شرح كتاب النكاح لمعالي د. سعد بن ناصر الشثري - الصفحة 2 - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الكتب و المتون العلمية و شروحها ..

قسم الكتب و المتون العلمية و شروحها .. يعنى بجميع المتون من نظم و قصائد و نثر و كذا الكتب و شروحاتها في جميع الفنون على منهج أهل السنة و الجماعة ..

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

شرح كتاب النكاح لمعالي د. سعد بن ناصر الشثري

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2019-04-30, 08:00   رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ الثَّاني عَشَر (12)
معالي الشيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
الله يبارك فيك، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلَا- للجميع خيري الدُّنيا والآخرة، وأسأله -سبحانه- أن يكفي الجميع جميع الشُّرور.
{نستفتح في هذه الحلقة بكتاب "الحُدُود" باب "بَابُ حَدِّ الزَّانِي" من كتاب المحرَّر لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ وَزيدِ بنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْشُدُكَ اللهَ إِلَّا قَضَيْتَ لي بِكِتَابِ اللهِ، فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ -وَهُوَ أفْقَهُ مِنْهُ: نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَـنَا بِكِتَابِ اللهِ وَائْذَنْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ» قَالَ: إِنَّ ابْني كَانَ عَسِيْفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرتُ أَنَّ عَلَى ابْني الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّما عَلَى ابْني جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، الوَلِيْدَةُ وَالغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِـهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرُجِـمَتْ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لفظُ مُسلمٍ)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أما بعد؛ قوله: (كِتَابُ الْحُدُودِ).
المراد بالحدود: العقوبات المقدَّرة شرعًا.
الحد في اللغة: المنع. وهذه العقوبات تمنع النَّاس من ارتكاب الجرائم التي رُتِّبَت هذه العقوبات عليها، ولذا سُمِّيَت الحدود.
إذن؛ عندنا عُقوبات مُقدَّرة من الشَّارع يُقال لها: حدودًا، وَعُقوبات يُقدِّرها القاضي بناء على فعل جريمة، فهذه تُسمَّى تعزيرات.
وتلاحظ أنَ الشَّريعة قد نصَّت على الجرائم، إمَّا بأوصافها، أو بعموماتها، ولم تترك جريمةً إِلَّا وقد ذكرَت حُكْمَها.
وإيجاب الحدود فيه عددٌ من المعاني:
ïƒک الأول: تطهير ذلك الشَّخص الذي فعل تلك الجريمة، فإنَّ الحدود مُطهرات تجعل الإنسان يتخلَّص منها.
ïƒک الثاني: زجر الآخرين عن الإقدام على هذا الفعل، لئلا يقتدوا بهذا الفاعل لهذه الجرائم التي عليها عُقوبات حدِّيَّة
ïƒک الثالث: أنَّ هذه الجرائم ينتهي ذكرها في المجتمع، وبالتَّالي يجفل منها النَّاس ويهابونها.
ïƒک الرابع: أن تكون تلك الحدود بمثابة المصلح لأولئك الأشخاص الذينَ وقعوا في هذه الجرائم.
والغالب في الحدود أن تكونَ إمَّا بالجلد أو بالقطعِ، أو نحوه، وليس فيها ذكر شيء من السُّجون، ولم يَرِد عَنْ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه حكمَ بالسِّجن كعقوبة، وإن وردَ أنَّه حبسَ في التُّهمةِ من أجلِ أن يتحقَّقَ من الأمر.
فالمقصود: أن تقرير عُقوبات الحدود هذه تعود بالخير والصلاح على الْمُقدِم على الفعل، وعلى غيره ممَّن يُريد الاقتداء به، وتكون من أسباب انتهاء النَّاس عن المنكرات.
ثُمَّ ذَكَرَ المؤلف حدَّ الزِّنا.
المراد بالزِّنا: الوطء في الحرام.
وبعضهم يقول: وطءُ رجلٍ لامرأة محرَّمةٍ عليه، بدون أن يكون هناك شُبهة.
والنَّاس في الزنا على نوعين:
ïƒک مُحصَن: وهو الذي سبق له الزَّواج ولو طلَّق، فهذا الواجب رجمه.
ïƒک غير محصَن: وهو الذي لم يَسبق له الزَّواج، فعقوبته جلد المائة -كما سيأتي.
أورد المؤلف هنا حديث أَبي هُرَيْرَةَ وَزيدِ بنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا (أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ)، يعني: من أصحاب البادية.
قال: (أَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ)، ولم يأت وحدَه؛ بل جاء معه والد الرجل الآخر.
قال: (أَنْشُدُكَ اللهَ)، أي: أرفعُ صوتي طالبًا نُشدتكَ من الله -جلَّ وعَلَا- ولذلك سُمِّي النَّشيدُ نشيدًا؛ لأنَّهم يرفعون الصَّوت به.
قال: (إِلَّا قَضَيْتَ لي بِكِتَابِ اللهِ)، أي: أطلبُ منك أن تقضي بيني وبين خصمي بكتاب الله.
قال: (فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ -وَهُوَ أفْقَهُ مِنْهُ)، لماذا كان أفقه منه؟
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لن يقضي إلا بكتاب الله، وبالتَّالي لا حاجة لأن يشترط عليه أن يكون قضاؤه بكتاب الله -جلَّ وعَلَا- ولذلك كان الثَّاني أفقه منه.
قال: (نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَـنَا بِكِتَابِ اللهِ)، أي: على وفق ما طلب، وفيه إشارة إلى أنَّ الخصم الآخر عرَفَ مأخَذ المسألة بسؤال أهل العلم، فكان أفقه، فالأول الآن يُطالب بتنفيذ الحكم على وفق ما جاءت به الشَّريعة.
قال: (وَائْذَنْ لِي)، أي: ائذن لي بالكلام أولا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ».
قَالَ: (إِنَّ ابْني كَانَ عَسِيْفًا عَلَى هَذَا)، أي أن ابني كان أجيرًا يعمل عندهم بأجرةٍ.
قال: (فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ)، فيه إشارة إلى أنَّه ينبغي التَّحرُّز في اختلاط الرِّجال بالنِّساء، وأنَّ الاختلاط قد يؤدِّي إلى آثار سيئةٍ.
قال: (وَإِنِّي أُخْبِرتُ)، أي: سمعتُ شائعة.
قال: (أَنَّ عَلَى ابْني الرَّجْمَ)، هو لم يتزوَّج بعدُ. فهذه الشَّائعة التي جاءت إليه ظنَّها صحيحة، وأنتَ تعلم أنَّ الزَّاني البكر عليه الجلد، لقوله تعالى: ï´؟الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ غ– وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِï´¾ [النور: 2].
وفيه أنَّه ينبغي للإنسان ألا يُبادر بتصديق الشَّائعات، وينبغي به أن يرجع إلى أهلِ الشَّأنِ والاختصاص فيسألهم؛ ليكونَ كلامه وفعله مُطابقًا لما يجب عليه.
قال: (فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ)، أي: ذهبتُ إلى زوجِ المرأة وقلت: أريدكَ أن تعفو عن ابني، وأدفع عنه مائة شاة وجارية صغيرة مملوكة، فاتفقوا على ذلك ووقع الصُّلح.
قال: (فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ)، يعني: رجع إلى أهل الخبرة والاختصاص ليأخذ منهم.
قال: (فَأَخْبَرُونِي أَنَّما عَلَى ابْني جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ)، وفي هذا أن الزاني غير المحصَن يجب عليه جلد مائة.
وقوله: (وَتَغْرِيبُ عَامٍ) فيه دلالة على أنَّ الزَّاني غير المحصَن يُغرَّب سنة، أي: يُنقَل من مكانه وبلده الذي زنا فيه إلى مكانٍ آخرٍ من أجل أن يكون ذلك من أسباب استقامته، وبُعده عن المجتمع السَّابق الذي فعل فيه المعصية.
واستدلَّ الجمهور بهذا اللفظ (وَتَغْرِيبُ عَامٍ) على مَشروعيَّة التَّغريب، وهو مذهب مالك والشَّافعي وأحمد.
وقال الإمام أبو حنيفة: لا يُشرع التَّغريب.
ومنشأ الخلاف هنا: من مسألة هل يصحُّ أن نزيد على نصِّ القرآن بواسطةِ أحاديث الآحاد؟
فإن الإمام أبا حنيفة يقول: الزِّيادة على النَّصِّ نسخٌ، وبالتَّالي يُشتَرَط في الزِّيادة شروط النَّسخ، ومن شروط النَّسخ أنَّنا نقول: إن الخبر المتواتر لا يُنسَخ بالآحاد، وهنا حُكمٌ مُتواتر جاء في الآية القرآنية بإثبات الجلد مائة، وجاءنا في الحديث -وهو خبر آحاد- زيادة التَّغريب لعام، فقال أبو حنيفة: لا آخذ بهذه الزيادة؛ لأنَّ الزيادة على النَّصِّ نسخٌ، وخبرُ الآحاد لا يقوى على نسخ المتواتر.
وقال الأئمة مالك والشَّافعيُّ وأحمد: إنَّ الزِّيادة على النَّصِّ ليست نسخًا، وإنَّما هي بيان، ولا مانع من بيان المتواتر بالآحاد، ولذلك أثبتوا عقوبة التَّغريب.
ويدل عليه: أنَّ هناك أحاديث كثيرة فيها إثبات التَّغريب.
قال: (وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ)، فيه أنَّ الزَّانية المحصَنَة يجب رجمها، وأنَّ هذا هو الحد في حقها.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ»، فيه القَسَم قبل أن يُطلَب إذا كان هناك فائدة.
قال: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ»، أي: بحسب طلبكما، والمراد بكتاب الله: أي بشرعِ الله -جلَّ وعَلَا.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مخاطبًا والد العسيف: «الوَلِيْدَةُ وَالغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ»؛ لأنَّه صُلحٌ فاسدٌ، وبالتَّالي لا يُعوَّل عليه، ولا يُبنَى عليه حُكمٌ.
قال: «وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ»، على مُقتضَى الآية.
قال: «وَتَغْرِيبُ عَامٍ»، فيه إثبات مذهب الجمهور في تغريب الزَّاني.
قال: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ»، وهو أنيس الأسلمي من صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيه فوائد:
ïƒک توكيل القاضي لأفراد الناس في سماع الإقرارات.
ïƒک أنَّ المرأة التي ليس من شأنها البروز يحسُن أن تُقاضَى داخل بيتها، وأَلَّا تُجرَّ إلى المحاكم ونحوها، وفي هذا الحرص على صيانة المرأة.
قال: «إِلَى امْرَأَةِ هَذَا»، أي: زوجته.
قال: «فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، فلا يلزمها كلام زوجها وكلام والد العسيف وكلام العسيف، وبالتالي يُرجع إليها، وفيه أنَّ الاعتراف يُرجَع فيه إلى صاحب الشَّأن الذي يثبت عليه الحق.
قَالَ: (فَغَدَا عَلَيْهَا)، أي: أنَّ أنيسًا ذهبَ إلى امرأة هذا الرَّجل.
قال: (فَاعْتَرَفَتْ)، أي: اعترفت بالزنا.
قال بعضهم: هذا دليل على أنَّ الزَّاني يكفي اعترافه مرَّة واحدة.
وبعضهم يقول: لابدَّ في الاعتراف بالزنا من أربع مرَّاتٍ على مُقتضى ما ورد في حديث ماعز، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
قال: (فَأَمَرَ بِـهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه أنَّ الحدود إلى الإمام، وليست لأفراد النَّاس من أجلِ أن يتحقق من الشروط ويتثبَّت من الأمر.
قال: (فرُجِـمَتْ)، يعني: بأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيْلًا البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ». رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي»، أي: خُذوا هذا الحكم واستلموه واعملوا به.
قال: «فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيْلًا»، يُشير إلى الآية: ï´؟وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ غ– فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىظ° يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًاï´¾ [النساء: 15]، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيْلًا»، فهذا تقريرُ حُكمٍ.
كيف جعل الله لهنَّ سبيلًا؟
لأنَّه كان يُؤمَر بحبسها، والآن جاءها فرجٌ وطريقٌ وسبيلٌ تتخلص به من ذلك الحبس.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ» أي: إذا زنا البكر فحينئذٍ يجب الجلد مائة، والنَّفي سنة، وليس في هذا تخصيص العقوبة بما لو زنا بكرٌ ببكر، بل لو زنا البكر بالثَّيب؛ فحينئذٍ يثبت للبكر أحكامه وللثيب أحكامها، ومثله العكس، فلو كانت المرأة بكرًا والرَّجل سبق له الزَّواج؛ فحينئذٍ نقول: لكلٍّ حكمه.
وقوله: «جَلْدُ مِائَةٍ» فيه أنَّه لابدَّ من استيفاء العدد، فلا يكفي تسعة وتسعون، ولا يكفي أن تُجمَعَ هذه بضربة واحدة بعُكال أو نحوه؛ بل لابدَّ من جلد مائة جلدة، كلُّ واحدة مُنفصلة عن الأخرى.
قوله «وَنَفْيُ سَنَةٍ»، أي: تغريب عام، والسَّنَةُ في لسانِ الشَّرع يُراد بها السَّنَةُ القمريَّة، فلا يجوز أن يُغرَّبَ سنةً شمسيَّة؛ لأنَّ السَّنَة الشَّمسيَّة أكثر من السَّنة القمريَّة بأحد عشر يومًا؛ فلابدَّ أن يُراعَى هذا؛ لأنَّ هذا الحكم وجميع الأحكام المربوطة بالسَّنوات إنَّما تُحسَب بالسَّنة القمريَّة الهجريَّة لا بالسَّنةِ الشَّمسيَّة الميلاديَّة، قال تعالى: ï´؟هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَï´¾ [يونس: 5]، يعني: قدَّر القمر.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ» تقدَّم أنَّ المراد به: مَن سبق له أن تزوَّجَ ودخل بالمرأةِ، ويُشترط فيه كمال حال الزَّوج وكمال حال الزَّوجَة، فالثيب: مَن وطء في عَقدٍ صحيحٍ وهما حرَّانِ بالغانِ.
قال: «جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ»، الجمع بين الرَّجم والجلد هذا مذهب جماعة من أهل العلم.
والجمهور يقولون: يُرجَم فقط؛ لأنَّ الحوادث التي وقعت كقصَّة ماعز والغامديَّة وُجد فيها رجم ولم يوجد جلد، وقد ورد عن عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه في ولايته جلدَ ورَجمَ.
وعلى كلٍّ فالمسألة خلافيَّة، والقاضي الذي ينظر في مثل هذه القضايا يجتهد، وتطبيق الحدود لابدَّ أن يكون عن طريق القضاء، فلا يأتي واحدٌ ويقول: أنا أنفِّذ على فلان! لأنَّه لا يعلم هل وُجدَت الشُّروط، هل انتفت الموانع، هل هناك تقييدات، ونحو ذلك؛ وإنَّما يُطبقه ويأمر بتطبيقه صاحب الولاية القضائيَّة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ وَسَعِيدِ بنِ المسَيَّبِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ الـمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي المسْجِد فَنَادَاهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبِعَ شَهَادَاتٍ، دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَبِكَ جُنُونٌ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَهَلْ أحْصَنْتَ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» قَالَ ابْنُ شهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابرَ بنَ عبدِ اللهِ يَقُولُ: فَكنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالـمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ)، هو محمد بن مسلم الزُّهري، من علماء السُّنَّة، ومن الأئمَّة الأثبات، حفظ حديث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دهرًا من الزَّمان.
قوله: (عَنْ أَبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ)، والده عبد الرحمن بن عوف من العشرة المبشرين بالجنَّة.
قوله: (وَسَعِيدِ بنِ المسَيَّبِ)، وهو أبو سلمة من التَّابعين.
قال: (عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ الـمُسْلِمِينَ).
هل يُفهم من كلمة (مِنَ الـمُسْلِمِينَ) أنَّ تطبيق الحدود إنَّما يكون على أهل الإسلام كما قال طائفة؟ أو يشمل كل مَن حرُم عليهم ذلك الفعل؟
سيأتي معنا رجم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لليهوديين.
قال: (أَتَى رَجُلٌ مِنَ الـمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي المسْجِد)، فيه كثرة بقاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المسجد.
قال: (فَنَادَاهُ)، أي: أنَّ هذا الرجل نادى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ)، أعرض عنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد ناداه أولًا من بعيدٍ، ثم ذكرَ فعلًا شنيعًا.
قال: (فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ)، يعني: أنَّ الرجل بدلَ أن يكون في تلك الجهة الأولى جاء في الجهة الثانية التي التفت إليها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ لَهُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي زَنَيْتُ)، هذا الرجل يُريد أن يطهِّر نفسه ويُزيل عنه الإثم.
قال: (فَأَعْرَضَ عَنْهُ)، فيه الإعراض عن الكلام الذي تُخشَى عواقبه.
قال: (حَتَّى ثَنَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ)، يعني :كرَّرَ عليه هذا الكلام أربعَ مرَّاتٍ.
قال: (فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبِعَ شَهَادَاتٍ)، يعني: أنَّه قد زنا.
قال: (دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)؛ ليتحقق من وجود الشُّروط وانتفاء الموانع.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبِكَ جُنُونٌ؟»؛ لأنَّ الجنون مانع من إقامة الحد.
قَالَ الرجل: (لَا)، أي: ليس بي جنون.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلْ أحْصَنْتَ؟»، أي: هل سبق لك الزَّواج والوطء فيه؟ وهذا مُراعاة شرط من شروط الحكم.
قَالَ: (نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ»)، في هذا أنَّه لا يلزم وجود الإمام عندَ إقامة الحدود، طلبَ منهم أن ينقلوه إلى المكان الآخر من أجل أن يكون خارج المدينة.
قَالَ ابْنُ شهَابٍ: (فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابرَ بنَ عبدِ اللهِ)، هنا انقطاع بين ابن شهاب وبين جابر.
يَقُولُ: (فَكنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ)، فيه أنَّ أفراد النَّاس يُشاركونَ في الرَّجم.
قال: (فَرَجَمْنَاهُ بِالـمُصَلَّى)، المصلَّى مكان خارج البلد يُصلون فيه العيد، ويُصلونَ فيه على الجنائز في الزَّمان الأول.
قال: (فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ هَرَبَ)، أي: آنسَ حرَّ الحجارةِ وأضعفته هذه الحجارة هربَ.
قال: (فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحرَّةِ)، أي: الجبال السُّود، أو المواطن التي فيها حجارة سود بجوار المدينة.
قال: (فَرَجَمْنَاهُ)، تنفيذًا لأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنْ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بنُ مَالكٍ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ» قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «أَنِكْتَهَا» -لَا يَكْنِي- قَالَ: نَعَمْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْـمِهِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لـمَاعِزِ بنِ مَالكٍ: «أَحَقٌ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ؟» قَالَ: وَمَا بَلَغَكَ عنِّي؟ قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّكَ وَقَعْتَ بِجَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، ثمَّ أَمَرَ بِهِ فرُجِمَ).
ماعز بن مالك من الصَّحابة، جاء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعترفًا بالزنا، واعترف أربع مرَّاتٍ، فحينئذٍ أراد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يتحقَّقَ من أنَّ اعترافه وقع على محلِّه، وأنَّه لم يقصد بالاعتراف بالزنا مُقدِّماته، ولذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ»، فإنَّ بعضَ النَّاس قد يُسمِّي القُبلَة زنا.
قال: «أَوْ غَمَزْتَ»، أي: أدخلتَ أصبعكَ أو يدك في بدنِ المرأة.
قال: «أَوْ نَظَرْتَ»، أي: اكتفيتَ بالمشاهدة.
فهذه الأمور لا يثبت بها حد الزِّنا.
قَالَ: (لَا يَا رَسُولَ اللهِ)، أي: ليس مُرادي هذه الأشياء.
فَقَالَ: «أَنِكْتَهَا»، والنَّيْكُ عندهم الجماع.
قول الراوي: (لَا يَكْنِي)، أي: لم يحتَجْ إلى استعمال لفظة أخرى في الكناية؛ لأنَّ هذا سيترتب عليه تنفيذ الحد الذي هو الرَّجم.
قَالَ ماعز: (نَعَمْ).
قال: (فَعِنْدَ ذَلِكَ)، أي: لَمَّا تحقَّقَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتكرَّرَ اعترافه.
قوله: (أَمَرَ بِرَجْـمِهِ)، أي: أمرَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- برجمه، وفيه أنَّ الثَّيب الزَّاني يُرجَم.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لـمَاعِزِ بنِ مَالكٍ: «أَحَقٌ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ؟»، أي: هذا الخبر الذي وصلني عنكَ بأنَّك قد قارفتَ هذه الجريمة.
قَالَ ماعز: (وَمَا بَلَغَكَ عنِّي؟ قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّكَ وَقَعْتَ بِجَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ»)، يعني: جامعتها.
قَالَ: (نَعَمْ. قَالَ: فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ)، يعني: اعترف على نفسه أربع مرَّات.
قال: (ثمَّ أَمَرَ بِهِ فرُجِمَ)؛ لأنَّه قد انطبق عليه شرط الرَّجم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عُبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ جَالسٌ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أنزلَ اللهُ عَلَيْهِ آيَةَ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلهَا اللهُ، وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَو كَانَ الْحَبَلُ، أَوِ الاعْتِرَافُ)}.

قوله: (قَالَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ جَالسٌ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه تولِّي صاحب الولاية خطبة الجمعة، وفيه الاستفادة منه في ذلك، وفيه مشروعيَّة أن تكون الخطبة على منبرٍ.
قال: (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ)، أي: يشهد أن رسالته حق، وأنَّه مُرسل من عند ربِّ العزَّة والجلال.
قال: (وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ)، وهو القرآن العظيم.
قال: (فَكَانَ مِمَّا أنزلَ اللهُ عَلَيْهِ آيَةَ الرَّجْمِ)، فآية الرَّجم موجودة في كتاب الله، نُسخَ لفظها وكتابتها، ولكن لم يُنسَخ حُكمها.
قال: (قَرَأْنَاهَا)، وذكر البيهقي هذه الآية بلفظها {الشيخ والشَّيخةُ إذا زنيا فارجمهوما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم}، ولكن هذا اللفظ لم يثبت ثبوتًا تامًّا، وإنَّما المعوَّل عليه ثبوت معناه.
قال: (وَوَعَيْنَاهَا)، أي فهمناها (وَعَقَلْنَاهَا)، أي تدبرنا فيها وردَّدنا النَّظرَ.
وهناك دليل آخر على مشروعيَّة الرَّجم، ألا وهو الفعل النَّبوي، فقد تواتر عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قد رجمَ الزَّاني المحصَن.
ثم استمرَّت هذه السُّنة، فلا زال الناس يرجمون الزَّاني المحصَن، ممَّا يدلُّ على بَقاء الحُكْم وثبوته.
قال عمر: (فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زمَانٌ)، يعني: أن يَرِدَ إليهم شيء من البدعة أو شيء من تسويل الشَّيطان.
قوله: (فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ)، أي: ليس فيه آية في كتاب، وبالتَّالي يتركوا الرَّجم.
قوله: (فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلهَا اللهُ)، أي: ابتعدوا عن الصراط المستقيم بعدم مُعاقبة الزاني المحصَن بالرَّجم.
قال: (وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى)، إذن سبب الرَّجم وعلَّته الزنا، وشرطه الإحصان، وفيه أنَّ الحكم يثبت للرجال والنساء.
ثم ذكر طرائق إثبات الزنا التي يثبت بها الحد:
الطريق الأول: البينة، فإذا شهد أربعة أنَّ فلانًا قد زنا فإنَّه حينئذٍ يؤخذ بشهادتهم، كما في الآيات القرآنية في سورة النور: ï´؟لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَï´¾ [النور: 13].
الطريق الثاني: قوله: (أَو كَانَ الْحَبَلُ) يعني: إذا حملت المرأة، ولم تدَّعي أنَّ سبب الحمل كان جهلًا منها أو نحوه.
وجمهور أهل العلم على أنَّ الحمل ليس طريقًا للإثبات، وإنَّما هو طريق لاستجلاب الإقرار.
الطريق الثالث: الاعتراف، فإذا اعترفت بالزنا ثبت عليها حدُّ الرَّجم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَو بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ». وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ ليَبِعْهَا فِي الرَّابِعَةِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ»، الأمة هي المملوكة التي تُباع وتُشتَرى.
قوله: « فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا»، أي: قام الدليل القاطع على الزنا، وتبيَّنَ للسَّيِّد أنَّ أمتَه قد زَنَت.
قال: «فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ»، الأمة حتى ولو كانت متزوجة فإنَّها لا تُرجَم في حد الزنا، وإنَّما تُجلَد، وحد الأحرار مائة لقوله تعالى: ï´؟الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ غ– وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِï´¾ [النور: 2]، لكنَّ الإماء ومثلهم المماليك إنَّما يُجلَدون خمسين لقوله تعالى: ï´؟فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِï´¾ [النساء: 25]، فدلَّ ذلك على أنَّه ليس عليها إلا النِّصف، والأصل في الحدود أن تكون لصاحب الولاية والسُّلطان، وليس لأفراد النَّاس أن يُطبقوا الحدود إلا هنا؛ فإنَّ السَّيِّد يملك تطبيق حد الزنا على أمته، وكثير من أهل العلم ألحق بالأمة المملوك.
قال: «وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا»، أي: لا يقوم بتعييرها أو القدح فيها، لئلا يكون ذلك سببًا في استمرارها وفي تتابع الآخرين على فعلٍ يُماثل فعلها.
قال: «ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا, ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَو بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ ليَبِعْهَا فِي الرَّابِعَةِ»؛ السَّيِّدُ يُقيم الحد ولو تكرَّرَ الزنا، وفيه أنَّه إذا تكرَّرَ الزنا شُرعَ إقامة الحد مرَّةً أخرى.
وقوله: «فَلْيَبِعْهَا»، أي ليتخلَّصَ منها.
وقوله: « وَلَو بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ»، أي: ولو كان بثمنٍ قليلٍ يسيرٍ. استشكل بعض أهل العلم ذلك فقالوا: كيف يبيعها ويعلم أنَّ فيها عيبًا؟!
قال بعضهم: يُبيِّن العيبَ.
وقال بعضهم: يبيعها على السَّلامة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي عَبدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: خَطَبَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ, أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ: منْ أَحْصَنَ مِنْهُم وَمَنْ لم يُحْصِنْ، فَإِنَّ أمَةً لرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَها، فَإِذا هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُها أَنْ أَقْتُلَها، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «أَحْسَنْتَ» وَفِي لفظٍ: «اتْرُكْهَا حَتَّى تَمَاثَلَ»)}.
قَالَ: (خَطَبَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ)، أي: أقيموا على مماليككم حدَّ الزنا.
قال: (منْ أَحْصَنَ مِنْهُم وَمَنْ لم يُحْصِنْ)، فالمماليك من الإماء والرجال المماليك حدهم إنَّما يكون بالجلد خمسين جلدة؛ لأنَّه نصف ما على المحصنات من العذاب، ولا يُرجَم، وظاهر النُّصوص أنَّ المملوك لا يُغرَّب؛ لأنَّه حينئذٍ يضر بالسَّيِّد.
قال علي: (فَإِنَّ أمَةً لرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَها)، هذا الأمر باعتبار السيد لها.
قال: (فَإِذا هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ)، فهي ولدت قريبًا وتحتاج إلى أن تُترَك مدَّةً ليقوى بدنها.
قال: (فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُها أَنْ أَقْتُلَها)؛ لأنَّها لازالت نفاسًا ضعيفةً، وبالتَّالي الجلد سيؤثِّر عليها.
قال: (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي: من كونها نفاسًا ويحتمل أن يؤثر عليها.
فَقَالَ: «أَحْسَنْتَ»، وذلك لأنه قد يزيد في أثر تطبيق الحد، فقد تموت بسبب ذلك، ومن ثَمَّ قال له: أحسنتَ في تأخير إقامة الحد.
وَفِي لفظٍ: «اتْرُكْهَا حَتَّى تَمَاثَلَ»، يعني يرتفع عنها آثار النِّفاس والولادة، وبالتَّالي تكون قويَّةً يُمكن تطبيق الحد عليها. وفي هذا إقامة الحدود على المماليك من قبل أسيادهم.

لعلَّنا نقف عند هذا، بارك الله فيك، ووفقك الله لخيري الدنيا والآخرة، ورزق الله الجميع علمًا نافعًا وعملًا صالحًا ونيَّةً خالصةً، أسأل الله لكم -أيُّها المشاهدون- أن تُوفَّقُوا في أموركم، وأن يرضَى عنكم ربُّنا -سبحانه وتعالى- وأن تكونوا من الهُداة المهتدين، كما أسأله -جلَّ وعَلَا- لولاة أمور المسلمين صلاحًا واستقامةً، وأن يكونوا أهل هداية ودعوةٍ، هذا وأسأله -جلَّ وعَلَا- أن تُقام هذه الحود، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.









 


رد مع اقتباس
قديم 2019-04-30, 08:00   رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ الثَّالِثُ عَشر (13)
معالي الشَّيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
باركَ الله فيك، ووفقكَ الله لكل خير، وأرحبُ بإخوتي من المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وَعَلا- أن يرزقنا وإيَّاهم علمًا نافعًا وعملًا صالحًا.
{ما زلنا في الكلام على باب حد الزِّنا في كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهِي حُبْلَى مِنَ الزِّنَى فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ, أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبِيُّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِيَّهَا فَقَالَ: «أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ فَائْتِنِيْ بِهَا»، فَفَعَلَ, فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا, فَقَالَ لَهُ عُمرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللهِ، وَقَدْ زَنَتْ؟! فَقَالَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَو قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِيْنَ مِنْ أَهْلِ المدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مْنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا للهِ؟». رَوَاهُمَا مُسْلمٌ)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعد؛ فهذا الحديث من الأحاديث التي فيها تقرير حدِّ الزِّنا بالنِّسبَة للمحصَن الذي سبق له الزَّواج، وأنَّ الحدَّ فيه الرَّجم، وهو محلُّ إجماعٍ في الجملة.
قوله هنا: (وَهِي حُبْلَى مِنَ الزِّنَى فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَصَبْتُ حَدًّا)، استدلَّ به بعضهم على أنَّ الحملَ من لا زوجَ لها لا يكون طريقًا لإثبات الحدِّ لاحتمال أن تكون قد وُطئَت بشبهةٍ، واحتمال أن يكونَ الحمل من غيرِ وطءٍ أو نحو ذلك؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُقم الحدَّ عليها إلَّا لمَّا أقرَّت واعترفت.
وقال طائفة من أهل العلم: يثبتُ الحدُّ بالحبَل متَى لم يكن هناك فراش زوجيَّة بالنِّسبَة للمرأة، واستدلُّوا بما وردَ عن عمر في الصَّحيح أنَّه قال: "الحد ثابت متى كان الاعتراف أو الحبل".
واستدلَّ بعض أهل العلم بهذا الخبر على أنَّ حدَّ الزِّنا يثبت بالإقرار مرَّةً واحدة.
والقول الآخر: لا يثبت إلَّا بالإقرار أربعَ مرَّاتٍ -على ما تقدَّم في حديث ماعز- ولعلَّه أرجح، فإنَّ اعترافها هنا يُمكن أن يُفسَّر بأنَّه اعترافٌ مُتكرِّر.
قولها هنا: (فَأَقِمْهُ عَلَيَّ)، فيه جواز اعتراف الإنسان بالزِّنا، وإن كان جماهير أهل العلم على أن سترَ الإنسان على نفسه أولَى إلَّا إذا كان هناك تحقيق مَقصد شرعي.
وفي هذا الحديث: أنَّ مَن وقعَ في مَعصيةٍ أو ذنبٍ ولو كان كبيرًا؛ فإنَّه يُحسَن التَّعامل معه، ويُدعَى إلى التَّوبَة، حتى فيما لو زَنت المرأة، فإنَّ أولياءها يُطالَبون بإحسان التَّعامل معها، ولذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لوليِّها: «أَحْسِنْ إِلَيْهَا».
وفي هذا الحديث دلالة على أنَّ الحد لا يُقام على المرأة وهي حامل، لئلَّا يَتعدَّى أثر إقامة الحد على غيرِ مَن ارتكَب موجِب الحد.
وورد في حديثٍ آخر أنَّه أمرَ الوليَّ أن ينتظر بها حتى تقوم برضاعة ذلك الصَّبي، ولذلك اختلف الفقهاء في انتظار أمر الرَّضاعة:
فقال طائفة: لا ينتظر، واستدلُّوا بظاهر هذه الرِّواية.
وقال طائفة: يُنتَظَر حتى يُفطَم الصبي، فقد جاء في رواية أخرى أنَّه انتظر.
وقال طائفة: إن كان يُمكن رضاعة الصَّبي من غير أمِّه فإنَّه لا يُنتَظر به حتى وقت الفطام، وإن كان لا يرضع إلا من أمِّه فإنَّه يُنتَظر بها ذلك.
فإذا أمكن الإيقاف في غير الحبس فهو أولى؛ لأنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر أهلها بالإحسان إليها، وأعادها إلى بيتِ أهلها ولم يقم بسجنها.
قوله: (فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا)، أي: قاموا بشدِّ الثِّيابِ عليها، وذلك من أجل ألا تظهر عورتها عند تطبيق الحَدِّ عليها.
قوله: (ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ)، فيه إثبات حد الرَّجم.
ولم يذكر في هذا الحديث الجلد، وتقدَّمَ معنا أنَّ الفقهاء اختلفوا في المُحصَن إذا زنا؛ فهل يكون الحد بالرَّجمِ وحدَه كما في حديث ماعز وحديث الجهنيَّة هنا، أو أنَّه يُجمَع بينَ الأمرين الجلد والرَّجمِ على ما وردَ في الحديث أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «خُذُوا عنِّي خُذُوا عنِّي، قدْ جعل اللهُ لهنَّ سَبِيلًا، البِكرُ بالبِكرِ؛ جَلدُ مِائةٍ، ونَفْيُ سَنةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، جَلدُ مائةٍ و الرَّجْمُ»، وما ورد من حديث علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عندما قام بتطبيق الحدِّ في زمانه.
وفي الحديث أنَّ مَن أُقيمَ عليه الحد فإنَّه تُشرَع الصَّلاة عليه إذ لا زالَ مُسلمًا، ويحكَم عليه بأحكام أهل الإسلام.
وفيه أيضًا أنَّ مَن تابَ قد يكون له مَنزلة أعلى مِن منزلته قبل ارتكابه للذَّنبِ، ولذلك صلَّى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليها.
وقوله: (فَقَالَ لَهُ عُمرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللهِ، وَقَدْ زَنَتْ؟!)، فيه السُّؤال للإنسان عمَّا يُشكل عليه من المسائل ليعرف حكم الله فيها.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَو قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِيْنَ مِنْ أَهْلِ المدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مْنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا للهِ؟»، فيه فضيلة التَّائبين وعظم أجرهم عند الله -جلَّ وَعَلا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً زَنَيَا؟ فَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟» فَقَالُوا: نَفْضَحُهُم وَيُجْلَدُونَ، قَالَ لَهُم عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُم يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرُجِمَا، فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
قوله: (إِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه جواز قبول تحاكم أهل الكتاب لأهل الإسلام.
وفيه أيضًا أنَّ اليهود في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقرِّونَ بصدقِ هذا النَّبي، وإلَّا لَمَا جاؤوا إليه في هذا الباب.
واستدلَّ بعض العلماء في هذا الحديث على حُجيَّة شرع مَن قبلنا، ولكن إذا نظرنا في تلك المسألة وجدنا أنَّ هذا الحديث خارج عن محلِّ النِّزاع؛ لأنَّه يتحدَّث عن شرع مَن قبلنا المنقول بواسطتهم، والخلاف إنَّما في شرع مَن قبلنا المنقول بواسطة الكتاب والسُّنَّة.
قوله: (فَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟» فَقَالُوا: نَفْضَحُهُم وَيُجْلَدُونَ)، أي: نُعرِّف النَّاس بذنبِ مَن فعلَ ذلك، وقد وردَ أنَّهم يضعونَه على الدَّابَّةِ مَقلوبًا من أجلِ أن يُعرَف بذلك، ووردَ عن بعضهم أنَّه يُحمِّمه ويُسوِّدُ وجهه.
قوله: (قَالَ لَهُم عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ)، أي: ليس هذا هو الموجود في التَّوراة، وإنَّما الموجود هو الرَّجم.
قال: (فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُم يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلهَا وَمَا بَعْدَهَا)، يعني: من أجل أن يُخفيها، وفيه أنَّه لا يجوز كتم ما يعرفه الإنسان، خُصوصًا إذا ترتَّبَ عليه أحكامٌ وآثارٌ.
وفيه أيضًا جواز وصف أجزاء التَّوراة أنَّها آية، والمراد بالآية: العلامة.
قال: (فَقَالَ لَهُ عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ)، في هذا مراجعة التَّوراة والإنجيل إذا كان هُناك مصلحة شرعيَّة، كما لو كان هناك مَن يُريد أن يردَّ عليهم، أو أن يُبيِّن التَّحريفَ الموجود في كتبهم.
فَقَالُوا: (صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ)، أي: صدق عبد الله بن سلام.
قال: (فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرُجِمَا)، قيل: كان الرَّجم بسبب أنَّ الرَّجم مذكورٌ في كتبهم، وقيل: إنَّما رجمَ بما ورد في هذا الشَّرع.
واستدل به بعضهم على أنَّ الزَّاني المحصَن لا يُجلَد، وإنَّما يُكتفَى برجمه.
وقال الآخرون: إنَّما ذُكرَ الرَّجم هنا ولم يُذكر معه الجلد؛ لأنَّه سبق ذكر الجلد في قولهم (نَفْضَحُهُم وَيُجْلَدُونَ).
قوله: (فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ)، هكذا في الرِّواية المشهورة "يجْنَأُ" بالجيم، أي: أنَّه يميل عليها ويُحاول أن يغطيها من أجلِ ألا تصل إليها الحجارة التي كانوا يستعملونها في الرَّجم.
وفي بعض النُّسخِ قال: "يَحنا" يعني: أنَّه يميل إليها.
وقوله: (يَقِيهَا الْحِجَارَةَ)، أي: أرادَ ألا تمسَّها الحجارة التي يُرجَمون بها.
وظاهر هذا أنَّه جُمِعَ بين الرَّجل والمرأة في مكانٍ واحدٍ عند الرَّجم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: رَجَمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ، وَرَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ وَامْرَأَةً. رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
في هذا الحديث: أنَّ حدَّ الزَّاني المحصَن الرَّجم.
وفيه أنَّ الرَّجم يكون للرَّجلِ والمرأةِ.
وفيه أنَّه أهلَ الكتابِ متى تحاكموا إلينا؛ حكمنا عليهم بما في شرعنا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ الْأَشَجِّ، عَنْ أَبي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ، عَنْ سَعيدِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ قَالَ: كَانَ بَينَ أَبْيَاتِنا رُوَيْجِلٌ ضَعِيفٌ مُخْدَجٌ، فَلَمْ يُرَعِ الْحَيُّ إِلَّا وَهُوَ عَلَى أَمَةٍ مِنْ إمَائِهِمْ يَخْبُثُ بِهَا، قَالَ: فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ لرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا- فَقَالَ: «اضْرِبُوهُ حَدَّهُ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَضْعَفُ مِـمِّا تَحْسِبُ، لَو ضَرَبْنَاهُ مِائَةً قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ: «خُذُوا لَهُ عِثْلَاكَا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، ثُمَّ اضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً» قال: فَفَعَلُوا بِهِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَإِسْنَادُهُ جَـيِّدٌ، لَكِنْ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَقَدْ رُوِيَ مُرْسَلًا)}.
هذا الحديث رجاله ثقات، إلا أنَّه من رواية ابن إسحاق كما ذكر المؤلف هنا، وهو محمد بن إسحاق بن يسار صاحب السِّيرَة، وهو صدوق ولكنَّه مدلِّس، فلا يُقبَل من حديثه إلا ما صرَّحَ فيه بالسَّماع، وهنا قال: (عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ)، معنى ذلك أنَّه عنعن الحديث، وبالتَّالي فإنَّ الحديث مُنقطع حُكمًا، ولم يتَّصل إسناده.
قوله: (كَانَ بَينَ أَبْيَاتِنا رُوَيْجِلٌ)، رويجل: تصغير رجل.
قوله: (ضَعِيفٌ مُخْدَجٌ)، المخدَّج هو ناقص الخلقة.
قال: (فَلَمْ يُرَعِ الْحَيُّ)، أي: لم ينتبه الحي، بل فُجئوا أنَّه كان على أمةٍ من إمائهم.
قوله: (إِلَّا وَهُوَ عَلَى أَمَةٍ مِنْ إمَائِهِمْ يَخْبُثُ بِهَا)، أي: يزني بها.
قوله: (قَالَ: فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ لرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا- فَقَالَ: «اضْرِبُوهُ حَدَّهُ»)؛ لأنَّه لم يُحصَن بعدُ، وبالتَّالي يُجلَد مائة على ظاهر قوله تعالى: ï´؟الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍï´¾ [النور: 2].
قوله: (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ,إِنَّهُ أَضْعَفُ مِـمِّا تَحْسِبُ)، أي: ممَّا تظن.
قوله: (لَو ضَرَبْنَاهُ مِائَةً قَتَلْنَاهُ, فَقَالَ: «خُذُوا لَهُ عِثْلَاكَا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ») العثك من أعثاك النَّخل الذي فيه الرُّطَب، ويكون لونه في الغالب أصفر، وكل واحدٍ من هذه الأغصان يُقال له شمراخ، وبالتَّالي إذا ضُربَ به فيكون قد ضُرِبَ مائة.
قال: «ثُمَّ اضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً»، فتُجزئه.
وكما تقدَّم أنَّ هذا الحديث منقطع حكمًا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَمْرو بنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ واقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ، وَمَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ فَإِنَّ عِكْرِمَةَ رَوَى لَهُ البُخَارِيُّ، وَعَمْرٌو مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ. وَقَدْ أُعِلَّ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَوَّلَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ آخِرَهُ)}.
الإشكال ليس في كونه من رواية عمرو بن أبي عمرو فهو من رجال الصَّحيح، ولا كونه من رواية عكرمة مولى ابن عباس؛ فإنَّه أيضًا قد وُجدَت له رواية في الصَّحيح، ولكنَّ الإشكال في كونه من رواية عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة، فقد يكون الراوي ثقة، ولكن روايته عن فلان يكون فيها إشكالٌ، وعمرو بن أبي عمرو قد روى أحاديث عن عكرمة فيها نكارة، ولذلك تكلَّمَ بعضُ أهل العلم في رواية عمرو عن عكرمة؛ بل بعضهم يقول: إن عَمْرًا لم يسمع من عكرمة، ولذلك وُجد فيه الاختلاف.
وهذا الحديث فيه أمرين:
ïƒک الأول: مَن يقع على البهائم، فأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقتله وقتل البهيمة.
ïƒک والثاني: في جريمة اللواط: حيث أمر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقتل الفاعل والمفعول به.
وهذا الحديث -كما تقدم- أنَّه ضعيف الإسناد، والعلماء لهم أقوال متعدِّدَة في أهل اللواط:
ïƒک منهم مَن يقول: يُقذفون من أعلى جبلٍ حتى تندقَّ رقابُهم كما فُعل بقومِ لوطٍ.
ïƒک ومنهم من يقول: يُقتل حَتمًا.
ïƒک ومنهم مَن يقول: هو زانٍ له أحكام الزَّاني، وهذا مذهب أكثر أهل العلم في ذلك، وإن كان قد حُكيَ اتِّفاق الصَّحابة على كونه يُقتل مع اختلافهم في طريقة قتله.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ يُقَامُ عَلَيهِ الحَدُّ يَومَ القِيامَةِ, إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَما قَالَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ جَيِّدٌ)}.
المراد بالقذف: اتِّهام الإنسان لغيره بالزِّنا بدون أن يأتي بشهودٍ، والقذف من المحرَّمات، وجاءت النُّصوص بتحريمه وبيان أنَّه من كبائر الذُّنوب، وقد عَدَّه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من السَّبع الموبقات، وقد روى المؤلف من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ»، أي: من اتَّهم بالزِّنَى مَن كان مِلكًا له يتمكَّن مِن بيعه.
قال: «يُقَامُ عَلَيهِ الحَدُّ يَومَ القِيامَةِ»، أي: حَدَّ القذف، وذلك لأنَّ السَّيد يملك منافع العبد المملوك، وبالتَّالي لا يُضرَب السَّيد حدَّ القذف به، وهذا في قولِ طائفة من أهل العِلم على خلافٍ بينهم في هذه المسألة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: لـمَّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ، فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ. رَوَاهُ أحمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ)}.
ابن إسحاق -كما تقدَّم- أنَّه صدوقٌ مدلِّسٌ، وقد صرَّح بالتَّحديثِ في هذا الخبر، فيكون الحديث حسن الإسناد.
قالت عائشة: (لـمَّا نَزَلَ عُذْرِي)، أي: لمَّا نزلت الآيات من أوائل سورة النُّور في قوله تعالى: ï´؟إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ غڑ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم غ– بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْï´¾ [النور: 11]، عندما بيَّن ربُّ العزَّة والجلال براءةَ عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها.
قالت: (قَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ، وَتَلَا الْقُرْآنَ)، أي: ذكر براءتها، وفيه مشروعيَّة الخطبة في الأوامر العامَّة التي يحتاج إليها النَّاس.
قالت: (فَلَمَّا نَزَلَ)، أي: من المنبر.
قولها: (أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ)، فالرَّجلان هما: مسطح بن أثاثة، والشَّاعر حسَّان بن ثابت. وأمَّا المرأة فهي: حمنة بنت جحش -رضوان الله عليهم جميعًا- فقد انغرُّوا بالإشاعات والدِّعايات التي وُجدَت في ذلك الزَّمان، وكانت زينب بنت جحش هي التي تسامي عائشة، ولكنهم عندما أرادوا منها أن تتَّهم عائشة بذلك قالت: "أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرًا".
قولها: (فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ)، أي: حد القذف.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ حَدِّ السَّرِقَةِ
عَنْ أَبي هُرَيْرَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فتُقْطَعُ يَدُهُ».
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَطَعَ فِي مِـجَنٍّ ثَـمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمٍ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا)}.
المراد بالسَّرقة: أخذ مال الآخرين بدون إذنهم على جهةِ الخفية.
والسَّرقة من كبائر الذنوب، قال تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْï´¾ [النساء/29]، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ مَالَ امْرئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَن طِيبِ نَفْسٍ» .
والسَّرقة يجب فيها قطع يد السَّارق بالشُّروط التي جاءت في الأخبار، قال تعالى: ï´؟وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ غ— وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌï´¾ [المائدة/38].
ولا يُطبَّق حدُّ السَّرقة إلا بشروط، منها:
ïƒک أنَّ الذي يُطبِّق حد السَّرقة هو الإمام أو نوَّابه، فلا يجوز لأفراد الناس أن يُطبقوا حَدَّ السَّرقَة، حتى ولو كان السَّارق مملوك الإنسان.
ïƒک مُطالبة المسروق منه بماله المسروق.
ïƒک أن يكون المال مأخوذًا من حِرْزٍ.
ïƒک ألا يكون هناك شُبهَة في أخذ ذلك المال.
ïƒک ويشترط عند الجمهور أنَّه يكون قد بلغ النِّصاب خلافًا للظَّاهريَّة، فهم يقولون: يُقطَع بالقليل والكثير.
واستدلَّ الظَّاهريَّة بحديث «لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فتُقْطَعُ يَدُهُ»، قالوا: إنَّ هذا شيء يسير أقل ممَّا ذكرتموه نصابًا، ومع ذلك أثبت له قطع يد السارق.
وبعض فقهاء الجمهور قالوا: إنَّ المراد بالبيضة في الحديث هي بيضة السِّلاح، والمراد بالحبل هو الحبل الثَّمين، ولأنَّ الحديث هنا مُطلَق، وبالتَّالي نُقيِّده بالأحاديث الأخرى التي وردَت في ذلك، ومنها حديث ابن عمر (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَطَعَ فِي مِـجَنٍّ ثَـمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمٍ)، فيه إثبات مشروعيَّة قطع يد السَّارق، وأنَّها سُنَّةٌ ثابتةٌ، وفيه أنَّ المجن يجوز قطع يد السَّارق بسببه متى كان ثلاثة دراهم.
والقول بأنَّ النِّصاب في السَّرقة ثلاثة دراهم هو مذهب مالك والشَّافعي وأحمد، وعند الإمام أبي حنيفة أنَّ النِّصاب عشرة دراهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا»)}.
هناك فرق بينَ الدينار والدِّرهم، فالدِّرهم في الفضَّة، وهو تقريبًا ثلاثة جرامات، بينما الدينار في الذهب، وهو تقريبًا أربعة ونصف جرام، فإذا كان في ثلاثة دراهم معنى أنَّه تسعة جرامات من الفضَّة، وإذا كان ربع دينارٍ فإنَّه يكون قرابة الجرام وشيء يسير، ففيه قطع يد السَّارق.
وفي هذا إثبات النِّصاب في حد السَّرقَة كما قال الجمهور خلافًا للظَّاهريَّة.
وفيه أنَّ النِّصاب ثلاثة دراهم أو ربع دينار، خلافًا للحنفية الذين يقولون إنه عشرة دراهم.
واستدل المالكيَّة بهذا الحديث على أنَّ أقل مقدار في المهر هو هذا المقدار، لأنَّه لم يستبِحْ جزءًا من أجزاء المرأة -وهو البُضع- إلا بما يُستباح به قطع اليد.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهَا: أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الـمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِأُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ» ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُم كَانُوا إِذا سَرَقَ فِيهمُ الشَّرِيْفُ تَرَكُوهُ، وَإِذا سَرَقَ فِيهمُ الضَّعِيفَ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ, لَو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا». مُتَّفقٌ عَلَيْهِما، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ
وَلَهُ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقْطَعِ يَدِهَا)}.
قوله: (وَعَنْهَا)، أي: عن عائشة.
قوله: (أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الـمَخْزُومِيَّةِ)، أي: أنَّهم قد صعُبَ عليهم أن تُقطَع يدها مع مكانتها وعلوِّ منزلتها، ولذلك اهتمُّوا من شأنها.
قوله: (الَّتِي سَرَقَتْ)، ظاهره أنَّه سرقة على أصل معنى السَّرقة في اللغة.
قوله: (فَقَالُوا)، يعني: قريشًا قالوا...
قوله: (مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟)، وهذا كان بعدَ الفتح.
فَقَالُوا: (وَمَنْ يَجْتَرِأُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ»)، فيه أنَّه لا تجوز الشَّفاعة لإسقاط الحدود، ومنها حد السَّرقة.
قال: (ثُمَّ قَامَ)، يعني: النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: (فَاخْتَطَبَ)، فيه مشروعيَّة الخطبة من أجل إزالة ما يعلق بأذهان النَّاس من معانٍ.
قال: (فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ»)، فيه الابتداء بالنِّداء من أجل أن يلفت الأذهان لِمَا يُقال.
قوله: «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذينَ قَبْلَكُمْ»، يعني: السَّب الذي جعل مَن سبقكم من الأمم يهلكون هو «أَنَّهُم كَانُوا إِذا سَرَقَ فِيهمُ الشَّرِيْفُ تَرَكُوهُ»، أي لم يُقيموا عليه حد السَّرقة. قال: «وَإِذا سَرَقَ فِيهمُ الضَّعِيفَ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ»، وفي هذا دلالة على أنَّ الحد يُقام على كبير المنزلة وصغيرها، ويُشترط فيه أن يكون بالغًا.
قال: «وَايْمُ اللهِ»، فيه جواز القَسَم بمثل ذلك.
قال: «لَو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ»، ذكرها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكونها أصغر بناته، أو لِمَا لها من مكانةٍ خاصَّةٍ عنده.
قال: «لَو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»، فيه إثبات قطع يد السَّارق حتى ولو كان السَّارق ممَّن له منزلة ومكانة.
قال: (وَلَهُ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ)، فيه أنَّ مُستعير المتاع الذي يجحده بعدَ ذلك يُشرَع فيه قطع اليد وإقامة حد السَّرقة عليه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَقَدْ أُعِلَّ)}.
هذا الخبر من رواية ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، وابن جريج لم يسمع هذا الخبر من أبي الزبير، وإنما رواه من طريق ياسين الزَّيات عن أبي الزبير، وبالتَّالي تكلموا فيه وقالوا إنَّ فيه علَّة خفيَّة، وياسين هذا ضعيفٌ.
قال: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ»، المنتهب هو الذي يأخذ المال الظَّاهر غير الموجود في حرزه. والخائن: هو من لم يقم بالأمانة، مثل العامل ومثل الأجير.
وقوله: «وَلَا مُخْتَلِسٍ»، المختلس يأخذ المال بالخفية، ولكنه لا يأخذه من مال مُحرَز؛ فهؤلاء ليس عليهم قطع.
لعلنا نقف على هذا، باركَ الله فيكَ، ونُكمل -إن شاء الله- في لقائنا القادم -بإذن الله عزَّ وجلَّ- وأسأل الله -جلَّ وَعَلا- لكَ توفيقًا وهدايةً ورفعةَ شأنٍ، كما أسأله -جلَّ وَعَلا- أن يرزقَ المشاهدين الكرام العلم النَّافع، والعمل الصَّالح.
هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-30, 08:01   رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ الرَّابِعُ عَشَر (14)
معالي الشَّيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
بارك الله فيك، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بأحبِّتي الكرام ممَّن يُشاهد هذا اللقاء، سواء في بثِّهِ الأوَّل أو في إعادته.
{ما زلنا في باب حد السَّرقة من كتاب المحرَّر.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي أُمَيَّةَ الـمَخْزُومِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ قَدِ اعْتَرَفَ اعْتِرَافَاً وَلم يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «مَا إِخالُكَ سَرَقْتَ؟» قَالَ: بلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثاً، فَأَمَرَ بِهِ فقُطِعَ، وَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ: «اسْتَـغْـفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ» فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. فَقَالَ: «اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ» ثَلَاثاً. رَوَاهُ أَحْمدُ، وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ)}.
أكثر أهل العلم يُضعِّفونَ هذا الحديث؛ لأنَّه من رواية أبي المنذر مولى أبي ذر عن أبي أميَّة، وأبو المنذر هذا مجهول، وبالتَّالي فإنَّ الخبرَ لم يثبت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ)، يعني: بسارقٍ.
قوله: (قَدِ اعْتَرَفَ اعْتِرَافَاً)، هذا دليل على أنَّ الاعتراف طريق مِن طرق وسائل إثبات السَّرقة.
قال: (وَلم يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ)، يعني: المتاع الذي سرقه.
هنا لم يُؤمَر بردِّ المتاع، فأخذَ منه الحنفيَّة أنَّ السَّارق إذا قُطع فإنَّه لا يلزمه ردُّ المتاع، وهذا خلاف ظواهر النُّصوص كما في حديث «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ» .
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «مَا إِخالُكَ سَرَقْتَ؟»، يعني: لا أظنُّكَ سرقتَ، وهذا فيه تلقين المقرِّ بفعل الجريمة الحدِّيَّة.
قَالَ الرَّجل: (بلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثاً، فَأَمَرَ بِهِ فقُطِعَ)، فيه أنَّه إذا أقرَّ مرَّتين قُبِلَ منه، وبعضُ أهلِ العلم قال: إذا أقرَّ ثلاثَ مرَّات.
قوله: (وَجِيءَ بِهِ)، يعني: بعدَ إقامة الحد عليه.
فَقَالَ له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَـغْـفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ»، أي: اُطلب من الله المغفرة والعفو.
فَقَالَ الرجل: (أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ). فَقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ» قالها ثَلَاثاً.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ رَافعِ بنِ خَدِيجٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ)}.
قوله: «لَا قَطْعَ»، أي: أنَّ يدَ السَّارق لا تُقطَع متى وُجدَت السَّرقة في المسألتين الآتيتين:
• في الثَّمر: المراد به ما عُلِّقَ على الشَّجرِ، أو ما كان لازالَ في شجره، فهذا إذا سَرَقَه الإنسان فإنَّه لا قطع؛ لعدم وجود الحِرزِ، ومن شرط تطبيق الحد وجود الحرز
• في الجُمَّار، وذلك في قوله: «وَلَا كَثَرٍ»، وهو ما يكون في قلب النَّخلة، وهذا لا يجب فيه القطع.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ المِسْوَرِ بنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُغَرَّمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إِذا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَقَالَ: هَذَا مُرْسَلٌ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ عبدِ البَرِّ وَالبَيْهَقِيُّ وَغَيرُهمَا)}.
قوله هنا: (وَعَنِ المِسْوَرِ بنِ إِبْرَاهِيمَ)، المسور من تابع التَّابعين، وهو لا يروي عن جدِّه عبد الرحمن بن عوف إلا بواسطةٍ، فلمَّا حدَّثَ هنا عن عبد الرحمن مُباشرة بدون ذكر الواسطة تبيَّنَ أنَّه مُدلِّس، وبالتَّالي لابدَّ أن يذكر الواسطة بينه وبينَ شيخه.
قال: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُغَرَّمُ»)، أي: لا يُطلب من السَّارق أن يدفع قيمة ما سَرَقَه، ولذا قال: «لَا يُغَرَّمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إِذا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ»، كأنَّه يقول: اكتفوا بالحدِّ، وهذا مذهب الحنفيَّة، واستدلُّوا بأدلَّة منها هذا الخبر.
وهناك مَن قال: إنَّه يُغرَّم وهو مذهب جماهير أهل العلم.
والمسألة الأخرى: هل يجب إعادة قيمة ما سرقه، أو عينه إذا كانت لازالت عينه باقية أو لا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ وَذِكْرِ الْأَشْرِبَةِ
عَنْ أَنسِ بنِ مَالكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أُتِـيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَينِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ، قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمرُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لفْظُ مُسْلمٍ، وَهُوَ أَتَمُّ.
وَلهُ: عَنْ حُصَيْنِ بنِ الْمُنْذرِ أَبي سَاسَانَ قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ وَأُتِيَ بِالوَلِيدِ قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: أَزِيدُكُمْ؟ فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ، فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: إِنَّهُ لمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: قُمْ يَا حَسَنُ فَاجْلِدْهُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: وَلِّ حَارَّها مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا، فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا عَبدَ اللهِ بنَ جَعْفَرٍ، قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَجَلَدَهُ وَعَلِيٌّ يَعُدُّ، حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَالَ: أَمْسِكْ، ثُمَّ قَالَ: جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ)}.
قوله هنا: (وَلهُ) يعني: لمسلم.
قوله: (عَنْ حُصَيْنِ بنِ الْمُنْذرِ) أو حُظَين بن المنذر.
قال: (شَهِدْتُ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ)، وكان الخليفة، وفيه أنَّ الأقضية التي تكون من الخلفاء تشتهر.
قال: (وَأُتِيَ بِالوَلِيدِ) الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط، وهو مِن قَرابة عثمان.
قوله: (قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ)، على ما هو المشروع.
ثُمَّ التفت عليهم وهو لازال في الصَّلاة لم يُسلم بعد فقال: (أَزِيدُكُمْ؟ فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ)، فيه إثبات إقامة حد الشرب بشهادة الرجلين.
قال: (أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ)، فيه أنَّ الشَّهادة قد تكون بإثبات رُؤية الشُّرب، وقد تكون بإثبات رؤية أثرٍ من آثار السُّكرِ، وفيه أنَّ حدَّ الشُّرب يثبت بالشَّهادة للشرب، وبالشَّهادة أنَّه قد رُؤيَ يتقيَّأ.
فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (إِنَّهُ لمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا)، فهذا فيه دلالة على شُربِهِ.
فَقَالَ عثمان: (يَا عَلِيُّ، قُمْ فَاجْلِدْهُ)، يحتمل ثمانين جلدة ويحتمل أربعين جلدة.
وعَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- له مكانته ومنزلته، ولذا فلم يُرد أن يُباشر ذلك، فقال: (قُمْ يَا حَسَنُ)، وهو ابنه الكبير.
قال: (فَاجْلِدْهُ)، أي: حد الشُّرب.
فَقَالَ الْحَسَنُ: (وَلِّ حَارَّها مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا)، يقول: الذين كان يُعطيهم عثمان ويولِّيهم ويلتفت إليهم؛ فكانوا يتولَّونَ قارَّها -أي باردها- فهؤلاء ينبغي كما أنَّهم أخذوا هذه الأعطيات ونحوها، أن يتولوا حارَّها، ومن ذلك إقامة الحدود، فكأنَّ عليًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لم يرضَ من الحسن هذه الكلمة، وأراد منه أن ينفِّذَ أمر أمير المؤمنين؛ لأنَّ حق السَّمع والطَّاعة له واجب.
قال: (فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِ)، يعني: غضب منه وبقيَ في نفسه تجاهه كراهية لموقفه ذاك.
فَقَالَ: (يَا عَبدَ اللهِ بنَ جَعْفَرٍ)، ابن جعفر بن أبي طالب، فهو ابن أخي علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال: (قُمْ فَاجْلِدْهُ)، يعني: يجلد الوليد.
قال: (فَجَلَدَهُ وَعَلِيٌّ يَعُدُّ)، يعني: يعدُّ عددَ الجلدات.
قال: (حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَالَ: أَمْسِكْ)، أي: توقَّف.
قال علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ).
كيف يُخالفهم عمر؟
نقول: وهذه سياسة من عمر؛ لأنَّه رأى الناس يَتَسارعون في الشُّربِ فأراد أن يقطعَ منهم ذلك.
قال: (وَكُلٌّ سُنَّةٌ)، فَفِعْلُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِعْلُ أبي بكر سُنَّة، وَفِعْلُ عمر أيضًا سُنَّة؛ لأنَّه يُقتضَى به، والظَّاهر أنَّ اختلاف عدد الجلدات مع اختلاف الحال؛ هل انتشر الشُّربُ في الناس أو لا؟.
قال: (وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ)، المراد به جلد الأربعين أو جلد الثَّمانين، وكلاهما محتمل، والجمهور على أنَّ المراد به جلد الثَّمانين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبي سُفْيَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ: «إِذا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذا شَرِبَ الثَّالِثَةَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذا شَرِبَ الرَّابِعَةَ، فَاضْرِبوا عُنُقَهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ -وَالَّلفْظُ لَهُ- وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَقَدْ رَوَى جمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوَ هَذَا الحَدِيثِ)}.
قوله: (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبي سُفْيَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ)، يعني: مَن ثبتَ عليه أنَّه شرب الخمر ولو مرَّةً واحدة.
قال: «إِذا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ»، يعني: فاجلدوه حدَّ المُسكِر ثمانين جلدة، أو أربعين على الخلاف السَّابق.
قال: «ثُمَّ إِذا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذا شَرِبَ الثَّالِثَةَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذا شَرِبَ الرَّابِعَةَ، فَاضْرِبوا عُنُقَهُ»، كأنَّه يقول: لم يعُدْ هناك طرق لإصلاح هذا الرَّجل.
وبعض أهل العلم قال: إنَّ القتل في الرابعة مَنسوخٌ لِمَا وردَ في الحديث أنَّ النُّعيمان كان يُؤتَى به مرارًا مُتعدِّدَة ولم يكن من شانه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقتله؛ بل يُكرر عليه الحد.
ولعلَّ هذا من عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من باب السِّياسة؛ لأنَّه رأى النَّاس يتتابعون ويتسارعون في الشُّربِ فأرادَ أن يجزمَ في ذلك فأمر بالجلد ثمانين.
{أحسن الله إليكم، هل ضرب العنق في الرابعة من قول عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أم جاء في حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟}.
وردَ ذلك عن عمر، ووردَ في الحديث.
وقال طائفة: إن قوله في الحديث: «ثُمَّ إِذا شَرِبَ الرَّابِعَةَ، فَاضْرِبوا عُنُقَهُ» إنَّه على البتِّ ولكنَّه منسوخ بحديث النُّعيمان عندما أُتِيَ به قد شربَ مرارًا ولم يضرب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنقه.
وآخرون قالوا: إنَّ هذا على سبيل السِّياسة، فمتى رأى صاحب الولاية قتله في الرَّابعة فإنَّه حينئذٍ يجوز له أن يفعل ذلك، ولكن ليس على سبيل الحدِّ، وإنَّما على سبيل سياسة الخلق، ومعالجةِ أحوالهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنِهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ عُمرَ بنَ الْخطَّابِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ، مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْـخَـمْرُ: مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَثَلَاثٌ أَيُهَا النَّاسُ، وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْداً نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْـجَـدُّ، وَالكَلالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنَ أَبْوَابِ الرِّبَا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ).
قوله: (وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنِهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ عُمرَ بنَ الْخطَّابِ)، فيه رواية الرَّجل عن والده.
قوله: ( عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ )، فيه الرِّواية عن الكلام الذي يُحدَّث به العموم، ومن ذلك الرِّواية عن الرَّجل فيما ذكره من أحاديث في خطبة الجمعَة.
قوله: (يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ)، هذه اللفظة للفصل بعدَ الحمد والثَّناءِ على الله -جلَّ وَعَلا- والصَّلاة على نبيِّه؛ فيُؤتَى بهذه الكلمة للفصل.
قال: (أَيُّهَا النَّاسُ)، فيه نداء النَّاس في خطبة الجمعة.
قال: (فَإِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ)، يعني: عندما نزل تحريم الخمر في قوله -جلَّ وَعَلا: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَï´¾ [المائدة:90]، وكانت في ذلك الزَّمان تُصنَع من خمسة أشياء هي الموجودة عند العرب: (من العنب، ومن التّمرِ، ومن العسل، ومن الحِنطة ، ومن الشَّعير).
وفيه دلالة على أنَّ الخمر مُحرَّمَة، وأنَّه لا يُفرَّق بينَ ما إذا كانت مِن تَمرٍ أو من عِنبٍ أو من عسلٍ أو حنطةٍ أو شعير؛ فالعبرة من كونها مُسكِرَة.
قال: (وَالْـخَـمْرُ: مَا خَامَرَ الْعَقْلَ)، أي: ما خالطه وغطَّى عليه، فكل ما يُغطي العقل فإنَّه يُحكم عليه بذلك.
قال: (وَثَلَاثٌ أَيُهَا النَّاسُ، وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْداً نَنْتَهِي إِلَيْهِ)، يعني: كنتُ أرغبُ أن يكون هناك بيان واضحٌ جليٌّ في هذه الأمور
قوله: (الْـجَـدُّ)، يعني: في الميراث، إذا ورث جد وإخوة، فهذه من مسائل الخلاف:
• بعضهم يقول: الجد يَحجب الإخوة.
• وبعضهم يقول: الإخوة يُشاركون الجَدَّ في ذلك.
قوله: (وَالكَلالَةُ)، الكلالة: مَن ماتَ وليس له أبناء ولا بنات، ولا أُصول، فماذا يُفعل بتركته؟
قال: (وَأَبْوَابٌ مِنَ أَبْوَابِ الرِّبَا)، فإنَّ الرِّبا شأنه عظيم، وبالتَّالي كان بودِّ عمر أن تكون أحكام الرِّبا واضحة جليَّة لا احتماليَّة فيها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ الَّتِي حَرَّمَ فِيهَا الْخَمْرَ، وَمَا بِالْمَدِينَةِ شَرَابٌ يُشْرَبُ إِلَّا مِنْ تَـمْرٍ)}.
هذا فيه الرَّد على الحنفيَّة الذين يقولون: إنَّ الخمر إنَّما تكون من العنب فقط، وأمَّا ما عداه؛ فإنَّه لا يحرم منه إلا المقدار المُسكِر.
والجمهور يقولون: ما أسكَرَ كثيرة فقليله حرامٌ.
أمَّا الحنفية فيقولون: هذا نطبِّقه فيما يُطلَق عليه اسم الخمر في لغة العَرب، وهو ما كان مأخوذًا من العنب فقط، وأمَّا ما عداه من السِّلعِ فإنَّنا لا نحكم بالتَّحريم حتى يُوجد وصف الإسكار.
قال أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ الَّتِي حَرَّمَ فِيهَا الْخَمْرَ)، أي: الآية التي في سورة المائدة.
قال: (وَمَا بِالْمَدِينَةِ شَرَابٌ يُشْرَبُ إِلَّا مِنْ تَـمْرٍ)، ومثل هذا يبعُد ألا يُنكر عليه بقيَّة الصَّحابَة لو كان خطأً.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ». رَوَاهُمَا مُسْلمٌ)}.
هذا الخبر من أدلة الجمهور على أنَّ الشَّراب الذي من شأنِهِ أن يُسكِر فهو حرامٌ، أيًّا كانَ مَصدرَه ولو لم يكن مُسكرًا حقيقةً لكن من شأنه أن يُسكِر، فإنَّه يُمنَع منه.
قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»، أي: لا يجوز تناوله.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامَ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ والطَّحَاوِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَعبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو وَغَيرِهِم).
قوله هنا: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ»، أي: ما كانَ حدُّ الإسكارِ مِن هذا المائع شيء كثير؛ فبالتَّالي أدنى نسبة وأقل كميَّة فإنَّه يُحكَم عليها بالتَّحريم ولو لم تكن مُسكِرة، ولذلك نقول في العلَّة: أنَّ ما كان من شأنه أن يُسكِر، حتى ولو لم يكن يُسكِر حقيقةً، ولذا فإنَّ الظَّاهر أنَّ ما صُنِعَ من غير الأعناب فإنَّه يحرُم تناوله متى كان كثيره مُسكِرًا.
وهذا الحديثُ حسنُ الإسنادِ على ما ذكرَ العلماء، وذلك أنَّه مِن رواية داود بن بكر بن أبي الفرات، وهو صدوق.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَخْلِطَ بَينَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، وَأَنْ نَخْلِطَ البُسْرَ وَالتَّمْرَ، وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مِنْكُم: فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيْبًا فَرْدًا، أَو تَمْرًا فَرْدًا، أَو بُسْرًا فَرْدًا». رَوَاهُمَا مُسْلمٌ)}.
نهى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الخليطين في الأسقيةِ خشيةً من أن يتأثَّرَ بعضها ببعضها الآخر، وبالتَّالي يكون لها أثرٌ على الإنسان في صحَّتِهِ أو في زوالِ عقلِه، ولذا قال أبو سعيد: (نَهَانَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَخْلِطَ بَينَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ)، كلاهما مِن الأمور التي قد يُؤخَذ منها الخمر.
قال: (وَأَنْ نَخْلِطَ البُسْرَ وَالتَّمْرَ)، البُسْرَ هو: الرُّطب الذي جُنيَ حديثًا من النَّخلة.
قال: (وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مِنْكُم: فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيْبًا فَرْدًا»)، اسم النَّبيذ يصدُق على كلِّ ما نُبِذَ فيه ما يُؤثِّر عليه، فالعصيرات على نوعين:
• عصير تُطحَن مادته ويُضاف إليها الماء.
• وهناك ماء تطرحُ فيه بعض ما يُغيِّره، فهذا يُقال له: نبيذٌ، من النَّبذِ وهو الإلقاء.
قال: «مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مِنْكُم»، يُراد به: ما أُلقيَ فيه مُخالِطه من الفواكه ونحوها، وليس من شأنه أن يُسكِر.
قال: «مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مِنْكُم: فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيْبًا فَرْدًا»، أي: غير مُختلطٍ بغيره من الأنواع. قال: «أَو تَمْرًا فَرْدًا، أَو بُسْرًا فَرْدًا».
{هل هذا على الوجوب؟}.
اختلف أهلُ العِلم في النَّهي عَن الخليطين، هل حُكمه باقٍ أو هو مَنسوخ؟ والجماهير على أنَّه منسوخ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُنْبَذُ لَهُ الزَّبِيبُ فِي السِّقَاءِ فَيَشْرَبُهُ يَوْمَهُ والغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ، فَإِذا كَانَ مسَاءَ الثَّالِثَةِ شَرِبَهُ وَسَقَاهُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَهْرَقَهُ)}.
قوله: (وَلهُ)، يعني: للإمام مسلم.
قال: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُنْبَذُ لَهُ الزَّبِيبُ)، يعني: يُطرَح له الزبيب.
قال: (فِي السِّقَاءِ)، وهو ما يُوضع فيه الماء، وبالتَّالي يُغيِّر طعمه ويُصبح فيه حلاوة.
قال: (فَيَشْرَبُهُ يَوْمَهُ والغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ)، فيه النَّهي عن النَّبيذ بعد ثلاث؛ لأنَّه في الغالب يشتد ويتغيَّر.
قال: (فَإِذا كَانَ مسَاءَ الثَّالِثَةِ شَرِبَهُ وَسَقَاهُ)، أي: لم يُبقي منه شيئًا، أو يقوم بسقيه لغيره.
قال: (فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَهْرَقَهُ)، هذا فيه دليل على أنَّه لا يُشرَب النَّبيذ بعدَ ثلاث.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ التَّعْزِيرِ
عَنْ أَبي بُرْدَةَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
التَّعزير في لغة العرب: تقوية الشَّيء بالشَّيء، أو العقوبة غَير الْمُقدَّرة.
وذلك أنَّ العقوبات في الشَّرع على نوعين:
ïƒک النوع الأول: عُقوبة مُقدرة مَعروفة الْمقدار يُقال لها: الْحَدُّ.
ومن أمثلة ذلك: حَدُّ السَّارق، حّدُّ الزَّاني، حّدُّ القاذف، حّدُّ الرِّدَّة.
ïƒک النوع الثَّاني: عُقوبات غير مُقدَّرة، فيأتي الفقيه الحاكم فيقوم بوضع تقديرٍ لها، وهذه تُسمَّى العقوبات التَّعزيريَّة، وهي غَير مَعروفة المعالم؛ بل يأتي المجتهد فيجتهد في تطبيقها على أَجزائها.
والعُقوبات التَّعزيريَّة تُفارق الْحَدُّ في مسائل منها:
• أنَّ الحُدود مُقدَّرة، والتَّعزير ليس بمقدَّر.
• وأن التَّعزير يجوزُ العَفو عنه، وبحسب ما يَراه صاحب الولاية مِن المصالح، بخلاف الحدود فإنَّه لا يجوز لأحدٍ أن يعفوَ عنها.
واختلف الفقهاء في المقدار الذي يجوز أن يصل إليه التَّعزير:
• فهناك طائفة قالوا: لا يُجلَد في التَّعزير إلا في عشرةِ أسواط فما دون.
• ومنهم من يقول: في التَّعزير نصل إلى الحد الذي يكون على جنس تلك الجريمة، فمثلًا لو فَاخَذَ ما نزيده عن مائة التي هي حَدُّ الزِّنَا.
• ومنهم من يقول: لا حدَّ لأكثره، ولكن يُراعَى الحال التي يكون عليها صاحب تلك الجريمة.
وقد أوردَ المؤلف هنا حديث أبا بردة الأنصاري، وهو حديث صحيحٌ مُتفقٌ عليه، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ»، استدلَّ به مَن قال: إنه لا يجوز أن يتجاوز التَّعزير العشرة أسواط.
وآخرون قالوا: في قوله: «فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ» ليس المراد به الحدود التي هي العُقوبات المقدَّرة، وإنَّما المراد به المعاصي كما في قوله تعالى: ï´؟تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَاï´¾ [البقرة:229]، فعشرة أسواط فما دون يجوز أن تستعمل في التَّأديب وفي الإصلاح، ولكن في العُقوبات المبنيَّة على معاصٍ لا تدخل في هذا الخبر لقوله: «إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ»، وبالتَّالي قالوا: إنَّ هذا الخبر في التَّأديب وليس التَّعزيرات، فقوله: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ» يعني: أنَّ الحدود يُمكن أن يُتجَاوز بها هذا المقدار.
وبالتَّالي نعرف أنَّ أهل العلم قد اختلفوا في أعلى مِقدار التَّعزير، ومِن ثَمَّ ينبغي أن يوضَع لأصحاب الولاية القضائيَّة تقدير ذلك بما يرونَ أنَّه يُحقِّق المصلحة التي جاء الشَّرعُ بتحصيلها وتحقيقها.
وتُلاحظ في باب العُقوبات أنَّه ليس مُراد الشَّارع العُقوبة لذاتِ العُقوبة، وليس المراد به أن يكون هناك تقليل من مكانة مَن يُطبَّق عليه الحد؛ وإنَّما المراد بهذه الحدود وهي العقوبات أمور:
ïƒک أولًا: الرَّدعُ والزَّجر لئلا يفعل الآخرون مثل هذا الفعل، فيكثر في الناس تلك الجرائم.
ïƒک ثانيًا: أن ينتهي صاحب تلك الجريمة، وأن يُغفَرَ ذنبه، وبالتَّالي يكون هذا من أسباب صلاح أحواله، وقد جاءت النُّصوص بفضل مَن أقام الحدود وَعِظَمِ أَجْره عند الله -جلَّ وَعَلا.
ولعلَّنا نترك كتاب القضاء وما يتعلَّق به من أحكام للقائنا القادم -بإذن الله عزَّ وجلَّ- أسأل الله أن يُبارك فيكَ يا أبا أحمد، وأن يوفقك لكلِّ خيرٍ، كما أسأله -جلَّ وَعَلا- لكلِّ مَن ساهمَ معنا في التَّرتيب والتَّهيئةِ من مخرجٍ وفنِّيين أن يُوفقهم الله لما يحب ويرضى، وأسأله -جلَّ وَعَلا- لمن يشاهدنا علمًا نافعًا، وأن يكونوا ممَّن وقفوا عندَ حدود الله -جلَّ وَعَلا- كما أسأله -جلَّ وَعَلا- لجميع المسلمين حمايةً من كلِّ شرٍّ وسوءٍ، وأن يُصلح الله أحوالهم، وأسأله -جلَّ وَعَلا- لولاة أمور المسلمين أن يكونوا مِن أسباب الهُدى والتُّقَى والصَّلاح والسَّعادة، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا مُحدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العُمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-30, 08:01   رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ الخَامسُ عَشَر (15)
معالي الشَّيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ: الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، أُرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلَا- لنا ولهم توفيقًا ونجاحًا وسدادًا ورِفعَةَ درجةٍ في الدُّنيا والآخرة.
نشرعُ في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب "القضاء".
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الْقَضَاءِ.
عَنِ ابنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ: رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَجَارَ فِي الحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّار، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ فَقَضَى للنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْن مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ, وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ)}.
الحمدُ لله ربِّ العلمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فإنَّ الشَّريعة المباركَة سَعت إلى نزعِ النِّزاع، وإلغاءِ الخصومات بأكبرِ قدرٍ ممكنٍ، وذلك من خلالِ زرعِ مخافة الله في القلوب، وجعلِ النَّاس يستشعرونَ أنَّ الله يراقبهم، وتخويفهم من أن يأخذوا أمولًا لغيرهم، حتى ولو كان ذلك من طريقِ القضاء، ولذا قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُم تَخْتَصِمُونَ إليَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ».
ومِن هُنا لابدَّ أن نعلمَ أنَّ للشَّريعة طرائق كثيرة للقضاء على النَّزاعات، ومن ذلك: أمر النَّاس بالرَّدِّ إلى الكتاب والسُّنَّة، كما في قوله تعالى: ï´؟فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ غڑ ذَظ°لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًاï´¾ [النساء: 59].
وممَّا جاءت به الشَّريعة: تقرير مبدأ القضاء في الفَصلِ بينَ الخصومات ورفعِ النَّزاعات التي تكون بين النَّاس، ولإيصال الحقوق إلى أصحابها، ومن هنا كان النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتولَّى القضاء بنفسه، وأرسلَ أصحابه ليتولوا القضاء، فأرسلَ عليًّا ومعاذًا وجماعةً من الصَّحابة ليعملوا بعمل القضاء.
وحاولَ أن يُوجِدَ في النَّاس مهابةً لهذا المنصب العظيم من خلال بيان شيء من الشُّروط التي تكون لمن يتولَّى هذا العلم العظيم، ومن خلال زراعة مخافة ربِّ العزَّة والجلال، ومن هنا أشارَ المؤلف إلى بعض الأحاديث الواردة في ترهيب النَّاس من أن يتولَّوا القضاء، فلا يعطوه حقَّه من الاهتمام والعناية، وذلك أنَّ القضاء يحتاج إلى تأهيلٍ قبلَ الدُّخول فيه، فيحتاج إلى معرفة الله -جلَّ وعَلَا- ومعرفة الكتاب والسُّنَّة، ومعرفة طرائق فهم الكتاب والسُّنَّة، وطرائق تطبيق النُّصوص على الوقائع والأحكام التي تقع عند النَّاس.
ومن هنا جاء حديث بريدة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا الحديث أشار المؤلِّف إلى أنَّ إسناده جيد، فهو لم يبلغ رتبة الصحَّة، وبعضهم حاولَ أن يتكلَّمَ في ابن بريدة من هو، وأشار طائفةٌ من أهل العلم إلى أنَّه عبد الله بن بريدة أو هو سليمان، وكلاهما ثقة، وبعضهم تكلَّم في بعضِ رواة الصَّحيح، ولكن درجة رواته لا تنقص عن درجة الحسن، سواء شريك، أو خلف بن خليفة، أو غيرهم من الرواة؛ ولذا فالخبر حسن الإسناد، وكما قال المؤلف: (وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ).
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ»، يعني: ثلاثة أصناف وليس ثلاثة أفراد، ولا يلزم منه التَّساوي في العدد.
قال: «اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ»، يعني: من جِهة الاستحقاقِ الابتدائيِّ، وإلَّا فمِنَ المعلوم أنَّ صاحب التَّوحيد عاقبةُ أمرهِ إلى الجنَّة كما وردَ في النُّصوص.
أولهم: «رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ»، أي: كانَ عنده الأهليَّة للقضاءِ ولِتَمييز الحقوق، فقضَى بما يعرفه من الحقِّ، فهذا قد أحسنَ، وبالتَّالي يكون له الأجر والثَّواب، فيُقضَى عليه بأنَّه من أهل الجنة.
والثَّاني: «وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَجَارَ فِي الحُكْمِ»، أي رجلٌ عرف الحق ولكنَّه لم يقضِ به، ويجور في الحكم -بمعنى مالَ في الحكم- بحثُ أوصلَ الحق لغير أصحابه. قال: «فَهُوَ فِي النَّار».
والثالث: «وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ»، يعني: جاهل.
قال: «فَقَضَى للنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ»، إمَّا لكونه لا يعرف النُّصوص أو لا يعرف كيفيَّة فهمها، أو لا يتمكَّن مِن تطبيقِها على الوقائع، أو لا يكون له أهليَّةٌ في فَهم القضايا التي تُعرَض عليه فَهُوَ فِي النَّارِ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ أَوْ جُعِلَ قَاضِيًا بَينَ النَّاسِ، فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ)}.
السِّكين آلةٌ حادَّةٌ، والذَّبحُ بها يكون سببًا مِن أسباب السُّرعَةِ في الموت، ومعنى قوله: «فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» أنَّه تعذَّبَ كثيرًا فيما ذُبِحَ به، وهذا ترهيبٌ من هذا العمل العظيم.
وبعضُ أهلِ العلم قد تكلَّم في هذا الحديث؛ لأنَّه مِن رواية عثمان الأخنسي، وقد وقع الاختلاف فيه، وروى عنه جماعة، ووثقة ابن معين وابن حبان، وتكلَّم فيه آخرون، وقالوا ليس بذاك.
وعلى كلٍّ؛ فليسَ المراد أنَّ القاضي يُعذَّبُ بسببِ ذلك، وإنَّما المرادُ به أنَّ القضاء مهنةٌ صعبةٌ، وعملٌ ليسَ بالسَّهل، وبالتَّالي فذلك الذي تولَّى القضاء دخلَ بابًا عظيمًا، ومن ثَمَّ قد دخلَ أمرًا فيه اضطرابٌ لنفسه وقلقٌ عليه في حياتِه، وهذا يجعلنا نُشفِقُ على هؤلاء القُضاة ونعلم أنَّ ما يؤدُّونه من أعمالٍ هي أعمال جليلة وعظيمة، وبالتَّالي يتقرَّب الإنسان لله -جلَّ وعَلَا- بالدُّعاء لهم أن يسهل الله لهم في مهمَّتهم.
وهكذا ينبغي لمَن يدخل سِلكَ القَضاء أن يكونَ متوكِّلًا على الله -جلَّ وعَلَا- مستعينًا به، فهي مهمَّة عظيمة ليست بالسَّهلة، ولذا شبَّهها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالذَّبح بغيرِ سكِّينٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ, إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ)}.
قوله: «يَا أَبَا ذَرٍّ»، هذه وصيَّة من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للصَّحابي الجليل أبي ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وليس المراد هنا نهي الجميع عن الإمرة، ولذا قال: «إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا»، فمن كان كذلك فإنَّه ينبغي به أن يجتنَّب الولايات العامَّة، وأن يُحاول أن يتبعِدَ عنها بكلِّ ما استطاع، وبالتَّالي تبرأ ذمَّته في ذلك.
وأمَّا مَن كان قويًّا ويعرف مِن نفسه أنَّه لن يتأثَّر بالمؤثِّرات التي تأتيه؛ فحينئذٍ لا حرجَ عليه في أن يتولَّى مثل هذه الأعمال، وكما ذكرتُ لك أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعددًا من أصحابه كان يتولَّونَ الولايات العامَّة، سواء في إلإمارةٍ أو في قضاءٍ أو في غيرها.
وينبغي للإنسان ألَّا تكونَ نفسُه توَّاقة لذلك لذاتِ العمل، أو لذاتِ الأمرِ الدُّنيوي، وإنَّما يكون مرادُ الإنسانِ أن يرفع درجته في آخرته، فمتى كانت نيَّته كذلك كان هذا من أسباب عون الله -جلَّ وعَلَا- له، وبالتَّالي قبلَ أن يدخل الإنسان شيئًا من هذه الولايات لابدَّ أن يُلاحظ بعض الأمور:
ïƒک قوَّته في الحقِّ.
ïƒک وإخلاصه في نيَّته.
ïƒک ومعرفته بطرائق هذا العمل، وكيفية أدائه ليؤدِّيَه على الوجه المطلوب منه
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي»، في هذا أنَّ الإنسان ينصح غيره، حتى ولو لم يكن المنصوح قابلًا للنَّصيحة، أو قد يفسِّرها بغير ظاهرها.
ثم قال: «لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ»، وذلك لأنَّ مثلَ هذا قد يجعل الإنسان يحيف مع أحدهما، وقد لا يُؤدِّي العمل المطلوب منه على أكمل الوجوه.
قال: «وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ»، أي: لا تكون وليًّا على اليتيم في ماله؛ لأنَّه يخشَى أن تكونَ ما في نفسه من ضَعفٍ من أسبابِ ضياعِ شيءٍ من أموال اليتيم.
وكما تقدَّم أنَّ هذا ليسَ نهيًا للجميعِ، وإنَّما هو نهيٌ لمَن كانَ على صفةِ أبي ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولو تركَ النَّاس كلُّهم الإمارة لفسدت أحوالُ النَّاس، ولتمكَّنَ منها مَن ليس أهلًا لها، ومَن يُريد أن يُحقِّقَ مقاصدَ دنياه، وإنَّما المراد مَن كانَ على صِفة أبي ذر. ومثله في مال اليتيم، لو تركه الصُّلحاء وأهل الخير تولَّاه الفُسَّاق فأخذوا ماله ولعبوا به.
ومن ثَمَّ فيُقال: هذا الخبر إنَّما هو لأشخاص معيَّنين، مَن لا يكون عندهم قدرة أو قوَّة في الحقِّ بحيث يتمكَّنونَ من القيام بمثل هذه الأعمال على خيرِ الوجوه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّكُم سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
قوله: «إِنَّكُم سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ»، هذا خبرٌ نبويٌّ كريمٌ وقعَ مؤدَّاه في خطابه للصَّحابة وخطابه للأمَّة، ولذلك لا ينبغي بالإنسانِ أن يحرص على أن يتولَّى الأعمال العامَّة، وينبغي بالمؤمن أن يكونَ توَّاقًا لأن يتخلَّصَ منها، سواء كان في الولايات أو كانَ في الوزارات، حتى في الأعمال الدِّينيَّة، سواء في الإفتاء، أو في رئاسة جمعيَّة أو مركَزٍ، أو نحو ذلك، ترغب نفسه أن يُكفَى مثل ذلك العمل، وأن يوجَد من هو أطيب منه ومَن هو أفضل وأصلح منه لمثل هذه الولايات والإمارات.
قال: «وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، يقول: كأنَّكم في أوَّل الأمر تحرصون عليها، ولكنَّكم في آخرِ الأمر ستندمونَ على تلك الولايات التي كنتم تحرصون عليها.
وليس في هذا التَّحذير من الولاية لذاتها، وإنَّما فيه التَّحذير من الحرصِ عليها والرَّغبةِ فيها، وتمنِّيها لذاتها.
ثم قال: «فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ»، أوَّل ما نبدأ تأتينا المرضعة، وبالتَّالي فهي في أوَّلها أمرٌ مستحسنٌ مقبولٌ ترغبه النُّفوس.
قال: «وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ»، يعني في آخر ِالأمر سيكون هناك ندامة، فالإرضاعُ في أوَّل الأمرِ، وفَطْمُ الرَّضيع في آخره، فعندَ الفطمِ يحسُّ الإنسان بما فيه من آثار ومن ندامة حصلَت عليه بسبب تولِّيه مثل هذه الأعمال.
وبعض أهل العلم يقول: ليسَ المراد هنا بــالفاطمة الانتهاء مِن العمل، وإنَّما المراد بها الموت، لأنَّه يقطع عليه منافع تلك الولايات التي كان يتولَّاها.
وعلى كلٍّ؛ فينبغي للإنسان أن يعرف أنَّ هذه الأعمال إنَّما هي وسائل، فمَن جعلها وسيلة لاستجلاب رضا الله ورفعة درجته في الآخرة، وخدمة عباد الله؛ كان مأجورًا مثابًا في أدائه لهذه الأعمال والمهام، وأمَّا مَن جعلها لتحصيل الدُّنيا، ومن أجل الرِّفعَةِ فيها، ومن أجل أن يكون للإنسان مكانة في النُّفوس ويُثنَى عليه ويُمدَح بأفعاله؛ فحينئذٍ ينبغي به ألَّا يدخل في هذا الباب.
وعلى الإنسان أن يتفقَّد نيَّته في أيِّ عملٍ قبلَ أن يُقدِمَ عليه، فمن رغب الآخرة وعمل لها سهَّل الله له أمر دنياه وأمرَ آخرته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُم تَخْتَصِمُونَ إليَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»)}.
هذا الحديث متَّفقٌ عليه.
قوله: «إِنَّكُم تَخْتَصِمُونَ إليَّ»، يعني: في القضاء والخصومات، وهذا فيه دليل أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يتولَّى القضاء، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ عمل القضاء عملٌ عظيمٌ، ولذلك قام به الأنبياء-عليهم السّلام- وذلك للآثار الجميلة المتحقِّقَة من القضاء، ولا يلزم منه أن يكون القاضي مصيبًا في كل ما يُعرَض عليه، فقد يكون مخطئًا، ولكنَّه لا يحكم إلَّا بما يكون ظاهرًا.
قال: «ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ»، يعني: يستطيع أن يتكلَّمَ بها بما يجعل النَّاس يفهمونها على الوجه الذي تكون به حجَّة، بحيث يكون أعرَف بحجَّته وأفطنَ لمعانيها.
قال: «فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ»، يأتي أحدُ الخصمين ويعرف الدَّليل ويعرف مناط المسألة، والوصف الذي يُعلق به.
قال: «فَمنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا»، أي: مَن حكمت له بحكمٍ قضائيٍّ ترتَّب عليه أن يأخذ شيئًا من حقوق الآخرين.
قال: «فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»، وبالتَّالي لا يجوز له أن يأخذ به.
وفي هذا دليل على أنَّ حُكم القاضي لا يُغيِّر المسائل ولا يقلب الحلال ليكون حرامًا، أو الحرام ليكونَ حلالًا، وهذا على ثلاثة أنواع:
النَّوعُ الأوَّلُ: إذا كانت المسألة فيها دليلٌ قطعي؛ فحينئذٍ قضاء القاضي لا يُغير حقيقة الأمر باتِّفاق، ويجب نقض هذا الحكم القضائي.
النَّوعُ الثَّاني: إذا كان الحكم مبنيًّا على مناطٍ خاطئ، مثلًا أتى بشهودٍ فحكموا أنَّ الحق لفلان، أو الحق ليس لفلان؛ فحينئذٍ هل حكم القاضي يُغيِّر حقيقةَ المسألة ويقلب الحل ليكون حرامًا والعكس؟
جمهور أهل العلم قالوا: لا، شهادة الشُّهود والبيِّنات ومناط المسألة لا يُغيِّر حقيةَ الأمر، ولا يُغيِّر الحكم في المسائل المقضي فيها، ولا يقلب الحلال ليكون حرامًا.
وهناك مَن فرَّقَ بينَ القضايا الماليَّة وقضايا الأنكحة وغيرها، فقال: إنَّ ذلك يقلب الحق في أحدهما دون الآخر.
ولكن ظواهر النُّصوص ومنها هذا النَّص يدلُّ على خلاف ذلك.
النُّوعُ الثَّالثُ: المسائل الاجتهاديَّة التي قع فيها اختلاف واجتهاد، فحينئذٍ حكم القاضي يرفع الخلاف.
مثلًا: قد يختلفون في الشُّفعَة التي تكون للجار؛ هل تثبتُ له أو لا؟
الحنفية يقولون: نعم.
والجمهور يقولون: لا.
فلو كانَ القاضي يرى أحد الرأيين فحكم به؛ فحينئذٍ برئت ذمَّته ووجبَ على كلٍّ من المتقاضيين أن يعمل به.
فعملُه بما عَرِفَ فهذا محلُّ إجماعٍ، وأمَّا عملُه بما له فهو مِن مواطن الاختلاف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِذا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمدُ بِإِسْنَادٍ لَا يَصِحُّ منْ حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو: «إِذا قَضَى القَاضِيَ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ عَشَرَةُ أُجُورٍ، وَإِذا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ كَانَ لَهُ أَجْرٌ أَو أَجْرَانِ»)}.
قوله هنا: «إِذا حَكَمَ الْحَاكِمُ»، المراد بالحاكم: القاضي، والمعنى: إذا قَضى القاضي.
قوله: «فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ»، فلابدَّ أن يكونَ مؤهَّلًا، ولابدَّ أن يكون قد اجتهدَ في المسألة؛ فحينئذٍ إذا أصابَ كانَ له أجران، أجرٌ على الاجتهاد، وأجرٌ على الإصابة.
قال: «وَإِذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، فحينئذٍ هو معذورٌ في هذا الخطأ، ويكون له أجرٌ على اجتهاده.
وهذا يُبيِّنُ لك أنَّه لا يجوز للإنسان أن يتكلَّم في القضاة، حتى ولو حكموا بما يُخالف اعتقاد الإنسان في الحقِّ والباطل، حتَّى ولو حكموا عليك فيجب عليكَ أن تتقيَ الله في لسانك فلا تذكرهم إلا بالخير.
وأمَّا الحديث الآخر ففيه راوٍ مجهول اسمه سلمة بن أكسوم، وبالتَّالي لا يُعوَّل على هذه الرِّواية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بن أَبي بَكْرَةَ قَالَ: كَتَبَ أَبي -وَكَتَبْتُ لَهُ- إِلَى عُبيدِ اللهِ بن أَبي بَكْرَةَ، وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ، أَنْ لَا تَحْكُمَ بَينَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإِنِّي سَـمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا يَحْكُمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»)}.
هذا الخبر متفقٌ عليه.
أبو بكرة صحابيٌّ جليل، وكان ممَّن أسلمَ يوم فتح الطَّائف، فتدلَّى من الحصن، ودرسَ أولاده العلم وأصبحوا من أهله فتولوا القضاء.
قال عبد الرحمن بن أَبي بَكْرَةَ: (كَتَبَ أَبي)، فيه مشروعيَّة الكتابة بالنَّصائح والإرشاد، وفيه أنَّهم كانوا يحرصون على كتابة الأحاديث النَّبويَّة.
قال: (كَتَبَ أَبي -وَكَتَبْتُ لَهُ- إِلَى عُبيدِ اللهِ بن أَبي بَكْرَةَ، وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ)، سِجِسْتَانَ منطقة في وسط آسيا.
قال: (أَنْ لَا تَحْكُمَ بَينَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ)، غضبان صفة على وزن "فعلان" تعني الامتلاء من الشَّيء، تقول: "ملآن، وجوعان، وظمآن، ونحوها"، فمَن امتلأ من الغضب فحينئذٍ لا يجوز له أن يقضي.
لم يقل: "لا تحكم بين اثنين وفيك غضب"، وإنما قال: (وَأَنْتَ غَضْبَانُ)، وهذه جملة حاليَّة.
قال: (فَإِنِّي سَـمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا يَحْكُمُ»)، «لَا يَحْكُمُ» برواية الرَّفع للإخبار، وبرواية الجزم «لَا يَحْكُمْ»، للنَّهي، وخبرُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكون على الإيجاب، وإذا كان خبرًا بالنَّفي يكون على النَّهي.
قوله: «لَا يَحْكُمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ»، أيًّا كان هذا الحكم، سواء بين متخاصمين في مالٍ، أو متخاصمين من زوجين في قضايا اجتماعيَّة وأُسريَّة، أو في قضايا التَّحكيم.
قال: «وَهُوَ غَضْبَانُ»، يعني وهو ممتلئ من الغضب، وذلك لأن الغضبان يكون ذهنه مشوَّشًا، وبالتَّالي لا يتأمَّل في الحُجج والبيِّنات التي تُلقَى عليه.
وحينئذٍ نقول: إنَّ كلَّ ما يشوِّش ذهن القاضي فإنَّه يمنع من تولِّيه للقضاء، كما لو كان تعبًا يعجز عن النَّظر في تمام القضيَّة، أو كان سهرانًا، أو كان جوعانًا، أو يُريدُ قضاء حاجته؛ فإنَّ هذه أمور مشغلات للذهن، وبالتَّالي لا تُمكِّنه من استيعاب النَّظر في القضيَّة، وبالتَّالي قد يحكم بغير الحق فيها.
وفي هذا دليل على أنَّه لابدَّ من تهيئة الأسباب التي تجعل القاضي يحكم بالحقِّ، سواءً بإحضار الخصوم، أو بالاستماع إليهم، أو بتمكينهم من الإلقاء بحججهم أو بإعطائهم الأسباب التي تُبعد عنهم رهبةَ مجلس القضاء ونحو ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابنِكِ أَنْتِ، وَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلكُبْرَى، فَخَرَجَتا عَلَى سُلَيْمَانَ بنِ دَاوُدَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا, فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا، يَرْحَمُكَ اللهُ هُوَ ابْنُهَا, فَقَضَى بِهِ للصُّغْرَى». وَقَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، مَا كُنَّا نقُولُ إِلَّا: الـمُدْيَةَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَقَالَ البُخَارِيُّ: «لَا تَفْعَلْ, يَرْحَمُكَ اللهُ»)}.
هذه واقعة وردت في الصَّحيحين مِن قضاء داود وسليمان بن داود -عليهما السَّلام- وقد نُقل اختلافات في القضاء والحكم بينهما في مَسائل مُتعدِّدَة، وفي غالب هذه القضايا كان سليمان هو المصيب فيها، ولذا قال تعالى: ï´؟فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًاï´¾ [الأنبياء: 79].
وهذه القضيَّة مُتعلِّقة بقضايا الأمم السَّابقة، فهي نوعٌ مِن أنواعِ شرعِ مَن قبلنا، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنَّما حكاها لتكونَ لها فائدة، ومِن ذلك التَّأسِّي بهما في طريقةِ القَضَاء.
قال: «بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا»، فيه وجوب التحرُّز على الذُّريَّة وعدم تمكِين الأسباب المؤدِّيَة إلى التَّلفِ منهم، ومن ذلك تركهم للذِّئاب أو للهوامِّ، أو لمن يعبث بهؤلاء الأطفال.
قال: «فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابنِكِ أَنْتِ»، وانظر إلى ما في هذا من ذنبٍ عظيمٍ من حيث أنَّه سيترتَّب عليه إدخال أحدٍ في نسبِ تلك المرأة ونسب زوجها، فيترتَّب عليه مسائل مثل مسائل الميراث أو المحرميَّة والزَّواج، ونحو ذلك.
فكلاهما قالت للأخرى: «إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ».
قال: «فَتَحَاكَمَا إِلَى دَاوُدَ»، فيه أنَّ القضاء يفصل بين النِّزاعات والخلافات.
قوله: «فَقَضَى بِهِ لِلكُبْرَى»، هنا اجتهدَ فأخطأ في هذا الاجتهاد، وإنَّما حكم به للكبرى لكِبَرِ سنِّها، أو لما أدلَت به مِن حجَّةٍ.
قال: «فَخَرَجَتا عَلَى سُلَيْمَانَ بنِ دَاوُدَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ»، يعني لمَّا خرجتا من مجلسِ الحكمِ، فإذا بسليمان أمامهما، فأخبرتاه.
قوله: «فَقَالَ: ائْتُونِي بالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا», أي: أنَّني سأقوم بإعطاء كلِّ منكما نصف الولد، فهو يُريد أن يختبر هاتين المرأتين لماذا تطالبان به، هل لأنَّه ابنٌ أو لأنَّها تريد أن يلحق الأخرى من التَّلهُّفِ على ابنها مثل ما لحقها، وبالتَّالي قالت الصغرى: «لَا، يَرْحَمُكَ اللهُ هُوَ ابْنُهَا»، يعني لا تشق هذا المولود يَرْحَمُكَ اللهُ، فظهرت الشَّفقة عندَ الصُّغرى، فدلَّ ذلك على أنَّ الابن للصُّغرَى، إذ لو كان للكبرَى لمنعت الكبرى من شقِّه. قال: «فَقَضَى بِهِ للصُّغْرَى».
وفي هذا: القضاء بالقرائن المغلِّبَة على الظَّنِّ متى كان لها درجة مقاربة لليقين.
وفي هذا: الاستدلال بالقرائن على الإقرار، فيستجلب الإقرار من خلال عرض القرائن على الخصمين، وبالتَّالي يُقرُّ مَن عليه الحق بوجوب ذلك الحق عليه.
وفي الحديث: إخبار الإنسان أنَّه سيفعل شيئًا وهو لن يفعل استجلابًا لما يُحقق المصلحة، فسليمان -عليه السَّلام- قال: «ائْتُونِي بالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا»، وهو لن يفعل ذلك، وإنَّما أراد أن يختبر شفقة كلٍّ منهما.
وفي الحديث: أنَّ اللُّغة العربيَّة واسعة، وفيها من المترادفات الشَّيء الكثير، وأنَّ بعض الألفاظ قد تخفى على بعض أهل اللغة، ولذا لم يكن أبو هريرة يسمع بلفظ: "السِّكين"، وكانوا يُطلقون عليها "المُديَة"، وهناك أسماء أخرى للسِّكين غير هذا الاسم، وإنَّما المراد هو إحضار أحد هذه الأسماء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَن عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ ليْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا تَقَاضَى إِلَيْكَ رَجُلَانِ فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الآخَرِ، فَسَوفَ تَدْرِي كَيفَ تَقْضِي»، قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا زِلْتُ قَاضِيًَا بَعْدُ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا لَفظُهُ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ فِي كِتَابِ الْعِلَل، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ كُوفِيٌّ وَإسْنَادُهُ صَالحٌ)}.
هذا الحديث وقع الاختلاف في تصحيحه وتضعيفه، ومنشأ الخلاف فيه هو الكلام في أحد الرواة يُقال له حنش بن المعتمر، فإنَّ كثيرًا من أهل العلم قد ضعفه، ولكنَّهم قالوا إنَّه يُقوَّى به الأخبار، وهناك مَن قال إنَّه لا بأسَ به، أو صدوق فيكون خبره من قبيل الحسن، ولكن الحديث معناه معنًى صحيحًا، وقد وردت آثار مرفوعة وموقوفة ومقطوعة تدل على نفس معنى هذا الأثر من أنَّه لابد من استماع القاضي لكلام الخصمين قبل أن يقضي.
قال: «إِذا تَقَاضَى إِلَيْكَ رَجُلَانِ»، رجلان هنا صيغة تغليب، وإلا فالمراد خصمان أيًّا كانوا.
قال: «فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ»، أي بمجرَّدِ سماعِ كلامه.
قال: «حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الآخَرِ»، وبالتَّالي تُميز بين الكلامين وتقارِن بينهما.
قال: «فَسَوفَ تَدْرِي كَيفَ تَقْضِي»، لأنَّه إذا سمع لهما عرف المدَّعِي من المدَّعَى عليه، وتمكَّن من مقابلة الكلام ببعضه، وبالتَّالي المحق من غيره.
وقد ورد عن بعض السَّلف أنَّه قال: "مَن أتاكَ وعينُه مفقوءةٌ فلا تستعجلِ بالحكم معَه، فقد يكون خصمه قد فُقئت عيناه معًا"، وبالتَّالي لابدَّ من استماع الإنسان لكلام الخصوم.
وفي قصة داود -عليه السَّلام- في مسألة الشَّريكين اللذين اشتركا في بهيمة الأنعام؛ كان من أسباب اللوم أنَّه استمع لأحد الخصمين دون أن يستمع لخصمه الآخر، وبالتَّالي عتَبَ الله -جلَّ وعَلَا- عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ الدَّعَاوَى والبَيِّنَاتِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُم؛ لادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرينَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًَا، إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَعْمُهُ مَرْدُودٌ. وَلِلْبَيْهَقِيِّ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»)}.
هذا الحديث صحيح كما ذكر المؤلِّف، وقد أخرجه الشَّيخان.
وقوله هنا: (بَابُ الدَّعَاوَى)، يعني رفع الخصومات والمنازعات للقضاء.
قوله (والبَيِّنَاتِ)، هي الأدلة التي تثبت الحقوق لأصحابها، وبعضهم يقصر اسم "البيِّنة" على الشُّهود، وآخرون يعمِّمونَ اسم "البيِّنة" على كل ما وضَّحَ الحقَّ وأبانَه.
وهذا الحديث قد تكلم فيه بعضهم فقال: إنَّه موقوفٌ وليس مرفوعًا للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويُنسب هذا إلى الأصيلي، ولكن هو حديث صحيح ثابت الإسناد، رُوي من طرائق متعدِّدَة، ودلَّ عليه وشهد له عدد من الأدلَّة.
قال: «لَو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُم»، يعني لو قدَّرنا أنَّ كلَّ مَن ادَّعى دعوى أُعطِيَ بناءً على دعواه فقط؛ فحينئذٍ ستطيع الحقوق وستذهب إلى غير أصحابها، لأنَّه ما من شخصٍ يرغبُ في شيءٍ إلَّا وسيُقدِّم دعواه فيه متى كانت دَعواه سببًا مِن أسبابِ تحقيقِ مراده، ولذلك وُضع لنا قانون في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ»، بمعنى أنَّ المدَّعِي هو المُطالَب أولًا بالبيِّنات، فإذا لم يكن عندَ المدَّعي بيِّنات رجعنا إلى المدَّعَى عليه وطلبنا منه اليمين، وهذا هو الأصل والقاعدة العامَّة، ولكن لها مخالفات في مسائل عديدة.
ولذا فإنَّ الدعوى إذا لم يكن معها بيِّنة فلا قيمةَ لها حتى يكون معها بيِّنات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِيَمِيْـنٍ وَشَاهِدٍ. رَوَاهُ مُسلمٌ، وَتكَلَّمَ فِيهِ البُخَارِيُّ والطَّحَاوِيُّ)}.
قوله: (وَعَنْهُ)، يعني عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهما.
قوله: (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِيَمِيْـنٍ وَشَاهِدٍ)، يعني شاهد واحد.
الأصل في الحقوق أنَّها تثبت بشهادة شاهدين، كما قال تعالى: ï´؟وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ غ– فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىظ°ï´¾ [البقرة: 282]، يعني أن تنسى إحداهما فتذكرها الأخرى.
فالقاعدة: أنَّه لابدَّ من شهادة اثنين، أو شهادة رجل وامرأتين في الحقوق الماليَّة.
هل يُمكن أنَّنا نقتصر على شهادة شاهدٍ واحدٍ مع يمين المدَّعي فقط أو لا؟
الجمهور يقولون: يكفي ذلك، لما وردَ من الأحاديث (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِيَمِيْـنٍ وَشَاهِدٍ).
وحديث ابن عباس هذا قد تكلَّم فيه بعضهم، وذلك أنَّ هذا الخبر من رواية قيس بن سعد، وقد روى عن عمرو بن دينارٍ عن ابن عباس، وقالوا: قيس بن سعد لا يُعلَم أنَّه قد حدَّثَ عن عمرو بن دينارٍ بشيءٍ.
وردَّ عليه الجمهور فقالوا: قيس بن سعد ثقةٌ ولا يُعرَف عنه تدليس، وقد حدَّث عن عمرو بن دينار بصيغة التَّحديث الثَّابتة، ولذلك فهذا الحديث صحيح، ولذا أخرجه الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ تَعالى- في صحيحه.
وبالتَّالي نعرف الحكم في أنَّ القضايا الماليَّة التي لا يملك المدَّعي فيها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين؛ فحينئذٍ هل نقبل يمين المدَّعي وشاهدٍ واحد، أو نقول لابدَّ من شاهدين؟
قال الجمهور: يكفي شاهدٌ مع يمين المدَّعي لهذا الخبر وما ماثله.
وقال آخرون: لا نقضي إلا بشهادة اثنين، وهذا مذهب الحنفيَّة، قالوا: لأنَّ النُّصوص التي وردت ليس فيها إثبات قبول شهادة شاهد واحد مع يمين المدَّعي، فهذا الحكم زائدٌ على ما ورد في القرآن، والزِّيادة على نصِّ القرآن لا تقبل إلا بخبرٍ متواترٍ، وهذه أخبارُ آحادٍ.
والصَّحيحُ أنَّ الزِّيادةَ على النَّصِّ بيانٌ وليسَت نسخًا، وبالتَّالي لا مانعَ من إثباتِ الحكمِ بناءً على شاهدٍ واحدٍ مع يمينِ المدَّعي، لهذا الخبر.
وبعضهم قال: إنَّ هذا الخبر قد نَسِيَه راويه.
والصَّحيح أنَّ نسيانَ الرَّاوي لِمَا روى لا يقدَح في روايتِه إذا وُجِدَ مَن يَروي عنه قبلَ نسيانه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عُقْبَةَ بنِ الْحَارِثِ: أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبي إهَابٍ فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا, قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَعْرضَ عَنِّي, قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «وَكَيفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَـتْكُمَا؟» فَنَهَاهُ عَنْهَا, وَفِي لَفْظٍ: «دَعْهَا عَنْكَ»، رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ: «دَعْهَا عَنْكَ لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا»)}.
عقبة بن الحارث صحابي، كان يسكن في مكَّة، وتزوَّج أم يحيى بنت أبي إهاب، وجاءت له بأولاد، وبعدَ مدَّة جاءت أمة سوداء فقالت: (قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا)، وهذه شهادة امرأة واحدة.
فجاء عقبة إلى المدينة فذكرَ كلام الأمة السوداء من أنَّها ادَّعت أنَّها أرضعتهما، فأعرض النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنه، قال: (فَتَنَحَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَيفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَـتْكُمَا؟»)، والرَّضاع يمنع من النِّكاح كما في قوله تعالى: ï´؟حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِï´¾ [النساء: 23].
ولا يلزم في الرَّضاعة أن تكونَ قد رَضَعْتَ من أمِّ المرأة، أو تكون هي رَضَعَتْ من أمِّكِ، فقد ترضعان معًا مِن امرأةٍ أجنبيةٍ، فتصبح أختك من الرَّضاعة، وهو ما حدث هنا.
وفي الحديث:
- دليل على أنَّ الرَّضاع تُقبَل فيها شهادة المرأة الواحدة.
- وأنَّه لا يُشترط في الشَّهادة الحريَّة.
- وأنَّه إذا ثبتت الرَّضاعة بعدَ النِّكاح؛ فحينئذٍ ينفسخ النِّكاح ولا يبقى له أثر، وأَّما ما مضى فإنَّ الوطء كان بشبهةٍ، وبالتَّالي يثبت به نسب الأولاد.
والقولُ بأنَّ الرَّضاعَ يَثبت بشهادةِ المرأةِ الواحدة هذا مذهبُ أحمد، قال: لأنَّه من الأمور الخفيَّة التي لا يطَّلع عليها إلَّا النِّساء.
وقال الإمام الشَّافعي: لا يكفي فيه شهادة المرأة الواحدة، ولابدَّ من أربعٍ من النسوة، ورأى أن الحديث على سبيل الاحتياط، وليس على سبيل الوجوب.
والجواب: أنَّ قوله (فَنَهَاهُ عَنْهَا) الأصل أنَّ النَّهيَ يكون للمنعِ والتَّحريمِ.
وَفِي لَفْظٍ: «دَعْهَا عَنْكَ»، هذا لفظُ تحريمٍ صريحٍ، فيدلُّ على تحريم النِّكاح وتحريم البقاء معها. وفي لفظٍ قال: «دَعْهَا عَنْكَ لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا».
وبذلك نكون قد شرحنا هذا الخبر، باركَ الله فيكَ، ووفقكَ الله لكلِّ خيرٍ، وجزى الله المشاهدين الكرام كلَّ خيرٍ وباركَ فيهم، ورزقهم العلمَ النَّافع، والعملَ الصَّالح، كما أسأله -جلَّ وعَلَا- لجميع المسلمين أن تجتمع كلمتهم وتتآلف قلوبهم، وأن تُحقَنَ دماؤهم، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-30, 08:02   رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ السَّادِسُ عَشر (16)
معالي الشيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
الله يبارك فيك، وأهلًا وسهلًا، وأشرُفُ بكَ وبمقابلة إخواني ممَّن يشاهدوننا، بارك الله فيهم ووفقهم لكل خير.
{في هذه الحلقة نستكمل ما بدأناه من باب الدَّعاوى والبيِّنات.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- : أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُم فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
الحمدُ لله ربِّ العلمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فهذا الحديث حديثٌ صحيحٌ رواه الإمام البخاري، قال: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ)، تُعرَضُ اليمينُ على الْمدَّعى عليهم إذا لم يكن مع الْمدَّعي البيِّنَة.
إذا رفَضَ الْمدَّعى عليهم أن يحلفوا؛ هل تردُّ اليمين على الْمدَّعي، أو لا تردُّ ويُقضَى بالنُّكول؟
ïƒک قال أحمد: يُقضَى بالنُّكول.
ïƒک وقال الشَّافعيُّ: تُردُّ اليمين.
ولعلَّ قول الشَّافعي أرجح؛ لأنَّ فيه زيادة توثُّق، والْمدَّعي ما ادَّعى بهذه الأمور إلَّا وعنده يقينٌ بأنَّ ما ادَّعى من ماله، وبالتَّالي لا إشكال في عرضِ اليمين عليه.
إذن عرض اليمين في الأصل يكون على الْمدَّعى عليه، فإذا ادُّعيَ على جماعة؛ فحينئذٍ يُطلَبُ منهم جميعًا اليمين، ولكن إن أدَّوا اليمين بترتيبٍ فيما بينهم قُبِلَ منهم ذلك، وإلَّا فإنَّ القاضي يقوم بتنظيم هذه اليمين.
كيف يكون التَّنظيم بينهم؟
إن كان هناكَ مُدَّعًى عليه أصيل قُدِّمَ، ثم يُقدَّم كلُّ واحدٍ من الْمدَّعينَ بحسبِ كِبَر حجم مُشاركته في المسألة الْمدَّعى فيها.
وإن تساووا فحينئذٍ قال الجمهور: يُسهَمُ بينهم، واستدلوا بهذا الحديث: (فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُم فِي الْيَمِينِ)، فتُوضَع قرعة ليُعرَف أيُّهم الذي ينبغي تقديمه، وأيُّهم يحلف قبل الآخر.
وقد استدلَّ الجمهور بهذا على مَشروعية القُرْعة وضربِ السِّهام، وقد خالف في ذلك الحنفيَّة فقالوا: هو نوعٌ من أنواع الخرس والتَّخمينِ، والبناء على الظُّنون المجرَّدة.
نقول: ما دام أنَّه قد ثبتَ فِعله عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مواطن فوردَ عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه (إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِه) ، ونحو ذلك، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا» ، ونحو ذلك من النُّصوص؛ فدلَّ هذا على مَشروعيَّة القُرعَة في التَّمييز بينَ الحقوق التي لا ينفصل بعضها عن بعضها الآخر.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ سِماكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلحَضْرَمِيِّ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَلَكَ يَمِينُهُ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: «لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ» فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لـمَّا أَدْبَرَ: «أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَّنَ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ»)}.
هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم، قال: (جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ)، الأظهر أنَّ حضرموت وكندة قَبَائِل مِن قَبَائِل العَرب، فجاؤوا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتخاصمين يرفعون الدَّعوى، وفيه تولِّي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للقضاء.
قوله: (فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَبِي)، هنا تمييزٌ بينَ الْمدَّعي والْمدَّعى عليه، لأنَّ القاضي يُطالب الْمدَّعي بالبيِّنة، فإذا لم يكن مع الْمدَّعي بينة ذهب إلى الْمدَّعى عليه وطلبَ يمينه.
ومناط القضاء: هو معرفة مَن هو الْمدَّعي ومن هو الْمدَّعى عليه.
ïƒک وبعضهم يقول: إنَّ الْمدَّعي هو المتكلِّم أولًا.
ïƒک وبعضهم يقول: لا؛ الْمدَّعي مَن إذا تركَ تُرِكَ، بحيث لو تركَ الدَّعوى انتهت، بخلاف الْمدَّعي عليه، فإنه لو تركَ الدعوى لم تنتهِ الدَّعوى.
وآخرون قالوا: الْمدَّعى عليه هو مَن كانت العَين الْمُتنازَع عليها بيده.
فهذه عَلامات مِن عَ لامات التَّفريق بينَ الْمُدِّعي والْمدَّعى عليه، وأساسُ القضاءِ في التَّفريق بينهما، ومَن عَرَفَ كيف يُفرِّق بينَ الْمدَّعي والْمدَّعى عليه أمسكَ بأوَّلِ الطَّريقِ في باب القضاء.
هنا الحضرمي تكلَّم؛ فكأنَّه الآن أصبحَ مُدَّعيًا، فقال: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا)، يعني: الْكِنْدِيُّ (قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَبِي)، يعني: كان يملكها سابقًا وورثها من أبيه، وفيه إثبات إرث الأرض، وأنَّ الأبناء يرثون من أبيهم.
فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: (هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي)، أثبتَ وجود يدَه عليها.
قال: (أَزْرَعُهَا)، هنا قرينة وضع اليدِ، وهذه قرينة قويَّة تدلُّ بطريقِ الظَّنِّ على أنَّ العَين مملوكة لمن هي بيده.
قال: (لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ)، وهذا إنكارٌ للدَّعوى، ولو أقرَّ له لحَكَمَ له؛ لأنَّ الإقرار سيد الأدلّة وهو حُجَّة.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلحَضْرَمِيِّ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟»، الآن عرفنا الْمُدَّعِي من الْمدَّعى عليه، والْمُدَّعي هو الذي يُطالَب بالبينة وهو الذي ليس معه وضع يدٍ على العين المتنازَع فيها.
قَالَ: (لَا) أي: ليس عندي بيِّنَة.
قَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَكَ يَمِينُهُ»، أي: إذا لم يكن معكَ بيِّنَة يا أيُّها الْمدَّعي فلا سبيل للحكم إلَّا يمين الْمدَّعى عليه -كما في الخبر السابق- «ولكن اليمين على المدعَى عليه».
قَالَ الحضرمي: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ)، أي: لا يَتورَّع عن أن يحلف وهو كاذب.
قال: (وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ عَنْ شَيْءٍ)، أي: لا يدفع عن نفسه اليمين الكاذبة.
وفي هذا: أنَّ السِّباب الْمتعلِّق بالدَّعوى في مجلس القضاء لا يُؤاخذ الإنسان به، فإذا تكلم عليه بمثل هذا الكلام خارج مجلس القضاء لعُزِّرَ، ولكن لَمَّا تكلَّم به في مجلس القضاء من أجلِ فائدةٍ وثمرةٍ؛ فحينئذٍ عُفيَ عنه.
والأصل أنَّ المسلم لا يذكر المسلم إلَّا بالخير، إلَّا إذا كانَ هناك مَصلحة شرعيَّة.
فَقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ»، أنتَ لم تحضر البيِّنة، فننتقل إلى الْمدَّعى عليه ونُطالبه باليمين.
قال: (فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ)، أي: الْكِنْدِيُّ وهو الْمُدَّعَى عَليه.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لـمَّا أَدْبَرَ: «أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَّنَ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ»، يعني: يوم القيامة.
وفيه شدَّة إثم مَن حلف بيمين كاذبةٍ ليقتطع مال غيره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي أُمَامَةَ الْحَارِثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»، فَقَالَ لَهُ رجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيْـبًا مِنْ أَرَاكٍ». رَوَاهُمَا مُسْلمٌ)}.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ»، أي: مَن أخذَ حقَّ امرئٍ مسلمٍ.
قوله: «بِيَمِينِهِ»، أي: بيمين فاجرةٍ كاذبة.
قال: «فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ»، أي: جعله من أهلها.
قال: «وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»، يعني: على سبيل الابتداء.
قوله: (فَقَالَ لَهُ رجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟)، يعني: هل هذه العقوبة الشَّديدة تتعلَّق بأخذِ مالٍ يسيرٍ؟
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ قَضِيْـبًا مِنْ أَرَاكٍ»، يعني: السِّواك.
وفي الحديث:
ïƒک تحريم اليمين الكاذبة، وعظم إثم اليمين الفاجرة التي يترتَّبُ عليها أَخذ أموال الآخرين.
ïƒک وجوب أن يتورَّع الإنسان عَن مَال غَيره.
ïƒک حُكم القاضي بناءً على اليمين الفاجرة لا يجعل المحرمات حَلالًا، وإلَّا لسلِمَ من العقوبة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ الْأَشْعَثِ بنِ قَيسٍ قَالَ: كَانَتْ بَيْنِي وَبَينَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ»، فَقُلْتُ: إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي، فَقَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بهَا مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قال الأشعث: (كَانَتْ بَيْنِي وَبَينَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ)، فيه أنَّ الخُصومَة لا تُنقِص من مكانة الشَّخص ، وهم صحابة في عهد النُّبوَّة.
قال: (فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه الرجوع إلى القضاء الشَّرعي في منازاعات الناس وخصوماتهم، ولا يُترَك الأمر للهوَى، ولا يُترَك الأمر لمَن يحكم بخلاف الكتاب والسُّنَّة.
فَقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للأشعث وهو مُدَّعٍ: «شَاهِدَاكَ»، أيُّها الْمدَّعي وهي البيِّنَة.
قال: «أَوْ يَمِينُهُ»، يعني: يمين الْمدَّعى عليه، وذلك أنَّ الْمدَّعى عليه الآن عنده وضع يدٍ على هذه البئر.
فقال الأشعث: (إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي)، أي: لو رددت الأمر إلى يمينه فلن يتورَّع عن الحلف بيمينٍ كاذبةٍ.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بهَا مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ»، يعني: كاذب «لَقِيَ اللهَ»، يعني: يوم القيامة «وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ»، فيه شدَّة إثم أولئك الذين يحلون كذبًا وزورًا إذا تعلَّقَ بأيمانهم أخذُ حقوق الآخرين.
وفي هذا الحديث والحديث الذي قبله: إشارة إلى أنَّ القاضي ينبغي به أن يعظ الخصمين، وأن يذكرهما بالله -جلَّ وعَلَا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ سَعيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعيدِ بنِ أَبي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبي مُوسَى: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دَابَّةٍ لَيْسَ لوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ ماجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَهَذَا لَفظُهُ وَقَالَ: إِسْنَادُ هَذَا الحَدِيثِ جَيِّدٌ)}.
هذا الحديث وقع الاختلاف في رواته، فاضطرب الرواة فيه واختلفوا، ولذلك ضعَّفَه بعضُ أهل العلم بسببِ هذا الاختلاف.
قوله في هذا الخبر: (عَنْ أَبي مُوسَى: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دَابَّةٍ)، فيه الرُّجوعِ إلى القاضي الشَّرعي فيما يحدث من المنازعات بينَ الناس، وفيه أنَّ النَّزاعات قد تكون في المنقولات كما تكون في العقارات.
قوله: (لَيْسَ لوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ)، يعني: لا يوجد شهود لا مع هذا ولا مع ذاك، والذي يظهر أنَّه ليس هُناك وضع يد، إمَّا أنَّه لا يوجد يد عليها، أو أنَّها تحت يد رجل أجنبي كمستأجرٍ استأجر دابَّةً ليركبها، فلمَّا جاء يُعيدها فإذا برجلين كلٍّ منهما يدَّعي أنَّ الدَّابة له، ونسي المستأجر مَن هي له.
قال: (فَقَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ)، لعدم وجود البيِّنَة في ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا بَعِيرًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَيْنِ، فَقَسَمَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ)}.
هنا لا توجد يد، وكلٌّ من المتخاصمين عنده بيِّنَة، فلمَّا تقابَلت البيِّنتان ولا نعرف مَن هو الْمدَّعي والْمدَّعى عليه؛ قلنا: تساقطت البيِّنات، وبالتَّالي نُثبت المِلك لهما على النِّصفين.
لكن لو عرفنا الْمدَّعي مِن الْمدَّعى عليه فإنَّنا نطالب الْمدَّعي بالبيِّنَة، فإن لم يكن عنده بيِّنَة طالبنا الْمدَّعى عليه باليمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِم، وَلَا يُزَكِّيهِم، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالفَلاةِ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيْلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِاللَّهِ لأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا؛ فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وفَى، وَإنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، ولِلبُخَارِيِّ: «وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ؛ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ»)}.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ»، يعني: ثلاثة أصناف.
قوله: «لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ»، فيه إثبات صفة الكلام لله -جلَّ وعَلَا- والمراد هنا: كلام الرِّضا، وليس المراد كلام المحاسَبة.
قال: «وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِم»، فيه إثبات هذا الفعل له -جلَّ وعَلَا.
قال: «وَلَا يُزَكِّيهِم»، أي: لا يُطهرهم، قال: «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».
أولهم: «رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ»، يعني: على ماءٍ زائدٍ.
قال: «بِالفَلاةِ»، يعني: بالصَّحراء.
قال: «يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيْلِ»، أي: من المسافر المحتاج إلى الماء.
وفي هذا وجوب بذل الماء للمحتاج إليه إذا كنتَ مُستغنيًا عنه زائدًا عن حاجتكَ، وفيه شدَّة تحريم منع الماء من ابن السبيل إذا كان زائدًا عن الحاجة، وقد وردَ أنَّ النَّاس شُركاء في ثلاث منها: الماء.
وقيل: إنَّ المراد الماء غير المحوز مثل: مياه الآبار أو مياه الأنهار، أو مياه الأمطار، أمَّا ما كان محوزًا من المياه فهذا مملوكٌ، وبالتَّالي لا يحق لأحدٍ أن يستعمله إلَّا بإذن صاحبه.
قال: «وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِاللَّهِ لأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا؛ فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ»، يعني: كاذب، وفيه منع الحلف كذبًا من أجل تنفيق السِّلعة وإمرارها.
قوله: «وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا» يعني: بائع ومشترٍ، سواء رجل أو امرأة.
قوله: «بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ»، هنا استدلَّ بعض العلماء بهذه اللفظة على أنَّ اليمين يُمكن أن تتغلَّظ، فإنَّ القاضي قد يرى أنَّ الْمدَّعى عليه قد يتهاون في اليمين إذا لم تكن مغلَّظَة، فيقوم بتغليظها، والتَّغليظ له ثلاث وسائل:
ïƒک تغليظ في الزَّمان: كما في هذا الحديث في قوله: «بَعْدَ الْعَصْرِ».
ïƒک وتغليظ في المكان: كما عند الكعبةِ، وعند منبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ïƒک وتغليظٌ في الألفاظ.
وبعض العلماء قال بمشروعيَّة التَّغليظ بهذه الأمور الثلاثة، وخالفهم آخرون، وهذا الدليل دليلٌ لمَن يقول بمشروعيَّة التَّغليظ في اليمين.
وفي هذا الحديث: أنَّه ينبغي للإنسان أن يُصدِّق مَن حلف له بالله -جلَّ وعَلَا.
وقوله: «وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا»، والمبايعة قد تكون باللفظ، وقد تكون بالمصافحة، وقد تكون بالاعتقاد، فإذا اعتقدَ صحَّة ولاية هذا الولي يُقال عنه: بايَعَ، ولا يجوز للإنسان أن يكونَ قلبُه خليًّا من البيعَة، فقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» .
قال: «لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا»، البيعة أمر مشروعٌ وعبادة يُتقرَّب بها إلى الله -عز وجلَّ- وبالتَّالي ينبغي أن تكون نيَّة الإنسان فيها الآخرة، بيعة الأئمة وأصحاب الولاية ينبغي أن نتقرَّب بها إلى الله، وأن نجعلها ديانة نعبد الله -عز وجلَّ- بها.
وبوجود الإمام تسكن أحوال الناس وتستقر أمورهم، ويبتعد عنهم الخوف، وينتشر الأمن، وبالتالي يتمكنون مِن مزاولة أمور عباداتهم وأمور دنياهم، وأمَّا إذا لم يكن للناس إمام فإنَّ أحوال الخلق تضطرب ولا يأمنون، وبالتَّالي لا تزدهر أمورهم.
وفي هذا الحديث دليلٌ على مَشروعيَّة وضع الأئمة، وفيه أيضًا أنَّه ينبغي للإنسان أن يجعل مَقصده ونيَّته في كل أموره للآخرة، يُريد ما عند الله -جلَّ وعَلَا- ويُريد أن تعلو دَرجته عند الله، وأن يرضى الله-عزَّ وجلَّ- عنه.
قال: «فَإِنْ أَعْطَاهُ وفَى»، يعني: هذا الرجل الثالث الذي لا يكلمه الله ولا ينظر إليه يوم القيامة ولا يزكِّيه؛ بايع إمامه للدنيا، إن أعطاه من الدنيا وَفَّى وقام بالبيعةِ، وَإنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ؛ وبالتَّالي ينبغي للإنسان أن يجعل البيعة أمرًا شرعيًّا مَقصودًا به إرضاء الله والحصول على أجر الآخرة، لا نسمعُ ونطيعُ من أجلِ وظيفةٍ، أو من أجلِ راتبٍ، أو من أجلِ توفُّر المأكل والمشارب، أو من أجلِ توفُّر الأموال؛ وإنَّما يُسمَع لصاحب الولاية ويُطاع له ويُوفَّى ببيعته طاعةً لله -جلَّ وعَلَا- ورغبةً في أجرِ الآخرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَبدِ اللهِ بنِ نِسْطاسٍ، عَنْ جَابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ، تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». رَوَاهُ الإِمَامَانِ مَالكٌ وَأَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ ماجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ)}.
قوله: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا»، فيه دليلٌ لِمَن يقول بمشروعيَّة تغليظ اليمين، وأنَّ من أنواع التَّغليظ: التَّغليظ المكاني.
قوله: «بِيَمِينٍ آثِمَةٍ»، أي: كاذبة، ووصفها بالإثم؛ لأنَّ الإثم أثرٌ وَحُكمٌ مِن أحكام اليمين الكاذبةِ الفاجرة.
قال: «تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، يعني: على سبيل الابتداء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الشَّهَادَاتِ
عَنْ زَيدِ بنِ خَالِدِ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا». رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ عِمرَانَ بنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» قَالَ عِمْرَانُ: فَلَا أَدْرِي أَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، «ثُمَّ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَـرُ فِيهُمُ السَّمَنُ»)}.
الشَّهادات: هي البيِّنَة التي تُثبَت بها الحقوق.
وقال بعضهم: هي أحدُ أنواع البيِّنات، وأدخلوا القرائن في البيِّنات.
والشَّهادة أقوى من القرائن؛ لأنَّ فيها تعليق الحكم بالذِّمم، وبالتَّالي يتعلَّق هذا الحكم بذمَّة هذا الشَّاهد، فهي أقوى من الكتابات، وأقوى من الرُّهون، وأقوى من غيرها من أنواع ما يثبت الحقوق، وذلك لأنَّ الحقَّ فيها يُمكن أن يُعلَّق بذِّمَّةٍ.
قال: (عَنْ زَيدِ بنِ خَالِدِ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟»)، يعني: بأفضل مَن يشهد.
قال: «الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا»، يعني: يُبادر بالشَّهادة، وقد ورد في حديث آخر: «ثُمَّ يَكُونُ بَعدَهُمْ قَوْمٌ يشهدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ» ، يعني: يُبادرون بالشَّهادة ولا تطلب منهم الشَّهادة، وأتى بهم على صفة الذَّمِّ؛ فكيف نجمع بينهما؟
الجواب: هناك ثلاثة طرق من طرق الجمع:
الوجه الأوَّل: أنَّ قوله: «وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ»، أي: أنَّ النَّاس لا يثقون فيهم فيُشهدونَ على أمورهم، فلا يُوجَد تعارض، فالاستشهاد هُنا على سبيل المشاهدة والتَّلقِّي، وليس على سبيل الأداء، بينما الحديث الأول على سبيل الأداء.
الوجه الثَّاني: أنَّ الحديث الأوَّل فيمَن كان لا يُعلَم أنَّ لديه شَهادة فيأتي بها، والحديث الثَّاني فيمَن يُعلَم أنَّ عندَه شهادة ولم تُطلَب منه، فينبغي به أن يُخبر أصحاب الحق أنَّ لديه شهادة، ولا يأتي بها حتى يطلبوها منه.
والوجه الثالث: أن قوله: «الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» يعني: أنَّه يُحقِّق الفعل المتعلِّق بإثبات ذلك الحق لأصحابه، وبذلك نعرف وجه الجمع بين هذين الدَّليلين.
وفي حديث عِمرَانَ بنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي»، فيه فضيلة الصَّحابة وعِظَم مكانتهم وأجرهم، وعلو منزلتهم عند الله -جلَّ وعَلَا.
قال: «ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهُمْ»، أي: من التَّابعينَ، قال -جلَّ وعَلَا: ï´؟وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَاï´¾ [التوبة:100]، فهذا فيه فضل الصَّحابة وفضل التَّابعين ومَن سارَ على طريقتهم، وفيه المنع من سبِّ الصَّحابَة، والتَّحذير من سوء عاقبته دنيا وآخرة.
قال: «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، فيه فضيلة القرون الثلاثة. قَالَ عِمْرَانُ: (فَلَا أَدْرِي أَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا).
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ»، أي: يُبادرون للشهادةِ.
قال: «وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ»؛ لأنَّهم لا يُوثَقُ بهم.
قال: «وَيَخُونُونَ»، أي: لا يؤدُّونَ الأمانات إلى أهلها.
قال: «وَلَا يُؤْتَمَنُونَ»، أي: لا يرضى الناس بأمانتهم.
قال: «وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ»؛ لأنَّ مَن نذرَ أن يُطيعَ الله فليُطِعْهُ.
قال: «وَيَظْهَـرُ فِيهُمُ السَّمَنُ»، يعني: في أبدانهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبي بَكْرَةَ قال: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ -ثَلَاثًا: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وعُقُوقُ الْوَالِدَينِ وَشَهَادَةُ الزُّور أَو قَوْلُ الزُّورِ» وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِما، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله هنا: (كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه حِرص الصَّحابَة على البقاء عند النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليستفيدوا منه ويتعلَّمُوا منه، وفيه التَّرغيب في ذهاب الإنسان إلى أهل العلم ليستفيد منهم.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ»، أي: ألا أخبركم؟
وفي الحديث:
ïƒک عرض الإنسان ما لديه من العلم من أجل أن يُستفاد منه.
ïƒک وأنَّ الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وأنَّ الكبائر ليست على رُتبةٍ واحدةٍ؛ بل بعضها أكبر مِن بعضها الآخر.
ïƒک تكرار اللفظة من أجلِ شدِّ الأذهانِ، وجعل النَّاس ينتبهون.
وبعضهم قال: إنَّ قوله (ثَلَاثًا)، أي: ألا أنبئكم بأكبرِ ثلاث كبائر؟
أولًا: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ»، والمراد به: صرفُ العبادة لغير الله تعالى، كمَن صلَّى لغيرِ الله، وكمَن نذرَ لغيرِ الله، وكمَن دعا غيرَ الله، والإشراك جريمةٌ كبرى، قال تعالى: ï´؟إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ غ– وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍï´¾ [المائدة: 72].
ثانيًا: قوله: «وعُقُوقُ الْوَالِدَينِ»، عقوق الوالدين يشتمل على معنيين:
ïƒک إيذاءهما.
ïƒک والتَّقصير في حقِّهما.
والوالدان في الأصالة تُطلَق على الأب والأم، ولكن الأجداد يدخلونَ على جهةِ التَّبعِ.
ثالثًا: «وَشَهَادَةُ الزُّور»، المراد بالزُّور: الشَّهادة الكاذبَة، واليمين المتعلقة بخبرٍ مَاضٍ يُخالف به المتكلِّم الواقع، وشهادة الزُّور كبيرة من الكبائر، وليس فيها كفَّارة، وإنَّما اليمين المكفَّرة تكون الأمور المستقبليَّة، أمَّا الأمور الماضية فالكذب فيها شهادة زور، ولا يَشرع فيها كفارة يمين.
قال: (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَّكِئًا)، أي: قد استندَ على شيءٍ حوله.
قال: (فَجَلَسَ)، أي: وثبَ جالسًا، لاهتمامه بالأمر.
قال: (فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا)، أي: يُكرر قوله: «وَشَهَادَةُ الزُّور»، وفيه تَكرار العلم، وفيه التَّنبيه بتَكرار اللفظة.
قال: «حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ»، ليس هذا منهم على جهة الرغبَة عن كلام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإنَّما المراد أنَّهم أشفقوا عليه، ورأوا أنَّه قد اهتمَّ من ذكرِ شهادة الزُّور، وبالتَّالي رغبوا أن يبتعد عنه هذا الاهتمام، وهذا التَّأثُّر بشهادة الزُّورِ وقول الزُّور، ممَّا يدلُّ على عِظَم إثم أصحابها، خُصوصًا إذا ترتَّبَ عليها ضياع الحقوق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عُمَرَ بنِ الْخطَّاب-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُم الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُم، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمَّنَاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
قوله: (إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ)، فيه التَّحري في أحوال الشُّهود والرُّواة، وطلب تزكية هؤلاء الشُّهود، وفيه أنَّ المعتبَر في العدالة من أحوال الشُّهود العدالة الظَّاهرة، وأمَّا الأمور الباطنة فهذه إلى الله -جلَّ وعَلَا.
وفي هذا أنَّه لا يُشرَع التَّنقيب عن السَّرائر التي تكونُ عندَ الناس، وأن يُكتَفَى بظواهرهم، إلا أن يَظْهَر من الإنسان بعد ذلك مَا يَدل على مُراده وحقيقته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ: وَقَالَ لي عَليُّ بنُ عَبدِ اللهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ آدمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبي زَائِدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ أَبي الْقَاسِمِ، عَنْ عَبدِ الْمَلِكِ بنِ سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ، فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا مِنْ ذَهَبٍ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فَحَلفَا: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِه الْآيَةُ: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْï´¾ [المائدة:106]).
قوله: (وَقَالَ)، يعني: قال البخاري.
قوله: (وَقَالَ لي عَليُّ بنُ عَبدِ اللهِ)، يعني: المديني، ويُحكم على هذا أنَّه متصلٌ.
قال: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ)، بنو سهم فَخِذْ مِن قبيلة قريش، ومنهم عمرو بن العاص وجماعة.
قال: (مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ)، الدَّاري نسبة إلى بني عبد الدَّارِ.
قال: (وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ)، أي: خرجوا جماعة.
قال: (فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ)، يعني: قَدِم تميم وَعَدي بتركة السهمي.
قال: (فَقَدُوا)، أي: فقد أهله وأولياؤه وورثته.
قوله: (جَامًا مِنْ فِضَّةٍ)، نوعًا من أنواع الحلي.
قوله: (مُخَوَّصًا مِنْ ذَهَبٍ)، أي: منقوشًا على صفة الخوص من ذهب.
قال: (فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، أي: أحلفهما بأنهما لا يعلمون عن هذا الجام شيئًا.
قال: (ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ)، أي: وُجد الجام يُباع في مكَّة.
قوله: (فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فَحَلفَا: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ)، يعني: أنَّنا نشهد أنَّ هذا الجام لصاحبهم.
قال: (وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِه الْآيَةُ: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ غڑ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىظ° غ™ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَï´¾).
فهذا بيانٌ لأحكام هذه الشَّهادات، جعلها الله شهادة، وردَّها بوجود ما يُكذِّبها، ولذلك استُدلَّ بهذه الواقعة على أنَّ الشَّهادة تُردُّ متى وُجدَ ما يُكذِّبها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا تَجَوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ ماجَهْ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا الحَدِيثُ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بنُ عَمْرو بنُ عَطاءٍ، عَنْ عَطَاءِ بنِ يسَارٍ)}.
البدوي: هو الذي يتنقَّلُ في البادية وليس من أهل المدن.
وإذا شهد البدوي على صاحب القرية؛ فإنَّ جماهير أهل العلم يقولون: تُقبَل شهادة البدوي، لعموم النُّصوص التي وردَت بقبول الشهادة.
وبعض أهل العلم قال: تُردُّ الشَّهادة؛ لأنَّ الغالب في صاحب البادية أن يكون من أهل الجهالةِ بالأحكام الشَّرعيَّة، وغالبًا لا يضبطون الشَّهادة على وجهها، وقد يُحيلون الشهادة عن وجهها، وبالتَّالي تُؤدِّي إلى معنًى مُغايرٍ لحقيقة الأمر.
والجمهور -كما تقدَّم- يقبلون شهادة البدوي، ويتكلمون في هذه الرواية؛ لأنَّها من رواية محمد بن عمرو بن عطاء، ومحمد بن عمرو بن عطاء هذا صدوق، وروايته من قبيل الحسن، ولكن رواه عن عطاء بن يسار، وعطاء أمام، وقد روى عن عطاء جماعات كثيرة، فقالوا: يبعدُ أن يتفرَّد محمد عمرو بن عطاء بهذا الخبر عن عطاء بن يسار، ولذلك تكلَّموا فيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ مُحَمَّدِ بنِ رَاشدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ مُوسَى، عَنْ عَمْرو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ القَانِعِ لأَهْلِ الْبَيْتِ، وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِغَيْرِهِمْ». والقَانِعُ: الَّذِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَيْتِ، رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُد، ومُحَمَّدٌ وسُلَيْمَانُ: صَدُوقَانِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِمَا بَعْضُ الْأَئِمَّةِ.
وَقَالَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ العَبْدِ جَائِزَةٌ إِذا كَانَ عَدْلًا)}.
محمد بن راشد وسليمان بن موسى صدوقان، فحديثهما من قبيل الحسن، وكذلك شُعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص والد عمرو صدوق، وبالتَّالي فالخبر حسن ، وليس من الأخبار الضعيفة.
قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ»، أي: مَن عُلِمَ عنه الخيانة فيما سبق فإنَّنا لا نُمضي شهادته ولا نقبلها، لوجود هذا السبب الطَّاعن في شهادته.
قوله: «وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ»، المراد بالغِمر: مَن كان مُبغضًا مُعاديًا، وفيه أنَّ العداوة مِن أسباب رَدِّ الشهادة، وفيه إشارة إلى وجود الأخوة الإيمانيَّة، وبالتَّالي ينبغي أن تَنْتَفي البغضاء بينهم.
قال: «وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ القَانِعِ لأَهْلِ الْبَيْتِ»، القانع: هو الذي يُنفق عليه أهل البيت -كما وردَ تفسيرها- وذلك لأنَّ بينهم مشاركة؛ ولأنَّهم أصحاب فضلٍ عليه، وبالتَّالي لا تُقبل شهادة القانع لأهل البيت.
قال: «وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِغَيْرِهِمْ»، يعني: لغير أهل البيت لكونه لا يُتَّهم في شهادته لغير أهل البيت.
قال البخاري في صحيحه: (وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ العَبْدِ جَائِزَةٌ إِذا كَانَ عَدْلًا)، المراد بالعبد: المملوك. هذه اللفظة مُعلَّقة لم يذكر الإمام البخاري مَن بينه وبينَ الصَّحابي أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وبالتَّالي هذا يُقال له: خبرٌ مُعلَّقٌ، وأثرٌ مُعلَّقٌ لم يُذكَر فيه بقيَّة رواته.
وقد وردَ عند ابن أبي شيبةَ أنَّه سُئلَ أنس عن شهادة العبيد، فقال: (إنَّها: جائزة)، ففيه قبول شهادة المملوك، خلافًا لبعض أهل العلم، فليسَ من شرط الشَّهادة أن يكون الشَّاهد حرًّا؛ بل يجوز أن يكون الشَّاهد مملوكًا.
والأصل أنَّ الشَّهادة لا تُقبَل إلا مِن ذوي العدالة، لقوله تعالى: ï´؟وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْï´¾ [الطلاق: 2]، والعدالة تكون باجتناب الكبائر وعدم المدوامة على الصَّغائر، والابتعاد عمَّا يخرم المروءة.
وهناك موانع تمنع من قبول الشَّهادة، منها:
ïƒک وجود القرابة.
ïƒک وجود العداوة.
ïƒک وجود المصلحة بالشَّهادة.
وهكذا ما ذكر في هذين النَّصين من أسباب تمنع من قبول الشَّهادة، وبالتَّالي نكون قد انتهينا من كتاب الشَّهادات.
باركَ الله فيك، وفقك الله للخير، كما أسأله -جلَّ وعَلَا- لإخواني ممَّن يُرتِّب هذا اللقاء من فنيين ومخرج التَّوفيق لكل خيرٍ، وأسأله -جلَّ وعَلَا- صلاحًا لأحوال كل من يشاهدنا، ولكل طالب علم ينشر الخير والهدَى في الناس، كما أسأله -جلَّ وعَلَا- أن يعيدنا إلى شرعه ودينه، وأن يجعلنا من المتمسكين بهدي نبيِّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما أسأله -جلَّ وعَلَا- أن يوفق ولاة أمور المسلمين لكل خيرٍ، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-30, 08:02   رقم المشاركة : 21
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ السَّابع عَشر (17)
معالي الشيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدُّكتور سعد بن ناصر الشثري؛ فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
الله يبارك فيك، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بكَ، وأرحبُ بإخوتي المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{اللهم آمين..
نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب المحرر لابن عبد الهادي من قول المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابٌ جَامِعٌ
عَنْ عُمرَ بنِ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْـبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ, فَهُوَ رَدٌّ»)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلينَ.
أمَّا بعد؛ فإنَّ الحافظَ ابن عبد الهادي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عَقدَ في آخر كتابه المحرَّر كتابًا جامعًا، يجمعُ عددًا مِن المعاني المتفرِّقة، والمتعلِّقَة بموضوعاتٍ مختلفةٍ قد لا يجمعها بابٌ واحدٌ، وهذا يشتمل على أخلاقٍ فاضلة، وعلى أمور قلبيَّة، وعلى شروطٍ وأركانٍ متعلِّقَة بالعبادات.
وقد ذكر المؤلِّف هنا حديثين في بداية هذا الكتاب يدورُ عليهما صحَّة الأعمال والعبادات:
الحديث الأوَّل: يتعلَّق بنيَّة الإخلاص لله -جلَّ وعَلا.
الحديث الثَّاني: يتعلق بالمتابعة للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فأيُّ عمل صالحٍ وأيُّ عبادةٍ لم تشتمل على هذين المعنيين فإنَّها مردودةٌ غيرُ مقبولةٍ.
أولهما: الإخلاص، بأن يقصد الإنسان بأعماله أن يستجلب رضا ربِّ العزَّة والجلال، وأن يكونَ ممَّن علَت منزلته، وارتفعت درجته عند الله -جلَّ وعَلا- ولذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ». «إنَّما» أدادة حصرٍ، كأنَّه قال: لا عمل إلا بالنِّيَّة.
والمراد هنا: أنَّ صحَّة الأعمال شرعًا وأنَّ اعتبارها عند الله -جلَّ وعَلا- يكون بالنَّظر في نية أصحابها، ولذلك قد يؤدي الاثنان عملًا واحدًا في صورته وظاهره، فيكون أحدهما عمله صحيحًا معتبرًا عندَ الله -جلَّ وعَلا- والآخر عمله باطلٌ لأنَّه لم ينوِ به رضا الله، وهذه النِّيَّة التي جعلت العمل باطلًا على أنواع:
- منها أن ينوي الإنسان بعملِهِ أن يعبدَ غير الله، فيكون ذلك شركًا لأنَّه صرَفَ العبادة لغير الله -جلَّ وعَلا- وكان من دعوات الأنبياء: ï´؟أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَï´¾ [هود: 2].
- وهناك مَن ينوي بعبادته أمرًا دنيويًّا، كأن ينوي الجاهَ بينَ النَّاس، أو ينوي أن تكون له منزلة فيما بينهم، أو أن يُثنوا عليه في عمله؛ فهذه نيَّة الرِّياء التي قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ».
- وقد يكون الإنسان قد نَوى بعمله أن يُنيله الله الدُّنيا، ولم يقصد بأعماله الصَّالحة أن ينالَ الآخرة، ولذا قال: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوى»، فمن نوى بعمله الدُّنيا لم يأتِهِ إلَّا ثواب الدُّنيا، ومَن كانت كلُّ أعماله للدُّنيا فحينئذٍ لن ينال في الآخرة درجةً ولا رفعة؛ فأولئك الذين يتصدَّقونَ ليُشفَى مرضاهم ولم يقصدوا بذلك الأجر الأخروي ليس لهم من الأجر شيء، لأنَّهم لم ينووا الأجرَ والثَّواب، وقد قاله -جلَّ وعَلا: ï´؟مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًاï´¾ [الإسراء 18، 19]، وقال تعالى: ï´؟بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىï´¾ [الأعلى 16، 17]، وقال -جلَّ وعَلا: ï´؟مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَï´¾ [هود 15، 16].
ولهذا فرَّع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على هذه القاعدة فقال: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ»، ذلك الذي انتقلَ من ديارِ الكُفر إلى ديارِ الإسلام، انتقل من المعصية إلى الطَّاعة، انتقل من الصُّحبة الفاسدة إلى الصُّحبَة الطِّيِّبَة؛ فإن كانت نيَّته أنَّ ذلك الفعل يُراد به التَّقرُّب إلى الله واتِّباع رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان الأمر أن ينال الأجر والثَّواب، وكان عمله مقبولًا عند ربِّ العزَّة والجلال.
أمَّا مَن كانت هجرته لدنيا يُصيبها؛ إنَّما صاحبَ الأخيار لينال من دنياهم لا لينال من آخرتهم، لا ليكونَ مثلَهم في الأجر والثَّواب؛ فحينئذٍ ليس له من الأجر شيءٌ؛ لأنَّه لم يقصد بعمله الآخرة، وإنَّما قصدَ الدنيا.
ومثله ذلك الذي عمل عملًا من أعمال الطَّاعات يُريد أن يتقرَّبَ به إلى امرأةٍ لمجرَّد أن يتزوَّجها، فحيئذٍ قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»، ولم يُكرِّر ما ذُكر كما كرَّرَ في الأولى عندما قال: «فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْـبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا»، استقلالًا لعمل هؤلاء.
وأمَّا الحديث الثَّاني: فحديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ, فَهُوَ رَدٌّ».
«مَنْ أَحْدَثَ»، أي: أتى بعملٍ جديدٍ محدَثٍ لم يكن مَنقولًا عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: «فِي أَمْرِنَا هَذَا»، يعني: في ديننا وفي عبادتنا.
قال: «مَا لَيْسَ مِنْهُ»، أي: أنَّه عملٌ جديد وبدعة لم تكن منقولةٌ عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: «فَهُوَ رَدٌّ»، أي أنَّه غير مقبول عند الله -جلَّ وعَلا.
ومن هنا يجبُ على الإنسان أن يَطلبَ دليل أيَّ فعلٍ يُريد أن يفعله قبل أن يُقدِمَ عليه، يتقرَّبُ بذلك إلى الله -جلَّ وعَلا- وقد يكون أصل العبادة لم يُنقَل عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيكون أصلها بدعةٌ من البدع.
وقد تكون البدعة ناشِئة من اختيارِ وقتٍ معيَّنٍ، أو مكانٍ معيَّنٍ للعبادةِ، وقد تكون بتغيير نمطِ العبادة ممَّا في كيفيَّتها وفي صفتها، أو في عددها، أو نحو ذلك، وحينئذٍ على الإنسان أن يلتزم ما ورد عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سنَّته، وألَّا يقوم باستحداثِ أمورٍ جديدةٍ في عباداته غير منقولةٍ عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ -وأَهْوى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَينَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَـبِـهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ, أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ, أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ»)}.
هذه الأحاديث التي ذكرت في هذا الباب كلُّها متفقٌ على صحَّتها، وقد أخرجها الإمام البخاري والإمام مسلم -رحمة الله عليهما.
وهذا الحديث من حديث النعمان بن بشير، قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ -وأَهْوى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ)، ليؤكِّد أنَّ سماعه بأذنيه.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ»، أي: أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قد جعل للحرام والحلال حُدودًا يعرفها مَن يكون من أهلها.
قال: «وَبَينَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَـبِـهَاتٌ»، أي: تخفَى أحكامُها على النَّاس، وقد يكون سبب خفاء الحكم تعارض الأدلَّة فيها، أو أنَّ مَناط الحُكم فيها والعلَّة غير ظاهرة، وبالتَّالي تشتَبِه عليه، أو يكون سبب الاختلاف من اختلاف العُلماء، فتشتبه أحكامها على النَّاس، ولذا قال: «لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ»، وإن كان بعض الناس يعلم أحكامها.
قال: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ»، أي: ابتعدَ عن الأمور المشتبهة التي قد يقع الالتباس والاختلاف في أحكامها، فإنَّه حينئذٍ سيستبرئ لدينه وعرضه.
أمَّا استبراؤه لدينه: فطاعته لله -عزَّ وجل- فإنَّه لَمَّا ترك الأمور المشتبهة التي يُمكن أن يَلحقها التَّحريم؛ حينئذٍ سلم دينه بيقينٍ، فطاعته لله -جلَّ وعَلا- على أكمل الوجوه.
وأمَّا استبراؤه لعرضه: فحتى لا يُمكِّن الآخرين مِن الكلام في عِرضه.
قال: «وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ»، أي: مَن وقع في هذه الأمور الملتسبة فقد وَقَعَ فِي الحَرَامِ؛ لأنَّه وإن سَلِمَت الأولى والثَّانية من أن تكون حَرامًا إلَّا أنَّ بقيَّتها لا تسلم من أن تكونَ كذلك.
ثم ضرب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثلًا من أجل أن يُفهَم عنه، قال: «كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى»، يكون هناك موطنٌ يُمنَع الناس من دخوله، فمَن رعى حول الحمى فإنَّ أغنامه قد تدخل في الحمى من حيث يشعر أو من حيثُ لا يشعر، ولذلك قال: «يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ», أي: أن ترعى أنعامه في ذلك الحِمَى.
ثم قال: «أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ, أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ».
هذه الأحاديث الثَّلاثة هي أصول الأعمال، وهي التي يَسلم بها دين الإسلام، حديث الأعمال بالنيَّات وفيه من الفوائد:
- وجوب إخلاص النِّيَّة لله -عزَّ وجل- بأن يقصد الإنسان بعمله الآخرة، وإرضاء الرَّب -سبحانه وتعالى.
- وأنَّ مقدار الثَّواب والجزاء على مقدار صلاح النيَّة.
- وفيه تفريع الأعمال بحسب نيَّات أصحابها.
وأما الحديث الثاني ففيه:
- تحريم البدع.
- وأنَّ كلَّ بدعةٍ مذمومةٍ مردودةٍ غيرُ مقبولةٍ عند الله -جلَّ وعَلا- وبالتَّالي لا يصح أن نقسم البدع إلى ما هو مذموم وما هو مستحسنٌ مقبولٌ.
وأمَّا الحديث الثَّالث ففيه:
- مشروعيَّة الاحتياط باجتناب الأمور المشتبهة التي يجهلها بعض النَّاس.
- وأنَّه لا يخلو أمر من حكم لله -عزَّ وجلَّ.
- وفيه أنَّ أحكام الشَّريعة لا تخفى على جميع النَّاس وإن خفيت على أكثرهم.
- وفيه تجنُّب المحارم وما يُقاربها ويوصل إليها.
- وفيه وجوب التَّنبُّه للقلبِ، والاستعداد لإصلاحه ممَّا يؤدِّي إلى صلاح بقيَّة أعمال الإنسان.
وأعمال القلب كثيرة، منها: الخوف من الله -جلَّ وعَلا- ومنها رجاؤه -سبحانه- ومحبَّته، والتوكُّل عليه والاعتماد عليه -سبحانه وتعالى.
وهذه الأمور هي أساس الأعمال القلبيَّة التي يتمُّ بها صلاح القلب، فيحصل بذلك صلاح أحوال الإنسان في جميع أموره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنُّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ, وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، والتَّوَلِي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ»)}.
قوله: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، أي: المهلكات، وفي الحديث:
- بيان أنَّ الذُّنوب منها ما هو كبير، ومنها ما هو صغير، وأنَّ الذُّنوب ليست على رتبةٍ واحدةٍ.
- وفيه بيان أنَّ هذه الأعمال هي أشنع الأعمال.
- وفيه أنَّ الشِّرك أعظم الذنوب، ويُراد به: صرفُ العبادات لغير الله -سبحانه وتعالى.
- وفيه تحريم السِّحر، وبيان أنَّه من الكبائر.
- وفيه تحريم بقيَّة ما ذكر في الحديث مِن قتلِ النَّفس وأكلِ مالِ اليتيمِ، وأكلِ الرِّبا، والتَّولِّي يوم الزَّحف، أي: الهرب مِن مَيدان المعركة والقتال عند لقاء العدو.
- وفيه تحريم قذف المحصنات، باتِّهامهنَّ في أعراضهنَّ، وأنَّ ذلك من كبائر الذُّنوب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ الْمُغيرَةِ بنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَيْكُم عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ»)}.
قوله: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَيْكُم»، أي: منع منه ورتَّب عليه الإثم.
قوله: «عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ»، يُراد بذلك: عدمُ القيام بحقِّ الأمَّهات، سواء في طاعتهنَّ أو وصلهنَّ، أو في القيام بحقوقهنَّ.
قوله: «وَوَأْدَ الْبَنَاتِ»، أي: قتل البنات، حيث كانَ العرب يقتلون البنات، وكانَ بعضُ العربِ يقتل البنات خشيةً من لحوق العارِ به.
قوله: «وَمَنْعًا وَهَاتِ»، أي: أن يمنع الإنسان الواجبات التي يجب عليه أداؤها، مع أنَّه يُطابب بالواجبات والحقوق التي تكونُ له.
قوله: «وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا»، استُدلَّ به على التَّفريق بين الكراهة والتَّحريم، وإن كان لفظ الكراهة قد يُطلق في مرَّات على ما هو محرَّمٌ ممنوعٌ منه، ولكن في هذا الحديث ما يدلُّ على التفرقة بين الكراهة والتحريم.
وقوله: «قِيلَ وَقَالَ»، المراد به: نقل الأقوال بدون التَّفكُّر في معانيها وفي آثارها، وهل نقلها يجعل النَّاس ينتهجون أحسنَ الأقوال والأعمال أو لا.
قوله: «وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ»، المراد به عند أكثر أهل العلم سؤال المال، بحيث يسأل المال من هذا ومن ذاك، ولو كان محتاجًا، فأمَّا إذا لم يكن مُحتاجًا فإنَّ السُّؤال بدعوَى حاجته تكونُ من أكل المال بالحرام ومن المعاصي والذنوب.
وليس المراد بكثرة السؤال هنا سؤال الإنسان عمَّا يُشكل عليه من أمور دينه.
قال: «وَإِضَاعَةَ المَالِ»، وهو وضع المال في غيرِ محلِّه المأمور به شرعًا، سواء كان ذلك ببذل المالِ في أُمورٍ محرَّمةٍ أو في فُضولٍ ومُباحاتٍ لا تعود على الإنسان بخيرٍ في دُنياه وآَخرته، أو بالزِّيادة على النَّفقة الواجبة في الأمور المشروعَة، كما هو في الإسراف في الولائم ونحوها، فهذا من الأمور المكروهة شرعًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»)}.
في هذا الحديث: أنَّ للإسلامِ أركانًا، وأنَّ واجباته ليست على رتبةٍ واحدةٍ، بل منها ما هو أوجب من غيرها.
وقوله: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»، يعني أنَّ أساس هذا الدين القيام بهذه الأركان.
أولها: «شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، أي: الإقرار والاعتراف بأنَّ العبوديَّة حقٌّ خالصٌ لله لا يُوَصف لأحدٍ سواه.
قوله: «وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»، بحيث يُطاع في أمره، ويُصدَّقُ في خبره، ولا يُعبَد الله إلَّا بما شرعَه. فهذا هو الرُّكن الأوَّل.
الرُّكن الثَّاني: «وَإِقَامِ الصَّلَاةِ»، والمراد بالصَّلاة هنا: صلاة الفريضة، وإقامتها: أداؤها على الوجه المطلوب شرعًا.
الرُّكن الثَّالث: قوله «وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ»، أي: إعطاء الزَّكاة الواجبة.
الرُّكن الرَّابع: «وَحَجِّ الْبَيْتِ».
الركن الخامس: «وَصَوْمِ رَمَضَانَ».
والحديث يدل على إيجاب الصَّلوات الخمس، وعلى إيجاب الزَّكاة في المال، وعلى إيجاب الحج، وعلى إيجاب صوم شهر رمضان، ويُستثنى من ذلك ما ورد في النُّصوص الأخريات من استثنائه كالمجنون والصَّغير ونحوهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ, كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ»)}.
قوله: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الْإِيمَانِ»، فيه أنَّ للإيمان حلاوة يجدها الإنسان في قلبه.
الأمر الأوَّل: قال «مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا»، فيه أنَّ الإيمان يشتمل على أعمال القلوب، ومنها المحبَّة، وفيه تقديم الله ورسوله على محبَّة الإنسان لغيرهما كائنًا مَن كان.
وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» ، وقال: «مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا حتى يكونا أحب إليه من نفسه» .
الأمر الثَّاني: قوله: «وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلهِ»، أي: يتقرَّب إلى الله -جلَّ وعَلا- بمحبَّته، فيتقرَّب إلى أهل التَّوحيد وأهل السُّنَّة، ويطلب بذلك استجلاب رضا ربِّ العزَّة والجلال.
والأمر الثَّالث: قوله: «وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ»، وكراهية الكفر والعود وإليه من الإيمان.
قوله: «كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ»، أي: أنَّه يكرَه أن يعودَ في الكفر كما يكره أن يُلقَى في النار.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ -أَو قَالَ: لِأَخِيهِ- مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»)}.
قوله: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»، فيه وجوب تقديم محبَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على محبَّة غيره، حتى أقرب النَّاس إليه، بل ورد «حتى أكون أحب إليه من نفسه» .
ويُلاحَظ هنا أنَّ بعض الناس يقول: أنا أعبد الله محبَّة، وأدعو الله محبَّة.
نقول: خطأ، لا تكتفي بالمحبَّة في هذا الباب؛ بل عليكَ أن تعبدَ الله محبَّةً له، وطمعًا في أجره، وخوفًا من عقوبته، كما قال تعالى: ï´؟وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًاï´¾ [الأعراف: 56]، أي: في عبادتهم ودعائهم، فدلَّ ذلك على أنَّه لا يُجزئ ولا يَصح أن يكون مُنطلق الأعمال والطَّاعات هو مجرد محبَّة الله -جلَّ وعَلا.
قال: «لَا يُؤمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ -أَو قَالَ: لِأَخِيهِ- مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، فأنا أحبُّ لنفسي العلم، أحبُّ لنفسي المال، أحب لنفسي رفعة الدَّرجة؛ فأحبُّ لإخواني مثل ما أحبُّ لنفسي، لا أحب لهم أن يَصِلُوا إلى درجتي فقط؛ بل أحب لهم تلك الدرجة التي أحبُّ أن أصلَ إليها، ولا يعني هذا أنَّك تحبُّ أن ينقصك مكانك من أجلهم، بل أنت ترجو وتحب أن تكون وإيَّاهم على أعلى الدَّرجات.
وحينئذٍ نعلم أن المحبَّة على أنواع:
المرتبة الأولى: محبة الله، وهي أعلى أنواع المحبة، وقد قال تعالى: ï´؟وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِï´¾ [البقرة: 165]، وقال: ï´؟يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُï´¾ [المائدة: 54].
المرتبة الثَّانية: المحبَّة في الله، فأنا أحبُّكَ طاعةً للهِ، ورغبةً في أجره وثوابه؛ فهذه محبَّة في الله -عزَّ وجل.
والمحبَّة في الله قد تكون محبةً لأوليائه، وقد تكون محبَّةً لطاعته، سواء الطاعة التي تفعلها أو الطاعة التي فعلها غيرك، فتحب أن يكون الناس كلهم مطيعين لله -جلَّ وعَلا- ترجو بذلك ما عند الله، فتكون مُثابًا مأجورًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»)}.
قوله: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ»، أي: القدح فيه والاستنقاص من مكانته، وخصوصًا إذا كان في وجهه.
قوله: «فُسُوقٌ»، أي: ذنبٌ ومعصية.
قوله: «وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»، ليس المراد به الخروج من دين الإسلام، وإنَّما المراد به الكفر الأصغر لأنَّه قال: «وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»، ولم يقل "الكفر".
وفي الحديث: تحريم ذكر معايب المسلمين، سواء في وجوههم أو خلف ظهورهم، وتحريم مقاتلة أهل الإسلام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ, قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»)}.
عن ابن مسعود قَالَ: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فيه مشروعيَّة سؤال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمَّا يكون مِن الأعمالِ.
قال: (أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟)، فيه دلالة على أنَّ الذُّنوب ليسَت على رتبةٍ واحدة، وأنَّها متفاضلة في عظم ذنبها.
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا». النِّد: المساوي والمماثل، فعندما تجعل لله ندًّا وتصرف إليه شيئًا من العبادات؛ فحينئذٍ قد وقعتَ في ذنبٍ عظيمٍ.
وقد أتى بدليلٍ على وجوبِ جَعْلِ العبادةِ لله وحده فقال: «وَهُوَ خَلَقَكَ»، فما دام أنَّه خلقك فهو يملك منافعك، ومنها طاعاتك وعباداتك، فلابدَّ أن تجعلها لله.
قال ابن مسعود: (قُلْتُ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ)، أي: امرٌ كبيرٌ.
قال: (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟)، يعني ما الذَّنب الذي يكون بعدَ هذا.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ»، وقتل الولد من أجلِ خوفِ الفقر كان يفعله بعض النَّاس، فنُهيَ عنه، وبالتَّالي لا ينبغي بالإنسان أن يتخوَّف من أمور متعلقة بالمطاعم أو المتعلقة بالعيش والرِّزق، وبالتَّالي يقوم بترك اختيار الولد.
وقوله: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ»، هذا يشمل مَن وُلد، ولكن هل يشمل الجنين في بطن أمِّه؟
هذا من محالِّ النَّظرِ والاجتهاد.
قال ابن مسعود: (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟)، أي: ما هي الذنوب التي تلي هذين الذنبين العظيمين.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»، الحليلة هي: الزَّوجة، لأنَّها تحل للجار.
ولفظ "تُزاني" فعل مشترك، كأنَّك جعلتها تزهد في حليلها وزوجها، وبالتَّالي تكونُ قد أقدمتَ على ذنبٍ عظيم، كيف وهو جارك له واجبٌ عليكَ في احترام حراماته وتقديرها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذا ائْتُمِنَ خَانَ»)}.
قوله: «آيَةُ»، يعني علامة.
قوله: «الْمُنَافِقِ»، أي يُبطن ما لا يُظهر.
قوله: «ثَلَاثٌ»، أي: ثلاث صفات.
الصِّفة الأولى: «إِذا حَدَّثَ كَذَبَ»، والكَذب: هو الإخبار بخلاف الواقع، والكذب في الحديث خصلة من خصال النفاق، لأنَّه يُظهر خلاف ما يُبطن.
الصِّفة الثَّانية: «وَإِذا وَعَدَ أَخْلَفَ»، الخُلفُ عندَ الموعِد، فإنَّ مَن وعَدَ ثمَّ أخلفَ ذلك الوعد فإنَّه حينئذٍ يكون قد أظهر ما لا يُبطِن.
الصِّفَة الثَّالثة: «وَإِذا ائْتُمِنَ خَانَ»، فالخيانة ذنبٌ عظيم، فكيف يأتمنك ثم تخونه، وهذا من كبائر الذنوب.
وإذا تأمَّلتَ هذه الصِّفات -الكذب، وخُلفُ الموعد، والخيانة- وجدتَّ أنَّها من أسباب نزع الثِّقة من النَّاس بعضهم ببعض، وأكثر تعاملات النَّاس لا تسير إلَّا على الثِّقة، فزوجان لا يثقان في بعضٍ لن تستمرَّ حياتهما، وقرابةٌ لا يثقُ بعضهم في بعضٍ لن تستمر الصِّلَة بينهم، وكل مَن لك به عَلاقة إذا لم تكن مبنيَّةً على اجتناب صفات النِّفاق المذكورة في هذا الحديث لن تستمر، ولن كونَ من شأنهم الاستمرار على هذه العلاقات، وبالتَّالي نعلم أنَّ هذه الصِّفات الثَّلاث صفات نفاق، وأنَّها مؤثرة في نزع الثِّقَة من النَّاس بعضهم في بعضهم الآخر.
باركَ الله فيك، ووفقكَ الله لكلِّ خيرٍ، وجعلنا الله وإيَّاك من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-30, 08:03   رقم المشاركة : 22
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ الثَّامِنُ عشر (18)
معالي الشَّيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري؛ فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأرحبُ بكَ، وأرحبُ بإخوتي المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من (حديث عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيهِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهل يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِديهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ»)}.
الحمدُ لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فهذا الحديث أورده المؤلف الحافظ ابن عبد الهادي في كتاب الجامع الذي عقده في آخر كتابه المحرَّر، وأكثر حديثه متفقٌ عليها قد أخرجها الإمام البخاري والإمام مسلم، ومنها هذا الحديث.
قوله: «مِنَ الْكَبَائِرِ»، فيه تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر.
وقوله: «شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيهِ»، فيه الحُكم على الفعل باعتبار آثاره وما يُؤدِّي إليه، فإنَّه لم يشتُم والديه، وإنَّما فعلَ فعلًا يُؤدِّي إلى أن يُشتَم والداه.
وفي هذا أنَّه ينبغي بالإنسان أن ينتهج الأقوال الطِّيبة والأعمال الفاضلة من أجل أن يُترَك شتمُ أبويه، وأن يُدعَى لأبويه.
قوله: (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهل يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِديهِ؟)، فيه السُّؤال لتعرُّف حقيقة ما أخبرَ به في الحديث.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ»، فاعتبر الحكم على الفعل باعتبار آثاره وما يُؤدِّي إليه.
والحديث فيه دلالة على أنَّ الأصل في السِّباب هو المنع والتَّحريم.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبي صَالحٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَـتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّم خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيْهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ,فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيْهَا أَبَدًا»)}.
في هذا الحديث تحريم قتل الإنسان لنفسه مهما بلغت به الظروف، ومهما كان عنده من المصائب، فإنَّ هذه أمورٌ قدَّرها الله -جلَّ وعَلا- ليختبره ولتكون من أسباب رِفْعَتِه.
وفي هذا الحديث: أنَّ اختلاف طريقة القتل لا تكون سببًا من أسباب إلغاء الإثم في قتل الإنسان لنفسه أو لغيره.
واستدلَّ الجمهور بهذا على إثبات القصاص في القتل بالمثقَّل كما هو في القتل بالمحدَّد، وفيه أيضًا أنَّ استعمال الحديد ينبغي أن يكون في الطَّرائق الشَّرعيَّة، ومن ذلك ألَّا يُترَك بيد مَن يقتلَ نفسه بحديدةٍ.
وقوله: «فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ»، يعني: التي قتل بها نفسه.
قال: «يَـتَوَجَّأُ بِهَا»، يعني: أنَّه يطعن نفسه مرَّةً بعدَ مرة.
قتال: «فِي بَطْنِهِ»، يعني: يتوجَّأ بها في بطن نفسه.
قال: «فِي نَارِ جَهَنَّم خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا»، فيه دلالة على أنَّ عذاب النَّار باقٍ أبدًا وأنَّه لا ينقطع.
ثم ذكر طريقةً أخرى من طرق قتل الإنسان لنفسه فقال: «وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا»، السُّمُّ مادةٌ يكونُ فيها العطبُ والهلاك.
قال: «فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيْهَا أَبَدًا»، أي: أنَّه يُعذَّب بطريقته التي قتل بها نفسه.
وفي هذا دلالة على أنَّ الجزاء من جنس العمل.
وقوله: «خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيْهَا أَبَدًا»، فيه إثبات مذهب أهل السُّنَّة في أنَّ نارَ جهنَّمَ خالدة.
وقوله: «وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ»، أي: أسقطَ نفسَه مُتعمِّدًا مِن جبل.
قال: «فَقَتَلَ نَفْسَهُ»، أي: كان ذلك التَّردِّي من أسباب موته.
قال: «فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ»، أي: أنَّه تُكرَّر عليه العقوبة والذَّنب.
قاال: «خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيْهَا أَبَدًا»، فيه دلالة لمذهب مَن يَرَى أنَّ أهل النار من أهل الشرك يُخلَّدون فيها.
{أحسن الله إليكم..
هل يُستدل بهذا الحديث على أنَّ العقوبة بالمثل؟}.
هناك اختلاف فقهي قد أشرنا إلى ذلك في كتاب القصاص، وبيَّنَّا أنَّه إذا قَتَلَ شخصٌ غيرَه بطريقةٍ محرَّمَة فلا سبيل له إلَّا السَّيف، وإذا قتله بطريقةٍ أخرى؛ فحينئذٍ هل يُقتَل القاتل بمثل ما قتل به أو لا؟ وهذا من مواطن الخلاف.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَانًا»)}.
هذا الحديث متَّفقٌ عليه.
قوله: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ»، المراد به تقدير الأمور المقلقة والمخوفة ونسبتها إلى الآخرين، فهذا يشمل الهموم التي قد تعيق الإنسان في حياته، وتشمل أيضًا سوء الظن بالآخرين، وفيه أنَّ المؤمن مُطالب بأن يُحسِّن ظنَّه بإخوانه، قال تعالى: ï´؟لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَظ°ذَا إِفْكٌ مُّبِينٌï´¾ [النور:12].
وقوله: «فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ»؛ لأنَّه غير مُستند إلى دليلٍ يدل على صحَّته، فكانت الظُّنون مِن أكذب أنواع الحديث.
قال: «وَلَا تَحَسَّسُوا»، التَّحسُّس هو: طلب الإنسان الأشياء لنفسه.
قال: «وَلَا تَجَسَّسُوا»، التجسس: تفتيش بواطن الأمور.
قال: «وَلَا تَنَافَسُوا»، أي: لا يكن بين بعضكم مع بعض مُنافسة على أمور الدنيا، وأمَّا أمور الآخرة فإنَّها لا تدخل في هذا الخبر لقوله تعالى: ï´؟خِتَامُهُ مِسْكٌ غڑ وَفِي ذَظ°لِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَï´¾ [المطففين:26].
قال: «وَلَا تَحَاسَدُوا»، أي: لا يتمنَّى بعضكم زوالَ نعمة الله -جلَّ وعَلا- عن بعضكم الآخر.
وفي الحديث: تحريم هذه الأفعال وهي : التَّحسُّس والتَّجسُّس والتَّنافُس والتَّحاسُد.
ثم قال: «وَلَا تَبَاغَضُوا»، أي: لا يُبغض بعضكم بعضكم الآخر؛ لأنَّكم تريدون ما عند الله، وبالتَّالي فما فضَّلهم الله به عليكم لا تتعلَّق به نفوسكم؛ لأنَّكم تعلمون أنَّ الجميع من عند الله، وما حصل منهم من خطأ أو نقصان فإنَّه لا يكون سببًا من أسباب التَّباغُض، وإنَّما يكون من أسبابه أن يسمح بعضكم لبعضكم الآخر.
قال: «وَلَا تَدَابَرُوا»، أي: لا يُلقي بعضكم إلى بعضكم الآخر بدبره.
قال: «وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَانًا».
وفي هذا الحديث:
• تحريم ظنَّ السَّوء في الآخرين.
• تحريم التَّحسُّس، والتَّجسُّس، والتَّنافس، والتَّحاسُد، والتَّباغض، والتَّدابر.
• وفيه أنَّ التَّجسُّس والتَّحسُّس قد يختلف حكمه باختلاف ما يلتبس به من أمور.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»)}.
في هذا الحديث: تحريم هجرة المسلم لإخوانه المسلمين فوق ثلاث، وأمَّا ما دون الثَّلاث فإنَّه لا يدخل في هذا الخبر، فيدل الخبر على إباحة الهجر لأقل من ثلاث، ولكن لا يكون إلَّا لسببٍ مشروعٍ، وأمَّا ما زاد عن الثَّلاث فإنَّه لا يجوز، إلَّا إذا وردَ فيه شيء من الدَّليل.
قال: «يَلْتَقِيَانِ»، أي: يُقابل بعضهم بعضهم الآخر.
قال: «فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا»، يعني: أنَّهم لا يتحفَّى بعضهم ببعضٍ، وفيه أنَّه ينبغي بالإنسان أن يتحفَّى بإخوانه المسلمين.
قال: «وَخَيْرُهُمَا، الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»، أي: خير المتهاجرين والمتقاطعين من يبدأ بالسَّلام؛ لأنَّه قد بدأ الخطوة الأولى نحوَ الاتِّفاق، وتركِ الهجرانِ فيما بينهما.
{قال المؤلف: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُم بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرَّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُم وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا»)}.
هذا الحديث فيه فوائد:
• الفائدة الأولى: الترغيب في الصدق والحثُّ عليه.
• الفائدة الثانية: التَّحذير من الكذب والتَّرهيب منه.
الفائدة الثالثة: أنَّ الأعمال الصَّالحة والأعمال السِّيئة بمثابة السلسلة يجرُّ بعضها بعضَها، وبالتَّالي فعلى الإنسان أن يعمل العمل الصَّالح ليجرَّ عليه عملًا صالحًا آخر؛ ولذا قال تعالى: ï´؟وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْï´¾ [محمد:17].
• الفائدة الرابعة: أنَّ مَن تكرَّرت منه الصِّفة وُصِفَ عند الله -جلَّ وعَلا- بها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الصَّادِقُ الـمَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُم يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤمَرَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَو سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجنَّةِ فَيَدْخُلُهَا».
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ،كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَل تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: واقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: ï´؟فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيْلَ لِخَلْقِ اللهِï´¾ [الروم:30] الْآيَة.
وَعَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِيـنَ عمَّنْ يَمُوتُ مِنْهُم صَغِيرًا، فَقَالَ: «اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»)}.
هذه أحاديث فيها شيء من أمور القدر، والإقرار بما يُقدِّره الله -جلَّ وعَلا- ويكتبه على العبد.
أولها حديث ابن مسعود، قال: (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الصَّادِقُ)، يعني: الْمُخْبِرُ بما يُوافق الواقع.
وقوله: (الـمَصْدُوقُ)، يعني: أنَّ الله صدقه في الوحي المنزَّل إليه، وصدقَه وعدَه بنصره.
قال: -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُم يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا»، أي: المرحلة الأولى من حياته أربعين يومًا يكون فيها نطفة.
قال: «ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ»، يعني: أنَّه ينتقل من كونه نُطفة -شيء من المني والدم- إلى أن يكون علقة، بأن يكون يسير لحمٍ تعلَّق بالرَّحم.
قال: «ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ»، أي: لحمًا تامًا مثل ذلك.
إذن المجموع أربعة أشهر، أربعين وأربعين وأربعين؛ فتكون مائة وعشرين يومًا.
قال: «ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ»، وجاء في حديثٍ آخر أنَّ الملك يُرسَل بعدَ اثنين وأربعين يومًا؛ فحينئذٍ نقول: إنَّ الإرسال مرتين.
قال: «فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ»، وتكون هذه بداية للرُّوح، وبالتَّالي إذا مات الجنين قبل هذه المدَّة فإنَّه لا يُصلَّى عليه ولا يلزمُ به كفَّارةٌ إذا اعتُديَ عليه، وإذا مات بعدَ ذلك فإنَّه يُصلَّى عليه ويلزم به كفَّارة إذا مات، وهذا بالنِّسبة لهذين الحكمين.
وأمَّا بالنسبة لأحكام الطهارة والنِّفاس فإنَّه يتعلق بنوعِ ما يخرج من بطنِ المرأةِ، فإن كان فيه صورة إنسان وأعضائه فإنَّه حينئذٍ يُحكَم بأنَّه جنين، فتقعد المرأة للنِّفاس، وأمَّا إذا خرج مجرَّد مُضغة لحمٍ وليس فيه شيء من تخاطيط البدن؛ فإنَّه حينئذٍ لا يكون الدم دم نفاس.
قال: «وَيُؤمَرَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ»، أي: أنَّ الملك يُؤمر بكتب أربع كلمات.
أولها: «بِكَتْبِ رِزْقِهِ»، ماذا سيكسب من أمور الدنيا.
ثانيها: «وَأَجَلِهِ»، متى سيموت.
ثالثها: «وَعَمَلِهِ»
رابعها: «شَقِيٌّ أَو سَعِيدٌ».
وفي هذا بيانٌ أنَّ الرِّزقَ لا يجره حرص حريص، وأنَّ الإنسان ينبغي به في أُمور رِزقه أن يَعتمد على الله -جلَّ وعَلا.
وفي هذا أنَّ الإنسان يبذل إلى ما يُؤدي إلى زيادة عمله، فهكذا يبذل ما يُؤدي إلى زيادة أجله.
وليس المراد بقوله: «وَأَجَلِهِ»، أنَّ الإنسان لا يبذل سببًا لزيادة الأجل، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أمر بالتَّداوي، والتَّداوي يُراد به زيادة الأجل.
وهكذا بيَّنَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ صلة الرَّحم مما يُنسأ به الأجل.
ثم قال مُقسِمًا: «فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيرُهُ»، وفيه القَسَم بدون أن يُطلب.
قال: «إِنَّ أَحَدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ»، أي يسبق عليه ما سُجِّل عليه في الكتاب من كونه من أهل النار فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ويترك عمل أهل الجنة فَيَدْخُ النار.
ومن أمثلته: ذلك الذي قتل نفسه بعد اشتراكه في معركة القتال، وكونه أبلى بلاءً حسنًا، وفي آخر أَمْرِه قَتَلَ نَفْسَه.
وفي المقابل قال: «وَإِنَّ أَحَدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ»، يعني: لم يبقَ بينه وبينَ النار إلا شيئا قليلًا. قال: «فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجنَّةِ فَيَدْخُلُهَا».
الأوَّل كفَرَ في سياق الموت، والثاني آمن قبيل موته، وجاهد وشاركَ بالعمل الصَّالح.
أمَّا حديث أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ»، سواء كان ذكرًا أو أنثى، سواء كان من بلاد المشرق أو بلاد المغرب.
قال: «إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ»، الفطرة: هي الإقرار بحقِّ الله -جلَّ وعَلا- في الألوهيَّة والعبوديَّة، والإسلام هو الفطرة، ولذا قال في هذا الحديث: «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ»، ولم يقل: "يجعلانه مسلمًا".
وفي هذا أنَّ اليهوديَّة والنَّصرانيَّة بما جاء فيهما من التَّحريف لم تعد مُتوافقة مع الفطرةِ، ومثله المجوسيَّة.
ثم ضربَ مثالًا قال: «كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ»، أي: كما تلد البهيمة بهيمةً كاملةً الأعضاء، وهذا مثل مَن يُولَد على الفطرَة، ثم بعد ذلك يقوم الناس بقطع آذانها وخشومها أو أطرافها؛ فقال: «هَل تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟»، يعني: لَمَّا خُلقَت أوَّلَ ما خُلِقَت كانت كاملة، ولم يكن فيها قطعٌ لشيءٍ من أعضائها، ثم بعدَ أن تولد يستجد قطع بعض أعضائها.
ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: (واقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: ï´؟فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيْلَ لِخَلْقِ اللهِï´¾ [الروم:30] الْآيَة).
قال المؤلف: (وَعَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِيـنَ عمَّنْ يَمُوتُ مِنْهُم صَغِيرًا)، الذين لم يبلغوا الحُلم ولم يبلغوا الحنث، وبالتالي هل يدخلون مع آبائهم فيكونون في النار، أو يدخلون الجنة فيكونون في كفالة إبراهيم -عليه السلام؟
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»، فمعرفة ما ستؤول إليه أفعالهم إلى الله -جلَّ وعَلا.
فهذا شيء مما يتعلق بشرح هذه الأحاديث الثلاثة المتعلقة بمسائل القدر.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم: اللَّهُمَّ اغْفِر لِيْ إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ, لِيَعْزِمْ فِي الدُّعَاءِ، فَإِنَّ اللهَ صَانِعٌ مَا شَاءَ، لَا مُكْرِهَ لَهُ»)}.
هذا الحديث أيضًا متفق عليه.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم»، هذا نهي، والنَّهي يقتضي المنع والتحريم.
قال: «اللَّهُمَّ»، يعني: يا الله.
قوله: «اغْفِر لِيْ إِنْ شِئْت»، يعني: لا يُعلِّق طلب المغفرة بالمشيئة، ولكن يعزم المسألة فيقول: اللهم اغفر لي.
وفيه أنَّ تعليق الدُّعاء بالمشيئة حرامٌ ممنوع منه، فلا تقول: الله يغفر لك إن شاء الله، ولا تقل: اللهم ارحمني إن شاء الله.
قال: «لِيَعْزِمْ فِي الدُّعَاءِ»، يعني: لا يجعل فيها استثناء ولا مثنويَّة، فإنَّ الله -جلَّ وعَلا- لا مُكره له، يصنع ما شاء -سبحانه وتعالى- وبالتَّالي لا تحتاج إلى أن تقول: "إن شاء الله"، وإنَّما تجزم بالدُّعاء فتقول: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، اللهم ارزقني؛ بلا استثناء.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِني مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي»)}.
قوله: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ»، فيه تحريم تمنِّي الموت، والمراد هنا: هو تحريم تمني الموت إذا كان لأمر دنيوي، أمَّا إذا كان لأمر أخرويٍّ كمَن يتمنَى الموت في الشَّهادة فهذا لا يدخل في الحديث، ومثله في قول مريم: ï´؟يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَظ°ذَاï´¾ [مريم:23] فإنَّها اعتقدت أنَّ هذا من الفتنة، وبالتَّالي أرادت ألَّا يكون هناك فتنة تصل إليها.
وقد ورد في الحديث أنَّه قال في الدعاء: «وَإِذَا أَرَدْتَ بِعَبَادِكَ فِتْنَةً، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ» .
وقال هنا: «فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا»، يعني: إذا كان سيتمنَّى الموت ويدعو به، قال: «فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِني مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي»، يتمكَّنُ فيها من عبوديَّة الله، يُقيم الصَّلاة، ويُؤدِّي الزَّكاة، ويصل الأرحام، يتخلَّق بالأخلاق الفاضلة، وبالتَّالي تكون الحياة خير له.
قال: «وَتَوَفَّنِي إِذا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي»، أي: اقبضني إليك واخترني عندك إِذا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ: عَطَسَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلَانِ، فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلم يُشَمِّتِ الآخَرَ، فَقَالَ الَّذِي لم يُشَمِّتْهُ: عَطَسَ فُلَانٌ فَشَمَّـتَّـهُ، وعَطَسْتُ أَنا فَلَمْ تُشَمِّتْنِي، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا حَمِدَ اللهَ، وَإِنَّكَ لَمْ تَحْمَدِ اللهَ»)}.
هذا الحديث فيه:
• جواز أن يعطس الإنسان بمحضرٍ من الآخرين، وأنَّه لا يلحقه الحرج والملامة بسبب ذلك.
• مشروعيَّة حمد الله -عز وجل- بعد العطس.
• مشروعيَّة تشميت مَن عطسَ فحمدَ الله، كما فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والتَّشميت بأن يقول "رحمك الله" وما ماثلها من الألفاظ.
• وأن مَن لم يحمد الله فإنَّه لا يُشرَع له أن يُدعَى له بالرَّحمة على وجه التَّشميت له.
• وأن مَن لم يحمد الله بعدَ عطاسه؛ فإنَّه لا بأس أن يُترَك تذكيره بالحمد، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُذكر هذا الرَّجل بالحمد بعدَ عطاسه.
• وأنَّ الإنسان يُقابَل بمثل عمله، فمَن أدَّى الأسباب المؤدِّيَة إلى الخير كُتبَ له الخير المرتَّب عليها، بخلاف مَن لم يفعل ذلك.
• سؤال الإنسان عن تصرُّفات غيره تجاهه ليُزيل ما في نفسه، فإنَّه لَمَّا سأله عن سبب تشميت للآخر دون تشميته لصاحبه لم يعب عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك.
• التَّفريق في المعاملة بين الناس بحسب ما يفعلونَه من الأعمال، فإنَّ كل إنسانٍ يُعامَل بمثلِ عمله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْن مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا كُنْتُم ثَلَاثَةً، فَلَا يَتَنَاجَ اثْنَانِ دونَ الآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ».
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يُقيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا»)}.
هذان الحديثان فيهما معانٍ:
• حرص الإنسان على مُراعاة أحوال غيره القلبية، ولذلك قال: «مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ».
• مُراعاة المسلم لإخوانه المسلمين في جميع أمورهم، حتى فيما يتعلَّق بشعورهم، وبما يؤثر عليهم في نفسيَّاتهم.
• نهي الاثنين عن أن يتناجيا إذا كانا مع ثالث.
• جواز أن يتناجى الاثنان إذا كان معهما مجموعةٌ من الناس وقد اختلطوا بالناس.
وأمَّا حديث ابن عمر ففيه:
• النهي عن أن يُقيمَ الإنسان غيرَه من مقعده ليجلس فيه.
• استحباب أن يتفسَّحوا في المجالس، ويتوسَّعوا من أجلِ أن تتمكَّنَ المجالس من أخذهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يزَالُ هَذَا الْأَمرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ».
وَعَنِ الْحسَنِ قَالَ: عَادَ عُبيدُ اللهِ بنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بنَ يَسَارٍ الـمُزَنِيِّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَو عَلِمْتُ أَنَّ لي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»)}.
حديث ابن عمر فيه بقاء أمر الولاية في قبيلة قريش، بحيث يبقى في كل زمانٍ مَن يتولَّى منهم شيئًا من أمور الولاية العامَّة، وليس فيه اشتراط أن يكون صاحب الولاية العامَّة من قريش، وإنَّما فيه إخبارٌ بأنَّه سيوجَد في كلِّ زمانٍ مَن يلي ولايةً عامَّةً وهو من قريش، وكما تقدَّم أنَّ هذا لا يدل على أنَّ القرشي شرط من شروط تولِّي الولاية العامَّة.
وأمَّا حديث الحسن البصري قَالَ: (عَادَ عُبيدُ اللهِ بنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بنَ يَسَارٍ الـمُزَنِيِّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ)، معقل بن يسار من صحابة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ مَعْقِلٌ: (إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَو عَلِمْتُ أَنَّ لي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ)؛ لأنَّه خشيَ أن يفهَم منه أنَّه على جهةِ الاعتراض أو على جهةِ اتَّهامه بشيءٍ ليس فيه.
قال: (إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ»)، المراد بالعبد هنا: إنسان، وفيه دلالةٌ على ما ذكرتُ قبل قليل من أنَّه لا يُشتَرَط في أمرِ الولاية أن يكون الإنسان من قريش.
قوله: «يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً»، أي: يكون عنده ولاية يتولَّى بها أمر بعض الناس الذين يكونون تحته.
وفي هذا الحديث
• النَّهيُ عن غش الرَّعيَّة، وأنَّ ذلك من كبائر الذنوب.
• وأنَّ الواجب على من تولَّى ولايةً عامَّةً أن يكون ناصحًا لرعيَّته، قاصدًا بهم الخير.
• أنَّ العبد ينبغي به ان يكون ناصحًا في كلِّ أمور الناس، سواء في لاأمورهم الدينية بحيث يُعيد الناس إلى الله، ويجعلهم يحبونه ويحبهم، وهكذا في أمور الدنيا فيما يتعلق بالتَّوسعة على الناس، وتوفير ما يحتاجون إليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بالطُّرُقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسَنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا أَبَيْتُم إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ، وكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ»)}.
هذا الحديث فيه:
• النَّهي عن الجلوس في الطُّرقات، لأنَّ هذه الطّثرقات جُعلت لمرور النَّاس، ولم تُجعَل للجلوس فيها، والجلوس يُضيِّع على الناس المقصود الذي قُصِدَ به وضع هذه الطُّرقات.
• تحريم أن يسد الإنسان الطريق، سواء بوقوفه ، أو بسيَّارته، أو ببعضِ حوائجه.
• أنَّ كل ما أدَّى إلى إشغال الطَّريق فإنَّه يُمنَع منه، سواءٌ من بناءٍ أو درجٍ، أو زهورٌ تُغلق الطَّريق، أو نحو ذلك.
وقولهم: (مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسَنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا)، يعني: أنَّهم لا يستغنون عن هذه المجالس.
فقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا أَبَيْتُم إِلَّا الْمَجْلِسَ»، ولم تقبلوا توجيهي السَابق؛ فحينئذٍ عليكم بمراعاة حق الطَّريق، وفيه إثبات الحقوق حتى للجمادات، فالطريق له حق، والمنزل له حق؛ فضلًا عن حقِّ ما فيه حياة كالنبات والحيوان والإنسان.
قَالُوا: (وَمَا حَقُّهُ؟)، يعني حق االطريق.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غَضُّ الْبَصَرِ»، فيه الأمر بعدمِ إطلاق البصر في الطُّرقات، فلا يُطلق الإنسان نظره فيمَن حوله، يلتفت بعض الناس إلى مَن حوله في سياراتهم، أو في مشيهم في طرقاتهم.
وفي الحديث:
• الأمر بكفِّ الأذى، بأن لا يوصل الإنسان شيئًا من الأذى لغيره.
• وجوب رد السَّلام لمَن سلَّمَ عليك في الطَّريق، ولو لم تكن عارفًا له.
• مشروعيَّة الأمر بالمعروف، والمراد بالمعروف: ما جاء الشرع بالأمر به مما يتعارفه الناس، والأمر به يكون بالإلزام.
• النَّهي عن المكنر، اولمراد به: نصيحة الآخرين ليتركوا فعل الأمور المحرَّمَة، وهذا فيه دليل على أنَّه ينبغي بثُّ هذه المعاني في المواطن العامَّة، وكما أنَّ هذا يوجَد في الطُّرق الحسيَّة كذلك تتعلَّق هذه الأحكام بالطُّرق المعنويَّة، ومن ذلك وسائل التَّواصل الحديثة، فإنَّه يُشرَع فيها فعل هذه الأمور المذكورة في هذا الخبر.
وكف الأذى قد يكون بالقول وهو الأصل، بحيث لا يؤذي الآخرين بسباب أو شتام أو استنقاص أو غيبة أو نحو ذلك، ويشمل أيضًا الأذى الفعلي.
أسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يوفِّقنا وإيَّاك لكل خيرٍ، وأن يجعلنا وإغيَّاك من الهُداة المهتدين، كما أسأله سبحانه لإخواني المشاهدين الكرام التَّوفيق لما يُحبه ويرضى، وأسأله -جلَّ وعَلا- أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يُبارك في أعمالهم، وأن يجمع كلمتهم، وأن يؤلِّف ذات بينهم.
هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-30, 08:04   رقم المشاركة : 23
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الدَّرسُ التَّاسِع عَشَر (19)
معالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
الله يحييك، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخوتي المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبي سُفْيَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدَّين، وَلَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»)}.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاة والسَّلام عَلى أفضَلِ الأنبياءِ والمرسلينَ.
أمَّا بعدُ؛ فهذا الخبرُ فيه فضيلة التَّفقُّه في الدِّين، والتَّفقُّهُ في الدِّينِ يشتملُ على ثلاثةِ أمورٍ:
الأمر الأوَّل: مَعرفة ما لله -جلَّ وعلا- وقيام الإنسان بحق ربِّ العزَّة والجلال فيما يتعلَّق بصلته بالله المباشرة خوفًا منه ورجاءً له -جلَّ وعلا.
الأمر الثَّاني: فهم كتاب الله وسنَّة نبيِّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الأمر الثَّالث: معرفة الأحكام الشَّرعيَّة المتعلِّقة بعمل الإنسان، ويسمو الإنسان في ذلك حتى يكون لديه الأهليَّة لاستخراجِ الأحكامِ من الأدلَّةِ، وهذا هو أعلَى درجاتِ رُتَبِ الفقه في الدِّين.
وقد جاءَ في الأحاديث بيان أنَّ الإنسان ربَّما يكون أفقه لِمَا يَرِد عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بسماعه ولو لم يكن قد سمعه منه مباشرة، ولذا قال: «رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» ، وفي لفظة: «وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» .
ومن هنا فإن الفقه في الدين نعمة من ربِّ العزَّة والجلال، يُعطيها من يشاء من عباده، ويكون خيرًا له في دينه ودنياه، وقد قال الله تعالى: ï´؟وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَï´¾ [التوبة: 122].
وطرائق التَّفقُّه في الدِّين كثيرة، منها:
- الإكثار مِن قراءة النُّصوصِ كتابًا وسنَّةً.
- حفظ هذه النُّصوص والتدبُّر فيها.
- حضور مجالس العلم والخير والهُدَى، ومنها هذه المجالس التي تكون في هذه الأكاديمية.
- قراءة كتب الفقه في الدِّين.
وفي الحديث:
- دلالةٌ على أنَّ مَن لم يتفقَّه في الدِّين فإنَّ الله لم يُرد به خيرًا.
- حُجِّيَّة الإجماع، فإذا أجمع الفقهاء من هذه الأمَّة على شيءٍ فهو الحق وهو الصِّدق وهو حكم الله -جلَّ وعلا.
- أنَّ قولَ الحقِّ لابدَّ أن يكونَ ظاهرًا في الأمَّة منتشرًا فيها إلى يوم القيامة.
{قال المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا أَكَلَ أَحَدُكُم طَعَامًا فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَو يُلْعِقَهَا»)}.
هذا الحديث فيه فضيلة لعقِ الأيدِي بعد الطَّعام.
قوله: «فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ»، سواءٌ كان هذا المسح بمناديل، أو بغسلها بالماء، أو نحو ذلك.
قوله: «حَتَّى يَلْعَقَهَا»، أي: يأخذ ما عليها من الطَّعام.
قال: «أَو يُلْعِقَهَا»، أي يُمكِّن مَن له مَيَانَةٌ عليه وعنده مَحَبَّةٌ له مِن أن يقومَ بِلَعقِ الأيدي.
وبعضُ أهلِ العلم استدلَّ بهذا الحديث على فضيلة الأكلِ من الطَّعام باليدِ، وآخرون قالوا إنَّه قد ثبت أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أكل بواسطة شيءٍ من الآلات ولم يستعمل يده، فرأوا أن ذلك عل سبيل الإباحَة، ولعل هذا أظهر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ»)}.
قوله: «لَا تَتْرُكُوا النَّارَ»، أي: لا تقوموا بإغفالِ النَّارِ وعدمِ إطفائِهَا.
وهذا الحديث فيه:
- الأمر بإطفاء النَّار قبل النَّوم، وذلك من أجل ألَّا يكون إبقاء النَّار سببًا مِن أسباب انتشار الحرائق في البيوت.
- مشروعيَّة اتِّخاذ الأسباب المؤدِّيَة إلى حفظِ النُّفوس والأمول.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ اخْـتِـنَاثِ الأَسْقِيَةِ: أَنْ يُشْرَبَ مِنْ أَفْوَاهِهَا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- : أَنَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ مِنْ دَلْوٍ مِنْهَا, وَهُوَ قَائِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَقْرِنَ الرَّجُلُ بَينَ التَّمْرَتَينَ حَتَّى يسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ)}.
هذه الأحديث متعلقةٌ بآداب الشُّربِ والأكلِ.
أولها: حديث أبي سعيد الخدري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: (نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ اخْـتِـنَاثِ الأَسْقِيَةِ).
المراد بالنَّهي: طلب ترك الفعل على سبيل الجزمِ، وهو دالٌّ على المنع والتَّحريم.
واخْـتِـنَاثِ الأَسْقِيَةِ: كانوا في الزّمان الماضي يشربون من القِرَب، وكان فمُ القربة جزء من أجزائها يُصنع من الجلد ونحوه، ويضعون لها فمًا، وكان بعضهم يشربُ من القربةِ من فمها، فنهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يُشرَب من أفواه هذه القرَب، وذلك خشيةً من أن يكون هناك تأثيرٌ من لعاب الإنسان على لعاب هذه الأسقِيَة.
وقوله: (عَنِ اخْـتِـنَاثِ الأَسْقِيَةِ)، كان بعضهم إذا أراد أن يشرب من القربة قام بصفطِ رأس القربة وفمها بحيث يتمكَّن من الشرب من الجزء الدَّاخلي من فم القربة، فنهى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك، واحتمال أن يكون النَّهي مِن أجلِ ما يلعقُ بفمِ الإنسان مِن أنواع الميكروباتِ والأمراضِ، وقد يكون المقصود بذلك أنَّ بعض النَّاس يستَنكِفُ أن يشربَ بعدَ غيرِهِ متى فعل ذلك، فخشيةً من أن يُترَك ذلك الماء نهى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن هذه الطَّريقة من طرائق الشُّرب.
ثم روى عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما (أَنَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ مِنْ دَلْوٍ مِنْهَا).
زمزم: البئر التي في مكَّة حولَ الكعبة، وهو الذي فجَّره الله -جلَّ وعلا- لإسماعيل وأمه -رَضِيَ اللهُ عَنْهما.
قال ابن عباس: (أَنَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ مِنْ دَلْوٍ مِنْهَا)، كانوا يأخذون الماء مِن البئر فيضعونه في الدِّلى.
قوله: (وَهُوَ قَائِمٌ)، أي: كان شربه حالَ قيامه.
وقد ورد في صحيح مسلم أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن الشُّربِ قائمًا، وقال: «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِي يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِمٌ مَا فِي بَطْنِهِ لاَسْتَقَاءَ»، ولذا وقع التَّردُّد بين العلماء والاختلاف في جواز أن يشرب الإنسان قائمًا أو لا يجوز له ذلك؟
فمنع طائفةٌ وأجاز آخرون، لكن البحث في كيفيَّة الجمع بين هذين الدليلين:
- فهناك مَن رأى أنَّ حديث ابن عباس هذا خاص بزمزم، فاستحبُّوا أن يشربَ الإنسانُ ماء زمزم وهو قائم، لكنَّ مثل هذا يحتاج إلى نظرٍ، فإنَّ المعنى الذي مِن أجلهِ شُرِبَ مِن زمزم قائمًا لابدَّ أن يكون معنًى مُغايرًا، ولابدَّ من إثبات ذلك المعنى.
- وقال آخرون: إنَّ زمزم كانت مليئة من الطِّين، والنَّاس كثُر، والوارد عليه كثير، وبالتَّالي لو جلسَ ليشربَ لكانَ ذلك سببًا من أسباب ازدحام النَّاس، وجعْل النَّاس يطأ بعضهم بعضهم الآخر، ولذا شرب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها وهو قائم، فمَن كان في مثل هذه الحالة فلا حرجَ عليه في أن يشربَ قائمًا، وأمَّا مَا عداه فإنَّه يُمنَع منه.
- وقال آخرون: إنَّ حديث الإباحة هذا يرفع التَّحريم، فتبقى معنا الكراهة، ولذا رأوا أن الشُّربَ قائمًا مكروهٌ وليسَ بمحرَّمٍ.
ولعلَّ القول الذي سبقَ هذا أرجح هذه الأقوال؛ لأنَّ الأصل أن تُحمَل أقوال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على نسقٍ واحدٍ؛ ولأنَّه لا يُخالف بينها في المعنى إلَّا لدليل.
ثُمَّ ذكر حديث ابن عمر: (نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
النَّهي: هو الطلب الجازم لترك الفعل.
قال: (أَنْ يَقْرِنَ الرَّجُلُ بَينَ التَّمْرَتَينَ)، يعني يأكل تمرتين في وقتٍ واحدٍ.
قال: (حَتَّى يسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ)، والنَّهي قد يكون لأنَّ هذه الطَّريقة في الأكل مشعرة بشراهة صاحبها، ولهذا مُنع مِن مثلِ هذا الفِعلِ، وقد يكون المقصود أنَّ مَن قرَنَ بينَ التَّمرتين ضيَّعَ الثَّمرة المرتَّبة عليها.
وقال آخرون: إنَّ النَّهي عن قَرْنِ التَّمرتين مِن أجل حقوق الآخرين، لأنَّه إذا كان كلُّ شخصٍ على تمرةٍ تمرةٍ، وهو يأكل على تمرتين؛ فسيأكل أكثر منهم.
ولعلَّ هذا المعنى هو الذي يدلُّ عليه حديث الباب، لأنه قال: (حَتَّى يسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ)، لأنَّ لهم حقًّا، ولذلك اشترطَ الإذن مِن الأصحاب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا»)}.
قوله: «تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ»، أي: أكثروا مِن قراءته مِن أجلِ أن يَبقى في محفوظَاتِكم، ومِن أجلِ ألَّا تنسوه.
وفي هذا الحديث:
- فضيلة حفظ القرآن، أو حفظِ شيءٍ منه.
- فضيلة تعاهد القرآن وقراءته.
قوله: «هَذَا الْقُرْآنَ»، يعني: القرآن الكريم، والمراد أن يتعاهد الإنسان بالمراجعة والمتابعة وكثرة القراءة.
قال: «فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ»، فيه جواز القسَم بدون أن يُطلب من الإنسان.
قال: «لَهُوَ أَشَدُّ»، أي: أعظم وأكثر.
قال: «تَفَلُّتًا»، أي: هروبًا من الذِّهن.
قال: «مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا»، فإنَّ الإبل تشردُ من أصحابها، وتندر من عندهم، ولذا قال: «لَهُوَ»، يعني القرآن أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا.
وفي هذا الحديث: استحباب الأخذ بالأسباب، وأنَّه ممَّا يُؤجَر الإنسان عليه عند الله -جلَّ وعلا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُم وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُم، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم»)}.
المراد بقوله: «انْظُرُوا إِلَى»، أن يعرف الإنسان مقدار نعمة الله -جلَّ وعلا- عليه، فانظروا لتكون المقارنة بينكم وبين مَن يكون كذلك.
قوله: «مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُم»، أي: أقل مالًا وأقل في أمور الدنيا.
قال: «وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُم»، أي لا يكن شأنكم أن تتأمَّلوا فيمَن أعطاه الله من أمور الدُّنيا من مالٍ أو منصبٍ أو نحو ذلك؛ فإنَّه متى كانَ الإنسانُ كذلك فإنَّه سيعرف مقدار نعمَة الله عليه لأنَّه قارنَ بينَ نفسِه وبينَ مَن هو أقل منه، ولذا قال: «فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم».
وإذا نظرَ الإنسان إلى مَن هو أعلى منه فإنَّه قد يأتيه الشَّيطان فيجعله يستقل نِعَم الله -عز وجل- عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا قَاتَلَ أَحَدُكُم أَخَاهُ، فَلْيَجْتَنِبِ الوَجْهَ, فإنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ على صُورَتِهِ»)}.
قوله: «إذا قَاتَلَ أَحَدُكُم أَخَاهُ»، أي: إذا كانت هناك خصومة وشجار تمدَّدَ لأن يكون قتالًا.
قال: «فَلْيَجْتَنِبِ الوَجْهَ»، أي: لا يقصد الوجه بنوعٍ من أنواعٍ الأذيَّة، وذلك لأنَّ الوجه مَجمَع المحاسن، والوجه يُلاقى به النَّاس، ولو أصيب الوجه بشيء من المصائب فسيؤثر على الإنسان في مكانته وسمعته.
قال: «فإنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ على صُورَتِهِ»، أي: على هيئته -سبحانه وتعالى.
وفي الحديث:
- إثبات أنَّ آدمَ مخلوقٌ.
- التَّرغيب في اجتناب الضَّربِ على الوجهِ والفَمِ.
- تكريم الله -عز وجل- لآدم -عليه السَّلام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَسُبُّ أَحَدُكُم الدَّهْرَ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ، فَإِنَّ الْكَرْمَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ»)}.
قوله: «لَا يَسُبُّ»، أي: لا يقدح ولا يستنقص ولا يُقلِّل.
قال: «لَا يَسُبُّ أَحَدُكُم الدَّهْرَ»، فينسب إلى الدَّهر شيئًا مِن المصائب الدُّنيويَّة، فيقول مثلًا: هذا الشَّهر جعلنا بالقحطِ، وهذا النَّجم هو محلُّ الخطأ العظيم، ونحو ذلك، فعندما ينسب الإنسان المقدَّرات للدَّهرِ فإنَّه يكونُ قد سبَّ خالقَه، لأنَّك إذا سببتَ آلةً ليس لذات الآلةِ فإنَّك حينئذٍ تكون بمثابةِ مَن سبَّ خالقَ الدَّهر -سبحانه وتعالى.
قوله: «فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ»، يعني هو خالق الدَّهر، يقلبه كيف يشاء، وليس هذا من أسماء الله -سبحانه وتعالى- فقوله «فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ»، يعني خالق الدهر، ومَن ظنَّ أنَّ الدَّهر من أسماء الله فإنَّه مُخطئ حينئذٍ.
قوله: «وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ»، العنب معروفٌ بهذا الاسم، وقد جاءت فيه آيات كثيرات من قوله: ï´؟وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍï´¾ [الأنعام: 99]، ونحو ذلك، ولا يُعرَف أنَّ العنب محلٌّ للقدحِ والسَّبِّ، ولكن كانوا في السَّابق قد يُطلِقُون عليه لفظة "الكَرْم" فنهى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن إطلاق هذا اللفظ على الأعناب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم: اسْقِ رَبَّكَ, أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُم: رَبِّي, وَلْيَقُلْ: سَيِّدي، مَوْلَايَ، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُم: عَبْدِي، أَمَتِي، وَلْيَقُل: فَتَايَ، فَتَاتِي، غُلامِي».
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلْيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي». مُتَّفَقٌ عَلَى هَذِه الْأَحَادِيثِ وَاللَّفْظُ فِيهَا كُلُّهَا لمسْلمٍ، وَبَعْضُ أَلْفَاظِهِ أَتَمُّ مِنْ أَلْفَاظِ البُخَارِيِّ، فَإِنَّ فِيهَا زِياداتٍ لمْ يَذْكُرْهَا البُخَارِيُّ)}.
هذه الأحاديث متعلِّقةٌ بتصحيحِ الألفاظِ التي يتكلَّم بها الإنسان، وذلك أنَّ الألفاظ ثلاثة أنواع:
- ألفاظ قبيحة مخالفة: فلا يجوز النُّطق بها.
- ألفاظٌ صحيحةٌ طيِّبةٌ: فلا بأسَ من النُّطق بها ما لم يكن مانعٌ آخر.
- ألفاظ متردِّدَةٌ بينَ معنيين -حقٍ وباطل- فمثل هذه الألفاظ يجب اجتنابها، قال تعالى: ï´؟وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًاï´¾ [الأحزاب: 70]، يعني: أنَّهم لا يقولون القول غير السَّديد ولا المتردد، وهكذا جاء في قوله تعالى: ï´؟يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُواï´¾ [البقرة: 104]؛ لأنَّ لفظة "راعنا" متردِّدةٌ بين معنيين، إمَّا من الرِّعاية أو الرُّعونة؛ ولذلك نُهي عن مثل هذا اللفظ.
وهكذا هذه الألفاظ التي ذكر المؤلِّف في هذه الأحاديث ينبغي اجتنابها لما يترتَّب عليها من آثارٍ في الدُّنيا وفي الآخرة، فنَهى عن سبِّ الدَّهر، وقال: «وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ»، وقال: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم: اسْقِ رَبَّكَ»، يعني إذا كان عنده سيد فيقول: "اسقِ ربَّك" يعني: سيدك الذي يقوم بك ويرعاك، مرَّات قد تُطلق هذه اللفظة على القَريب، فيقول بعضهم: "اسقِ ربَّك، أطعم ربَّك" والله -جلَّ وعلا- غنيٌّ لا يحتاج إلى طعامٍ ولا إلى شرابٍ.
وبعضهم يقول: "وضِّئ ربَّكَ"، يُريد به سيده الذي يملكه، وفي الحقيقة ينطبق على الرَّب الخالق -سبحانه وتعالى- وهو غنيٌّ عن جميعِ المخلوقات.
قال: «وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُم: رَبِّي»، يعني: لا يقول لسيِّدهِ ولمَن يعمَل عنده "ربِّي"، وإنَّما يقول له: "سيدي ومولاي".
وهكذا بالنِّسبة للسَّيد فيما يتكلَّم به عن الرَّجل التَّابع له أو المرأة التَّابعة له، قال: «وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُم: عَبْدِي، أَمَتِي»، ولو كان مملوكًا له، لأنَّه قد يُشعر بالعبوديَّة التي فيها صرفُ شيءٍ من العبادات لغير الله -جلَّ وعلا.
قال: «وَلْيَقُل: فَتَايَ، فَتَاتِي، غُلامِي»، فهذه الألفاظ ليس فيها شيء من المعنى المحظور الذي ذكرتُ قبل ذلك.
ثم أوردَ حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلْيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي»، في هذا الحديث نهي عن أن يتكلَّم الإنسان بهذا اللفظ، فلا يقول: "خبُثت نفسي، هلكت نفسي، نفسي مخالفة لشرع الله ولدينه"، ولكن ليقل: "لَقِسَت نفسي"، فإنَّ هذا بتأثير قُدرة ربِّ العزَّة والجلال على النَّفس، والمعنى الإجمال بين اللفظين واحد، ولكن اللفظ الأوَّل قد يُحمَّل مَا لا يحتمله.
وهذه الأحاديث التي ذكرَ المؤلِّف في هذا الباب هي أحاديث صحيحة متَّفقٌ عليها بينَ أهل العلم، وهي أربعون حديثًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»)}.
أوردَ المؤلِّف الأحاديث التي رواها الإمام البخاري وحده، حديث عبد الله بن عمرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
ظاهر هذا الحديث: وجوب تبليغ الشَّريعة، ووجوب دعوة النَّاس إلى معرفة سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: «وَلَوْ آيَةً»، أي: ولو علامةً ظاهرةً من الأحكام الشَّرعيَّة، ولا يلزم أن يكون الإنسان داعيًا في كل أوقاته، أو أن يُبلغ الكلام الكثير، فقد يأتي إنسان فيُبلغ كلمةً لحديث نبويٍّ شريف فيكون لها من الأثر في النُّفوس في استقامتها وصلاحها، وكونها على ما يُرضي الله -جلَّ وعلا- بخلاف ما لو أتى غيره فتكلَّم بالكلام الطَّويل الكثير ونقل الأحاديث العديدة.
وكما تقدَّم أنَّ كلمة «بلِّغوا» الأصل فيها أنَّها أمر، والأوامر للوجوب، ولكن بعض أهل العلم حملها على النَّدب، ويدل عليه قوله: «وَحَدِّثُوا»، فإنَّه وإن كانَ أمرًا إلَّا أنَّه ليس من الأمور الواجبات، وإنَّما من الأمور المستحبَّات.
وفي هذا مشروعيَّة نقل الأحاديث النَّبويَّة وإيصالها للمجتمعات البشريَّة.
قال: «وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ»، إسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم السَّلام- وقد جعل الله له اثني عشرَ ابنًا، وهم الأسباط، وهم بنو إسرائيل، ثم تسَلْسَلَت قبائل بني إسرائيل بعد ذلك.
قوله: «وَلَا حَرَجَ»، يعني: لا إثم عليكم، وهذه الكلمة تجعلنا نصرف الأمر في قوله «حَدِّثُوا» من كونه للوجوب إلى كونه للإباحةِ، لأنَّ نفي الحرج يعني الإباحة.
قال: «وَمَنْ كَذَبَ»، يعني أي واحدٍ يكذب، فــ "مَن" اسم شرط.
قال: «مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا»، أي: نسبَ إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئًا لم يقلْه وهو على جهة العمد لا على جهةِ النِّسيان.
قال: «فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، أي: فليخترْ، أو لِيجلس في مقعده من نار جهنم -أعاذنا الله جل وعلا وإياكم منها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذا لَمْ تَسْتَحِي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»)}.
حديث ابن مسعود رواه البخاري، أنَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»، هذا فيه دلالة على أنَّ الحكمَة تؤخذ -خصوصًا- من الأنبياء، وقد استدلَّ به بعضهم على حجيَّة شرائع الأنبياء السَّابقين.
قوله: «إِذا لَمْ تَسْتَحِ»، فيه مشروعيَّة الحياء وفضيلته، وإثبات الأجر لأصحابه.
اختلفت أوجه أهل التفسير في تفسير هذا للفظ:
الوجه الأول: إذا لم تكن من أهل الحياء؛ فإنَّك حينئذٍ لن تتورَّع عن أي فعل، وستفعل ما تريد من الأفعال.
الوجه الثَّاني: أيَّ فعلٍ إذا فعلته لم يكن عليكَ حياءٌ من الناس فيه فافعله، بمعنى أنَّ الفعل الذي تستحي من أن يراكَ الناس وأنت تفعله فلا تفعله.
الوجه الثَّالث: أنَّ هذا على جهةِ التَّهديد، فكونك لا تستحي فحينئذٍ أنا أهدِّدُكَ أن تصنَع ما شئت.
وقوله: «فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» فيه بيان أنَّه لا يُحمَد فعل الإنسان الذي يفعل كلَّ ما يشتهيه وما تحبه نفسه، وإنَّما يثمدَح مَن قصر نفسه على ما أحلَّه الله -جلَّ وعلا- ولم يتجاوزه إلى غيره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ تبَاركَ وَتَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إليَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَني لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِن اسْتَعاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤمنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»)}.
قوله: «إِنَّ اللهَ تبَاركَ وَتَعَالَى قَالَ»، فيه إثبات صفة القول لله، فالله يتكلم بما يشاء متى شاء -سبحانه وتعالى.
قوله: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا»، فيه إثبات صفة الولاية وأنَّ هناك من النَّاس مَن هو وليٌّ لله -جلَّ وعلا- ولكن لا يكون الإنسان من أهل الولاية حتى يكونَ متَّصفًا بصفتين: الإيمان والتَّقوى؛ كما قال تعالى: ï´؟أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَï´¾ [يونس 62، 63]، يعني أنَّهم مستمرون على التَّقوَى.
قوله: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ»، فيه تحريم معاداة أولياء الله، وشدَّة عقوبة مَن آذى أولياء الله في الدُّنيا والآخرة، ولذا قال: «فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ»، فمَن يصبر على الحرب من الله!!
ثم قال: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إليَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ»، يعني أنَّ أفضل القربات قربات الفرائض، وأحسن الأجور أجور الواجبات، وفي الحديث:
- أنَّ الواجبات مقدَّمةٌ على النَّوافل والمستحبَّات.
- و أنَّ الفرائض أمورٌ لازمةٌ وحتمٌ واجبٌ لا سبيل للعبدِ إلى تركه، ولكن لا يعني هذا أن نغفل النوافل، فالنوافل نكمل بها الفرائض، وتعيننا على أداء الفرائض، وأيضًا تُعلِّق قلوبنا بالربِّ -سبحانه وتعالى.
قال: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»، فيه إثباتُ صِفةِ المحبَّة لله -جلَّ وعلا.
قال: «فَإِذا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ»، أي: أنَّ الله يحميه في سمعه.
قال: «وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ»، أي: أنَّ الله يحميه في بصره، فلا يستعمله إلَّا فيما ينفع، ولا يؤدِّي إلى عطبٍ عاجلٍ.
قال: «وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا»، أي: أنَّ الله يتولَّى شأنه كلَّه.
قال: «وَلَئِنْ سَأَلَني لأُعْطِيَنَّهُ»، يعني متى طلب منِّي شيئًا من حوائج الدنيا والآخرة فإنَّني سأقومُ بإعطائه، وهذا من كرمِ ربِّ العزَّةِ والجلال، والله قد وعدَ النَّاس بإجابة دعائهم فقال: ï´؟وقال ربكم ادعوني أستجب لكمï´¾ [غافر:60]، فكلُّ النَّاس يُستجاب لهم، ولكن بعضَ النَّاسِ يُستجابُ له بمثل دعوته، وبعضَ النَّاس يؤتى له من الخيرِ ما يُماثل دعوتَه، وبعضهم يُصرَف عنه من الشَّرِّ ما يُماثل دعوته، وبعضهم يؤخَّر جوابُ مسألته إلى يوم القيامة بخلاف مَن كان على مثل ما ذُكرَ في الحديث من فعل الفرائض والنَّوافل.
قال: «وَلَئِن اسْتَعاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ»، أي: إذا طلبَ منِّي أن أُبعِدَ عنه كلَّ ما يؤذيه فعلتُ ذلك.
قال: «وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤمنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»، أي أنَّ الله -عزَّ وجل- يُريد أن يقبض نفسه، وهو يُريدها أن تتأخَّر فلا يُقبَض عليها.
{أحسن الله إليكم..
هل يُوصف الله تعالى بالتَّردُّد؟}.
ليسَ المراد بالتَّردُّد هنا الذي على جهةِ الشَّكِّ والاحتمال، وإنَّما المراد به في تطبيق قواعد السُّنَن الكونيَّة في مثل تلك الأبواب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالقَطِيفَةِ وَالخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ»)}.
قوله: «تَعِسَ»، أي: قلَّ شأنه، وأصيب بالنَّكبات والمصائب.
قال: «عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ»، الدِّينار مِن الذَّهب، والدِّرهم مِن الفضَّة، يعني الذي لا يفعل شيئًا إلَّا من أجلهما، فأين المحبَّة في الله! أينَ القيام مع الإخوان!
قال: «وَالقَطِيفَةِ»، هي نوع من أنواع اللباس.
قال: «وَالخَمِيصَةِ»، نوعٌ من اللباس كذلك.
فهذا اللذي وصفه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ»، من صفته: «إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ»، أي: لم يقبل بما آتاه الله -جلَّ وعلا- له.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا عَطَسَ أَحَدُكُم فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ للهِ، وَلْيَقُلْ أَخُوهُ -أَو صَاحِبُهُ- يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإِذا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيصْلِحُ بَالَكُم»)}.
هذا فيه تعليمٌ لبعضِ السُّنن القوليَّة المتعلِّقة بالعُطَاسِ.
قال: «إِذا عَطَسَ أَحَدُكُم»، هذا يشمل الذكر والأنثى.
قال: «فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ للهِ»، يعني الذي يسَّرها وسهَّلها، والذي لا زالت نِعمه متتابعة على العبد.
قال: «وَلْيَقُلْ أَخُوهُ -أَو صَاحِبُهُ»، لأنَّ هؤلاء هم أولياء الشَّخص العَاطِس.
قال: «وَلْيَقُلْ أَخُوهُ -أَو صَاحِبُهُ يَرْحَمُكَ اللهُ»، يدعو له بالرَّحمةِ.
قال: «فَإِذا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيصْلِحُ بَالَكُم»، تقدَّم معنا أنَّ مَن عطَسَ فلم يحمد الله فإنَّه لا يُشرَع تشميته ولا الدُّعاء له بالرَّحمة.
وذهب كثيرٌ مِن أهلِ العلم إلى أنَّ وإجابة الحمد بعدَ العطاس إلى وجوبها على سبيل البدليَّةِ، فإذا أجابَ أحد النَّاس أجزأ حينئذٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ للنَّبِيِّ أَوْصِني، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ», فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: «لَا تَغْضَبْ»)}.
قوله: (أَنَّ رَجُلًا قَالَ للنَّبِيِّ أَوْصِني)، فيه مشروعيَّة طلب الوصيَّة من الرَّجل الصَّالح والعالم الفاضل.
قوله: «لَا تَغْضَبْ», الغضب: صفةٌ من الصِّفات التي تكون عندَ صاحبها سبب تأثُّره بما حوله.
وقوله هنا: «لَا تَغْضَبْ» فيه إشكال، وذلك أنَّ الغضب صفةٌ ذاتيَّةٌ وأفعالٌ تحدث بنفسها، فيكيف يُقال له "لا تغضب" فالإنسان لا يمسك نفسه بحيث يتمكَّن من إبعاد الغضب عنه؛ ولذلك فُسِّرَت بعددٍ من التفسيرات:
التَّفسير الأوَّل: لا تُعرِّض نفسَك للمواقف التي قد تغضب منها.
التَّفسير الثَّاني: أنَّ المراد بقوله: «لَا تَغْضَبْ»، أي: لا تستثير الأسباب التي تدعوك إلى الغَضب.
التَّفسير الثَّالث: أن قوله: «لَا تَغْضَبْ» أي: لا يُخرجك تأثُّرك وتغيُّركَ عن طورِكَ، وبالتَّالي تتصرَّف بأمورٍ غير مناسبة.
التَّفسير الرَّابع: أن قوله: «لَا تَغْضَبْ» معناه أنَّك إذا غضبتَ فلا تُنفِذ غَضبَك.
قوله: «فَرَدَّدَ مِرَارًا»، أي كلمة «لَا تَغْضَبْ» وذلك لعظمِ فائدتها وكثرة ثمرتها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا، يُصِبْ مِنْهُ»)}.
قوله: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا»، يعني: أي شخصٍ أراد الله به الخير فإنَّه يُقدِّر عليه مصائب من مصائب الدُّنيا مِن أجلِ أن يمحو الله -جلَّ وعلا- سيئاته.
قال: «يُصِبْ مِنْهُ»، أي تأتيه شيء مِن المصائب والأمراض التي تصيبه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ»)}.
هذا الحديث رواه البخاري.
قوله: «نِعْمَتَانِ»، أي فضيلتان تفضَّلَ الله بها على العبادِ.
قوله: «مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ»، أي أنَّ هذه النِّعمة مع عِظَمِهَا وكِبَرها إلَّا أنَّ بعض النَّاس لا يستفيد منها الاستفادة المناسبة المتعلِّقة بها.
النِّعمة الأولَى: قال: «الصِّحَّةُ»، الصِّحة: هي عدم طروء الأمراض على الأبدان.
النِّعمَة الثَّانية: قال: «وَالفَرَاغُ»، فإنَّ الفراغ يتمكَّن الإنسان به من قضاء حوائجه والتفكير فيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَنْكِبِي فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَو عَابِرُ سَبِيلٍ». فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذا أَمْسَيْتَ فَلَا تنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لَمَوْتِكَ)}.
هذا الحديث من الأحاديث التي فيها موعظة وعبرة.
قال: (أَخَذَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَنْكِبِي)، وهو طرفُ العظامِ الذي يَقعُ بين الكَتِف والذِّراع، وفيه جوازُ إمساكِ هذا الجزء مِن البَدَن مِن وراء حائلٍ ولو مِن الرِّجال الأجانب.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لابن عمر: «كُنْ فِي الدُّنْيَا»، أي: ليكن شأنك وطريقتك.
قال: «كَأَنَّكَ غَرِيبٌ»، أي مسافرٍ جاء إلى بلدٍ مغايرٍ لبلده.
قال: «أَو عَابِرُ سَبِيلٍ»، أي أنَّه مجتازٌ لهذا الموطن.
قال: (فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذا أَمْسَيْتَ فَلَا تنْتَظِرِ الصَّبَاحَ)، يعني: إذا دَخَلَ عليك المساء فلا تدري هل يَصِل إليك وقت الصَّباح أو لا يصل إليك.
قال: (وَإِذا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ)، وما ذاك إلَّا لأنَّ الأمور والأقدار تقع ولا يُمكن لأحدٍ مِن النَّاس أن يردَّها.
قال: (وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرضِكَ)؛ لأنَّك إذا مرضت ستعجز عن كثيرٍ من العبادات، وبالتَّالي يُشرَع أن تأخذ من صحَّتكَ ما يقومُ بحالك.
قال: (وَمِنْ حَيَاتِكَ لَمَوْتِكَ)، أي: خُذْ مِن حياتِك ما تنتفعُ به يومَ موتك لربِّ العزَّةِ والجلال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّصُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»)}.
هذا الحديث يتعلَّق بالأموال العامَّة، سواء أموال غنائم أو أموال بيت مالٍ أو نحوها.
يقول: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّصُونَ فِي مَالِ اللهِ»، أي: لا يتورَّعونَ عن شيءٍ ممَّا فيهِ مالٌ لله -عزَّ وجل.
قال: «بِغَيْرِ حَقٍّ»، أي بغيرِ برهانٍ ولا بيِّنةٍ ولا دليلٍ على أنَّه من مالهم.
قال: «فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، لأنَّهم قد خاضوا ذلك الفعل الشَّنيع بأخذ شيءٍ من مال الله -جلَّ وعلا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّكُم لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُم مِنَ الشَّعْرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الـمُوبِقَاتِ)}.
هذا الخبرُ يُفيد تقليل أثر السَّيئة على العبد هو مِن شَأنِ أهلِ النِّفاق، أمَّا أهلُ الإيمان فإنَّهم يرونَ الشَّيءَ اليسير مؤثرًا عليهم.
قال: (إِنَّكُم لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُم مِنَ الشَّعْرِ)، فيه مشروعيَّة تجنُّب الأعمال التي من المعاصي ولو كانت يسيرة.
قال: (إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الـمُوبِقَاتِ)، أي من المهلكات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ»)}.
قوله: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ»، أي: كل فعلٍ جميل يتعارف الناس على حسنه فإنَّه يعتبر بمثابةِ الصَّدقةِ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ يزِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ: نهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ النُّهْبَى والـمُثْلَةِ.
وَعَنِ الْمِقْدَامِ بنِ مَعْدِيَ كَرِبَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ». أَخْرَجَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ البُخَارِيُّ)}.
قوله (نهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ النُّهْبَى والـمُثْلَةِ).
النُّهبَى: أخذُ الشَّيء مِن غيرِ أن يَكونَ هناك تَرتيبٌ ولا تَنظيمٌ لأخذِهِ.
والـمُثْلَة: تَقطيع بعضِ أطرافِ الحيوان الميت، فكانوا يُقطِّعونَ آذانه ونحوها، من أجل أن يجعلوه بمثابة الكُرةِ.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كِيلُوا طَعَامَكُمْ»، يعني: اعرفوا مقداره.
قال: «يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ»، أي: يكون له آثار النَّماء والزَّيادة.
ثمَّ بيَّن المؤلِّف أنَّ هذه الأحاديث جميعها قد رواها الإمام البخاري في صحيحه.
ولعلَّنا -إن شاء الله- أن نتدارَسَ في أيَّامنا المستقبلة الأحاديث التي أخرجها الإمام مسلم في صحيحه.
بارك الله فيكم، ووفَّقكُم الله للخيرِ، وجعلنا الله وإيَّاكم مِن الهداة المهتدي، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-30, 08:04   رقم المشاركة : 24
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ العِشْرُون (20)
معالي الشَّيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{اللهم آمين..
نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «رَغِمَ أَنفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُه» قَيْلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَو كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ»)}.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فإنَّ المؤلف في "كتاب الجامع" لَمَّا فرغ من الأحاديث المتفق عليها والأحاديث التي أخرجها الإمام البخاري؛ ابتدأ بذكر الأحاديث التي أخرجها الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى- وقد ابتدأها بهذا الحديث الذي فيه الحث على برِّ الوالدين، والنَّهي عن عقوقهما، فقال فيه: «رَغِمَ أَنفُ»، أي: ذلَّ وخصعَ، وأصبحَ أنفُ الإنسانِ في التُّراب، وهو كناية عن ذلِّه.
قال بعض العلماء: إنَّ لفظ «رَغِمَ أَنفُ» على جهة الخبر؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخبر بأنَّ ذلك سيكون أمره.
وقيل: إنَّ المراد بهذا الدُّعاء عليه لمَّا أخطأَ وتركَ أمرَ البرِّ بالوالدين أُمِرَ بذلك.
قوله: (قَيْلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟)، فيه اهتمام الصحابة بأحاديث النُّبوَّة وبأخبارِ مَن أخبر عنه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال لهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ»، أي: أنَّه تمكَّن من أن يعيش مع أبويه عند كبر سنِّهما.
قال: «أَحَدَهُمَا أَو كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ»، في هذا الحديث:
- أنَّ البر بالوالدين عند كبر السِّنِّ والعجز منهما من أسباب دخول الجنَّة.
- وأنَّ البرَّ مع وجود الحاجة له يكون أجره أعظم، ويكون ثوابه أكثر.
- وأنَّه كلَّما كان الدَّاعي للفعل الحسن والصَّدقة أكثر كان الأجر أكثر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِّيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، إحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِن أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَو أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»)}.
هذا الحديث فيه فوائد كثيرة، منهـــا: التَّرغيبُ في تقوية المؤمن لنفسه، والقوَّة قد تكون في قوَّة البدن، وقد تكون في قوَّة العلم، وقد تكون في قوَّة التَّمكين؛ وكل قوَّةٍ يُمكن أن تُستعمل في الخير فإنَّه مرغَّبٌ فيها، وبالتَّالي فإنَّ بذلَ الأسباب لتحصيل هذه القوى متى كان مراد الإنسان منها أن يكون محبوبًا عند الله تكون عملًا صالحًا يُؤجَرُ عليه.
وقوله: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِّيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ»، فيه إثبات صفة المحبَّةِ لله -جلَّ وعلا.
قال: «وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ»، أي: كلٍّ من المؤمن الضَّعيف والمؤمن القوي.
وفي الحديث:
- الترغيب في أن ينتفع الإنسان في أمور حياته، فيسعَى فيما يُحقِّق له النَّفع.
- وأنَّ المؤمن يتوكَّل على الله ويستعين به في أموره، فقوله: «واسْتَعِنْ بِاللَّهِ»، أي: اطلب العون من الله -جلَّ وعلا.
والعون قد يكون في الإرادة بحيث يطلب العبد من ربِّه أن يُعينه في تكوين إرادة عنده للخير، فإنَّ إرادة الخير نعمة من عند الله -عزَّ وجلَّ- يُنعم بها على بعض عباده، وكذلك يُراد بها العون على تحقيق المراد الخيِّر، وتحقيق النَّتائج التي تكون من وراء ذلك العمل.
وقوله: «وَلَا تَعْجَزْ»، أي: لا تُصاب بالعجز، وبالتَّالي تؤدي الأسباب التي توصلك إلى تحقيق مرادك.
قوله: «وَإِن أَصَابَكَ شَيْءٌ»، يعني: إن لحقك شيء من المصائب والأقدار المؤلمة، سواء ما كان منها صادًّا لك عن مرادك وعن رغبتك في تنفيذ أمر الله -عزَّ وجلَّ- أو ما كان من المصائب في غير ذلك، فإنَّ العبد في الدنيا لا يسلم من المصائب، وقد تكون المصائب خيرًا للعبد كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا، يُصِبْ مِنْهُ»، وقال: «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل».
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِن أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَو أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا»، هذه اللفظة متى قيلَت على وجه التَّحسُّر وعلى وجه التَّأسُّف والنَّدمِ على ما يُقدِّره الله على العبدِ كانت مذمومة، وأمَّا لو كانت على جهة الحثِّ في المستقبل فإنَّها لا تدخل في هذا النَّهي، كما لو قلت لشخص: لو فعلت الخير أثابك الله عليه الثَّواب الجزيل؛ فهذا ليس مرادًا هنا؛ لأنَّ المراد من النَّهي عن "لــو" التي تتعلَّقُ بأمرٍ ماضٍ، وتكون على جهةِ التَّأسُّفِ والتَّحسُّرِ على فوات أقدار الله، ولذا قال: «وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ»، فيه عموم مشيئة الله، وأنَّ مشيئة الله نافذة، وأنَّه مهما فعل العبد فلن يتجاوز هذه المشيئة.
وفي الحديث: وجوب التَّسليم بأقدار الله، وعدم الاعتراض عليها ولو كانت من المصائب، ومتى كان الإنسان مؤمنًا بقضاء الله وقدره كان ذلك أهنأ لنفسه وأريح لبالِهِ.
قال: «فَإِنَّ لَوْ»، يعني: فإنَّ استعمال كلمة "لو" على جهةِ التَّأسُّف والتَّحسُّرِ من الأقدار. «تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»؛ لأنَّها تُمكِّنُ الشَّيطان من أن يُحسِّفَ العبدَ.
وقد جاء في النُّصوص أنَّ الشَّيطان يُريد أن يُنزل الحزن في قلوب المؤمنين كما قال -جلَّ وعلا: ï´؟إِنَّمَا النَّجْوَىظ° مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًاï´¾ [المجادلة:10].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا قَامَ أَحَدُكُم مِنَ اللَّيْلِ، فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنَ عَلَى لِسَانِهِ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ، فَلْيَضْطَجِعْ».
وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ».
وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»)}.
هذه الأحاديث الثلاثة متعلقةٌ بالصَّلاة، وخصوصًا صلاة الليل، وكلها من أحاديث الصَّحابي الجليل أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
الحديث الأوَّل: قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا قَامَ أَحَدُكُم مِنَ اللَّيْلِ»، أي: إذا استيقظَ الإنسان من الليل من أجل أن يؤدِّيَ صلاة الليل.
قال: «فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنَ عَلَى لِسَانِهِ»، أي: أصبح ثقيلًا لا يُدرك معانيه ولا يتمكَّنُ من تلاوته بنسقه؛ فحينئذٍ يُستحبُّ له أن يضطج، فكانَّه لمَّا كان عسرًا النُّطق به لتعب الإنسان أصبح بمثابة الكلام الأعجمي، ولذا قال: «فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنَ عَلَى لِسَانِهِ».
قال: « فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ»، أي: لم يكن يتمعَّن في معاني القرآن ويتدبَّر في ألفاظه.
قال: «فَلْيَضْطَجِعْ»، أي: ليرقد من أجل أن يكون هذا من أسباب رجوع نفسه إليه وراحة باله، وبالتَّالي يتمكَّن من فهم القرآن.
وفي هذا دلالة على أنَّ القراءة التي تكون بتدبُّرٍ وفهمٍ للمعاني أعظمُ أجرًا من القراءة التي لا تكون كذلك.
ويُفهم منه أنَّ بعض الوسائل التي تُتَّخذ للمقاصد قد تكون أولى من ذات المقصد، من أجل أن تلك الوسيلة تحقق المقصد على أعلى درجاته، فقراءة القرآن وقيام الليل مقصود للشَّاع، وراحة البدن وسيلة لذلك، فإذا لم يُمكن أن يؤدِّي الإنسان المقصد على أكمل وجوهه إلَّا بأداء الوسيلة؛ كان أداء الوسيلة مقدَّمًا كما في هذا الخبر.
وأمَّا الحديث الثَّاني: فقال: «إِذا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ»، أي: إذا قام للصَّلاة.
قال: «فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ»، صلاة الليل عمل عظيمٌ فيه ثوابٌ جزيلٌ، وقد قال -جلَّ وعلا- في وصف المؤمنين: ï´؟تَتَجَافَىظ° جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَï´¾ [السجدة:16]، وقال تعالى في وصف المتقين: ï´؟كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَï´¾ [الذاريات:17].
وكان من شأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقومَ من الليل، ومَن لم يستطع أن يقومَ آخر الليل فيُستحبُّ له أن يؤدِّيَ صلاة الليل من أوَّلِ ليله، ليكونَ بذلك حائزًا على الأجر والثَّواب؛ لأنَّ قوله: «إِذا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ» لم يُفرِّق فيه بين أوَّل الليلِ وآخره.
قال: «فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ»، فيه استحباب تقديم ركعتين خفيفتين قبل صلاة الليل، وهذا بمثابة تهيئة النَّفس لأداء هذه الصَّلاة، ولطرد العدو الشيطان الرَّجيم.
والحديث فيه دلالة على استحباب تطويل الصَّلاة بعدَ هاتين الرَّكعتين، وليس التطويل مستحبًّا دائمًا؛ بل يُطوَّل فيما جاء الشَّرعُ فيه بالتَّطويل، ويُخفَّف فيما جاء الشَّرعُ بالتَّخفيف.
وأمَّا الحديث الثَّالث: حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ»، وهذا القرب يؤدِّي إلى أن يسمع الله -جلَّ وعلا- منه ويستجيب دعواته، ولذا قال: «فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»، يعني: في أثناء السجود.
وفي الحديث: أنَّ السجود موطنٌ فاضل، وأنَّه من مواطن إجابة الدَّعوات، وفيه التَّرغيب في كثرة الدُّعاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ النَّوَاسِ بنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، فَقَالَ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»)}.
قوله: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ)، كأنَّ السؤل عن خصال البرِّ والإثمِ؛ فإنَّ النُّصوص قد جاءت بالتَّرغيب في البرِّ والنَّهي عن الإثم، كما قال تعالى: ï´؟وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىظ° غ– وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِï´¾ [المائدة:2]، وقال تعالى: ï´؟ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَظ°كِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَï´¾ [البقرة:177]، الآية. فالبرُّ أمرٌ محمودٌ، ولذا قال في آخر هذه الآيات ï´؟أُولَظ°ئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا غ– وَأُولَظ°ئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَï´¾ [البقرة:177].
وضده الإثم، ولذا قال تعالى: ï´؟قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَï´¾ [الأعراف:33].
ثم ذكر بعدَ ذلك خصال البرِّ فقال: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُق»، المراد بالخُلُق: التَّعامُل، وحُسنه أن يؤدِّيه الإنسان على أفضل صوره، وقد يكون هذا في تعامل الإنسان مع الله -جلَّ وعلا-، وقد يكون في تعامله مع عباد الله؛ فكلُّ ما كان حسنًا من الأخلاقِ وما كان محمودًا فاضلًا من التَّصرُّفات فإنَّه برٌّ محمودٌ عليه.
ثم قال: «وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ»، حاكَ أي: لجلجَ وتردَّدتَّ فيه، وخشيتَ من أن يكون عليكَ إثمٌ في مزاولته، وفي هذا التَّرغيب في أن يكون الإنسان على حالٍ بعيدًا فيها عن الشُّبهات التي قد تشتبه على حالِ الإنسان.
قال: «وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»، أي: أنَّ الإنسانَ إذا أدَّى عملًا يخاف من اطلاع الآخرين عليه فهذا فيه إشارة إلى ما فيه من إثمٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ سعيدِ بنِ عبدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بن يَزِيدَ، عَنْ أَبي إِدْرِيسَ الْخَولَانِيِّ، عَن أَبي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -فِيمَا يَرْويهِ عَنِ اللهِ تبَاركَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُم، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُم، يَا عِبَادي، إِنَّكُم تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُم، يَا عِبَادِي، إِنَّكُم لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادي، لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنْسَكُم وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُم، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي، لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم، وَإِنْسَكُم وَجِنَّكُم كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنْسَكُم وَجِنَّكُم، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُم أُحْصِيْهَا لَكُم، ثُمَّ أُوَفِّيْكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ». قَالَ سَعيدٌ: كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَولَانِيُّ إِذا حَدَّثَ بِهَذَا الحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ)}.
هذا الحديث عظيمَ النَّفعِ كثيرَ الفوائد، وخلاصته: ترغيب العبد في أن يُكثر الاتِّصال بالله -عزَّ وجلَّ- في جميع أحواله.
وهذا الحديث من الأحاديث القدسيَّة، ولذا قال: (فِيمَا يَرْويهِ عَنِ اللهِ تبَاركَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي...»)، ناداهم بهذا الاسم الذي هو من أعظم الأسماء مزيَّة، والذي فيه مقام العبوديَّة، وقد كان من شأنِ الآيات القرآنيَّة عندَ ذكر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المواطن الشَّريفة أن يُذكر بوصف العبوديَّة، فقال: ï´؟سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَىï´¾ [الإسراء:1].
قوله: «إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ»، المراد بالظُّلم: عدم أداء الحقوق لأصحابها، وأخذُ مالِ الآخرين منهم.
قال: «إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي»، أي: امتنعتُ من ذلك، وهذا من كمالِ عدلِ الله -جلَّ وعلا- فإنَّ نفيَ صفةٍ مذمومةٍ بحقِّ الله -جلَّ وعلا- إنَّما هو من أ"جلِ إثبات كمالِ ذدِّها، فالله -جلَّ وعلا- أعدل مَن يكون، وأعدل مَن حكمَ.
قوله: «وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا»، الأوَّل حرمه على نفسه، وجعل الظُّلمَ محرَّمًا بينَ العباد.
والمراد بالمحرَّم: ما نهى الله عنه نهيًا جازمًا، ويترتَّبُ على فعله الإثم.
قال: «فَلَا تَظَالَمُوا»، أي: لا يظلم بعضُكُم بعضَكم الآخر.
قال: «يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ»، فمَن لم يكن عنده دليلٌ من الشَّرع يهتدي به فهو ضالٌّ، وفيه إثبات أنَّ الهداية فضلٌ من الله -جلَّ وعلا- ولذا طلبَ منهم أن يدعوا الله بها، فقال: «فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ»، أي: اطلبوا من الله الهداية، فإنَّ من طلب الهداية من الله فإن الله سيهديه.
قوله: «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ،»، فيه أنَّ التَّفضُّل بالأرزاق منَّةٌ من الله -جلَّ وعلا- على عباده.
وقوله: «فَاسْتَطْعِمُونِي»، أي: اُطلبوا منِّي الطَّعام.
قال: «أُطْعِمْكُم»، أي: أستجيب دعواتكم.
وفيه أنَّه يُستحبُّ للإنسان أن يدعو الله بجميع حوائجه حتى ولو ما ظنَّ أنَّه من الأمور القليلة.
قوله: «يَا عِبَادِي»، تكرار لهذا اللفظ من أجل أن يكون داعيًا للخلق لأن يعودوا إلى الله -جلَّ وعلا- وفيه تذكير من الله للعباد بالعلاقة التي بينه وبينهم.
قال: «كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ»، أي: لا يجدُ لباسًا يلبسه، فنعمة اللباس هي منَّةٌ من الله -جلَّ وعلا- ولذا قال: «فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُم»، أي: أتفضّلأ بإعطائكم اللباس الذي تحتاجونَ إليه.
ثمَّ ذكَّرهم بفتحِه سبحانه لباب التَّوبةِ لمَن أخطأ من العباد فقال: «يَا عِبَادي، إِنَّكُم تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ»، أي: يكون منكم تجاوز في حقِّ الله -جلَّ وعلا.
ومن أنواع التَّجاوز:
ïƒک الذنوب والمعاصي.
ïƒک وعدم شكر الله على نعمه.
ïƒک والغفلة عن طاعة الله -جلَّ وعلا- وعن ذكره، فكم من الأوقات مرَّت بنا لم نذكره -سبحانه وتعالى- وذكر الله فيه خير الدُّنيا والآخرة.
قال: «وَأَنا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا»، فهذا باب التَّوبة جعله الله -جلَّ وعلا- للعبادِ، وغفران الذُّنوب بإزالتها وإزالة آثارها.
قال: «فَاسْتَغْفِرُونِي»، أي: اُطلبوا من الله أن يغفر لكم، وفيه الحث على الاستغفار وهو طلب المغفرة.
قال: «أَغْفِرْ لَكُم»، أي: أنَّ الاستغفار من أسباب المغفرة.
قال: «يَا عِبَادِي، إِنَّكُم لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي»، أي: أنَّ الله غنيٌّ عن العباد غير محتاجٍ لهم، وغيرُ خائفٍ منهم؛ بل هو سبحانه القويُّ العزيزُ الممتنع، وهو الذي يملك مقاليد الأمورِ ويتصرَّفُ في الخلق بما يشاء -سبحانه وتعالى.
قال: «يَا عِبَادي، لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنْسَكُم وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُم، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي»، فإنَّ الله -جلَّ وعلا- هو المتصرِّف في الكون، وهو المالك للخلق أجمعين.
قال: «لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم، وَإِنْسَكُم وَجِنَّكُم كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا»، فالله -جلَّ وعلا- لا ينتفع بطاعة الطَّائعين، ولا يتضرَّر من معصية العاصينَ لكمال ملكه ونفاذ أمره -سبحانه وتعالى.
ثم قال: «يَا عِبَادِي، لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنْسَكُم وَجِنَّكُم، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي»، أي: طلبوا حوائجهم كلها.
قال: «فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذا أُدْخِلَ الْبَحْرَ»، المخيط: آلة الخياطة، وهي دقيقةٌ صغيرةٌ إذا أُدخِلَت في البحر فلن تأخذ من البحر شيئًا تشاهده العين؛ بل هو أمرٌ يسيرٌ، فهكذا لو حُقِّقَت أماني النَّاس جميعًا، واستًجيبَ لدعواتهم كلِّها؛ فإنَّه حينئذٍ لن ينقصَ ذلك من مُلكِ الله -جلَّ وعلا- وإنَّما هو نقلُ مُلكٍ من جهةٍ إلى جهةٍ أخرى، فإنَّ العبدَ وما يملك مُلكٌ لله -جلَّ وعلا- قادرٌ على سلبه منه في لحظةٍ واحدةٍ.
ثم قال: «يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُم أُحْصِيْهَا لَكُم»، أي: هذا الجزاء الذي تُجزونَ به، وهذا الثواب أو العقاب من دخول الجنان أو النيران؛ لإنَّما هي نتيجة أفعالكم، ولذا قال: «إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُم أُحْصِيْهَا لَكُم»، أي أنَّ الله يأمر ملائكته بتسجيلها وتقييدها.
قال: «ثُمَّ أُوَفِّيْكُمْ إِيَّاهَا»، أي: أُنيلكم ثوابها وجزاءها.
وفي هذا دلالةٌ على أنَّ الثواب والعقاب إنَّما يكون سببِ أعمالِ الإنسانِ، وليست على جهة المقابلَة فتماثلها في الجزاء؛ وإنما هي سبب لها، وقد يحصل الأمر العظيم بالسبب اليسير.
قال: «فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ»، أي: ليشكره -سبحانه- لأنَّه -جلَّ وعلا- هو الذي تفضَّلَ على العبدِ فهداه ويسَّر له سبيل الطَّاعة.
قال: «وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ»، أي وجدَ غيرَ الإحسان وغير الخير «فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»، أي لِيَرجع باللائمة والعتاب على نفسه، فهو الذي قصَّرَ في طاعة الله -جلَّ وعلا- وهو الذي لم يقم بشكر نعم الله، ولا بالصَّبرِ على قضائه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ»)}.
هذا الحديث فيه النَّهي عن خلقين شنيعين عظيمين:
أولهما: الظَّلم، وهو التَّعدِّي على حقوق الآخرين ومنعهم مالهم، وبيَّن سوء عاقبته فقال: «فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، أي: لا يُشاهد الإنسانُ طريقَهُ ولا يستبصرُ ما يسير فيه.
ثانيهما: الشُّح، وهو إمساك نِعَمِ الله وعدم بذلها خصوصًا في الواجبات من الزَّكاة والنَّفقةِ على النَّفسِ والأقارب، أو المستحبَّات بأنواعها.
قال: «فَإِنَّ الشُّحَّ»، أي الإمساك للنَّعَمِ وعدم إنفاقها في مواطنها «أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»، أي كان سببًا في هلاكهم، وذلك أنَّهم تشاحُّوا على النِّعَمِ فاقتتلوا من أجل ذلك، ولذا قال: «حَمَلَهُمْ» أي: الشُّح «عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ»، أي: قتل بعضُهم بعضَهم الآخر بدعوى طلب الإنسان لما يُريده وما يكون من حقِّه.
قال: «وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ»، أي: أنَّهم تناولوا المحرَّمات من المحارم ولم يتورَّعوا فيها، وما ذاك إلَّا من الشَّحِّ والظُّلم.
فهذه الأحاديث أحاديث عظيمة فيها فوائد كثيرة ومعانٍ جليلة، ينبغي بالإنسان أن يستبصرَ فيها، وفيها تذكير بسنن الله في الكون.
بارك الله فيك، وجزاك الله خيرًا، وأشكركَ على حسن الترتيب والتهيئةِ، وعلى جميل القراءة، وأسأله -جلَّ وعلا- أن يهبكَ علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، وهكذا الدُّعاء لكم إخواني، كان الله معكم، وكان الله معينًا لكم على الخير، باركَ الله فيكم، ورضي الله عنكم، وأصلح الله أحوالكم، وجعلكم تسيرون على طاعته، كما أسأله -جلَّ وعلا- أن يوفقك ولاة أمور المسلمين، وأن يجعلهم من أسباب الخير والهُدَة والتُّقى والصَّلاح، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-05-07, 07:44   رقم المشاركة : 25
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ الحَادِي وَالعشرُون (21)
معالي الشَّيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{اللهم آمين..
نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من (حديث أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ القَرْنَاءِ»)}.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعد،،
فلازلنا في سياق الأحاديث التي ذكرها المؤلف في كتاب الجامع في آخر كتاب المحرر من الأحاديث التي انفرد بروايتها الإمام مسلم -رحمه الله تعالى.
قوله: «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقَ»، أي: أنَّ الله -جلَّ وعلا- في إيصال كل حق لصاحبه يوم القيامة.
وقوله: «لَتُؤَدَّنَّ» مبنية للمجهول، وقوله: «الْحُقُوقَ» نائب فاعل.
قوله: «إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أي: إلى أصحاب الحقوق.
قوله: «حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الجَلْحَاءِ» أي: التي ليس لها قُرون.
قوله: «مِنَ الشَّاةِ القَرْنَاءِ» أي: التي نطحتها في الدُّنيا، وهذا لعُموم عدل الله -جَلَّ وَعَلا، وفيه تحذير من الظلم وأَمْرٌ بالاحتياط فيما يتعلق بحقوق الآخرين.
السؤال الأول:
أجمع الفقهاء على أنَّه لا يوجد قصاص بين البهائم بعضهم مع بعض يوم القيامة.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/yaqCWhGqxtE

{( وَعَنْ أَبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وتَعَاهَدْ جِيْرَانَكَ».
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئاً وَلَو أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»)}
قوله في الحديث الأول: «إِذا طَبَخْتَ مَرَقَةً»، المرقة: ماءٌ يُوضعُ فيه شيئٌ من الخضار أو من اللحم.
قال: «فَأَكْثِرْ مَاءَهَا»، أي: أكثر من وضع الماء في تلك المرقة من أجل أن يتمكن من الانتفاع والشرب بها خلقٌ كثير.
«وتَعَاهَدْ جِيْرَانَكَ»، أي: أرسل إليهم من تلك المرقة التي كَثُرَ ماؤُها، وفي هذا:
- استحباب الصدقة والهدية.
- الترغيب في القيام بحق الجار.
- حق الجار يكون فيما يَحتاج إليه الجار، وقد يختلف ما بين زمانٍ وآخر.
ففي زمان قد يكون احتياجه للقمة يأكلها، وفي زمان آخر قد يكون احتياجه لأشياء أُخر.
وقوله في الحديث الآخر: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئاً»، أي: لا تستنقص من الفعل الجميل ولو كان قليلاً؛ فإن الجميل ولو كان قليلا له تأثيرٌ عظيم، وفيه الترغيب في فِعل الخير ولو كان يَسيرًا.
وقد جاء في حديثٍ آخر قوله صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» ، وذَكَرَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم: مَنِيحَةَ العَنْز ، أي: يقوم بتمكين جاره من حَلْبِ شاته أو عَنْزِه من أجل أن يأخذ حَلِيبها.
قال: «وَلَو أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»، كلمة «لَو» هُنا ليست على الجِهة المذمومة، وإنَّما فيها التَّرغيب في فِعْلٍ في المستقبل، وإنَّما التي تُذَمُّ هي ما كان مُتَعَلِّقًا بالماضي على جهة التَّأسُف والتَّحَسُّر عليه كما تقدم.
السؤال الثاني:
يجب على المرء أن يبذل من جميع أفعال الخير بحسب قدرته ولو كان شيئًا يسيرًا.
صواب
https://www.youtube.com/embed/jzBLHLw3Sy8

وفيه تذكير بحق الإخوة الإيمانية فيما بين النَّاس، وفيه التَّرغيب في بشاشة الوجه وانطلاقه، فإنَّه مَتى كان الوجه مُنْطَلِقًا شَرح صُدُور مَن يُقابله.
قال المؤلف -رحمه الله: {(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عيله وسلم- يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ»)}.
هذا الحديثُ فيه عُموم قَدَرِ الله -جَلَّ وَعَلا، وأنَّ قَدَرَ الله نافذ، وأنَّه لا يَترُكُ شيئًا من أحوال الخلق، وبالتالي يجب على الإنسان أن يُؤمِنَ بِقَضاءِ الله وقَدَرِه، وأن يَصبر على ما يكون مِنَ الأقدار المؤلمة.
وفي هذا بيانُ أنَّ السموات والأرضين مخلوقة كائنةٌ بعد أن لم تَكُن.
وفي هذا أيضًا بيانُ أنَّ العَرش مخلوقٌ وأنَّه وُجِدَ قبل خلق السموات والأرضين.
السؤال الثالث:
الراجح أن العرش خُلق ..... خلق السموات والأرض.
قبل – بعد – مع
https://www.youtube.com/embed/tuzdLw9eOCU

{سؤال: هذا الحديث بيَّنَ أنَّ الكتابة حدثت قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وفي حديث ابن مسعود قبل أربعة أشهر، فكيف نجمع؟}
جاء في حديث ابن مسعود أنَّ مقادير الإنسان تكتب بعد أربعة أشهر، أي هذا يتعلق بالشخص الذي سيولد بعد أن يتكون في بطن أمه في أربعة أشهر يكتب ما يتعلق به هو، بينما هذه مقادير جميع الخلائق، (إنسان – حيوان – جماد – سير الهواء – البحار وما يكون فيها من أمواج، وما يكون فيها من غرق، .... إلى غير ذلك مما يكون من أنواع الخلق، وليس هذا قاصرًا على ما في هذا الكوكب، بل في جميع الكواكب وفي جميع الأفلاك).
ثُم الكتب الذي جاء في حديث ابن مسعود هو أخذ من كتاب القدر العام لما يتعلق بذلك الشخص.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدَىً، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثامُ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثامِهِم شَيْئاً»
قوله: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدَىً» فيه فضيلة الدعوة إلى الله، والدعوة إلى الله لا يُشترط أن تكون بمحاضرة أو بخطبة جمعة، فكل دعوة وإرشادٍ إلى الخير ولو بكلمة أو تسجيل أو إشارة فإنها تدخل في هذا اللفظ.
وجاء في فضل الدعوة إلى الله نصوصٌ، قال تعالى: ï´؟وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَï´¾ [فصلت:33]، وفي هذا أنَّ الْمُبتَدئ بالخير الذي يُقتدى به فيه؛ يكون له مثل أُجور مَن تبعه؛ لأنه قد دعا الناس إلى الله بفعله، وفيه أنَّ الدَّاعي إلى الله يَحوز أُجورًا مُماثلة لأُجور مَن تبعه.
قوله: «لَا يُنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً»، أي: أَخْذهُ من هذه الأجور «لَا يُنْقُصُ» من أُحور العاملين شيئًا، فهم ينالون أجورًا كاملة، وهو ينال أجرًا كاملاً.
قوله: «وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ»، أي: إلى طريق سُوء مخالف للحق.
قوله: «كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ»، أي: على الدَّاعي.
«مِثْلُ آثامُ مَنْ تَبِعَهُ»، الدَّعوة إلى الضَّلالة قد تكون بنشر شُبهة، وقد تكون بنشر فعلٍ مُنكَرٍ، أو بتصويرِ مقطعٍ سيءٍ يَقْتَدي الآخرون به، أو بإظهار مظهرٍ وسُلوك مخالفٍ لشرع الله ومخالف لدينه.
مثال: تأتي امرأةٌ فتتبرج فيُقتَدى بها؛ فيكون عليها مِثل إثم مَنْ تَبرج.
وقد تأتي امرأةٌ فتدعو الناس إلى الخير والعفة والتستر فيتبعونها ويسيرون معها فيكون لها مثلُ أجورهم، وهكذا في كلِ عملٍ صالح، كصدقة أو إحسانٍ إلى الآخرين أو صلاة أو زكاة أو صيام أو حج.
السؤال الرابع:
الدعوة إلى ضلالة أو هُدى قد تكون بمجرد الفعل، أو بإظهار سلوك مخالف للشرع الحنيف.
صواب
https://www.youtube.com/embed/Yg6RKyyYvBg

قوله: «لَا يُنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثامِهِم شَيْئاً»، أي: لا يُنقص كتابة الإثم على الدَّاعي الأول من آثام الفاعلين للإثم شيئًا.
وبعضهم روى: «لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»

{قال المؤلف -رحمه الله: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ على مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمَاً سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيِهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمَاً سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَينَهُم، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»)}
هذا الحديث من الأحاديث التي تُرشدُ إلى مكارم الأخلاق، وترشد إلى الأفعال الجميلة، وأول ما يدعو له هذا الحديث هو تنفيس الكروبات عن الآخرين، والتنفيس قد يكون بموعظةٍ وكلام يشرح صدر الإنسان ويزيل ما في صدره من الهموم، وقد يكون بإبعاد مشكلة ونزاع يكون فيما بين الآخرين، وقد يكون بالوقوف معه في ضائقته، وقد يكون بأداء عمل يجعله يتمكن من آداء مَهامه ومسؤولياته، وكُربُ الدنيا كثيرة.
قوله: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا» أصلها من النَّفَس، كأنَّه جعل فيه هواءً يُوَسِّعه ويُزيل ما فيه مِنَ الضَّيق والكربة.
قال: «نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»؛ لأنَّ في يوم القيامة من الكُرب الشيء العظيم، وفي هذا بيان أنَّ الجزاء من جنس العمل؛ لأنَّه لَمَّا نَفَّسَ عنه كُربة من كرُب الدُّنيا نَفَّسَ الله عنه كُربة مِن كُرب يوم القيامةِ، وتلك الكُرب أعظم وأشدُّ.
قال: «وَمَنْ يَسَّرَ على مُعْسِرٍ» المعسر هو من كان في ضائقةٍ ماليةٍ وعليه دُيون، والتيسير إمَّا بإنظاره وتأجيله، وإمَّا بإبرائه ومُسامحته، وإمَّا بمساعدته على سداد دينه.
قوله: «يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»، أي: جعل الله حياته يسيرةً سهلة، وقال تعالى: ï´؟إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىظ° وَاتَّقَىظ° (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىظ° (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىظ° (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىظ° (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىظ° (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىظ°ï´¾ [الليل:4-11].
ثُمَّ رَغَّبَ في فضيلةٍ أُخرى، وهي الستر على الآخرين، وعدم إظهار مَعايبهم وذُنُوبهم، فقال: «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمَاً سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»، أي: غَطَّى ما عنده من العيوب والذنوب؛ «سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»، ابن آدم خطاء ويحتاج إلى أن يَستر الله عليه، فمن ستر على الآخرين ستر اللهُ عليه، وفي هذا تحريم السباب، وتحريم الغيبة، والقدح في الآخرين؛ لأنَّ هذه الأفعال تتنافى مع مبدأ التَّستر الذي جاء به الشَّرع.
وبعض العُلماء استثنى من هذا ما كان على جِهة التعزير، وإن كان الأولى التَّخفيف من ذلك ما استطعنا إليه سبيلا، وذلك من أجل الكتم على معايب الآخرين، وبالتالي لا يُقتدى بهم فيها.
ثُمَّ قال في بيانِ خصلة أُخرى: «وَاللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيِهِ»، أي أنَّ الله يتولى شأنُ العبد ويُعِينه ويُقويه على آداء مهامه متى ما كان العبد يقوم في حوائج إخوانه؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل.
ثم قال: «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمَاً سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ»، وفي هذا الترغيب في طلب العلم، والترغيب في بذل الأسباب الموصلة إليه، وسلوك الطريق كناية عن بذل الأسباب في التعلم.
وقوله: «يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمَاً» هذه نكرة في سياق الشرط، فالأصل أنَّها تشمل جميع العلوم، ولكنَّ خطاب الشَّارع يُفَسَّر باصطلاحه هو، وبالتالي يُفَسَّر هذا اللفظ عند جماهير العلماء بأنَّ المراد به العلم الشَّرعي، والذي يكون فقهًا في الدين ومعرفة بالكتاب والسُّنَّة.
السؤال الخامس
ذهب جماهير أهل العلم إلى أنَّ قوله: «يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمَاً» يُقصد به العِلم الدنيوي دون الشرعي.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/wlQryqOd2bA

وقوله: «سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ»، أي: يسَّره عليه، وهداه لِأَن يفعل أعمالاً صالحة تكون من أسباب دخوله للجنة.
ثم قال: «وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»، قد يكونُ المراد به المسجد، وقد يكون المراد به كُلُّ ما كان وقفًا لله، مثل: المدارس والجامعات، وقد يكون المراد به جميع المواطن والمحال فإنَّها مُلكٌ لله -جَلَّ وَعَلا – ولو كانت مملوكة لابن آدم.
«وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ»، فيه فضيلة الاجتماع على طلب العلم؛ ليشجع النَّاسُ بعضهم بعضهم الآخر على ذلك.
قوله: «يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ»، أي: يقرأونه ويشرحونه، ويصوب بعضهم بعضًا في قِراءته.
قوله: «وَيَتَدَارَسُونَهُ بَينَهُم»، أي: يتفهمونه، ويتأملون معانيه، ويُعيدونه ويكررون قراءته.
قوله: «إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ»، أي: إَّلا كان ثوابهم أن تنزل عليهم السكينة، وهي الطُمأنينة، وفيها سُكون النَّفس وسُكونُ القلب، بحيث لا يجزع الإنسان عندما يُصاب بالأقدار المؤلمة، ولا يتسخط من أقدار الله -جَلَّ وَعَلا- ولايُسارع في الَّردِّ والاستجابة لما قد يُقلقه، بل يتأمل فيه، ويفكر فيه حتى يتأكد أنَّ استجابته سائرة على مُقتضى شرع الله وأمره.
قوله: «وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ»، أي: غَطَّتهُم مِن كُلِّ مكان، ورحمة الله -جَلَّ وَعَلا- أمرٌ عظيم.
قوله: «وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ»، أي: جاءت على أطرافهم تستمع الذكر وتُعِينهُم عليه.
قوله: «وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»، أي: يذكر الله هؤلاء الذين يجتمعون لقراءة القرآن، وتلاوة القُرآن لا تقتصر على مجرد قراءة لفظه، بل تأمُّلُ مَعانيه، والنَّظرُ في تفاسيره، ومعرفة أحكامه، وكُلُّها ممَّا يدخل في دراسة القرآن، ولذلك فإنَّ الفقه والعقيدة وشُروح الحديث ممَّا يدخل في تدارس القرآن.
السؤال السادس:
الأجر المترتب على قوله: «يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ» يقتصر على قراءة لفظ القرآن فقط.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/jQBmNHlGnjg

قوله: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ»، أي: من لم يكن له عمل كثير ترتفع به درجته؛ فحينئذ لم ينتفع بنسبه، ولذا قال: «لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ أَنَسِ بنِ مَالكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ يَأْكُلُ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الشُّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا»)}.
في هذا الحديث إثبات صفة الرِّضا لله -جل وعلا، وفيه أنَّ العمل القليل قد يترتب عليه الثَّواب الجزيل؛ فالحمد بعد الشُّرب والأكل كان من أسباب رضا الله -جل وعلا.
وفي الحديث فضلُ حمد الله عند نُزول النِّعم بالعبد، وأنَّه ينبغي للعبد أن يُكثر من الحمد لله -عز وجلا- خصوصًا عند نُزُولِ النِّعم.
السؤال السابع:
صفة الرضا خاصة بالمخلوقين ولا يجوز إلحاقها بالله سبحانه وتعالى باتفاق.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/17jHdf1NtFA

{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ سَعْدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ»)}.
في هذا الحديث إثبات صفة المحبة لله -جلَّ وَعلا، وفيه فضيلة التقوى وعِظم أجرها، وأنَّها من أسباب محبة الله للعبد.
وقوله: «الْغَنِيَّ»، يعني: غير الْمُحتاج لغيره بحيث يَكتفي بنفسه، وقيل: إنَّ الغني هو كثير المال.
وقوله: «الْخَفِيَّ»، يعني: مَن لا يُظهر عبادته وطاعته للآخرين، بل يدعو الله بِخُفْية، ويُكثِرُ مِنْ نَوَافل العبادات خُفيةً، وفيه فضل خَفاءِ بعض الطاعات إذا لم يكن من إظهارها تحقيق مَقصودٍ شَرعي.
السؤال الثامن:
اتفق الفقهاء على عدم جواز إظهار العبادات أمام الناس حتى وإن كان إظهارها لغرض شَرعي صحيح.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/HNdloWTavgw

{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَعَن عِيَاضِ بنِ حمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: «أَلا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُم مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا:
كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدَاً حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُم، وَإِنَّهُم أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَـتْهُم عَنْ دِينِهِم، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِم مَا أَحْلَلْتُ لَهُم، وَأَمَرَتْهُم أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً.
وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْـتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابَاً لَا يَغْسِلُهُ المَاءُ، تَقْرَؤُهُ قَائِمَاً وَيَقْظَانَ، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشَاً، فَقُلْتُ: رَبِّ إِذَاً يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً.
قَالَ: استَخْرِجْهُم كَمَا أَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُم نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقُ عَلَيْكَ، وَابْـعَثْ جَيْشَاً نَبْعَثُ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ.
قَالَ: وَأَهْلُ الجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيْقُ القَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيْفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ.
قَالَ: وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيْفُ الَّذِي لا زَبْرَ لَهُ، الَّذِينَ هُمْ فِيْكُمْ تَبَعَاً، لا يَبْتَغُونَ أَهْلاً وَلا مَالاً، وَالخَائِنُ الَّذِي لا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ -وَإِنْ دَقَّ- إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ»، وَذَكَرَ البُخْلَ أَو الكَذِبَ، وَالشَّنْظِيْرُ: الفَحَّاشُ، وَفِي لَفْظٍ: «إِنَّ اللهَ تَعَالى أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»)}.
هذا حديثٌ أخرجه مسلم، وهو حديثٌ عظيم النفع والفوائد، وهو كثير المعاني، ولكن قبل أن أدخل في بيان أحكامه وفوائده أُشير إلى أنَّه ينبغي بالإنسان أن يجعل له مُعَلِّمًا يُدَرِّسُه؛ ليكونَ بذلكَ آَمِنًا من اللحنِ في قراءته، وآَمِنًا من الفَهم السيء، وآمِنًا من تنزيل الكلام على غيرِ الْمُرادِ مِنه، ولذلك لو التفت إلى بعض الألفاظ المذكورة في هذا الخبر، وتأملتَّ في قراءة بعضهم لوجدتها مُخالفة لأصل دين الإسلام.
فمثلا: لو قال: وَحَرَّمتُ عليهم ما أحللت لهم، لكان كلامًا مُتناقضًا يؤدي إلى أمورٍ مُخالفة إلى أُصًول الشريعة، وهكذا في اللفظة التي بعدها «وَأَمَرَتْهُم وَأَمَرَتْهُم أَنْ يُشْرِكُوا بِي»، فإذا قرأها الإنسان ("وَأَمرْتُهُم" أَنْ يُشْرِكُوا بِي)؛ لكان هذا مُخالًفا لأصل دين الإسلام.
قوله: (قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ)، فيه: الاستفادة من الخطبة سواء كانت جمعة أو غيرها.
قوله: «أَلا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُم مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا»، فيه أنَّ الجهل صفة أساسية في الإنسان، وأنَّه لا يرفعها إلَّا العلم والتَّعلم، والعلم يكون بمراجعة النُّصوص، ولا يجوز للإنسان أن يقول: بل أرجع إلى عقلي؛ لأنَّ الرجوع إلى العقل المُجرد هو سببٌ من أسباب الجهل، وإلا لما كان هناك حاجة لنزول الكتب ولا لإرسال الرُّسُل، ومن ذا يُعلِّم النَّاس أن صلاة الظُّهر أربع ركعات وأنَّ صلاة المغرب ثلاثُ ركعات، وأنَّ صلاةَ الفجر ركعتان إلَّا بتعلم العلوم، ومن أَمَرَ النَّاس بمراجعة عقولهم فقد أضلهم.
قوله: «كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدَاً حَلَالٌ»، يعني: مَن تَمَلَّكَ مالاً بطريقٍ مشروع حَلَّ له الانتفاع به.
ثم قال: «وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُم»، أي: مائلين من الشِّرك إلى التَّوحيد، وهذا الْمُراد به الفِطرة التي يقول فيها النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «كُلّ موْلودٍ يُولدُ على الفِطرَة» .
قوله: «وَإِنَّهُم أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَـتْهُم عَنْ دِينِهِم»، أي: حَرَّفَتهم عن الفطرة، وفيه دلالة على أنَّ الفطرة هي دين الإسلام.
قال: «وَحَرَّمَتْ» أي: هذه الشيطان. «عَلَيْهِم مَا أَحْلَلْتُ لَهُم» فأصبحوا يستبيحون المحرمات، ويرون أنَّها من الْمُباحات.
قال: «وَأَمَرَتْهُم» أي أنَّ هذه الشياطين أمرتهم «أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً»؛ فيصرف شيئًا من حُقوق الله لغيره، عبادةً أو طاعةً في أمرٍ ممَّا يختص الله به.
قال: «وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ»، أي: تفقدهُم وَعَرَفَ أحوالهم «فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ»، أي: غضب عليهم، وما ذاك إلَّا لسوء حالهم، ولمخالفتهم طريقة ما جاء به أنبياء الله عليهم السلام.
قال: «إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ»، أي: كانوا على دينِ أنبيائهم السابقين، لم يُبدِّلوا فيه ولم يُحرِّفو فيه.
ثم قال ربُّ العزَّةِ والجلال: «إِنَّمَا بَعَثْـتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ»، أي: أختبرك، هل تنفذ أمر الله، وتدعو عباد الله لدخول دار الجنة، أو أنَّك تتركهم؟
«وَأَبْتَلِيَ بِكَ»، أي: أختبرهم بك، هل يُصَدِّقونك؟ وهل يطيعونك؟ وهل يقتصرون في عباداتهم على ما جئت به؟ وهل ينتهون عمَّا نهيتهم عنه أو لا؟
قال: «وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابَاً»، هذا الكتاب هو القرآن العظيم. «وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابَاً لَا يَغْسِلُهُ المَاءُ»، أي: أنَّ النَّاس يحفظونه وبالتالي فغسل أبدانهم بالماء لا يُزيل هذا القُرآن. «تَقْرَؤُهُ قَائِمَاً وَيَقْظَانَ».
قال: «وَإِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشَاً»، أي: أخبره أنَّه سيفعل ذلك بهم، وذلك أنَّه سينزل بهم العقوبات، وقد حصل ذلك في المعارك التي جاءت بينه وبينهم، والتَّحريق ليس المراد به التحريق بالنار، وذلك لِمَا وَرَدَ في الأحاديث أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّهُ لا ينْبَغِي أنْ يُعَذِّب بالنَّارِ إلَّا ربُّ النَّارِ» ، كما أنَّ هذا ليس على جهة الأمر، وإنَّما على جهة الخبر، فيخبره الله بأنَّه سيفعل ذلك، وإلَّا فلا شَكَّ أنَّ دعوة الناس إلى الحق واستجابتهم له أولى من عقوبتهم.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «فَقُلْتُ: رَبِّ»، يعني: يا ربي. «إِذَاً يَثْلَغُوا رَأْسِي»، أي: يشقوه ويكسروه ويضربوه حتى يكون فيه الجروح الشديدة.
قال: «فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً»، أي: كيف أُنزل بهم العقوبات وهُم المقتدرون القائمون الذين عندهم القوة؟!
قَالَ: «استَخْرِجْهُم كَمَا أَخْرَجُوكَ»، أي: كما أنهم أبعدوك عن بلدك فاستخرجهم وأزلهم من مثل هذه البلدان.
قَالَ: «وَاغْزُهُم نُغْزِكَ»، أي: قُم بمقاتلتهم، والمشاهد من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قاتل على سبيل المقابلة والجزاء، وقاتل لإزالة القوة الظالمة الجائرة التي تمنع الناس من الدخول في دين الله -جلَّ وعلا.
قَالَ: «وَأَنْفِقْ»، أي: ابذل من المال، «فَسَنُنْفِقُ عَلَيْكَ»، فمن أعطى في سبل الخيرات فإنَّ الله يتفضل عليه بالخلف كما قال تعالى: ï´؟وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَï´¾ [سبأ:39]
قَالَ: «وَابْـعَثْ جَيْشَاً»، يعني: لمقاتلة الأعداء الذين يُقاتلونك. «نَبْعَثُ خَمْسَةً مِثْلَهُ»، أي: نبعث خمسة جيوش يُناصرون الجيش الأول.
قَالَ: «وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ»، أي: من لم يستجب لدعوتك، وليس المراد به جميع المعاصي، وإنَّما المُراد به الإعراض عن دعوة النُّبوة.
السؤال التاسع:
قوله: «وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ» يدل على أنَّ النَّبي أُمِر بمقاتلة كُلُّ من عصاه.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/QAlWH9suc7g

ثم قال: «وَأَهْلُ الجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ»، أي: أنَّ أهل الجنة على ثلاثة أصناف.
«ذُو سُلْطَانٍ»، يعني: صاحب ولاية، «مُقْسِطٌ»، أي: عادل. «مُتَصَدِّقٌ»، أي: يبذل في سُبُل الخيرات، «مُوَفَّقٌ» أي: أنَّ الله يُرشده على ما يعود عليه بالخير، ويعود على الناس بالنفع.
وفي هذا دلالة على أنَّ عمل الولاية عملٌ عظيم، وأنَّ القائمين عليها لهم أُجورٌ كثيرة، وثوابٌ جزيل، متى صلُحت نياتُهم، وقصدوا بأعمالهم الله والدَّار الآخرة.
وأمَّا الثاني من أهل الجنة: فـ «وَرَجُلٌ رَحِيمٌ»، أي: يرحمُ عباد الله ويُشفق عليهم. «رَقِيْقُ القَلْبِ»، أي: أنَّه يتأثر بمعرفة أحوالهم. «لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ».
وأمَّا الثالث من أهل الجنة: فـ «وَعَفِيْفٌ»، أي: لا يقتحم المعاصي والفواحش، «مُتَعَفِّفٌ»، أي: أنَّه لا يتطلع إلى أموال الآخرين. «ذُو عِيَالٍ»، أي: عنده أسباب تجعله يُنفق النفقات الكثيرة ومع ذلك فهو عَفِيْفٌ مُتَعَفِّفٌ.
السؤال العاشر:
كل ما يأتي يعد من أهل الجنة تبعًا لحديث «وَأَهْلُ الجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ» عدا ......
ذو سلطان مقسط – عفيف متعفف – ضعيف لا زبر له
https://www.youtube.com/embed/fkBUYdgKDFA

ثم ذكر أهل النَّار، وبين أنهم خمسة أصناف، فأولهم:
«الضَّعِيْفُ»، أي: الذي ليس لديه قوة.
«لا زَبْرَ لَهُ»، أي: لا عائق عنده يمنعه من الإقدام على المعاصي والذنوب.
«الَّذِينَ هُمْ فِيْكُمْ تَبَعَاً»، أي: يتبعون غيرهم.
«لا يَبْتَغُونَ أَهْلاً وَلا مَالاً»، أي: ليس لهم مقاصد، فهذا الضعيف الذي لا عقل له، وليس له مقصد، وليس له أهل،ـ وليس له مال، وإنَّما يتبع من يسير في طريق السوء والشر ويقتدي به ويُحرضه عليه.
وأمَّا الصنف الثاني: «وَالخَائِنُ»، أي: الذي يخون فيبطن سوء التعامل ويظهر حُسن التعامل، والخائن يستولي على أموال الاخرين وهو مُظهرٌ أنَّه مُحسنٌ إليهم.
قال: «وَالخَائِنُ الَّذِي لا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ -وَإِنْ دَقَّ- إِلَّا خَانَهُ»، أي: متى ما ظهر له أي نوع من أنواع الطمع طمع، وأخذ حقوق الاخرين، وخان من ائتمنه، ومن وضعه في حق الأمانة.
وأمَّا الصنف الثالث: فـ «رَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ»، أي:يريد أن يستولي على أموال، ويريد أن يستولي على أهلك.
وأمَّا الصنف الرَّابع: فـ «البخيل أو الكذاب»، فهذان الصنفان ليستا من صفات أهل الإيمان والجنة.
وأمَّا الصنف الخامس: فـ «الشَّنْظِيْرُ: الفَحَّاشُ»، والفَحَّاش أي: كثير الفُحش الذي يُقدم على الفواحش سواءً بفرجه أو بلسانه.
ثم قال: (وَفِي لَفْظٍ: «إِنَّ اللهَ تَعَالى أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا»، أي: ليخضع بعضكم لبعض ولا يتكبر بعضكم على بعض بحيث لا يحتقر الآخرين ولا يجحد حقوقهم.
قال: «حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»، أي: لا يِتَرفع أحدٌ من النَّاس على غيره.
قال: «وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»، أي لا يتجاوز الحقوق المشروعة له، فهذا الحديث عظيم النفع كثير الفوائد.
بارك الله فيكم، ووفَّقكُم الله للخيرِ، وجعلنا الله وإيَّاكم مِن الهداة المهتدي، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-05-07, 07:45   رقم المشاركة : 26
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

المحرر في الحديث (4)
الدرس الثاني والعشرون (22)
معالي الشَّيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{اللهم آمين..
في هذه الحلقة -بإذن الله- نشرع في حديث (وَعَنْ هَمَّامٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطاءِ بنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تكْـتُـبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَليَّ -قَالَ هَـمَّامٌ: أَحْسَبُهُ قَالَ:- مُتَعَمِّدًا فَليَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»)}.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ أوَّلُ هذا الحديث فيه النَّهي عن كتابةِ الأحاديثِ النَّبويَّة، وكان ذلك في أوَّلِ الإسلام، وذلك خشيةً من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يختلِطَ القرآنُ بالسُّنَّة، ولكن لَمَّا استقرَّ الأمرُ وحَفِظَ طائفةٌ كثيرةٌ من الصَّحابةِ كتابَ الله -عزَّ وجَلَّ- وارتفعت الخشية مِن اختلاط الكتاب بالسُّنَّة؛ أذن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالكتابةِ، فقال: «اُكْتُبُوا لأَبِي شَاه» ، وكان النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكتب بعض أحاديثه، وقال علي: "ليس عندي غير القرآن إلَّا ما في هذه الصَّحيفة".
وقال أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ" .
وبالتَّالي هذا الحكم أصبح مرفوعًا.
وفي الحديث:
ïƒک التَّرغيب في كتابةِ آياتِ القرآنِ.
ïƒک التَّرغيب في نَشْرِ المصحفِ مكتوبًا؛ لأنَّه قد فُهِمَ من هذا اللفظ التَّرغيب في الكتابة للقرآن.
ïƒک التَّرغيب في نقلِ أحاديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولذا قال: «وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ»، أي: لا إثمَ عليكم، كأنَّه لَمَّا منعَ الكتابة أجاز لهم الحديث بلا كتابةٍ.
ثم حذَّر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أمرٍ آخر؛ ألا وهو الكذب عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبيَّنَ أنَّه من كبائر الذُّنوبِ، فقال: «وَمَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّدًا فَليَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
وإنَّ مِن الأسباب التي تجعلنا نحكمُ على الفعل بأنَّه كبيرة: ورود الوعيد عليه بالنَّار.
ومِن أنواعِ الكذب: أن يُحدِّث الإنسانُ عن الكذَّابين، أو يُحدِّثُ بما يغلب على ظنِّه أنَّه لا تصح نسبته إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأُخِذَ من هذا المنع من التَّحديث بالأحاديثِ الضَّعيفة التي لا شاهدَ لها، خُصوصًا إذا كانَ ذلك على العوام.
وبعضُ النَّاس أجازَ أن يُحدَّثَ بالحديثِ الضَّعيفِ متى كانَ مُرغِّبًا في عملٍ صالحٍ قد ثبتَ بدليلٍ صحيحٍ، فإنَّ روايته إنَّما تحثُّ النَّاسَ على فعل ذلك الأمر الذي ثبتَ حكمه في الدليل الآخر، وأمَّا ما لم تثبت مشروعيَّته من الأعمال فإنَّه لا يجوز أن يُثبَتَ كونه من الطاعات بمجرد الأحاديث الضَّعيفة؛ لأنَّ هذه الأحاديث لم تثبت عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الدَّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «للهِ، ولِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، ولأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وعَامَّتِهِم»)}.
قوله: «الدَّينُ»، هنا مُبتدأٌ معرَّف، والأصل في المبتدأ المعرَّف أنَّه ينحصرُ في الخبرِ، فكأنَّه قال: الدِّين منحصرٌ في النَّصيحة.
وأصلُ كلمة "الدين": الطَّاعة التي تكون لله -جلَّ وعَلا.
وأمَّا قوله: «النَّصِيحَةُ»، فيُقصَدُ به: العملُ الصَّالح الذي لا مُخالطةَ للسُّوءِ فيه، فإذا قدَّمتَ خيرًا لغيرك فقد نصحتَه، وإذا أرشدته على ما ينفعه فقد نصحته.
قوله: (قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟)، أي: لِمَن نُقدِّم هذه النَّصيحة؟
فقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «للهِ»، والنُّصحُ كما قال تعالى: ï´؟إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِï´¾ [التوبة:91].
والنُّصحُ لله: يكون بتوحيد ربِّ العزَّةِ والجلال، وإخلاصِ الأعماِل له، والرَّغبةِ في رضاه -سبحانه وتعالى- والأمل في فضله -جلَّ وعَلا.
قال: «ولِكِتَابِهِ»، النَّصيحةُ لكتابه تكونُ بصيانتِهِ والدَّعوةِ إليه، ونشرهِ بينَ الناس، والاستجابة لِمَا فيه من الأوامر.
قال: «وَلِرَسُولِهِ»، النَّصيحة لرسولِ الله تتضمَّنُ تصديقَه، وتتضمَّنُ القيام معه، ونصرة دينه.
قال: «ولأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ»، أئمَّة المسلمين: مَن لهم ولاية على المسلمين، والأصل أن تُطلَق على مَن له الولاية العامَّة، وقد تصدُق على مَن يكون أدنى من ذلك.
والنُّصحُ لأئمَّةِ المسلمين يكون بمعاونتهم على الطَّاعةِ، والاستجابةِ لهم فيما يأمرون به من غير المعاصي، وفي القيامِ معهم في تحقيق ما يعودُ بالنَّفعِ على العبادِ والبلادِ.
ومن النَّصيحة لهم: إرشادهم، وتذكيرهم، ولكن بشرط أن يكون على جهةِ السِّرِّ لا على جهةِ العلنِ.
قال: «وعَامَّتِهِم»، النَّصيحةُ لعامَّة المسلمين تكون بتمنِّي الخير لهم، وبإرشادهم ونصحهم، وبالقيام معهم ومعاونتهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلغُرَبَاءِ»)}.
قوله: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا»، أي: لم يؤمِن به في أوَّلِ وقته إلَّا أفرادٌ قلائل، فكان الإسلام غريبًا في ذلك الزمان، يستغربه النَّاس ولا يتقبلونه.
قال: «وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ»، أي: سينقُص ويتناقص حتى يكون غريبًا في الناس.
وفي هذا الحديث من الفوائد:
ïƒک أنَّ العبرة ليست بالكثرةِ، وإنَّما العبرة بانتهاج نهجِ الحقِّ والسَّيرِ عليه.
ïƒک وأنَّ العبدَ لا ينبغي به أن تضعف نفسه متى لم يجد مُعاونًا على الخير.
ïƒک وأنَّ الغُربةَ الحقيقيَّة هي ما يكونُ من غُربة الدِّينِ، وليس غُربة الأسفار.
قوله: «فَطُوبَى لِلغُرَبَاءِ»، أي: أنَّ المقام العالي في جنَّاتِ الخُلدِ تحتَ شجرةِ طوبى يكون للغرباء الذين كانوا على الحقِّ، أمَّا مَن كان غريبًا لكنَّه على باطلٍ فهذا مضادٌّ لِمَا أُريدَ بالحديث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»)}.
قوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ»، فيه جواز القَسَم ولو لم يُطلَب من الإنسان القَسَم.
قال: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ»، الأمَّة على نوعين:
ïƒک أمَّةُ الإجابة: وهم الذين استجابوا له، وهؤلاء من المسلمين.
ïƒک أمَّة الدَّعوة، وتشمل كل مَن وجبَ عليه طاعة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والاستجابة لدعوتِهِ.
قال: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»، فيه فوائد:
ïƒک أنَّ اليهوديَّةَ والنَّصرانيَّة أديانٌ مَنسوخة، وأنَّها قد رُفِعَت.
ïƒک وأنَّ اليهوديَّ والنَّصرانيَّ إذا سمع بالنَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَزِمَه أن يبحثَ عن حقيقته؛ ليستجيب له.
ïƒک وأنَّ مَن لم يسمع بهذه الدَّعوة الكريمة مِنَ اليَهود والنَّصارى فإنَّه لا يُعاقَبُ.
ïƒک فضيلةُ الإيمان بالله -جلَّ وعَلَا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِـيْـتَةً جَاهِلِيَّةً»)}.
قوله: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ»، أي: مَن نقَضَ البيعةَ، واعتقدَ أن لا ولاية لصاحب الولاية عليه.
قال: «لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ»، فإنَّ مَن أمرَ الله بطاعتهم حُجَّة على العباد، وفي هذا فوائد:
ïƒک وجوب طاعة صاحب الولاية والتَّأكيد على ذلك.
ïƒک وأنَّ النَّاس يحتجُّونَ يومَ القيامة، وأمَّا مَن خلعَ الطَّاعة فهذا يأتي يوم القيامة ولا حجَّةَ له.
ïƒک وجوب اعتقاد ولاية الأئمَّة، فلا تكفي المصافحة باليد؛ بل لابدَّ من اعتقاد في القلب أنَّ صاحب الولاية تجب طاعته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا بُويِعَ لِخَلِيفَتَينِ فَاقْتُلُوا الآخِرَ مِنْهُمَا»)}.
هذا الحديث فيه: تنظيم أحوال المسلمين، فقوله: «إِذا بُويِعَ لِخَلِيفَتَينِ»، أي: في مكانٍ واحدٍ، أمَّا إذا اختلفت بنيانهم فلكلِّ بلدٍ حكمه.
وفي هذا إطلاق اسم البيعة -وهو اسمٌ شرعيٌّ- على ما لا يُعتبَرُ شرعًا بيعةً.
قوله: «فَاقْتُلُوا الآخِرَ مِنْهُمَا»، أي: المتأخِّر في ادِّعاء الخلافة، وذلك أنَّ النَّاس إذا كان لهم إمامٌ واحدٌ استقرَّت أمورهم وسكُنَت أحوالهم، أمَّا إذا وُجدَ التَّنازُع من أصحابِ الولاية فسينتصر لهذا أشخاص ولذلك أشخاص؛ وبالتَّالي يقع بينهم من الاضطراب الشيء الكثير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»)}.
قوله: «مَنْ رَأَى مِنْكُم»، الأصل في الرؤية أن يُراد بها الرؤية الحقيقيَّة لا الرُّؤية المجازيَّة التي تشمل السَّماع.
وقوله: «مُنْكَرًا» نكرة في سياق الشَّرطِ، فتكون عامَّة لجميع المنكرات.
قال: «فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ»، التَّغييرُ باليد إمَّا بإتلاف آلة المعصية، أو بمنعِ العاصي من العصيانِ، ونحو ذلك، والتَّغييرُ باليد إنَّما هو لأصحاب الولايات، مثل: الإمام الأعظم في دولته، ومثل: المدير في مدرسته، ومثل: المدرِّس في فصلِه، ومثل: الوالد في بيته ونحو ذلك.
قال: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَبِلِسَانِهِ»، يعني: إذا لم يتمكَّن من تغيير المنكرِ بيده فليغيره بلسانه، يُبيِّن للناس أنَّ هذا الفعل منكر، وأنَّه مخالَفَةٌ للشَّرع.
قال: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ»، أي: إذا لم يستطع التَّغيير لا باليدِ ولا باللسان فحينئذٍ نتوجَّه إلى قلبه، فنقول له: أَنكِر هذه المعصية.
قال: «وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»، أي: أنَّ هذا الإنكار بالقلب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ»)}.
في هذا الحديث:
ïƒک التَّرغيب في الدَّعوةِ والدِّلالةِ على الخير.
ïƒک وأنَّ جميعَ أنواعِ الخيرِ محمودةٌ ومحمودٌ أصحابها.
ïƒک تفضُّل الله -عزَّ وجَلَّ- على العبد الدَّاعي إلى أفعال الخير بأن يكون له مثل أجرِ مَن عمل ذلك الخير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُون وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِن مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»، فَقَالُوا: أَفَلا نُقَاتِلُهُم؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْا»)}.
هذا الحديث بيانُ أنَّه ستكون أمراء في الزَّمان الماضي والزَّمان المستقبَل.
قوله: «فَتَعْرِفُون»، أي: يوجَد منهم أفعال من أفعال المعروف والخير.
قال: «وَتُنْكِرُونَ»، أي: ستجدون منهم أفعالًا أخرى هي محلٌّ للإنكار.
قال: «فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ»، هذه الرُّتبة الأولى، أي: مَن عرفَ أنَّ هذا منكر وكرِهَه بقلبه فقد تبرَّأ من فعل المنكر ومِن فاعله.
قال: «وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ»، هذه الرُّتبة الثَّانية، وهذا في الإقرارات في الغالب، يُقرُّ بشيءٍ ثم بعد ذلك ينكسُ.
قال: «وَلَكِن مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»، هذه الرُّتبة الثَّالثة، أي: إنَّما تكون الشَّرهةُ والعقوبةُ على مَن رضي بالمنكرات التي كانت تُفعَل وتابعها، فهو المؤاخَذ والمعاقب عليه إن لم يفعله.
قال: (فَقَالُوا: أَفَلا نُقَاتِلُهُم؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْا»)، فيه أنَّ الأئمَّة والولاة إن كانوا من أهل الصَّلاة لا يجوز أن يُخرَج عليهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا سَافَرْتُمْ فِي الخِصْبِ فَأَعْطُوا الْإِبِلَ حَظَّهَا مِنَ الأَرْضِ، وَإِذَا سَافَرْتُم فِي السَّنَةِ فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيَهَا وَإِذا عَرَّسْتُم فَاجْتَنبُوا الطَّرِيقَ، فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْهَوَامِّ بِالَّليْلِ»)}.
قوله: «إِذا سَافَرْتُمْ فِي الخِصْبِ»، المراد به: الأرض التي يكثُر فيها أنواع النبات.
قال: «فَأَعْطُوا الْإِبِلَ حَظَّهَا مِنَ الأَرْضِ»، أي: مَكِّنُوها من رعي الأرض.
قال: «وَإِذَا سَافَرْتُم فِي السَّنَةِ»، يعني: القحط والجدب.
قال: «فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيَهَا»، يعني: أعطوها الطَّعام قبل أن تطلب هي.
قال: «وَإِذا عَرَّسْتُم»، أي: نزلتم آخر الليل.
قال: «فَاجْتَنبُوا الطَّرِيقَ»، أي: لا تجلسوا في الطريق.
قال: «فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْهَوَامِّ بِالَّليْلِ»، يعني: قد تعترض عليكم الدَّواب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا أَكَلَ أَحَدُكُم فَلْيَأْكُل بِيَمِينِهِ، وَإِذا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ»)}.
هذا الحديث فيه النهي عن الأكل بالشِّمال، والشُّرب بالشِّمال، وفيه النَّهي عن التَّشبُّه بالشَّيطان؛ لأنَّ ما ذُكِرَت هذه الأشياء إلَّا لأنَّها من صفات الشَّيطان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِيءَ»)}.
قوله: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِيءَ»، وردت الأحاديث بالنَّهي عن الشُّربِ قائمًا.
وأوردَ هنا العلَّة في ذلك وهي أنَّ الشُّرب قائمًا من أسباب شيء من الأمراض ونحوها، ولذا أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن يستَسقِيَ الإنسان منه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي غَزْوَةٍ غَزَوْنَاهَا: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ النِّعَالِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ»)}.
لُبس الحذاء فيه فوائد من وقاية القدم من هوام الأرض ومن رمضائها ونحو ذلك، فجابر يقول: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي غَزْوَةٍ غَزَوْنَاهَا: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ النِّعَالِ»)؛ لأنَّ النِّعال يطرأ عليها أمور تشققها وتفرقها. قال: «فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ طَيِّبُ الرِّيْحِ»)}.
هذه أحاديث فيها شيء مما يحتاج إليه الناس، ومن ذلك ما يتعلق بالهدايا، فالهدايا أمرٌ مرغوبٌ فيه، وينال به الإنسان الأجرَ الكثير، وقد ورد قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تهادوا تحابوا»، فهذه الأفعال مرغَّبٌ فيها شرعًا.
قال: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ»، فيه جواز أن تُعرَض الهديَّة للمُهدَى له قبل أن تُهدَى له، فيُنظَر ما رأيه وكيف سيفعل بها. قال: «فَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ طَيِّبُ الرِّيْحِ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَن سُلَيْمَانَ بنِ بُرَيْدَةَ، عَن أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيْرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ»)}.
قوله: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيْرِ»، النَّرْدَشِيْرِ: لعبة قائمة على المصادفة، يستعملون فيها الزَّهرة التي لها ستَّة أوجه، في وجهٍ نقطة واحدة، ووجه نقطتين، وهكذا..
وكانوا في السَّابق يلعبون هذه الألعاب ويضعونها في برنامجهم، ووردَ أنَّ عمر أنكر على النُّعمان بن البشير حينما تعامل مع بعض اليهود فكان يُعطيهم دوابَّه من أجل أن يستوفوا منها متى اغتنوا.
قوله: «فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ»، فيه أنَّ الخنزير نجس، وأنَّ لحمَه ودمَه من النَّجاساتِ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيرةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِـيْـبَـةُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ». أَخْرَجَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مُسلِمٌ)}.
هذا الحديث يشتمل على نوعٍ من أنواع الأدب الإسلامي الرَّفيع الذي جاء به ديننا القويم، ألا وهو: النَّهي عن ذكر معايب الآخرين، سواءٌ بحضرتهم أو لم يكن كذلك، وذلك أنَّه لا فائدة من مقابلة الآخرين بمثل هذا المُنقِص لحقوقهم.
قال: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِـيْـبَـةُ؟»، أي: هل تعرفون ما هي؟ وهل تعرفون الطَّريق الموصل إليها؟
قال: (قَالُوا: اللهُ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ)، فردُّوا العلم إلى الله -جلَّ وعلا.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ»، أي: أمرٍ يكرهه، فإنَّه عندما يجلس عندك أو عندما تجلس معه تتذكَّر المنافع الكثيرة التي حصلت منه.
قال: (قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ»)؛ لأنَّ هذه حقيقة الغِيبَة.
قال: «وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ»، أخرجه مسلم.
أسأل الله -جلَّ وعلا- أن يوفقنا وإيَّاكم لكل خير، وأن يجعلنا وإيَّاكم من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-05-07, 07:45   رقم المشاركة : 27
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ الثَّالِثُ والعِشرون (23)
معالي الشَّيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني وزملائي وأحبتي ممن يشاهدوننا في هذا اللقاء، وأسأل الله -جلَّ وعلا- لهم التوفيق لكل خيرٍ، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب الطِّبِّ.
قال المؤلف -رحمه الله: (كِتَابُ الطِّبِّ
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ دَاءٍ إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَن جَابرٍ عَن رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذا أُصِيْبَ دَوَاءُ الدَّاءِ، بَرِأَ بِإِذْنِ اللهِ». رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ أُسَامَةَ بنِ شَرِيكٍ قَالَ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَتَدَاوَى؟ قَالَ: «نَعَمْ يَا عِبَادَ اللهِ، تَدَاوَوا، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، إِلَّا دَاءٌ وَاحِدٌ» قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: «الْهَرَمُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ-وَصَحَّحَهُ أَيْضًا.
وَعَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوا بِمُحَرَّمٍ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بنِ عَيَّاشٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بنِ مُسْلِمٍ الْخَثْعَمِيِّ الشَّامِيِّ، عَنْ أَبي عِمْرَانَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاء عَنْهُ، و(إِسْمَاعِيلٌ) فِيهِ كَلَامٌ، و(ثَعْلَبَةٌ) لَيْسَ بِذَاكَ الْمَشْهُورِ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو عِمْرَانَ صَالحُ الحَدِيثِ، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ.
وَعَنْ عَلْقَمَةَ بنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ وَائِلِ الْحَضْرَمِيِّ، أَنَّ طَارقَ بنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْخَمْرِ؟ فَنَهَاهُ، أَو كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا للدَّواءِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلكِنَّهُ دَاءٌ». رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ: إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُم فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُم. ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا)}.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فلا زال عُلماء الإسلام يعقدون بابًا يتحدَّثونَ فيه عن الأحكامِ الفقهيَّةِ المتعلِّقة بالطِّبِّ، وبابُ الطِّبِّ ليس مِن بابِ العباداتِ بحيث يُبحث فيه عن دليلٍ شرعيٍّ لكلِّ علاجٍ يستخدمه النَّاس، وإنَّما هو من أبوابِ العادات المعروفة بالتَّجارب والخبرات، ولذلك فلا نحتاج إلى دليلٍ شرعيِّ في كلِّ أمرٍ طبِّيٍّ.
والأمور الواردة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الطب على أنواع:
- فمنها ما ورد على جهةِ الفعل، فهذا يعتريه أشياء كثيرة، منها: أنه يحتمل أن يكون خاصًّا بأهل المدينة ومَن جاورهم، ومنها: ما يكون خاصًّا بالبلدان الحارَّة، وقد يكون خاصًّا بذلك الشخص الذي عالجه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- وهناك ألفاظ عامَّة قوليَّة، فهذه تبقى على عُمومها، ويُقرُّ بما جاء فيها، وقد يخفى وجه كون ذلك الأمر من أنواع العلاجات على ما سيأتي في بعض الأمور، وبالتَّالي فإنَّ العلاج قد يُعرَف من طريقين: من طريق الدَّليل الشَّرعيِّ، ومن طريق التَّجربة والخبرة.
- وقد يكون ما ورد فيه دليل بكونه علاجًا إنَّما يكون علاجًا باستعماله على طريقةٍ مُعيَّنةٍ، فمتى استعمل بغير تلك الطريقة قد لا يكون مُؤديًا للشِّفاء والعلاج -بإذن الله- ومن المعلوم أن أمر الشِّفاء والعلاج هو نعمة من الله، وهو قدرٌ من أقدار الله -عزَّ وجَلَّ- وقد يكون عند الإنسان من الموانع أو من فَقدِ الشُّروط ما يجعل الدواء غَير مُؤثِّرٍ فيه.
وأوردَ المؤلف عددًا من الأحاديث، أولها حديث أبي هريرة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ دَاءٍ إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً».
في هذا الحديث:
- فضل الله على العباد.
- إثبات أنَّ العلاج يَشفي، ولكنَّ شفاءه بأمر الله -سبحانه وتعالى- خلافًا لبعض الطَّوائف التي تقول: لا علاقة بين الدواء وبين الشِّفاء؛ فهذا الحديث ينقض مذهبهم.
- إثبات أن الأمراض والأدواء قدرٌ من أقدار الله -جلَّ وعَلا.
ثم أورد حديث جابر مرفوعًا: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذا أُصِيْبَ دَوَاءُ الدَّاءِ، بَرِأَ بِإِذْنِ اللهِ».
في هذا الحديث: إثبات أنَّ العلاج له تأثيرٌ في الشِّفاء، ولكنَّ ذلك التَّأثير مرتبط بقضاء الله -جلَّ وعَلا- وقدره.
ثم أورد حديث أُسَامَةَ بنِ شَرِيكٍ قَالَ: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَتَدَاوَى؟)، يعني: هل نبذل الأسباب في التَّداوي؟
لأنَّهم جاءهم وهمٌ بأنَّ أقدار الله جارية، فظنُّوا أنَّ الدَّواء لا يُؤثِّر ما دام أنَّ كلَّ شيءٍ مكتوب، ومن ذلك حال العلاج وحال الشِّفاء وحال المرض؛ فوردَ لهم هذا السؤال، ولذا قالوا: (أَنَتَدَاوَى؟)، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ يَا عِبَادَ اللهِ، تَدَاوَوا»، وفي هذا دليلٌ على جواز التَّداوي.
والعلماء لهم أقوالٌ مَشهورةٌ في أحكام التَّداوي:
- فمنهم من يقول بكراهية التَّداوي، وقد ورد ذلك عن بعض فُقهاء الحنابلة، ولكن هذا القول محجوجٌ بمثل هذه الرِّواية، وليس من الاتِّكال على الله ترك التَّداوي؛ بل إنَّ التَّداوي سببٌ من الأسباب، وبالتَّالي فإنَّ فعله يُعدُّ من أسباب العلاج، وبالتَّالي لا يصح هذا القول.
- وقال طائفة: إنَّ التَّداوي واجبٌ؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في هذا الحديث: «تَدَاوَوا»، والأصل في الأوامر أن تكون للوجوب.
- وقال آخرون: إنَّ التَّداوي مُستحبٌّ، ورأوا أنَّ لفظ «تَدَاوَوا» هنا مَصروفةٌ عن الوجوب؛ لأنَّ الأمر هنا وردَ بعدَ توهُّم عدمِ جواز التَّداوي، فلم يكن للوجوبِ.
وممَّا يدل على ردِّ مَن قال باستحباب ترك التَّداوي أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تداوى واستعمل العلاج، فبعد غزوة أحد استعمل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العلاج لِمَا أصابه من شجاج وجراحٍ في ذلك اليوم، وهكذا تَنَاوَل العلاج في عددٍ من الوقائع.
والقول بوجوبه يُعارضه ما ورد في الخبر من أنَّ الصَّحابة -رضوان الله عليهم- (أعطوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دواءً، فنهاهم عن أن يُعطوه فَلَدُّوه)، أي: غصبوه على الدَّواء، (فعاقبهم بأن لدَّهم كما لدُّوه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وفي هذا أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترك التَّداوي مما يدل على عدم وجوبه.
ثم قال: «فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، إِلَّا دَاءٌ وَاحِدٌ» قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: «الْهَرَمُ».
هذا الحديث قد أخرجه أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وهو حديثٌ جيد الإسناد.
ثم أوردَ من حديث أبي الدرداء بإسنادٍ لأهل العلم فيه كلام؛ لأنَّه من رواية مجهول، فهو من رواية إسماعيل بن عياش، وهو إذا روى عن غير الشاميين فإنَّه يُضعَّف.
قال: رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوا بِمُحَرَّمٍ».
في هذا الحديث: النَّهي عن التَّداوي بالمحرمات، وظاهر هذا أنَّ المحرَّم قد يحصل به التَّداوي، ولكن جاء في الحديث الآخر أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلكِنَّهُ دَاءٌ»، وقال: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا»، فَدَلَّ ذلك على أنَّ المحرمات لا شفاء فيها.
ولكن ينبغي أن نفرق بين ما كان للعلاج وما كان للغذاء، فما كان يُعيد البدن إلى قوَّته ونشاطه فهذا ينقسم إلى قسمين:
- ما كان مُوقيًا للبدن فهو طعام.
- وما كان مُعالجًا لحالة اختلال في البدن فهو دواء.
فيُفرَّق بينهما؛ فيجوز للإنسان أن يتناول المحرم من الطعام عند الاضطرار إلى ذلك المحرم، كما قال تعالى: ï´؟وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِï´¾ [الأنعام:119]، بخلاف ما كان على جهةِ التَّداوي.
وأشير إلى شيءٍ؛ وهو أنَّه في مرَّاتٍ يستعمل في الدواء أمرٌ محرَّم لا للتَّداوي به، وإنَّما لمقصدٍ آخر، كما قد تستعمل بعض الأشياء التي توضع في الدَّواء من أجل حفظه وعدم تلفه، لا يُراد التَّداوي بتلك المادَّة، وإنما يُراد بها حفظ الدواء بالمادة الموضوعة فيه.
ومن هذا مثلًا: بعض أجزاء البدن إذا اختلَّت فقد يضعون أجزاء حيوانات محرَّمة، مثل خنزير أو كلب أو نحوه؛ فهذا من باب التَّداوي، لأنَّه تعويض نقصٍ حاصلٍ في البدنِ، وليس من باب معالجة اعتلال في البدن وإعادته إلى حالته الطَّبيعيَّة، وقد يكون ذلك في الصَّمَّامات أو بعض الأوعية حاجة إلى استعمال هذه الأشياء المحرَّمة، فاستعمالها ليس على جهة التَّداوي؛ لأنَّه لا يُعيد البدن من حال الاعتلال إلى حال الصِّحَّة، وإنَّما هو من باب تغذية البدن وتقويته، فيكون له أحكام الطَّعام.
ثم أورد المؤلف حديثًا أخرجه الإمام مسلم عن عَلْقَمَةَ بنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ وَائِلِ الْحَضْرَمِيِّ، (أَنَّ طَارقَ بنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْخَمْرِ؟)، والخمر قد وردت النُّصوص بتحريمها، قال تعالى: ï´؟يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَï´¾ [المائدة/90].
قال: (فَنَهَاهُ، أَو كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ طارق: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا للدَّواءِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلكِنَّهُ دَاءٌ»)، فهذا فيه دليلٌ لِمَا قد ذكرناه من كون المحرمات لا يجوز التَّداوي بها، وأنها ليست بدواء في نفسها.
قال: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ: إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُم فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُم)، وفي الحديث: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها».
{قال -رحمه الله: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أُبيِّ بنِ كَعْبٍ طَبِـيْـبًا، فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا، ثُمَّ كَواهُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ سَعيدِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ الجُمَحِيِّ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشَرَةَ وتِسْعَ عَشَرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي تَوْبَةَ بنِ الرَّبِيعِ بنِ نَافِعٍ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَى مُسلمٌ لـ(سَعِيدٍ)، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : "يَهِمُ فِي الشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ"، وَقَدْ سُئِلَ أَحْمدُ عَنْ هَذَا الحَدِيثِ فَقَالَ: "لَيْسَ ذَا بِشَيْءٍ".
وَعَنِ الْمُغيرَةِ بنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْن مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ)}.
هذه الأحاديث تتكلَّم عن أنواع ما يَستعمله العرب في علاجات فيما بينهم، وكما تقدَّم أنَّ العلاج مرجعه إلى التَّجربةِ والتَّكرار، فما ثبت نجاحه بطريق التَّجربة فإنَّه دواءٌ يصح الاستناد عليه بإذن الله -جلَّ وعَلا.
وقد أورد المؤلف في هذا حديث ابن عباس مرفوعًا، قال: «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ»، وفي هذا دليل على جواز التَّداوي بهذه الطَّرائق الثَّلاث، وكما تقدَّمَ أنَّ العلاج لا يتعيَّن بطريق واحد، ولذلك نقول: إنَّ أصل العلاج مُستحبٌّ وقد يجب، ولكن طريقة العلاج ليست من الواجبات؛ لأنَّ هناك طرائق مُتعددة توصل إلى نفس النتيجة -بإذن الله جل وعلا.
وخصوصًا أنَّ التَّداوي مما ترغبه النُّفوس، وبالتَّالي لم يكن مِن طرائقه أن يُشترط فيه الحكم الشَّرعي، فإنَّ ما ترغبه النُّفوس أوكله الشَّارع إلى النفوس، ولم يؤكد الطلب فيه.
أمَّا الأول: فهو الحجامة، وكانت العرب تستعملها، واستعملها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولازال الناس يستعملونها، وهي -كما تقدم- على الإباحة.
وأمَّا الثَّاني: شربة العسل، وهي نوع من أنواع العلاج، وقد قال تعالى: ï´؟فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِï´¾ [النحل:69].
وأمَّا الثالث: فكيَّةٌ بنارٍ، والكيُّ علاج يعرفه المختصون به، ولكن إذا دخل فيه من لا يعرفه فإنَّه حينئذٍ لن يُحصِّل له نتيجة، فإنَّ العلاج بالكي له طرائق معيَّنة، وله مواضع محدَّدة، وله أحجام مخصَّصة، وبالتَّالي ليس كل واحد من الناس يعرف العلاج بالكي.
قال: «وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ»، يعني: أنا لا أرغبهم فيه، وإلَّا فقد ثبتَ أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كوى وأمر بالكيِّ كما في حديث جابر بعده، قال: (بَعَثَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أُبيِّ بنِ كَعْبٍ طَبِـيْـبًا)، فهذا دليل على مشروعيَّة التَّدواي، وأنَّه لا يكون من الأحاديث الواردة أنَّ هناك مَن يدخلون الجنَّة بغير حسابٍ ولا عذاب، فقد وردَ في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «يدخل من أمتي الجنة بغير حساب ولا عذاب سبعون ألفًا»، ثم بيَّنهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: «هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون»، فقوله «لا يسترقون»، يعني: أنهم لا يطلبون الرقية، وليس المراد أنهم لا يفعلون الرقية، بل هم يرقون غيرهم، وإذا رقاهُم غيرهم مِن غيرِ طلب لم يُمانعوا من ذلك.
والمقصود هنا: أنَّ التَّداوي من الأمور الجائزة المباحة، ومن أنواع التَّداوي: قطع العروق متى رأى الطَّبيب أنَّ ذلك من طرائق العلاج جازَ استعماله، ومثله أيضًا الكي -على ما تقدَّم.
ثم أوردَ المؤلف حديثًا من رواية سَعيدِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ الجُمَحِيِّ، وسعيد هذا قد تُكلِّمَ فيه وأنَّ عنده أوهام.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشَرَةَ وتِسْعَ عَشَرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ»، كما تقدَّم أنَّ هذا الخبر فيه ضعفٌ كبيرٌ، وبالتَّالي لا يثبت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم أورد حديث الْمُغيرَةِ بنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ»، هذا الخبر لأهل العلم فيه كلام من جهةِ صحة إسناده.
وقوله: «مَنِ اكْتَوَى»، أي: استعمل الكي في العلاج.
قوله: «أَوِ اسْتَرْقَى»، أي: طلب الرُّقية، وليس فيه النَّهي عن رقية الآخرين، وليس فيه الامتناع من أن يرقيه الآخرون؛ إنَّما الممنوع طلب الرُّقية.
قوله: «فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ»، أي: برئ من أعلى درجات التَّوكُّل، والتَّوكُّل هو: تفويض الأمور إلى الله -جلَّ وعَلا- وليس من معنى التَّوكُّل ترك بذل الأسباب.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامُ». والسَّامُ: الْمَوْت. والحَبَّةُ السَّوْدَاءُ: الشُّونِيزُ.
وَعَنْ أُمِّ قَيسٍ بِنْتِ مِـحْصَنٍ أُخْتِ عُكَّاشَةَ قَالَتْ: دَخَلْتُ بِابْنٍ لي عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ فَبَالَ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّهُ، قَالَتْ: وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ بِابْنٍ لي قَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ، فَقَالَ: «عَلَامَهْ تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذَا العِلاقِ؟ عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا: ذَاتُ الْجَنْبِ يُسْعَطُ مِنَ الْعُذْرَةِ ويُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ».
وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْـخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْقِهِ عَسَلًا»، فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا، فَلم يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ لَهُ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا»، فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ اللهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ»، فَسَقَاهُ فَبَرَأَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهَا، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
هذه ثلاثة أحاديث في طرائق علاج الأمراض.
أولها: ما يتعلَّق بالحبَّة السَّوداء، وهي ثمرة نبات صغيرة الحجم، وأصلها خضراء ثم تسودُّ إذا بقيَت، ولذلك يُسميها بعضهم الخضيراء، وبعضهم يُسميها الشُّونيز، وبعض الأطباء قال: إنَّها تزيدُ في مناعة البدنِ، وبالتَّالي تتمكَّن من تقوية البدن، بحيث لا تتمكَّن الأمراض من دخوله.
والإكثار من الحبة السوداء قد يكون له أثرٌ سيء على البدن، ولذلك ما يؤتَى منه إلَّا بنسبٍ قليلةٍ جدًّا.
ثم أورد المؤلف حديث أُمِّ قَيسٍ بِنْتِ مِـحْصَنٍ أُخْتِ عُكَّاشَةَ الذي قال فيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سبقك بها عكاشة».
قَالَتْ: (دَخَلْتُ بِابْنٍ لي عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ)، أي: صغير.
قالت: (فَبَالَ عَلَيْهِ)، وضعته في حجر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبال عليه.
قالت: (فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّهُ)، فيه أنَّ بول الصبي الذَّكر الذي لم يأكل الطَّعام ليست نجاسته نجاسة مُغلظة؛ بل نجاسته نجاسة مخففة يكفي فيه النَّضح والرَّش.
قَالَتْ: (وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ بِابْنٍ لي قَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ)، العَذِرة: هي النجاسة الخارجة من البدن؛ لكن العُذَرة مرض وغالبًا ما يُصيب الصبيان، ويكون وجعٌ في الحلق وهناك ورم، وبالتَّالي يعلقون عليه شيء من أجل أن يزول هذا الورم، ومرة يُدخلن أصابعهن من أجل إزالة هذا الورم.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَامَهْ تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذَا العِلاقِ؟»، يعني: ما السبب الذي جعلكن تضعن هذا الشيء الذي يُدخل في البدن من أجل أن تُرفع هذه العذرة؟
هم يُريدون أن يقف الدم الذي يخرج من هذا الورم، ويظنون أنَّ المرأة إذا وضعت أصبعها فرفعت هذه العذرة، فإنه حينئذٍ يُشفَى بإذن الله، فأرشدهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى دواءٍ آخر، فقال: «عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا: ذَاتُ الْجَنْبِ»، ذات الجنب مرض يصيب الرئة، بحيث تعلق الرئة بعظام الصَّدر، وبالتَّالي يستعملون العود الهندي من أجل أن يكون سببًا من أسباب انفكاك الرئة عن عظام الصدر.
قال: «ذَاتُ الْجَنْبِ، يُسْعَطُ مِنَ الْعُذْرَةِ»، أي: أنَّ هذا علاج ثانٍ، فالعود الهندي يُستخدم لعلاج ذات الجنب، وكذلك أيضًا يستخدم في العذرة التي جاءت أم قيس بولدها مريضًا به.
والسَّعوط: ما يوضع في الأنف، فيجعلون الصبيان يشمونه وبالتَّالي لا يُصاب به.
قال: «ويُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ»، أي: أنَّ مريض ذات الجنب يُسقى بالعود الهندي لدودًا.
ثم أورد حديث أَبي سَعِيدٍ الْـخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ؟)، أي: كان عنده إسهالٌ كثير.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْقِهِ عَسَلًا»، لعلَّ كان في بطنه شيء من الغَشش، وأراد أن يطهر ما في بطنه بالعسل.
قال: (فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا، فَلم يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ لَهُ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْقِهِ عَسَلًا»، فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ اللهُ»)، أي: عندما قال عن العسل: ï´؟فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِï´¾ [النحل:69].
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ»، أي: أنَّ هناك أشياء في البطن جعلته لم يستجب لهذا العلاج.
قال: (فَسَقَاهُ فَبَرَأَ)، بفضل الله -عزَّ وجَلَّ.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ، والحُمَةِ، والنَّمْلَةِ. رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْتَرْقِيَ مِنَ الْعَيْنِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَو كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرِ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذا استُغْسِلْتُم فَاغْسِلُوا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ)}.
هذه الأحاديث تتعلق بالعين وما ماثلها.
أولها: حديث أنس، قال: (رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، والتَّرخيص: هو الإباحة.
قال: (فِي الرُّقْيَةِ)، الرُّقية: قراءة وتعاويذ تُقال على المريض، والأصل فيها أن تكون بنفثٍ، وقد يكون هناك طرائق أخرى للرقية، وكما قلنا سابقًا: إنَّ طرائق العلاج لا يجب أن تكون منصوصة في الأدلَّة الشَّرعيَّة، وإنَّما تُعرف بطرائق التَّجربة، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقية ما لم تكن شركًا».
قوله: (مِنَ الْعَيْنِ)، العين: أن يُصابَ شخصٌ بسببِ إعجاب غيره بما عنده من نعمٍ في بدنه أو في ماله بحيث يتعلَّق قلبه بذلك، ومَن كان مِن أهل العين فإنَّه يوصَى بأن يُكثر من ذكر الله -جلَّ وعَلا.
والرُّقية تنفع في علاج العين، وفي علاج الحمة، وهي لدغات الحيونات المسمومة، سواء العقارب، أو الحيَّات.
قال: «والنَّمْلَةِ»، وهو مرضٌ يكون فيه قروح تخرج من جنب الإنسان، فمثل هذا تنفع فيه الرقية.
ثم أورد حديث عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْتَرْقِيَ مِنَ الْعَيْنِ)، هذا الحديث استدلَّ به بعضهم على أنَّ طلب الرقية لا شيء فيه، والجمهور على أنَّ طلب الرقية ليس الحالة العليا.
والمعنى في هذا: أنَّ الشَّارع يتطلَّع إلى ألَّا يُطالب أهلُه الآخرين بشيء، فكلَّما حاولت أن تستغني بالله عن خلقه فهو أعلى لشأنك.
ثم أورد حديث ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- في صحيح مسلم، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ»، أي: أنَّ إصابة النَّاس في أبدانهم أو أموالهم بسبب هذه العين من الأمور الحقَّة الصَّادقة التي لا تشكيك فيها.
قال: «وَلَو كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرِ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ»، يعني: لو قُدِّرَ أنَّ هناك أشياء تسبق القدر لسبقته العين.
والظاهر أنَّ العين نوعٌ من أنواع القدر، ولو كانت مُغيِّرة للقدر، كما أنَّ الزَّواج من القدر وإن كان سيؤدي إلى وجود الولد.
قال: «وَإِذا استُغْسِلْتُم فَاغْسِلُوا»، أي: إذا طلب الآخرون منكم أن تقدِّموا لهم غِسالةً تكون بعدَ وضوئكم ونحوه؛ فأعطوا أثر هذا الغَسل لمَن طلب الغسل منكم.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ ثَابتٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ اشتَكَيْتُ، فَقَالَ أَنَس: أَلا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: بلَى، قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، مُذْهِبَ الْبَأْسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَشْتَكَيْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ». فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيْكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَينِ حَاسِدٍ، اللهُ يُشْفِيكَ، بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ.
وَعَنْ عُثْمَانَ بنِ أَبي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ: أَنَّهُ شَكَى إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَألَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِسِمِ اللهِ -ثَلَاثًا- وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدْ وَأُحَاذِرُ». رَوَاهُمَا مُسلمٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بالـمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدَيَّ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
هذه أحاديث فيها شيء من طرائق التَّعامل مع المرضي، وليُعلَم أولًا أنَّ عيادة المرضى عبادة وعمل صالح، وقد ورد في الخبر أنَّ «الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ» ، يعني: في ثمارها.
وقد جاء في الحديث أنَّ الله -عزَّ وجَلَّ- يقول للعبد يوم القيامة: «مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. الَ : أَيْ رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قال: يَقُولُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ وَجَدْتَنِي عِنْدَهُ» ، وكان النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحرص على عِيادة المرضى.
قال ثَابت: (قلتُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ)، وهو أنس بن مالك.
قوله: (اشتَكَيْتُ)، أي: مرضتُ.
فَقَالَ أَنَس: (أَلا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: بلَى)، هنا أنس قام بالرقية ابتداءً.
قَالَ: «اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ»، يا الله يا مُنظِّمًا لأحوال النَّاس وقائمًا بشؤونهم.
قال: «مُذْهِبَ الْبَأْسِ»، أي: مُزيل جميع أنواع البأس من مرضٍ ونحوه.
قال: «اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي»، أي: أَنزل الشِّفاء.
قوله: «لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا»، فيه إثبات أنَّ العلاج لا يُؤثِّر بنفسه، فهو له تأثير ولكن بإذن الله -جلَّ وعَلا.
ثم أورد حديث أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَشْتَكَيْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»)، فيه جواز إخبار الإنسان عن بدنه وما فيه من الأمراض والشَّكوى، ولكن لا يُقال ذلك إلَّا لمَن يُرجَى أن يكون له أثرٌ في تخفيف ذلك، أو في إزالته، وأمَّا التَّكلُّم بالمصائب والشَّكوى أمام النَّاس فليس من الأمور المستحسنة.
فَقَالَ جبريل: «بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيْكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَينِ حَاسِدٍ، اللهُ يُشْفِيكَ، بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ»، الرُّقية -كما تقدم- نوعٌ من القراءةِ والنَّفثِ على المريض.
وقوله: «مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَينِ حَاسِدٍ، اللهُ يُشْفِيكَ، بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ»، مع طولِ هذه المدَّة احتاج إلى أن يدعو بمثل هذا الدُّعاء.
قال المؤلف: (وَعَنْ عُثْمَانَ بنِ أَبي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ: أَنَّهُ شَكَى إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَعْ يَدَكَ»)، هنا لم يُفرِّق بينَ اليُمنى واليُسرَى، والأولى أن يضع اليد اليُمنَى.
قال: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَألَّمَ مِنْ جَسَدِكَ»، أي: يوجد فيه ألم.
قال: «وَقُلْ: بِسِمِ اللهِ -ثَلَاثًا- وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدْ وَأُحَاذِرُ»، وقد وردَ عند النَّسائي أنَّ مَن قال ذلك لكان ذلك من أسباب علاجه.
والمعنى: ألتجئ إلى الله وقدرته من المرض.
ثم أورد حديث عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا- قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ)، أي: أصابه شيءٌ من الأمراض.
قالت: (نَفَثَ عَلَيْهِ بالـمُعَوِّذَاتِ)، أي: قرأ عليه المعوذات، وهي سورة الإخلاص والفلق والنَّاس؛ لأنَّه جمعها، والجمعُ يصدقُ على الثَّلاث، وفيه أنَّ من أولى ما يُقرأ المعوذات.
قالت: (فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ)، هنا لم يطلب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها أن تقرأ عليه، وإنما ابتدأت عائشة بذلك. قالت: (وأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدَيَّ).
وهذا أواخر ما يتعلَّق بكتاب "المحرَّر" للحافظ العلامة أبي عبد الله محمد بن عبد الهادي المقدسي، المتوفى سنة سبعمائة وأربعٍ وأربعين من الهجرة، أسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يُوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يجعلنا وإياكم من الهُداة المهتدين، كما أسأله -جلَّ وعَلا- صلاحًا لنيَّاتنا، ورفعةً لشأننا، وعلوًّا لمنازلنا، وقضاءً لحوائجنا، وكما أسأله -جلَّ وعَلا- ألَّا يحرمكم الأجر والثواب فيما سمعتموه، وفيما قرأتموه، وفيما كتبتموه، بارك الله فيكم جميعًا.
كما أشكر أخي فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن أحمد العمر، بارك الله فيه على حسن تقديمه في هذا اللقاء، وفي اللقاءات السابقة، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يهبه العلم النَّافع، والعمل الصالح، كما أشكر إخواني ممن يرتب هذه اللقاءات من خلفِ هذه الشاشات، وفي مُقدمتهم الدكتور راشد والأخ سعيد وبقية الإخوة؛ جزاهم الله خيرًا وبارك فيهم، وأسبغَ عليهم نِعمه.
كما أسأل الله -جلَّ وعَلا- لجميع المسلمين اجتماعًا لكلمتهم، وتآلفًا بينَ قلوبهم، ورغدًا في عيشهم، وصلاحًا في أحوالهم، وأسأله -جلَّ وعَلا- لولاة أمور المسلمين التَّوفيق لكل خير، وأن يكونوا من أسباب الهُدَى والتُّقَى والصَّلاح والسَّعادة، كما أسأله -جلَّ وعَلا- أن يوفِّق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لكل خير، وأن يجعلهم من أسباب الهدى والتَّقى، وأن يجزيهم على ما يقومون به من أعمالٍ صالحةٍ في عمارة الحرمين، وفي خدمة ضيوف الرحمن، وفي نشر دين الإسلام، وفي الوقوف مع قضايا المسلمين، جزاهم الله خير الجزاء، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي ختامِ هذا الفصل المبارك أشكركم معالي الشيخ على ما تُقدِّمونه، أسأل الله أن يجعله في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 07:22

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc