مصرع الحزبية ... والدَّيمومة والبقاء لمنهاج النبوة (منهاج السلف الصالح)

[أبو هاجر القحطاني]

مصرع الحزبية ... والدَّيمومة والبقاء لمنهاج النبوة (منهاج السلف الصالح)



بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه،

أما بع...د، فإن مصرع الحزبية، والدَّيمومة والبقاء لمنهاج النبوة: منهاج السلف الصالح سنة الله عز وجل {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً}.

وقد قال الله عز وجل: {أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ (17)}.

قال أبو جعفر بن جرير في جامع البيان (16/408): "وهذا مَثَلٌ ضربه الله للحق والباطل، والإيمان به والكفر.

مثل الحق في ثباته والباطل في اضمحلاله، مثل ماء أنزله الله من السماء إلى الأرض (فسالت أوديةٌ بقدرها) ، يقول: فاحتملته الأودية بملئها، الكبير بكبره، والصغير بصغره (فاحتمل السيل زبدًا رابيًا) ، يقول: فاحتمل السيل الذي حدث عن ذلك الماء الذي أنزله الله من السماء، زبدًا عاليًا فوق السيل.

فهذا أحدُ مثلي الحقّ والباطل، فالحق هو الماءُ الباقي الذي أنزله الله من السماء، والزبد الذي لا ينتفع به هو الباطل.

والمثل الآخر: (ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية) يقول جل ثناؤه: ومثلٌ آخر للحقّ والباطل، مثل فضة أو ذهب يوقد عليها الناس في النار طلب حلية يتخذونها أو متاع، وذلك من النحاس والرصاص والحديد، يوقد عليه ليتخذ منه متاع ينتفع به، (زبد مثله) ، يقول تعالى ذكره: ومما يوقدون عليه من هذه الأشياء زبد مثله، يعني: مثل زبد السَّيل لا ينتفع به ويذهب باطلاً كما لا ينتفع بزبد السَّيل ويذهب باطلاً".اهـ

قلت: والحزبية بلا ريب من هذا الزبد الذي مصيره أن يذهب جفاء، ولكنها تتزين في أول أمرها للجهال، كما قال البخاري في كتاب الفتن من الصحيح: بَابُ الفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ البَحْرِ:

وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ عِنْدَ الفِتَنِ، قَالَ امْرُؤُ القَيْسِ:

الحَرْبُ أَوَّلُ مَا تَكُونُ فَتِيَّةً ... تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ

حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشُبَّ ضِرَامُهَا ... وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ

شَمْطَاءَ يُنْكَرُ لَوْنُهَا وَتَغَيَّرَتْ ... مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ

ووصله الشافعي في السنن المأثورة (423) قال: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلَّحَوَارِيِّينَ: كَمَا تَرَكَ لَكُمُ الْمُلُوكُ الْحِكْمَةَ فَاتْرُكُوهُمْ وَالدُّنْيَا.، وَكَانَ خَلَفٌ يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا هَذِهِ الْأَبْيَاتِ فِي الْفِتْنَةِ:

الْحَرْبُ أَوَّلَ مَا تَكُونُ فَتِيَّةٌ ... تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ

حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ وَشُبَّ ضِرَامُهَا ... وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ

شَمْطَاءَ جَزَّتْ رَأْسَهَا وَتَنَكَّرَتْ ... مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ

قلت: فهذا مآل الحزبية تذهب جفاء كما يذهب هذا الزبد، وهذا مآل البدعة وأهلها يذهبون إلى مزبلة التاريخ لا قيمة لهم ولا وزن لهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا أن يتوبوا إلى الله قبل موتهم.

وقال ابن كثير في تفسيره: "هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ، احْتَمَلَتْ مِنْهُ الْقُلُوبُ عَلَى قَدْرِ يَقِينِهَا وَشَكِّهَا، فَأَمَّا الشَّكُّ فَلَا يَنْفَعُ مَعَهُ الْعَمَلُ، وَأَمَّا الْيَقِينُ فَيَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَهْلَهُ. وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [وَهُوَ الشَّكُّ]{وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ} وَهُوَ الْيَقِينُ، وَكَمَا يُجْعَلُ الْحُلِيُّ فِي النَّارِ فَيُؤْخَذُ خَالَصُهُ وَيُتْرَكُ خَبَثه فِي النَّارِ؛ فَكَذَلِكَ يَقْبَلُ اللَّهُ الْيَقِينَ وَيَتْرُكُ الشَّكَّ".

فاليقين الذي لا شك فيه هو منهاج النبوة المنهاج الذي حمله السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فأهله منصورون إلى قيام الساعة كما في الأحاديث التالية:

أخرج البخاري (7311)، ومسلم (1921) من حديث المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ».

وأخرج مسلم (1920) من حديث ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ».

وأخرج مسلم (156) من حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، قَالَ: " فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ".

وأخرج مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ رِيحًا مِنَ الْيَمَنِ أَلْيَنَ مِنَ الْحَرِيرِ، فَلَا تَدَعُ أَحَدًا فِي قَلْبِهِ - قَالَ أَبُو عَلْقَمَةَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ، وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: مِثْقَالُ ذَرَّةٍ - مِنْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتْهُ".

قلت: هذا هو المآل الذي ينتهي إليه أهل الحق، وهو المقصود بقوله: "حتى يأتي أمر الله"، فأمر الله هو هذه الريح التي تقبض أرواح أهل الحق قبل قيام الساعة.

قال النووي في شرحه على مسلم (2/132): "وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيثِ فَقَدْ جَاءَتْ فِي هَذَا النَّوْعِ أَحَادِيثُ مِنْهَا لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللَّهُ اللَّهُ وَمِنْهَا لَا تَقُومُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ اللَّهُ اللَّهُ وَمِنْهَا لَا تَقُومُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ وَهَذِهِ كُلُّهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَمَّا الْحَدِيثُ الآخر لاتزال طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَيْسَ مُخَالِفًا لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقْبِضَهُمْ هَذِهِ الرِّيحُ اللَّيِّنَةُ قُرْبَ الْقِيَامَةِ وَعِنْدَ تَظَاهُرِ أَشْرَاطِهَا فَأَطْلَقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَقَاءَهُمْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ عَلَى أَشْرَاطِهَا وَدُنُوَّهَا الْمُتَنَاهِيَ فِي الْقُرْبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

قلت: وقد ذهب الأئمة قاطبة إلى أن الطائفة المنصورة المعنية في الأحاديث السابقة هم أصحاب الحديث، كما في الآثار التالية:

قال الترمذي في جامعه (2192 ) حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلَا خَيْرَ فِيكُمْ، لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ: هُمْ أَصْحَابُ الحَدِيثِ.

واستفتح الْحَاكِمُ كتابه "معرفة عُلُومِ الْحَدِيثِ" (ص2) بحديث مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ في الطائفة المنصورة: «لَا يَزَالُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمُ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ».

ثم قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْآدَمِيَّ بِمَكَّةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ هَارُونَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: وَسُئِلَ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: «إِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ».

وهذا سند صحيح عن إمام السنة.

ثم قال الحاكم: "وَفِي مِثْلِ هَذَا قِيلَ: مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْحَقِّ فَلَقَدْ أَحْسَنَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلِ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَنْصُورَةَ الَّتِي يُرْفَعُ الْخِذْلَانُ عَنْهُمْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ هُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَمَنْ أَحَقُّ بِهَذَا التَّأْوِيلِ مِنْ قَوْمٍ سَلَكُوا مَحَجَّةَ الصَّالِحِينَ، وَاتَّبَعُوا آثَارَ السَّلَفِ مِنَ الْمَاضِينَ وَدَمَغُوا أَهْلَ الْبِدَعِ وَالْمُخَالِفِينَ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَجْمَعِينَ مِنْ قَوْمٍ آثَرُوا قَطْعَ الْمَفَاوِزِ وَالْقِفَارِ عَلَى التَّنَعُّمِ فِي الدِّمَنِ وَالْأَوْطَارِ وَتَنَعَّمُوا بِالْبُؤْسِ فِي الْأَسْفَارِ، مَعَ مُسَاكَنَةِ الْعِلْمِ وَالْأَخْبَارِ، وَقَنَعُوا عِنْدَ جَمْعِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ بِوُجُودِ الْكِسَرِ وَالْأَطْمَارِ، قَدْ رَفَضُوا الْإِلْحَادَ الَّذِي تَتُوقُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ الشَّهْوَانِيَّةُ، وَتَوَابِعُ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْمَقَايِيسِ وَالْآرَاءِ وَالزَّيْغِ جَعَلُوا الْمَسَاجِدَ بُيُوتَهُمْ، وَأَسَاطِينَهَا تَكَّاهُمْ، وَبَوَارِيَها فُرُشَهُمْ".

ثم أخرج بسنده عن عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ , قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، وَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَنْظُرُ إِلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَمَا هُمْ فِيهِ، قَالَ: «هُمْ خَيْرُ أَهْلِ الدُّنْيَا».

وأخرج الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث (ص27) في بسند صحيح عن أَبي حَاتِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ سِنَانٍ، وَذَكَرَ، حَدِيثَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ» ، فَقَالَ: هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَأَصْحَابُ الْآثَارِ.

وأما الحزبية فإن مصيرها الخذلان من الله سبحانه لأهلها، كما قال سبحانه: {إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.

ومَن خذله الله عز وجل مَن ينصره؟! لا ناصر لهم!!

والحزبية مخذولة من بدايتها، وقد صرعها جند الله وأولياؤه من العلماء الربانيين بسهام الحق.

وحزب الإخوان المسلمين هو الحزب الأم الذي تبنى الحزبية والعصبية منذ نشأته الأولى، ومنه خرجت الأحزاب البدعية بشتى بدعها التي فرقت وشتت المسلمين إلى وقتنا هذا، وصار مفرخة للشر وأهله منذ ظهوره، فقلَّما تجد صاحب بدعة أو نحلة منحرفة إلا وله علاقة بهذا الحزب أو انتماء إليه، فهذه حقيقة يدركها كل عاقل درس تاريخ هذا الحزب وعرف حقيقة أمره؛ أنه قام على الضلال والانحراف منذ يومه الأول.

وهم يدأبون دأبًا حثيثًا على ترسيخ هذه الحزبية المقيتة في بلاد الإسلام باسم الإسلام، ويربون شباب الأمة عليها منذ نشأتهم استعدادًا لساعة الانقضاض على السلطة في بلاد الإسلام، كما قال محمد قطب في كتابه "واقعنا المعاصر" (ص486): "أما الذين يسألون إلى متى نظل نربي دون أن نعمل؟ فلا نستطيع أن نعطيهم موعدًا محددًا، فنقول لهم عشر سنوات من الآن، أو عشرين سنة من الآن! هذا رجم بالغيب لا يعتمد على دليل واضح، وإنما نستطيع أن نقول لهم نظل نربي حتى تتكون القاعدة المطلوبة بالحجم المعقول"، ولذلك لما سأل الإخوان سيد قطب عن أخيه قال لهم: "اتركوا محمدًا فإن له مهمةً أخرى"([1]).
لذلك صدق وبر الأمير نايف بن عبدالعزيز –رحمه الله- لما قال: "إن تاريخ الحزب يدل على أن قصدهم القفز إلى الحكم، وليس الدعوة إلى شرع الله وخير الإسلام والمسلمين.. وأنهم هم السبب في المشاكل في العالم الإسلامي".

قلت: وقد صرع الله سبحانه حزب الإخوان المسلمين بسهام رءوس الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، وهم العلماء الربانيون منذ نشأة الحزب، وإليك مقتطفات من كلام ثلاثة من كبار علماء مصر عاصروا نشأة هذا الحزب:
قال محدث مصر العلامة أحمد شاكر: ".. حركة الشيخ حسن البنا وإخوانه المسلمين الذين قلبوا الدعوة الإسلامية إلى دعوة إجرامية هدَّامة ينفق عليها الشيوعيون واليهود، كما نعلم ذلك علم اليقين".

وقال الشيخ محمد حامد الفقي: "..إلا أننا نشهد أنهم –أي الإخوان المسلمون- انحرفوا في الأيام الأخيرة عن الجادة التي كانوا من قبل قد رسموها لأنفسهم لا من حيث الاشتغال بالأمور السياسية فحسب، ولكن من حيث التراجع عن المبادئ القويمة التي كانوا ينادون بها ويجعلون ختامها (الموت في سبيل الله أسمى أمانينا)، والتراخي في الاستمساك بها تحت ضغط الظروف التي جعلت من الأستاذ نصيف ميخائيل والشيخ المحترم لويس فانوس بك وميريت بك غالي إخوانًا ينضوون تحت راية الإخوان المصريين".

وقال شيخنا محمد بن عبدالوهاب البنا: "وكان أول من سنَّ بدعة الخروج على الحكَّام في العصر الحديث هو: حسن البنا، وذلك عن طريق المظاهرات والانقلابات.."، وقال: "وهذا من مفارقات حسن البنا أنه يعلم التوحيد والشرك، ولا يتكلم فيهما أبدًا".

وقد عقد روبرت دريفوس في كتابه الفريد "رهينة بيد الخميني" (ص71) فصلين الأول: بعنوان "الإخوان المسلمون.. مكيدة بريطانية ضد الإسلام"، والثاني بعنوان: "الإخوان المسلمون المقر في مصر" بيَّن فيهما بتسلسل تاريخي فذّ كيف تمكن البريطانيون من زرع البهائية في بعض بلاد الإسلام، وكيف استخدموها كأداة لإضعاف المسلمين، ثم ذكر نشأة جمال الدين الأفغاني، وانضمامه للماسونية العالمية، وإنشاءه لهيكل الماسونية في البلاد العربية، وكيف استخدمته بريطانيا أيضًا -كما استخدمت البهائية من قبل- لبث السموم في البلاد الإسلامية، وذكر تتلمذ محمد عبده عليه، واستخدام بريطانيا أيضًا له حتى صارت حركته المستقاة من الأفغاني نواة حزب الإخوان المسلمين؛ حيث قال (ص103): "منذ إقامة الأفغاني في القاهرة في الفترة ما بين 1871-1879م جعلت المخابرات البريطانية ومستشرقو أكسفورد وكمبريدج من مصر مقرًا نشطًا للحركة الأفغانية..."، ثم قال: "كانت مصر مأوى تلميذ الأفغاني النجيب محمد عبده.

في عام 1871 عندما وصل الأفغاني إلى القاهرة لتقلد منصبة بجامعة الأزهر، انجذب محمد عبده إلى الدائرة المقربة من الأفغاني، ورغم أنه لا يزال في العشرينات من عمره وأصغر سنًّا بكثير من الأفغاني؛ أصبح محمد عبده أقرب المقربين من سيده...

كانت حياة محمد عبده بمثابة انغماس كامل في الطائفة الصوفية...وفي ظل تأثير الأفغاني بدأ محمد عبده يبعد عن بعض صفاته الشاذة، وبدأ يناصر العلوم والمنطق، ويبعد عن الباطنية الصوفية، بدأ في استيعاب أعمال أرسطو ورواد الإمبراطورية البريطانية، وكان مغرمًا على وجه الخصوص بجون ستاورت ميل الذي صارت مقالاته واسعة الانتشار بين بين قادة الحركة الإسلامية الشاملة الأوائل.

وعقب رحيل الأفغاني القسري، تم ترشيح محمد عبده رئيسًا لتحرير مجلة الجريدة الرسمية، وهي الجريدة الرسمية الصادرة عن الحكومة المصرية والخاضعة للسيطرة البريطانية، وما كان هذا المنصب ليُمنح لشخص مثل محمد عبده لولا صلته بالجمعية السرية للأفغاني ... وهو بيان لمدى الثقة التي وضعتها لندن فيه.

وكان ممن عملوا مع محمد عبده كمساعد له: سعد زغلول، ذلك الرجل الذي قاد الحركة القومية المصرية وحزب الوفد بعد الحرب العالمية الأولى.

وفي عام 1883 لحق محمد عبده بالأفغاني في باريس، ثم سافر إلى لندن حيث قضى بعض الوقت في إلقاء المحاضرات في جامعتي أكسفورد وكمبريدج ...".

إلى أن قال (ص105): "وكان محمد عبده يرتب للقاء الواعدين من تلاميذه مع أحد ضباط المخابرات البريطانية في لندن...وفي عام 1888 عاد محمد عبده إلى مصر، وحصل على عفو شخصي عن جرائم التحريض التي نُفي بسببها من مصر على يد اللورد كرومر، ومنذ عام 1888 حتى وفاته 1905 كان محمد عبده واحدًا ممن يظهرون في مشهد النخبة السياسية في مصر، وكان يُرى كثير الزيارة لمنزل ومكتب اللورد كرومر...

وأخيرًا في عام 1899 رُشح محمد عبده مفتيًا لمصر، أعطى المنصب محمد عبده صلاحية هائلة إذ كان المستشار العام لشئون العدالة للدولة بأسرها، وللحكومة على نحو خاص في كل الأمور المرتبطة بالإسلام، وعلى مدار السنوات الست التالية كان يعين أعضاء جمعيات الأفغاني السرية والمخلصين للعروة الوثقى في كل المناصب الكبرى في الشئون المصرية الإسلامية، وعمل بلا كلل على تشجيع نمو الحركة السرية التي شكلت بشكل رسمي بعد نحو عشرين عامًا من وفاته ما يُعرَف بالإخوان المسلمين

ولا شك أن هناك تسلسلاً واضحًا من الأفغاني الأداة البريطانية إلى إخوان [آية الله الخميني]".

ثم قال في (ص107): "وُلد مؤسس الإخوان المسلمين عام 1906، وكما هو الحال في معظم من سبقوه في الطائفة الأصولية البريطانية، تلقى المبادئ الباطنية الصوفية في سن مبكرة، وسرعان ما أُلقي القبض عليه ضمن شبكة الأفغاني ومحمد عبده في القاهرة، وكان اسمه حسن البنا... كان والد البنا الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا الساعاتي كاتبًا ذا صيت معقول تعلقى تعليمه في جامعة الأزهر على يد محمد عبده، وتنقل البنا الذي ألحقه والده بالمدارس الصوفية بالعديد من الجمعيات الدينية المتعاقبة في سن الثانية عشرة، كان الصبي رئيس جمعية يطلق عليها: "جمعية السلوك القويم"، ثم انتقل إلى جمعية "منع المحرمات"، وفي بداية حياته تعرف على الدوائر الصوفية للإخوان الحصافية، وظل عضوًا بهذه الجمعية السرية لأكثر من عشرين عامًا، وبحلول عام 1922 تم قبوله كعضو كامل الصلاحيات في الطائفة الحصافية، وارتدى بفخر عمامة الطائفة وعباءتها البيضاء.

وكان الغزالي هو شمس البنا الهادية؛ حيث قرأ البنا كتبه مرات ومرات... غير أن الزخم للإخوان المسلمين جاء مباشرة من حزب المنار السائر على نهج الأفغاني ومحمد عبده ... وفي عام 1927 ساعد البنا في إنشاء جمعية الشبان المسلمين، وسرعان ما تلا تلك الجمعية تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1929".اهـ

قلت: هكذا كانت نشأة حزب الإخوان المسلمين على منهج الأفغاني ومحمد عبده اللَّذين زرعتهما المخابرات البريطانية في داخل مصر، وكان اختيار المخابرات البريطانية لحسن البنا لتكميل مسيرة الأفغاني ومحمد عبده.

وبلا شك مصالح الحكومة البريطانية والحكومة الأمريكية متداخلة متشابكة مشتركة في كثير من الأحيان، وتعاون مخابرات الدولتين قائمًا منذ ذاك الوقت، فلا نعجب من محاولة أمريكا السعي إلى تمكين الإخوان المسلمين من الدولة المصرية، كما قال الصحفى الأمريكى "وليام أنجدال"، فى لقاء خاص مع قناة "روسيا اليوم" الروسية([2]): "إن واشنطن هدفها تأجيج الوضع فقط وحدوث الخراب داخل مصر وأن إدارة أوباما تدعم "الإخوان المسلمين"؛ لأنهم العنصر الوحيد من الإستراتيجية الجيوسياسية لسياسة واشنطن الخارجية فى مصر".

قلت: هذا بجانب ظهور إيران الرافضية المتوافقة مع رغبة أمريكا في الشأن نفسه.

ولذلك صدق محدث مصر العلامة أحمد شاكر حين قال: ".. حركة الشيخ حسن البنا وإخوانه المسلمين الذين قلبوا الدعوة الإسلامية إلى دعوة إجرامية هدَّامة ينفق عليها الشيوعيون واليهود، كما نعلم ذلك علم اليقين".

قلت: وأحمد شاكر كان قاضيًا كما كان محدثًا؛ فهذه مقولة قاض خبير بالواقع لا يصدر حكمه إلا عن علم وبصيرة بحال المحكوم عليه.

واعلم -رحمك الله- أن أحاديث الطائفة المنصورة متوافقة مع قول الله عز وجل: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)}.

قال ابن جرير في جامع البيان (16/602): "والصواب من القول في ذلك ما ثبتَ به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وهو أنّ معناه: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا) ، وذلك تثبيته إياهم في الحياة الدنيا بالإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم (وفي الآخرة) بمثل الذي ثبَّتهم به في الحياة الدنيا، وذلك في قبورهم حين يُسْألون عن الذي هم عليه من التوحيد والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم".

وقال ابن القيم كما في التفسير القيم (1/346)، وإعلام الموقعين (1/230): " تحت هذه الآية كنز عظيم، من وفّق لمعرفته وحسن استخراجه واقتنائه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم.

وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين. فإن لم يثبته الله، وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما. وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا}، وقال تعالى لأكرم خلقه 8: 12 إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}، وقال تعالى لرسوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ}.

والخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت.

ومادة التثبيت أصله ومنشؤه من القول الثابت، وفعل ما أمر به العبد، فبهما يثبت الله عبده. فكل من كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا قال تعالى: 4: 66 وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً.

فأثبت الناس قلبًا: أثبتهم قولاً.

والقول الثابت: هو القول الحق الصدق. وهو ضد القول الباطل الكذب.

فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له.

وأثبت القول: كلمة التوحيد ولوازمها. فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة. ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا، والكاذب من أبغض الناس وأخبثهم وأكثرهم تلونا، وأقلهم ثباتا. وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الاخبار وشجاعته ومهابته.

ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك. ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة.

وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به؟

فقال: والله ما فهمت منه شيئا إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست صولة مبطل.

فما منح العبد منحة أفضل من منحة القول الثابت، ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم، ويوم معادهم. كما في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «إن هذه الآية نزلت في عذاب القبر»".اهـ

وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.

وكتب

أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان المصري

القاهرة- الديار المصرية سلمها الله سبحانه من الفتن.

26 شعبان 1434هـ

([1]) نقل هذا عن سيد: علي عشماوي –آخر قادة التنظيم السري- في كتابه "التنظيم السري للإخوان المسلمين" (ص109.(
([2]) جريدة اليوم السابع عدد (29 يونية 1434.

[أم أمة الله الجزائرية]

جزاكم الله خيرا

[أبو هاجر القحطاني]

واياكم ان شاء الله

[صفية السلفية]

جزاكم الله خيرا وبارك فيكم
وحفظ الله الشيخ