دمعاً لنائح حنانيك من شوق ومن عبرات ثم قام صلاح الدين الأيوبي بعد تحريره لبيت المقدس بتحرير باقي القلاع، وقبل أن يحرر بيت المقدس فتح عكا وصلى الجمعة في مسجدها في شهر محرم سنة (583 هجرية) بعد غياب صلاة الجمعة مدة اثنين وسبعين سنة عن عكا، وحرر أربعة آلاف أسير مسلم كانوا في عكا، وافتتح خمسين مدينة.
هذا الرجل العظيم صلاح الدين الأيوبي كان يشكو من الدماميل في ظهره وفي وسطه، حتى إنه ما كان يأكل إلا متكئاً على جنبه، وبرغم هذا كان يعتلي صهوة جواده ويظل من الفجر إلى قرب صلاة الظهر، ومن العصر إلى المغرب وهو يطوف على أمراء جيشه، فيقول له قاضيه ابن شداد: إنك لا تستطيع الأكل إلا متكئاً! فيقول: والله إني إذا ارتقيت ظهر جوادي أنسى هذه الدماميل.
هذا السلطان العظيم الذي يقول: ما لنا بالإقامة في دمشق، إنما خلقنا للجهاد في سبيل الله عز وجل ويقول قاضيه ابن شداد عن هذا البطل العظيم الذي قنع بالسكون في ظل خيمة، وترك أولاده ثلاث سنوات في مصر وهو مرابط ومجاهد هناك في حصون الشام، يقول القاضي ابن شداد: لما رأيت البحر في عكا وكان أول يوم أرى فيه البحر قال: لو قيل نعطيك ملك الدنيا كله في سبيل أن تخوض البحر ميلاً واحداً قال: والله ما استطعت ذلك، قال: فلما وقف صلاح الدين الأيوبي قال: أتدري ما أمنيتي؟ قال: لا، قال: إذا أكملت فتح بقية الساحل قسمت البلاد بين أولادي وودعت وأوصيت، ثم ركبت البحر فلا أدع جزيرة يكفر فيها بالله عز وجل إلا وأدخلتهم في دين الله عز وجل.
قلت له: يا أمير المؤمنين! إنك سور الإسلام ومنعته، وفي هذا خطر على الإسلام.
قال: ما هي أشرف الميتات؟ قلت: الشهادة في سبيل الله عز وجل، قال: حسبي هذا.
وظلت القدس في أيدي المسلمين حتى أيام الدولة العثمانية، ولما فككت الدولة العثمانية دخل الجنرال اللنبي قائد القوات الصليبية في (9) ديسمبر سنة (1917م) مدينة القدس، ثم ذهب إلى قبر صلاح الدين وركله بقدمه وقال: الآن انتهت الحروب الصليبية يا صلاح الدين.
وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه رُسم الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريق المصاحف فيه طيب
(26/4)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:19   رقم المشاركة : 33
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

أسباب ضياع القدس من المسلمين
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: لقد كان تقسيم فلسطين بقرار من الأمم المتحدة، وكان تحت الانتداب البريطاني ووعد بلفور، واجتمع الخونة كلهم على بلاد المسلمين، وسقطت القدس، ثم أتت بعد ذلك حرب (1967م) لتكمل على البقية الباقية، وغُيّب دين الله عز وجل عن المعركة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصرة والتمكين في الأرض والنصر، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له عند الله من نصيب)، فعندما يُغيّب الإسلام عن المعركة وتكون المعركة علمانية بحتة يضيع ملك المسلمين.
فضاعت فلسطين وسط الاتفاقيات، ومن المخزي أن في يوم (28) سبتمبر عام (1995م) بعد توقيع اتفاقية توسع الحكم الذاتي الفلسطيني في واشنطن دخل رابين مع عرفات بعض المتاحف، وكانت هناك خطبة لـ رابين وخطبة لـ عرفات؛ فبدأ عرفات بالخطبة ثم تلاه رابين، فأنصت إلى عرفات جيداً، ثم قال: في تراثنا اليهودي قول مأثور: أن رياضة اليهودي هي فن الخطابة، ثم بعد فترة من الصمت وبكثير من الجدية قال مخاطباً عرفات: بدأت أعتقد أيها الرئيس عرفات أنك قد تكون يهودياً! وهنا علا الضحك واستمر التصفيق.
يقول الشاعر عن القدس: سافرت فيك ولم يزل يحلو السفر سفري يصارع كل أشكال الوهن سافرت فيك وأنتِ عذراء الوطن سافرت فيكِ ولستِ خضراء الدمن لا أصل جدكِ ساقط لا فرع أمك هابط لا اسم أهلكِ يغتبن يا عطر كل الأنبياء المخلصين يا زهر كل الأولياء المتقين من قال اسمك ممتهن؟ من قال سيفك يرتهن؟ هذا حديث الإفك مصنوع ومدفوع ومقبوض الثمن قديسة الآباء والأجداد والتاريخ والفرع الحسن قديسة الترب المبارك حوله يا حبنا يا قدسنا قديسة الرؤيا الجليلة والأماني والصور سافرت فيكِ وفوق راحلتي عمر وأنا رفيق ركابه والقدس في مرمى البصر وصهيل خيلكِ في الشمال وفي الجنوب وفي البوادي والحضر وفوارس الجيل العظيم تدق أبواب الظفر وأبو عبيدة والمثنى وابن وقاص وخالد في دمي وسيوفهم نشوى تذود عن الأقصى الخطر عمري على مهري ومهري فوق ساحكِ لا يبالي بالجنود وبالقرود وبالذباب وبالحمر سافرت فيكِ وحبنا ينمو على لهب الطهارة والغضب فلترضعيه من الشرايين التي لم تأكل الثمر المحرم لم تصل للكراسي والركب فلترضعيه من الشرايين التي ما لاكت الكذب الشريف ولا نمت في حضن حاملة الحطب فلترضعيه من الشرايين التي ما حاصرت شعب الصمود ولم تذل للمستبد أبي لهب فلترضعيه من الشرايين التي لم تحتسي بحر السراب ولم تلقن من مسيلمة الكذب فلترضعيه من الشرايين التي ما سلمت لبني قريظة دينها أو أنفها أو سيفها أو حرفها أو أغلى صباح يرتقب لن تعود القدس إلا حينما تكون الراية إسلامية بحتة، ولن تفتح القدس إلا على يد رجال مثل صلاح الدين الأيوبي.
وعندما أرسل إليه الفرنجة يفاوضونه في القدس قال: القدس مسرى نبينا ومجتمع الملائكة، لا أستطيع أن أتلفظ بلفظ واحد بين المسلمين عن القدس.
وذلك عندما قالوا له: ضاعت الدماء بسبب القدس هذه! فالحرب بيننا وبين الصليبيين حرب دينية بحتة.
في سنة (1967م) في كتاب لبنت موشي ديان اسمه (جندي من إسرائيل) تُرجم إلى أغلب لغات العالم، تقول فيه: كان الجنود الإسرائيليون ترتعد فرائصها منا، قالت: ثم أتى إلينا حاخام من اليهود فاستحال الخوف أمناً، بينما كانت إذاعات العدو -يعني: إذاعات مصر- تقول: قاتل وأم كلثوم معك في المعركة، قاتل أعداء الربيع، قاتل أعداء الحياة، قاتل وعبد الحليم معك في المعركة، فكانت الهزيمة السافرة.
وعندما تكون دينية بحتة، فهؤلاء اليهود قتلة الأنبياء وإخوان القردة والخنازير، وهم من غضب الله تبارك وتعالى عليهم، وهم الذين وضعوا السم لنبيك عليه الصلاة والسلام، وأنهم الذين قتلوا زكريا، وقتلوا يحيى حينها تكون للحرب قيمة؛ أما حين تدافع عن الرمل وعن تراب، صحيح هي بلادنا وفي حدقة أعيننا، ولكن يجب أن يكون الشعار لله عز وجل، فيوم أن دوى شعار (الله أكبر) انتصر المسلمون في (1973م)، فلنعد إلى ديننا والعود أحمد.
اللهم أبرم لأمتك من يعلي شأن دينها، اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يُعزُّ فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
رب اجعلنا لك ذكّارين، لك شكّارين، إليك أواهين مخبتين منيبين.
تقبّل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا.
بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، ولبابك نطرق فلا تطردنا.
اللهم عليك باليهود أعداء دينك، اللهم عليك باليهود أعداء دينك، اللهم عليك باليهود أعداء دينك.
اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً.
اللهم اجعل خلاص البلاد منهم على أيدينا.
اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك تبيض بها وجوهنا يوم نلقاك.
اللهم أقبل بقلوب شباب المسلمين إلى كتابك وسنة نبيك.
اللهم ارزقنا الفقه والإخلاص.
اللهم اهد حكام المسلمين إلى العمل بكتابك وبسنة نبيك.
اللهم اهد حكام المسلمين إلى تحرير بيت المقدس.
اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك.
اللهم أعل هممنا، وانصر المسلمين في الشيشان وفي كشمير وفي الفلبين وفي فلسطين، وانصر المسلمين المستضعفين في كل مكان.

(26/5)


واجب المسلمين تجاه نصرة المستضعفين منهم
نقلت وكالات الأنباء في صورة الطفل الذي قتل في حضن أبيه، هذه المأساة التي هزّت المجتمع الغربي الصليبي فما بالها لا توقظ النوّم من المسلمين! يقول الشاعر: وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه رُسم الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريق المصاحف فيه طيب فالواحد لا يتصور أن ملياراً وربع مليار مسلم، يعني: ألف مليون ومائتان وخمسون مليون مسلم لا يستطيعون أن ينتصروا على سبعة أو عشرة ملايين من اليهود، فلا يستطيع الإنسان أن يتصور هذا أبداً؛ لأن المسلمين لم يعد لهم إلا بطونهم وشهواتهم، وأما أويس القرني العبد الصالح الشهير، هذا الرجل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (سيشفع في مثل الحيين: ربيعة ومضر، ولو أقسم على الله لأبره، مروه فليستغفر لكم)، وقد توفي في صفين في جيش علي، هذا الرجل العظيم كان إذا أمسى ما يكون في بيته شيء من الطعام ولا الشراب ولا الثياب إلا الثوب الذي يواري عورته فقط، فكان يقول: اللهم إني أعتذر إليك عن كل كبد جائع للمسلمين، وعن كل بدن عارٍ، اللهم إنك تعلم أنه ليس في بيتي من الثياب إلا ما يواري عورتي، وليس في بيتي من الطعام إلا ما في جوفي.
فلا بد للناس من أن يهتموا بقضية المسلمين المستضعفين في كل مكان، وسل نفسك أنت: ماذا قدمت لدينك؟ وهل بالفعل لو فتح باب الجهاد ستكون على استعداد أن تذهب إلى الجهاد؟! هل صدقت مع الله عز وجل؟! وقبل ذلك كم صليت الفجر في حياتك مع جماعة المسلمين؟ فعندما لا تكون صادقاً في صلاة الفجر كيف ستذهب لتقتل وترمل زوجك وأولادك؟! فأنت الآن تملك أن تسجد لله عز وجل في ظلمات الليل، وتدعوه أن يرفع الله هذا الكرب عن بلاد المسلمين، وأن تكون صادقاً مع نفسك ومع ربك، فماذا قدمت لدينك؟ وكم كنت محافظاً على الصلوات الخمس في المسجد؟ وهل عطفت على يتامى المسلمين وعلى المساكين؟ وهل اهتممت بقضايا المسلمين؟ وهل حفظت آية من كتاب الله عز وجل؟ نسأل الله عز وجل أن يرفع الغمة عن بلاد المسلمين، امرأة في التاريخ دوخت المسلمين، امرأة في تاريخ إسبانيا هي إيزابيلا زوجة فرديناند ملك إسبانيا، هذه الملكة أقسمت أن لا تخلع ثوبها الداخلي حتى يسقط حكم المسلمين في الأندلس، وهناك أشهر رواية في التاريخ الإسباني اسمها (إيزابيلا صاحبة القميص العتيق) فهذه المرأة ظلت وراء أبي عبد الله الصغير آخر ملوك المسلمين في الأندلس حتى سقط ملك المسلمين في إسبانيا، وذلك لأن المسلمين ابتعدوا عن دينهم واقترفوا المحرمات وشربوا الخمر، وقد كانت جيوش المسلمين قبل ذلك قد وصلت إلى جنوب باريس، وكانت جيوش سليمان القانوني قد وصلت إلى وسط فيينا عاصمة النمسا، ودخلت بودابست في بلاد المجر.
فلما بكى أبو عبد الله الصغير بعد ضياع الملك في الأندلس، قالت له أمه عائشة: ابك بكاء النساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال.
والعلمانيون ضيعوا القدس؛ لأن حاميها حراميها، أهؤلاء سيعيدون القدس؟ لا والله! لن تعود القدس على أيدي هؤلاء أبداً، القدس الطاهرة العظيمة مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم لا تعود إلا على أيدي إسلامية متوضئة طاهرة، أما الذين بنوا القصور على شاطئ رفيرا، ونهر الراين، والذين تفاوضوا مع اليهود يوم الجمعة فتركوا الصلاة فلما جاء يوم السبت قال اليهودي: لا أستطيع أن أتفاوض معكم في يوم العيد.
انظروا في يوم الجمعة تفاوضوا وترك المتفاوضون من المسلمين الصلاة! أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

(26/6)


الكبر والتواضع
لقد حرم الإسلام الكبر والخيلاء؛ فهما لا يليقان بالإنسان لأنه عبد مخلوق، وإنما هما من صفات الخالق جل وعلا، وقد حرم الله كل سبب يدعو إلى الكبر، وفي المقابل حبب الإسلام التواضع، ودعا إليه، ومدح أهله.

(27/1)


تعريف الكبر والعجب والفرق بينهما
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإنما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: الكبر عبارة عن خلق في النفس، وهو شعورها بعظمتها وأنها فوق الآخرين.
إذاً: فلابد للكبر من متكبر به ومتكبر عليه، فالمتكبر عليه هو الإنسان الذي تظن نفس المتكبر أنها خير منه.
أما العجب فهو حالة افتخار بالنعمة بدون مقارنة بالغير، فلو أن رجلاً في صحراء بمفرده وعنده حالة عظمة يظن لنفسه قدراً، فهذا معجب ولا نقول أنه متكبر، وإذا عقد مقارنة بينه وبين غيره فإنه يطلق عليه المتكبر.
والكبر شيء دخيل في النفس، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} [غافر:56]، قال ابن عباس: أي: عظمة، وإذا ظهر هذا على الجوارح من لي للعنق وغرور، ومن تصعير للخد، ومن خيلاء في النفس فهذا يسمى تكبراً.
فالتكبر عمل الجوارح، وثمرة الكبر، نداء الباطل.
فهذا هو الفارق بين العجب والكبر.

(27/2)


أسباب التكبر
والعجب سبب من أسباب التكبر، ولكنه ليس السبب الوحيد.
ومن ضمن أسباب التكبر الرياء، فقد يتطاول إنسان على من هو أعلم منه ويتكبر عليه في الملأ: {رِئَاءَ النَّاسِ} [النساء:38]؛ لأنه يريد أن يشار إليه بالأصابع، فهذا يرائي فيتكبر ويتطاول على من هو أفضل منه في الملأ، ولكنه إذا خلا بالمتكبر عليه ذل له واعترف له، فهذا رياء ممزوج بكبر.
السبب الثالث: الحقد، فهو الذي يهيج الكبر ويزيده طامة، وهو أن يحقد إنسان على إنسان غائب إنسان فلا يقبل منه أي نصح ويظن أنه خير منه.
السبب الرابع المهيج للكبر: الحسد: فمن حسد إنساناً لن يتقبل منه أي شيء، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة:206]، فلو وعظه لا يقبل منه هذه الموعظة، فهذه أربعة أسباب مؤيدة للكبر.
والحقد والحسد والعجب تكون في صاحبها سواء خلا بالمتكبر عليه أو لم يخلُ به.
أما الرياء فهو كبر في مواجهة الناس، فإذا خلا به اعترف له بالذنب.
هذه أربعة أسباب مهيجة للكبر: عجب في النفس، ورياء للناس، وحقد، وحسد.

(27/3)


آيات قرآنية في ذم الكبر وأهله
والمولى عز وجل ذم الكبر وأهله، فقال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146].
فالمولى عز وجل يحول بين آياته وكلماته وعجائبه في الكون وبين الظالمين أن يفهموها، مثلما يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الإسراء:45 - 46].
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].
ويقول الله تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35].
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15]، فالكبر خيبة في الدنيا والآخرة؛ فهو خيبة في الدنيا بأن يصرفهم الله عز وجل عن فهم آياته في الكون، وخيبة في الآخرة لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل نازع الله رداءه، ورجل نازع الله كبريائه، ورجل اتخذ الأيمان بضاعة)، يعني: لا تعرف ماذا سينزل عليهم من المصائب؟ ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان) يعني: شيخ بينه وبين القبر شبر، ثم يلجأ إلى الفاحشة، (وعائل مستكبر)، يعني: رجل فقير وعنده كبر، (ورجل اتخذ الأيمان بضاعة).
فخيبة الآخرة ألا ينظر الله عز وجل إليه يوم القيامة ولا يزكيه وأن يبشره بالعذاب وهو في دار الدنيا، ولا يحبه، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل:23].
مر الحسين بن علي بجماعة من المساكين فقالوا له: إلينا يا أبا عبد الله؟! أي: عندهم كثرة من طعام، فقال: نعم: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل:23]، ثم نزل وأكل معهم، ثم قال: قد أجبتكم فأجيبوني، فقاموا معه، فقال لامرأته الرباب: إلي ما ادخرت، أي: هات الذي عندك كله من أنواع الأطعمة التي ادخرتها، فأطعمهم.
وطلب صبية معهم كسرة خبز مرة الحسن البصري أن يأكل معهم، فجلس وأكل معهم، ثم استحلفهم بالله أن يقوموا إلى بيته فأطعمهم أجود الأطعمة، ثم قال: لهم الفضل علينا؛ لأنهم جادوا بما يملكون ونحن ما جدنا إلا بأقل شيء مما نملك، لا يوجد عندهم إلا كسرة خبز جادوا بها، ولكن نحن عندنا بقية.
ومن الآيات القرآنية في ذم الكبر والمتكبرين: قول الله تبارك وتعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21].
ويقول الله تبارك وتعالى عن المتكبرين وعن مصيرهم عند الموت: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} [الأنعام:93]، أي: يضربونهم على أدبارهم: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93].
ويقول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم:69].
ويقول الله تبارك وتعالى: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل:22].

(27/4)


أنواع الكبر

(27/5)


التكبر على الله تعالى وعلى شرعه
وأنواع الكبر ثلاثة: كبر على الله، وكبر على رسل الله، وكبر على عباد الله.
النوع الأول: الكبر على الله: وهو أشد من الكفر كما قال ابن تيمية، فالكافر هو الرجل الذي يشرك مع الله غيره، أما المتكبر فلا يرضى بالله رباً، ولا إلهاً، وكثير من الكفار يرضى بالله رباً، ولكن لا يرضى به إلهاً يحكمه ويحتكم إلى أمره، فيعترفون بالربوبية، ولا يسلمون للألوهية.
والنمرود بن كنعان عندما تكبر على الله فقال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، سلط الله عليه بعوضة سلبته حياته، فدخلت في أحد منخريه وتظل به حتى يضربونه بالنعال على أم رأسه، وطنين البعوضة في أنفه جعله لا يستريح إلا بضرب النعل على رأسه.
وفرعون لما تكبر وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [القصص:38]، نغص الله عز وجل عليه حياته في الدنيا قبل الآخرة.
ولما قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، فعندما افتخر بأنه أجرى النهر نغص الله عز وجل عليه انتفاعه بهذا النهر، فكان لا يتناول قدحاً من الماء ليشربه إلا واستحال دماً عبيطاً، وما ملأ قدحاً من الماء إلا وامتلأ بالضفادع، وتدخل الضفادع الأفران لتأتي على طعامه أو لتمتزج بطعامه، والإنسان الذي يديم الغسل لا تجد عليه القمل، ومع ذلك فقد ابتلاه الله عز وجل بالقمل مع أن معه ماء النهر، وهذه الآيات متصلة بالماء الذي افتخر به.
فالقمل، والدم، والضفادع كلها مرتبطة بجنس ما افتخر به، ثم لما عتا كان غرقه بجنس ما افتخر به.
وعندما كان يقول: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [القصص:38].
إذا بهذا الفم النجس يمتلئ طيناً نجساً، يقول سيدنا جبريل للمصطفى صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني يا محمد وأنا أدس في فيه من حال البحر حتى لا تدركه رحمة الله تعالى)، وحال البحر الطين المنتن.
ويدخل في ضمن الكبر على الله تبارك وتعالى، الكبر على شرع الله، وهو مثل التكبر على الله، ومن صور الكبر على شرع الله أنه لا يرضى بدليل نقلي من الكتاب أو من السنة ويستقذره، فإن قلت له مثلاً: هناك حديث: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم ليخرجه)، يستقذر هذا الأمر، ولو قلت له: هناك سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعق الإناء بثلاثة أصابع لكي يتبارك الطعام، لا يقبل هذا أيضاً ويستقذره، فهو لا يكتفي بالرد، بل ويستقذره أيضاً.
أو أنه يصادم النقل بالعقل فيقول مثلاً: هؤلاء الناس الذين نزل عليهم القرآن كانت عقولهم ساذجة بسيطة، ونحن أوتينا قسطاً من العقول باطلاعنا على المنطق والفلسفة فيصادم النقل بالعقل.
من أنت يا أرسطو ومن أفلاط قبلك يا مبلد ومن ابن سينا حين قرر ما هديت له وأرشد هل أنتم إلا الفراش رأى الشهاب وقد توقد فدنا فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد يقول الإمام الشافعي: ما فسد العرب إلا لما تركوا لسان الفطرة ومنطق القرآن واتبعوا لسان أرسطو طاليس، فكان بداية دمار العالم وضياع الدولة العباسية على يد المأمون.
وهناك أناس يتكبرون على الله تبارك وتعالى بالعقل، وهم أصحاب مدرسة الاعتزال أو المدرسة العقلية، فهنالك من يفسر الطير الأبابيل بالمكروبات والجراثيم، وهنالك من ينكر وجود الجن أو يأتي بهذه المدرسة العقلية التي تحسر العقل في الشرع.
وهناك من يتكبر على الله تبارك وتعالى بالذوق، فيقيس الدليل النقلي أمامه بالذوق، فيقول: ذوقي يمج هذا الدليل ولا يقبله، وإذا استمع إلى الأطلال فإنه يبكي وإذا استمع إلى آيات من كتاب الله تبارك وتعالى فإنه لا يبكي، ويقول: استفت قلبك ولو أفتاك الناس وأفتوك.
وموسيقارنا عبد الوهاب وكوكب شرقنا نبحت سنينا وذاك العندليب أخو الغراب أنتركه لدعوى الطاهرينا ورقص الشرق ذا فن تجلى وذاك الضيق عين الشاكرينا يقول عثمان بن عفان: لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم.
فهنالك منن يفضل النقل على العقل، أو يفضل الذوق على النقل، أو يفضل السياسة على النقل، فإن تصادم دين الله تبارك وتعالى بالسياسة يقول: نحن أعلم، ولا نريد دولة كهنوتية ولا دولة دينية ولا نريد كذا، فنحن أعلم بالسياسية، وما شأنكم بالسياسة وأنتم لا تعلمون الكثير منها.
فهذه المعارضات الثلاث من صور الكبر على الله تبارك وتعالى وعلى شرع الله تبارك وتعالى، ونقيضها التواضع.
والتواضع لشرع الله تبارك وتعالى: ألا يقدم على النقل عقلاً ولا ذوقاً ولا سياسة، وأن يرضى بالدليل النقلي، وأن يسلم لهذا الدليل وكل إنسان يؤخذ منه ويرد إلا صاحب الروضة الشريفة.
فالمسلم يسلم للدليل عن رضا وعن اقتناع، وهذا معنى الرضا برسول الله رسولاً، وهو أن تسلم له حتى فقدان الحرج الظاهري والباطني، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

(27/6)


التكبر على رسل الله
النوع الثاني من التكبر: التكبر على رسل الله: يقول الله تبارك وتعالى حاكياً على لسان هؤلاء المتكبرين: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:31 - 32]، فالكفار المتكبرون قالوا: لولا نُزِّل هذا القرآن على عروة بن مسعود الثقفي أو على الوليد بن المغيرة فإنهما سيدا القريتين: مكة والطائف.
فنظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يتيم أبي طالب، ولم ينظروا إليه بميزان النبوة، ونظروا إليه بأنه من البشر، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم:10] فالرسول صلى الله عليه وسلم من البشر، ولكنه زاد عليكم بالوحي وبالإيمان بالله تبارك وتعالى.
ومن المتكبرين من يقول: نحن نعترف ببشرية الرسول، وطالما أنه بشر فيؤخذ من قوله ويرد.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان همزة الوصل ما بين السماء والأرض، وتحمل عقله وقلبه ما تندك منه الجبال الرواسي؛ لقول الله تبارك وتعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]، وقال الله تبارك تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21]، أي: قالوا: لا نريد بشراً يكون مثلنا، نريد أناساً يكونون أنظف قليلاً، هاتوا لنا ملائكة، نحن لا نستطيع أن نتعامل إلا مع الملائكة.
ولذلك تقول السيدة عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم: (هل مر عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة إذ عرضت نفسي على عبد ياليل بن عبد كلال).
وكانوا ثلاثة، فقال له رجل منهم: أما وجد الله من يرسله غيرك؟ وقال الآخر: علي كسوة الكعبة إن كان الله قد أرسلك.
وقال الثالث: أنا لا أكلمك، فإن كنت صادقاً فأنت أجل من أن أكلمك، وإن كنت كاذباً فأنا أجل من أن أكلمك.
يعني: إذا أنت أعلى منا درجة فلا تنزل إلى مستوانا! بل ابحث لك عن أنبياء أو ملائكة -وهذا نوع من السخرية، ونوع من الاستهزاء برسل الله تبارك وتعالى- وإن كنت كاذباً فنحن خير منك ولا نكلم الكاذبين، وهذا نوع من التطاول على رسل الله تبارك وتعالى.

(27/7)


التكبر على عباد الله تعالى
النوع الثالث: الكبر والتطاول على عباد الله تبارك وتعالى، رضيهم الله عز وجل عباداً له أفلا ترتضيهم إخوة لك؟ فالمولى عز وجل ارتضاهم عباداً له وهو القاهر، وهو الرب، وهو الإله، ولم ترتضهم أنت إخوة لك في الدين، فتعاليت عليهم.
ومظاهر التعالي كثيرة، فمنها: تصعير الخد، أي: إمالة الخد والإعراض بوجهه عنه، قال تعالى: {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5].
المظهر الثاني: النظر شزراً، وهو أن تنظر إليه بنصف عين، وكأنك مستهزئ به.
المظهر الثالث: تشديق الكلام وإخراج الكلام بنغمة معينة بملئ الفم، فيقول مثلاً: أحد الناس السذج نسأل الله ألا يبتليك بهم، فيظل يكلمك في ربع ساعة بما يمكن أن تقوله في نصف دقيقة، من أجل أن يخرج الكلام بطريقة معينة أو بنغمة معينة أو بلفظة معينة، ويمطط الكلام ويظهر الفصحى إن كان فصيحاً كنوع من التعالي على هؤلاء، ويرى الناس وكأنهم بقر.
المظهر الرابع: أنه إذا جلس يقوم الناس بين يديه، وإذا مشى مشوا من خلفه، وحملوا متاعه، فهو لا يحمل متاعه بنفسه، ويرى أن له ديناً في رقاب العباد أن يحملوا متاعه، وإذا جلس يجلس متكئاً، ولا يرتضي بالدون من الثياب ملبساً، ولا يجلس مع الفقراء والمساكين ويزدريهم، فضلاً عن أن يجلس مع المرضى، فكل هذا من مظاهر الكبر.
ومن مظاهر الكبر في المشي ما قاله رسولنا صلى الله عليه وسلم: (إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم، سلط الله بعضهم على بعض).
فالمطيطاء مشية فيها كبر وخيلاء كما قال ابن العربي رحمه الله.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا رجل ممن كان قبلكم يتبختر في مشيته إذ خسف الله عز وجل به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي يجر ثيابه من الخيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جرمنها شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، فالإسبال لا يقتصر في الإزار، بل يكون في الإزار وفي القميص وفي العمامة، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من وطئ على إزار وطئه في النار).
وقد يقول قائل: أنتم تشددون الأمور، فمسألة تقصير الثوب وإطالته من القشور، والأهم من ذلك هو المعنى الباطن.
ونقول: إن إسبال الإزار من الخيلاء وهو من الكبر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فهو ينظر إلى أن السلفيين يريدون توفير الأقمشة، ولا ينظرون إلى المعنى الباطن، إن هذا المنظر الخارجي يوحي بخيلاء وكبر في الباطن وأنه سيكون أبعد ما يكون عن الجنة.
ومن مظاهر الكبر أن يتبختر في مشيته: قال تعالى: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} [القيامة:33].
وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37].
عمر بن عبد العزيز كانت له مشية تسمى المشية العمرية، فقد علموه آداب البرتوكول السياسي، وكانوا يدربون كل عضو منه على هذه المشية حتى تعلمها، فلما مشى بها أمام طاوس قبل أن يتولى الخلافة طعنه في خاصرته وقال: ليست هذه مشية من ملئ بطنه الخراءة.
ورأى محمد بن واسع ابنه يتبختر في مشيته، فقال له: أمك اشتريتها بمائتي درهم، أما أبوك فلا أكثر الله في المسلمين من أمثاله، فهذه المشية يبغضها الناس.
ومشى الناس خلف الحسن البصري فقال: وهل أبقيتم في قلبي من شيء؟ وقال سيدنا عبد الله بن مسعود وقد مشى خلفه الناس: هذه مذلة للتابع وفتنة للمتبوع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جلس متكئاً، وما مشى خلفه رجلان.
ولبس أحد الولاة ثياباً من خز ثم تاه في المشية أمام الحسن البصري، فقال له: أف أف، مصعر خده، ثاني عطفه، أحيمق يزدري نعمة الله تبارك وتعالى عليه، يا هذا! داو قلبك، فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم.
وقال لآخر: كأن القبر قد وارى بدنك، وكأنك قد لقيت ربك غداً، ثم قال له: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37].

(27/8)


دواعي الكبر
وهناك أسباب تدعو الإنسان إلى الكبر: أن يظن أن له كمالاً دينياً أو كمالاً دنيوياً، فالكمال الديني منحصر في أمرين: العلم والعبادة، والكمال الدنيوي ينحصر في النفس والجمال والقوة والغنى.

(27/9)


التكبر بسبب العلم أو العبادة
أما العلم: فينظر الرجل إلى الناس وكأنهم بهائم، ويقول مثلاً: أنا بخاري العصر وشافعي الزمان، ودرست على فلان وفلان من الشيوخ، أما غيري فعلى من درسوا؟ فيتطاول على عباد الله بما عنده من العلم، وينظر إلى الناس أن له فضلاً عليهم، وأنه فوقهم وهم تحته.
يقول محمد بن كعب: إن للعلم طغياناً أشد من طغيان المال، ويطغى الإنسان بالعلم ويتكبر لسببين: السبب الأول: أن يتعلم علوماً غير نافعة هي إلى الصناعات أقرب منها إلى العلم، فلا تورثه خشية الله تبارك وتعالى، ولا تذكره بنعم الله عز وجل عليه، ولا تقربه من الدار الآخرة، وهذه العلوم كعلم الجبال وعلم المنطق وغيرهما.
السبب الثاني: أن يكون في نفسه خبث وفي طويته شر، والعلم كما قال وهب: كالغيث ينزل على الأشجار فتمتد إليه عروقها، فكل بقدر طعمه، فمن كان مراً زاده مرارة، ومن كان حلواً زاده أريجاً.
ولذلك كان مالك بن دينار يقول: يا أصحاب السورة! ويا أصحاب السورتين! ماذا غرس القرآن في قلوبكم؟ إن القرآن ربيع قلب المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض، إن الغيث قد ينزل على الحبة في الحش، وما يمنعه نتن موضعها من أن تزهر وتثمر وتربو، فماذا غرس القرآن في قلوبكم؟ ورجل آخر يتطاول على الناس بعلمه ويقول: إني أسهرت ليلي وأظمأت نهاري في تحصيل العلوم الشرعية ولا يلتفت إلي أحد.
وأما العباد فيتطاول الرجل على الناس بعبادته، كأن ينظر إليهم وكأنهم هلكى وهو الناجي فقط، فإذا ما رآهم عبس بوجهه، وينظر إليهم وكأنه في الأعلى وهم في الأسفل، فهذا الرجل فعله يخالف فعل الصالحين.
كان عطاء السلمي إذا غلا السعر أمسك بطنه ودار وكأنه امرأة قد أتاها المخاض ويقول: كل هذا بسبب عطاء، لو مات عطاء لاستراح الناس.
وقف بكر بن عبد الله المزني على عرفة فقال: اللهم لا تردهم من أجلي، أي: لا ترد هذا الجمع خائباً بسبب ذنوبي.
ويقول الآخر: ما أحلى هذا الجمع لولا أنني فيهم.
وقال الإمام مالك بن دينار: والله لو وقف رجل على باب المسجد ونادى: ليقم شر الناس، لقام مالك بن دينار.
وقال أحد الصالحين: ذلي عطل ذل اليهود.
وقال أبو سليمان الداراني: والله لا يستطيع أحد أن يضعني أكثر من وضعي لنفسي، فإني أعلم بمنزلتي.
والتواضع كما قال الحسن البصري: ألا ترى لك فضلاً على أحد من الناس، فإذا رأيت من يصغرك بالسن قلت: والله لقد سبقته إلى المعصية، وإذا رأيت رجلاً كهلاً تقول: والله لقد سبقني إلى الإسلام وسبقني للطاعة، ومن ظن أنه متواضع فقد حاز الكبر بحذافيره؛ لأنه يظن أن له قدراً.
وكان مالك بن دينار يقول: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف! ويقول يونس بن عبيد: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل.
ويقول الحسن البصري: صاحبت أقواماً كنت بجانبهم كاللص.
فالرجل قد يتطاول على الناس بعبادته ويقول: والله لقد سهرت، وأنا أقوم الليل وأصوم النهار، أما فلان فغفر الله له ثم يغمزه غمزاً خفيفاً، أو ينظر إلى الناس وكأنه المتهجد الوحيد الذي عرف غور العبادة وغيره مشتغل بالعلوم فقط، فيقول: دعهم وعلمهم فهذا كبر خطير، وكأنه ينادي على الناس: أنا العابد، أنا العالم الوحيد، فمن ظن أن الناس هلكى فهو أهلكهم.

(27/10)


أمور يغفل عنها العالم عند نصحه للمبتدع
فعندما يعظ العالم مبتدعاً لا يتكبر عليه.
وهنالك ثلاثة أمور قد يغفل العالم عنها عند النصح: الأمر الأول: أن تنسى ذنبه، وتغفل عنه حين تعظه، فربما كان الظاهر من ذنبه أقل من المستور من ذنوبك التي لا يطلع عليها الخلائق، ولو اطلع عليها الخلائق لعكر عليهم الملاذ.
ولذلك كان محمد بن واسع كان يقول: والله إن نتن أخلاقي أشد من نتن جسدي في التراب بعد ثلاث، وغداً يقال: مات الحبر العالم الصالح، ولو قد عرفوني حق معرفتي لنفسي ما دفنوني.
وآخر يعظ شخصاً حليقاً كل يوم ويقول له: ألا تعرف أن اللحية فرض! وربما كان الواعظ يضرب أباه وأمه بالعصا يومياً.
الأمر الثاني: أن تظن أن هذه النعمة التي أقامك الله عز وجل فيها هي منك، يعني: أن تظن أن الله تبارك وتعالى حين أقامك في مجال الدعوة وفي نعمة الطاعة أنها منك لا من الله تبارك وتعالى، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21]، وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (لن ينجي أحد منكم من النار عمله)، فهذا يخلصك من داء الكبر.
الأمر الثالث: أن تنسى الخاتمة، فربما ختم الله عز وجل له بالطاعة وختم لك بالبدعة، ونأتي بمثال: كان القصيمي أكبر عالم من علماء نجد، ومن أفضل الدعاة إلى التوحيد، فقد أفحم شيخ الأزهر حتى قال رجل من أهل التوحيد: ما كنت أظن أن شيخ الأزهر في زمانه يعيش بعد نقد القصيمي له، فقد انتقده فيما يزيد عن عشرين ألف ورقة من غرر العلم في العقيدة، ثم بعد هذا ختم له بأن كان قبورياً ومات على قبوريته.
وكتبه موجودة عندنا في الأسواق في موضوع التوسل والشفاعة والاستغاثة لا يعلوها علم، ثم بعد هذا أضله الله على علم، ولعله كان عنده خبث طوية، ثم بعد ذلك ختم الله عز وجل له بسوء الخاتمة، ولذلك فإن سفيان الثوري يقول: بكينا على الذنوب زماناً، ونحن الآن نبكي على الإسلام.
فالإنسان لا يغمط أحداً حتى لا يدل على أحد، ولا يفتخر على أحد حتى يخلف جسر جهنم وراء ظهره، وإذا خلفه قال كما قال أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] فهذا قمة التواضع.
ليس كما يقال: إننا كنا في الدنيا نعمل كذا! وكم وعظنا وكم أقمنا دروساً؟ فمثل هذا لا يدخل الجنة؛ لأنه قد امتلأ كبراً، فهو لا يعبر الجسر بداية.

(27/11)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:20   رقم المشاركة : 34
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


كيف يتخلص العابد من الكبر
والذي يخلص العابد من الكبر ويجعله يتواضع بعلمه وبعبادته أمران: الأمر الأول: أن يعلم أن حجة الله تبارك وتعالى على العالم آكد، يقول أبو الدرداء: ويل لمن لا يعلم، وويل سبع مرات لمن يعلم ولا يعمل، فإن نسي قدره عند الله تبارك وتعالى فهو حمار في ميزان الشرع، يقول الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]، فهو حمار يحمل علماً.
والمثل الآخر: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176]، فالذي لا ينتفع بعلمه يمثله الله عز وجل بالحمار أو الكلب، والذي يذل بعبادته ينظر إلى أن زجل المستغفرين أحب إلى الله من إجلال المسبحين.
ولذلك فإن محمد بن واسع قال: واشوقاه إلى إخواني، فقالوا: أليس قد نشأ شباب يعلمون السنة؟ فتفل ثم قال: أفسدهم العجب.
لو سلمت لك العبادة من صومك وقيام ليلك من العشاء إلى الفجر لأفلحت.
(27/12)
الكبر بسبب الحسب
أما الذي يفتخر بحسبه ونسبه فنقول له: لئن فخرت بآباء ذوي شرف لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا وفي المثل: قرعاء وتفتخر بشعر ابنتها، أو كما يقول القائل: يتعجب بكمال غيره وهو مسلوبه، إن كانت صفاته وذاته خسيسة فلا يجبر خسة ذاته وصفاته كمال غيره.
ثم نقول له: لو كان هذا الذي تفتخر به موجوداً لقال لك: إنما أنت دودة من بولي، والآخر دودة من بول المتكبر عليه، ولا فخر لدودة على دودة، فالاثنان متساويان، فلا يوجد هناك فخر بينهما.
ومع هذا فإننا نقول له: حسبك وهو جدك البعيد تراب بلي، وأبوك القريب ماء مهين، وأنت خرجت من مجرى البول مرتين.
جلس مصعب بن الزبير على سرير الملك في العراق، وقد اتكأ على أريكته ومد رجله، فدخل الأحنف بن قيس فرئي ذلك في وجهه، فقال: لقد خرجت من مجرى البول مرتين.
رأى مطرف بن عبد الله أميراً متبختراً فنهاه، فقال: ألا تعرفني؟ قال: أعرفك كما أعرف نفسي، جدك البعيد تراب بلي، وأبوك القريب ماء مهين، وأنت خرجت من مجرى البول مرتين، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين هذا وذاك تحمل العذرة.
قال الله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:17 - 22].
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:77 - 78].
بئس العبد عبد سها ولها ونسى المبدأ والمنتهى! بئس العبد عبد طغى وعصى ونسى الجبار الأعلى! بئس العبد عبد سها ولها ونسى المقابر والبلى! أصلك التراب يوطأ بالأقدام، وفصلك ماء مهين تغسل منه الأبدان، فلا قدر لك، إنما قدرك التقوى، فلا يجوز لأحد أن يتطاول على أحد.
(27/13)
الكبر بسبب الجمال
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فهناك أيضاً من يتطاول على الناس بجماله فيظن أن الميزان عند الله تبارك وتعالى بمسابقات الجمال، أو أنه سيدخل الجنة بزرقة عينيه.
وهذا الأمر في النساء أكثر منه في الرجال، تقول السيدة عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفية أنها كذا وتشير إلى أنها قصيرة فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته).
فالذي يفتخر بجماله ينظر إلى عباد الله تبارك وتعالى منتقصاً لهم، فإذا ما لمسه أحد المساكين ذهب إلى البيت ورش العطر على جسده، فهذا يصدق فيه قول الشاعر: كيف يزهو من رجيعه أبد الدهر ضجيعه وقال آخر: أنف يسيل وأذن كلها سهكٌ والعين مرمشة والثغر ملعوب يا ابن التراب ومأكول التراب غداً قصر فإنك مأكول ومشروب فلا يفتخر بهذا إلا رجل يظن أن المقياس عند الله تبارك وتعالى الجمال.
(27/14)
الكبر بسبب القوة
ورجل آخر يتطاول على عباد الله تبارك وتعالى بفضل قوة يعطيها الله عز وجل له، ويظن أن الشرف كل الشرف في شرف تسبق إليه البغال! وأي فضل في هذا، ولابد أن نقول له: أنت أقوى من بغل وأنت أعظم من حمار.
فهذا الرجل الذي يفتخر بقوته أما علم أن الله تبارك وتعالى قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة؟ فقوم عاد عذبهم الله عز وجل بالريح، وأبرهة وقومه عذبهم الله عز وجل بالطير الأبابيل جزاء وفاقاً، وقد يسلبه الله عز وجل هذه القوة التي ما حفظها.
(27/15)
الكبر بسبب المال
ورجل آخر يفتخر بكثرة ما عنده من المال، وهذا شرف يسبق إليه اليهود، ويسرق منه اللصوص، فكيف يفتخر به؟ يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37]، وهذا لعله نسي قارون وما كان من شأن قارون وأن الله تبارك وتعالى خسف به وبداره الأرض.
(27/16)
الكبر بسبب الفصاحة
ومن مظاهر الكبر والتكبر أن الرجل يتخلل الكلام بلسانه ويظهر الفصحى.
يقول عمر بن الخطاب: شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض الرجل البليغ الذي يتخلل بلسانه تخلل البقرة بلسانها).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبغض الناس عند الله الثرثارون المتشدقون المتفيهقون).
يقال: فهق الرجل إذا امتلأ، والثرثارون هم الذين يكثرون الكلام.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عز وجل عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع عبد لله عز وجل إلا رفعه الله عز وجل).
(27/17)
أسباب التواضع
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما استكبر من أكل معه خادمه، وركب الحمار بالأسواق، واعتقل الشاة فحلبها).
أي: فهذه الأشياء تطرد الكبر عن الإنسان، وهي أنه يركب الحمار بالأسواق، ويأكل مع عياله وخدمه، ويعتقل الشاة، أي: يربطها ثم يحلبها على ملأ من الناس.
وهناك أشياء أخرى: وهي أن يخصف نعليه بيده، ويرقع ثوبه، ويرضى بلبس الصوف، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت، فإنما هو في حاجة أهله، وكان يرقع ثوبه ويخصف نعله، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد إلا برأسه حَكَمَة بيد ملك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفعها، وإذا تكبر قيل للملك: دعها).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذل في غير مسكنة، وأنفق مالاً جمعه في غير المعصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة).
(وجلس جبرائيل عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل، فقال له جبرائيل: إن هذا ملك لم ينزل قط منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد! أرسلني إليك ربك، أفملكاً نبيناً يجعلك أو عبداً رسولاً؟ فقال جبرائيل: تواضع لربك يا محمد! قال: بل عبداً رسولاً).
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد آكل أكل العبد وأجلس جلسة العبد).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل متكئاً.
وتقول السيدة عائشة: إنكم لتُغفلون أفضل العبادة التواضع.
فالتواضع هو أفضل العبادة؛ ومن التواضع رثاثة الثياب، كما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن البذاذة من الإيمان)، والبذاذة هي أن ترضى بأن تلبس الثياب الدون.
وبعض الإخوة ليس عنده إلا ثوب واحد، فلا يرضى أن يخرج من بيته إلا وثوبه مكوى، فإن لم فإنه يصلي في البيت، ويظل حبيس البيت حتى يأتوا له بقميص آخر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن البذاذة من الإيمان)، وكان في ثوب سيدنا عمر أمير المؤمنين أربع عشرة رقعة منها رقعة من الجلد، فكان يرقع الثوب، وكان في إزاره بين كتفيه أربع رقاع رآها أنس بن مالك وحكاها للناس.
ويدخل سيدنا علي بن أبي طالب في وليمة أعدها أبو موسى الأشعري وليس لقميصه جيوب.
ويدخل رجل إلى المدائن على سلمان الفارسي وعليه كساء ككساء الحمالين مرقوع، فقال له الرجل: تعال احمل معي هذا التبن، فحمل سيدنا سلمان التبن وهو الأمير، فلما رآه الناس قالوا له: أيها الأمير! فقال: والله لا أغير نيتي.
والذي يلبس ثياباً طيبة ولا يخالف الشرع فهو ليس من قبيل الكبر.
وسيدنا عيسى بن مريم يقول: جودة الثياب خيلاء القلب.
ويقول طاوس: والله إني لأغسل ثوبي فيتغير قلبي.
وعندما جاء سيدنا عمر لفتح بيت المقدس لبس ثوباً جديداً فتغير، ثم أتي ببرذون فركبه فشعر بالخيلاء فقال: هذا شيطان، إلي بقميصي وإلي بدابتي! ويقول عون بن عبد الله: من كان في صورة حسنة وموضع لا يشينه ووسع عليه في الرزق، ثم تواضع لله عز وجل، كان من خالص أولياء الله تبارك وتعالى.
(27/18)
علامات التواضع
يقول سيدنا الفضيل بن عياض: التواضع أن تنقاد للحق ولو سمعته من صبي أو من جاهل.
والتواضع عند سيدنا عبد الله بن المبارك شيء آخر: وهو أن تكون عندك عزة نفس عما في أيدي الناس.
ويقول: رأس التواضع أن تضع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا، حتى تعلمه أنه ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في نعمة الدنيا؛ حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل.
وهذا هو معنى قولهم: الكبر على أهل الكبر صدقة.
وأتى رجل حسن الصورة من أبناء الدنيا إلى ابن المبارك فقال الرجل: ما أعظمك؟ قال: لا، بل هي عزة الإسلام، قل ما أعزك؟ ولذلك فإن التكبر على أبناء الدنيا تواضع؛ لأنه في الحقيقة عز النفس، وهذا غير مذموم، قال الله تبارك وتعالى: {يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146]، ومعناه: أن هناك تكبراً بالحق بأن يترفع المرء بنفسه وقيمته عن أبناء الدنيا.
ومن التكبر بالحق أن ابن دقيق العيد يمد يده لسلطان والسلطان يقبله، فهذا تكبر بالحق، وليس تكبراً مذموماً.
ومن التكبر بالحق أن سيدنا مالك بن أنس كان لا يخص أحداً بالدرس، فيظل فإذا جاءه رجل فإنه يقف ببابه مستشرفاً من أجل أن يخرج عليه، فتخرج إليه جارية سوداء؛ ثم تأتي له بكرسي وتقول له: اجلس هاهنا حتى يخرج الشيخ.
فهذا نوع من التكبر بالحق على أبناء الدنيا.
ودخل ابن السماك على هارون الرشيد وقال: يا أمير المؤمنين! والله لتواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك، قال: ما أحسن هذا الكلام! ثم قال له: إن امرأً آتاه الله جمالاً في خلقه وموضعاً في حسبه، وبسط له يده، فعف في جماله وواسى في ماله وتواضع في حسبه كتب في ديوان الله عز وجل من خالص أوليائه، فدعا هارون الرشيد بدواة وقرطاس وكتب هذا الكلام بيده.
(27/19)
علامات الكبر
ومن علامات الكبر: أن يفتخر الرجل بكثرة الأتباع من طلبة العلم أو غيرهم، فيحملون له أشياء، أو يمشي ومعه جنود يرافقونه، ويرى أن له منة عليهم، وربما فرح بنفسه فقال للتابع: احمد ربك أنني أحملك متاعي! إنك أقل من أن تحمل متاعي.
فهذه علامة من علامات الكبر.
كان سيدنا أبو عبيدة عامر بن الجراح وهو أمير يحمل سطلاً له من خشب فيه ماء ساخن ويذهب به إلى حمام أبان.
وكان ذو الكلاع قيلاً من أقيال اليمن في الجاهلية، وكان الناس يقفون على بابه الهدايا من أجل أن يدخلوا عليه، فيقال لهم: لم يأت عليكم الدور، انتظروا فإن غيركم قد سبق بهدايا منذ سنة كاملة.
وكان إذا اختفى ثم برز سجد له مائة ألف رجل، فلما أسلم أراد أن يعفو الله عز وجل عنه هذا الذنب فأعتق أربعة آلاف رقبة، وأراد عمر أن يشتريهم، فرفض ذلك وقال: عسى الله أن يغفر لي ذنبي، قال: وما ذنبك؟ قال: اختفيت عن الناس ثم خرجت فسجد لي مائة ألف رجل.
وبعد أن أسلم كان يحمل اللحم بيده، ويأتي به لأولاده، فيقول له أتباعه: دعنا نحمل عنك، فيرفض، وعندما كان يحمل اللحم بيده كان يقول: أف لذي الدنيا إذا كانت كذا أنا منها كل يوم في أذى ولقد كنت إذا ما قيل من أنعم الناس معاشاً قيل ذا ثم بدلت بعيش شقوة حبذا هذا الشقاء حبذا وكان عمر بن الخطاب يعلق اللحم في يده اليسرى، ثم يحمل الدرة بيده اليمنى ويمضي في الأسواق حتى يأتي إلى أهله.
وكان علي بن أبي طالب يحمل التمر بيده ويقول: أبو العيال أحق بالحمل.
وكان الربيع بن خثيم يحمل عكة إلى عمته، أي: قفة من خوخ.
ومن علامات الكبر: أن يأنف المتكبر من جلوسه مع المساكين.
وكان جعفر بن أبي طالب يجالس المساكين حتى سمي بأبي المساكين، أما أم المساكين فهي أم المؤمنين زينب رضوان الله عليها.
وكانت أم الدرداء تجلس إلى المساكين.
ورثاثة الثوب من علامات التواضع وربما ارتضى الرجل أن يلبس الثياب الرثة وفيه من الرياء ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى.
كان سيدنا عبد الرحمن بن عوف من أجل الصحابة، وكان لا يعرف من بين عبيده، لأنه كان يلبس نفس الثياب التي يلبسها عبيده.
ولبس سلمان الفارسي ثياباً بالية، فانتهره الناس، فقال: إنما أنا عبد ألبس لبس العبد، فإذا عتقت -يعني في الآخرة- وفك القيد عني لبست ثياباً لا تبلى حواشيها.
فمن التواضع ألا يمشي الإنسان مشية المطيطاء، ولا يترفع على المساكين، ولا يجعل الناس يحملون متاعه، ولا يترفع على أهل بيته.
رزقني الله وإياكم حسن الخلق وتواضعاً في الصفات الخلقية.
هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(27/20)
الأسئلة
(27/21)
قيام الليل علاج للكبر والرياء

السؤال
هل المرائي والمتكبر يبكيان إذا قاما من الليل؟

الجواب
قيام الليل يطرب الروح ويجلب الراحة للإنسان، يقول لـ قتادة: ما نافق من قام الليل.
أي: فقيام الليل يعلم الناس الإخلاص، فليس في قيام الليل كبر ولا رياء، بل هو علاج الكبر والرياء.
(27/22)
نصيحة لرواد المساجد

السؤال
نرجو منكم نصيحة لبعض رواد المساجد والمصلين فيها؟

الجواب
أنصح الإخوة أن يحافظوا على هذا المسجد، ومن لا ينتسب لهذا المسجد ولم يكن من رواد هذا المسجد فعليه أن يتقي الله تبارك وتعالى، ويصرف الأولاد عن اللعب في المسجد، وبعض الناس يريدون أن يهدموا آخر صرح من صروح الدعوة في الجيزة، فاتقوا الله تبارك وتعالى.
فإذا كنت تريد أن تعمل شيئاً فلا تنسبه إلى المسجد، فكل الناس محتاجون لتربية طويلة جداً، ودولة الخلافة التي ننشدها لن نحصل عليها؛ لأننا فيما بيننا لا نقبل الحق ولا التناصح، ومن رحمة الله بنا أنه لم يمكن لنا، ولو مكن لنا لكنا قد قطعنا بعضنا، فواقعنا الذي نعيشه التطاول والكبر.
ومن كان له منهج معين فليطبقه في مسجده بعيداً عن الناس، ولا يحمل الناس ابتلاءات لا يقدرون عليها، فالبعض يقوم الساعة الثانية بعد نصف الليل يريد أن ينشد قصيدة، فبينما كنت ذات مرة مع بعض الإخوة في قراءة قرآن وتعبد وصيام وقيام ليل، إذا برجل منهم يقول: يا فلان اكتب لي قصيده في خصالي! أو في صديق! والمنتقبات سمعن أفضع السباب في الشوارع، ولا أحد يستطيع أن يفتح فمه، والمساجد أخذت على مرأى من الناس ولا أحد يستطيع أن يتكلم، والإخوة لهم ثلاث سنين في السجن، والضرب موجود.
فاتق الله في نفسك، وعليك نفسك، فأنت حر في نفسك، ولكن لست حراً في غيرك حتى تدخله في المآزق والورطات.
(27/23)
منوعات شعرية

السؤال
نرجو من فضيلة الشيخ أن يذكر لنا أبياتاً شعرية في صنع الله تعالى؟

الجواب
القصيدة في صنع الله تبارك وتعالى: قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداكا قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا قل للضرير خطا بين الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا قل للبصير وكان يحذر حفرة فهَوَى بها من ذا الذي أهواكا قل للجنين يعيش معزولاً بلا راعٍ ومرعى ما الذي يرعاكا وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهدًا وقل للشهد من حلاكا بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث ما الذي صفاكا وإذا رأيت الحي يخرج من حنايا ميت فاسأله من أحياكا قل للنبات يجف بعد تعهد ورعاية من بالجفاف رماكا وإذا رأيت النبت في الصحراء ير بو وحده فاسأله من أرباكا وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نخل شق نواكا يا منبت الأزهار عاطرة الشذى هذا الشذى الفواح نفح شذاكا يا مجري الأنهار ما جريانها إلا انفعالة قطرة لنداكا أتراك عين والعيون لها مدى ما جاوزته ولا مدى لمداكا إن لم تكن عيني تراك فإنني في كل شيء استبين علاكا فاقبل دعائي واستجب لرجاوتي ما خاب يوماً من دعا ورجاكا ويقول آخر: سل الواحة الخضراء والماء جارياً وهذي الصحاري والجبال الرواسيا سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطير شادياً وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع الحمد ساريا فلو جن هذا الليل وامتد سرمداً فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا ويقول ثالث: يا أيها الماء المهين من الذي سواك ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاكا ومن الذي غذاك من نعمائه ومن الكروب جميعها نجاكا ومن الذي شق العيون فأبصرت ومن الذي أعلاكا ومن الذي تعصي ويغفر دائماً ومن الذي تنسى ولا ينساكا ويقول رابع: يا ذا الذي أمسى الفؤاد بذكره أنت الذي ما إن سواه أريد تفنى الليالي والزمان بأسره وهواك غض في الفؤاد جديد ويقول خامس: إذا كان حب الهائمين من الورى.
يسلب اللب والعقلا فماذا عساه يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى ويقول سادس: أحن بأطراف النهار صبابة وفي الليل يدعوني الجوى فأجيب وأيامنا تفنى وشوقي زائد كأن زمان الشوق ليس يغيب ويقول سابع: أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا فلو أني استطعت غضضت طرفي فلم أنظر به حتى أراكا أحبك لا ببعضي بل بكلي وإن لم يبق حبك لي حراكا إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى فأما من بكى فيذوب وجداً وينطق بالهوى من قد تباكى
(27/24)
حكم الصيام على الحامل

السؤال
زوجتي حامل في الشهر السابع، وهي ضعيفة جداً، ونحن على مشارف شهر الصيام، وهي تأبى إلا أن تصوم، وفي رمضان الذي مضى أصرت على الصيام وهي ضعيفة جداً، فنرجو من فضيلتكم النصح لها؟

الجواب
الأخت ليس عليها إلا الإطعام فقط، فتطعم عن كل يوم رحمة بجنينها، والله أعلم.
(27/25)
زكاة أرباح الاستثمار

السؤال
إنني أعمل في شركة استثمار وتعطي أرباحاً سنوية، فهل علي زكاة المال؟

الجواب
إذا حال عليها الحول وجبت الزكاة.
(27/26)
حكم إطالة الثياب بدون نية التكبر

السؤال
لو كان الرجل يطيل الثياب ولا يريد من ذلك التبختر فهل يجوز؟

الجواب
إطالة الثياب نفسها خيلاء، بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما فعل أبي بكر فهذه خصوصية له، فقد قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (لست منهم)، وبدليل أنه لم يرض عن الصحابة غير أبي بكر.
(27/27)
حكم وجود الفرق والجماعات الإسلامية

السؤال
ما رأيكم في وجود الفرق والجماعات في هذا الزمن مع أنهم متفقون في أساس العقيدة؟

الجواب
الذين يتفقون في العقيدة ليسوا فرقاً إنما هم جماعات، أما الفرق فإن بينها اختلافاً في العقيدة، ولله الحمد فإن أهل السنة والجماعة في كل مصر من الأمصار قد قضوا على بدع أهل الباطل، ومنها بدعة الخوارج أو جماعة التكفير والهجرة، أما اختلافهم في العقيدة فنسأل الله الهداية للجميع.
(27/28)
تزكية النفس
إن الحاجة شديدة إلى تزكية النفس وتطهيرها مما علق بها من الأدران والشهوات، إذ بالتزكية تسمو النفس، وتعلو الهمة، وتتجه الروح نحو خالقها.
وذلك لا يأتي من فراغ وعبث، وإنما له أسباب توصل إليه، وطرق تدل عليه، وهي مأخوذة من الكتاب والسنة وسير السلف الصالح.
(28/1)
أهمية التزكية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، و {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، ثم أما بعد: بادئ ذي بدء شكر الله لكم حسن استقبالكم لي، وأن مكنتموني من العودة إليكم مرة أخرى، وقديماً قال الشاعر: ومن عجب أني أحن إليهم وأسأل شوقاً عنهم وهم معي وتبكيهم عيني وهم في سوادها ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي موضوع اليوم موضوع هام متعلق بالدعوة التي تنتسب إلى السلف وترفع راية السلف، وكأنا نقول لكل المسلمين: هذه بضاعتنا ردت إلينا، ومن أولى بالتزكية ممن يقتفون أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم! وعجباً للناس يبكون على من مات جسده ولا يبكون على من مات قلبه، وهو أشد! وموت القلوب يكون بالبعد عن علام الغيوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه شيخنا الشيخ الألباني: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده).
وموضوع التزكية موضوع هام، ونحمد الله، وله المنة والفضل من أن الذنوب لا تفوح رائحتها في دار الدنيا، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى علينا، أن ستر علينا الذنوب، فلو فاحت لضجت المشام.
قال محمد بن واسع: لو كانت للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني من نتن رائحتي.
وهو من هو، هذا الذي كان يسمى بزين القرآن! فإذا ما مات الإنسان وكان صالحاً فإنها تفوح منه رائحة كأحسن رائحة مسك على وجه الأرض؛ حتى تقول الملائكة: روح من هذه الطيبة؟ وإذا كان العبد قد دنس نفسه بالمعصية في دار الدنيا فإنها تفوح منه كأنتن جيفة على وجه الأرض، فتتأذى منها الملائكة، حتى يقولون: روح من هذه الخبيثة وفي أي جسد خبيث كانت؟
(28/2)
الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بالتزكية
وقد كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها).
وتزكية النفوس عمل شاق، والأمر كله بيد الله عز وجل، وبعد فضله ومنته، فتزكية النفوس بالله لا بالنفس، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21].
وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي).
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تزكية النفس إحدى الخصال الموجبة لذوق طعم الإيمان، فإن للإيمان ذوقاً وحلاوةً، كما أن له فرحاً، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
وقد قال أحد الزهاد: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف.
وقال الآخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً وأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما ذهبت فهي معي، إنما هي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني عن بلدي فنفيي سياحة، وإن سجنوني فأنا في خلوة مع ربي.
إن المحبوس من حبس عن ربه، وإن الأسير من أسره هواه.
(28/3)
الفلاح معلق بالتزكية
ولقد أقسم الله تبارك وتعالى أحد عشر قسماً متتالياً ما أتت إلا في موضع واحد من كتاب الله عز وجل، على أن فلاح النفوس منوط بتزكيتها، فقال تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:1 - 10].
وتزكية النفوس ملاك دعوة الرسل بعد التوحيد، فهذا موسى عليه السلام يقول لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18 - 19].
وتزكية النفوس يا إخوتاه! سبب للفوز بالدرجات العلا والنعيم المقيم، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:75 - 76].
(28/4)
التزكية ربع الرسالة
إن تزكية النفوس مطلب عظيم من مطالب الرسالة، بل هي ربع الرسالة المحمدية، وهي وظيفة الأنبياء، قال الله تبارك وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151].
وقال الله عز وجل: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
وقال الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
ولقد دعا خليل الرحمن إبراهيم لنبينا صلى الله عليه وسلم فقال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بمجموع طرقه كما رواه البخاري في الأدب المفرد وأحمد والحاكم والخرائطي في مكارم الأخلاق: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) صححه الحافظ ابن عبد البر.
(28/5)
معاني التزكية
(28/6)
معنى التزكية في اللغة والشرع
والتزكية -يا إخوتاه- في اللغة تدور حول الطهارة والنماء والبركة.
وهي شرعاً تدور حول هذه أيضاً.
فالتزكية شرعاً: تطهير النفس والقلب من أمراضها ومن ظلماتها ومن نجاستها ومن شهواتها الحسية والمعنوية.
هذا هو المراد بالتزكية، أي: تطهير النفس من أمراض النفوس، من الكفر والنفاق والفسوق والبدعة والشرك والرياء -فمن سمع سمع الله به مسامع خلقه، وصغره وحقره يوم القيامة- ومن حب الجاه والرئاسة.
وإن الرجل قد يزهد في المال ولا يزهد في الجاه، ولهذا كان صفوة الزهاد من عباد هذه الأمة أبعد الناس عن الجاه والرئاسة، فهذا محمد بن يوسف الأصبهاني المسمى بعروس العباد ما كان يشتري خبزه من بقال واحد، ولما سئل عن ذلك قال: أخاف أن يعرفوني فيكرموني من أجل ديني، فأكون ممن يعيش بدينه، أو ممن يأكل بدينه.
ويدخل عبد الله بن محيريز عالم الشام وعابدها -الذي قال فيه الأوزاعي: إني أعد بقاء ابن محيريز أماناً لأهل الأرض- السوق فيشتري من بائع ولا يعرفه البائع، وبعد أن انتهى من الشراء أتى رجل إلى البائع فقال: إنه ابن محيريز عابد أهل الشام، فقال: ما كنت أعرفه، فولى عبد الله بن محيريز تاركاً السوق وقال: إنما نشتري بأموالنا لا بديننا.
وأيضاً التزكية تطهير النفس من الحسد والعجب والكبر والسحت والغرور والغضب وحب الدنيا واتباع الهوى.
وأيضاً تطهير النفس من طول الأمل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، وهلاك آخرها بالبخل والأمل).
وإن سيد التابعين الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيد التابعين أويس القرني رجل بار بأمه، لو أقسم على الله لأبره، مروه فليستغفر لكم)، يقول فيه الإمام أحمد: الزهد زهد أويس كان يمنعه العري من حضور الجماعات، فكان يجلس في قوصرة وربما منعه العري أحياناً من حضور الجماعات، وهو سيد التابعين.
وأيضاً التزكية تطهير النفس من حب الدنيا، والعيش للدنيا لا يليق بمن شبوا عن الطوق، قال تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36].
فاللعب لا يليق بمن شبوا عن الطوق من الرجال، وأنت عندما تجد رجلاً كبيراً في السن يلعب بلعبة لطفل سنه خمس سنين، تقول له: يا رجل! اتركها للأطفال الصغار.
فالعيش للدنيا والعمل للدنيا لا يليق بمن شبوا عن الطوق، والعيش في المستنقع الآسن والوحل وشهوات هذه الدنيا لا يليق بالرجال.
يقول سيدنا يحيى بن زكريا: أو للعلب خلقنا؟! إنما خلقنا لنحيا مع الخالق في دار غرسها الرحمن بيده.
(28/7)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:21   رقم المشاركة : 35
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


التزكية هي مراقبة الله عز وجل
وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم التزكية بمقام الإحسان، وهو أعلى مقامات الدين، وفسرها بالمراقبة، وجعلها موجبة لذوق طعم الإيمان، ففي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من فعلهن فقد ذاق طعم الإيمان: من عبد الله عز وجل وحده بأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبةً بها نفسه في كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة، ولكن من أواسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيرها ولم يأمركم بشرها، وزكى نفسه، فقال رجل: وما تزكية النفس؟ قال: أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان).
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعةً ولا أن ما تخفيه عنه يغيب وكما قال الشاعر: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها.
(28/8)
التزكية هي التقوى
وتزكية النفوس يا إخوتاه! هي التقوى، ويشهد لذلك قول الله عز وجل: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، فهذه الآية نص صريح على أن التزكية هي التقوى.
وقال الله عز وجل: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:17 - 18].
وقال الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:7 - 9].
وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً ينص على أن التقوى هي التزكية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: النفس تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات.
وترك المحرمات مع فعل المأمورات هي التقوى.
وقال ابن عيينة وقتادة في قول الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14]: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال.
وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله: زكاها أي: طهرها من الذنوب وأصلحها بالطاعة.
(28/9)
موعظة في تكريم الله للإنسان وغناه عنه وفقر الإنسان إليه
يا جوهرة بمزبلة لا تعرف قدرها، أنت المراد من هذا الكون، إن الله يريدك لجواره، كم من ملك في السماوات ما ذاقوا طعاماً وما شربوا شراباً منذ أن خلقهم الله عز وجل ليس لهم مدحة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك).
كم من ملك في السماوات ما ذاقوا غمضاً منذ أن خلقهم الله عز وجل، ليس لهم مدحة، وأما المؤمن فقد قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16].
يا من أسجد الله لأبيك الملائكة وأنت في صلبه، يا من أقام الله الأطهار من عباده الذين زكت أنفسهم يستغفرون لك قبل مجيئك إلى دار الدنيا، فهذا نوح عليه السلام يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] بل يأمر الله نبيه أن يستغفر لك، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19].
بل يجعل الله عز وجل حملة العرش يستغفرون لك.
تطوي المراحل عن حبيبك جاهداً وتظل تبكيه بدمع ساخن كذبتك نفسك لست من أحبابه تشكو البعاد وأنت عين الظالم كيف لا تحب من أنت به، وبقاؤك منه، وتسييرك بيده، ورجوعك إليه؟ وكل مستحسن في الوجود هو الذي حسنه، وهو الذي جمله وزينه وعطف النفوس إليه، فقد أعطاك أيتها النفس مالاً فأملي، وبلغك ما لم تطلبي، وستر عليك من القبيح ما لو فاح لضجت المشام.
كم عدو حط منك بالذم فرقاك، وكم أعطش من شراب الأنام خلقاً وسقاك، وكم أمات بعض من لم يبلغ مرادك وأبقاك.
من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن إجابته، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تعلم عثرة القلب عند الخوض في غير حديثه ثم لا ترتاح إلى ذكره، وأعجب من هذا علمك أنك لابد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت فيما يبعدك عنه راغب.
عالج النفس من شهواتها وأمراضها ثم بعد ذلك تحقق بأمهات المقامات القلبية من التوحيد والعبودية والإخلاص له عز وجل، والصدق معه، والزهد والمحبة له، والخوف والرجاء منه وحده، فإن في القلب شعثاً لا يلمه إلا إقبال على الله عز وجل وخوف منه وإنابة إليه وتبتل إليه.
والخوف والرجاء والورع والصبر والرضا والتسليم والمراقبة والتوبة مقامات لابد للإنسان أن يحققها حتى تزكو نفسه، ثم بعد ذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير من زكت نفسه.
(28/10)
بيان أن التزكية عمل الأنبياء
وتزكية النفوس هو عمل النبيين، يقول الشاعر: ومن لا يربيه الرسول ويسقه لباناً له قد در من ثدي قدسه فذاك لقيط ما له نسبة ولا يتعدى طور أبناء جنسه فكل روح لم يربها الرسل لا تفلح ولا تصلح للأحوال العلية.
(28/11)
فساد نظريات التزكية المستمدة من غير الوحي
ومنهج التزكية ليس متروكاً لعلماء الكلام ولا للفلاسفة ولا لأصحاب المواجيد، ولا لنظريات علماء النفس ولا للمجاهدات البوذية، وإن كثيراً ممن كتبوا في أمور التربية من علماء النفس أتوا بنظريات متضاربة ومناهج متصارعة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولو اطلعت عليها -يا أخي- لوليت منها فراراً ولملئت منها رعباً، ولكن دعاتها لا يزالون يلقون عليها من زخرف القول غروراً حتى أحلوا المريدين مستنقعاً وبوراً، واتخذوا من أجلها هذا القرآن مهجوراً.
وقد قال قائلهم: حدثني قلبي عن ربي.
وقال آخر: لكم علم الورق ونحن لنا علم الخرق.
وقال ثالث بإسقاط التكاليف.
وقال الجنيد: من قال هذا فهو أشد كفراً من اليهود والنصارى، أي: الذين قالوا: إنهم وصلوا إلى الله عز وجل بإسقاط التكاليف، نعم وصلوا ولكن إلى سقر.
وما بال الشيخ سعيد حواء -رحمه الله وغفر له- يقول: لقد جربت كثيراً ورأيت كثيراً، ونادراً ما وجدت كمالاً في النفس أو إحساناً في السلوك أو قدرة على التعامل إلا وجدت معها تربية صوفية صافية، وذلك لأن مفاتيح النفس البشرية إنما هي في هذه التربية وأصولها وقواعدها؛ لأن الصوفية هم الذين ورثوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم تربية النفس، وتخصصوا في ذلك، وتفرغوا له، وفطنوا لما لا يفطن له غيرهم، وقامت لهم ثروة من التجارب السارة في كل عصر، فما لم يأخذ الإنسان عنهم تبقى نفسه بعيدة عن الحال النبوية؛ لأن الصوفية هم الذين ملكوا العلم الذي تتهذب به النفس البشرية.
هذا قول الشيخ سعيد حواء غفر الله له، ولا يقبل منه هذا الكلام في أي حال من الأحوال.
بل يقول الغزالي رحمه الله: إن الصوفية في رقصاتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.
وقوله هذا مخالف لحال السلف وعلمهم! قال إسحاق بن راهويه: سمعت أحمد بن حنبل وقد سئل عن الوساوس والخطرات قال: ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون، والكلام في الوساوس والخطرات مثل رجل يمر على جب القاذورات، فإن أراد أن ينفشه لا ينتهي هذا الجب، ففي كل لحظة وفي كل مرحلة يتأذى بأنتان جديدة لا تخطر له على بال، ولكن إذا مر عليه مرور الكرام وعرض له منه عارض غسله فهذا أولى.
وهذه طريقة الكمل كما يقول شيخ الإسلام ابن القيم.
فإن كان الرجل في طب الأبدان لا يذهب إلا إلى الطبيب المتخصص -ولو داوى جسده بمجرد التجارب التي لا تسمن ولا تغني من جوع فإن الناس ينكرون عليه- فما بالك بمرض القلوب؟ والقلب كالملك، والجوارح كالجنود، فهذا الأمر موكول إلى الرسل لا إلى غيرهم.
(28/12)
وسائل التزكية
(28/13)
الصيام
والصوم تزكية للنفوس، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، يعني: تزكو نفوسكم.
فمن منا يكثر من صيام النافلة ويربط على بطنه قليلاً؟ من منا لا يطول شبعه، ويعمل بقاعدة السلف: جواز الشبع أحياناً، والأصل عدم الشبع؟ أي: يجوز لك أن تشبع أحياناً.
وقد قيل لسيدنا يوسف -وكان على خزائن الأرض-: لم لا تشبع؟ قال: أخاف أن أشبع وأنسى الجياع.
وداود بن أبي هند أحد رواة الكتب الستة، صام أربعين سنة لا تشعر به زوجه، كان يأخذ الطعام من البيت بعد الفجر ويتصدق به في عرض الطريق، ثم بعد ذلك لا يصل إلى بيته إلا بعد صلاة المغرب، فتظن زوجته أنه قد أكل ما أخذه من طعام، ويظن أهل السوق أنه قد تناول إفطاره في البيت.
وإبراهيم بن هانئ النيسابوري أخص تلاميذ الإمام أحمد بن حنبل مات وهو صائم، حتى قال الإمام أحمد لابنه إسحاق: ومن يقدر أو من يطيق ما يطيقه والدك؟ وعروة بن الزبير مات وهو صائم.
وأبو طلحة الذي قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة أو خير من ألف رجل) هذا الصحابي الجليل قال الإمام الذهبي: إنه سرد الصوم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نيفاً وعشرين سنة.
وقال الحاكم: أربعين سنة.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
(28/14)
الزكاة والصدقة
والزكاة طهارة، فالإنسان يزكي نفسه بالإنفاق ويتخلى عن أدوى الداء، وهو البخل.
قال الله تبارك وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103].
ومن منا يدور بخلده أن امرأة يأتي لها ثمانون ألف دينار فتفرقها، ثم لا تجد في آخر النهار طعاماً تفطر عليه وكانت صائمة؟ من منا يفعل هذا؟ ومن منا يفعل مثل ما فعل أويس القرني، كان إذا أتى الليل يتصدق بكل ما عنده، ثم يقول: اللهم إني أعتذر إليك عن كل كبد جائعة من المسلمين، فإنه ليس في بيتي إلا ما في بطني من الطعام، وما يستر عورتي من الثياب.
فهؤلاء الناس وصل بهم الإحساس بالمسلمين إلى هذا، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).
علي زين العابدين كان يبخل ويتهم بالبخل، فلما مات وجدوه يقوت أهل مائة بيت من بيوت المدينة، فمن منا يفعل هذا؟
(28/15)
الصلاة
الصلاة تزكية، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].
ومن مثلك يا ابن آدم! خلي بينك وبين المحراب فتدخل على سيدك أنى تشاء.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من واظب على تكبيرة الإحرام أربعين يوماً كتبت له براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من النار).
وسيدنا سعيد بن المسيب يقول: منذ أربعين سنة ما سمعت الأذان إلا بالمسجد، ومنذ أربعين سنة ما نظرت إلى قفا مسلم في صلاة.
وقال عدي بن حاتم الطائي الصحابي الجليل: ما أتى وقت صلاة إلا وأنا إليها بالأشواق.
إن الذنوب رجس، والصلاة تطهر الإنسان من ذنوبه، قال ثابت البناني مسنداً إلى سيدنا أنس بن مالك أنه قال: لا يسمى العابد عابداً ولو كان فيه كل خصلة من خصال الخير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان: الصوم والصلاة؛ لأنهما تأخذان من لحمه ودمه، ولو كان شيء أعز من الصلاة لما قال الله عز وجل: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39].
فالصلاة والمحافظة على السنن الرواتب وعلى قيام الليل من أسباب التزكية.
إنما قالوا التهجد فيه أسرار عجيبة في فؤاد المتعبد طعم أذواق غريبة وإذا طال التهجد هبت الريح الرطيبة وأذان من بلال ادخلوها آمنين فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعين وأما كون الإنسان ينام إلى الصباح فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن رجل نام حتى أصبح: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه).
وإذا قام إلى الصلاة أصبح نشيطاً طيب النفس كما جاء في الحديث؛ فالصلاة طهارة.
(28/16)
الطهارة والوضوء
ويزكي نفسه بالطهارة وبالوضوء، كما قال الله عز وجل: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].
والطهارة في كتاب الله تنتظم طهارة القلب والجوارح، كما قال الله عز وجل: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].
وقال الله عز وجل: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11].
وطهارة الأبدان طهارة الظاهر، وقد قرنت بطهارة القلوب، كما قال الله عز وجل: {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11].
وقال الله عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، أي: نفسك فطهرها.
(28/17)
التوحيد
إن النفوس تزكو بتوحيد الله عز وجل، كما قال شيخ الإسلام الهروي لما سئل: هل كان هناك ولي لله على غير اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل؟ قال: ما كان هذا ولا يكون.
فكيف تزكو نفس الجهمي وهو لا يعرف له رباً عليماً ولا قادراً ولا سميعاً ولا بصيراً؟ وإنما بالتوحيد تزكو النفوس.
وأرواح المشركين نجسة ونفوسهم خبيثة، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28].
وقال الله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41].
وقال الله تبارك وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14]، ولم تكن الزكاة قد فرضت بعد، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، أي: قد أفلح من تطهر من الشرك.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7] قال ابن عباس: أي: لا يشهدون أن لا إله إلا الله.
والإنسان إذا عرف ربه، وخشع له، وسلم له، ورضي به، وخافه ورجاه فإنه يفعل ما يحبه الله عز وجل، ويبتعد أشد البعد عما ينهى الله تبارك وتعالى عنه، وهل التزكية إلا هذا؟ فالإنسان يزكي نفسه باعتقاد أهل السنة والجماعة، ويزكي نفسه بعقيدة السلف الصالح والقرون الخيرية أفضل تزكية.
(28/18)
الالتزام بالشريعة
للتزكية النفس وسائل كثيرة، والشرائع كلها تزكية، فقد كللت العبادات وزينت المعاملات وتوجت العادات بحسن الخلق، ففي الصلاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة)، وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].
وفي الصيام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة).
وفي الحج قال الله عز وجل: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197].
وقال في الزكاة: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263].
وفي البيوع قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن خياركم أحاسنكم قضاءً).
وفي المعاملات الزوجية قال تعالى: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229].
(28/19)
حسن الخلق
(28/20)
من أقوال العلماء في حسن الخلق
قال يحيى بن معاذ: في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق.
وقال الفضيل: لئن يصاحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني عابد سيئ الخلق.
وأمهات محاسن الأخلاق كما قال العلامة ابن القيم: هي الصبر والعفة والشجاعة والعدل.
فالصبر يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ والأناة والرفق وعدم الطيش، والعفة تحمله على الحياء وفعل كل جميل، والشجاعة تحمله على عزة النفس والتحلي بمعالي الأخلاق والشيم وعلى الندى والجود.
وأضف إلى ذلك كما قال الهروي: العلم والعدل؛ فهذه أمهات مكارم الأخلاق.
والخلق -يا إخوتاه- يمكن اكتسابه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زكها أنت خير من زكاها).
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم).
فالأخلاق الجميلة يمكن اكتسابها بمجاورة الصالحين وبالتكيف حتى يعتادها الإنسان.
(28/21)
فضل حسن الخلق
فكل المقامات وكل الجهود رجعت إلى حسن الخلق، وتزكية النفوس تنقيتها من الرذائل وتحليتها بالفضائل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم خلقاً).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل الظامئ بالهواجر).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافاها ويكره سفسافها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الناس لم يعطوا شيئاً خيراً من خلق حسن).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان سهلاً هيناً ليناً حرمه الله على النار).
(28/22)
مكانة حسن الخلق من الدين
وتزكية النفوس -يا إخوتاه! هي التحلي بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمكارم الأخلاق.
ولقد قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
قال ابن عباس: وإنك لعلى دين عظيم، -أي: لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي من دين الإسلام.
فرضي الله عن ابن عباس الذي جعل الدين كله خلقاً، ومن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الدين.
قال الحسن في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] قال: آداب القرآن.
وقال ابن القيم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] الخلق الذي آثرك الله به في القرآن.
وقالت السيدة عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان خلقه القرآن).
وهذه الآية: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] آية عظيمة، نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام فلم يته على العباد بها.
وسيدنا سعد بن أبي وقاص كان يقول: لقد جمع لي الرسول صلى الله عليه وسلم بين أبويه، وكان يتفاخر على الصحابة بما قاله، فما ظنك بالذي قال له الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وينزل بها كتاب الله عز وجل؟ من قائلها؟ وفي أي الكتب سطرت هذه الشهادة؟ ومع ذلك لم يتأثر بها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تزده إلا تواضعاً لربه.
وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] يبرز أصالة الأخلاق في الإسلام، وأنها مطلب هام من مطالب الرسالة، كما قال أهل العلم.
وأجمع آية لمكارم الأخلاق قول الله تبارك وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).
(28/23)
مشاهد حسن الخلق في التعامل مع أذى الخلق
والإنسان تعرض له مشاهد فيما يصيبه من أذى الخلق، وهذا بيت القصيد -إن شاء الله- الذي يمكن أن نقف عليه قليلاً.
فعلى الإنسان أن يتحلى بالعدل مع ما يصيبه من أذى الخلق، وأن يعرف كيف يتعامل مع عباد الله عز وجل، وكما قال القائل: ستعلمي إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار وحسن الخلق أن يحسن الإنسان خلقه بينه وبين ربه، وبينه وبين الخلق، وله في ذلك مشاهد:
(28/24)
خامساً مشهد الإحسان
ثم فوق هذا مشهد الإحسان: أي: أن تقابل إساءة المسيء الذي أساء إليك بالإحسان، وأن تحسن إليه كلما أساء إليك، ويهون هذا عليك علمك بأنك قد ربحت عليه وأنه يعطيك من حسناته، والعلماء قالوا: اقتضاء الهبة الثواب، وهذا المسكين قد وهبك أغلى ما عنده، وهي حسناته، فإن كنت من أهل الكرم فأثبه عليها حتى تثبت الهبة.
والحسن البصري كان إذا بلغه عن أحد أنه شتمه يهديه طبقاً من التمر ويقول: بلغنا أنك تهدي إلينا من حسناتك، وليس عندنا إلا هذا التمر.
ومما يهون عليك أيضاً مقابلة الإساءة بالإحسان علمك بأن الجزاء من جنس العمل، فإن كان هذا عملك وإحسانك إلى من أساء إليك مع ضعفك وحاجتك وفقرك وذلك، فهكذا يفعل المحسن عز وجل القادر العزيز الغني بك في إساءتك ويقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك، فهذا لابد لك منه.
وانظر إلى الربيع بن خثيم تلميذ سيدنا عبد الله بن مسعود لما سرقت فرسه وكان قائماً بالليل، وكان قد ذهب غلامه ليحتش، فلما أتى الغلام قال: يا ربيع أين الفرس؟ قال: سرقت، قال: سرقت وأنت تنظر إليها! قال: ما كان شغل يشغلني عن الصلاة، ثم رفع الربيع يده وقال: اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنياً فاهده، وإن كان فقيراً فأغنه.
هؤلاء هم السلفيون، وهذه هي الرقة التي تذوب في الأرض، فتملأ الأرض رياحين وجناناً، فهو يدعو لسارقه.
ونحن عندنا في مصر مثلاً إذا سرق الواحد مثلاً ربع جنيه يقولون له: اقتله، ثم يدخل العناية المركزية؛ من أجل أنه سرق منه ربع جنيه، فيريد منه عشرة آلاف جنيه، والربيع بن خثيم يدعو لسارقه!
(28/25)
سادساً مشهد السلامة
والمشهد الذي هو أعلى من هذا السلامة وبرد القلب: فلا تشوش على قلبك بالتفكير في أن تؤذي هذا الرجل أو تنتقم منه، فإن الرشيد لا يرضى بأن يشوش قلبه، ولا يرضى بمجرد التفكير في أذى هذا الرجل، ولا يشغل همه بهذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهم هماً واحداً كفاه الله سائر همومه).
(28/26)
رابعاً مشهد الرضا
ثم بعد ذلك مشهد الرضا، وهو: أن ترضى بما قسم الله تبارك وتعالى لك، وتقول: أحبه إليه أحبه إلي.
عذابه فيك عذب وبعده فيك قرب وأنت عندي كروحي بل أنت منها أحب حسبي من الحب أني لما تحب أحب
(28/27)
ثانياً الصبر وكظم الغيظ
المشهد الثاني: الصبر: أن تصبر على أذى الخلق؛ لأنك تعلم عاقبة الصبر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين، يزوجه منها ما يشاء).
فلو شتمك أحد مثلاً وأنت تقدر عليه ولكنك رأيت أنك لو كظمت غيظك فستتزوج من الحور العين ما تشاء؛ لأن هذا مهر لها، فلقد أسأت الخطبة إن لم تصبر.
بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة).
فكيف لا يدفعك هذا إلى الصبر على أذى الناس؟ وقد شتم رجل سيدنا سلمان الفارسي فقال له: إن خفت موازيني فأنا شر مما تقول، وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول.
وشتم رجل الربيع بن خثيم فقال له: يا هذا! قد سمع الله كلامك، وإن دون الجنة عقبة إن قطعتها لم يضرني ما تقول، وإن لم أقطعها فأنا شر مما تقول.
فعلى الإنسان أن يصبر على أذى الخلق.
(28/28)
ثالثاً العفو والصفح والحلم
المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً).
وسيدنا الأحنف بن قيس الذي كان يضرب به المثل في الحلم قال له رجل: علمني الحلم، قال: هو الذل يا ابن أخي! أتصبر عليه؟ يعني: عندما تجد رجلاً يشتمك وأنت ساكت وتستطيع أن ترد عليه وترد له الصاع بمليون صاع، ولكنك تعفو عنه لوجه الله عز وجل، فهذا في ظاهره الذل، ولكن في باطنه كمال العز.
ومن أخبار الأحنف بن قيس أن رجلاً شتمه فسكت عنه، فشتمه الرجل مرة ثانية فسكت عنه، فأعاد فسكت عنه، فبكى الرجل وقال: والهفاه! ما يمنعه أن يرد علي إلا هواني عنده! وشتمه رجل حتى أوصله إلى خيام أهله، أي: إلى منازل أهله، فلما وصل الأحنف بن قيس قال: يا هذا! إن كان بقي عندك شيء فهاته؛ لأنني قربت من منازل الحي، فلا يسمعك بعض سفهائنا فتلقى ما تكره.
وسيدنا قيس بن عاصم المنقري الذي تعلم منه الأحنف بن قيس الحلم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا سيد أهل الوبر).
قال الأحنف: ما تعلمت الحلم إلا من قيس بن عاصم، فقد قتل ابنُ أخ له بعضَ بنيه، فأُتي بالقاتل مكتوفاً يقاد إليه، فقال: ذعرتم الفتى -أي: خوفتم الفتى- ثم أقبل على الفتى فقال: بئس ما فعلت، أنقصت عددك، وأوهنت عضدك، وأسندت عدوك، وأسأت لقومك، وأثمت بربك، وقطعت رحمك، ورميت نفسك بسهمك، خلوا سبيله واحملوا إلى أم القتيل الدية؛ فإنها من غير قومنا.
ثم انصرف القاتل وما حل قيس حبوته ولا تغير وجهه.
يا من تنهش في أحشائي يا من جزء من أجزائي يا من تبدو للجهال كأنك دائي إني أعلم أنك حتماً فيك شفائي قل لي هل يأتيك ندائي إنك مثلي إنك مسلم تشهد أن إلهك واحد إنك فيها من شركائي لكنك دوماً تطعنني من خلفي وفي كعب حذائي حين أراك تقوم بهذا يغرقني خجلي وحيائي ووشاة القوم إذا بانوا تسري الطعنة في أحشائي قل لي هل يأتيك ندائي ابغ العزة عند إلهك ليس العز دمي وبكائي وغداً من قواك يميتك إن أنت أهملت ندائي
(28/29)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:22   رقم المشاركة : 36
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


أولاً مشهد القدر
المشهد الأول: مشهد القدر: فحينما يصيبك أذىً من بعض عباد الله عز وجل فانظر إلى ذلك مثل نظرك إلى ما يصيبك من الحر والبرد الذي يؤذيك، ومثل نزول الأمطار، وقل: إن هذا قدره الله تبارك وتعالى علي، فتفنى عن حق نفسك وتوفي حق ربك.
فإذا ضربك إنسان مثلاً أو اعتدى عليك وشتم عرضك أو تكلم فيك، فانظر إلى أن هذه مصيبة مثل المصيبة التي حلت بك من مثل نزول الأمطار والرياح، وقل: إن هذا حدث بقضاء الله عز وجل وقدره.
ولتكن لك أسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد قالت السيدة عائشة: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله).
وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً ولا دابةً ولا شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله).
وقال سيدنا أنس رضي الله عنه: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنعه؟ وكان إذا عاتبني بعض أهله قال: دعوه فلو قضي شيء لكان).
فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يترك أنساً، وينهى أهله أن يعاتبوه ويقول: (دعوه فلو قضي شيء لكان).
(28/30)
سابعاً مشهد الأمن
ثم فوق هذا مشهد الأمن، فإنك إذا تركت مقابلة الانتقام بمثله عشت في أمان، كما يقولون: عش مظلوماً سنة ولا تعش ظالماً يوماً؛ لأنك تأمن وتعيش في أمن إذا كنت مظلوماً.
اللهم ارزقنا رحمةً ترحمنا بها، اللهم اجعل في قلوبنا رأفة ورحمة ووداً للمسلمين.
ونختم بما قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن لم أكن أهلاً لأن أبلغ رحمتك فإن رحمتك أهل أن تبلغني، رحمتك وسعت كل شيء وأنا شيء، فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
(28/31)
تفسير سورة البلد
لقد أقسم الله تعالى بالبلد الحرام؛ مكة المكرمة على أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يكابد أتعابها منذ خلق وإلى أن يموت.
والله سبحانه وتعالى خلق للإنسان أدوات العلم والمعرفة، وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة، وبين له طريق الحق وطريق الباطل، وبين له أن من الأعمال التي تنجي صاحبها من النار إعتاق الرقاب، وإطعام الناس في شدة المجاعة والمخمصة.
(29/1)
تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: فكلام الملوك ملوك الكلام، وخير الكلام كلام الله تبارك وتعالى القرآن الكريم؛ مزامير الأنس، من حضرة القدس بألحان التوحيد، من رياض التمجيد، هذا طعم الخبر فكيف طعم النظر! {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
والأنس بالله هو الأنس بالقرآن الكريم، ومعنا اليوم سورة مكية وهي سورة البلد.
يقول الله تبارك وتعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:1 - 4].
والربط بين أواخر سورة الفجر وبين أوائل سورة البلد؛ أن الله تبارك وتعالى لما ذكر النفس المطمئنة في آخر سورة الفجر، وقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
لما ذكر الله تبارك وتعالى المكان الطيب في الآخرة وهو الجنة، وذكر النفس المطمئنة، عقب الله تبارك وتعالى بالربط بين المكان الطيب في الآخرة وأطيب مكان في الدنيا وهي مكة، فأقسم الله تبارك وتعالى بها، ثم أقسم بأنفَس وأطهر نفس في تاريخ البشرية وخير من وطأ على الحصا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}.
يقول الله تبارك وتعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1]، فهل معنى هذا أن الله لا يقسم بهذا البلد ولا يقسم بيوم القيامة؟ لا، بدليل أن الله تبارك وتعالى أقسم بمكة في سورة التين فقال: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:3]، فكيف يقسم في سورة ولا يقسم في سورة أخرى؟ ولذلك قال علماء التفسير: إن (لا) هنا زائدة تفيد التوكيد، وقد أتت شواهد في اللغة العربية وفي القرآن على أن (لا) النافية تأتي بهذا، يقول الله تبارك وتعالى عن إبليس في سورة الأعراف: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:12]، وفي نفس السورة يقول: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص:75] إذاً: لا هنا زائدة.
أيضاً يقول الله تبارك وتعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد:29] لئلا أصلها: لأن لا، فأدغمت النون في اللام فصارت لئلا، والمقصود: لكي يعلم أهل الكتاب، فلا هنا زائدة للتوكيد، كما يقول الشاعر: تذكرت ليلى فاعترتني صبابة فكاد صميم القلب لا يتقطع يعني: فكاد صميم القلب يتقطع.
(29/2)
تفسير قوله تعالى: (ووالد وما ولد)
وقوله تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد:3] (ووالد) فيه ثلاثة أقوال: القول الأول: هو آدم أبو البشرية، كما أقسم الله بأم القرى مكة -أي: أصل القرى- يقسم بأصل البشرية آدم.
القول الثاني: إبراهيم عليه السلام.
القول الثالث: وهو قول سعيد بن جبير: هو الرجل الذي يولد له.
قوله: (وما ولد) أيضاً فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: الرجل العقيم الذي لا ينجب.
القول الثاني: أن (ما) هنا مصدرية، أي: ووالد وولادته، فيقسم الله تبارك وتعالى بعملية خلق الإنسان، بإخراج الولد من صلب الذكر ورحم الأنثى، وبعملية خروج الجنين كما تخرج البذرة في الأرض السوداء، ثم تنفلق ويخرج منها نبات طيب أخضر، ثم بعد ذلك تخرج الثمار والزهور، فعملية خلق الإنسان أشد تعقيداً.
والله تبارك وتعالى يوكل ملكاً بتصوير خلق الإنسان، فيجعل له العنينين والأذنين بأمر الله تبارك وتعالى، ويحدد له الرزق والعمر والشقاء أو السعادة، وكل هذا يتم وهو لا يعلم شيئاً.
والله تعالى أنعم علينا بنعمة الإسلام إذ أخرجنا من بطون أمهاتنا مسلمين، فإن رجاء الجارودي ظل يبحث عن الإسلام في مدن فرنسا ستين سنة من عمره، ولو كانت العملية هكذا كان رجاء الجارودي من أوائل الناس الذين أسلموا، ولكن هذه نعمة من الله تبارك وتعالى علينا بها ما عقدنا عليها من خيل ولا ركاب، وإنما ساق إليك هذه النعمة وجعلك من أهل قبضة اليمين.
ولو سجدنا لله على إبر محمي من الآن إلى يوم لقياه ما كافأناه بهذه النعمة.
القول الثالث: أن (ما) هنا موصولة، والمعنى: ووالد والذي ولد، أو: ووالد ومن ولد، مثل قوله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل:3] يعني: والذي خلق الذكر والأنثى، وقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء:3] أي: من طاب لكم من النساء، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران:36] يعني: والله أعلم بمن وضعت، ولكنها وإن كانت تستخدم لغير العاقل فإنها تستخدم هنا للعاقل، وحين تستخدم للعاقل تدل على صفة، أي: ووالد والعظيم الذي ولده، مثل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5] أي: والسماء والخالق العظيم الذي بناها، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] ونفس والخالق العظيم الذي سواها.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يبق له أولاد ذكور، فالله يقسم بآدم ويقسم بأفضل أبنائه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقسم بإبراهيم ويقسم بأفضل أبنائه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:68].
وهذا الكلام فيه تعريض لأهل مكة المشركين حين يقسم الله به وهم يريدون قتله، فيقسم به مرتين: بإقامته، ويقسم به في المرة الثانية: ((وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ)).
وقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، الكبد: المشقة والتعب، ومنه يسمى الكبد كبداً لأنه يحوي دماً متخثراً ومتجمداً.
فالمسلم في مشقة، ولا راحة له إلا بعد أن يجتاز جسر جهنم ويدخل الجنة، فلا مستراح للعابد إلا تحت شجرة طوبى في الجنة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6].
فالإنسان يعيش في كبد من أول ما تقطع سرته، فلو أن رجلاً كبيراً جرح جرحاً بسيطاً فإنه يعاني معاناة شديدة، ولا يسكن الألم إلا بفلين أو بيلوفين أو مسكن كذا وكذا، فما ظنك بالطفل الصغير يفصل شيئاً من جسده وهو السرة؟! ثم بعد ذلك يلبس هذه الملابس واللفافات التي توضع على الطفل الصغير، ولو أن شخصاً لبس ثوباً ضيقاً فقد لا يتحمل، فما ظنك بالطفل الرضيع وهو يشد ويربط بتلك الملابس!! ثم يعالج بعد ذلك الرضاع الذي لو فاته لجاع، ثم يعالج بعد ذلك الفطام الذي هو أشد من الوسام، ثم يعالج بعد ذلك نبت أسنانه، ثم يعالج بعد ذلك الوقوف بخطى ثابتة، والمشي بخطى ثابتة، وهكذا، ثم بعد ذلك يعالج بناء الدور وتشييد القصور، ثم بعد ذلك يعالج مشاكل الزواج وأتعابه، ثم بعد ذلك يعالج أمر الزوجات والأولاد، بعد ذلك يعاني من المواصلات وهمّ المواصلات، ثم بعد ذلك يعاني من المرض والأوجاع، ثم بعد ذلك يعاني سكرات الموت، ثم بعد ذلك يعاني من رؤية ملك الموت، ورؤية الملكين وعذاب القبر، ثم بعد ذلك يعالج ويكابد الوقوف أمام الله تبارك وتعالى في ساحة العرض على الله تبارك وتعالى، ثم بعد ذلك الجنة أو النار.
فهذا يكدح بعضلاته، وذاك يكدح بروحه، وهذا يكدح من أجل بناء القصور، وهذا يكدح من أجل الكساء، وكل يكدح، وكل يحمل همه على ظهره ويمضي، ولكن هناك فرق بين من يكدح في سبيل نزوة وشهوة ومن يكدح لعقيدة ودعوة، وهناك فرق بين الرجل الذي يعيش لشهواته والرجل الذي يعيش لدينه، إن من يعيش لنفسه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، وأما الذي يعيش إرضاء لربه فما له وللمال وللدعة؟! وما له وللفراش الوثير؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انتهى عهد النوم يا خديجة)، قم للأمر الكبير الذي ينتظرك، قم لأمر الدعوة لله تبارك وتعالى.
لإسلامي ولو حتى إلى الجدران شدوني لإسلامي ولو حتى إلى النيران دسوني لإسلامي لإسلامي ولو في السلك باعوني وثارات لإسلامي تعايشني تغذيني تبث النور في روحي وتنبض في شراييني وإسلامي له عرقي له نبضي وسكوني أنا ماذا أقول أنا بلا ربي بلا ديني أنا ماذا أقول أنا أجيبوني أجيبوني هناك من يعاني كدح الدنيا ثم ينتهي به الأمر إلى كدح الآخرة وإلى النار، وهناك من يعاني كدح الدنيا من أجل دينه وينتهي به إلى ظل الله تبارك وتعالى، وإلى جوار الله تبارك وتعالى حيث الأمن، وحيث لا خوف ولا حزن.
والذي يكدح في الدنيا فيتعب، ويكدح في الآخرة بمعالجة السلاسل والأغلال والنيران وسرابيل القطران، هذا جمع هماً إلى هم، فمثله كمن يغوص في الأوحال والطين مع أكل الديدان والحشرات.
إذا أنت غمت عليك السماء وضلت حياتك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها ومن تعب في سبيل الدعوة فإنه يحس بأنس وراحة، وطمأنينة بال، ورضا عن نفسه قال أحدهم: والله! إنها لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً.
ويقول الآخر: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب.
يعني: لو أن حياة أهل الجنة مثل هذه الحياة فإن أهل الجنة في سعادة.
ويقول القائل: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف.
ويقول أحدهم: العيش الهني العيش مع الله تبارك وتعالى؛ أن يرضى الله تبارك وتعالى عنك.
ومن اشتاق إلى الله اشتاقت إليه جميع الأشياء، ومن قرت عينه بالله قرت به كل عين.
(29/3)
تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد)
اختلف علماء التفسير في معنى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2] على ثلاثة أقوال: القول الأول: حلال لك ما تفعله في هذا البلد لحظة دخولك إياها، فاقتل من شئت، واعف عمن شئت، وعندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة كان يقول: (من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بيته فهو آمن)، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتل عشرة من مجرمي الحرب الذين ناصبوا الدعوة العداء وإن تعلقوا بأستار الكعبة، ومنهم: عبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعكرمة بن أبي جهل وآخرون، ثم بعد ذلك عفا رسول الله عن سبعة، وقتل الصحابة الثلاثة، ومنهم رجل وجدوه قد تعلق بأستار الكعبة فقتلوه وهو متعلق بأستار الكعبة؛ تنفيذاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لم يحل مكة لأحد من قبلي، ولا تحل لأحد من بعدي، وما أحلت لي إلا ساعة من نهار، ثم عادت حراماً بحرمة الله إلى يوم القيامة).
وهذه خاصية أعطاها الله عز وجل للمصطفى صلى الله عليه وسلم ساعة دخول مكة فقط، وهذه من الخصائص المؤقتة لرسول الله.
وهذه السورة مكية، نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطهد معذب بمكة، فحينها يقول الله تبارك وتعالى له: ستفتح هذه البلدة التي ناصبتك العداء، وبأمر الله افعل فيها ما شئت، ففي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في يوم من الأيام ستفتح له مكة، وتنزل عليه هذه السورة برداً وسلاماً على قلبه.
القول الثاني: ((وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ)) أي: وكل شيء فيك حلال لأهل مكة، فهم لا يصطادون في مكة ولا يقتلون الدواب، ولا يقلعون الشجر ولا الحشيش الرطب في مكة، ويحرمون الصيد فيها، ومع ذلك يجتمعون ويتفقون على قتلك؟! كيف يصح هذا في الأذهان؟! لا يقتلون القاتل إذا دخل في رحاب مكة ثم يتفقون على قتلك أنت؟! ((وَأَنْتَ حِلٌّ)) أي: وأنت مهدر الدم حلال أن يقتلوك، فأي مقياس هذا وأي منطق؟ إنهم يعفون عن المجرم القاتل وألا يقتلوا صيداً وألا يقطعوا شجراً، ثم يستحلون منك ما لا يستحلون من القاتل؟! فهل يعقل أن يقتلوك؟ أو أن يشردوك أو يخرجوك من بلدتك؟ ويح قوم جفوا نبياً بأرض ألفته ضبابها والظباء وسلوه وحن جذع إليه وقلوه ورده الغرباء ونحا المصطفى المدينة واشتا قت إليه من مكة الأنحاء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم علي قبل البعثة)، فكان كلما مرّ على هذا الحجر قال له: السلام عليك يا رسول الله! فالحجارة تعرف الصالحين، وتسلم على الأنبياء والمرسلين، وتقسو القلوب فتطرد أنبياء الله تبارك وتعالى! قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [النمل:56] وذنبهم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56].
وقال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
فإذا عرف الشباب طريق المساجد فهذا تطرف وإذا بعدوا عن المساجد وشربوا السجائر فهذا عين الصواب! القول الثالث: ((وَأَنْتَ حِلٌّ بهذا البلد)) أي: وأنت مقيم بهذا البلد، يقسم الله تبارك وتعالى بإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة شرف لها، فهي حرام وأمان، وإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم أمان، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، فهو مصدر الأمان لهم ومع هذا يهددون أمنك، ويودون قتلك! إذاً: يقسم الله تبارك وتعالى بإقامة رسول الله في مكة، فقد زادها شرفاً فوق شرفها.
فالمولى تبارك وتعالى يقسم بإقامة الرسول في مكة، ويعلم أنه مضطهد ومعذب ومشرد بين قومه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إلى القبائل، فيمشي وراءه أبو لهب فيقول: لا تتبعوا هذا الصابئ، وكان يرشق بالحجارة إذا عرض نفسه على قومه، فكان يقول: (من يجيرني حتى أبلغ رسالات ربي أضمن له الجنة).
فكان أبو جهل وأبو لهب والسفهاء وراءه، يعرض نفسه على القبائل وهو سيد الناس وقد لاقى ما لاقى حتى إنهم كانوا يضعون عليه سلا الجزور وهو ساجد -بأبي هو وأمي- صلى الله عليه وسلم، فعز على سيدنا أبي بكر ما يفعل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يدفعهم عنه، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ قالوا: من هذا؟ قالوا: أبو بكر المجنون، فالذي يدافع عنه مجنون، فتركوا رسول الله ثم أقبلوا على أبي بكر، فجعل عقبة بن ربيعة يضربه بنعلين مخصوفتين، وأبو بكر سماه الله تبارك وتعالى في السماء صديقاً، قال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]، وهو {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40]، فكان هذا المجرم يضربه بنعلين مخصوفتين حتى انحرف وجهه، ونزا على بطنه برجله، حتى أتت بنو تيم فأنقذته وهم لا يشكون في موته، وغشي عليه، وأول كلمة نطق بها بعد أن أفاق: ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وآخر شيء أنت في كل هجعة وأول شيء أنت عند قبولي فجعل قومه يلوكونه بألسنتهم، ثم قال: والله لا أذوق طعاماً حتى أنظر ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تقول السيدة أسماء: فجعل أبو بكر لا يمس شيئاً من جدائل شعره إلا سقطت مع لحم الرأس، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، واعتمد على أخت عمر بن الخطاب حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حال الصديق رق له وبكى، فما ظنك بفعلهم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا شرف للدعاة أن المولى تبارك وتعالى يقسم بتعب رسول الله واضطهاده وكدحه في سبيل دينه في هذا البلد.
(29/4)
أسماء مكة
قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1]: أقسم الله تبارك وتعالى بالبلد الحرام مكة، ومن أسماء مكة: البلد الحرام، والبلد الأمين، وأم القرى، يعني: أصل القرى، فكل القرى لها تبع وهي الأصل، وتسمى بكة بالباء؛ لأنها تدك أعناق الجبابرة، وتسمى بثاق أيضاً: له دفع الحديد إلى بثاق.
وتسمى معاداً قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85]، وتسمى كوثى، والبلدة، والبنية.
لو لم تكن خير البلاد على الثرى ما كان بيت الله فوق ترابها هي قلب هذي الأرض مقلة وجهها والصالحات عرفن من أهدابها فاكحل جفونك يا شريد بمائها أو شح ماء فاكتحل بترابها يعني: لو أن الرجل يكتحل بالتراب فتراب مكة أولى.
ويقول الشاعر أحمد شوقي: على كل أفق بالحجاز ملائك تزف تحايا الله والبركات لدى الباب جبريل الأمين براحه رسائل رحمانية النفحات وزمزم تجري بين عينيك أعيناً من الكوثر المعسول منفجرات ويقول الشاعر أيضاً: هنا النبوة تحيا في أماكنها والطيب يبلى ونوء الدهر تندرس هنا الصحابة من حول النبي رنا أبو هريرة يوم الحل والأنس هنا السماوات تبدو قرب طالبها هنا رحاب فضاء حين يلتمس يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحظة الهجرة على مكة فيقول: (والله إنك لأطيب بلاد الله وأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت، أو ما سكنت غيرك)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس)، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا يختلى خلاها).
وقد يقول قائل: إن الله تبارك وتعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ومع هذا قد يحدث قتل في مكة، فما معنى هذا التحريم؟
و
الجواب
أن التحريم ينقسم إلى قسمين: تحريم شرعي، وتحريم كوني، فالتحريم الكوني كقول الله تبارك وتعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12]، وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأنبياء:95].
والتحريم الشرعي: أن ينهى الله تبارك وتعالى عن شيء، ثم يفعله بعض عباده، مثلما يقول الله تبارك وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، فهذا قضاء شرعي، وإلا لو كان قضاء كونياً لعبد الناس كلهم الله عز وجل، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] أي: قضى الله بالوالدين إحساناً، ولكن مع ذلك تجد أناساً يعقون آباءهم.
فهناك تحريم كوني وتحريم شرعي، وقضاء كوني وقضاء شرعي، وإذن كوني وإذن شرعي، وإرسال كوني وإرسال شرعي، وإرادة كونية وإرادة شرعية.
واسم الإشارة في قوله تعالى: ((لا أُقْسِمُ بِهَذَا البلد)) يأتي للتعظيم وللتنويه بشرف مكة.
وقوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2]، ولم يقل: لا أقسم بهذا البلد وأنت حل به، وإنما قال: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}، فكرر ذكر (بهذا البلد) مرة ثانية ولم يأت بها مضمرة، ليدل ذلك على فضل مكة.
(29/5)
تفسير قوله تعالى: (أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه أحد)
قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5].
قد يطغى إنسان بقوته وينسى كم أهلك الله من قبله من القرون، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13].
قال أبو جعفر المنصور لأحد العلماء: لم خلق الله الذباب؟ قال: ليذل به أعناق الجبابرة فعندما تأتي إليه الذبابة لا يستطيع أن يحضر لها جيشاً مسلحاً من أجل طردها وإبعادها.
ولهذا لما قال النمرود بن كنعان: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] أي: أقتل هذا وأعفو عن هذا، ابتلاه الله تبارك وتعالى ببعوضة دخلت في أحد منخريه إلى دماغه، فجعلت تطن، فكان صوت الطنين في دماغه كأنه صوت آلات مصانع حربية، فجعلوا يضربونه بالنعال على أم رأسه، فأذل الله هذا الرجل الذي قال: أنا أحيي وأميت.
فالله يبتلي الإنسان بقوته، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59]، والله تبارك وتعالى يقول: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45]، والله تبارك وتعالى يقول: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} [الرعد:6]، والله تبارك وتعالى يقول: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40]، فليتق الله امرؤ في نفسه.
(29/6)
تفسير قوله تعالى: (يقول أهلكت مالاً لبداً)
(29/7)
القراءات في قوله تعالى: (يقول أهلكت مالاً لبداً)
قال الله تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد:6] وفي قراءة: (يقول أهلكت مالاً لبَّداً) وهذه قراءة متواترة صحيحة.
ومعنى قوله تعالى: ((يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا)) يعني: مالاً كثيراً، فالشعر الملبد هو الشعر المتراكم بعضه على بعض.
إذاً: لبداً مفردها: لبد، لكن لبَّداً مفردها: لابد، كما تقول: قام قائم، ركع راكع، سجد ساجد، شهد شاهد.
ويقال: إن رجلاً أسلم ثم قال: والله منذ أن أسلمت أنفقت مالاً كثيراً في الكفارات، فربما تنتهي أموالي بسبب محمد! فالله تعالى ذم كلامه القبيح، فهذا المدح الكاذب نعرة من نعرات الجاهلية، وذلك مثل رجل يريد أن يفرح بولده، فينفق مائة ألف جنيه على راقصة ومغنية وطبل ومزمار، وكأنه يقول: أريد أن أشتري المعاصي بنقودي، فأصل التمادح الكاذب هذا موجود في الجاهلية.
(29/8)
تفسير قوله تعالى: (أيحسب أن لم يره أحد)
قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد:7].
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب إذا ما مضى القوم الذي أنت فيهمُ وخلِّفت في قوم فأنت غريب فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب قيل للإمام أحمد بن حنبل: ما تقول في الشعر؟ قال: مثل ماذا؟ قالوا: مثل قول القائل: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني فيقصيني فقام الإمام أحمد وأخذ نعله وسمع نحيبه من خلف الباب وهو يبكي ويقول: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني فيقصيني ورجل راود امرأة على الزنا وقال لها: لا يرانا إلا الكواكب، فقالت له: فأين مكوكبها؟ أين الله! والراعي عندما قال له ابن عمر رضي الله عنه: أعطني شاة وقل لسيدك: سرقت الشاة مني، قال له: فأين الله؟ فهذه هي الرقابة لله تعالى.
ولو أن إنساناً خلا بمحارم الله فانتهكها فقد جعل الله أهون الناظرين إليه، فلذلك جاء في الأثر: استح من الله كما تستحي من الرجل الكبير من قومك.
فكما لا تستطيع أن تفعل العيب أمام رجل كبير في مدينتك حياء منه، فكذلك استح من الله، والذي يستحي من الله يقربه الله تبارك وتعالى، والذي يرتكب المعصية أقل أمره أنه قليل الحياء؛ لأن فعله حين يرتكب المعصية دائر بين أمرين: فإن قال: إني أرتكب المعصية والله غير ناظر إلي وغير مطلع علي، وأرتكب هذا الفعل بمغيب عن علم الله فهذا كفر وخروج من الإسلام بالكلية، فهو كافر.
وإن قال: إني أفعل هذا وأعلم أن الله ناظر إلي، فهذا يدل على قلة الحياء.
فلا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها، فإذا حرك الريح باب دارك وأنت في منظر معيب، فإنك تخشى من نظر الناس، أفلا تخشى بعد ذلك نظر الله إليك وأنت مقيم على المعاصي؟! يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إن لم تستح فاصنع ما شئت).
(29/9)
تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل له عينين)
يقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10].
سبحان من أنطق بلحم، وأسمع بشحم، ولا يقدر على ذلك إلا الله تبارك وتعالى.
فقوله تعالى: ((أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ)) فهذه النعمة لا تستطيع أن تكافئها بسجود دائم إلى يوم القيامة، ولا تدرك عظمتها إلا إذا سلبها الله تبارك وتعالى عنك.
قال الجنيد لابن أخته وهو طفل ابن سبع سنوات: ما أقل الشكر يا غلام؟ قال: ألَّا تعص الله بنعمه.
فالله تبارك وتعالى أعطاك نعمة العينين، فإذا أردت أن تعصيه ولا تغض البصر، فاعمل لك بصراً عند أحد النجارين واعص به ما شئت، ولكن لا تعص الله بنعمه، فإن هذا يدل على قلة الحياء، وهو أن تستخدم هذه النعمة في الشيء المقابل.
وقوله تعالى: {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:9]، فالعرب قبل نزول القرآن الكريم كانت تسمي الكلمة بنت شفه، يعني: أنها تخرج من بين الشفتين، ولكن الأسلوب القرآني: ((وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ)) أي: إياك من اللسان، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (عليك بطول الصمت، وحسن الخلق، فوالذي نفسي بيده ما تجملت الخلائق بمثلهما).
وابن دقيق العيد يقول: والله منذ أربعين سنة ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله تبارك وتعالى.
فالعينان واللسان والشفتان تشهد على الإنسان يوم القيامة، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21]، ويقول الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
وقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] النجد: هو المكان المرتفع، ومنه سميت نجد نجداً؛ لأنها مرتفعة على تهامة، فسمى الله تبارك وتعالى طريق الحق بأنه نجد وعر، وسمى طريق الشر أيضاً بأنه وعر، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3] أي: بينا له طريق الخير، وبينا له طريق الشر.
إذاً: فمعنى هديناه النجدين: وضحنا له طريق الحق وطريق الضلالة، وطريق الحق وعر باعتبار البداية، ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره).
وطريق الشر وعر باعتبار النهاية؛ لأنه يؤدي بك إلى النار، والإنسان في البداية يريد السرقة من أجل حصول المال ويريد الزنا وغير ذلك، فطريق الشر حلو باعتبار البداية، ولكنه وعر باعتبار النهاية، فتفنى اللذات ويبقى أثرها؟ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وحفت النار بالشهوات).
(29/10)
تفسير قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة)
قال تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11].
يعني: فهلا اقتحم العقبة، والاقتحام أن ترمي نفسك في الشيء بدون تفكير وبدون روية، والعرب تقول: قحم الفرس فارسه إذا ألقاه من عليه على وجهه، وتقول: أصابت القوم القحمة، يعني: الشدة والجوع.
فمعناه: فهلا اقتحم العقبة، أي: فهلا سارع في فكاك نفسه.
قوله: ((فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)) هناك محذوف، والتقدير: فلا اقتحم العقبة ولا آمن، والعقبة قالوا: إنها الصراط المار على جهنم، وقالوا أيضاً: إنها نار دون الجسر، وقالوا: إنها دركات النار -منازل أهل النار-، وقالوا: العقبة مجاهدة النفس حتى تزكو بأمر الله تبارك وتعالى.
والإمام البخاري قال: ((فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)) يعني: فلن يقتحم العقبة، وهكذا فسرها مجاهد.
(29/11)
تفسير قوله: (وما أدراك ما العقبة)
قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد:12].
يقول سفيان بن عيينة: كل ما قاله الله تبارك وتعالى لنبيه: (وما أدراك) فقد أعلمه به، وكل ما قاله الله لنبيه: (وما يدريك) فلم يعلمه به، قال تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63]، فالله لم يعلمه بها، وأما العقبة فقد أعلمه بها مباشرة.
(29/12)
تفسير قوله تعالى: (فك رقبة)
قال تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:13]، والفرق بين فك الرقبة وإعتاق الرقبة: أن فك الرقبة هو أن تشترك بمال مع غيرك لأجل أن تعتق عبداً، فتشتريه لأجل أن تعتقه ثم تعتقه لوجه الله تبارك وتعالى.
أما عتق الرقبة: فهو أن تشتريه بمالك الخالص ولا يشاركك فيه أحد غيرك.
و ((فَكُّ رَقَبَةٍ)) أن تصنع كما صنع أبو بكر الصديق، فقد كان يشتري العبيد ويعتقهم لوجه الله تبارك وتعالى.
وأعظم ما ينجيك من النار عتق الرقاب، والمستشرقين قالوا: إن الإسلام يدعو إلى الرق، وهم في ذلك كذبة فجرة؛ لأن الإسلام ضيق من الرق ووسع في سبيل الحرية، بدليل أنه جعل كفارة الظهار وكفارة اليمين عتق الرقاب.
وأيضاً: لو أن رجلاً عنده عبد، فقال له هزلاً: أعتقتك لوجه الله، فهذا الكلام ينزل بمنزلة الجد، فالمصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتق).
وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لطم مملوكه -أو ضربه- بغير حق فكفارته -يعني: فكفارة هذا الذنب- عتق هذا المملوك).
والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (من أعتق رقبة مسلمة كانت فداءه من النار؛ عظمه بعظمه حتى فرجه بفرجه).
(29/13)
تفسير قوله تعالى: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة)
وقال تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد:14].
قوله تعالى: ((في يومٍ ذِي مَسْغَبَةٍ)) يعني: في يوم شديد الجوع، تقول: فلان ساغب، أي: جائع.
وهذا بيت القصيد وهو إطعام الناس لأجل الله تعالى في يوم الفقر، وفي يوم شديد الجوع، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل الصدقات أن تدخل سروراً على مسلم، أو تفك عنه ديناً، أو تطعمه خبزاً).
(29/14)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:23   رقم المشاركة : 37
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

تفسير قوله تعالى: (يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة)
قال الله تعالى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:15] أي: يتيماً من أهلك، {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16] والمسكين هو الفقير.
((ذَا مَتْرَبَةٍ)) يعني: كأنه لصق بالتراب، فلا يوجد لديه شيء.
فقوله تعالى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:15] يدل على أن أول شيء هو صلة الأرحام، ثم صلة اليتامى الأقربين، ثم بعد ذلك صلة يتامى المسلمين.
ومراد الله من عباده لين قلوبهم ورقتها، فإذا رق القلب أتى منه كل خير، وإذا قسا القلب أتى منه كل شر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يدخل أقواماً الجنة أفئدتهم مثل أفئدة الطير).
قال الإمام النووي: في رقتها وفي لينها وفي توكلها على الله تبارك وتعالى.
ومن الأسباب لرقة القلب ما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا أردت أن يلين قلبك وتدرك حاجتك -أي حاجة- فامسح رأس اليتيم، واطعمه من طعامك، واسقه من شرابك، يلن قلبك، وتدرك حاجتك).
وعندما يكون الإنسان صالحاً يتكفل الله بأولاده، قال تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]، وقد يمر على أولادك ما يمر على يتامى المسلمين فاتق الله تبارك وتعالى، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم)، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (قد غفر الله لبغي -وفي رواية: لمومسة أي: زانية- من بني إسرائيل وجدت كلباً يكاد أن يأكل التراب من شدة العطش، فنزعت موقها -أي: خفها- ثم حملت به الماء حتى سقته، فغفر الله لها).
والله تبارك وتعالى غفر لامرأة زانية؛ لأنها لما وجدت رضيعيها يبكيان أسندتهما إلى صدرها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله غفر لهذه برحمتها بولديها، وإن الله لا يقدس أمة لا ترحم ضعيفها).
والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)، ومن الذي لا يريد أن يكون قريباً من المصطفى صلى الله عليه وسلم؟! وسيدنا أنس كان يبكي ويقول: (يا رسول الله! إن كنت معنا فرحنا بك، وإن غبت عنا اشتقنا إليك، فتذكرت مقامك في الجنة مع النبيين فآلمني هذا الأمر وشق علي فبكيت، فلما نزل قول الله تبارك وتعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] يقول سيدنا أنس: فوالله ما فرحنا بآية مثل فرحنا بهذه الآية).
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)، فإذا أردت أن تجاهد في سبيل الله فأد حق اليتامى والمساكين والأرامل.
والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (كافل اليتيم له أو لغيره معي كهاتين في الجنة).
فيتامى المسلمين كثيرون، ومن أكل طعاماً أو فاكهة وأطفال جاره يتضاغون من الجوع فليس على سنة المصطفى في ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من بات شبعان وجاره جائع).
وسيدنا عمر سجن الحطيئة لأنه كان يشتم الناس، فبعث إليه بيتين من الشعر فبكى سيدنا عمر بسبب هذين البيتين، وعفا عنه، وهما: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قاع مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر فسيدنا عمر بكى، وهذا من رقة قلبه، لأنه قال في الشعر: زغب الحواصل لا ماء ولا شجر أي: لا يوجد شخص يسأل عليهم.
ولو كل الناس ينفقون على اليتامى فإن الله تعالى يبارك في المال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما قل مال من صدقة)، وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7].

(29/15)


الفرق بين اليتيم والمسكين
الفرق بين الفقير والمسكين: أن الفقير حاله أشد ضنكاً من المسكين، بدليل قول الله تبارك وتعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] فهم مساكين ومعهم سفينة، وسمي الفقير فقيراً من الفقرة، والفقرة هي الحفرة التي يحفرونها من أجل أن يضعوا فيها النخلة، وكأن الفقير قد نزل في هذه الحفرة.
وقول آخر: أنه مأخوذ من فقرة الظهر، ومنه العمود الفقري، فعندما تأخذ فقرة من ظهر الإنسان فإنه لا يستطيع أن يتحرك، وهكذا الفقير لا يستطيع الحركة وكأنه قد أصيب بشلل.
والفقير والمسكين لو أتيا في آية واحدة فالفقير له معنى والمسكين له معنى، ولو ذكر أحدهما دون الآخر فإنه يشمل معناه.
إذاً: قوله: ((أَوْ مِسْكِينًا)) يشمل الفقير.
والإسلام يستوصي بالفقراء وبالمساكين خيراً، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، وتعوذ بالله من الفقر والإسراف.

(29/16)


تفسير قوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا)
وقال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17].
يعني: لا ينفع إطعام المساكين في الآخرة بدون إيمان وإسلام، والكافر وإن كان منفقاً في سبيل الخير فإن الله تبارك وتعالى يوفي إليه أجره في دار الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لـ عدي بن حاتم: (أسلمت على ما أسلفت من خير) أي: أسلمت على ما كان منك من خير.
قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [البلد:17] يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (والصبر ضياء)، فالمؤمنون يوصي بعضهم البعض بالصبر، لا يوصي بعضهم البعض بالعجلة، يقول الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24]، والصبر يكون على طاعة الله، وعلى الأقدار المؤملة، وعن معاصي الله تبارك وتعالى.
وقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17] المرحمة: هي رحمة العباد، وتكاد أن تكون رسالة الإسلام في الرحمة، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وما وإلّا من أساليب الحصر والقصر، يعني: رسالتك الرحمة ودينك الرحمة، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله إذا أحب شخصاً ألهمه الرفق، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على غيره).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف إذا انقيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً: الموطئون أكنافاً اللينون).
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف).
والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (في كل ذات كبد حرى أجر) يعني: لو أنك سقيت كلباً أو حيواناً وهو عطشان، فإن الله تبارك وتعالى يثيبه على ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من لا يرحم لا يرحم).
وسيدنا جبريل يقول للمصطفى صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني يا محمد وأنا أدس في فيه -يعني: في في فرعون- من حمأ البحر -أي: من طين البحر-؛ حتى لا تدركه رحمة الله تبارك وتعالى)، لأن فرعون لم يرحم الأطفال فقد كان يذبحهم، فلم يرحمه جبريل، فجعل يدس الطين في فمه حتى يموت قبل أن تدركه رحمة الله تبارك وتعالى.
ولما أخذ المؤمنون برأس الأمر وهو الصبر جعلهم الله رءوساً.

(29/17)


تفسير قوله تعالى: (أولئك أصحاب الميمنة)
قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد:18].
فهم الميامين على أنفسهم وعلى ذويهم وعلى غيرهم، أي: أنهم خيرة على أنفسهم، وعلى أهليهم، وعلى الناس الذين بجانبهم، وهم الذين نزعوا من شق آدم الأيمن، وهم الذين يكونون يوم القيامة عن يمين العرش، وهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم.

(29/18)


تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [البلد:19] أصحاب المشأمة: هم المشائيم على أنفسهم وذويهم، يعني: النحس على أنفسهم وعلى ذويهم، وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم يوم القيامة، وهم الذين يكونون عن يسار العرش، وهم الذين نزعوا من شق آدم الأيسر.
اللهم ارزقنا الرحمة، واملأ قلوبنا رقةً، رب اجعلنا لك بكائين، إليك أواهين مخبتين منيبين، وتقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، وبك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا.
إلهي! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم يجعل معه من حبك نصيباً.
إلهي! ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله، فكن دليلنا.
إلهي! ما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه، فكن أنيسنا.
إلهي! أتينا أطباء عبادك ليداووا خطاينا، فكلهم عليك دلّنا.
اللهم داو أمراض قلوبنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.

(29/19)


رهبان الليل
لقد سطر التاريخ رجال من سلف هذه الأمة ملئوا الأرض سجوداً وركوعاً ودموعاً، فما عرفوا النوم، ولا تلذذوا بالفراش، ولا ركنوا إلى الدنيا وزخرفها، ليلهم قنوت وطاعة وبكاء، ونهارهم قتال ومجالدة لأعداء الدين، ففازوا بمرضاة ربهم، وسارعوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فأصبح الحديث عنهم حلماً وخيالاً، واللحاق بهم عجزاً ومحالاً إلا من رحم الله من هذه الأمة في هذا العصر، وقليل ما هم.

(30/1)


فضل قيام الليل في القرآن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، ثم أما بعد: فشكر الله لكم مجيئكم، فقد تكلفتم مشقة المجيء إلى هنا، وشكر الله لكم أن سهلتم لي سبيل المجيء لأحدثكم اليوم، وقديماً قال شعبة: من سمعت منه حرفاً فأنا له عبد.
وابن مندة شيخ الحنابلة يقول: من استمع مني حرفاً فأنا له عبد.
وشكر الله لكم حسن ضيافتكم لنا في هذه الأيام، وينطبق فينا وفيكم قول الشاعر: ومن عجب أني أحن إليهم وأسأل شوقاً عنهم وهم معي وتبكيهم عيني وهم في سوادها ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي موضوع اليوم هو: رهبان الليل.
تتجافى جنوبهم عن لذيذ المضاجع، كلهم بين خائف مستجير وطامع، تركوا لذة الكرى في العيون الهواجع، ورعوا أنجم الدجى طالعاً بعد طالع، واستهلت دموعهم بانفضاض المدامع.
يا إخوتاه! إنما قالوا التعبد فيه أسرار عجيبة في فؤاد المتعبد طعم أذواق غريبة وإذا طال التهجد هبت الريح الرطيبة وأذان لبلال ادخلوها آمنينا فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعينا وكلام الملوك ملوك الكلام! ولا أطيب من كلام الله عز وجل، قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64].
وقال تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:1 - 8] أي: انقطع إليه انقطاعاً.
إن الذي يعيش لنفسه يعيش صغيراً، ويموت صغيراً، أما الذي يعيش لدين الله عز وجل فما له وللنوم! وما له وللرقود! وما له ولدفء الفراش! قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه الصحابة اثنا عشر شهراً، وأمسك الله خاتمة المزمل في السماء، قالت السيدة عائشة: فلما علم الله صدقهم نزل التخفيف في نهاية السورة.
وقال الله تبارك وتعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]، قال محمد بن كعب القرظي: كنا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه من آثار القيام.
قيل للحسن البصري: ما بال القائمين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.
بكى الباكون للرحمن ليلاً وباتوا دمعهم لا يسأمونا بقاع الأرض من شوق إليهم تحن متى عليها يسجدونا قال الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8].
قال ابن مسعود: إذا فرغت من الفريضة فانصب لصلاة الليل.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان:26].
وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39]، قال ابن عباس: نيرة من آثار القيام في دار الدنيا.

(30/2)


لماذا الحديث عن قيام الليل

(30/3)


الصلاة خير موضوع
لماذا قيام الليل؟ ولماذا الحديث عن قيام الليل؟ أولاً: لكونه صلاة، والصلاة خير موضوع، كما جاء في الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة خير موضوع، فمن أراد أن يستكثر فليستكثر)، وإذا أردت أن تزلف إلى الله عز وجل فلا بد أن تدخل عليه من باب الاستقامة، ومكانها المحراب.
إذا توهم الدنيوي جناته في الدينار والدرهم، والقصر المنيف، والزوجة الحسناء، فإن جنة المؤمن في محرابه.
فهذا ثابت البناني تلميذ أنس بن مالك رضي الله عنه يقول فيه أنس: إن للخير مفاتيح، وإن ثابتاً مفتاح من مفاتيح الخير.
يقول ثابت: لو كان شيء أعز من الصلاة لما قال الله عز وجل: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39].
وقال: الصلاة خدمة الله في الأرض.
وقال: لا يسمى العابد عابداً -ولو كان فيه كل خصلة من خصائل الخير- حتى تكون فيه هاتان الخصلتان: الصوم والصلاة، لأنهما تأخذان من لحمه ودمه.
وقال رحمه الله: كابدت قيام الليل عشرين سنة، واستمتعت به عشرين سنة.
قال الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، قد يضعف الصبر على طول الطريق الشائك، وقلة الناصر، وقساوة القلوب، وأن ترى الشر منتفشاً، والخير منزوياً، ولا شعاع في الأفق، ولا معلم في الطريق، فهنا قد يضعف الصبر، فالله عز وجل أمر الصبر في الصلاة؛ لأنها انطلاقة من حدود الأرض إلى كون الله الفسيح.
إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة! إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود! وعلى أبواب المشقات العظام دائماً يوجه الله عز وجل المسلمين إلى الصلاة: (أرحنا بها يا بلال!) وقيام الليل زاد الدعاة إلى الله عز وجل في كل وقت وفي كل حين.

(30/4)


مدرسة الليل هي مدرسة الإخلاص
السبب الثاني: أن مدرسة الليل هي مدرسة الإخلاص، وخليج صاف خير من بحر كدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة في الدين، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له عند الله من نصيب).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ينصر الله عز وجل هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم).
ولما اصطف الناس لفتح كابل قال قتيبة بن مسلم: أين محمد بن واسع شيخ القراء؟ قالوا: في أقصى الميمنة رافع إصبعه إلى السماء، قال: أبشروا قد جاءكم النصر، لهذه الإصبع أحب إلي من ألف سيف شهير، وشاب طرير، فلما جاءه قال له: ماذا كنت تصنع؟ قال: كنت آخذ لك بمجامع الطرق.
ومحمد بن واسع هذا ربما صلى الليل كله في محمله، ويأمر حاديه أن يصوت بالناس.
محمد بن واسع رحمه الله يقول: والله إني لأعرف رجالاً تبتل مخدة أحدهم من أثر دموعه، وزوجه معه في الفراش لا تشعر.
وهذا عبد الله بن المبارك كان في غزوة من الغزوات فتلثم وغطى وجهه، ودعا داعي الروم: من يبارز؟ فخرج عبد الله بن المبارك في لثامه، فقتل فارس الروم، ثم قتل الثاني والثالث والرابع، فتعجب الناس من بطولته، فأتى إليه رجل ورفع لثامه فإذا هو عبد الله بن المبارك وما كانوا يظنون أنه عبد الله المبارك، فقال لمن رفع لثامه: وأنت ممن يشنع علينا يا أبا عمرو! وكان محمد بن أعين رفيقاً لـ عبد الله بن المبارك في غزواته كلها، وكان كريماً عليه، قال محمد بن أعين: فذهب ليرني أنه ينام، قال: فوضعت رأسي على رمح، وذهبت أريه أني نائم، فلما ظن أني قد نمت قام فصلى إلى قبل طلوع الفجر، ثم أيقظني عند الفجر، فقلت له: إني لم أنم الليلة، فعرفت الغضب في وجهه، وما زال مجافياً لي إلى الممات.
واليوم أصيبت الأمة بالرياء، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (غير الدجال أخاف عليكم شرك الصغائر، قالوا: وما شرك الصغائر يا رسول الله؟ قال: أن يقوم الرجل فيصلي فيطيل في صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه).
قال قتادة: كان يقال: قلما سهر الليل منافق لم يرد الجاه عند الناس، ومدح الناس إياه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام الليل بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام الليل بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام الليل بمائتي آية كتب من القانتين المخلصين) صححه الحاكم وافقه الذهبي وتابعه الألباني.

(30/5)


علو الهمة وترك الأماني
السبب الثالث: علو الهمة وترك الأماني، ومن لا أمنية له من الدعاة تجده على ريٍّ دائماً، وتجده سباقاً إلى الخير دائماً، فإن كان قوياً استسقى لنفسه واستسقى لغيره، وإن كان ضعيفاً وجد وريثاً لموسى يسقي له، ويزاحم عنه الرعاع.
سيروا مع الهمم العالية، فلا يزال العبد مقيماً على التواني ما دام مقروناً بوعد الأماني.
التواني والكسل والعجز من المصائب التي تصاب بها الأمة، وعلى الطرف الآخر يبعث قيام الليل على علو الهمة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (علم ربك -وفي رواية: ضحك ربك- إلى رجل ثار عن لحافه وفراشه من بين حبه وأهله، ولو شاء أن يرقد لرقد).
وكان هشام الدستوائي إذا أتى إلى فراشه يقول: والله إنك لطيب، والله إنك لبارد، والله لا علوتك الليلة، فراش الجنة خير منك.
وكان عبد الله بن ثوب سيد من سادات التابعين، وكان له سوط يعلقه في مصلاه، فإذا فتر عن القيام يضرب رجله بالسوط ويقول لها: قومي يا مأوى كل سوء، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليك، والله لأزاحمنهم عليها حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالاً.
وهذا الإمام العظيم مسروق بن عبد الرحمن وهو المعروف بـ مسروق بن الأجدع تقول عنه زوجه: ما كان يأتي لصلاته إلا زحفاً كما يزحف البعير، وإن قدميه لمنتفختان من أثر القيام.
تقول عنه زوجه: وكنت أجلس خلفه أبكي له رحمة مما يصنع بنفسه، وإن قدميه لمنتفختان من أثر القيام.
وجارية خالد الوراق كانت شديدة الاجتهاد في الطاعة والعبادة؛ فأخبرها خالد برفق الله وقبوله ليسير العمل، فقالت: يا خالد! إني لأؤمل من الله آمالاً لو حملتها الجبال لعجزت عن حملها كما عجزت عن حمل الأمانة، وإني لأعلم أن في كرم الله مستغاثاً لكل مسلم، ولكن قل لي يا خالد: كيف لي بحسرة السباق؟! فقال: وما حسرة السباق؟ قالت: غداة الحشر إذا ركب الأبرار نجائب الأعمال، وطاروا إلى مولاهم، وخلفت مع المسيئين المذنبين، ثم قالت: وعزة سيدي لا يسبق مقصر مجتهداً أبداً ولو حبا المجد حبواً، ثم قالت: يا خالد! انظر لا يقطعك عن الله قاطع، فإنه ليس بين الدارين دار يدرك فيها الخدام ما فاتهم من الخدمة مع مولاهم، فويل لمن قصر عن خدمة سيده ومعه الآمال، فهلا كانت الأعمال توقظه إذا نام البطالون.
إن قيام الليل باب التزكية الأعظم، والتزكية وضعت للرسالة المحمدية، وقد أقسم الله عز وجل بأحد عشر قسماً متتالية أن فلاح النفوس معلق على التزكية.
والذي يتخرج من مدرسة الليل رقيق، تطيب القلوب وترق من النظر إليه، وقد ذكر شيخنا الألباني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى لرؤيتهم)، فكيف بمن عاشرهم؟! كيف بمن تربى على أيديهم؟ فمجرد الرؤية تجعل الرجل يذكر الله، بل والله مجرد سماع كلام بعضهم، فأينا يقرأ كلام ابن القيم ولا يرق قلبه.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله آنية في الأرض، وآنية ربكم في الأرض قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).
فكم من أناس موتى تحيا القلوب بذكرهم! وأناس أحياء تموت القلوب برؤيتهم! إن كانوا وهم موتى يحيي الله بهم الفئات العظيمة من الناس بكلامهم، فكيف برؤية وجوههم ومعاشرتهم؟! وكان محمد بن سيرين يبحث في النهار ويقول: من يدلني على رجل بسام بالنهار بكاء بالليل؟ قالت جاريته: كان إذا آواه الليل فكأنه قتل أهل القرية جميعاً.
وكان الناس إذا رأوا وجه محمد بن سيرين سبحوا وعظموا الله من آثار النور الذي على وجهه.
وهذا الحافظ عبد الغني المقدسي رفيق الإمام ابن قدامة في العلم وابن خالته، كان إذا خرج من بيته اصطف الناس لرؤية وجهه، وبات معه رجل شمسي -ممن يعبد الشمس- فلما رأى نحيبه طيلة الليل وتهجده زفر الرجل زفرة خرج الكفر بها من صدره.
والذي لا يتخرج من هذه المدرسة تقسو قلوب الناس في النظر إليه، وأدلكم على واقع عملي، هذا سيدنا الشيخ أبو بكر الجزائري أتحدى أي رجل يقول: إنه لا يرق قلبه لرؤية الشيخ الجزائري، ولقد عاشرته شهراً بمصر أقسم بالله ما كان ينام طيلة اليوم والليلة إلا أربع ساعات فقط، وهو شيخ طاعن في السن.
فالمتهجدون بالليل من أحسن الناس وجوهاً؛ لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره، وسيماهم في كلامهم مثلما هي في وجوههم.
وكلام السلف قليل كثير البركة، وكلام غيرهم كثير قليل البركة، فقد قالوا لـ يوسف بن عبيد: هل رأيت من يعمل بعمل الحسن؟ قال: يا سبحان الله! والله ما رأيت من يتكلم بكلامه حتى أرى من يعمل بعمله! إن الحسن كان إذا تكلم أدمى القلوب، ووعظ غيره لا يبكي العيون.
والجهاد يا إخوتاه يسقى بدمع التهجد، وما عرف الإسلام رجاله إلا كذلك: في الليل رهبان وعند قتالهم لعدوهم من أشجع الشجعان والذي لا ينتصر على نفسه لا ينتصر على عدوه، قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} [التوبة:123]، وأعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك، والذي لا يستطيع أن يصلي ركعتين لله تهجداً بالليل كيف يستطيع أن يقابل عدوه؟! لا والله لا يستطيع.
وهذا سيدنا عباد بن بشر في غزوة ذات الرقاع تناوب هو وعمار بن ياسر الحراسة، وكانت النوبة على عباد بن بشر، فأتى رجل من المشركين فضربه بسهم من الخلف وهو يصلي، فنزع السهم وأقبل على صلاته، فضربه بالسهم الثاني، فنزع السهم وأقبل على صلاته، فلما ضربه بالسهم الثالث استيقظ عمار وولى الرجل هارباً، فعاتب عمار رضي الله عباداً وقال: يرحمك الله! ما الذي منعك من أول سهم أن توقظني؟ قال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها.
وأسلمت هند زوج أبي سفيان صبيحة الفتح، ولما سألها أبو سفيان قال: قد كنت أراك تكرهين الرجل فما الذي دفعك إلى الإسلام؟ قالت: والله ما رأيت الله عبد قبل هذا اليوم في هذا البيت، لقد رأيت صحابة رسول الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم تبتلاً إلى الله عز وجل، فقيام الصحابة بعد فتح مكة أثر في قلبها.
وسيدنا علي يقول: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، وما كان فينا أحد إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تحت شجرة يصلي ويبكي ويدعو إلى الصباح، وبهذا يتنزل النصر.
وفي غزوة الأحزاب قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرط لنسائه، ولقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على قيام الليل، فقال صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت: (من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد الله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي -أربعاً- استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته).
وقبول الصلاة قدر زائد على صحة الصلاة، فقد قال الداودي: من قبل الله له حسنة واحدة لم يعذبه، ولهذا قال الحسن: وددت أني أعلم أن الله قبل لي سجدة واحدة، فصلاة الليل مقبولة على الدوام، وهذه البشارة الأولى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام البخاري عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل).
قال سالم: فما كان عبد الله ينام من الليل إلا قليلاً، وفي رواية: (إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر من صلاة الليل).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل نام حتى أصبح، فقال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنه)، قال الحسن البصري: إنه والله بول ثقيل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال: سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن؟! ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟! من يوقظ صواحب الحجرات؟! يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلة، فقال: ألا تصليان؟ قال علي: قلت: يا رسول الله! أنفسنا بيد الله إذا شاء أن يبعثنا ابتعثنا، قال علي: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مولٍ يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]).
يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني والطبري: لولا ما علم النبي صلى الله عليه وسلم من عظم فضل الصلاة في الليل ما كان ليزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله لخلق

(30/6)


اجتهاد رسول الله في قيام الليل
ثم نأتي إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن رواحة: وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع وقال أحمد شوقي: محيي الليالي صلاة لا يقطعها إلا بدمع من الإشفاق منسجم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام الليل يقول في دعاء الاستفتاح: (اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق).
وكان أيضاً إذا قام من الليل افتتح صلاته بهذا الدعاء: (اللهم رب جبرائيل وميكائل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
وجبريل هو ملك الوحي، وهو الروح، وميكائيل: هو ملك القطر، وبه حياة الأرض، وإسرافيل: هو الذي ينفخ في الصور، فيدعو بهذا الدعاء ليعلم أن صلاة الليل حياة للقلب.
واعجباً للناس يبكون على من مات جسده، ولا يبكون على من مات قلبه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فتقول: يا رسول الله! أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً).
وعن عبد الله بن عمير قال: (دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت، فقالت: قام ليلة من الليالي فقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي، قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك، ثم قام فتطهر فقام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه للصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164]).
رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي، وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نام ثلث الليل قام فقال: (أيها الناس! اذكروا الله، جاءت الراجفة، من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) يذكر الناس بالموت وبالقيامة لعلهم يقومون لصلاة الليل، وربما قام الليل كله بآية يرددها إلى الصباح: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118].

(30/7)


اجتهاد السلف في قيام الليل
نأخذ نماذج من الصحابة ومن التابعين ومن المجاهدين ومن النساء.
أما من الصحابة فقد كان عثمان بن أبي العاص جاراً لـ عمر بن الخطاب، فلما مات عمر تزوج عثمان بإحدى زوجاته، فقال: والله ما تزوجتها رغبة في نكاح ولا ولد، وإنما تزوجتها لتخبرني عن ليل عمر.
أي: أنه تزوج أرملة سيدنا عمر لكي تخبره ماذا كان يفعل سيدنا عمر في الليل! وسيدنا عمر ربما مر بالآية في الليل فيمرض منها حتى يعوده الصحابة شهراً، وحفرت الدموع خطين أسودين في وجهه، فلو أتيت الآن بصنبور ماء وجعلته يقطر على جبينك سنة، فهل سيحفر خط أسود؟ لا؛ لأن الدمع ينزل بحرقة.
من لم يبت والحب حشو فؤاده لم يدر كيف تفتت الأكبادِ وسيدنا عمر بعد توليه الخلافة كان ينعس وهو قاعد، فقيل له: يا أمير المؤمنين! ألا ترقد؟! ألا تنام؟! قال: إن نمت بالنهار ضيعت مصالح الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حظي مع الله.
ولسان حاله يقول: لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطالة ليلي ولرعي النجوم كنت مخلا روى الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في الإصابة بإسناد حسنه الشيخ الألباني: (أن رسول الله طلق السيدة حفصة ذات يوم؛ فنثر عمر التراب على وجهه وعلى رأسه، فقال: ما يفعل الله بـ عمر وابنة عمر، فنزل جبريل وقال: يا رسول الله! إن الله يأمرك أن تراجع حفصة؛ لأنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة).
وهل ينبت الخطي إلا وشيجة ويزرع إلا في منابته النخلُ وسيدنا عثمان بن عفان الذي نزل فيه قول الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9].
انظر إلى هذه الآية فهي طيبة كشأن من أنزلت فيه، لما قتل الثوار المصريون سيدنا عثمان دخلت عليهم نائلة بنت الأحوص بن الفرافصة الكلبية زوجته، وقالت: قتلتموه، وإنه كان يحيي الليل كله بالقرآن كله في ركعة واحدة.
قال الشيخ شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط وغيرهما من المحدثين: إسناده جيد، والعلماء بوبوا باب: من أوتر بركعة واحدة ختم فيها القرآن.
وسيسألني أحدكم ويقول: أين أنت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث).
قال العلامة ابن رجب الحنبلي في كتابه (لطائف المعارف) هذا إذا كان فعله على الدوام، أما في الأيام التي يرجى فيها الخير، ويستحب فيها كثرة الدعاء فيجوز الختم في أقل من ثلاث، بل ويستحب، وعليه عمل الشافعي وقول أحمد وإسحاق بن راهويه.
ويأتي الآن شخص يقول لك: أنا سلفي، وأنا مشغول عن قيام الليل بالأسانيد والمتون والعلل، أقول له: لا، لا تكون سلفياً أبداً، نام عند الإمام أحمد أحد طلاب العلم فوضع أحمد له ماءً، فلما قام الصباح وجد الماء كما هو، فقال الإمام: بئس طالب العلم لا يكون له ورد بالليل! وسيدنا أبو هريرة قسم الليل أثلاثاً هو وزوجه وخادمه، فإذا قام هذا نام هذا، وكانت له في النهار اثنتا عشرة ألف تسبيحة، ويقول: إنما أسبح بقدر ذنوبي! وفي الصحابة كثيرون منهم: معاذ بن جبل وأبو الدرداء وشداد بن أوس وكان عبد الله بن الزبير إذا سجد يأتي حمام المسجد فيحط على ظهره.
وهذا تميم الداري يقول أبناء الصحابة: أدركنا تميماً الداري فما قمنا ولا قعدنا إلا وهو في صلاة.
وهذا الإمام أحمد كان يحيي الليل هو وغلامه، والإمام الشافعي قسم الليل أثلاثاً، وأبو حنيفة كان يصلي عامة الليل.
ويزيد بن هارون شيخ الإمام أحمد قيل له: ما فعلت العينان الجميلتان يا أبا خالد؟ قال: ذهب بهما بكاء الأسحار.
وهذا شعبة يبس جلده على عظمه من قيام الليل.
وهذا سفيان الثوري يقول عنه عبد الرحمن بن مهدي: ما صاحبت رجلاً من الناس أرق من سفيان الثوري، كنت أرقبه في الليل يقوم فزعاً مرعوباً ويقول: النار النار! ويقول: اللهم إنك تعلم أنه لو كان لي عذر في التخلي ما أقمت مع الناس طرفة عين، اللهم إن كلاً في حاجته وإن حاجة سفيان أن تغفر له.
وهذا نور الدين محمود زنكي وصفه ابن كثير وابن الأثير أنه كان مدمناً على قيام الليل، والناس اليوم يدمنون الآن على (الهيروين) و (الكوكايين) وهذا كان مدمناً على قيام الليل، وكذلك كانت زوجته عصمت الدين بنت الأتابك، فهي كانت زوجة ملك، يقول عنها: هبت ذات ليلة غاضبة من نومها، فسألها عن سر غضبها، قالت: فاتني وردي البارحة فلم أصل من الليل شيئاً.
وهذه المرأة لما مات عنها نور الدين محمود زنكي تزوجها صلاح الدين الأيوبي.
ونور الدين محمود زنكي قال عنه العلامة ابن كثير: إن أحد المسلمين دخل بيت المقدس أيام أخذ الفرنجة فقالوا: نور الدين محمود زنكي لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، لأنه قتل منهم في موقعة حلب ثلاثين ألف، وكان يعد العدة لفتح بيت المقدس قالوا: نور الدين لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، وإنما لأنه يصف قدمه ليلاً بين يدي مولاه، فلا بد أن ربه ناصره علينا.
قال ابن كثير وابن الأثير: فهذه شهادة الكفار فيه.
وصلاح الدين الأيوبي يقول عنه ابن شداد: كان يطوف الأمصار وعيناه تذرفان الدموع يقول: يا للإسلام يا لعكا، يا للإسلام فإذا آواه الليل يأتي إلى سجادته وتتقاطر دموعه على جبينه وفي مصلاه، وأسمعه يقول في سجوده: إلهي! قد انقطعت الأسباب الأرضية عن نصرة دينك، وليس لي إلا الإخلاف إلى جلالك، يقول: فوالله ما ينبثق الفجر إلا ومعه خبر النصر على الأعداء الجراحات تستغيث وتشكو ملء سمع الوجود قم يا صلاح وبعد: يا داعية الإسلام! من جد وجد، وليس من سهر كمن رقد، أين رجال الليل؟ أين ابن أدهم والفضيل؟ ذهب الأبطال وبقي كل بطال، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من قام الليل بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام الليل بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام الليل بألف آية كتب من المقنطرين) والمقنطرون: من لهم قنطار من الأجر، والقنطار من الأجر خير من الدنيا وما فيها، إما أن يكون من المقنطرين، وإما أن يكون من الذين يحملون الطين.
أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني: عدد آيات جزء تبارك وجزء عم ألف آية.
اللهم اكفنا من النوم باليسير، وارزقنا سهراً في طاعتك، وبغض إلينا ساعات أكلنا وشربنا ونومنا، واكفنا من النوم باليسير، وسهرنا على ما نامت عنه أعين الغافلين، وارزقنا حبك وحب من أحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك.
اللهم بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نرجو فلا تحرمنا، وببابك نغدو فلا تطردنا، اللهم أنت أصلحت الصالحين، فاجعلنا من الصالحين.
اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! اللهم صل على عبدك ونبيك، اللهم وحد صفوفنا على منهاج نبيك، اللهم لا تشمت بنا أعداءنا، ولا تسئ بنا إخواننا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

(30/8)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:24   رقم المشاركة : 38
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


عبودية الكائنات
كل الكائنات خاضعة لأمر الله سبحانه، ولها عبوديتها الخاصة لله سبحانه، فكل الدواب والشجر والحجر تسبح بحمد الله وتقدسه، لكن الإنسان لا يفقه ذلك، وقد ورد في السنة والقرآن أمثلة لذلك يعتبر بها أولوا الألباب.
(31/1)
أنواع العبودية لله سبحانه
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: من أراد السعادة الأبدية فعليه بلزوم عتبة العبودية.
والعبودية لله تبارك وتعالى لا ينفك عنها كائن من الكائنات، ولا مخلوق من المخلوقات، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تستقل الشمس فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم).
هناك عبودية عامة لكل من في السموات ومن في الأرض: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93].
هذه العبودية لا ينفك عنها مسلم أو كافر أو نبات أو شجر أو جماد، هذه العبودية هي عبودية القهر، وهي متعلقة بربوبية الله تبارك وتعالى، عبودية القهر والذل لله تبارك وتعالى، وأن أوامر الله تبارك وتعالى ومشيئته في خلقه نافذة، وأن كلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فالكل خاضعون لمشيئته، إذا أراد منهم أن يناموا ناموا، يمشي الدم في جسم الإنسان مثلاً بطريقة معينة لا ينفك عنها، ولا يستطيع حتى الشيوعي أن يقول: إني سأصنع لنفسي دورة دموية خاصة بي، حتى ولو لم يعترف بألوهية الله تبارك وتعالى.
فمشيئة الله والنواميس في الكون ينفذها طوعاً أو كرهاً، فهذه عبودية القهر والذل لله تبارك وتعالى، وطاعتهم الابتدائية لله تبارك وتعالى، وهذه العبودية لا تستوجب جنة، بل هي كما يقول العلماء: السجود العام لكل الكائنات، والقنوت العام لكل الكائنات، كما يقول الله تبارك وتعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116].
وهناك قنوت خاص وعبودية خاصة وسجود خاص يترتب عليه دخول الجنة والنار، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31].
فالأول: قنوت عام: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116].
والثاني: قنوت خاص يستوجب دخول الجنة.
وقوله: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]، هذا سجود خاص، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
كثير من الذين كتبوا في العبودية قالوا: هذه العبودية الخاصة للجن والإنس، واختلفوا في عبودية الملائكة الخاصة، هل هم عبيد لله تبارك وتعالى يعبدونه باختيارهم، أم هم مسخرون؟ وكثير من العلماء يذهب إلى أن الجن والإنس -تنشأ عبودياتهم عن اختيار، أما غيرهم فهي عبودية تسيير وقهر، ولقد أثبت بعض من كتب في هذا: أن للكائنات إدراكاً، وأنها تعبد الله تبارك وتعالى طائعة بما في ذلك الحيوانات والجماد، والجن والملائكة والقلم والجنة والنار، والرياح والشمس والقمر.
(31/2)
عبودية الدواب لله سبحانه وتعالى
فلو بدأنا مثلاً بكل ما يدب على الأرض، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38].
قال مجاهد: أي: إلا أصنافاً أمثالكم، يعني: كل ما يدب على الأرض من دابة أصناف مثل أمم البشر.
يقول العلماء في ذلك: إن حيوانات البروتوزوا مثلاً (7000 نوع)، والحشرات (720000 نوع)، والثديات (15000 نوع)، والبرمائيات (2000نوع)، والحيوانات الأسفنجية (3000 نوع)، والديدان الأسطوانية (6000 نوع)، والديدان المفلطحة (7000 نوع)، وشوقية الجن (8000 نوع)، والرخويات (80000 نوع)، ومفصلية الأرجل ما بين (400 - 700 - 32000 نوع)، كل هذه أمم تسجد لله تبارك وتعالى، وتسبحه، يقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج:18]، فهذه الآية تنص على سجود الدواب لله تبارك وتعالى.
الأمر الثاني: أن هذه الدواب تشفق من طلوع يوم الجمعة، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشية القيامة) يعني: الدواب تنصت وتستمع إذا بزغ صباح يوم الجمعة خشية طلوع يوم القيامة؛ لأنها تعلم أن العذاب في يوم القيامة، فما من يوم أعظم عند الله تبارك وتعالى من يوم الجمعة، وكل دابة تخاف هذا اليوم عبوديةً منها لله تبارك وتعالى، فهو مالك يوم الدين.
(31/3)
موالاة الدواب للمؤمن
أيضاً: الدواب عندها موالاة للمؤمن، وبغض للكافر، ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما مرت عليه جنازة: (مستريح أو مستراح منه؟ قالوا: يا رسول الله! ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: المستريح العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وتعبها إلى سعة رحمة الله تبارك وتعالى، قالوا: وما المستراح منه؟ قال: العبد الفاجر تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب).
فالدواب تبغض الكفر وأهله، وتحب الخير وأهله، وجنازة الكافر عيد لأهل الأرض؛ لأنه فساد في هذا الكون المسبح، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82].
وخذ أمثلة من الدواب بما شئت: البقر، وللأسف من البشر من يعبد البقر، والبقرة تعبد الله تبارك وتعالى، ولكن الناس عبدوها وصفقوا وطبلوا لها وبعدها رجل كبير من زعماء الدول، هذا الرجل يقول: إني أتوجه ومعي ملايين الهنود لعبادة البقرة، يقول: غيرها تحتاج منا إلى تعب وطول خدمة، أما البقرة فلا تحتاج إلا إلى عناية بسيطة.
بل أسخف من هذا يقولون: إن هناك معابد في الهند أنفق عليها ملايين المليارات من الجنيهات مختومةً برخام أبيض، ويكفيك عجباً أن تعلم أن الإله الذي تتوجه إليه الآلاف من الهند عبادة هو: الفئران.
فالبقرة تعبد الله تبارك وتعالى كما ورد في صحيح الإمام البخاري قال: (بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فطردها، فقالت له: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث، فقال الناس: سبحان الله! بقرة تتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر) هذه بقرة تخبرنا أن الله تبارك وتعالى سخرها لمهمة معينة، فهي معبدة ومذللة لمهمة معينة في هذا الكون.
خذ مثلاً: الجمال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:71 - 72].
فما سمعنا أن رجلاً يختلي بسبع أو نمر أو فيل أو أسد في بيته، أما الجمال فقد يصحبها الصبي الصغير، بل قد يصحب قافلة من الجمال؛ لأن الله سخرها، وذللها لبني آدم، وحين يغضب قد يقتل عشرات الرجال، ويفر الناس من أمامه، وهناك حديث صحيح يدل على عبودية هذا الجمل لله تبارك وتعالى، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطاً لأحد رجالات الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى هذا الجمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حن إليه وبكى، فذهب إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم ومسح ذفراه بيده فسكن الجمل، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من صاحب هذا الجمل؟ فقال فتى من الأنصار: لي يا رسول الله؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن هذا الجمل يشكو إلي أنك تجيعه وتدئبه) هذا الجمل يعلم أن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مرسل من قبل الله تبارك وتعالى، فيبثه شكواه ويذرف الدموع بين يديه.
وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً في حائط لرجل من بني النجار وفي هذا الحائط حديقة فيها جمل، كلما دخل رجل من الحائط شد عليه، فأشار إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم فأتى وبرك بين يديه، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ائتوني بخطامه، ثم خطمه ثم دفعه إلى صاحبه، ثم نظر إلى الصحابة وقال: إنه ليس من شيء بين الأرض والسماء إلا ويعلم أني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عاصي الإنس والجن).
وفي حجة الوداع أتى المصطفى صلى الله عليه وسلم بمائة ناقة لينحرها، فتسابقت النوق بين يديه أيتها ينحر أولها، وكأن الموت بين يديه حياة: أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا المحبوب ذكرك نير تعاودني ذكراك في كل لحظة ويورق فكري حين كنت أفكر تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر نزار قباني يقول لـ عبد الناصر: تضيق قبور الميتين بمن بها وفي كل يوم أنت في القبر تكبر وهذا غير صحيح فيه، وأولى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر نسينا في ودادك كل حي فأنت اليوم أغلى ما لدينا نلام على محبتكم ويكفي لنا شرف نلام وما علينا ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلونا
(31/4)
منهج الإسلام في معاملة الحيوان
هذه هي عبودية العجماوات، والعجيب أن الفساق الذين مسخت الفطر منهم يأتون إلى الجمل ويضعون في أنفه (السيجارة) يريدون أن يغيروا هذه الفطرة التي خلقها الله تبارك وتعالى عليها.
ومن ذلك الفرس، ففي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس من فرس عربي إلا ويؤذن له عند كل سحر بدعوتين: اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب أهله وماله إليه).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (وقد أجيبت دعوة الفرس) هذه دعوة مجابة، فالفرس يتوجه بالعبادة إلى الله تبارك وتعالى وبالدعاء، وما سمعنا أن فرساً يعبد فرساً، ولا نملة تعبد نملة، ولكن سمعنا أن أناساً يعبدون أناساً، ويجعلون منهم طواغيت.
والفرس يدعو الله بقوله: (اللهم إنك خولتني من خولتني من ابن آدم فاجعلني من أحب ماله وولده إليك).
قال الله تعالى في الفرس: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات:1 - 5].
بالله عليكم أين سخرت هذه الدعوة أما رفعها الله تبارك وتعالى؟ والنمل كما يقول العلماء: حيوان صغير، يقول فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم: (قرصت نملة نبياً من الأنبياء، فأمر بقرية فأخرج من تحت الشجرة، ثم أحرق قرية النمل فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح) كما يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44].
كل كنى عن شوقه بلغاته ولربما أبكى الفصيح الأعجم فهل النمل حيوان قاتل، هل النمل يعقل؟ يخلق الله تبارك وتعالى فيه إدراكاً قد يغيب عن بعض البشر.
أنت إذا استمعت إلى كتاب في أيامنا هذه فإنها ستختلط عليك الأمور، ويصير المعروف منكراً، والمنكر معروفاً حتى من يصلون معك، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ستأتي على الناس قرون خداعة يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة؛ قال: وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة).
فالزنادقة تتكلم في أمر العامة والسفيه يتكلم في أمر العامة، أما النمل فحاله كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السموات وأهل الأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليستغفرون لمعلم الخلق).
يعني: نملة تسبح لله تبارك وتعالى، وتعلم أن هذا معلم خير فتستغفر له، وأن هذا داعية إلى الضلالة والفسق، فلا تستغفر له، فالنملة وهي في جحرها لتستغفر لمعلم الناس الخير، والحيتان في قاع البحار تقول: اللهم اغفر لعبدك، اللهم اغفر لعبدك، فإنه يدعو إلى قرآنك وإلى كتابك ولا تختلط عليه الأمور، وإن اختلطت على بعض الناس فهو إضرار يجعله الله تبارك وتعالى في خلقه.
(31/5)
تسخير الله الحيوانات لخدمة الناس
كذلك الديك يدعو الناس إلى الصلاة، كما ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا الديك فإنه يدعو للصلاة) فهو لا يدعو إلى اللهو إنما يدعو للصلاة، فالذين يغلقون المساجد ألم يعلموا أن هذا الديك يدعو الناس للصلاة، وفي رواية: (فإنه يوقظ للصلاة).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله؛ لأنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله؛ لأنها ترى شيطاناً) وهذه من عبودية الديكة وسخره الله لإيقاظ الناس لصلاة الفجر أو للتهجد، تقول السيدة عائشة: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم إذا سمع الصارخ) وهو الديك.
قم بنا يا أخي لما نتمنى واطرد النوم بالعزيمة عنا قم فقد صاحت الديوك ونادت لا تكون الديوك أقرب منا كذلك الذئاب تعبد الله تبارك وتعالى كما في الحديث الصحيح: (أن ذئباً عدا على شاة فأخذها فطلبها الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه وقال: ألا تتقي الله تنتزع مني رزقاً ساقه الله لي؟ فقال الراعي: يا عجبي ذئب يتكلم بكلام الإنس، فقال له الذئب: ألا أخبرك بما هو أعجب من ذلك؟ محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب يحدث الناس بأخبار ما قد سبق، فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى وصل إلى المدينة فزواها في زاوية من زواياها ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقص عليه ما قص).
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر أن ينادى: الصلاة جامعة، ثم أمر الراعي أن يقص عليهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق والذي نفسي بيده).
في هذا الحديث إشارة إلى أن الذئب يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث ويقص على الناس أخبار من قد سبق من الأمم السابقة، ومعنى هذا أن الذئب يعلم أن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدرك نوعية الكلام ويخبر به الراعي، ويدرك أن هذه الشاة رزق ساقه الله تبارك وتعالى إليه.
نقول للذين لم يرتفعوا إلى مصاف الصالحين: كونوا كهذه الحيوانات التي تعبد الله تبارك تعالى؛ ولذا يقول الله تبارك وتعالى لهؤلاء الضالين: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]؛ لأن الأنعام تدرك وتسبح الله تبارك وتعالى وتسجد له.
(31/6)
عبودية النباتات لله سبحانه
أما عن النباتات فهي أيضاً تسجد لله تبارك وتعالى، يقول الله تبارك وتعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6].
النجم: هو ضعيف النبات الذي ليس له ساق: يسبحه النبات جمعه وفريده والشجر عتيقه وجديده تمجده رهبان الطيور في صوامع الأشجار فيطرب السامع تمجيده كلما ذرف الهزار دهف سكره فالبلبل بالحمد يعيده وكلما قام خطيب الحمام ينوح على منابر الدوح قلد المستهام تغريده {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [العنكبوت:19].
ويقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ} [الحج:18].
فبنص القرآن: الشجر يسجد لله تبارك وتعالى، فالشجر له عبودية خاصة، وهو يشهد للمؤذن يوم القيامة، ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من مؤذن يؤذن فيسمعه إنس ولا جن ولا حجر ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة).
فالشجر يشهد للمؤذنين يوم القيامة.
كذلك له عبودية خاصة وهي التلبية، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من ملب يلبي إلا ولبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا ومن هاهنا).
ولكن الشجر لا تنقطع، لكن إذا سمعت الملبي لبت معه.
(31/7)
مواقف الشجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم
إن الشجر له مواقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله ولاء وبراء للمسلمين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعرابي: (أتشهد أني رسول الله؟ قال: من يشهد على هذا؟ قال: هذه الشجرة، فأشار إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأقبلت تخط الأرض) يعني: تشق الأرض إليه صلى الله عليه وسلم، ثم أشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً أنه رسول الله، فنطقت ثلاثاً أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (بينا أنا نائم رأيت فيما يرى النائم أني أقرأ من سورة السجدة، فلما أتت السجدة سجدت، فإذا بشجرة قبالتي تسجد، فسمعت الشجرة تقول في سجودها: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً وحط عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، فقرأ صلى الله عليه وسلم السجدة، فلما أتى إلى السجدة سجد، وقال ابن عباس: فسمعته يقول ما قالت الشجرة).
فهذه شجرة يتعلم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك لما اعتدى المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وقال لجبرائيل: (أما ترى ما يفعل بي مشركو قريش؟ فقال: ألا أريك آية؟ فأشار إلى شجرة فأتت إليه، ثم جعلها تذهب إلى مكانها مرة ثانية فذهبت، فقال: حسبي).
(31/8)
عبودية الجنة والنار لله سبحانه
وإن الجنة لتشتاق إلى علي وعمار وسلمان؛ لأنهم اشتاقوا إلى الله تبارك وتعالى، وهذا يدل على عبوديتها لله تبارك وتعالى، كذلك اشتكت الجنة والنار إلى ربها كما في الحديث، وهذا يدل أيضاً على عبودية الجنة لله تبارك وتعالى، وجاء في الحديث أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه لما توفاه الله كانت امرأة تقول: هنيئاً لك يا ابن مظعون الجنة! فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (أنا رسول الله، ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم).
فالجنة تشتاق إلى الصالحين من عباد الله تبارك وتعالى، أما عبودية النار لله تبارك وتعالى فيقول الله تبارك وتعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8].
وأيضاً مما يدل على عبوديتها لله تبارك وتعالى: قوله تبارك وتعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12].
(31/9)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:25   رقم المشاركة : 39
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

عبودية العرش لله سبحانه
أما عبودية العرش لله تبارك وتعالى فإن عرش الرحمن اهتز لموت سعد بن معاذ الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سموات).
والصحابة لما لمسوا مناديل لينة، قال: (أتعجبون من لين هذه؟ والله لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه).
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما مات: (لقد هبط إلى الأرض سبعون ألف ملك ما نزلوا إلى الأرض قبل يومنا هذا، كلهم حملوه معكم).
وتشترك الملائكة في جنازته وحمله، وهذا من عبودية الملائكة لله تبارك وتعالى وطاعته.

(31/10)


عبودية الجبال لله سبحانه
كذلك الجبال تتصدع من خشية الله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].
فسجود الجبال لله تبارك وتعالى معلوم بنص القرآن الكريم.
وكذلك تشفق الجبال تعظيماً لأمر الله تبارك وتعالى من حمل الأمانة، فإن الله تبارك وتعالى لما عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال أبين أن يحملنها، لا عن معصية، وإنما تعظيماً لشأن هذه الأمانة كما قال ابن عباس قال تعالى: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72].
كذلك الجبال بما فيها من حجارة تخاف من يوم الجمعة، وتسبح الله تبارك وتعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ:10] أي: تسبح الجبال معه لله تبارك وتعالى، كذلك تلبي مع الحاج حين يرفع صوته بالتلبية.

(31/11)


ولاء الجبال للمؤمنين وبراءتها من الكافرين
إن الجبال لها ولاء وبراء، ولاء مع المؤمنين وبراء من الكافرين، والمصطفى صلى الله عليه وسلم لما صعد على أحد قال: (هذا جبل يحبنا ونحبه).
ولما اهتز جبل أحد قال: (اسكن أحد فإن عليك نبي وصديق وشهيدان).
هذا يدل على ولاء الجبل للمؤمنين، وبغضه للكفار، والبراءة منهم، ألم يقل الله تبارك وتعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:90 - 91].
فالجبال تأنف من الكفر وأهله، وتفرح بمرور العبد الصالح عليها، كما قال ابن مسعود: ينادي الجبل الجبل باسمه: هل مر بك ذاكر لله تبارك وتعالى، فإن قال: نعم، قال: أبشر.

(31/12)


عبودية البحر لله سبحانه
روى الإمام أحمد في مسنده عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات على الأرض، يستأذن الله في أن ينفضح عليهم فيكفه الله تبارك وتعالى).
وفي رواية: (إنه ما من يوم إلا والبحار تستأذن ربها أن تغرق بلاداً والملائكة أن تعاجله فتهلكه، فيقول لهم الله تبارك وتعالى: دعوا لي عبدي).
وفي رواية: (إن كان عبدكم فشأنكم، وإن كان عبدي فمني وإلي).
وقد ورد في الحديث أن الرجل قال لأهله: (إذا أنا مت فذروني ثم ألقوا بنصفي في البحر، ونصفي في البر، فأمر الله تبارك وتعالى البحر أن يجمع ما فيه، والبر أن يجمع ما فيه، ثم أحيا الله تبارك وتعالى هذا الرجل، فقال: لم سألت ما سألت؟ قال: من خشيتك وربي، فغفر الله له).
المهم: أن المولى تبارك وتعالى يأمر البحر أن يجمع ما فيه، فيجيب طاعةً لله تبارك وتعالى.
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] قال ابن عباس: أي: المكفوف يكفه الله تبارك وتعالى أن يغرق بني آدم؛ لأن مياه البحار والمحيطات ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، واليابسة ربع الأرض فقط، ومنسوب البحار أعلى من البر، ولكن الله تبارك وتعالى يكف البحر أن يغرق هذه البقعة من الكرة الأرضية، فقوله: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] أي: المكفوف عن إغراق بني آدم.

(31/13)


عبودية الشمس والقمر لله سبحانه
وانظر إلى عبودية الشمس والقمر، يقول الله تبارك وتعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38].
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون أين تذهب الشمس؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تذهب فتستأذن فتسجد تحت العرش فيأذن لها فتسجد، ثم تستأذن أن تخرج طالعة فيقول: اطلعي وارجعي من حيث أتيت، فتخرج طالعة من المغرب، حتى إذا كان قبل يوم القيامة تستأذن أن تخرج، فيقال لها: اخرجي طالعة من المغرب، فذاك يوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً).

(31/14)


عبودية السماوات والأرض لله سبحانه وتعالى
إن علماء الفلك يقولون: إن حجم الشمس مثل حجم الأرض مليون وثلاثمائة ألف مرة، وعلماء الفلك يقولون إن في السماء مجرات، وإن مجرة درب التبانة التي تقع فيها الأرض فيها ثلاثون مليار نجم، يعني: ثلاثون ألف مليون نجم، وإن منكب الجوزاء حجمه مثل حجم الشمس مائة مليون مرة، قال تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6].
يقولون: إن أقرب نجم يبعد عن الأرض مسافة أربع سنوات ضوئية، يعني: ثلاثةً وعشرين مليون مليون ميل، وقالوا: إن النجم الذي يسمى سديم المرأة المسلسلة يبعد عن الأرض مليون سنة ضوئية: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات:47 - 48].
فالسماوات بما فيها من نجوم وبما فيها من شمس وبما فيها من قمر، تسبح وتسجد لله تبارك وتعالى.
لما طلب المشركون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، أشار إلى القمر فانشق حتى صار فلقتين، فلقة وراء الجبل، وفلقة وراء الجبل من الجهة الأخرى، وهذا من عبودية السموات والأرض لله تبارك وتعالى.
أيضاً السماوات والأرض تبكي لموت العبد الصالح، يقول الله تبارك وتعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29].
يقول الله تبارك وتعالى للسماوات وللأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11].
والله تبارك وتعالى يقول: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، فهذا تسبيح السموات، وعرض الأمانة على السموات والأرض والجبال يدل على عبوديتها لله تبارك وتعالى وتعظيمها لأمر هذه الأمانة.
أما عبودية الأرض لله تبارك وتعالى، فلما ورد في حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ووفى بالراهب المائة: (فقال الله لأرض السوء: أن تباعدي ولأرض الخير: أن تقاربي) فأطاعتا أمره، وهذا من موالاة الأرض وبغضها.
وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:90 - 91].
وذكر أن رجلاً من بني النجار حفظ سورة البقرة وآل عمران، ثم ارتد ولحق باليهود فعجبوا منه وقالوا: هذا كان يقرأ ويكتب لمحمد صلى الله عليه وسلم، فدق الله عنقه فمات، فلما واروه التراب لفظته الأرض، فواروه ثانياً فلفظته الأرض، وواروه ثالثاً فلفظته الأرض، فتركوه منبوذاً، وهذا يدل على عبودية الأرض لله تبارك وتعالى.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) فأطاعت أمره عبودية له سبحانه وتعالى.

(31/15)


عبودية الرياح والسحاب لله سبحانه
يقول الله تبارك وتعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13].
سأل اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد، فقال: (ملك من الملائكة معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب).
ولما سألوه عن الصوت الذي فيه، قال: (هذا صوت ملك بالسحاب)، قال تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا رجل يمشي في فلاة إذ سمع صوتاً في سحابة يقول: اسق حديقة فلان، قال: فسمع الرجل السحابة فأتت إلى حديقة، فلما توسطتها أفرغت ما فيها من ماء، فرأى رجلاً يحثو بمسحاة فقال: ما اسمك؟ فسماه بالاسم الذي سمعه في السحابة، قال: لم تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان باسمك، قال: أما إن قلت ما قلت، فإني كنت أتصدق بثلثها، وآكل أنا وعيالي ثلثها، وأرد الثلث الباقي فيها).

(31/16)


تسبيح الطعام وتسليم الأحجار على رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال عبد الله بن مسعود: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل في الظلام، وسجودها لله تبارك وتعالى معلوم بنص كتاب الله تبارك وتعالى.
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن).
ويقول علي رضي الله عنه في الحديث الصحيح: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج مكة فما استقبله حجر ولا شجر إلا وقال: السلام عليك يا رسول الله!)، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني.

(31/17)


عبودية الملائكة لله سبحانه
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في الله، فإن بين السماء السابعة وكرسيه سبعة آلاف سنة نور، والله فوق ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: إسناده جيد.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه في الأرض السابعة، وعنقه مثنية تحت العرش).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش قد مرقت رجلاه في الأرض السابعة، والعرش على قرنه خفقان الطير ما بين منكبيه سبعة آلاف سنة) فلماذا يكفر الإنسان؟ {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17].
ومن أعمال الملائكة أنهم يسبحون الله تبارك وتعالى ويصلون: (من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه).
ولقد قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن البيت المعمور: (يصلي إليه كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم).
والملائكة يحجون ويصلون، ويسبحون الله تبارك وتعالى، ويخافون الله من فوقهم، ويوالون المؤمنين ويستغفرون لهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب مستجابة، كلما دعا وكل الله به ملكاً يقول: آمين ولك بمثل).
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7].

(31/18)


فضائل الشام وبيت المقدس
للشام فضائل كثيرة، ومناقب جمة وفيرة، ذكرها الله في كتابه، وأخبر بها النبي عليه الصلاة والسلام، فهي الأرض المباركة، وهي أرض الرباط والجهاد، ومقر الطائفة المنصورة، وبها عمود الكتاب والسنة.
ويكفيها من الفضائل أن بها بيت المقدس ثاني مسجد عبد فيه الله على وجه الأرض، وللمسجد الأقصى مناقب كثيرة كذلك.

(32/1)


رثاء شهداء الأقصى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: شهداؤنا بين المقابر يهمسون: والله إنا قادمون في الأرض ترتفع الأيادي تنبت الأصوات في صمت السكون تتساقط الأحجار يرتفع الغبار تضيء كالشمس العيون والله إنا راجعون شهداؤنا خرجوا من الأكفان فانطلقوا صفوفاً ثم راحوا يهتفون عار عليكم أيها المستسلمون وطن يباع وأمة تجتاح قطعاناً وأنتم نائمون شهداؤنا فوق المنابر يخطبون قاموا إلى نابلس فصلوا في مساجدها وزاروا المسجد الأقصى وطافوا في رحاب القدس واقتحموا السجون شهداؤنا في كل شبر من ثرى الوطن المكبل ينبتون في كل ركن من ربوع الأمة الثكلى أراهم يخرجون شهداؤنا وسط المجازر يهتفون: الله أكبر منك يا زمن الجنون! شهداؤنا يتقدمون أصواتهم تعلو على أسوار نابلس الحزينة في الشوارع في المفارق يهدرون إني أراهم في الظلام يحاربون رغم انتشار الضوء في الوطن المكبل بالمهانة والدمامة والمجون والله إنا عائدون أكفاننا ستضيء يوماً في رحاب القدس سوف تعود تقتحم المعاقل والحصون شهداؤنا في كل شبر يصرخون.
يا أيها المتنصرون! كيف ارتضيتم أن ينام الذئب في وسط القطيع وتأمنون؟! وطن بعرض الكون يعرض في المزاد وطغمة الجرذان في الوطن الجريح يتاجرون أحياؤنا الموتى على الشاشات في صخب النهاية يسكرون من أجهض الوطن العريق وكبل الأحلام في كل العيون يا أيها المتشرذمون! سنخلص الموتى من الأحياء من سفه الزمان العابث المجنون والله إنا قادمون شهداؤنا في كل شبر في البلاد يزمجرون جاءوا صفوفاً يسألون: يا أيها الأحياء ماذا تفعلون؟! في كل يوم كالقطيع على المذابح تصلبون تتسربون على جناح الليل كالفئران سراً للذئاب تهرولون وأمام أمريكا تقام صلاتكم فتسبحون وتطوف أعينكم على الدولار فوق ربوعه الخضراء يبكي الساجدون صور على الشاشات جرذان تصافح بعضها والناس من ألم الفجيعة يضحكون في صورتين تباع أوطان وتسقط أمة ورءوسكم تحت النعال وتركعون في صورتين تسلم القدس العريقة للذئاب ويسكر المتآمرون شهداؤنا في كل شبر يصرخون: القدس تسبح في الدماء وفوقها الطاغوت يهدر في جنون القدس تسألكم: أليس لعرضها حق عليكم؟ أين فر الراقدون؟! وأين غاب البائعون؟! وأين راح الهاربون الصامتون الغافلون الكاذبون؟! صمتوا جميعاً والرصاص الآن يخترق العيون.
وإذا سألت سمعتهم يتصايحون.
هذا الزمان زمانهم -أي: من يقدر على أمريكا؟ - في كل شيء في الورى يتحكمون.
لا تسرعوا في موكب البيع الرخيص فإنكم في كل شيء خاسرون لن يترك الطوفان شيئاً كلكم في اليم يوماً غارقون.
تجرون خلف الموت والنخاس يجري خلفكم وغداً بأسواق النخاسة تعرضون لن يرحم التاريخ يوماً من يفرط أو يخون كهاننا يترنحون فوق الكراسي هائمون في نشوة السلطان والطغيان راحوا يسكرون وشعوبنا ارتاحت ونامت في غيابات السجون نام الجميع وكلهم يتثاءبون فمتى يفيق النائمون متى يفيق النائمون؟

(32/2)


فضائل بلاد الشام في القرآن
بيت المقدس كنز الله من أرضه، وفيه كنزه من عباده، والبركة في بيت المقدس وبلاد الشام ثبتت بآيات من كتاب الله عز وجل، فحين نقول: إقليم الشام، فإنا نعني به الإقليم الذي كان إقليماً موحداً في ظل دولة الخلافة العثمانية حتى اتفاقية سايكس بيكو، فجاء الإنجليز والفرنسيون وقسموا ذلك الإقليم إلى أربع دويلات هي: سورية ولبنان والأردن وفلسطين، فعندما يقال في الشرع: الشام، فإن المقصود بها: سورية ولبنان والأردن وفلسطين.
ولهذه البقاع مكانة في كتاب الله عز وجل وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيها سيكون تمام دولة الإسلام وملكه في آخر الزمان، وهي حرز المؤمنين عند وقوع الفتن، وإليها يهاجر خيار أولياء الله.
تعالوا معي في رحلة لفضائل الشام وبيت المقدس.
قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: معلوم أن إبراهيم إنما نجاه الله ولوطاً إلى أرض الشام من أرض الجزيرة والعراق.
وقال ابن جرير الطبري: لا خلاف بين أهل العلم أن هجرة إبراهيم من العراق كانت إلى الشام.
فهذه الآية تثبت البركة لبلاد الشام وفلسطين.
وقال الله تبارك وتعالى عن موسى ومن معه بعد أن نجاه من فرعون: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137].
قال الحسن: هي الشام.
وقال قتادة: هي أرض الشام.
وقال ابن تيمية: معلوم أن بني إسرائيل إنما أورثوا مشارق أرض الشام ومغاربها بعد أن أغرق فرعون في اليم.
وقال الله تبارك وتعالى على لسان موسى لقومه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21]، والأرض المقدسة أي المطهرة.
قال قتادة: هي أرض الشام.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هي أرض الشام.
ومملكة سليمان بارك الله تبارك وتعالى فيها وكانت في بيت المقدس، قال الله تبارك وتعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81]، قال ابن زيد: هي بلاد الشام.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنما كانت تجري إلى أرض الشام التي فيها مملكة سليمان وبالذات في بيت المقدس.
وقال تعالى في قصة سبأ: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18]، قال مجاهد: القرى التي بارك الله فيها هي الشام.
وقال قتادة: هي أرض الشام.
وقال ابن عباس: هي الأرض المقدسة.
وقال الله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]، فأيضاً بارك الله حول بيت المقدس.
قد يفت في عضد الناس أن إسرائيل معها قنابل وصواريخ وتستطيع أن تدك المسجد الأقصى في لحظة، فيسقط في أيدي الناس ويخلدون إلى اليأس وإلى النوم العميق.
نقول لهم: إن هذه الأرض مباركة، ومكان المسجد نفسه مبارك، فالمسجد الأقصى ثاني مسجد بني على وجه الأرض، فبينه وبين بناء الكعبة أربعون عاماً كما سنبين.
واختلف العلماء فيمن بناه أولاً هل هو آدم أم إبراهيم أم إسرائيل؟ ثم جدد بناءه سيدنا سليمان، وحينما دخله النبي صلى الله عليه وسلم كان عبارة عن أطلال وبقايا سور تحيط بالمسجد، فحتى لو أن الإسرائيليين هدموا المسجد الأقصى فإنه يبنى مرة ثانية، فقد جدد بناءه عبد الملك بن مروان، وجدد بناءه أبو جعفر المنصور، وجدد بناءه خلفاء عباسيون وزادوا فيه.
العبرة هي أن الأرض التي أقيم عليها المسجد أرض مباركة فلا يفت في عضد الناس، بل هيكل اليهود نسف مرتين ودمر تدميراً كاملاً ولم يبق فيه أثر لطوبة واحدة، وبرغم ذلك يقولون: الهيكل.
والمسلمون يقولون: إسرائيل هدت الجامع إذاً نحن لا نستطيع أن نعمل شيئاً، وسنبقى قاعدين!! فهذه القشة إنما تقصم ظهر المتغافل.
قال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ} [سبأ:18] أي: بين مملكة سبأ.
{وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ:18] التي هي بلاد الشام.
{قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [يونس:93]، قال الضحاك: هي بلاد الشام.
وقال قتادة: هي الشام وبيت المقدس.
{مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس:93] يعني هذه الأرض أرض صدق أقسم الله تعالى بها.
تكلم الله عن الربوة فقال: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50] هي بيت المقدس.
وأقسم الله عز وجل بمنابت التين والزيتون فقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3] ومنابت التين في بلاد الشام، ومنابت الزيتون في الجبل الذي عليه بيت المقدس.
وأرض الشام وفلسطين هي أرض المحشر، قال الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق:41].
قال ابن جرير الطبري: واستمع يا محمد -صلى الله عليه وسلم- صيحة القيامة يوم ينادي بها منادينا من موضع قريب، وكأنه ينادي بها من صخرة بيت المقدس، وهذا قول قتادة وكعب قال: ملك قائم على صخرة بيت المقدس.
والسور الذي يضربه الله جل وعلا بين المنافقين والمؤمنين في عرصات القيامة هو السور الشرقي لبيت المقدس، الذي يطل باطنه على المسجد الأقصى ويطل على وادٍ يسمى وادي جهنم، وهذا الوادي في القدس، قال الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
قال عبد الله بن عمرو بن العاص عن هذا السور: هو السور الشرقي باطنه المسجد وظاهره وادي جهنم.
فهذه آيات تكلمت عن بركة وطهارة وقدسية هذه الأراضي.

(32/3)


فضائل بلاد الشام على لسان الرسول المصطفى

(32/4)


بسط الملائكة أجنحتها على الشام
أما الفضائل التي ثبتت لبلاد الشام ولبيت المقدس بالسنة فعظيمة، وكل فضيلة ثبتت لبلاد الشام فهي أيضاً ثابتة لبيت المقدس؛ لأنه جزء من بلاد الشام.
أولاً: بسط الملائكة أجنحتها على الشام.
فعن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا طوبى للشام، يا طوبى للشام، يا طوبى للشام! قالوا: يا رسول الله! وبم ذاك؟ قال: تلك ملائكة الله باسطو أجنحتها على الشام).
وطوبى تأنيث أطيب، وهو دعاء بطيب العيش والراحة والسعة، قال عز الدين بن عبد السلام: أشار صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى وكل الملائكة بالشام يحرسونها ويحفظونها.

(32/5)


الشام صفوة بلاد الله
الفضيلة الثانية لبلاد الشام: أنها صفوة بلاد الله من أرضه يُسكنها عز وجل خيرته من خلقه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالشام، فإنها صفوة بلاد الله يسكنها خيرته من خلقه، فمن أبى فليلحق بيمنه وليسق من غدره فإن الله عز وجل تكفل لي بالشام وأهله).
(فمن أبى) أي: من أبى السكنى بالشام.
(وليسق من غدره) الغدر جمع غدير، والغدير هو الجزء من الماء الذي يتركه السيل بعد انصرافه من الأرض، وهذا معروف في بلاد الشام كثيراً، يعني: لا يتنازع الناس على الماء وليشرب كل من غديره الخاص به.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن حوالة: (عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده، فإما إن أبيتم فعليكم بيمنكم واسقوا من غدركم، فإن الله تكفل لي بالشام وأهله).
وجاء في حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشام صفوة الله من أرضه، وفيها صفوته من عباده).

(32/6)


تكفل الله بأهل الشام
المنقبة الثالثة لأهل الشام ومنها أهل فلسطين: أن الله تكفل بأهل الشام: قال سيدنا عبد الله بن حوالة الصحابي الجليل، وسيدنا سعيد بن عبد العزيز إمام أهل الشام: من تكفل الله به فلا ضيعة عليه.
فقد يقول لك قائل: كيف يكون قوله: (فلا ضيعة عليه) وهاهي إسرائيل تدك الأرض دكاً؟! والجواب لمثل هذا: لا تأخذ حقبة معينة من الزمن أو مدة قصيرة من الزمن وتنظر إليها على أنها تاريخ الأمم، وإلا فبالله عليك ماذا تساوي إسرائيل بجانب التتر؟ وماذا تساوي إسرائيل بجانب الحملات الصليبية التي اشتركت فيها كل جيوش الغرب؟ وكلها تحطمت على صخرة بيت المقدس.
سيدنا شيخ الإسلام ابن تيمية كان يعلم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في بلاد الشام، فلما جاءت معركة مرج الصفر التي شارك فيها بنفسه أمام جيوش المغول والتتر أشار على السلطان محمد بن قلاوون أن يخرج بالجيش المصري لتكون المعركة على أرض الشام، لكي لا يلتقوا بجيش التتر في مصر، وإنما يخرجون من مصر ويجتمعون مع الجيش الشامي، فاجتمعوا وكانت المعركة على أرض الشام في معركة مرج الصفر وكان فيها انتصار عظيم للمسلمين.
وعندما دُمِّر جيش الخلافة وقتل الخليفة واجتاحت جيوش التتر دولة الخلافة تصدى للتتر الجيش المصري المسلم، فخرج قطز من مصر إلى بلاد الشام لتكون المعركة على أرض الشام وهي معركة عين جالوت، وكان بطلها الجيش المصري ومعه الشامي ولكن المعركة كانت في بلاد الشام.
وكذلك معركة حطين، فعندما جاءت الحملات الصليبية التي قتلت من المسلمين سبعين ألف مسلم يوم أخذوا بيت المقدس، وقد قتلوهم في سبعة أيام أو في ثلاثة أيام حتى غاص القائد الصليبي -الذي أخذ بيت المقدس- في جثث المسلمين وفي دمائهم إلى ركبتيه.
ثم أتى صلاح الدين ليدمر جيوش الصليبيين في معركة حطين الفاصلة، التي كانت نهاية الوجود الرومي كله، وكانت في بلاد الشام.
وقد قال هرقل: سلام عليك يا سورية سلام مودع لا يراك بعد هذا أبداً، وذلك حين خرج من الشام وكانت تصفية الإمبراطورية الرومية من أرض الشام.
وهذا لا يعني أن إسرائيل قوة صغيرة.
ومما يذكر أنه في السبعينات هبطت طائرة شراعية فيها سوري وتونسي وفلسطينيان، وفتحوا رشاشاتهم على قاعدة عسكرية من قواعد الجيش الإسرائيلي فقتلوا العشرات بل بالمئات ثم قتلوا، فوقف قائد الكتيبة الإسرائيلي وعظم هؤلاء الأبطال؛ وأدى لهم التحية العسكرية بعد موتهم اعترافاً ببطولتهم.
فالإنسان لا ينظر إلى وقت الضيق، ولكن نقول: إن العاقبة للمتقين، بل انظر إلى رجل مبتدع دوخ إسرائيل، فما ظنك لو جاء رجل من أهل السنة والجماعة.
فهذا خميني العرب حسن نصر الله، مع أنه مبتدع ويتكلم على الصحابة وعلى السيدة عائشة، وكذلك حزب الله، ولكن على الرغم من ابتداعهم فقد أدبوا إسرائيل، فما ظنك إذاً بالملتزمين من أهل السنة؟

(32/7)


عمود الكتاب والإسلام سيكون بالشام
وعمود الكتاب والإسلام سيكون بالشام: قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن حوالة: (رأيت ليلة أسري بي عموداً أبيض كأنه لؤلؤة تحمله الملائكة.
فقلت: ماذا تحملون؟ فقالوا: عمود الإسلام، أمرنا أن نضعه بالشام، وبينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب اختلس من تحت رأسي فظننت أن الله تخلى عن أهل الأرض فأتبعته بصري وإذا هو نور ساطع بين يدي حتى وضع بالشام، فقال ابن حوالة: يا رسول الله! خر لي.
قال: عليك بالشام).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء: (بينا أنا قائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به فأتبعته بصري فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام) وعمود الكتاب -كما قال عز الدين بن عبد السلام - هو الإيمان.

(32/8)


دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للشام بالبركة
والنبي صلى الله عليه وسلم دعا بالبركة للشام، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ثم أقبل على القوم فقال: اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في مدنا وصاعنا، اللهم بارك لنا في حرمنا، وبارك لنا في شامنا.
فقال رجل من أهل العراق: وفي العراق؟ فسكت ثم عاد قال الرجل: وفي عراقنا.
فسكت ثم قال: اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في مدنا وصاعنا، اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم اجعل مع البركة بركة، والذي نفسي بيده! ما من المدينة شعب ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا عليها).
وفي حديث آخر أن النبي قال: (اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: وفي نجدنا؟ قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: وفي نجدنا؟ قال: هناك الزلازل والفتن، وهناك يطلع قرن الشيطان)، وفي رواية: (وفيها تسعة أعشار الشر).
والصوفية قالوا: إن المقصود الشر الذي أخبر عنه عليه الصلاة والسلام محمد بن عبد الوهاب، إذاً محمد بن عبد الوهاب شيطان الأمة! وقد فهم الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام الخطابي أن المقصود بقوله: (وفي نجدنا) ما نجد من الأرض، أي: ما ارتفع من الأرض، وهي أرض العراق، ولو لم يكن في العراق إلا صدام لكفى، فقد كان سبباً في موت مليون ونصف طفل، وهو ممن تبنوا دعوى العنترية الجاهلية القومية العربية، ومؤسس حزب البعث، وقد دك المسلمين من الأكراد بالنووي وبالصواريخ ودمّر قراهم تدميراً كاملاً، وهو تلميذ نجيب لـ ميشيل عفلق.
والقومية العربية كانت سبباً في كل الهزايم والدمار، وسبباً في التصاق الناس بالأرض وبعدهم عن السماء، وارتباطهم بالوحي انتهى، وأصبح ارتباطهم بالتعاليم الكاذبة؛ تعاليم الأرض المخالفة لتعاليم السماء، ثم بعد ذلك تكون النهاية المؤسفة، فما انتصر الناس في معركة إلا بالإسلام.

(32/9)


الشام ميزان لصلاح الناس
من مناقب الشام: أنها ميزان لصلاح الناس، وميزان للصلاح والفساد في أمة الإسلام: فهي ميزان القسط لأمة الإسلام، وهذا بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن معاوية بن قرة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيك).
وقال: (لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة).
ويوصي النبي صلى الله عليه وسلم بسكنى بلاد الشام ويفضلها على اليمن وعلى غيرها في آخر الزمان فهذا دليل على أفضليتها.

(32/10)


أرض الشام أرض رباط وثغر جهاد
وأرض الشام أرض رباط وثغر وجهاد إلى يوم القيامة كما قال بذلك عز الدين بن عبد السلام، وكما قال بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وبنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سلمة بن نفيل الكندي رضي الله عنه قال: (كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله! أهان الناس الخيل، أهان الناس الخيل وامتهنوها وقالوا: لا جهاد) ولنا هنا وقفة، فقد أقسم الله عز وجل بخيل الحرب فقال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} [العاديات:1 - 3] فهل خيلنا خيل حرب؟! والله ما هي بالعاديات ضبحاً، ولا هي بالموريات قدحاً، ولا هي بالمغيرات صبحاً، بل هي خيل لعب ولهو ودنيا.
بعد أن كان يركب عليها أبو سليمان خالد بن الوليد، لصباحه المجد ولذكراه السلام، وكان يركب عليها صلاح الدين، فمن الذي يركب عليها الآن؟! هذا الفرق بيننا وبينهم.
ألا يا صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ حصانك في سينا يشرب دمعه ويا لعذاب الخيل إذ تتذكرُ وتأبى جراحي أن تضم كفاها كأن جراح الحب لا تتخثرُ تأخرت يا أغلى الرجال فليلنا طويل وأضواء القناديل تسهرُ حصانك في سيناء يشرب دمعه وجندك في حطين صلوا وكبروا وتبكيك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبرُ ويبكيك سفساط الشام ودورها ويبكيك ظهر الغوطتين وتدمرُ نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصَّرُ وليمون يافا يابس في حقوله وهل شجر في قبضة الظلم يُثمرُ وأصرخ يا أرض المروءات فاحبلي لعل صلاحاً ثانياً سوف يظهرُ جاء في الحديث: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أذال الناس الخيل ووضعوا السلاح وقالوا لا جهاد قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: كذبوا؛ الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وهو يوحى إلي أني مقبوض غير ملبث، وأنتم تتبعوني؛ ألا فلا يضرب بعضكم رقاب بعض، وعقر دار المؤمنين بالشام) وهذا هو الشاهد.
فيكذِّب النبي صلى الله عليه وسلم من يقول إن الحرب قد وضعت أوزارها، ثم قال: (عقر دار المؤمنين بالشام) يعني: موطن أصل الإيمان سيكون بالشام عند نزول الفتن.

(32/11)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:26   رقم المشاركة : 40
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

خيار أهل الأرض ألزمهم للشام
ومن فضائل أهل الشام: أن خيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ومهاجر إبراهيم هي بلاد الشام وخاصة فلسطين.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم).
ألزمهم: يعني من يلتزمون المكان ولا يرحلون عنه، فهم لا يجلسون فيه فترة ويتركونه وإنما يقيمون فيه إقامة دائمة.
قال: (ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم وتقذرهم نفس الله وتحشرهم النار مع القردة والخنازير).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتكونن هجرة بعد هجرة إلى مهاجر أبيكم إبراهيم حتى لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها تلفظهم أرضوهم وتقذرهم نفس الرحمن، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن رسولنا صلى الله عليه وسلم جعل مهاجر إبراهيم يعدل مهاجره صلى الله عليه وسلم، وقد انقطعت الهجرة إلى مهاجره صلى الله عليه وسلم بفتح مكة ولا تبقى إلا الهجرة إلى بلاد الشام.

(32/12)


الطائفة المنصورة في بلاد الشام
وفي بلاد الشام الطائفة المنصورة: فعن عمير بن هانئ رضي الله عنه قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما على هذا المنبر يقول: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس).
قال مالك بن يخامر السكسكي: يا أمير المؤمنين! سمعت معاذ بن جبل يقول: هم بالشام.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص: (لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة).
قال الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية: أهل الغرب هم أهل الشام، فهم غرب المدينة المنورة، فلقد كان أهل المدينة يطلقون على الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام: إمام أهل المغرب، فالمشرق والمغرب شيء نسبي، كل مدينة لها شرق وغرب، فالشام مغرب بالنسبة للمدينة.
وقد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم حدد الطائفة المنصورة هنا بأنها طائفة مقاتلة تقوم بأمر الله وحددها في بلاد الشام، والإمام أحمد بن حنبل وشيخه يزيد بن هارون وعلي بن المديني قرينه في طلب العلم، والإمام البخاري قالوا: الطائفة المنصورة هم أهل الحديث.
فكيف توفق بين القولين؟ قال الإمام النووي: إن الطائفة المنصورة مفرقة بين أنواع المؤمنين، فمنهم شجعان مقاتلون، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، ومنهم آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، والطائفة باعتبار زمانها، ففي أيام الإمام أحمد بن حنبل كان حفاظ الحديث والمحدثون هم الذين ينافحون عن الإسلام ويدافعون عنه أمام فلسفة اليونان وعلم الكلام، فهم الذين تصدوا للفلسفة اليونانية وحفظوا دين الأمة، ورفعوا النقل فوق العقل، ولولا صمود الإمام أحمد في محنة خلق القرآن لضاع الإسلام كما قال ذلك علي بن المديني، ففي وقت من الأوقات كان حفاظ الحديث هم الدرع الواقي للإسلام، وقد ينخفض صوتهم في زمان وتظل البركة فيهم، ولكن يقوم بأمر الله طائفة أخرى من الأمة وهم المقاتلون الذين يذودون عن الإسلام وعن حمى الإسلام، فهم طائفة مفرقة بين أنواع الطوائف الإسلامية من أهل السنة.

(32/13)


كثرة الشهداء ببلاد الشام
ومن فضائل بلاد الشام: كثرة شهداء بلاد الشام وأرض فلسطين، ونوع من شهدائهم أفضل الشهداء عند الله بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
فعن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل بالحمى والطاعون فأرسلت الحمى إلى المدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام).
فأكثر المناطق في الأمة تعرضاً للطاعون بلاد الشام، وأكثر المناطق تعرضاً للحمى هم أهل المدينة.
قال: (الطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجس على الكافرين).
وطاعون عمواس مات فيه الآلاف، ومنهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة، وأعلم الناس بالحلال والحرام معاذ بن جبل.
ومات فيه شرحبيل بن حسنة، وعبد الرحمن بن معاذ بن جبل، دخل عليه والده معاذ بن جبل قبل الموت، فقال: يا عبد الرحمن! كيف تجدك؟ قال: يا أبت {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:60]، ثم أصيب معاذ في إبهامه فجعل يقبله ويقول: إنك لصغير وقد يبارك الله في الصغير فيصبح كبيراً، فلما جاءه الموت قال: اخنق خنقك، فوعزتك إنني أحبك، حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني ما كنت أحب البقاء في الدنيا لغرس الأشجار ولا لكري الأنهار، وإنما لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
أما كون أفضل الشهداء هم من أهل الشام فهذا في آخر الزمان وفي يوم الملحمة وفي أكبر معركة بين النصارى والمسلمين في الغوطة، وأرض الغوطة قريبة من دمشق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليه جيش من المدينة -والمدينة هنا هي دمشق بنص الأحاديث التي سنذكرها- من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم -أي النصارى الذين هم بنو الأصفر- خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث لا يفتنون أبداً فيفتتحون القسطنطينية).
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث آخر: (والله! إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم ولون خيولهم).
والقسطنطينية تفتح مرتين، والتي هي أسطنبول، مرة على يد محمد الفاتح الذي فتحها وكان عمره اثنتين وعشرين سنة، وكان شيخه الشيخ آغا شمس الدين يغدو به وهو لا زال صغيراً حتى يشرف به على البحر ويقول: أتنظر هذه المدينة يا بني؟ هذه مدينة القسطنطينية سيفتحها أمير مسلم هو خير الأمراء، ويفتحها جيش من خير الجيوش عند الله، ثم يخرج به مرة ثانية بعد ثلاثة أيام أو أربعة أيام كذلك، فكبر الطفل ومعه الأمل أنه ربما يكون هو الفاتح.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه وإذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص والفتح الثاني سيكون آخر الزمان بعد يوم الملحمة الكبرى التي ينتصر فيها المسلمون على الجمع الكبير من النصارى، وهم أربعون لواء تحت كل لواء اثنا عشر ألف مقاتل يهزمهم المسلمون.
وما قاله نبينا على العين والرأس نصدق به ونوقن به، فممكن أن تكون حرب آخر الزمان بالسيوف، ولا تتعجب فإن أكبر علماء الجيولوجيا في الغرب يقولون: إن نجوماً كبيرة تنفجر في الجو بما يسمى موت النجوم، وإذا التصق نجم منها بالأرض وانفجر فسينهي كل ما على الأرض من أدوات إلكترونية.

(32/14)


في الشام شجر يشبه شجرة طوبى في الجنة
ومن فضائل الشام: أن بها شجر الجوز يشبه شجرة طوبى في الجنة: ففي حديث عتبة بن عبد السلمي حديث الأعرابي الذي أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (في الجنة فاكهة؟ قال: نعم، وبها شجرة تدعى شجرة طوبى وهي شجرة تطابق الفردوس.
قال: أي شجر أرضنا تشبه؟ قال: ليس شبه شيء من شجر أرضك، ولكن أتيت بلاد الشام؟ قال: لا.
قال: إن فيها شجرة تسمى الجوزة تنبت على ساق واحدة ثم تتفرع ثم تنتشر ثم ينتشر أعلاها) فهذه الشجرة تشبه شجرة طوبى بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

(32/15)


الشام آخر ديار الإسلام خراباً
ومن فضائلها: أنها آخر الديار الإسلامية خراباً: كما روى سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خراب بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية) يعني: وبعد فتح القسطنطينية خروج الدجال، آيات يتلو بعضها البعض، والشام كما قلنا أرض المحشر والمنشر.

(32/16)


بشرى المولد النبوي كانت من الشام
وهناك شيء جميل من فضائل الشام متعلق بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم.
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: (قلت: يا نبي الله! ما كان بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي نوراً أضاءت منه قصور الشام)، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني في كتابه صحيح السيرة، والمقصود بقصور الشام أي: التي ببصرى، قال العلامة ابن كثير: وهذه بشرى طيبة ومكانة عظيمة لأهل محلتنا بصرى.
ولذلك كانت أول مدينة من بلاد الشام حررت من قبضة الروم صلحاً، وأول فتح للمسلمين في بلاد الشام كانت مدينة بصرى.

(32/17)


فضائل بيت المقدس

(32/18)


وجود المسجد الأقصى ببيت المقدس
ثم بعد ذلك خص الله عز وجل بيت المقدس بفضائل منها أن بها المسجد الأقصى.
فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع على الأرض أولاً؟ قال: المسجد الحرام.
قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى.
قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، وأينما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: إن أول من بنى الكعبة هو آدم عليه السلام، ثم بناه بنوه من بعده.
وقول ثان: إن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى المسجد الحرام ثم ارتحل بعد بناء المسجد الحرام إلى الشام موطنه ومهاجره فبنى بها المسجد الأقصى، فإبراهيم خليل الرحمن هو باني المسجدين.
والقول الثالث: إن إبراهيم بنى الكعبة ثم بنى من بعده حفيده يعقوب المسجد الأقصى، والذي جدد البناء بعد ذلك هو سليمان بن داود عليه السلام.

(32/19)


بيت المقدس مهاجر بعض الأنبياء وموطن موتهم
ومن الفضائل: أنها أرض هاجر إليها إبراهيم ولوط، فمات إبراهيم بمدينة الخليل، فهي أرض يموت فيها خليل الرحمن إذاً هي أرض مباركة، ثم بعد ذلك تطؤها أقدام أنجاس الأرض من اليهود الملاعين.
وموسى عليه السلام يسأل ربه عند الموت أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صكه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه وقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إليه وقل يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده من الثور بكل شعرة سنة، قال: أي رب! ثم ماذا؟ قال: ثم الموت.
قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة -من فلسطين- رمية بحجر، ولكنه مات بالأردن عليه السلام، قال: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر).
فسيدنا موسى خرج ببني إسرائيل لفتح بيت المقدس ولكن لم يجعل الله تبارك وتعالى الفتح على يديه، فلما جاءه الموت تمنى من ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة فمات قريباً منها.

(32/20)


حبس الشمس ليوشع بن نون حتى يفتح بيت المقدس
ومن الفضائل: أن يوشع بن نون فتى موسى الذي قال الله فيه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف:60] حبست له الشمس حتى يفتحها.
وهو نبي عظيم من بني إسرائيل صلى الله عليه وسلم، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حبست الشمس على بشر قط إلا على يوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس) أي: أن ربنا حبس له الشمس حتى يتم فتح بيت المقدس؛ لأنه دخل بيت المقدس لأجل أن يفتحه وكان عصر يوم الجمعة، وقد قاربت الشمس على المغيب، فقال: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا.
فحبسها وأوقف الشمس لهذه المدينة المباركة حتى أتم يوشع بن نون فتحها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها) أي: أنه عقد على واحدة ولم يدخل بها، (ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينظر ولادها، فدنا من القرية صلاة العصر -أو قريباً من ذلك- فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه).
فهذه من فضائل القدس التي حبس الله من أجلها الشمس.
حدائي حزين ترى هل سئمتم حدائي الحزين وماذا سأفعل قلبي حزين؟ زماني حزين تقاطيع وجهي وجدران بيتي حزين حزين حزين حزين فجدران بيتي دمار وريح وبين الجوانح قلب جريح فحيح الأفاعي يحاصر بيتي ويعبث في الصمت صوت كريه.
متى راح عهد قبيح السمات.
رأينا له كل يوم شبيه حزين الدار يا صاح.
جراحاتي تغذيني.
ودوماً تنزف القدسُ تعاتبنا وتسألنا ويصرخ خلفنا الأمسُ وما يضنيك يا قدساه يا أختاه يضنيني وما يبكيك يبكيني لأنك عشت في دمنا فهذا الجرح في عينيك شيء لا تداريه وجرحي آه من جرحي قضيت العمر يؤلمني وأخفيه وما يضنيك يا قدساه يا أختاه يضنيني وما يبكيك يبكيني لأنك عشت في دمنا فلن ننساك رغم البعد كنت أنيس وحدتنا ونهراً من ظلال الغيب يروينا يطهرنا وقد ننسى أمانينا وقد ننسى محبينا وقد ننسى طلوع الشمس من غدنا وقد ننسى غروب الحلم من يدنا ولن ننسى مآذننا ستجمعنا دماء قد سكبناها وأيام أضعناها ويجمعنا ويجمعنا ولن ننساك لن ننساك يا قدس!!

(32/21)


بيت المقدس ديار الأنبياء
ومن فضائل بيت المقدس أنها ديار يعقوب عليه السلام، فإسرائيل هو الذي بنى المسجد الأقصى، على أحد أقوال أهل العلم.
بينما الملاعين من يهود يقولون: إن روابيل بن إسرائيل زنا بامرأة أبيه، وإن يعقوب علم بذلك وسكت، فهذا النبي العظيم أبو يوسف جعلتموه ديوثاً، النبي الكريم بن الكريم جعلتموه قواداً؟ بل قالوا: إن يعقوب سرق مواشي حميهم، وهذا كله كذب وافتراء على أنبياء الله.
ومن الفضائل: أنه كان بالقدس محراب داود عليه السلام قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (كان داود أعبد البشر)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود؛ كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام نصف الليل ثم يقوم ثلثه ثم ينام سدسه).
ولم يسلم داود عليه السلام من اليهود فقد قالوا عنه: إنه عندما كبر داود وشاخ أتوا إليه بفتيات صغيرات يدفئنه، وقالوا: إن ابن داود زنا بأخته.
وقالوا: إن لوط سقتاه ابنتاه الخمر فلما سكر ضاجعهما وحملتا منه.
فهم قتلة الأنبياء، والسفاكون، فالحرب بيننا وبينهم ليست لأجل قطعة أرض فقط، بل هي حرب دينية فقد سموا نبينا وقتلوا أنبياء الله عز وجل، وقالوا في مريم ما قالوا، وهم قتلة يحيى وزكريا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل ربه خلالاً ثلاثاً: سأل الله حكماً يصادف حكمه -أي يوافق حكم الله عز وجل- فأعطيه، وسأل الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطيه، وسأل الله حين فرغ من بناء البيت ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه، أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) فمن خرج من بيته يريد الصلاة ببيت المقدس غفر الله له كل ذنوبه ما تقدم من ذنوبه.
فكيف تترك هذه الأرض لليهود؟ أفلا يشتاق كل منا إلى غفران ذنبه؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي سنتلوه: (وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض بحيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا وما فيها).

(32/22)


محراب مريم في بيت المقدس
ومن فضائل هذه الأرض: أن فيها محراب مريم التي تولت خدمة بيت المقدس: قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران:37] أي: في المسجد الأقصى، {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، والمقصود بالمحراب: محراب المسجد الأقصى، وهو محراب زكريا عليه السلام.
ففي المسجد الأقصى سالت دموع زكريا وانطلقت دعواته خاشعة تبلل أجواء المسجد، فسأل ربه أن يهبه غلاماً يرث به ميراث يعقوب من النبوة فقال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:6] فأعطى الله عز وجل لزكريا ما تمنى في بيت المقدس.
فكان الميلاد الفذ ليحيى، فيعطاه والده وقد كبر وطعن في السن وشاخ، وأمه كانت عاقراً، لكن يعطيه الله تبارك وتعالى جزاء التبتل والطاعة والرغبة والرهبة والخشوع لله تبارك وتعالى.
ويسميه الله جل وعلا يحيى وما سمى قبله أحداً، فهذا الاسم الفريد الذي ما تسمى به أحد سمي الله عز وجل ابن زكريا به، وجعله الله سيداً وحصوراً ونبياً من أنبياء بني إسرائيل، فذبحوه من أجل راقصة تسمى سالومي كانت عشيقة للملك هي وأمها، وأراد الملك أن يتزوج من بعض محارمه فوقف له نبي الله يحيى، وكانت عشيقة الملك تريد شيئاً من الفجور مع يحيى فأبى عليها وهو السيد الحصور، فتمنت أن تكيد ليحيى فقالت لابنتها: إذا قال لك الملك في ساعة صفاء ما تريدين فقولي له: أريد رأس يحيى.
ففعلت، فدعا بقاتلين من بني إسرائيل فذهبا وذبحا نبي الله يحيى، ثم أتت البنت برأس يحيى إلى أمها، ثم أتت إلى أمها فغاصت في الأرض إلى كعبيها، ثم إلى ركبتيها، ثم إلى حقويها، فنادت أمها السياف فقالت: جز رأس بنتي، فقد خافت عليها أن تغوص في الأرض بشكل كامل كما جزت رأس يحيى جُزَّ رأسها أمام أمها، بل وبأمر أمها.
ثم بعد ذلك كان الميلاد الفذ لسيدنا عيسى عليه السلام وقد كان بأرض فلسطين؛ لكن اليهود قالوا في مريم ما قالوا: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:156].
ثم أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وكان الإسراء بالروح والجسد، فقد رأى المسجد الأقصى رؤيا عين وليست رؤيا منامية.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثلها قط، قال: فرفعه الله إلي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم -يعني: نفسه- فحانت الصلاة فآذنتهم، فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد! هذا مالك صاحب النار فسلم عليه، فالتفت إليه فبدأني بالسلام).
وقد أنكر صلاته صلى الله عليه وسلم بالنبيين سيدنا حذيفة بن اليمان ولكن هذا القول خالف فيه كل الصحابة، وأنكر كذلك أنه ربط البراق بالحلقة التي كان يربط فيها الأنبياء، ولكن هذا القول لا يصح.
الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء إماماً في هذه الليلة، والصلاة اختلف فيها أهل العلم فمن قائل يقول: إنه صلى قبل أن يعرج إلى السماء، ولكن الشيخ الألباني يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به فدخل المسجد ثم صلى فيه ركعتين وربط الدابة بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء، ثم عرج إلى السماء فعرفه جبريل بالأنبياء كل في سماء، وبعد أن عرفه نزل بهم إلى الأرض فصلى بهم في بيت المقدس.
قال الشيخ الألباني: وهذا هو الصحيح.
والشيخ ابن كثير يقول: سواء كان هذا أو ذاك فهما ثابتان، والأصح أنه صلى بهم بعد أن نزل بهم من فصلى بهم في المسجد الأقصى، يعني: عرفهم أولاً في السماوات ثم أتى فصلى بهم في المسجد الأقصى.
وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالنبيين إماماً واعترفوا له بأنه نبي هذا الزمان، وإليه صارت ملكية هذا المكان ولقومه من بعده.
خطا موسى على زبد الصحاري تشق عن الرمال هوى دفينا هوى تتفتح الأكمام منه وتنفح من بشائره يقينا دعاء أبيه إبراهيم بشرى يرجع من صداها المرسلونا تفض على صفوف العيب نصراً لأحمد يأخذ العهد الأمينا بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

(32/23)


فضائل المسجد الأقصى
والمسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى، صلى النبي صلى الله عليه وسلم نحوها وهو في مكة، ثم صلى نحوها ستة عشر وهو في المدينة، فكانت قبلة المسلمين الأولى.
وبيت المقدس أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى).
والصلاة فيه بمائتين وخمسين صلاة، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل، مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً)، وهذا الحديث أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وأخرجه المقدسي في فضائل بيت المقدس، وصححه الشيخ الألباني في تحذير الساجد.
وعن ميمونة بنت كعب مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (قلت: يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس، قال: أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره، قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أحمل إليه؟ قال: من لم يستطع أن يأتيه فليهد إليه زيتاً يسرج فيه؛ فإن من أهدى إليه زيتاً كمن أتاه) صححه البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة والحافظ العراقي والإمام الطحاوي وأيضاً قواه الإمام النووي في المجموع، وصححه الشيخ الألباني في تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق، ثم عاد وضعفه في ضعيف سنن ابن ماجة، والصحيح أن هذا الحديث ضعيف، ولكن حديث أبي ذر هو الحديث الصحيح.

(32/24)


قصيدة في البكاء على القدس
ونختم بهذه القصيدة نحدوها لكم باسم مرثية حزن: دعني وجرحي فقد خابت أمانينا هل من زمان يعيد النبض يحيينا يا ساقي الحزن لا تعجب ففي وطني نهر من الحزن يجري في روابينا كم من زمان كئيب الوجه فرقنا واليوم عدنا ونفس الجرح يدنينا جرح عميق خدعنا في المداوينا لا الجرح يشفى ولا الشكوى تعزينا كان الدواء سموماً في ضمائرها فكيف جئنا بداء كي يداوينا هل من طبيب يداوي جرح أمته هل من إمام لدرب الحق يهدينا كان الحنين إلى الماضي يؤرقنا واليوم نبكي على الماضي ويبكينا من يرجع العمر منكم من يبادلني يوماً بعمري ويحيي طيف ماضينا إنا نموت فمن بالحق يبعثنا لم يبق شيء سوى صمت يواسينا صرنا عرايا أمام الناس يفزعنا ليل تخطى طويلاً في مآقينا صرنا عرايا وكل الأرض قد شهدت أنا قطعنا بأيدينا أيادينا يوماً بنينا قصور المجد شامخة والآن نسأل عن حلم يوارينا نابلس في اليم ماتت قدسنا ذبحت ونحن في العار نسقي وحلنا طينا أي الحكايا ستروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا هذي دمانا رسول الله تغرقنا هل من زمان بنور العدل يحمينا أي الدماء شهيد كلها حملت في الليل يوماً سهام القهر تردينا القدس في القيد تبكي من فوارسها دمع المنابر يشكو للمصلينا أقزامنا ضيعونا حينما فسقوا باعوا المآذن والقرآن والدينا أقزامنا أشعلوا النيران في غدنا ومزقوا الصبح في أحشاء وادينا ما لي أرى الخوف فينا ساكناً أبدا ممن نخاف ألم نعرف أعادينا أقزامنا من أضاعوا السيف من يدنا وأودعونا سجون الليل تطوينا أقزامنا من توارى صوتهم فزعاً والأرض تسبى ونابلس تنادينا أقزامنا أوهمونا آه كم زعموا وكم خدعنا بوعد عاش يشقينا قد خدرونا بصبح كاذب زمناً فكيف نأمل في يأس يمنينا أي الحكايا تروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا من باعنا خبروني كلهم صمتوا والأرض صارت مزاداً للمرابينا هل من زمان نقي في ضمائرنا يحيي الشموخ الذي ولى فيحيينا يا ساقي الحزن دعني إنني ثمل إنا شربناه قهراً ما بأيدينا عمري شموع على درب المنى احترقت والعمر ذاب وصار الحلم سكينا قم من ترابك يا ابن العاص في دمنا ثأر طويل لهيب العار يكوينا قم يا بلال وأذن صمتنا عدم كل الذي كان طهراً لم يعد فينا هل من صلاح يداوي جرح أمته ويطلع الصبح ناراً من ليالينا هل من صلاح يعيد السيف في يدنا أو تبتروها فقد شلت أيادينا جرحي عنيد وجرحي أنت يا وطني جئنا نداويك تأبى أن تداوينا إني أرى القدس في عينيك ساجدة تبكي عليك وأنت الآن تبكينا ما زال في العين طيف القدس يجمعنا لا الحلم مات ولا الأحزان تنسينا وقد ننسى أمانينا وقد ننسى محبينا وقد ننسى طلوع الشمس من غدنا وقد ننسى غروب الحلم من يدنا ولن ننسى مآذننا ولن ننسى مآذننا ستجمعنا دماء قد سكبناها وأمجاد أضعناها وأيام حلمناها ويجمعنا ويجمعنا ويجمعنا ولن ننساك لن ننساك يا قدس

(32/25)


برد السماء في فضل الرحمة والرحماء
رحمة الله وسعت كل شيء، وأحاطت بكل حي، لا يعدها عدد، ولا يصدها حد، آثارها على الإنسان معروفة موجودة، وفي كل شيء ليست مفقودة.
وقد ذكر الله الرحمة في كتابه وأطلقها على عدة معانٍ تتجلى من خلالها سعة رحمة الله عز وجل، وقد وردت الكثير من الأحاديث، والغزير من الآثار والتي تحث على الرحمة والعمل بها منهجاً في الحياة.

(33/1)


معاني الرحمة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
الرحمة لغة: الرقة والعطف والرأفة، يقال: رحمه يرحمه إذا رق له وعطف عليه، والرحم والمرحمة والرحمة يقال: رجل مرحوم ومرحم، والرُّحم بالضمة، الرحمة، كما قال أهل العلم، رحمهَ رحماً ورُحماً ورَحمةً ورُحمة كما قال سيبويه.

(33/2)


الجنة رحمة
ولقد أطلق الله عز وجل الرحمة في كتابه على أكثر من معنى، فسمى الجنة رحمة، قال الله تبارك وتعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107]، أي: ففي جنة الله هم فيها خالدون، وقال الله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} [العنكبوت:23]، والجنة أعظم الرحمات، ففي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى: (أنت رحمتي أرحم بك من أشاء)، فالجنة رحمة يأمن فيها الناس من الخوف ويأمن فيها الناس من الحزن، هي دار السلام يدخلها الملائكة على عباد الله عز وجل من كل باب، قال تعال: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24].
قال الله عز وجل: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26]، وآخر من يخرج من النار يقول: يا رب! اصرف وجهي عن النار لا أسألك شيئاً غير ذلك، فكيف إذا أدخله الله عز وجل دار رحمته ورضوانه؟

(33/3)


الإسلام رحمة
والإسلام رحمة، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105]، وقال تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى:8] فقد كان الإسلام رحمة للعالمين، إذ أنقذهم الله من ذل العبودية لغير الله عز وجل، كما قال ربعي بن عامر: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ذل الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
قال الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] يعني: رفعة لك ولقومك.
إذا أنت غُمَّت عليك السماء وضلت حواسك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها وقبل أن يأتي الإسلام كان سابور ذو الأكتاف قد قتل من العرب خمسين ألفاً بنزع أكتافهم، حتى سمي سابور ذو الأكتاف، فقد كان العرب رعاة شياه وماعز لا شأن لهم في الأرض ولا ذكرى، فرحمهم الله عز وجل بالإسلام.
والإيمان رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود:28]، فالإيمان رحمة فما يعطيه الله تبارك وتعالى للعبد المؤمن من ذوق طعم الإيمان، ووجدان حلاوته، والفرح والسرور بالله تبارك وتعالى، وبما يغرس في قلبه من بساتين الطاعة قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
يقول ابن القيم: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً ويقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب.
ويقول ابن تيمية: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحت فهي معي.
ويقول ابن القيم: من قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن اشتاق إلى الله عز وجل اشتاقت إليه جميع الأشياء، ومن أنس بالله عز وجل أطاب به كل خبيث، وأنس به كل مستوحش.

(33/4)


النبوة رحمة
والنبوة رحمة، قال الله عز وجل: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32]، فالرحمة هنا بمعنى النبوة، فقد أتت النبوة رحمةً للعالمين، قال الله عز وجل لنبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وكأن النبوة كلها قد حصرت في رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباد، أن يبين لهم طريق الخير فيتبعوه وطريق الشر فيجتنبوه، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: خلقت النار رحمة يخوف الله بها عباده لينتهوا.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر الناس من النار ويرغبهم في الجنة، هل بعد ذلك من رحمة؟

(33/5)


القرآن رحمة
والقرآن رحمة قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
قال أبو سعيد الخدري: فضل الله القرآن ورحمته الإسلام.
وقال ابن عباس: فضل الله الإسلام ورحمته القرآن، قال الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، فالقرآن رحمة حفظ الله به حقوق الناس ورحم العباد بدستوره العلوي الذي لا يظلم مثقال ذرة، فرحمهم من ظلم الطواغيت: عجت فروج الناس ثم حقوقهم لله بالبكرات والآصال كم تستباح بكل شرع باطل لا يرتضيه ربنا المتعال والكل في قعر الجحيم سوى الذي يقضي بحكم الله لا لنوال أو ما سمعت بأن ثلثيهم غداً في النار في ذاك الزمان الخالي وزماننا هذا وربك أعلم هل فيه ذاك الثلث أم هو خالي أتى القرآن رحمةً للناس، ورفعهم إلى آفاق ما كانوا يتطلعون إليها، فقد رفعهم من مستنقع الجاهلية الآسن ومن حمأ الأرض المسنون ومن الطين والوحل، ووضعهم في مصاف تتقطع دونها أعناق الملائكة، رحم الله عباده بالقرآن إذ وضع لهم ميدان الناس الحقيقي، ومقادير الناس عنده تبارك وتعالى، فإن توهم ذو الدنيا أن جنته في الدرهم والدينار والقصر المنيف والزوجة الحسناء، فعند الله عز وجل قيم ومعايير أخرى، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].

(33/6)


المطر والرزق والعافية رحمة
وسمى الله عز وجل المطر رحمة، قال: {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [النمل:63]، وقال الله عز وجل: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم:50]، فيرحم الله تبارك وتعالى عباده بالمطر، ولولا الشيوخ الركع والأطفال الرضع لصب الله تبارك وتعالى العذاب صباً.
كان مالك بن دينار رحمه الله يقول: أنتم تستبطئون المطر وأنا أستبطئ نزول الحجارة.
كان أحد الصالحين يرفع يديه إلى السماء في الاستسقاء ويقول: اللهم لا تهلك بلادك بذنوب عبادك.
وفي الأثر: أن الأرض وهوامها تقول: لعن الله ابن آدم منعنا القطر بشؤم معصيته.
والرزق رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]، وقال الله عز وجل: {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16]، أي: من رزقه، والنعمة رحمة، قال الله عز وجل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21].
والعافية رحمة، قال الله عز وجل: {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:38].

(33/7)


تابع معاني الرحمة
والنصر رحمة، قال الله عز وجل: {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب:17]، كما جاء في سورة الأحزاب.
فالنصر رحمة والهزيمة ذل ودمار وعار وشنار، انظر إلى الجندي المسلم حين يقع أسيراً في يد الرجل التتري فيقول له التتري: امكث ههنا حتى آتيك بحجر لأقتلك به، وكثير منا شاهد الجندي العراقي وهو يقبل قدم الجندي الأمريكي في حرب الخليج في عاصفة الصحراء حتى لا يقتله، وتتناقلها وكالات الأنباء.
يا شام أين هما عينا معاوية وأين من زاحموا بالمركب الشهبا فقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا فرب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا ورقة القلب رحمة، قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد:27]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أردت أن يلين قلبك وتدرك حاجتك، امسح رأس اليتيم وادنه منك وأطعمه من طعامك واسقه من شرابك).
والمنة رحمة، قال الله عز وجل: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:46].
ومغفرة الذنوب رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54].
والسعة في الأمور الشرعية والأحكام الفقهية رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:178].
والمودة رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} [الفتح:29]، لا تكتمل الصحبة حتى تقول لأخيك: يا أنا.
يا من تنهش في أحشائي! يا من أنت جزء من أجزائي! يا من تبدو للجهال كأنك دائي! إني أعلم أنك حتماً فيك شفائي قل لي: هل يأتيك ندائي؟ إنك مني أنت كأني لست أرائي أنت كأني حين شقائي حين جهلت طريق إلهي من عند الألف إلى الياء حين تصورت الدنيا حسي وغذائي وكسائي إنك مسلم تشهد أن إلهك واحد إنك فيها من شركائي لكنك دوماً تطعنني من خلفي في كعب حذائي حين أراك تقوم بهذا يغرقني خجلي وحيائي ووشاة القوم إذا بانوا تشري الطعنة في أحشائي قل لي هل يأتيك ندائي؟ العزة عند إلهي ليس العز دمي وبكائي وغداً من قواك يميتك إن أنت أهملت ندائي والعصمة من الذنوب رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53].
وطول العمر رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} [الملك:28]، يعني: مد في آجالنا وأطال أعمارنا.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، بعض العلماء قال: الرحمة هنا: هي الولد، فهذه هي المعاني التي ذكرت فيها الرحمة في القرآن الكريم.
ومن أسماء الله عز وجل: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، وهما اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمن خاص بالله لا يسمى به غيره، ورحمن أبلغ من رحيم، والرحيم يوصف به غير الله عز وجل، فيقال: رجل رحيم، ولا يقال: رحمن، والرحمة من صفات الذات لله تبارك وتعالى، والرحمن: ذو الرحمة الشاملة للخلق، والرحيم خاص بالمؤمنين.
يقول العلامة ابن القيم: من رحمته سبحانه ابتلاء الخلق بالأوامر والنواهي، رحمة لهم وحمية، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، ومن رحمته أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا عن النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إليها بسياق الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم، ومن رحمته بهم أن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به، ومن رحمته أن أنزل لهم كتباً وأرسل إليهم الرسل، ولكن الناس افترقوا إلى فريقين: فأما المؤمنون فقد اتصل الهدى في حقهم بالرحمة، فصار القرآن لهم هدى ورحمة، وأما الكافرون فلم يتصل الهدى بالرحمة، فصار القرآن لهم هدى بلا رحمة، وهذه الرحمة المقترنة بالهدى في حق المؤمنين رحمة عاجلة وآجلة.
فأما العاجلة فبما يعطيهم الله تبارك وتعالى من ذوق طعم الإيمان ومحبة الخير والبر ووجدان حلاوة الإيمان.
وأما الرحمة الآجلة فهي سكناهم في جواره وفي دار رحمته، ومن عظم الرحمة عند الله تبارك وتعالى أن الله كتب كتابها بيده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب بنفسه يوم خلق السماوات والأرض كتاباً فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي).

(33/8)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:27   رقم المشاركة : 41
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

أحاديث تحث على الرحمة وترغب فيها
وهناك آيات وأحاديث كثيرة في فضل الرحمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية، ولا تضربوا المسلمين).
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم قوله: (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة فأسرعوا عليها السير)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقدس أمة لا يأخذ الضعيف حقه من القوي وهو غير متعتع).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي النار فجعلت أتأخر رهبة أن تغشاني، ورأيت امرأة حميرية سوداء طويلة تعذب في هرة لها ربطتها، فلم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني نهيت عن قتل المصلين).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أهل السنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ماءً ثم أمسك خفه بفيه ثم رقى، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، ثم قال صلى الله عليه وسلم: في كل كبد رطبة أجر).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما كلب يصيح بركية كاد يقتله العطش جاءته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فاستقت له به فغفر لها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من مثل بالحيوان).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالصبيان والعيال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة).
وفي الحديث: (أن رجلاً فرق بين امرأة من السبي وبين ولدها فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده عليها، ثم قال: من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم ومن لا يغفر لا يغفر له ومن لا يتب لا يتب عليه).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دمعت عينه لما مات ابن ابنته: (هذه رحمة يجعلها الله في قلوب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والشاة إن رحمتها يرحمك الله) قاله لرجل يذبح شاة ويرحمها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمثلوا بالبهائم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي).
وفي الحديث: (أنه أتى إليه رجل ورآه يقبل حفيداً من أحفاده قال: يا رسول الله! إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم قط، قال: وما أملك لك إن نزع الله من قلبك الرحمة؟!).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الأمة مرحومة جعل الله عذابها بينها، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل منهم رجلاً من أهل الأديان، فقال: هذا يكون فداؤك من النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل أحداً الجنة عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تؤمنوا حتى ترحموا قالوا: كلنا رحيم يا رسول الله! قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة الناس ورحمة العامة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون قدر رحمة الله لاتكلتم عليها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53])، وإسناد هذا الحديث حسن.
وقال سول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، التحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب).
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر ثم يضمهما، ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمهما).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة لما قيل له: يا رسول الله! ادع على المشركين فقال: (إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي فأتجود في صلاتي كراهية أن أشق على أمه).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي أو على الناس ما تخلفت عن سرية، ولكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه).
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم دعاؤه لمن عذبوه ولمن أرادوا قتله، قال: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً).

(33/9)


من مظاهر الرحمة
من مظاهر الرحمة: رحمة الحيوان، وقد كان هناك في دولة الإسلام وقف للكلاب الضالة ينفق منه على الكلاب التي ليس لها صاحب، رحمة بها.
وكان هناك أيضاً وقف في بعض البلدان الإسلامية وخاصة في المغرب يطلق عليه مؤنس الوحشان، وذلك أن الرجل الغريب إذا نزل بأرض أتاه رجل يسامره ويزيل عنه وحشة الغربة ويأخذ من هذا الوقف.
ومن مظاهر الرحمة: بر الوالدين، فأنت تحب أولادك طبعاً فأحبب والديك شرعاً، وارع أصلاً ينبت لك فرعاً، وتذكر خصيب المرعى أولاً وأخيراً: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، كم من ليلة باتا معك إلى الفجر يداريانك مداراة العاشق في الهجر، والله! إنهما لن يرضيا لك غير الكف والحجر سريراً، {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، حياتهما عندك بقايا شمس، لا تشتاق لقاءهما ويشتاقان إلى لقائك، وإن لقيت منهما أذى شكوت شقاءك، والله! لقد سقياك حلواً وسقيتهما مريراً، {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24].
يقول الشاعر: زر والديك وقف على قبريهما فكأنني بك قد نقلت إليهما لو كنت هما وكانا بالبقاء زاراك حبوا ًلا على قدميهما أنسيت عهدهما عشية أسكنا دار البلى وسكنت في داريهما ما كان ذنبهما إليك وإنما منحاك محض الود من نفسيهما كانا إذا ما أبصرا بك علةً جزعا لما تشكو وشق عليهما كانا إذا سمعا أنينك أسبلا دمعيهما أسفاً على خديهما وتمنيا لو صادفا لك راحةً بجميع ما يحويه ملك يديهما فَلَتلْحقنَّهما غداً أو بعده حتماً كما لحقاهما أبويهما ولتندمنَّ على فعالك مثلما ندما هما أيضاً على فعليهما بشراك إن قدمت فعلاً صالحاً وقضيت بعض الحق من حقيهما من مظاهر الرحمة: صلة أهل رحمك، والرحم تأتي يوم القيامة وهي معلقة بقوائم العرش تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني.
ومن مظاهر الرحمة: إكرام اليتيم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين في الجنة)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله عز وجل).
ومن مظاهر الرحمة: العطف على الفقراء والمساكين والخدم، وانظر إلى سالم مولى أبي حذيفة وكان رجلاً صالحاً فزوجه أبو حذيفة من بنت أخيه الحرة القرشية بنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن مظاهر الرحمة: عيادة المرضى، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشيةً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة).
ومن مظاهر الرحمة أيضاً: التعاطف بين الإخوان والجيران، والشفاعة الحسنة، ولين الجانب للإخوان، قال الله تبارك وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله).
ومن مظاهر الرحمة: العفو عن المسيء ورحمة النساء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هن عوان عندكم)، يعني: أسيرات عندكم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
ومن مظاهر الرحمة: رحمة الصغار وانظر إلى مداعبة الرسول صلى الله عليه وسلم للطفل الصَّغير أبي عمير يقول عليه الصلاة والسلام: (يا أبا عمير ما فعل النغير).
ومن مظاهر الرحمة أيضاً: رحمة العدو، وانظر إلى رحمة النبي بـ ثمامة بن أثال وقد كان من زعماء الجاهلية ومن صناديد الشرك، فلما رحمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم وحسن إسلامه.

(33/10)


نماذج للرحماء من الصالحين
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي أبو بكر)، ومن في الناس كـ الصديق؟ فهو الإمام العظيم الذي كان يحلب شياه اليتامى.
قال ابن الجوزي في التبصرة: لما استخلف الصديق أصبح غادياً إلى السوق، وكان يحلب للحي أغنامهم قبل الخلافة، فلما بويع قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا، فقال: بلى لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه، فهو إنسان عظيم انتهى إليه كل ما في الإسلام من حنان وعطف، قالت عائشة رضي الله عنها: أعتق أبو بكر رضي الله عنه سبعة ممن كان يعذب في الله عز وجل، منهم بلال وعامر بن فهيرة.
وفاروق الإسلام ذو الرحمة السابقة وهو القوي الذي يرهبه ويخافه الشيطان، فعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقد حتى إذا كنا بصرار إذا نار، فقال: يا زيد! إني أرى ههنا ركباً ضربهم الليل والبرد انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم؛ فإذا امرأة معها صبيان وقدر منصوبة على نار، وصبيانها يتضاغون -يبكون ويصيحون- فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء! وكره أن يقول: يا أصحاب النار، فقالت: وعليكم السلام، فقال: أأدنو، قالت: أدن بخير أو دع، فدنا منها فقال: ما بالكم؟ قالت: ضربنا الليل والبرد، قال: وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؛ قالت: الجوع، قال: أي شيء في هذا القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر، قال: أي رحمك الله! وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا، قال زيد: فأقبل علي وقال: انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عجلاً من دقيق وقبةً من شحم وقال: احمله علي فقلت: أنا أحمله عنك، قال: أنت تحمل وزري يوم القيامة؟ لا أم لك، فحملته عليه فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئاً، فجعل يقول لها: ذري علي وأنا أحرك لك، وجعل ينفخ تحت القدر ثم أنزلها، فقال: ابغيني شيئاً، فأتته بصحفة فأفرغها فيها، فجعل يقول لها: أطعميهم وأنا أصفح لهم، فلم يزل حتى شبعوا وترك عندها فضل ذلك وقام، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فيقول: قولي خيراً، إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاء الله، ثم تنحى ناحية عنها ثم استقبلها فربط مربطاً فقلت: لك شأن غير هذا، فلا يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون ثم ناموا وهدئوا، فقال: يا أسلم! إن الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحببت ألا أنصرف حتى أرى ما رأيت.
وعن أنس بن مالك قال: بينا عمر رضوان الله عليه يعس بالمدينة، إذ مر برحبة من رحابها؛ فإذا هو ببيت من شعر لم يكن بالأمس فدنا منه فسمع أنين امرأة، ورأى رجلاً قاعداً فدنا منه فسلم عليه، ثم قال: من الرجل؟ فقال: رجل من أهل البادية جئت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله، فقال: ما هذا الصوت الذي أسمعه في البيت؟ فقال: انطلق رحمك الله لحاجتك، قال: علي ذاك ما هو؟ قال: امرأة تمخض، قال: هل عندها أحد؟ قال: لا، قال: فانطلق حتى أتى منزله، فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهما: هل لك في أجر ساقه الله إليك، قالت: وما هو؟ قال: امرأة غريبة تمخض ليس عندها أحد، قالت: نعم، إن شئت، قال: فخذي ما يصلح المرأة لولادتها من الخرق والدهن وجيئيني ببرمة وشحم وحبوب، قال: فجاءت به، فقال لها: انطلقي، وحمل البرم ومشت خلفه حتى انتهى إلى البيت فقال لها: ادخلي إلى المرأة، وجاء حتى قعد إلى الرجل، فقال له: أوقد لي ناراً فأوقد تحت البرمة حتى أنضجها، وولدت المرأة فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين! بشر صاحبك بغلام، فلما سمع بأمير المؤمنين كأنه هابه فجعل يتنحى عنه، فقال له: مكانك كما أنت، فحمل البرمة ووضعها على الباب، ثم قال: أشبعيها ففعلت، ثم أخرجت البرمة فوضعتها على الباب فقام عمر رضي الله عنها فأخذها فوضعها بين يدي الرجل، فقال: كل ويحك! فإنك قد سهرت من الليل، ثم قال لامرأته: اخرجي، وقال للرجل: إذا كان غداً فائتنا نأمر لك بما يصلحك، ففعل الرجل فأجازه وأعطاه.
إنه أمير المؤمنين الذي تفتحت لأعلامه أقطار الدنيا، واستقبلت الدنيا دروسه كلها كأنها البشريات، تدك جيوشه معاقل كسرى وقيصر يؤرقه بكاء طفل ويزلزله حتى يشرق بالدموع وهو يصلي بالناس، تتولى زوجه في الهجيع الأخير من الليل أمر سيدة غريبة أدركها المخاض، يجلس هو خارج الكوخ ينضج لها الطعام، ويوقد تحت البرمة، هذا عمر منارة الله في الدنيا هديته إلى الحياة، على مائدة سيرته أطايب العظمة والرحمة، عبقري صحح مفاهيم الحياة، وأفرغ عليها نوراً من روحه، وكساها عظمة من سلوكه وكان للمتقين إماماً، أعظم آيات التفوق الإنساني، ونبوغ النفس، وبطولة الروح، وإعداد السلوك، هنا ترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا يكاد يخطر على قلب بشر.
هنا العظائم تتفوق على نفسها ويزحم بعضها بعضاً، هنا عمر رضي الله عنه، هذا موقفه من الضعيف.
وعثمان الأواب الرحيم التائب، كان يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت، عثمان الرحيم الذي تشع الرحمة في حياته نبراساً لكل تصرفاته العادية، والتي يتوقف عليها أمر الحياة والموت، كانت الرحمة نبراس تلك التصرفات جميعها! يغضب على خادم له يوماً فيفرك أذنه حتى يوجعه، ثم سرعان ما يدعو خادمه ويأمره أن يقتص منه فيفرك أذنه، فيأبى الغلام ويأمره عثمان فيطيع، ثم يقول: زد يا غلام! فإن قصاص الدنيا أرحم من قصاص الآخرة.
عثمان رضي الله عنه الخليفة الطاعن في السن الذي يرفض أن يوقظ خادمه كي يعد له وضوءه، ويتحامل على شيخوخة مجهدة في إحضار الماء وإسباغ الوضوء.
ولما اشتد حصار الثوار لداره قال للصحابة الذين تجمعوا حول داره ليواجهوا الثوار بالسلاح: إن أعظمكم عندي غناءً رجل كف يده وسلاحه، ويقول لـ أبي هريرة وقد جاء شاهراً سلاحه مدافعاً عنه: أما إنك والله! لو قتلت رجلاً واحداً لكأنما قتلت الناس جميعاً، ويقول للحسن والحسين وابن عمر وعبد الله بن الزبير وشباب الصحابة الذين أخذوا مكانهم لحراسته: أناشدكم الله وأسألكم به ألا تراق بسبب محجم دم، لله درك يا عثمان! رحمة جامعة تغطي بعطائها المقسط جلائل الأحداث وصغارها، للخادم منها حظه وحقه في أن ينعم براحة النوم، وإن أضنى الخليفة نفسه وشيخوخته في ظلمة الليل البهيم، ولقطرات الدم حظها وحقها في أن تنعم بالسلام والعافية، وإن كان بديل ذلك أن تزهق روح الخليفة الشيخ بيد معتد أثيم وغادر زنيم، توغلت الرحمة في حياته وفي سلوكه حتى اقتضته في آخر الأمر حياته نفسها فجاد بها، ولقد كان من الطبيعي لرجل وسعت رحمته الناس جميعاً أن تغطي رحمته ذوي القربى، قال علي رضي الله عنه: أوصلنا للرحم عثمان، لقد كان عثمان في ذلك نشيجاً وحده.
وانظر إلى عظم الرحمة عند عمر بن عبد العزيز وإلى رفقه بالحيوان، عن أبي عثمان الثقفي قال: كان لـ عمر بن عبد العزيز غلام على بغل له يأتيه بدرهم كل يوم، فجاءه يوماً بدرهم ونصف، فقال: ما بدا لك؟ قال: نفقت السوق، قال: لا، ولكنك أتعبت البغل، فأجمه ثلاثة أيام.
وكتبت إليه امرأة مسكينة تسمى فرتونة السوداء من الجيزة بمصر: أن لها حائطاً متهدماً لدارها يتسوره اللصوص ويسرقون دجاجها، وليس معها مال تنفقه في هذا السبيل، فيكتب عمر إلى واليه على مصر أيوب بن شرحبيل: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أيوب بن شرحبيل سلام الله عليكم، أما بعد: فإن فرتونة السوداء كتبت إلي تشكو إلي قصر حائطها وأن دجاجها يسرق منه وتسأل تحصينه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فاركب بنفسك وحصنه لها، وكتب إلى فرتونة: من عبد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء سلام الله عليك أما بعد: فقد بلغني كتابك وما ذكرته فيه من قصر حائطك حيث يقتحم عليك ويسرق دجاجك، ولقد كتبت إلى أيوب بن شرحبيل آمره أن يبني لك الحائط حتى يحصنه مما تخافين إن شاء الله.
يقول ابن عبد الحكم راوي هذه القصة الباهرة: فلما جاء الكتاب إلى أيوب بن شرحبيل ركب بنفسه حتى أتى الجيزة، وظل يسأل عن فرتونة حتى وجدها فإذا هي سوداء مسكينة، فأعلى لها حائطها: كم من شريعة حق قد نعشت لهم كانت أميتت وأخرى منك تنتظر يا لهف نفسي ولهف الواجدين معي على العدول التي تغتالها الحفر لو أعظم الموت خلقاً أن يوقعه لعدله لم يصبك الموت يا عمر ويقول القائل: أقول لما نعى الناعون لي عمر لا يبعدن قوام الحق والدين لم تلهه عمره عين يفجرها ولا النخيل ولا ركض البراذين قد غادر القوم في القبر الذي لحدوا بدير سمعان قسطاس الموازين عن الأوزاعي قال: شهدت جنازة عمر بن عبد العزيز؛ ثم خرجت أريد مدينة قنسرين، فمررت على راهب فقال: يا هذا أحسبك شهدت وفاة هذا الرجل، قال: فقلت: نعم، فأرقى عينيه فبكى فقلت له: ما يبكيك ولست من أهل دينه، فقال: إني لست أبكي عليه، ولكن أبكي على نور كان في الأرض فانطفأ.
ولما مات أذهل موته إمبراطور الروم، قال: والله! مات ملك عادل ليس لعدله مثيل، مات الرجل الصالح، لأحسب أنه لو كان أحد يحيي الموتى بعد عيسى بن مريم لأحياهم عمر بن عبد العزيز.
هذه رحمة عمر بن عبد العزيز بالناس، أين هو ممن وسع ا

(33/11)


موجبات الرحمة
أما موجبات الرحمة: من ذلك رحمة الناس يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض)، وقال الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية:14]، ولقد قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، حتى رحمة الخلائق كلها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من إمام أو والٍ يوليه الله تبارك وتعالى إمارة فيغلق بابه دون ذوي الخلة والحاجة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون حاجته ومسكنته وفقره يوم القيامة).
ومن موجبات الرحمة: ذكر الله تبارك وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده).
تضيق بنا الدنيا إذا غبتم عنا وتزهق بالأشواق أرواحنا منا بعادكم موت وقربكم حيا ولو غبتم عنا ولو نفساً متنا نعيش بذكراكم ونحيا بقربكم ألا إن تذكار الأحبة ينعشنا ومن موجبات الرحمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله عز وجل: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71]، وانظر إلى الرجل العظيم الصالح الذي كان سبباً في نصرة الجيش الإسلامي المصري على جنود الصليبين عز الدين بن عبد السلام، لما تحالف سلطان دمشق مع الفرنجة وأجاز بيع السلاح لهم، وقف هذا العالم على منبره وحرم بيع السلاح لهم، وقطع خطبته الحاكم، ومنعوه من الخطابة، ثم أرادوا أن يساوموه على دينه، فيرسل السلطان وزيره آملاً أن يستجيب عز الدين بن عبد السلام قال: إن سلطاننا يرضى منك أن تقبل يده على الملأ، فتعجب عز الدين بن عبد السلام وقال: يا سبحان الله! أنتم في واد وأنا في واد آخر، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، والله! ما أرضى لسلطانكم أن يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل أنا يده.
ولما جاءت جيوش الفرنجة حبسه سلطان دمشق في خيمة بجواره، فتهدد عز الدين بن عبد السلام وهو يرفع صوته بالقرآن، فقال سلطان دمشق لكبير ملوك الفرنجة: أترون هذا الرجل الذي تسمعون قراءته للقرآن، هذا أكبر قسيسي المسلمين أفتى بحرمة بيع السلاح لكم فكافأته بالسجن، فقال: والله! لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه ولشربنا مرقته.
ومن موجبات الرحمة: تعليم الناس الكتاب والسنة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير) والصلاة من الله رحمة.
ومن موجبات الرحمة: السحور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته ليصلون على المتسحرين) لما فيه من مخالفة لأهل الكتاب من النصارى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر).
ومن موجبات الرحمة: مسارعة الرجل للصلاة في الصف المقدم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم).
أيضاً من موجبات الرحمة: عيادة المرضى، فإن الرجل إذا زاد أخاً مريضاً له صلى عليه سبعون ألف ملك واستغفر له سبعون ألف ملك حتى يمسي.
ومن موجبات الرحمة: رحمة البهائم، ورحمة البنات والإحسان إليهن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عال جاريتين كنت أنا وهو كهاتين).
ومن موجبات الرحمة أيضاً: العطف على اليتيم، والجهاد في سبيل الله عز وجل، والهجرة، والاستماع للقرآن الكريم، والاتباع والتقوى والصبر على المرض.

(33/12)


ما يضاد الرحمة والرحماء
ويضاد الرحمة قسوة القلب فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله آنية في الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).
وهناك أناس لعنهم الله تبارك وتعالى وطردهم من رحمته وممن لعنهم الله ولعنهم رسوله صلى الله عليه وسلم إبليس، كما قال الله عز وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر:35]، والشياطين.
ومن أتى البهائم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من أتى البهائم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من مثل بالحيوان) وفي الحديث: (ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم شارب الخمر وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها)، وحديث: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) وحديث: (ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش) وحديث: (ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذبح لغير الله ومن غير تخوم الأرض ومن كمه أعمى عن السبيل ومن عق والديه ومن عمل عمل قوم لوط)، ولعن الله قاطع الرحم، ولعن الله الكافرين والمنافقين والظالمين والكاذبين.
وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57]، ولعن الذين يرمون أزواجهم، ولعن الذين يرمون المحصنات الغافلات، ولعن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159].
يا رجالَ الدين يا ملح البلد من يصلح الملح إذا الملح فسد وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثر منافقي الأمة قراؤها)، ومن الذين لعنهم الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25]، ومن الذين لعنهم الله ورسوله من قتل مؤمناً متعمداً، ومن فرق بين والدة وولدها ومن أخفى مسلماً في ذمته ومن أحدث أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ومن أشار إلى أخيه بحديده فإن الملائكة تلعنه، ولعن الله من ادعى لغير أبيه، ولعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده، ولعن الله المحلل والمحلل له، لعن الله من أتى امرأة في دبرها، ولعن الله المرأة تبيت وزوجها عليها ساخط، ولعن النائحة والحالقة والصالقة والخامشة وجهها، والشاقة جيبها، وزوارات القبور، والواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات بالحسن.
اللهم ارزقنا رحمة ترحمنا بها، اللهم اجعل في قلوبنا رأفة ورحمة ووداً للمسلمين.
ونختم بما قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن لم أكن أهلاً لأن أبلغ رحمتك، فإن رحمتك أهل أن تبلغني، فرحمتك وسعت كل شيء وأنا شيء، فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله وسلم محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(33/13)


موجبات المحبة
إن أعظم وأجل ما يتمناه أولياء الله هو الظفر بمحبة الله، فهي سعادة العبد وأمانه عند هول المطلع، ولذا من أراد أن يلحق بركب المتنافسين فعليه بمعرفة الأسباب الجالبة لمحبة الله عز وجل، وتطبيقها والعمل بها، فإنها كافية لنيل مرضاة الله، والفوز بمحبته.

(34/1)


أهمية المحبة في كتاب الله وسنة رسوله
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
والمحبة لله عز وجل هي المنزلة التي فيها يتنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وبروح نسيمها تروح العابدون، وعليها تفانى المحبون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، هي الحياة والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، ولقد قضى الله بمشيئته وحكمه أن المرء مع من أحب، فيا لها من نعمة سابغة على المحبين أنهم مع الله عز وجل في دار الدنيا بحفظه وكلئه ومعيته، ومع الله عز وجل في دار الآخرة في جواره وفي فردوسه.
قال سمنون المحب: ذهب المحبون لله عز وجل بشرف الدنيا والآخرة.
وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: والله يا رسول الله! ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت)، قال سيدنا أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحنا بشيء أشد من فرحنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث اختصام الملأ الأعلى من رواية معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي فيما يرى النائم في أحسن حلة، فقال: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: لا أدري أي رب، قال: فوضع يده بين منكبي حتى أحسست ببردها بين ثديي، فقال: الكفارات، والدرجات، والكفارات: نقل الخطا إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في المكاره، فقال له الله عز وجل: صدقت يا محمد! من فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ثم قال: يا محمد! إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يقربني إلى حبك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهن حق، فتعلموهن، وادرسوهن).
(إنهن حق) أي هذه الوصايا.

(34/2)


الأسباب الجالبة لمحبة الله
تكلمنا قبل ذلك أن الله عز وجل أهل لأن يحب؛ لأن له جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، ولنعمه وآلائه الواصلة إلى الإنسان آناء الليل وأطراف النهار، ولقد تكلم شيخ الإسلام ابن القيم في الأسباب الموجبة أو الجالبة لمحبة الله عز وجل، كل الناس يقولون: إنا نحب الله عز وجل، وحتى لا يدعي الخلي حرقة الشجي، جعلت علامات للمحبة، شأن عظيم أن تحب مولاك، وأعظم منه أن يحبك الله عز وجل! ليس شأناً عظيماً أن تحِب، إنما الشأن أن تُحَب.
فما هي الأسباب الجالبة للمحبة؟ العلامة شيخ الإسلام ابن القيم ذكر منها عشرة أسباب، وذكر غيره من أهل العلم خمسة وثلاثين سبباً موصلة إلى حب الله عز وجل لك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).

(34/3)


قراءة القرآن مع التدبر والفهم
السبب الأول الجالب للمحبة: قراءة القرآن بالتدبر لمعانيه، والتفهم لمقاصد كلام الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يحب الله ورسوله فلينظر في المصحف)، صححه الألباني.
وقال الحسن البصري: رحم الله أقواماً قرءوا القرآن على أنه رسائل من الله عز وجل إليهم، فقدروا قدر الرسائل، وقدروا قدر المرسل، قرءوا القرآن على أنه رسائل من الله عز وجل نازلة إليهم في التو، فالقرآن أحدث الكتب نزولاً من عند ربنا، قد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى المطر بثوبه، ولما سئل عن ذلك قال: (إنه حديث عهد بربه) فما ظنك بالقرآن! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يستمع القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليستمعه من ابن أم عبد) سيدنا عبد الله بن مسعود يقرأ القرآن على أنه رسائل من الله عز وجل إليه، فيتفاعل مع القرآن، وينزل القرآن على واقع عصره لا يغيره عن عصره، ويداوي به أدواء قلبه من الشهوات والشبهات.
وهذا أحمد بن أبي الحواري تلميذ الإمام أحمد وهو المسمى بريحانة الشام يقول: إني لأعجب لقراء القرآن كيف يهنيهم النوم ومعهم القرآن، أما والله لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رزقوا! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من علم آية من كتاب الله فله ثوابها ما تليت).
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
(إن الله يرفع بهذا الكلام أقواماً ويضع به آخرين).
يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: (اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية كنت تقرؤها).
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له به أجران).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (عليك بالجهاد والقرآن؛ إنه ذكرك في الأرض، وروحك في السماء).
ويقول سيدنا عثمان بن عفان: لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم.
ويقول خباب بن الأرت: يا هنتاه! تقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه.
منع القران بوعده ووعيده مقل العيون بليلها لا تهجع فهموا عن الملك الكريم كلامه فهماً تذل له الرقاب وتخضع قال ابن الصلاح فيما رواه السيوطي في الإتقان: وتلاوة كلام الله عز وجل كرامة اختص الله بها البشر دون الملائكة، فإنهم لا يتلونه، ولكنهم يستمعون إليه من البشر.
قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] العجب من قول الله عز وجل: (اذكروني)! من نحن حتى يأذن الله عز وجل ويسمح بكرمه ومنه وفضله أن تتلى آياته بألسنتنا الخطاءة الجافية التي تخوض في الباطل؟! هذه نعمة كبيرة من الله عز وجل، فكيف إذا ذكرك الله عز وجل؟! يا كسول! يا جهول! لو سمعت صريف الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند ذكرك لمولاك لمت شوقاً إلى مولاك! {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
وقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].
وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] قال أبو سعيد الخدري: فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام.
وقال الله تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51] آيات منزلة من فوق العرش، الأرض منها سماء، وهي منها كواكب، إذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، وإذا هدرت فأمواج البحار الزاخرة، فلم الإعراض عن القرآن؟ لم أترك القرآن تلاوةً وتدبراً وتحاكماً إليه؟ عجت فروج الناس ثم حقوقهم لله بالبكرات والآصال كم تستباح بكل شرع باطل لا يرتضيه ربنا المتعال والكل في قعر الجحيم سوى الذي يقضي بحكم الله لا لنوال أو ما سمعت بأن ثلثيهم غداً في النار في ذاك الزمان الخالي وزماننا هذا وربك أعلم هل فيه ذاك الثلث أو هو خالي هذه الأيام هي أيام القرآن، هذه الأيام خير أيام الدنيا، كما جاء في حديث جابر عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر)، هذه الأيام يجوز فيها ختم القرآن في يوم وليلة، كما قال ابن رجب الحنبلي، وعلى هذا جمهور أهل العلم، فأين أنت من القرآن؛ من تعليمه لزوجتك وأطفالك؟ ومن حفظك إياه؟ لو حفظ كل إنسان فينا آيتين عند الفجر، وآيتين عند الظهر، وآيتين عند العصر، والمغرب والعشاء، وقام بهن الليل حتى من المصحف يرددهن فإنه سيحفظ القرآن ولا ينساه، يحفظ القرآن في عشر آيات يومية مقسمة على خمسة أوقات، يحفظ القرآن في مدة سنتين، فأين نحن من كلام الله عز وجل؟!

(34/4)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:28   رقم المشاركة : 42
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


أداء النوافل والمحافظة عليها
السبب الثاني: أداء النوافل بعد الفرائض، فإنها ترفعك من مقام المحب إلى مقام المحبوب، كما قال الله تبارك وتعالى: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، ولا يعقل أن يقوم شخص الليل ثم ينام عن صلاة الفجر! إن النوافل جاءت لجبر الفرائض، ورفعة الدرجات، وحال الإنسان الذي لا يهتم بالفرائض ويهتم بالنوافل كحال رجل عليه وحل يقول لك: ضع علي مسكاً، أنت بحاجة إلى أن تغتسل ببرميل ماء، حتى ينزل الوحل الذي عليك، ثم بعد ذلك يطيبونك بالمسك! فلا تنفع النوافل إلا بعد الفرائض، فتأتي بالفرائض كاملة ثم تأتي بنوافل الصلاة والصيام والصدقات والحج والعمرة، نوافل الصلاة كالسنن الرواتب أو التطوع المطلق أو التطوع المقيد، تصلي اثنتي عشرة ركعة يبني الله لك بها بيتاً في الجنة.
ثم التطوعات كصلاة الضحى التي لا يحافظ عليها إلا أواب، والتطوع المطلق كقيام الليل والمحافظة على الوتر، قال الإمام أحمد: من واظب على ترك الوتر فهو سفيه ترد شهادته.
فكيف بالذي لا يصلي الفجر ولا الظهر ولا العصر؟! من واظب على ترك الوتر فهو سفيه ترد شهادته.
هناك أيضاً سنن وتطوعات في الصيام كصيام الإثنين والخميس، وصيام يوم عرفة وصيام عاشوراء وتاسوعاء، وصيام الثلاثة الأيام البيض، وهناك تطوع مطلق بعد ذلك كما قال أهل العلم، كصيام يوم في الشهر أو يومين أو ثلاثة أيام من أول الشهر، أو يوم كل عشرة أيام، أو السبت والأحد والإثنين من شهر، كما كانت تفعل السيدة عائشة، والثلاثاء والأربعاء والخميس من شهر.
صيام أربعة أيام، يوم خمسة وسبعة وتسعة وعشرة وأحد عشر، كل هذا ثابت، كما جاء في سنن النسائي وابن خزيمة وسنن أبي داود، وكذلك صيام يوم وإفطار يوم أو صيام يوم وإفطار يومين.
ثم صدقة التطوع بعد الزكاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين في الجنة) إذا أردت أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك، فامسح رأس اليتيم، وادنه منك وأطعمه من طعامك، واسقه من شرابك، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله).
كذلك أن يتطوع الإنسان بجاهه فيخدم المسلمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس عند الله أنفعهم للناس)، قد لا يكون عندك المال، ولكن جاهك قد ينفع بعض المسنين: (اشفعوا تؤجروا) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
كذلك التطوع بما هو خير من المال، وهو تعليمك الناس لكتاب الله عز وجل، وتعليمك للقرآن، وتعليمك الناس العلوم الشرعية النافعة، وما يفيدهم في دينهم ودنياهم، فهذا تطوع بالإنفاق، ثم بعد ذلك التطوع بالحج والعمرة وغيرها من النوافل.
فالحرص على أداء النوافل بعد الفرائض يوصلك إلى درجات من القرب لا يعلمها إلا الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً) وسكت، وما بعد الباع لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، فهي درجات من القرب لا يستوعبها العقل، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: خلِّ الهوى لأناس يعرفون به قد كابدوا الحب حتى لان جانبه ويقول المولى عز وجل: (ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، ومن أتاه هرولة ماذا يكون الجزاء؟ درجات من القرب لا يحيط بها العبد، من تقرب إلي بالجوارح (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها).
فمن تقرب إلي بكليته بروحه بقلبه بكل ما عنده ماذا يكون الجزاء؟ يقول الشاعر: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب عند نزوله فهذا القرب لا تحيط به العقول، والله عز وجل فوق عرشه، وهو قريب من محبيه: (إن لله أهلين من الناس قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته).
(34/5)
المحافظة على ذكر الله في الدوام
السبب الثالث: دوام ذكرك لله عز وجل على كل حال، باللسان والقلب والعمل والحال، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41]، والذاكرون لله عز وجل كثيراً دعاؤهم مجاب بنص الحديث الذي حسنه الألباني.
وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] عنترة كان يذكر عبلة -وهو صعلوك- في المعارك عند صليل السيوف، فما ظنك بمن يحب مولاه، الذي هو عنصر الجمال؟! إذا كان حب الهائمين من الورى بليلى وسعدى يسلب اللب والعقلا فماذا عساه يصنع الهائم الذي ترى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما حسنه الألباني: (أكثر من ذكر الله حتى يقال إنك مجنون) لن تجد شخصاً يقول لك: إنك أنت مجنون، ستجد شخصاً يقول مثلاً: مجنون لعبة الكرة مجنون الممثلين مجنون المغنين لكن لا يوجد أحد يقال عنه: إنه مجنون بذكر الله؛ لأنه كلما زدت من حب الله أفقت من غيبوبتك.
كما قال عتبة الغلام: من عرف الله أحبه، ومن أحبه أكرمه، ومن أكرمه أسكنه في جواره، ومن أسكنه في جواره فطوباه وطوباه وطوباه وطوباه! فما زال يقول: يا طوباه! حتى غشي عليه.
قال يحيى بن معاذ: عفوه يستغرق الذنوب، فكيف رضوانه؟ ورضوانه يستغرق الآمال، فكيف حبه؟! حبه يدهش العقول، فكيف وده؟ ووده ينسي ما دونه فكيف لطفه؟! هذا لا يكون إلا لله عز وجل.
كل محبوب سوى الله سرف وهموم وغموم وأسف كل محبوب منه لي خلف ما خلا الله مالي منه خلف كل إنسان يحب الصالحين ليكسب منهم، أما الله عز وجل فإنه يحبك لتكسب أنت منه: (ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب، وتكفلت لك برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا خير لك من كل شيء).
يقول صلى الله عليه وسلم: (أكثر من ذكر الله حتى يقال: إنك مجنون).
العلماء اختلفوا هل يشرع الجهر بالتكبير في هذه الأيام؟ لحديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير) قال ابن رجب: أنكره طائفة، واستحبه أحمد والشافعي، ولكن الإمام الشافعي قيده برؤية بهيمة الأنعام، والإمام أحمد استحبه على الإطلاق.
وذكر الإمام البخاري أن أبا هريرة وابن عمر كانا يدخلان السوق فيكبران فيكبر الناس لتكبيرهما.
وروى الفريابي في كتاب العيدين: أن سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد كانوا يدخلون السوق فيكبرون، لا يدخلون إلا لذلك، تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، تعلن الدينونة في هذه الأيام لله عز وجل، كدينونة الشجر والجماد، ما من ملب يلبي إلا ولبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مطر، حتى تنقطع الأرض يميناً وشمالاً.
قال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله، طلبة العلم نقول لهم: سيدنا الإمام أبو هريرة كانت له اثنتا عشرة ألف تسبيحة بعد صلاة الفجر، قيل: كل يوم يقول: إنما أسبح بقدر ذنبي.
خطرات ذكري تستشير مودتي وأحس منها في القلوب دبيبا لا عضو لي إلا وفيه صبابة فكأن أعضائي خلقن قلوبا يا من يذكرني بعهد أحبتي طاب الحديث بذكرهم ويطيب أعد الحديث علي من جنباته إن الحديث عن الحبيب حبيب ملأ الضلوع وفاض عن جنباتها قلب إذا ذكر الحبيب يذوب ما زال يخفق ضارباً بجناحه يا ليت شعري هل تطير قلوب
(34/6)
إيثار محاب الله على محابك
السبب الرابع: إيثار محاب الله على محابك عند غلبات الهوى، والتسلم إلى مراقيه وإن صعب المرتقى إلى محابه: إذا عرض لك أمران أمر فيه محبة لله عز وجل، وأمر فيه حظ نفسك، فابدأ بحق الله أولاً، كما قال المحاسبي: البصير الصادق لا يبالي ولو خرجت كل محبة له من قلوب الخلق في سبيل أن يصلح ما بينه وبين مولاه قيد أنملة.
انظر إلى الناس فامقتهم كلهم في جنب الله عز وجل، ثم انظر إلى نفسك تكون أشد مقتاً لها، راع حق الله عز وجل، انظر إلى خليل الرحمن إبراهيم يرزق الولد على الكبر، فتتعلق شعبة من قلبه بحب ابنه، وهذا شيء جبلي وفطري وغريزي، والله عز وجل يغار على قلب خليله، وهذه للخليل ليست لغيره، والله يغار على قلب خليله أن يسكن إلى غيره، فأمره بذبح الغلام.
فلما تحقق صدق عزمه وهم بذبح الغلام حصل المقصود، وطرد المزاحم من قلب الخليل! فأقر الله عينه بولده مثلما قرت عينه بالله عز وجل، سيدنا إبراهيم يأتي برضيعه وبزوجه إلى جبال فاران موضع مكة الآن، تقول له زوجته: يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ يقول لها: نعم، تقول: إذاً فلن يضيعنا، كلمات يعجز عنها كل من في الدنيا وقد قالتها امرأة مصرية! الذين يريدون أن يفتخروا بصعاليك الفراعنة نقول لهم: افتخروا بـ أم إسماعيل، هي الطهر كل الطهر، خطواتها جعلها الله ركناً من أركان الحج، هذا ما أورثتكموه أم إسماعيل بصدقها، الخطوات التي مشتها بين الصفا والمروة والهرولة جعلها الله ركناً من أركان الحج لا ينعقد الحج إلا به، بصدق المرأة.
فما ظنك بالرجال! سيدنا إبراهيم لم يتلكأ، ولم يضطرب، والله عز وجل يأمره بترك ولده الرضيع، وبترك زوجه، أنت الآن عندك ثلاجة اثنا عشر قدماً، وتضع فيها لحمة في الفريزر قدر جمل، ولا تقنع بهذا! عندك أكلك وشربك وفي نعمة مرتاح فيها، أما أنت يا هاجر في مكة بين الهجير والحر، إلى من وكلكما إبراهيم؟ إلى الله، وكلكما إلى خير كافل، لا تخشي الضيعة إن الله لا يضيع أهله.
يأمره الله عز وجل بذبح ولده في رؤيا منامية، ورؤيا الأنبياء حق ووحي، ولم يتلكأ ولم يضطرب، ويأمره بأن يباشر هو بنفسه عملية الذبح، وهذا مشهد عظيم لم يتكرر ولن يتكرر، منارة عالية من منارات الإيمان والتضحية والتسليم لأمر الله عز وجل، جعلت من يوم النحر أعظم يوم عند الله عز وجل، أعظم أيام الدنيا، يأمره الله عز وجل بذبح ولده، فيباشر ويهم ببدء عملية الذبح.
ولكن يريد أن يرفع ابنه إلى درجة الإيمان وحلاوته حتى يتذوقه، فقال له: يا بني! إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟! {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
الشيخ سيد قطب رحمه الله يقول: قد يندفع المجاهد في المعركة ليخفي جبنه وهلعه وخوفه؛ لأنه لو قعد وفكر قليلاً فيمكن أن ينكص على عقبيه، فلم يكن الأمر عند سيدنا إبراهيم اندفاعاً من أجل أن يخلص من الضغط النفسي بذبح ابنه، هذا يريد أن يكون على طمأنينة وتريث، يريد أن يذوق جمال التسليم لأمر الله عز وجل، هو وابنه.
فما كل عين في الحبيب قريرة فدينك عرضك، دينك لحمك، دينك دمك، إن كان هذا الكلام كبيراً علي وعليك، فيبقى مقالة أبي حازم الأعرج حيث قال: قد رضينا من أحدكم أن يحافظ على دينه كما يحافظ على نعله، إن الرجل إذا اتسع خرق نعله قام ليصلحه.
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع العلامة ابن القيم يقول: إيثار الله على غيره، وهذا مقام كان الأوحد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، آثر الله، وآثر محاب الله عز وجل على من سواه.
(34/7)
مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته
السبب الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته: قال العلامة ابن القيم: وهذا أشرف أنواع العلوم وأجلها على الإطلاق، تدبرك ومعرفتك، والمعرفة أخص من العلم؛ لأنها إدراك العلم بعد تفكر وتدبر، المعرفة يا إخوة فعل القلب، روى الإمام البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية) قال: المعرفة فعل القلب، فرق بين المعرفة والعلم، إنها علم مقرون بعمل.
تدبر أن لك رباً استوى على العرش يدبر أمر الممالك، يأمر وينهى، يعز ويذل، يداول الأيام بين الناس، يقلب الليل والنهار، له الملك كله، وله الحمد كله، وإليه يرجع الأمر كله، قلوب العباد إليه مفضية، والغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية، يعلم ما كان وما هو كائن، وما لم يكن لو كان كيف يكون، هو أحق من حمد، وأولى من شكر، وأرأف من ملك، وأعز من استنصر، ينادى على باب عزته، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويصاح على محجة حجته: {لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84] ينزل جاسوس علمه {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] يترنم وينشد بفضله {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] يقول سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
وباب الأسماء والصفات سيدنا الشيخ فوزي بحر، له خطب كثيرة في هذا الباب.
ثم بعد ذلك مطالعة ومشاهدة نعم الله عز وجل وبره وآلائه وإحسانه، فمن رحمة الله عز وجل أن الإسلام لا يشترى، يعني: لو كان الإسلام يشترى مثل الشقق، فلن يحصل عليه كثير من الناس، يعني: لو ثبت أن الإسلام يشترى بعشرين ألف جنيه، لكان كثير من الناس سيفوتهم الإسلام.
ولو سوينا مسابقة في العقول، والذي يبقى له نسبة (60%) يكون مسلماً، لكان هناك أناس كثيرون سيفوتهم، لأنهم لا يفهمون النصوص والأحكام.
رجاء الجارودي يبحث عن الإسلام مدة سبعين سنة، ولما دخل الإسلام دخل من باب وحدة الأديان، وأنت -ولله الحمد- تموت على ما ماتت عليه عجائز نيسابور، رحمة من الله تبارك وتعالى أن أرسل إليك رسوله، فالله أخبر بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وأنزل إليك كتابه، وأعطاك مئونة السفر إلى الجنة، وأعطاك سمعاً وبصراً وفؤاداً، وطرد إبليس من جنته إذ لم يسجد لأبيك وأنت في صلبه: كم عدو حط منك للذنب فرقاك؟ كم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك؟ كم أمات بعض من لم يبلغ مرادك وأبقاك؟ أعطاك أيتها النفس ما لم تأملي، وبلغك ما لم تطلبي.
كل هذا من نعم الله عز وجل، غير النعم الموجودة في الكون من تسخير الكائنات والحيوانات، فإنه سخر الإبل حيث إن الطفل الصغير يذهب بالجمل إلى المزارع ثم يعود به، ولكن لم يسخر لك الثعبان فلا تستطيع أن تلمسه، ولم يسخر لك الذئب فلا تستطيع أن تأتي بالذئب وتدخله بيتك مثل الجمل.
هذه من نعم الله تبارك وتعالى، وهي نعم كثيرة يعطيها لك الله تبارك وتعالى، يقيم الصالحين من عباده وأنبيائه يستغفرون لك وأنت لم تخلق بعد، سيدنا إبراهيم يدعو لك، وسيدنا نوح يدعو لك، حيث قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28].
سيدنا رسول الله يدعو لك، قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] من أنت؟! ما قدرك؟! أنت إذا بعدت عن طريق الله عز وجل لا تساوي حشرة في ملك الله، فالنحلة أعلم بما يخرج من بطنها، وأنت أعلم بما يخرج من بطنك.
فما الذي بعد ذلك إلا انكسار القلب وذله بين يدي الله عز وجل وإخبات القلب على عتبة العبودية، أن تفنى عن حقك وعن قدرك، أن تنظر إلى نفسك بعين النقص وإلى مولاك بعين الكمال، تقول لله عز وجل: أسألك بغناك عني وفقري إليك، أسألك بعزك وذلي، إلا رحمتني، هذه ناصية خاطئة كاذبة بين يديك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل.
ترى أن ما حباك الله تبارك وتعالى إنما هو محض منة وفضل منه عز وجل، وأنك بالله لا بنفسك: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21].
(34/8)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 11:05   رقم المشاركة : 43
معلومات العضو
zaki4
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية zaki4
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

ربي يجعلها في ميزان حسناتك أخي.









رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
tags


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 23:41

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc