التاريخ الاسلامي - الصفحة 7 - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم التاريخ، التراجم و الحضارة الاسلامية

قسم التاريخ، التراجم و الحضارة الاسلامية تعرض فيه تاريخ الأمم السابقة ( قصص الأنبياء ) و تاريخ أمتنا من عهد الرسول صلى الله عليه و سلم ... الوقوف على الحضارة الإسلامية، و كذا تراجم الدعاة، المشائخ و العلماء

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

التاريخ الاسلامي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2011-03-18, 16:38   رقم المشاركة : 91
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 المسألة المصرية وحلها

المسألة المصرية وحلها :

اعلم أن معاهدة هنكارا سكله سي التي تقربت بها الروسيا من الدولة العلية كانت الباعث لانتباه رجال السياسة في أوروبا حتى جعلوا المسألة المصرية كمسألة أوروباوية ولذا أخذت الدول تتذاكر فيها ملياً وكانت فرانسا وحدها تميل لمساعدة مصر حتى تسبب عن ذلك تغيير وزارة كيزو وتييرس وبسبب ذلك ضعفت سياسة لويس فيليب ملك فرانسا في المسائل الخارجية وبعد مذاكرات طويلة بين دول أوروبا عقدت انكلترة وأوستوريا وبروسيا والروسيا اتفاقية مع السلطنة العثمانية بخصوص مصر كما سيأتي وكان توجيه مسند الصدارة العظمى إلى خسرو باشا الكبير لا يرجى منه تسوية المسألة المصرية على ما يوافق صالح الدولة لعداوته الكبرى لمحمد علي باشا كما علمت.

ولما أصدر السلطان عند جلوسه فرمانا إلى محمد علي باشا وإلى الديار المصرية بالعفو قابل حامل هذا الفرمان المسمى عاكف أفندي أحد كتاب الباب العالي في أثناء ذهابه مع القبودان فراري أحمد باشا وأخبره بما حصل من التبديل في الوزارة وبصدور فرمان سلطاني بالعفو عن محمد علي باشا وعدم احتياج الحالة لأعمال الدوننما التي يلزم أن لا تبارح القلعة السلطانية ولذا كلفه بالعود بها إلى الآستانة فخاف أحمد فوزي باشا من التبديلات الوزارية ودار بخلده أن تنصيب خسرو باشا لمسند الصدارة مضرّ به شخصياً لما بينهما من العداوة الشديدة فافتكر أن نجاته هي أن يتحد مع محمد علي باشا ويسلمه الدوننما ثم أرسل أحد ضباطه بسفينة إلى استانبول لينوب عنه في تقديم واجب تبريك الجلوس السلطاني ليبعد عنه بذلك المظان.

ثم إنه بعد أن حبس مصطفى باشا الفريق في سفينة أقلع بالدوننما إلى ثغر الاسكندرية وبوصوله سلمها إلى محمد علي باشا وذلك في 25 جمادى الأولى سنة 1255هـ- 8 يوليو1839م وكانت الدوننما المذكورة تتركب من تسعة غلايين كبيرة و 11 فرقاطة و5 قرويتات عدد رجالها 16107 من الملاحين هذا خلاف ألايين من العساكر عدد 5000 رجالهما فيكون الجميع 21107 من الجنود وبذلك دخلت المسألة المصرية مع الدول في شكل جديد أكثر تعقيداً مما كانت ولهذا عزل خسرو باشا من الصدارة ووجهت إلى رؤف باشا ثانية .

واتفقت انكلترة والروسيا وأوستريا وبروسيا على حل المسألة المصرية حلاً نهائياً وعقدوا لذلك مؤتمراً بالآستانة تحت رياسة الصدر الأعظم 27 يوليو سنة 1839م وكانت فرانسا تظهر الميل والمساعدة لمحمد علي باشا وترغب إطلاق السراح له وعدم تقييده بشيء وسعي مسيو كيز ورئيس وزرائها لدى الدول ليحملها على عدم تداخلها لأن مسألة مصر يمكن انهاؤها بين التابع ومتبوعه مباشرة وكان يقصد بذلك أن يكون لفرانسا الزمن الكافي لنوال مرغوبها.

إلا أن دول أوروبا لما فهمت نوايا فرانسا اتفقوا على تنفيذ ما قرروه ومضمونه أن يعطي السلطان لمحمد علي مصر يحكمها هو وأولاده من بعده على طريق الوراثة وولايتي عكاء وصيدا مدة حياته فقط وأن يخلى بلاد العرب وسوريا وكريد وغيرها من الجهات التي بها عساكره في مدّة عشرة أيام وإن رفض الرضوخ لذلك ساعدت الدول المذكورة الدولة بالقوة.

ولما رأت فرانسا أن إرجاع دول أوروبا عما اتفقوا عليه من أصعب الأمور غيرت وزارتها وعينت مسيو تييرس رئيساً لها وأخذت في الاستعدادات الحربية خصوصاً بجهتي نهر الرين وسواحل البحر الأبيض المتوسط وفي تلك الأثناء أرسلت الدولة محمد رفعت بك مستشارا لصدارة لمصر لإبلاغ محمد علي باشا قرار الدول وقبول الدولة له وإنه إن لم يقبل ذلك في ظرف عشرة أيام استردت الدولة منه ايالتي صيدا وعكاء ولما لم يقبل أرسلت انكلترع وأوستريا والدولة أساطيلها فحاصروا سواحل الشام واستولوا على بيروت واللاذقية وطرسوس وطرابلس وصيدا وصور وفتحوا عكا عنوة بعد أن أطلقوا النيران عليها مدّة ثلاث ساعات ونصف وكان إبراهيم باشا يعتمد عليها أكثر من غيرها ولما كانت جميع الذخائر والأدوات الحربية المصرية بهذه المدينة وقعت في يد المتفقين انهزمت الجنود المصرية إلى منحدر جبال الدروز بعد محاربات طويلة والتزم إبراهيم باشا أن يتقهقر إلى وديان تلك الجهات وكانت الأهالي تظهر العداوة لإبراهيم باشا وجنوده حيث وجد ولما اشتدت به الحالة اضطر لأن يعود إلى مصر .

ثم توجهت فرقة من السفن المتفقة إلى الاسكندرية تحت قيادة الأميرال نايير (Napier) الذي ألزم محمد علي باشا بقبول القرار الدولي القاضي بأن لا يكون له إلا بلاد مصر 27 نوفمبر 1840م ثم أرسل المرحوم محمد علي باشا الدوننما العثمانية إلى الآستانة وسلمها للدولة في1256هـ-24 يناير سنة 1841م .

أما فرانسا فإن أمّتها لما رأت أنها صارت بمعزل عن دول أوروبا وأنها بذلك ربما أضاعت نفوذها الذي حازته بالمشرق هاجت واضطربت وعلى ذلك تغيرت الوزارة وتحوّل مجرى سياستها والتزمت أن تدخل في دائرة السياسة الأوروباوية التي أجمعت على إبطال معاهدة هنكارا سكله سي المذكورة وإنهاء المسألة المصرية في أقرب زمن واتفقوا على عقد معاهدة مع الدولة العثمانية بخصوص حق المرور من مضيقي البوسفور والدردانيل جمادى الأولى سنة 1257هـ-1841م .

وتعرف هذه المعاهدة بمعاهدة البواغيز وكانت بين الدولة من جهة وبين انكلترة والنمسا والروسيا وبروسيا وفرانسا من الجهة الأخرى وكان من مقتضاها الاعتراف من هذه الدول بالحق المطلق والحكم المستقل للدولة على البوغازين المذكورين وإنه لا يصرح لدولة أن تمر بسفنها الحربية من هذين البوغازين أصلاً ثم صدر فرمان الوراثة لعائلة محمد لي باشا مشتملاً على امتياز حكم القطر المصري بمصادقة الدول الأوروباوية وتوجه بعدها محمد علي باشا إلى استانبول لعرض طاعته على السلطان وبذلك تجددت الروابط الودّية بين مصر ودار الخلافة .

الترقيات في الدولة العلية وخط الكلخانة :

لما انتهت المشكلة بين مصر والدولة بتداخل الدول الأوروباوية اهتم السلطان عبد المجيد خان بتأييد النظامات الجديدة وأصدر الفرمان المعروف بفرمان الكلخانة فاتسعت به أسباب العمران في كافة المملكة العثمانية واستتب الأمن وتأسست المدارس 26 الرشدية شعبان 1255هـ وأدخلت النظامات والتحسينات في المدارس الحربية والملكية والبحرية وحصل اقتصاد كلي في ميزانيات البرية والبحرية معاً وتمت كل هذه النظامات بغاية الهمة.

وامتدت الاصلاحات إلى جميع الولايات وأبدلت الأسلحة القديمة التي كانت بأيدي الجيوش الشاهانية بأسلحة جديدة من آخر اختراع وهي بنادق الششخانة ذات الكبسول فأصبحت القوات العسكرية عمومها على وتيرة واحدة في النظام والترتيب وامتدت الاصلاحات أيضاً إلى معامل الطوبخانة وملحقاتها من باقي المعامل العسكرية السلطانية وبهذه الأعمال النظامية والمواد الإصلاحية قطعت الأمة العثمانية مراحل شاسعة في طريق التقدم والعمارية في أسرع زمن وبالأخص في جميع مصالحها وإداراتها وما يتبعهما من الفروع حتى صارت الأمة بسبب ارتياحها لهذا الإصلاح العظيم في غاية الأمن والراحة.

وقد وفقا السلطان إلى انفاذ جميع الرغائب والأماني لإصلاح شؤن الرعية وعمارة الممالك ونشر لواء الأمن والراحة وقطع جراثيم الدسائس الأجنبية وكان الوزير رشيد باشا المذكور لما له من سعة المعارف والوقوف على ضروب السياسة وجه همته أولاً لجعل دول أوروبا جميعها تعترف للدولة العثمانية بإخلاص النية وطهارة الطوية بما أوجدته في داخليتها من الإصلاح والتقدّم حتى سبقت كثيراً من دولها في هذا الشأن.

حروب القريم وأسبابها :

لما كانت دولة الروسيا على يقين من أن الإصلاحات التي أدخلتها الدولة في حربيتها وتنظيم جيوشها البرية والبحرية هي نفس الإصلاحات التي أكسبتها الانتصارات في وقائع حروبها مع الدولة العثمانية وكانت تتمنى أن لا ترى الدولة العلية متقدّمة في مراقي الفلاح لأن ذلك ينافي سياستها وأمانيها بالجهات الشرقية كانت تنظر إليها بعين الحقد وتودّ عرقلة مساعيها في الإصلاحات القائمة بها فقامت تنتحل سبباً يخوّل لها محاربة الدولة فقالت بحمايتها لجميع الأورثودوكسين التابعين للدولة العثمانية وأخذت تزرع بذور الدسائس كعادتها بين أولئك الأقوام.

ومن سوء الحظ أن أعمال بعض عمال الدولة كثيراً ما فتحت لدول أوروبا بابا تلج منه لمخاصمة الدولة وقد انتهزت الروسيا فرصة الاختلاف الواقع بين طائفتي الروم واللاتين في القدس من سنين مضت بسبب كنيسة القيامة وبعض الأماكن المقدّسة الأخرى وقامت كل طائفة منهما تدعى لنفسها حق الرياسة والتقدّم على الأخرى في حق السدانة على كنيسة القيامة.

ثم أخذت هذه المسألة تتعاظم بينهما وتمتد يوماً بعد يوم إلى أن آل الأمر إلى النزاع والجدال في سنة هجرية فوقع الباب العالي في الارتباك والحيرة واهتم بإخماد نار العداوة من بين الطائفتين المذكورتين لأن دولة الروسيا كانت تدافع عن حقوق الروم الأورثودوكسيين ودولة فرانسا تدافع عن اللاتينيين بمقتضى عدّة معاهدات قديمة تدعى أنها تخوّلها هذا الحق وعلى الخصوص بمقتضى الامتيازات الممنوحة لها في سنة 1740م ميلادية.

فتداخل سفير انكلترة في هذا المشكل ورسم ترتيباً لائتلاف الملتين المتخالفتين فقبلته فرانسا ولم تقبله الروسيا لأن مقصدها الأكبر ليس المحاماة عن حقوق الروم الأورثودوكسيين كما تقول بل كان لها غايات أخرى كثيراً ما كانت تجتهد في نوالها وتترقب الفرص للحصول عليها وهي إبعاد الدولة العثمانية عن المجتمع الأوروبي ليسهل عليها الاستيلاء على أملاكها فانتهز قيصرها نقولاً تلك المنازعة فرصة مناسبة لنوال بغيته وبلوغ أربه وأرسل ناظر بحريته البرنس منجيقوف إلى دار الخلافة العثمانية بصفة سفير مرخص للمخابرة في مسألة الخلاف الواقع بخصوص الأراضي المقدّسة بعد أن بعث جيشاً مؤلفاً من 144 ألف مقاتل إلى حدود الدولة.

ولما وصل رفض مواجهة فؤاد أفندي وزير الخارجية فعزلته الدولة ووجهت مسند نظارة الخارجية لرفعت باشا ثم تذاكر الوزراء في البلاغ الذي قدّمه البرنس المذكور لنظارة الخارجية 19 نيسان 1853م ولم يوافقوا عليه ولهذا أخذت الدولة تجهز الجيوش استعداداً لما يحدث من الطوارىء ولأنها رأت أن الروسيا لا زالت مستمرة على تحريض الأروام على العصيان ونبذ أوامر الدولة مشوّقة إياهم بكل ما تقدر عليه منأنواع المشوّقات ثم انفردت من بين دول أوروبا.

ووقفت في ميدان السياسة بمفردها مدّعية على الدولة العلية بأنها تسيء معاملة النصارى الأرثودوكس خصوصاً وتطالبها بإصلاح حالهم مع أن التنظيمات الخيرية تكفلت لهم ولغيرهم بذلك كما يعلم من مطالعة الفرمان الصادر بها ولما رأت الدولة أن الروسيا لا زالت مصرة على مدعياتها أخذت في التجهيزات الحربية ولكي تتمكن من ذلك ويكون لها الوقت الكافي قررت إعادة النظر في طلبات الروسيا وغيرت هيئة الوزراء .

فوجهت مسند الصدارة إلى مصطفى نائلي باشا ونظارة الخارجية لمصطفى رشيد باشا وكان من أصحاب الخبرة والذكاء ولما أعاد الوزراء المذكورون النظر في طلبات الروسيا ورأوا أن لا حق لها أصلاً وأنها خرجت بهذه الدعوى عن جادة الصدق قام وزير الخارجية معارضاً لها وتمكن بمهارته من الدخول مع دول أوروبا في المناظرة والمباحثة والمجادلة والمناقشة ولم ينته من عمله حتى أظهر لها الحجج الدامغة والأدلة الكافية على بطلان مدّعي الروسيا وعدم وجود أثر للصحة فيما تدعيه مثبتاً ما أوجدته الدولة العلية منذ أزمنة مديدة من الإصلاحات العميمة والنظامات القويمة في ممالكها المختلفة ونشرها العدل بين رعيتها على السواء وإيجادها كل ما من شأنه رفع أمتها إلى معارج السعادة والرفاهية.

وأيد جميع هذه الأقوال بما سبق من اعتراف الدول بوجود هذا الاصلاح في الممالك العثمانية ومصادقتها على تعميمه فيها وارتياحها للدولة العلية حيث قامت به على حسن النية وإخلاص الطوية ولم يخرج هذا الوزير من هذا الموقف المهم حتى تحقق للدول جميعها فساد قول الروسيا وإنها تبطن خلاف ما تظهر وبناء على ذلك رفضت الدولة العثمانية بلاغ الروسيا تماماً فقدم منجيقوف أوليماتوم بلاغاً نهائياً 21 مارس سنة 1853م وبارح استانبول مع عموم هيئة السفارة الروسية.

إعلان الحرب على الروسيا والوقائع بجهات الطونة والأناضول:

لقد كانت رجال الدولة ومحافل أوروبا تظن أن ما استعمله البرنس منجيقوف في مأموريته من الغلظة والجبروت ربما كان على غير رضا دولته إلا أنه أتى محرر ناظر خارجيتها الكونت نسلرود 31 مارس 1853 سنة اتضخت مقاصد الروسيا وظهر أن منجيقوف لم يصدع إلا بما كانت تأمره به دولته سيما وأن الجنرال غورجاقوف عبر نهر بروت بما كان تحت قيادته من القوّة السابق ذكرها وانتشرت جيوشه في أراضي المملكتين ولما رأت الدولة أن ذلك عبث بالعهود أعلنت الحرب على الروسيا سنة 1269هـ .

وكتب عند ذلك عمر باشا المجري قائد عموم جيوش الروم ايلي إلى القائد الروسي المذكور يطلب منه إخراج عساكره وإخلاء أرض المملكتين في مدّة خمسة عشر يوماً حسب الأصول المتبعة ولما علم عمر باشا أن جيوش الروسيا تقصد عبور الطونة من جهة ودين لتحريض الصربيين على العصيان أرسل قوّة كافية عبرت من ذلك المكان إلى جهة قلفات .1270هـ.

وأنشأت هناك بسرعة بعض استحكامات وطوابي لإشغال العدوّ ومنعه من التقدّم وأجاز أيضاً من طوترة قان إلى أولتانيجة ومن روسجق إلى يركوك قوّتين أخريين هدد بهما مدينة بكرش فشيدت هاتان القوّتان بعض القلاع وتمكنت من صدّ هجمات الروس ولما التقى عمر باشا مع عسكر الروس في أولتانيجة انتصر عليهم انتصاراً باهراً بعد حرب شديد 3 صفر سنة 1270هـ .

وكذا لما تجمعت قوّة الروسيا بقرية جتانة الكائنة بجوار قلفات عين رئيس أركان حرب الروم ايلي الفريق ناظر أحمد باشا بقلفات ثلاث فرق عسكرية تحت قيادة كل من جركس إسماعيل باشا ومصطفى توفيق باشا وعثمان باشا وهجمت هذه الجنود على الروس من ثلاث جهات فهزمتهم شر هزيمة الخميس 5 ربيع الأوّل .

واستولى العثمانيون على معسكرهم جميعه بعد أن ولوا الأدبار من جتانة وصدّتهم أيضاً العساكر العثمانية في روسجق وموطن أوغلى اطه سي وسلستره وقره لاش اطه سي وزشتوي ونيكبولي وماجين وايساقجي وانتصرت عليهم في كل سواحل الطونة ثم هزمهم أيضاً حليم باشا عندما هاجموا قلفات حتى اضطّرهم إلى الرجوع إلى ما وراء نهير آلوتا من جهة بلاد افلاق الصغيرة وقد كانت هذه الانتصارات المتتابعة سبباً لاندهاش العالم الأوروبي.

إلا أنه أقبل فصل الشتاء ببرده الشديد وتراكمت الثلوج الكثيرة التزم عمر باشا أن يلتجىء إلى الحصون وأن لا يتعقب الروس المنهزمين هذا بأوروبا أما الجيوش العثمانية بالحدود الآسيوية فكانت تحت قيادة عبد الكريم نادر باشا تتقدّم أيضاً منصورة في جهات آخسخه وأربه جايي واستولى العثمانيون بما بذله رئيس أركان حرب الجيش تاجرلي أحمد باشا على قلعة كمري وحاصر الروس في آخسخة ثم أن نظارة الحربية باستانبول رأت من عبد الكريم باشا التواني في الحركات العسكرية فعزلته ونصبت مكانه قائداً آخر يدعى أحمد باشا ولما أقبل فصل الشتاء تعطلت الأعمال الحربية بتلك الجهات أيضاً.

واقعة سينوب البحرية 27 صفر سنة 1270:

كتب هنري نابرل اسكواير تاريخاً مخصوصاً لوقائع حرب القريم ذكر فيه محاربة سينوب هذه نلخصها على الكيفية الآتية قال إنه في شهر محرم من سنة 1270هـ-1853م أرسلت الدولة العثمانية إلى البحر الأسود أسطولين أحدهما مشكل من خمس سفن حربية تحت قيادة البطرونة مصطفى باشا بها أدوات وذخائر حربية لإيصالها إلى ثغر باطوم وكان بهذا الأسطول 88 مدفعاً والآخر مشكل من ثلاث عشرة سفينة حربية تحت قيادة البطرونة عثمان باشا والريالة حسين باشا وأمر بالذهاب إلى فرضة سينوب وكان به من المدافع 406 مدافع ولما وصل هذا الأخير إلى مينا سينوب واستقبل فيها أقبلت بعد أيام من وصوله عمارة روسية مركبة من ثلاثة قباقات وأربع فراقيط وإبريق واحد لمعرفة مواقع السفن العثمانية وقوّتها.

وبقيت هذه العمارة خارج الفرضة محاصرة لها ولما وقف أميرال هذه العمارة المدعو ناجيموف (Nachimof) على حالة الدوننما العثمانية كتب لدولته يطلب منها أن تمدّه بعدّة من السفن الحربية الموجودة بسيواستوبول ولما وصلت إليه السفن كما طلب قوى ساعده ودخل المينا بريح طيبة وأبقى خارج المينا أربع سفن تراقب السفن العثمانية وتمنعها من الهرب لو أرادته ووقف هو بسفنه بعيداً عن مرمى مدافع البطاريات البرية على نحو ألف ياردة من سفن العمارة العثمانية التي كانت مستقبلة في المينا على خط واحد.

ولما رأى الربان عثمان باشا أن سفن الروسية قد دخلت المينا بهذه الكيفية أمر قواد السفن العثمانية بالاستعداد للحرب ومباشرة القتال والضرب وأن يبذلوا ما في طاقتهم من الاجتهاد ويبيعوا نفوسهم حباً لدينهم وأوطانهم وغيرة على مملكتهم وسلطانهم إلى آخر رمق من حياتهم وبعد ذلك شرعت الفرقاطة العثمانية المسماة نظامية بإطلاق المدافع فخرجت المقذوفات من مدافعها كالصواعق إذا انحدرت أو الشهب إذا انقضت وابتدأت الحرب بين الطرفين ودوت الأصوات في الآفاق واشتدت الحال وحمي الوطيس بين الفئتين وتحقق المتقاتلون أن هذا آخر الأجل المتاح.

إلا أن من تأمل وقت ذلك إلى هاتين القوتين كان يرى فرقاً عظيماً وبونا جسيماً إذ أن السفن العثمانية صغيرة والسفن الروسية ضخمة كبيرة فلذا كان يتأكد من أن العثمانيين إما أن يسلموا سفنهم بغير قتال وإلا محتها أساطيل الروسيا في الحال ومع هذا فقد استمرت الحرب ساعتين ونصفاً أتلف فيها الأسطول الروسي الفرقاطة العثمانية المسماة ناوك بحري ولما رأى قبودانها إنه لم يبق في وسعها المقاومة والمدافعة أمر بإشعال النار في مستودع بارودها لإعدامها بمن فيها حذراً وتفادياً من وقوعها في أيدي العدوّ.

ولما امتنعت طائفتها من إنفاذ أمره هذا تقدّم هو بنفسه وأشعل الجنجانة فتطايرت السفينة قطعاً بمن فيها جميعاً وهو معهم ولقد كانت هذه الخسارة سبباً في إضعاف قوة باقي السفن العثمانية ووقوع الخلل في نظامها لرؤية عساكرها قطع الفرقاطة وهي تتطاير في الفضاء وأجسام شهدائها تتناثر ودماؤهم تمطر على سطح المياه كالسيل المنهمر فيا له من منظر تنفطر منه الأكباد وتتفتت له القلوب.

ولم تمض برهة حتى احترق قسم من السفن العثمانية بمقذوفات الروس ووصل الحريق إلى مستودع بارودها فتهشمت وتطايرت قطعاً وعند ذلك صعد عساكر الروس فوق السواري وهللوا فرحاً وكان بقي بعد ذلك من السفن العثمانية فرقاطتان في المينا وكانتا تطلقان على السفن الروسية مدافعهما بلا انتظام إلا أن أصواتها لم تكن إلا إشهار للحزن والأسف على أبطال الرجال وليوثها الذين عدموا وقد تخرب معظم المدينة من وقوع قنابل المدافع عليها حتى أصبحت غير صالحة للسكنى إلا القليل منها.

وقد فعل الروس في هذه المحاربة أفعالاً وحشية منافية للشهامة والمروءة على خط مستقيم فإنهم لم يكتفوا بما نالوه من النصر لأن قوتهم البحرية كانت أضعاف قوّة العثمانيين بل كانوا يطلقون المقذوفات على جرحاهم ومن كان سابحاً منهم فوق المياه فيقتلون هؤلاء الضعفاء المساكين الذين كانوا يلتمسون الخلاص.

أما الفرقاطتان الباقيتان من السفن العثمانية فدخلتهما عساكر الروس ووجدوا عثمان باشا القومندان مصاباً بجراح في إحدى رجليه ومعه اثنان من القبودانات و105 من الأنفار فأسروهم وأحرقوا الفرقاطتين لعدم صلاحيتهما لشيء أما حسين باشا الريالة فكان أصيب بمقذوف مات به في أول المحاربة ووجدت جثته فدفنت في تلك الجهة ومات من الدوننما العثمانية أكثر من ألفي نفس في أوائل المحاربة أما تلفيات الروس وخسائرهم فكانت كثيرة وكسرت المقذوفات العثمانية سواري الأربعة قباقات وبسبب ذلك بطل استعمال المدافع بها.

ثم مكثت السفن الروسية بمينا سينوب حتى أصلح ما أمكن إصلاحه منها وسحبوا ما تعطل من سفنهم ثم قصدوا سيواستوبول قبل ورود السفن الحربية الانكليزية والفرنساوية إليها وحصل أنه بعد انتشاب القتال هربت إحدى البواخر إلى الآستانة وأخبرت بهذه الواقعة ولم تتمكن السفن الروسية المعينة للمحافظة خارج المينا من منعها فعند ذلك أرسلت دوننما انكلترة الموجودة بالبوغاز إحدى بواخرها وأرسلت دوننما فرانسا الموجودة معها باخرة أخرى فذهبتا إلى مينا سينوب للوقوف على حقيقة الواقعة.

ولما وصلتا إليها التقطتا بعض الجرحى الذين طالت أعمارهم وأوصلناهم إلى الآستانة وكان بالمينا أثناء القتال سفينة تجارية انكليزية قتل منها نفران بمقذوفات الروس ثم احترقت أخيراً في الحريق الذي وقع بالسفن الحربية العثمانية ولما أتت السفينة الانكليزية المذكورة أخذت معها بأن تلك السفينة وتجارتها وبوصوله هو وطائفته إلى الآستانة قرروا صفة الواقعة كما شاهدوه ومضمونها أن الأساطيل العثمانية حاربت الأعداء بكل شجاعة وإقدام مع ما كانت عليه من القلة بالنسبة لأساطيل الروس .

اتحاد فرانسا وانكلترا مع الدولة :

لما كانت المخابرات جارية بين الدولة والروسيا قبل حرب القريم تأثرت فرانسا تأثراً شديداً لأن نابليون الثالث الذي جلس على تخت فرانسا في أواخر سنة 1852م خالف في السياسة الخارجية الطريقة التي كان سلفه لويز فيليب يسير عليها فكان يظهر للدولة العثمانية الارتياح الكليّ من الإصلاحات التي أدخلتها ببلادها ولما كان تعهد بحماية الكنيسة الكاثوليكية كان يميل جداً إلى حل المسألة المتنازع فيها بمدينة بيت المقدس بما أن ذلك كان يسر فرانسا ويفيدها وكان السير هاميلتون سيمور سفير انكلترة في بترسبورغ عند مقابلاته السرية لقيصر الروسيا نيقولا الأول وقف على تصميمات دولته بخصوص بلاد الشرق.

ولما كانت حكومة السفير المذكور من اتباع المذهب البروتستانتي لم يكن يهتم بمسألة بيت المقدس كاللازم أما النمسا فقد أظهرت الاشمئزاز الكليّ من منشورات البانسلاويست لأن نزوع أهل الجبل الأسود للاستقلال وتشكيل حكومة منتظمة فتح باباً لأهالي دالماسيا وكراوتيا والولايات المجاورة ولذلك تأثرت حكومة النمسا من ذلك وعرضت وساطتها الاتمام حادثة الجبل الأسود بسرعة واطفاء نيران فتنة بيت المقدس.

إلا أنها لم تتمكن من تأليف ذات البين ثم اتفقت مع بروسيا على عدم المداخلة وانتظار النتيجة وكان دخول ايطاليا في المسألة غير ظاهر بل كانت آخذة في أسبابه بسعي ملك سردينيا ويقتور امانويل لينال بذلك رضا أوروبا وبينما كانت الأحوال سائرة هكذا أرسلت الروسيا البرنس منجيقوف (Mentschikoff) إلى الأستانة سفيراً فوق العادة فظنت أوروبا أن القصد من مأموريته هذه المكالمة في مسألة الأراضي المقدسة إلا أنه لما أشيع أن القصد من مأموريته عقد مشارطة مخصوصة مع الدولة أو تجديد معاهدة هنكارا سكله سي اندهشت أوروبا خصوصاً لما شاهد سفراؤها في الآستانة أعمال السفير الروسي المغايرة لقواعد حقوق الدول فمالت أفكار عموم أروبا بالمساعدة الدولة.

وفي أثناء ذلك كان الامبراطور نيقولا يلح على السير هاميلتون سيمور سفير انكلترة بعاصمة الروسيا يريد اجتذاب انكلترة للاتحاد مع الروسيا إضعافاً لنفوذ فرانسا في الشرق وليتقاسما أملاك الدولة العثمانية سوية فلما اطلعت انكلترة على مقاصد الروسيا خافت من امتداد نفوذها في الشرق ومشاركتها لها في البحار القابضة هي على صولجانها وتخابرت الملكة فكتور يا ملكة الانكليز مع نابليون الثالث امبراطور فرانسا للاتحاد مع الباب العالي لتأييد المعاهدات المختصة ببيت المقدس.

وفي خلالها أعاد السلطان مصطفى رشيد باشا إلى الصدارة وكان عزل منها إرضاء للروسيا وعزم على رفض مطالب البرنس الروسي وأعلن باحترام حقوق الكنيسة الأرثودكسية وبعد مخابرات يطول شرحها قطع السفير الروسي العلاقة مع الدولة وعاد إلى بلاده ثم أطلعت الدولة اللورد استراتفورد سفير انكلترة على جميع المخابرات التي دارت بينها وبين الروسيا فانضمت انكلترة إلى فرانسا وأرسلت إلى أساطيلها بمالطة بأن تتحد مع الدوننما الفرنساوية في كافة الأعمال وأمرت الدولتان أساطيلهما بالحضور إلى جون بشيكة القريب من بوغاز الدردنيل فحضرت إليه في أواسط يونيه سنة 1853م .

وكان الامبراطور فرانسوا جوزيف ملك النمسا يتردد في السياسة التي يتبعها بعد أن بذل جهده في منع الخلاف بلا حرب وسعى في عقد مؤتمر ويانة الذي انعقد في شهر أغسطس من سنة 1853م ولما لم تأت جلساته العديدة بفائدة تحقق لدى جميع الدول سؤنية الروسيا وحرضت انكلترة وفرانسا الدولة العثمانية على رفض طلبات الروسيا في المؤتمر ومداومة الدفاع عن حقوقها وحصل ما سبق ذكره من عبور جيوش الدولة نهر الطونة وانتصارها في كافة الوقائع الحربية التي حدثت هناك فظهر لأوروبا بذلك فائدة التنظيمات التي أدخلتها الدولة في جيوشها.

وفي أثناء ذلك رضيت الدولة بدخول أساطيل فرانسا وانكلترة البوسفور ولما عبرته رست في بيوك درة من ضواحي الآستانة لتكون على مقربة من البحر الأسود منعاً لهجمات الروس ثم بعثت فرانسا من طرفها المارشال شبيل باراجي ديليه (Baraguay D'hiliers) بمأمورية فوق العادة إلى الآستانة ظاهرها السعي في أمر الصلح وباطنها درس أحوال العسكرية العثمانية فقابله السلطان سبتمبر 1853م باحتفال وافر ولما وصل خبر واقعة سينوب البحرية وضياع أساطيل الدولة مع تعهد الروسيا لدولتي فرانسا وانكلترة بأنها لا تقصد إجراء أي أمر عدواني في البحر الأسود أصدرت الدولتان أوامرهما إلى أساطيلهما الراسية في بيوك درة بالدخول إلى البحر الأسود فدخلته 4 مارس 1854م سنة .

وكانت عمارة انكلترة مركبة من 21 سفينة حربية تحمل 1162 مدفعاً تحت قيادة الويس أميرال دنس دانداس (Deans Dundas) والكنترأميرال السيراد مندلاينس (Sir Edmund Lyons) وعمارة فرانسا مركبة من 39 سفينة تحمل 2740 مدفعاً تحت قيادة الأميرال هاملن (Hamelin) والكونتر أميرال بروات (Bruat) وبصحبتهما الدوننما العثمانية المركبة من سفينة 12 حربية تحت قيادة قيصرية لي أحمد باشا وكان قبودان السفينة محمودية وقتئذ اتش محمد بك الذي صار فيما بعد قبودان باشا وله اليد البيضاء في إصلاح البحر مدّة السلطان عبد العزيز خان.

ثم رست هذه الأساطيل أمام وارنة وكتب الامبراطور نابليون الثالث كتاباً له إلى الامبراطور نيقولا في أواخر يناير سنة 1854م شرح له فيه المسألة بأطرافها وتعديات الروسيا وعرض له فيه بعقد مؤتمر دولي للنظر في أمر الصلح تحت شرط إخلاء إقليمي الافلاق وبغدان من الجيوش الروسية وفي مقابلة ذلك تنسحب أساطيل الدولتين من البحر الأسود فكان جواب امبراطور الروسيا عدم إمكانه قبول ذلك وبناء على هذا الجواب عقدت فرانسا وانكلترة مع الدولة العثمانية في الآستانة اتفاقية على محاربة الروسيا تحت شرط سحب جيوشهما من بلاد الدولة العلية بعد خمسة أسابيع تمضي من يوم الصلح الذي يتم مع الروسيا وأمضيت في 13جمادى الثانية سنة 1270هـ-1854م .

وبعد خمسة عشر يوماً أعلنت الدولتان الحرب على الروسيا وكان الامبراطور نيقولا يخاف من انضمام النمسا وبروسيا للدولتين المذكورتين فأرسل إلى برلين وويانة سفيراً مخصوصاً يدعى الموسيو أورلوف يطلب من امبراطور النمسا وملك بروسيا إما المساعدة أو البقاء على الحيادة وفي شهر مارس من السنة المذكورة أرسلت انكلترة عمارة كبيرة إلى بحر بالطيق مركبة من16 سفينة حربية تحت قيادة الاميرال السير نابير (Napier) وأرسلت بعد ذلك فرانسا أسطولاً آخر مركباً من سفينة حربية تحت قيادة الكونتر أميرال بينود (Penaud) وبوصول هذه الأساطيل أخذت في الأعمال الحربية فاستولت على جزيرة الآند وشرعت في تهديد مدينة كرونستاد الحصينة التي بها المينا الحربية للروسيا. وبعد ذلك أرسلت فرانسا وانكلترة جيوشهما فاجتمعا بكليبولي في يوم من جمادى الآخرة سنة 1270هـ مارس 1854 م وكان جيش فرانسا يتركب من مقاتل تحت قيادة المارشال بنت آرنو (Saint- Arnaud) ويتألف جيش انكلترة من25000 مقاتل تحت قيادة اللورد راغلان (Raglan) وفي أثناء محربة الدولة للروسيا ثار بعض أشقياء اليونان فأقامت الدولة على حكومة اليونان الحجة الشديدة فالتزمت حكومتها بتأديب المفسدين وأعادت السكينة للحدود سريعاً ولما أعلنت انكلترة وفرانسا اشتراكهما في حرب الروسيا التزمت النمسا أن تقوم بالتجهيزات الحربية واتفقت مع الدولتين بأن تكون معهما في حركة متحدة حتى يتقرر الصلح العمومي ولذلك احتلت بلاد المملكتين.

معاهدة باريس 24 رجب سنة 1272هـ:

لما تحقق اسكندر الثاني امبراطور الروسيا من عدم الفوز في هذه الحرب خصوصاً وأن دولة النمسا أظهرت له العداء جهاراً بعد سقوط سيواستوبول وانضمام دولة السويد إلى الاتحاد الأوروبي بالمعاهدة الدفاعية والهجومية التي عقدتها مع فرانسا وبروسيا ضد الروسية 20 نوفمبر 1855 .

أشارت النمسا على الدول بإرسال بلاغ نهائي للروسيا فقبلت الدول وأظهرت الروسيا الميل للصلح وكانت تطلبه هي أيضاً وتقرر عقد مؤتمر في باريس وعينت الدولة العلية وفرانسا وانكلترة وأوستراليا وساردينيا والروسيا وبروسيا مرخصين من قبلهم واجتمعوا في باريس للمذاكرة في شرائط الصلح على القواعد الأساسية التي كان حصل التكلم فيها في مؤتمر ويانة قبل ذلك وبعد المذاكرة طويلاً أمضيت شروطه النهائية 24 رجب سنة 1272-30مارس سنة1856 م وكانت تشتمل على بند أهمها

أن الدولة العلية يكون لها الامتيازات التي لباقي دول أوروبا من جهة القوانين والتنظيمات السياسية وتكون مستقلة في ممالكها كغيرها من الدول ولا يجوز للسفن الحربية الدخول بالبحر الأسود أصلاً ما عدا الدولة العثمانية والروسية فإن لهما الحق في أن يكون لهما بعض السفن الحربية للمحافظة على ثغورهما هنا ولا يجوز للدولة العثمانية ولا للروسيا إنشاء دور صناعات حربية على شواطىء البحر المذكور.

وأن يشكل قومسيون مختلط لتأمين السفن التجارية في نهر الطونة.

وأن تكون ايالات الافلاق وبغدان والصرب ذات استقلال داخلي كما كانت سابقاً.

وأن يكون للدول الموقعة على هذه المعاهدة حق المشاركة في الرأي في انتخاب وتعيين أمراء هذه البلاد وبعد ذلك انسحبت الجيوش في مدّة عينها المؤتمر وعادت إلى بلادها وانتهت هذه الحروب التي لا داعي لها أصلاً سوى المطامع والأغراض الذاتية.

حادثة الشام :

إنه في سنة 1276هـ-1860م قامت ببلاد الشام ثورة هائلة بين طائفة الموارنة من نصارى لبنان وبين الدروز كانت رديئة العاقبة على المسيحيين وإن كانوا أكثر من أخصامهم عدداً ونفوذا إلا أنه بسبب تخاذلهم وعدم تبصرهم وانقيادهم إلى الدسائس الأجنبية التي لا تحمد عقباها فتك الدروز بهم خصوصاً في واقعتين حصلتا ببلدة حاصبيا وراشيا ثم امتدت الفتنة إلى زحلة ولولا ما أظهره سكانها من الشجاعة لفتك الدروز بهم.

وأوقع الدروز أيضاً بالنصارى في عدّة مواقع أخرى واتهم عثمان بك قائم مقام حصبياً وأحمد باشا وإلى دمشق بمساعدة الدروز ولما اشتدت وطأة المسألة تداخلت الدول الأوروباوية وعرضت فرانسا استعدادها لارسال جيوشها إلى بلاد الشام لتسكين الفتنة وحماية النصارى فلم تقبل الدول في أول الأمر خصوصاً انكلترة ثم أرسلت جميع الدول على يد سفرائها إلى الباب العالي بلاغات فاجتمع الوزراء تحت رياسة فؤاد باشا ناظر الخارجية وبعد المذاكرة طويلاً تقرر لزوم تسيير قوة عسكرية لإخماد الثورة بالديار الشامية.

وسافرت تلك القوة سريعاً تحت قيادة فؤاد باشا وكانت مؤلفة من سبعة آلاف جندي إلى بيروت لإخماد الفتنة فوصلها في يوم 28 من سنة 1276 ثم قصد دمشق وهناك عقد مجلساً حربياً من أمراء الجيش وحاكم رؤساء الفتنة وقتل كثيرين منهم وقتل أيضاً والي دمشق المرحوم أحمد باشا لأنهم اتهموه بمساعدة الدروز على المسيحيين وإهمال أوامر الدولة مرة واحدة ورد في بعض الأوراق العثمانية أن أحمد باشا كان بريئاً لأنه قبل حدوث الواقعة بأربعة شهور كان بالشام أربعة طوابير من الجنود وصدر له أمر السر عسكر وقتئذ رضا باشا بإرسالها إلى الروم ايلي فعرض أحمد باشا ملحوظاته للسر عسكرية.والما بين الهمايوني بعدم جواز تقليل القوّة من الشام نظراً لثورة الأفكار بها ولما لم يجب طلبه طلب الاستقالة فلم يقبل منه أيضاً ويقال إن قتله كان لما يحقده عليه فؤاد باشا لما بنيهما ما من النفور منذ كانا سوية في بكرش والله أعلم بالحقائق.

هذا أما تواريخ أوروبا فإنها تتهم الباشا المذكورة تلقي عليه مسؤلية عظمى ومع ذلك فإنه يقتل الوالي المذكور وغيره من رؤساء الفتنة لمن تقنع دول أوروبا بالاختلاف غاياتها وتعدد مقاصدها بل اتفقوا على أن ترسل دولة فرانسا إلى الشام قوة عسكرية لمساعدة الجيش العثماني فتوقف السلطان في أول الأمر لكنه لما رأى إجماعهم على ذلك عاد فقبل وكانت القوة الفرنساوية التي أرسلت تبلغ عشرة آلاف جندي تحت قيادة الجنرال دوبول وكان القصد منها منع التعدي الحاصل على طائفة الموارنة من الدروز.

ولما نزلت في بيروت وجدت الأحوال ساكنة فلم تبد أقل حركة وأرسل أيضاً بعض الدول مراكب حربية إلى بيروت وأرسلت الدولة أيضاً عمارة حربية جعلت قيادتها لأحمد باشا القيصرية لي ثم عينت الدول الأوروباوية العظمى مندوبين عنها فاجتمعوا ببيروت تحت رياسة فؤاد باشا ولمهارة هذا الوزير في أساليب السياسة أوجد الخلاف بينهم حتى صار يقودهم إلى حيث شاء متى شاء وبعد المذاكرة طويلاً وضعوا لجبل لبنان نظامات جديدة وجعل فيها حكومة ممتازة حاكمها مسيحي المذهب يتخابر مع الباب العالي رأساً وبعد أن صدقت الدولة على ذلك وجهت المتصرفية لداود باشا وهو أرمني واستمر الاحتلال الفرنساوي إلى 5 يونيه سنة 1861م الموافق لأواسط شوال سنة 1277 وبعد ذلك انسحبت الجيوش الفرنساوية من أراضي الدولة بعد أن تظاهرت بحماية الموارنة من تعديات الدروز.

وفاته:

وفي تلك الأثناء انتقل السلطان المرحوم الغا ي عبد المجيد خان إلى رحمة الله بعد مرض لم ينفع فيه علاج وكان ذلك يوم الثلاثاء 17 القعدة سنة 1277-27 مايو سنة 1861م ودفن في قبره الذي أعده لنفسه حال حياته بجوار جامع السلطان سليم.

وكان رحمه الله من أجل السلاطين قدراً محباً للاصلاح نشر أوامر العدالة الشهيرة المسماة بالتنظيمات الخيرية تثبت بها العدل في المملكة العثمانية وأدخل إصلاحات جمة في الجيوش عاد بها مجد الدولة وترقت في أيامه العلوم والمعارف واتسعت دائرة التجارة وشيد كثيراً من المباني الفاخرة والقصور المزخرفة ومن مآثره تجديد بناء المسجد النبوي بالمدينة المنوّرة 1271 وكان كما بناه السلطان قايتباي وجعل سقوفه قبباً من الحجر كالمسجد الحرام وتمت عمارته في أربع سنوات وشيد عمارات كثيرة أيضاً بالحرمين الشريفين وجدد كذلك ميزاب الكعبة المشرفة 1275هـ .

السلطان عبد العزيز خان ابن السلطان محمود خان الثاني 1277-1293هـ:

لما صعد السلطان عبد العزيز خان على كرسي الخلافة وجد الدولة في حاجة إلى إتمام الاصلاحات التي سعى أخوه بهمة في إدخالها بالإدارات الملكية والعسكرية بأنواعها والتي كان توقف سيرها بالنسبة لحرب القريم خصوصاً وغيره من المشاكل العديدة التي منيت بها هذه الدولة منذ تداخل الأجانب في أعمالها وبعد أن تقلد السيف يوم الخميس في الثامن عشر من شهر ذي القعدة بجامع سيدي أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه كما جرت به العادة أبقى الوزراء في مناصبهم ما عدا السر عسكر رضا باشا فإنه عزله وعين بدله نامق باشا ثم أصدر فرماناً إلى الصدر محمد أمين عالي باشا الذي خلف قبرصلي محمد باشا مظهراً حسن قصده ومزيد رغبته في متابعة السير بالجدّ والاجتهاد لتنفيذ الاصلاحات الضرورية لترقية حال الدولة وإيجاد المساواة بين جميع أفراد الرعايا بلا تمييز.

وأسس في 6محرم من سنة 1278مجلس الاحكام العدلية وعين لرياسته الوزير الشهير محمد فؤاد باشا وجعله ثلاثة أقسام.:

أحدها : الإدارة الأمور الملكية.

والثاني : لسن القوانين والنظامات.

والثالث : للمحاكمات وكان لاهتمامه بذلك يحضر بنفسه في آخر كل سنة إلى الباب العالي ليبتلي في حضرته ملخص الاجراءات والأعمال التي قام بها المجلس المذكور مدّة السنة الماضية.

وبقي هذا المجلس يسير في أعماله إلى 8 ذي الحجة من سنة 1284 حيث صدر الأمر السلطاني بإلغائه وتعويضه بمجلسين آخرين يشكلان على نظاماته الأساسية وهما شورى الدولة وديوان الأحكام العدلية وقد نجح هذان المجلسان في أعمالهما حتى أنه لما أصدرت الدولة نظاماته منه سنتي 1281و 1287 وحدّدت فيهما وظائف جميع المأمورين من الولاة إلى صغار لخدمة اتضح أن بعض الذين تعودوا السير على طريقة التنظيمات الخيرية القديمة لم يقابلوا ذلك بالارتياح لأن التنظيمات الجديدة قيدت حركات المأمورين وغلت أيدي مطامعهم وكبحت شهواتهم فأصدر لذلك فرماناً بمحاكمة كل من يقاوم تلك التنظيمات ولهذا حاكموا عدّة من كبار الحكام مثل خسرو باشا وعاكف باشا وطاهر باشا ونافذ باشا وحسيب باشا جزاء لهم على ما صدر منهم وعبرة لغيرهم وبذلك ظهر للعموم حب السلطان للعدل والإصلاح.

واهتم السلطان أيضاً بإصلاح الأحوال المالية إذ بها قوام الدولة فأصدر فرماناً سنة إلى الصدر الأعظم محمد فؤاد باشا الذي خلف محمد أمين عالي باشا الذي وجهت إليه نظارة الخارجية بعمل ميزانية مضبوطة للمالية عن سنتي 1277و1278 وبعد ذلك صدر قرار من الدولة بإلغاء القوائم المالية وهي أوراق تتداول كالنقود كانت أصدرتها المالية في عهد المرحوم الغازي عبد المجيد دخان للعسر المالي الذي كانت وقعت فيه واقترضت الدولة لذلك ثمانية ملايين من الليرات فسوت جميع ديونها وألغت القوائم في نحو الشهرين وأصبحت المعاملة في كافة الولايات بالنقود وانتظمت أحوال المالية.









 


رد مع اقتباس
قديم 2011-03-18, 16:39   رقم المشاركة : 92
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 الاختلالات والمحاربات الداخلية

الاختلالات والمحاربات الداخلية في عهد المرحوم السلطان عبد العزيز:

وقائع الجبل الأسود :

اعلم أن دول أوروبا لما كانت تسعى من زمن طويل في تقليص ظل نفوذ العثمانيين واستعملت لذلك جميع الألعاب والأساليب السياسية كما مر بك بعضه في هذا التاريخ ورأت في هذه المدة أن الدولة العثمانية قامت تبذل المساعي الحقة في إجراء التنظيمات المختلفة والتحسينات المتنوعة حتى ترقت بها البحرية والحربية والصنائع والمعارف واتسعت دائرة التجارة أخذت في عرقلة مساعي الدولة ببث الدسائس وبذر الفتن في جميع أنحائها توصلا إلى غرضها المشؤم وكان أوّل الأمر بخلع أميره نيقولا وتنصيب البرنس دانيلو مكانه . 1277

إلا أن الاضطرابات لما كانت لا تزال سائدة بجهات الجبل المذكور أعدت الدولة أخيراً ثلاث فرق عسكرية الأولى تحت قيادة عبد الكريم نادر باشا المعروف بعبدي باشا والثانية تحت قيادة درويش باشا والثالثة تحت قيادة حسين عوني باشا وهاجم بها عمر باشا السردار الجبل من ثلاث جهات وبعد أن أوقعوا بالثوّار زحفوا على جتينة عاصمة الجبل فالتزم أميره دانيلو وأن يطلب الأمان وقد قبل ما اشترطته عليه الدولة من أبعاد ميركو والده من بلاد الجبل وأن تقيم الدولة حول حدود الجبل بعض الأبراج والحصون تحتلها جنودها للمحافظة على الراحة العمومية لمنع أهل الجبل من الثورة ثانية.

ولما تم ما أرادت عادت السكينة وقد صرفت الدولة على ذلك المصاريف الجسيمة إلا أن أمير الجبل لم يقم بعد ذلك بما تعهد به وأظهر العناد بتحريض بعض دول أوروبا ثم تداخلت فرانسا والروسيا في المسألة واستمرت المداخلات السياسية الأجنبية تلح على الباب العالي حتى قبل هدم تلك الأبراج والقلاع 1280هـ-1864 م ونال الجبل بمساعي أوروبا وتطفلها على موائد السياسة العثمانية استقلالا إدارياً.

وقائع الصرب :

إن الامتياز الذي نالته مقاطعة الصرب بمقتضى معاهدة باريس 1856 م كما سبق جعلها ممتازة إدارة تحت سيادة الدولة العثمانية وجعل للدولة الحق في إبقاء حامية عثمانية في ست قلاع فقط من حصون تلك البلاد ثم بعد ثورة بوسنة وهرسك السابق ذكرها 1278 استمر الاضطراب ببلاد الصرب وأظهر أهلها العداوة العثمانيين في كثير من المسائل إلى أن تداخلت الدول في ذلك وعقد سفراؤهم مؤتمراً بالآستانة برضا الباب العالي كان عالي باشا الصدر الأعظم مندوبا به عن الدولة وبعد مداولات تقرر أن يخلي العثمانيون قلعتين من الست قلاع المذكورة وتبقى جنودهم في أربع فقط وهي بلغراد وسمندرة وفتح الإسلام وشيانس 1279هـ-1862 م .

ومع هذا فإن الروسيا لا زالت تلح على الدولة بترك بلاد الصرب تماماً لتغل يديها عن السير في طريق الإصلاح ولعب الجنرال اغناتيف سفيرها في الآستانة أدواره السياسية إلى أن تنازلت الدولة أيضاً للصرب عن القلاع الباقية وكانت حجة دولة أوروبا في ذلك أن بقاء الجنود العثمانية ببلاد الصرب تهديد لها فاضطرت الدولة إلى قبول هذه الأمور المجحفة بحقوقها التي اعترفت لها بها أوروبا سابقاً وذلك لاجتماع دولها عليها ولظهور الثورة بكريد 1283هـ-1867 م .

ولما خرجت العساكر العثمانية من بلاد الصرب معها جميع العائلات الإسلامية من سكان تلك البلاد لاستحالة الإقامة عليهم بعد خروج الجنود وتركوا أملاكهم في مقابلة تعويض دفعته الدولة لهم وهكذا استقلت الصرب ولم يبق للعثمانيين بها من أثر التابعية غير رفع العلم العثماني بقلعة بلغراد بجانب العلم الصربي فقط وقد تكدّر الرأي العام بالآستانة من ذلك جدّاً ولولا مراقبة الدولة الأحوال لحدثت فتنة داخلية شديدة.

ثورة جزيرة كريد 1283هـ :

قال الفاضل أحمد مدحت أفندي في القسم الأول من كتابه أسس الانقلاب ما ملخصه مترجماً أنه كلما سعت السلطنة العثمانية في الاصلاحات سعت دولة الروسيا في اختلاق المشاكل بداخلية الدولة لعرقلة مساعيها عن السير في طريقها ولذلك رأت سعي الدولة هذه المرة في الإصلاحات الداخلية العسكرية والبحرية دست إلى الأهالي غير المسلمين بجزيرة كريد المتعودين من القديم على الثورات بأن يقوموا ويطلبوا ضم جزيرتهم إلى اليونان وأوعزت إليهم بأن سيكون لهم من الروسيا واليونان نصير فانصاعوا لعذوية هذه المواعيد المحشوّة بالسم القتال وثاروا على الدولة بأجمعهم واستفحل أمرهم واستعدت الدولة لقمعهم بالقوة .

ثم ظهر أخيراً أن مصلحة الدول البحرية لا تساعدهم على نوال مطالبهم إذ كانت جميعها مضادة لسلخ كريد عن الدولة ثم ساقت الدولة عليهم الجيوش براً وبحراً تحت قيادة مصطفى باشا الكريدي وأمرته أن ينصح الثوّار أولاً بالإخلاد إلى السكينة كما هي عادتها حقناً للدماء ومع جده واجتهاده في ذلك لم يمكنه حملهم على الطاعة بل أصروا على العناد مع محبتهم لذلك القائد ولما لم تبق وسيلة إلا امتشاق الحسام أخذ يقاتلهم وأرسل المرحوم الخديوي إسماعيل باشا في ربيع الأول من السنة المذكورة قوة عسكرية مركبة من ستة آلايات بياده وبعض بطاريات طوبجية تحت قيادة شاهين باشا ثم تعين لقيادتها القائد الشهير إسماعيل سليم باشا الفريق ناظر الجهادية إذ ذاك وبعد وفاته خلفه عبد القادر باشا الطوبجي.

ثم لما دعت الدوة مصطفى باشا الكريدي إلى الآستانة بعد أن استقال محمد رشدي باشا من الصدراة وخله محمد أمين عالي باشا 6 شوّال سنة 1283 تعين لقيادة الجنود العثمانية عمر باشا وهو صربي الأصل وقد أظهر النشاط في مطاردة الثائرين أوّلاً ولما كانت الذخائر الحربية تصل إلى الثائرين من الخارج خصوصاً من بلاد اليونان لدعم تيقظ بعض عمال الدولة هناك وإهمالهم مع أن الأساطيل العثمانية كانت تحاصر الجزيرة المذكورة من جيمع جوانبها أصدرت له الدولة الأوامر بتشديد الحصار البحري حول الجزيرة وأعلنت بذلك عموم الدول التي أمرت سفنها الحربي المتجوّلة في تلك الأطراف بنقل العائلات التي رغبت في المهاجرة من الجزيرة فكانت تنقلها بتصريح من الدولة العثمانية.

المشاكل والارتباكات الداخلية :

قال العلامة أحمد مدحت أفندي في كتابه أس الانقلاب ملخصا:إن العناية التي بذلها السلطان عبد العزيز خان في السنين الأولى من جلوسه على سرير الخلافة في إتمام الإصلاحات التي أدخلها على جميع دوائر الحكومة كما مر جعلت الأمة العثمانية تأمل خيراً كثيراً في المستقبل إلا أنه لما قرب جلالته إليه بعض أصحاب المطامع وقضت الغلطات السياسية هدم القلاع التي شيدتها الدولة حول الجبل الأسود كما سبق وتخليته قلاع الصرب التي فتحت بدماء أبطال العثمانيين والأموال الوافرة وغير ذلك مما أصاب الدولة من تراخي من أشرنا إليهم من الرجال وظهور ثورة كريد التي لم يهتم الوزراء بإطفائها بسرعة تحزب ضد هذه السياسة سراً أكثر من الوزراء خصوصاً لما رأوا أن جلالته ميال إلى تغيير هيئة الوراثة في السلطنة العثمانية.

ولما كان تغيير طريقة الوراثة بالخديوية المصرية التي نالها المرحوم إسماعيل باشا برضا السلطان منعت المرحوم مصطفى فاضل باشا من حقوقه مال إلى الحزب المذكور والتفت حوله بعض شبان العثمانيين الذين ثارت في قلوبهم الحمية الوطنية والمحبة الملية ونخص بالذكر من هؤلاء علي سعاوي بك وضيابك ونامق كمال بك وغيرهم ورحل الكل إلى أوروبا وأخذوا يذيعون هناك بما ينشرونه من المكاتبات والجرائد الأغلاط الحاصلة في سياسة الدولة وينتقدون عليها وعلى أعمال فؤاد باشا وعالي باشا وأصدروا كثيراً من الرسائل الهجومية تحاملوا فيها على بعض رجال الدولة الذين تبرهم أعمالهم الحسنة ومساعيهم المشكورة مثل عالي باشا وفؤاد باشا وغيرهما.

ولما توفي عالي باشا الذي كان موته فاتحة باب شرور على الدولة وجلس مكانه محمود نديم باشا 1288 في مسند الصدارة انتهج طريقاً معوجاً ساءت به الأحوال عن ذي قبل فاختلت الأمور المالية واقترضت الدولة من أوروبا أموالاً كثيرة لم يعد منها على مستقبلها فائدة عظيمة واستبدّ العمال في الأحكام حيث لا رقيب ولذلك صدر أمر سلطاني بمحاكمة ثلاثة من المشيرين وهم حسين عوني باشا وشيرواني زاده رشدي باشا ومشير الضبطية حسني باشا وصارنفيهم بدون أن تطبق محاكماتهم على القانون ولذلك اندهشت رجال الدولة من هذه الأحوال وكثير التغيير والتبديل في الولاة بحيث صاروا يستبدلون بعد مضي خمسة عشر يوماً تقريباً من تنصيبهم فزادت الأحوال ارتباكاً ولما لاحظ السلطان سوء الحالة عزل محمود نديم باشا من الصدارة بعد أن تولاها أحد عشر شهراً وقد طعنت فيه الجرائد العثمانية وأظهرت ما أتاه من الأعمال المضرة بالدولة.

وقد كثر تغيير الصدور بعده حيث تولى الصدارة مدحت باشا 1292هـ ورشدي باشا الكبير وأسعد باشا وشيرواني رشدي باشا وحسين عوني باشا وأسعد باشا ثانية في مدة ثلاث سنوات ولما انتخب السلطان للصدارة محمود نديم باشا ثانية خطر في فكر رجال الحزب المضاد لسياسة الحكومة أن السلطان راض عن أعمال الوزير المذكور خصوصاً وأن الجنرال أغناتيف سفير الروسيا بالدولة نال مكانة عالية عند جلالته فصار لا يعمل عملاً إلا بعد استشارته حتى وصلت الحالة بالدولة إلى ما لا تحمد عاقبته وقد تمكن السفير الروسي المذكور من نوال مقصده خصوصاً وأن دولته كانت تمكنت أثناء حرب فرانسا وألمانيا 1871 من تعديل بعض بنود معاهدة باريس المعقودة سنة المختصة بالبرح الأسود ورضيت الدولة بأن يكون للروسيا بالبحر المذكرو أساطيل حربية ودور صناعة.

ولما حصلت الروسيا على ذلك أوجدت هناك الأساطيل القوية ثم طرقت أبواب السياسة الشرقية بترويج جماعات الصقالبة التي كانت مراكزها بمدينة بطرسبورغ عاصمتها فينا عاصمة النمسا فحركت الثورات في ولايتي بوسنه وهرسك 1875 م وبثت بين أهالي البلغار بذور الفتن فثارت بعض جهاتهم م إلا أن عمال الدولة هناك تمكنوا من إطفاء الفتنة بسرعة وبعد مدة قليل هيج البلغاريون بعض دعاة الثورة والفساد الذين أرسلتهم جمعيات وبأنه فقاموا ثانية مايو سنة 1876 م وأخذوا في قتل المسلمين وحدثت عدة مذابح في جملة قرى خصوصاً في باتاق.

واستمر هذا الهياج إلى21 يوليه من السنة المذكورة وعند ذلك قام بعض رجال السياسة بأوروبا وفي مقدمتهم غلادستون يطعنون في في الدولة بأغلظ الألفاظ وأشنع التعبيرات وينسبونحصول تلك المذابح إلى شوكت باشا وحافظ باشا وغيرهما من المأمورين وتمكنت الدولة هذه المرة أيضاً من إعادة النظام إلى الولاية وفي تلك الأثناء اشتعل لهيب الثورة في بلاد بوسنه وهرسك بتحريضات أهل الصرب والجبل الأسود وغيرهما فأصدرت الدولة الأوامر لقواد الجيوش بسرعة إعادة السكينة فأخذت تطارد العصاة.

ولما خافت الدولة من أن تقوى الدسائس الأجنبية على مساعيه أصدر السلطان في12 ديسمبر سنة 1875 م فرمانا بمنح تلك الولايات بعض نظامات لتسكين الخواطر إلا أنها لم تفد بل استمر العصاة يعبثون فساداً وطلبوا من الدولة سحب جيوشها من البلاد كما أخرجتها قبل ذلك من قلاع بلاد الصرب فاشتد بذلك الأمر وقدّم الكونت أندراسي لائحته المشهورة في أواخر السنة المذكورة وكان من مشتملاتها إنفاذ ما جاء بالفرمان السلطاني من الامتيازات فقبل السلطان وأصدر عفواً عن جميع المجرمين إلا أن الأهالي لوثوقهم بمساعدة أوروبا لهم على نوال مرغوبهم كما كانت تلقيه عليهم عمال الثورة أصروا على طلبهم الأول من إخراج العساكر العثمانية من بلادهم أو تقيم في القلاح فقط خصوصاً بعد حادثة سلانيك التي وقعت في5 مايوا سنة 1876 م.

وسببها أن فتاة بلغارية اعتنقت الديانة الإسلامية وأتت سلانيك لإثبات إسلامها فتصدى لها بعض سفلة الأروام حين توجهها إلى دار الحكومة واختطفوها من أيدي المحافظين عليها بالقوة وأخفوها أوّلاً في بيت قنصل أمريكا ثم نقلوها إلى دار أحد كبرائهم ولما أشيع ذلك بين المسلمين هاجت نفوسهم وتجمع منهم نحو ثلاثة آلاف أمام سراي الحكومة وطلبوا إحضار البنت المذكورة وتخليصها من أيدي الذين استولوا عليها حفظاً لناموس الأمة العثمانية.

ولما لم يحضروها تجمعوا في اليوم الثاني داخل الجامع المعروف بجامع سليم باشا القريب من سراي الحكومة للمداولة فيما يمكن به إرجاع الفتاة وبينما هم كذلك إذ حضر الموسيو مولين قنصل فرانسا والموسيو هنري أبود قنصل ألمانيا وأرادوا دخول المسجد عنوة فتصدى الناس لمنعهما أوّلاً إلا أنهما دخلا بالرغم عنهم وكان المتداول على الألسنة أن البنت في بيت قنصل ألمانيا المذكور ومما زاد الهياج عند المسلمين أن القنصلين المذكورين تفوّها بألفاظ غير لائقة فاشتد حنقهم وهجموا عليهم وقتلوهما.

كان الوالي محمد رأفت باشا استنجد بقوة عسكرية من القرة قولات ومن ملاحي السفن العثمانية الراسية بالمينا إلا أن تلك القوة لم تحضر سريعاً فحصل ما حصل.

ولما بلغ الباب العالي ما حدث أرسل في الحال لجنة بينها مستشار نظارة العدلية لتحقيق المسألة وأرسلت دولتا فرانسا وألمانيا أسطولين بعث كل من إنكلترة وإيطاليا والنمسا والروسيا واليونان سفنا حربية ثم انتهت المسألة بعمل تراض للدولتين المذكورتين وهي أن ينفى الوالي وبعض المأمورين وأن يقتل الذين تجارؤا على سفك الدماء وأن يضرب باسم كل دولة من الدولتين مدافعاً وترتب على ذلك أن اتفقت الروسيا والنمسا وألمانيا وقدموا للدولة لائحة برلين المشهورة بعد أن صادقت عليها إيطاليا وفرانسا.

ومآله أنهم طلبوا من الباب العالي تنفيذ فرمان 12 دسمبر سنة 1875 م وتعيين مجلس دولي لمراقبة تنفيذ الإصلاحات فرفض الباب العالي ذلك لأنه ماس بحقوقه فارتبكت الأحوال ولما كانت الأمة ترى أن الصدر الأعظم محمود نديم باشا لا يعمل عملاً إلا برأي السفير الروسي نسبت هذه الأمور إلى هذا الوزير العلقمي فكرهه الناس وشنعوا عليه خصوصاً لما أشيع أن السفير الروسي أشار على السلطان بإحضار قدر من الخرواتيين للمحافظة على قصره حينما داخله الريب في إخلاص الجنود والأمة وصار لا يثق بحراسة الخصوصيين وشاع خبر استقدامه ثلاثين ألف من العساكر الروسية للمحافظة على حياته.

وعند ذلك اضطربت الأفكار وهاجت الخواطر وأوّل الناس تلك الإشاعات تأويلات كل على حسب غرضه ورموا الصدر المذكور بالخيانة الكبرى لأفعاله المذمومة وأنه يريد أن يسلم للروس أعدائهم البلاد غنيمة باردة فقامت طلبة العلم الصفطا والتفت عليهم كثير من الأهالي في أواسط ربيع الأوّل سنة 1293هـ وأرسل السلطان لشيخ الإسلام يطلب منه السعي في تسكين أفكار الطلب وإرجاعهم إلى مدارسهم وكان الناس يشيعون أيضاً أن شيخ الإسلام وقتئذ حسن فهمي أفندي يميل إلى سفير الروسيا وينزله منزلة ولده فأشركوه أيضاً في الخيانة.

ولما خلف السلطان تفاقم الخطوب عزل محمود نديم باشا من الصدارة وحسن فهمي أفندي من المشيخة 16 ربيع الأوّل ووجه مسند الصدارة إلى محمد رشدي باشا الكبير المعروف بالمترجم والمشيخة الإسلامية إلى خير الله أفندي والسر عسكرية إلى حسين عوني باشا.

خلع السلطان عبد العزيز ووفاته:

لقد تباينت الأقوال كثيراً في سبب خلع السلطان فمن قائل أن الجنرال أغناتيف سفير الروسيا لما رأى تغيظ السلطان وتأثره من إلزام الأمة إياه بطرد الوزير محمود نديم باشا صار يحرضه على الانتقام من المتسببين وإبعاد كثير من الذين يكرههم السفير المذكور ليخلو له جوّ السياسة فينال ما يشاء فهاجت الأفكار لذلك .

ومن قائل أن السياسة الإنكليزية التي تخاف تقرّب الدولة من الروسيا قضت بالتحريض على خلع السلطان لما رأت أن جلالته يميل إلى محالفة الروسيا ولذلك كان يرتكن كثيراً على آراء سفيرها في الآستانة .

ومن قائل أن الوزراء خافوا من أن يبطش السلطان بهم فتآمروا عليه وغير ذلك من الروايات والحاصل أنه اجتمع كل من رشدي باشا ومدحت باشا وحسين عوني باشا وأحمد باشا القيصرية لي وشيخ الإسلام حسن خير الله أفندي وأمثالهم من رجال الدولة وأركانها وقرروا خلع السلطان عبد العزيز فيما بينهم وبقي هذا الأمر سراً لا يذيعونه حتى تمكنهم الفرصة من إجرائه وكتبوا يستفتون شيخ الإسلام فأفتى بالجواز وعلى ذلك حاصروا السراي السلطانية براً وبحراً بالجنود قبل غروب يوم الاثنين 6 جمادى الأولى سنة 1292هـ-28 مايو 1876م .

ومن الغريب أن الجنود كلها لم تكن تعلم شيئاً من سبب تجتمعها بهذه الصفة ولما تم الحصار ذهب السر عسكر حسين عوني باشا إلى مقر السلطان مرادخان وطلب مواجهته فخرج إليه وقد اعتراه الخوف لإيقاظه من النوم في تلك الساعة وبعد أن هدأ روعه أركبه معه في العربة وسلمه غدّارة بست طلقات لتكون معه ولما أتى به إلى باب السر عكسرية أجلسه في الحجرة التي أعدّت لمبايعته وفي الحال حضر الشريف عبد المطلب وغيره من أعيان الدولة ورجالها وعظمائها وبايعوا السلطان في الساعة الثالثة بعد نصف الليل.

ثم أرسلت الفتوى إلى رديف باشا وكان الموكل بأمر الحصار فأحضر لديه رئيس أغوات السراي جوهر أغا وأبلغه بأن الأمة قد خلعت السلطان عبد العزيز وبايعت السلطان مرادخان وأنه مأمور بإرسال السلطان المخلوع إلى سراي طوبقبو ولما بلَّغ جوهر أغا هذه الرسالة كان يضطرب ويرتعد فقال له السلطان عبد العزيز ارجع إليه وقل له هل خلعي أمر هين فقال له رديف باشا إن العساكر محيطة بالسراي بحراً وبراً فإذا امتنع عن الخروج والذهاب إلى سراي طوبقبو طوعاً أخرج كرهاً وأرسل له فتوى شيخ الإسلام القاضية بخلعه.

فلما نظر السلطان إلى العساكر والفتوى لم يجد بداً من الخروج فخرج وأنزل في زورق ومعه ابنه الأمير يوسف عز الدين أفندي ونقلت عائلته أيضاً إلى تلك السراي وكانت محاطة بالعساكر كذلك وفي الصباح أطلقت المدافع من المرامي البرية والبحرية فهب الناس من مضاجعهم وهم يسمعون صوت المنادي يقول أن السلطان مراد الخامس جلس على سرير السلطانة السنية فخرجوا أفواجاً وتوجهوا إلى سراي يشكطاش فقيل لهم أن السلطان في سراي السر عسكرية فقصدوها ودخلوا عليه وبايعوه وكانت تلوح على وجوههم علامات السرور والفرح وفي نحو الساعة الثالثة ركب السلطان مراد مركبته وقصد سراي بشكطاش وأقبلت إليه الجموع هناك تبايعه وقد استمرت المبايعة ثلاثة أيام.

أما السلطان عبد العزيز فإنه لم يمكث بعد خلعه إلا أربعة أيام على قيد الحياة ثم مات وللناس في أسباب موته أقوال ظاهرة وأخرى خفية تداولوها فيما بينهم أما الأولى فهي أن هذا السلطان العظيم اعتراه من يوم خلعه مرض في رأسه صيره كالمجنون فاضطربت أحواله وحركاته فكان يتخيل تخيلات زاد بها قلقاً حتى أنه لم يعد يستطيع الرقاد ليلة وفاتة هي ليلة الأحد الموافق 11 من شهر جمادى الأولى ولما أصبح الصباح دخل الحمام كعادته ثم خرج إلى بستان السراي ثم عاد إلى حجرته وأمر بفتح الشبابيك والأبواب وأخذ يتمشى بها ثم عاد وخرج ثانية إلى البستان وكأنّ الدنيا ضاقت عليه ثم حاول الخروج إلى شاطىء البحر فمنعه ضابط الحرس بكل أدب وقال له يا مولاي لا آذن بالخروج فأبى وشتمه.

فحضر ضابط آخر وأشار إليه بالدخول فدخل وقد زاد بلباله واضطرابه حتى ظهرت عليه علامات الاختلال وأخيراً طلب من إحدى الجواري مقصا يقص به أطراف لحيته كعادته فخرجت الجارية وأخبرت والدته بذلك فأعطتها مقصاً ومرآة فتناول المقص وأخذ يقص به أطراف ليحته ووالدته تنظر إليه من وراء الباب ولما رآها أمرها بالانصراف ثم جلس على متكأ ونادى أحد الأغوات وخاطبه بمحاربة العدوّ الذي كان يتوهمه في كل لحظة.

ثم أخذ المقص وشرع يقطع به عرقاً في وسط ذراعه الأيمن فحاول الخادم أخذ المقص منه فمانعه فذهب إلى والدته صارخاً في تلك الأثناء جلس السلطان على المتكأ وقطع عرق يده اليسرى قطعاً بليغاً وقيل إنه قبل أن يفعل ذلك أحكم غلق الباب ولما جاءت والدته والجواري طفقن يصرخن ويبكين وكسرن زجاج الشبابيك ولما أقبل الضباط بلغهم الخبر وقيل إنه كان يفتكر في مدّة في الانتحار.

ولما وصل خبر ذلك إلى السلطان أصدر أمراً بتشكيل لجنة طبية لتحقيق سبب الوفاة ولما كشفوا عن الجثة حرروا مضبطة وقع عليها الأطباء وكانوا 19 طبيباً من أكبر أطباء الآستانة بينهم أطباء بعض السفارات ومآل تلك المضبطة لا يخرج عما ذكرناه هذه هي الرواية الظاهرة إلا أن بعض الواقفين على خفايا الأمور قالوا بتأكيد أن وفاة السلطان عبد العزيز لا بدّ وأن تكون بفعل فاعل ونسبوا ذلك إلى أن مدحت باشا وحسين عوني باشا وغيرهما من الذين اتفقوا على قتله منعاً لحصول القلاقل المستقبلة ما دام على قيد الحياة وليكونوا في مأمن من الانتقام فيما بعد وقالوا إنهم وكلوا بقتله اثنين من الفداوية بعد أن اتفقوا على ذلك مع أحد البكوات الذي كان انتخبه السلطان عبد العزيز لمرافقته أثناء عزلته.

وكان يعتمد عليه كثيراً ولا يخاف منه شراً وقد أوعز هذه البك إلى والدة السلطان أن تأخذ من السلطان خنجر السلطان عثمان وكان يتقلده دائماً وقال لها أنه لا يصح أن يبقى هذا الخنجر مع السلطان خوفاً من أن يضرب به نفسه فصدّقت قوله لعلمها بمحبتها الشديدة لابنها واحتالت حتى أخذت الخنجر المذكور في تلك الليلة أقفل ذلك المأمور الأبواب ودخلت الفداوية من شبابيك البستان وتمكنوا من قتل السلطان بمرت خصيتيه ثم حصل ما حصل والله أعلم بالحقائق وذلك كان سبباً في قيام الضابط حسن الجركسي وقتله بعض الوزراء كما سيأتي أم السلطان فشيعت جنازته ودفن بجوار أبيه السلطان محمود رحمهما الله رحمة واسعة.

وكان رحمه الله قوي البنية يحب السير على خطة أسلافه من إصلاح أحوال المملكة ومعاملة جميع الرعايا على السواء محباً للعمارة شيد كثيراً من المباني والقصور الفاخرة والمعامل المفيدة في جملة ولايات فقويت بها المملكة براً وبحراً ومدّجلة خطوط حديدية في بعض ولايات الروم إيلي وأصلح فم نهر الطونة ومهد عدة طرق بالأناضول فاتسعت دائرة التجار ولولا الدسائس الأجنبية لكانت أيامه تعد من أعظم الأيام وكان ميالاً إلى السياسة الروسية كثيراً وهذا ما أمال الأمة عنه لأنه كان يرى في موالاته للروسيا تحقيقاً لمآربه وغاياته كما كان يوعز إليه بذلك سفير الروسيا الجنرال أغناتيف ولذا كان السلطان يتظاهر بالميل إليه كثيراً.

السلطان مرادخان الخامس ابن السلطان عبد المجيد 1293هـ:

لما تمت مبايعة السلطان مرادخان الخامس كما تقدّم أظهرت الأمة العثمانية انشراحها وسرورها واحتفلت بإقامة الزينات في دار الخلافة ثلاث ليال وأعلن الباب العالي الحكومة الخديوية وسائر الإمارات الممتازة تلغرافياً بجلوس السلطان مرادخان الوارث الشرعي لكرسي الخلافة وفي اليوم العاشر من الشهر كتب المرحوم السلطان عبد العزيز خان مكتوباً إلى السلطان مراد به كثيراً من الأقوال الحكيمة ينفي عنه ما أشاعوه عنه من إصابته بالاختلال العقلي.

وكانت الأحوال مضطربة والجرائد تكتب المقالات الطويلة طالبة تشكيل مجلس شورى من نواب تنتخبهم الأمة وسن قانون أساسي للدولة ولما خافت الحكومة سوء العاقبة أصدرت إدارة المطبوعات إلى عموم الجرائد أمراً بمنع الكلام في هذا الخصوص فانساءت الأمة من ذلك وبعد خمسة أيام من هذا الأمر صدر خط هما يوني في 16 جمادى الأولى إلى الصدر الأعظم محمد رشدي باشا ببقائه وهو سائر الوزراء في مناصبهم وكان يحتوي على مبادىء الشورى التي يقصد جلالتها إدخالها لإصلاح كافة الإدارات.

ثورة الصرب والجبل الأسود :

لما جلس السلطان مرادخان على سرير الخلافة كانت الثورة بولاتي بوسنه وهرسك لا تزال مشتعلة وكذا الحال ببلاد البلغار وكان رجال الثورة الذين اجتمعوا في فلبه وطرنوه وصعدوا إلى جبال البلقان لتهيج أهاليها وأخذوا في مقاتلة العساكر الشاهانية والفتك بالأهالي الإسلامية القاطنين بتلك البلاد والأطراف.

وقد اهتمت الدولة بمنع هذا العصيان وأصدر السلطان عفواً عاماً عقب جلوسه عن العصاة وكتبت النصائح اللازمة ونشرت على البلغارين وأخذت الدولة أيضاً في التجهيزات العسكرية لظلام أفق السياسة وطلبت كثيراً من عساكر الرديف من بر الأناضول وساقتهم إلى تلك الأطراف ولما كانت دسائس الروس لا تزال تروّج الثورات بتلك النواحي شقت إمارتا الصرب والجبل الأسود عصا الطاعة أيضاً فاتسع الخرق على الدولة وتعدّدت مشاكلها وزادت جروحها خطراً حتى اضطرت لأخذ الاحتياطات الشديدة وطلبت مدداً من المرحوم إسماعيل باشا خيدو مصر فأنجدها سريعاً بقوّة مؤلفة من ثلاثة ألايات من المشاة وبطاريتين من المدافع وكان يقود هذه القوّة الفريق راشد حسني باشا ومن قوّادها العظام إسماعيل كامل باشا وسافرت على خمسة وابورات مصرية تحت ملاحظة محمد كامل باشا قومندان وأبور المحروسة ووصلت هذه القوّة إلى سلانيك في شهر رجب من سنة 1293هـ.

ثم سافرت من طريق إسكوب الحديدي إلى جهات يكي بازار وذهبت من هناك والتحقت بالجيوش العثمانية النازلة بحدود بلاد الصرب وأرسل الخديو أيضاً كثيراً من الأسلحة والمعدّات الحربية لتوزيعها على الجنود العثمانية وبعث ثلاثة وابورات للمساعدة في نقل الجيوش العثمانية ثم عمت الثورة أنحاء تلك الإمارات وسرت إلى ولاية الروم إيلي وتقاتل الطرفان وانتصر عثمان باشا بقرب قصبة إيجار على الصرب انتصاراً باهراً ثم سار سليمان باشا من جهة شهركوي وحافظ باشا من جهة بلا نقه.

وبعد أن تقابلاها جما الصربيين فهزماهم هزيمة هائلة حتى اضطروا لترك حصونهم والالتجاء إلى داخل البلاد وأرسل أيضاً السر عسكر عبد الكريم نادر باشا من نيش فرقة عسكرية تحت قيادة أحمد أيوب باشا فكسر الصربيين في مضيق غراماده واستولى على ما معهم من المدافع ثم تقابل أحمد أيوب باشا بسليمان باشا وتقدّما وكسرا قوّة للصربيين في مضيق بانديرو ثم تقدّم على صاب باشا إلى مدينة الكسناج فانتصر على الصربيين بجوارها ثم انضم إليه أحمد أيوب باشا بفرقته وحاصراها إلا أن العثمانيين لم يستولوا عليها إلا في عهد مولانا السلطان الأعظم عبد الحميدخان.

وفي تلك الأثناء أيضاً كان محمد علي باشا منتصراً بالجيوش المصرية بجهات يكي بازار واستولى على قلاع ياوور وبهذه الانتصارات المتقدّمة انقطع أمل الصربيين وداخلهم اليأس وفي خلال ذلك أيضاً انتصر أحمد حمدي باشا بفرقته على ثوار الجبل الأسود في جهتي قوج وصلاجق إيزلا تحبه وانتصر سليم باشا بفرقته عليهم في الجهة الواقعة بني نواسين وغاجقة وتقدّم أحمد مختار باشا بقوّة كبيرة عليهم أيضاً من جهة نواسين.

وبعد أن بدّد شملهم استولى على استحكاماتهم التي أنشؤها بتلك الجهات المستحكمة استحكاماً طبيعياً ثم تقدّمت عساكره حتى وصلت إلى محل يدعى بيلك ولما تقدّم عثمان باشا وسليم باشا بفرقتيهما احتاط بهما الجبليون من كل صوب وتغلبوا على القائدين العثمانيين وكسروهما وقتل سليم باشا والتزم عثمان باشا أن يسلم فأخذوه أسيراً وعاملوه بالحسنى مدة أسره ثم تقدّموا لمصادمة قوّة أحمد مختار باشا ولكنه قاومهم وكسرهم في جملة وقائع ولما رأى زيادة قوّتهم وتجمعهم عليه طلب من جنود بوسنه قوّة فأرسلوا له ستة عشر طابوراً.

ولما وصلت إليه أخذ يهاجم الثوار ويضايقهم في جهات فريج وفخور وترمبين ثم أرسلت الدولة جيشاً آخر من الآستانة وبر الشام على البواخر تحت قيادة محمود باشا فنزل في فرضة بار إلا أنه هزم واضطرّ لأن يرجع متقهقر إلى أشقودره وسبب ذلك وعورة تلك الأطراف وعدم محاربة الجبلين محاربة منتظمة وكان الروس لا ينفكون عن إرسال الأسلحة والذخائر إلى الصربيين والجليين ويرسلون إليهما أيضاً متطوّعين من الجيش الروسي وغيره لقيادة الثوّار كل ذلك بمساعي جمعيات الصقالبة بأوروبها ومع هذا فإن ما بذله العثمانيون من الهمة والنشاط وكبح الثوّار أدهش الروس.

مرض السلطان مراد وخلعه:

اعلم أنه لما أجمع القوم على خلع المرحوم السلطان عبد العزيز خان وتولية السلطان مراد وذهب حسين عوني باشا إلى حيث يقيم السطان مراد وإعلامه بذلك وإحضاره إلى باب السر عسكرية وكان ذلك بعد منتصف الليل اعترص السلطان دهشة وفزع لأنه لم يكن يعلم شيئاً من ذلك كما تقدّم وقد ازداد معه هذا الأمر بما حدث بعد من الحوادث وظهرت عليه علامات الاضطراب حتى أنه لما بلغه خبر قتل حسن الجركسي للسر عسكر وناظر الخارجية وغيرهما وقت تناوله الطعام ازداد اضطراباً وتغيرا فترك الطعام وقام فأغمى عليه وتقايأ وصار بعدها لا يميز الوزراء من بعضهم.

ومع ذلك كان الصدر الأعظم رشدي باشا يجتهد في إخفاء هذا الأمر عن العموم في أوّله واستمرّ يسير المصالح السياسية والإدارية بهمة عظيمة إلا أن امتناع السلطان عن حضور الاحتفالات الرسمية وتقلد السيف حسب المتبع وعدم مقابلته للسفراء لتقديم أوراقهم الرسمية ببقائهم في مراكزهم كالمعتاد ومضى على ذلك أكثر من شهرين أدخل الريب عند الأمة وذاع خبر مرض السلطان.

ولما اشتدّ الأمر به أبلغ ناظر الخارجية جميع السفراء بالحالة وأخبرهم أيضاً بلزوم خلع السطان ثم إن الوزراء استدعوا الدكتور وليد روزف النمساوي رئيس مستشفى ويانه الشهير في الأمراض العقلية وطلبوا منه اختبار حالة السلطان وبعد أن لازمه جملة أيام وتأمل في حركاته وأحواله واستعلم عن كيفية معيشيته في أيامه الماضية كتب تقريراً ذكر فيه أن مرضه هذا كان مقروناً بالخطر وقد بذل الجهد في معالجته وأوسى باستنشاقه نسيم البحر فصاروا يخرجونه في يخته المخصوص إلى البوغار يومياً.

إلا أن المرض كان يأخذ في الاشتداد حتى ظهرت عليه علامات غريبة توجب الحزن من ذلك أنه أراد مرة أن يلقي بنفسه من إحدى النوافذ وأخيراً تشاور الوزراء ثم عرضوا الأمر على أخيه الأمير عبدالحميد أفندي وأن يستلم مقاليد الدولة فنصحهم بالتأني وعدم التسرع في الأمور ولما كان بعض الدول المتحابة يلح بإجلاس سلطان جديد ليتيسر للدولة متابعة الإصلاحات تعينت لجنة من الأطباء للنظر في حالة السلطان مراد ولما نظره الأطباء قرروا بإصابته بداء عضال لا يرجى شفاؤه.

ولما كانت مصالح السلطنة تحتاج إلى من ينظر في شؤنها اجتمع الوزراء واستقرّ رأيهم في المجلس المنعقد يوم الأربعاء العاشر من شعبان سنة 1293هـ-30 أغسطس 1876 م على مبايعة أخيه مولانا السلطان الحالي عبد الحميد خان وأرسلوا إلى والدة السلطان مراد يبلغوها مع الأسف الشديد ما استقرّ عليه رأي الوكلاء والوزراء فأرسلت إلى الصدر الأعظم رقيماً أظهرت فيه قبولها لما استصوبوه ثم اجتمع الوزراء وتذاكروا في الأمر بعد أن استفتحوا شيخ الإسلام دولتا وخير الله أفندي فأفتى بالجواز وعلى ذلك تقرر وجوب مبايعة سيدنا ومولانا السلطان عبد الحميد خان الثاني .

السلطان عبد الحميد خان الثاني ابن السلطان الغازي عبد المجيد خان:

جل حرسه الله على تخت الخلافة الإسلامية في ويوم الخميس 11 شعبان 1293هـ-31 أغسطس سنة 1876 م وحضر لمبايعته الوزراء والأعيان وأرباب المناصب العلمية والعسكرية والملكية في سراي طوبقبو ثم قصد سراي بشكطاش فوفد عليه رؤساء الطوائف المختلفة وهنؤه بالخلافة وأطلقت المدافع في الأوقات الخمس من سائر المرامي البرية والبحرية بسائر أطراف السلطنة كما هي العادة.

وأقيمت الزينات بجميع جهات الآستانة وغيرها ثلاثة أيام بلياليها وأرسل الصدر الأعظم التلغرافات فأعلم البلاد الممتازة ثم في يوم الخميس الثامن عشر من شعبان تقلد الخليفة السيف على الرسوم المعتادة بجامع سيدي أبي أيوب الأنصاري قلده إياه نقيب الأشراف بحضور شيخ الإسلام والوكلاء كالمعتاد ثم عاد في موكب حافل فاخر كم أتى ولما قبض على زمام الأعمال أخذ يهتم في إصلاح الأمور بهمة ونشاط وأقر محمد رشدي باشا في الصدارة وكذا باقي الوزراء وأصدر فرماناً بتاريخ 21 شعبان 1293هـ أظهر فيه رغبته في السعي في إصلاح أمور الدولة.










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-18, 16:40   رقم المشاركة : 93
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 وقائع الروم ايلي

وقائع الروم ايلي :

لا يخفى أنه في مبدأ جلوس السلطان كانت الدولة محفوفة بالاتباكات الشديدة والاضطرابات العديدة والثورات الكثيرة المنتشرة بولاياتها بالروم ايلي ولذا أصدر السلطان الأوامر بسرعة إرسال الجنود إلى حدود الصرب والجبل الأسود وبوسنه وهرسك لإخماد الثورة فاستدعت نظارة الحربية عساكر الرديف من كافة الايالات وبعد أن سلحتهم أرسلت غالبهم إلى المواقع العسكرية وشدّدت الأوامر على قوّاد الجنود بالمواقع الحربية ببذل المجهود وصرف الهمة لسرعة إطفاء الثورة.

فانتصرت العساكر العثمانية في غالب الوقائع وشدّد السردار عبد الكريم نادر باشا الحصار على الكسناج حتى أنه بعد أيام كسر جموع الصربيين وهزم قائدهم الجنرال جرنايف الروسي الذي كان متقلداً قيادة الصربيين بإيعاز من دولته التي كانت تسعى في تهييج الطوائف المسيحية على الدولة كما هي عادتها وعادة الدول الأوروباوية الأخرى متى أرادت معاكسة الدولة وانتصر أيضاً أحمد أيوب باشا وسليمان خيري باشا على جيوش الصرب التي كانت تحت قائده لاشانين وفتحت نيشواز ثم رتب الس عسكر عبدي باشا الجنود وتقدّم إلى بلغراد باقي جموع الصربيين.

وخاف البرنس ميلان أمير الصرب من عاقبة الأمر فطلب من قناصل الدول 2 شعبان 1293هـ التوسط في الصلح وبناء على ذلك تداخلت الدول الأوروباوية التي لما أيقنت بعجز الثائرين توسطت في طلب المهادنة ولوالي شهر لوضع شرائط الصلح وأبلغ السير هنري آليوت سفير الإنكليز في الآستانة ذلك إلى الدولة وأيد طلبه جميع السفراء إلا أن الباب العالي اعترض على محرراتهم الشديدة اللهجة ثم قدموا شرائط المصالحة والتزم الباب العالي بقبول المهادنة في ظروف 48 ساعة وكان الباب العالي يظن أن الدول الأوروباوية تعلن أميري الصرب والجبل الأسود بتوقيف الخصام إلا أنهما لم يتوقفا إلا بعد مخابرات وتداخلت دولة الروسيا في الأمر بشدة واستمرّت المخابرات السياسية بين الدول والباب العالي بواسطة السفراء لا تنقطع.

وكانت الدول تغل يد الدولة في غالب المخابرات عن التصرف في حقوقها الشرعية وفي تلك الأثناء استعفى محمد رشدي باشا من منصب الصدارة لتقدّمه في السن 4 ذي الحجة 1293هـ ووجهت الصدارة إلى مدحت باشا وتقرر امتداد زمن الهدنة وعينت الصرب من قبلها المسيو قرستيج ومايخ فتقابلا مع صفوت باشا ناظر الخارجية وبعد المذاكرة اتفق الطرفان وعادت المناسبات بينهما ببقاء كل شيء على أصله كما كان ولما كانت مسألة الجبل الأسود لم تنته بعد رأت الدولة لزوم تجديد الأعمال الحربية وأصدرت الأوامر إلى عموم المراكز العسكرية في حدود الجبل المذكور بأن تكون على قدم الاستعداد حتى إذا انتهت مدة الهدنة وتصدت جنود الجبل لاستعمال السلاح قابلتها العساكر العثمانية بالصرب.

القانون الأساسي ومجلس الشورى :

لما كان السلطان عبدالحميد خان من يوم جلوسه على تخت الخلافة منح البلاد نظاماً دستورياً مناسباً لحالتها يحفظ لعموم الأمة العثمانية حقوقها ويربط جميع الأجناس والملل المتكونة منها الدولة العثمانية ببعضها لمنع الدسائس الموجبة للمنافسات واشتراك جميع الرعايا في تحسين شؤن الدولة أصدر فرماناً بناء على ما قرره الوزير في 5 شوال سنة 1293هـ بتنظيم مجلس عمومي يتكوّن من مجلسين

أحدهما : ينتخب الأهالي أعضاءه ويسمى بمجلس المبوعثان.

والثاني : تعين الدولة أعضاءه ويسمى بمجلس الأعيان.

وبعد أن مضى أربعة أيام على صدارة مدحت باشا أصدر له السلطان فرماناً مرفقاً بالقانون الأساسي يشتمل على مادة أمر بأن يكون العمل بمقتضاه في جميع المماليك العثمانية وتلى هذا القانون بالآستانة في محفل عام 14 ذي الحجة سنة 1293هـ .

وأطلقت المدافع من القلاع البرية والبحرية سروراً بذلك ويتضمن هذا القانون الحقوق العمومية لتبعة الدولة العلية وواجبات الوزراء والمأمورين والمجلس العمومي وهيئة مجلس الأعيان وهيئة مجلس المبعوثان والمحاكم والديوان العالي والأمور المالية والولايات وموادّ شتى أخرى وقد أعلنه الباب العالي لعموم الولايات ثم أخذت الدولة في السير على موجبه والعمل بنصوصه من ذلك التاريخ.

ولقد كان صدور هذا القانون في الزمن الذي كانت فيه الدولة مرتبكة بتداخل الروسيا ودول أوروبا في مسائلها الداخلية ثم قويت الدسائس الروسية حتى تمكنت من عزل أحمد مدحت باشا أوّل الساعين في وضع هذا القانون الشورى ونفي إلى خارج الممالك العثمانية 21 محرم سنة 1294هـ أي بعد شهرين من صدارته لأنهم نسبوا إليه السعي في إرجاع السلطان مراد إلى عرش الخلافة وفصل السلطة الدينية عن السلطة الدنيوية بمعنى أن السلطان لا يكون خليفة لجميع المسلمين في المعمورة بل يكون سلطاناً على الأمة العثمانية فقط تنفيذ المقاصد بعد الدول الأوروباوية الساعية في إضعاف الشوكة الإسلامية وتعين بعده للصدارة أدهم باشا قال بعض الواقفين على السياسة أنه لم يكن من الصواب نفي مدحت باشا في الوقت الحرج المذكور لأنه لو بقي في منصبه ربما أمكنه بعد أن رفضت الدولة قرار المؤتمر الذي عقده السفراء في ذلك الوقت بالآستانة كما سيأتي أن يجد حلاً للمشاكل التي حدث معظمهما بسببه ثم اجتمع مجلس المبعوثان العثماني 4 ربيع الأول في سراي بشكطاش وافتتح بحضور جلالة مولانا السلطان وتليت فيه خطبة عظيمة عن لسانه الملوكي.

وأخذ بعد ذلك يعقد جلساته ويتذاكر فيما يعرض عليه من المسائل وقد امتدح سيره كثير من الجرائد الوطنية والأجنبية على اختلاف أنواعها ومشاربها وقالت إن حسن سيره وانتظام جلساته يدل على ترقي الأمم العثمانية ولكن من الأسف أن استعمل بعض أعضائه حدة في أمور لا لزوم للخوض فيها في ذلك الوقت ولما كان بعد دول أوروبا لا تحب أن ترى اتفاق الأمة العثمانية وأن يكون لها مجالس نيابية شورية أخذت تدس الدسائس من يوم ظهور هذا المجلس إلى عالم الوجود.

ولما خافت الدولة من أن رواج الدسائس الأجنبية بين الأعضاء يؤدي بلا شك إلى المشاكل والاختلالات التي أرادت الدولة التخلص منها بتشكيل هذا المجلس فتكون جلبت على نفسها الضرر من حيث أرادت المنفعة صدر أمر سلطاني بعد اتفاق وزراء الدولة وأعيانها بإرجاء اجتماعه إلى أجل غير محدود 10 صفر سنة 1295هـ .

رفض قرار المؤتمر والبروتوكول وحرب الروسيا :

قلنا فيما تقدم أن الدول اتفقت على التضييق على الدولة العثمانية وإجبارها سياسياً على قبول مهادنة الصرب والجبل الأسود وكان ذلك تارة بالنصائح المؤلمة وتارة بالتهديد ولما قبلت الدولة ذلك أرسلت تلغرافين لأميري الصرب والجبل الأسود تدعوهما إلى عمل طريقة لتسوية الخلافة فأجاب البرنس ميلان أمير الصرب تلغرافياً بقبوله المصالحة على طريقة الاستاتيكو أي بقاء حالة امتيازاته كما كانت عليه أوّلاً وعين من قبله المندوبين السابق ذكرهما أما جواب البرنس نيقولا أمير الجبل الأسود فتأخر خمسة أيام وكان بلا شك يستشير بعض دول أوروبا التي يستند عليها ثم طلب تقرير قاعدة لذلك بمعرفة مندوبي الدول الذين تداخلوا في أمر المهادنة الأولى.

غير أنه لم تمض إلا مدة قليلة حتى قامت الروسيا في ميدان المعارضة تطلب عقد مؤتمر للنظر في مسألتي البلغار وبوسنه فزادت الحالة ارتباكاً وبعد أن أظهرت الدولة جنوحها إلى السلم قامت الدولة الأوروباوية تساعد دولة الروسيا في طلبها وعقد مؤتمر بالآستانة من سفراء الدول وعينت الدولة صفوت باشا ناظر الخارجية وأدهم باشا سفيرها بباريس مندوبين من طرفها وبعد عقد جلساته أخيراً في نظارة البحرية تحت رياسة صفوت باشا قرر طريقة الإصلاحات اللازم إدخالها في ولايات بوسنه وهرسك والبلغار تحت مراقبة الدول ثم قدموا ذلك القرار إلى الدولة وكانوا قبل ذلك اجتمعوا بسفارة الروسيا وقرروا الموادّ الأساسية لهذا المؤتمر ولم يسمحوا لمندوبي الدولة بالحضور وهذا مما دل على تحيزهم للروسيا وتألبهم على معاكسة الدولة العثمانية.

وفي خلال ذلك ساقت الروسيا مائتين وخمسين ألف عسكري إلى حدود المملكتين و 150,000 إلى حدود الأناضول وهاجت الأفكار في بلاد الروسيا في كثير من عواصم أوروبا.

وقالت النسما إذا تجاوزت الروسيا نهر الطونة أرسل عساكري للمحافظة على بوسنه.

وقال اليونان إذا تقدمت الروسيا للحرب مع الدولة لزمنا إظهار التشيع للأروام الموجودين في أراضيهم.

ولهذا كانت الدولة العثماية في مركز حرج بحيث لو أقدمت على الحرب لاضطرت لمقاومة هذه الأمم بمفردها ولهذا أصدر السلطان الأوامر إلى نظارة الحربية بحشد الجيوش في حدود الدولة من جهتي الروم ايلي والأناضول وعين المشير أحمد مختار قائدا عاماً على جيوش الأناضول والمشير عبد الكريم نادر باشا قائداً عاماً على جيوش الروم ايلي وعين المشير درويش باشا قائد الباطوم وكان عثمان باشا وقتئذ قائداً على فرقة ودين.

ورأى جلالة السلطان أن يشرك الأمة معه للنظر في هذه الحالة كما هو القانون الأساسي فجمع مجلساً عاماً مؤلفاً من كافة الوزراء الموظفين والمعزولين والعلماء والأعيان والتجار والرؤساء الروحانيين وبعض كبار المأمورين بحيث بلغ عددهم مائتي نفس وعرض عليهم قرار المؤتمر فأجمعوا على رفضه لأن الإصلاحات المطلوبة فيه للولايات موجودة في القانون الأساسي الذي منحته الحضرة السلطانية لجميع الشعوب العثمانية بلا استثناء ولأن قبوله موجب لتداخل الأجانب في أمور الدولة الداخلية.

أما قرار المؤتمر المذكرو فكان يشتمل على المواد الآتية وهي :

أوّلا:ً إضافة جهة مالي روزنيك إلى بلاد الصرب وردّ حدودها القديمة إليها.

ثانياً : أن يضاف إلى الجبل الأسود جهات اسبيذا و مقاطعة من ألبانيا وهرسك.

ثالثاً : منح بلاد بوسنه وهرسك استقلالاً إدارياً وأن يعين الباب العالي لها حاكماً مسيحياً لمدة خمس سنوات.

رابعاً : منح الاستقلال الداخلي لبلاد البلغار أيضاً.

خامساً : تشكيل بوليس وطني للأقاليم المذكورة واعتبار اللغة السلافية لغة رسمية لأنها لغة الأكثرين وتخصيص نصف إيرادات البلاد المذكروة لمنافعها الداخلية.

سادساً : انتخاب مشايخ القرى والقضاة والبوليس وغير ذلك في أقاليم فلبه ومقدونيا العليا المجاولة للبلاد المذكورة.

سابعاً : أن يحتل هذه الأقاليم مدة زمن قوّة عسكريةبلجيقية تكون مصاريفها من طرف الدولة.

وقد أثارت هذه الطلبات الغريبة الإحساس الوطني لدى العثمانيين وتهيئوا جميعاً لرفضها لأن أوروبا لا تحرمهم بذلك من ثمرات انتصاراتهم وفتوحاتهم فقط بل تعاملهم أيضاً كمغلوبين والأمر بخلاف ذلك كما علمت ولما رأت حكومة اليونان أن العنصر السلافي سيقوى بهذه الاقتراحات اضمت في الرأي إلى الدولة العثمانية ومع أنه صار تعديل هذه الاقتراحات فيما بعد إلا أن الدولة رفضتها رفضاً باتاً ولما رفضت الأمة والدولة قرار المؤتمر كما ذكر سافر مندوبو الدول وقناصلها من الآستانة كأنهم بذلك قطعوا معه الصلات الودية.

وبعد ذلك كتب البرنس غورجقوف نشرة إلى سفراء الروسيا لدى دول أوروبا 31 يناير سنة 1877م قال فيها برفض الدولة العثمانية لقرار المؤتمر ويطلب منهم أن يعلموه بآراء الدول التي ينوبون لديها ليتفق الكل في العمل إزاء الدولة العثمانية وكتب أيضا صفوت باشا ناظر خارجة الدولة إلى سفرائها يعترض على عقد المؤتمر لم يعقد فيما بعد بطريقة رسمية إلا لعرض أمور اتفقت الدول عليها من قبل للتصديق عليها فقط.

وقال إن الدولة لا يمكنها أن تقبل هذه الاقتراحات أصلاً لأنها تحط بقدرها أما الدول فلم ترسل جواباً عن ذلك لا للروسيا ولا للدولة وفي تلك الأثناء تم الصلح بين الدولة والصرب بشروط أهمها خروج العساكر العثمانية من الصرب وأن لا تشيد الصرب فيما بعد قلاعاً جديدة وأن يرفع العلم العثماني بجانب العلم الصربي ولم تعقد المصالحة مع الجبل الأسود لطلبه تنازل الدولة له عن قطعة من أراضيها.

ولما رأت الروسيا أن مساعيها التي اجتهدت في الحصول عليها ربما ضاعات بالصلح بين العثمانيين والبلاد التي أثارتها عليهم ومال سكانها من النصارى إلى السكينة بعد أن أصابهم من الخسائر الجمة هزيمة جنودهم ما أصابهم ولا يعود لها فيما بعد حق بالمداخلة في أمورهم لتحسين حالتهم.

كما هوّلت بذلك لدى دول أوروبا سيمساوان المالك العثمانية أصبح لها قانون أساسي يمنح المساواة لجميع الرعايا بلا تمييز هو الأمر الذي لم تتحصل عليه للآن حرر البرنس غورجقوف بروتكول أي بلاغاً نهائياً وعرضه على الدول الأوروباوية التي اشتركت في مؤتمر الآستانة وهو يتضمن إرجاع الدولة لجنودها وترك السلاح وتحسين أحوال الولايات المذكورة تحت مراقبة السفراء لتأمين خير النصارى.

وبعد أن صدّقت عليه نواب إنكلتره وأستوريا وفرانسا وألمانيا وإيطاليا 31 مارس سنة 1877 أرسلوه إلى الدولة وأوعزت إنكلتره سراً إلى سفيرها بالآستانة بأن يخبر الباب العالي بأن تصديقها على هذا البروتوكول هو للمحافظة على السلم في أوروبا فقط أي أنها لا تصادق عليه في المعنى وهو تشجيع للدولة في أن تستمر على رفض القرار المذكور.

ولما وصل هذا البلاغ إلى الدولة العلية طلبت أن يكون ترك السلاح منها ومن الروسيا معاً في آن واحد كما تقتضيه العدالة ولما لم تقبل الروسيا ذلك التزمت الدولة برفض البروتوكول وكتب ناظر الخارجية لسفراء الدولة بأوروبا نشرة قوية الحجة جداً تبرأ فيها من عدم ميل الدولة للسلام مظهراً تحامل أوروبا عليها بأقوال جديرة بالمطالعة.

ولكن ما فائدة الحق إذا كان صاحبه ضعيفاً وعليه انقطعت العلاقات السياسية بين الدولتين وأعلنت الروسيا الحرب على الدولة بمكتوب أرسلته إلى نائب سفيرها ببطرسبورغ 11 ربيع الآخر 1294-25 إبريل سنة 1877 ثم تقدّمت الجيوش الروسية وتجاوزت الحدود العثمانية بعد أن تعاهدت مع رومانيا سراً على أن تجعل رومانيا جميع مخازنها ومؤنها وذخائرها الحربية وجيشها تحت تصرف الروسيا وأصدرت أيضاً الدولة الأوامر إلى جميع قوّاد جيوشها بمقابلة العدوّ بما عهد فيهم من البسالة والإقدام وكتبت إلى دول أوروبا نشرة تعترض فيها على ما فعلته رومانيا من الفعل المخالف للقانون لأنها لا تزال بلاداً خاضعة للسيادة العثمانية كما قررته الدول ولا حق لها في عقد معاهدة مع دولة معادية لها ومع ذلك فإن الدول لم تلتفت إلى هذا الاحتجاج الشرعي فتأملوا يا ذوي الألباب ولما لامت الدولة رومانيا على فعلها هذا وأرسلت بعض مدرعاتها فأطلقوا النيران على سواحلها بنهر الطونة أظهرت العداوة وأرسلت جيشها وعدده 60 ألف مقاتل فانضم إلى الجيوش الروسية وأعلنت استقلالها 14 مايو سنة . 1877

الجيوش العثمانية بالروم ايلي :

سبق ذكر إغارة الجنود الروسية على حدود الدولة ودخولها ولايتي إفلاق وبغدان ثم تقدّمت الجيوش الروسية والرومانية تحت قيادة الغراندوق نيقولا 27 يونية سنة 1877م وتمكنت من عبور نهر الطونة على صنادل من جهة سمنيتزه Simnitza ومدّت بعد ذلك جسراً فوق الصنادل عبرت عليه أكثر جيوشها سريعاً ثم تقدّمت تقصد مدينة طرنوه وبينهما كانت الجيوش الروسية تعبر نهر الطنة وتنتشر طولاً وعرضاً بالأراضي العثمانية كان السردار عبد الكريم نادر باشا بمعسكره في شمله لا يبدي حراكاً ولا يخرج من خيمته إلا في النادر غير مهتم بأمر القتال كما يجب ويصف أوقاته في أمور لا فائدة منها تقريباً.

وكان أحمد أيوب باشا معسكراً بفرقته بجوار قرية تدعى ترانسك من أرض البلغار فأرسل الطلائع للمناوشات ولما انتشر خبر دخول جيش الروسيا ولاية الطنوة وقع اضطراب جسيم وقلق شد بالآستانة فأرسلت الدولة السر عسكر رديف باشا ومعه نامق باشا بحراً إلى وارنة ومنها إلى روسجق لتحقيق كيفية عبور الجيش الروسي نهر الطونة بدون مقاومة والنظر في الأهمال الذي حصل من الحاميات العثمانية الموجودة هناك لأنه لم يسبق للروس قبل ذلك عبور هذا النهر بدون أن يتكبدوا خسائر جسيمة لأنه من الموانع الطبيعية أمام الجيوش.

وقد ظهر من التحقيق أن عبد الكريم نادر باشا القائد العام كان ينوي مقاتلة الروس في بلاد البلغار لعدم إمكان عبور الجيوش العثمانية إلى أراضي الأفلاق والبغدان لقلة الاستعدادات من جهة وتشتت جيوش الدولة في حدود الصرب والجبل الأسود واليونان وغيرها من جهة أخرى ولعصيان أهالي المملكتين وغير ذلك وقال إن الدولة غيرت قومندان سفن الطونة الموجودة بهذه الوظيفة منذ عشرين سنة وله إلمام تام بتلك الجهات ومعرفة المواقع التي يمكن للعدوّ العبور منها مما يمكن لقائد الجيوش أن يستشيره في هذه الأحوال وعينت مكانه قائداً لم يسبق له سفر في نهر الطونة قط.

ولما نظر ديوان الحرب في التقرير الذي رفعه إليه السر عكسر رديف باشا ورأى أن عبور الروس هو من إهمال السردار العام فصله عن وظيفته وعين مكانه محمد علي باشا وشكلت الدولة مجلساً حربياً لمحاكمة عبد الكريم نادر باشا ووصلت المسؤلية أيضاً إلى السر عسكر رديف باشا فحكم عليهما بالنفي إلى بعض جزائر البحر الأبيض المتوسط ووجهت السر عسكرية إلى محمود باشا الداماد.

ثم تقدّمت جيوش الروسيا نحو البلقان واستولى الجنرال غوركو على مضايق البلقان ومواقع شبقة واحتل البارون كرودنر Krudner مدينة نيكبولي عنوة وأسر بها سبعة آلاف جندي واستولى على 113 مدفعاً وعشرة آلاف بندقية 15 يوليه سنة 1877 م فسار الغازي عثمان باشا بفرقة من ودين وكانت مركبة من أربعين أورطة مسرعاً لمساعدة نيكبولي.

ولما قرب منها وبلغه سقوطها قصد موقع بلونه لمتانته ولكونه ملتقى الطرق العسكرية الموصلة بين سوال الطونة وغيرها من البلاد إلى مضايق جبال البلقان وعسكر فيه واهتم في تشييد الاسحتكامات لصد هجمات الروس الذين هاجموه فيها دفعتين الأولى في20 يوليو تحت قيادة الجنرال شيلدر Schilder والثانية في30 منه تحت قيادة الجنرال كروندنر فارتدوا خائبين.

وكانت قوّتهم في الهجوم الثاني تزيد عن ثلاثين أورطة بيادة وقدرها من السوارى ومدافع الطوبجية تزيد عن مائتي مدفع وبعد رجوع الروس من أمام بلونه مقهورين وصلت الإمدادات إلى العثمانيين فتمكنوا بها من الاستعداد لحركة التعرض والهجوم وانقسم الجيش إلى ثلاثة أقسام الأوّل انضم إلى فرقة الغازي عثمان باشا وبقي في مواقع بلونه للدفاع عنها وتقدم بالثاني السردار محمد علي باشا لمحاربة الجيش الروسي الذي تحت قيادة البرنس الكسندر ولي عهد القيصر والثالث انضم إلى جيش سليمان باشا الذي دعى من حدود الجبل الأسود بجيشه لاستخلاص مواقع شبقه من يد الروسيين فتقابل مع الجنرال غوركو وانتصر عليه انتصاراً عظيماً باسكي زغرة.

ولما انهزم غوركو إلى البلقان تعقبه سليمان باشا وسعى في الاستيلا على مضيق شبقه وبينما كان جيش محمد علي باشا منصوراً في واقعة صارى نصوحلر التي اشترك فيها الجيش المصري تحت قيادة الأمير حسن باشا قسم الغراندوق نيقولا قواه إلى فرقتين وجه إحداهما لمقابلة جيش محمد علي باشا وجعل الأخرى مدداً له عند اللزوم أو إلى ردّ عثمان باشا الذي كان يهدّد الخطوط الروسية بالانتصارات التي حازها محمد علي باشا وسليمان باشا وعثمان باشا وقرب اجتماعهم معاً للإحاطة بأجنحة بعض الفرق الروسية أصبح شأن الجيش الروسي حرجاً للغاية.

وعند ذلك تقدّم أمير رومانيا بجيشه البالغ عدده مائة ألف مقاتل لمساعدة الروسيا واجتاز به نهر الطونة وصادف حضور قيصر الروس بنفسه لميدان القتال لتشجيع جيشه مع بعض الامتدادات فتقوّت الروس بذلك وانتصروا في بعض المواقع على الجيوش العثمانية وكان الجنرال زمرمان عبر بفرقته نهر الطونة من حوالي ايساقجي ودخل أراضي دوبريجه وقصد بازارجق حيث القوّة المصرية بعد عدة وقائع تقهقر راشد حسني باشا ومات في تلك الواقعة اللواء زكريا باشا المصري وعادت الجيوش إلى وارنه اتباعاً للأوامر التي أصدرها الأمير حسن باشا بعد عودته بالجيش المصري من واقعة صارى نصوحلر التي انصتر فيها محمد علي باشا على جيش الروس كما سبق.

ثم اقتدت الروس بنصائح المارشال مولتك الألماني حيث قال إن حصار القلاع القوي أفضل من الهجوم عليها لأن بالحصار يسهل الاستيلاء والانتصار سيما وأن أركان حرب الجيش الألماني هم الذين رسموا معظم خطوط السير للجيش الروسي وشجعوه على مقاتلة العثمانيين وهم الذين نصحوه على عبور نهر الطونة بكل ما يمكن من السرعة وغير ذلك من المساعدات الأدبية التي قامت بها ألمانيا للروسيا في هذه الحرب فصمموا على محاصرة بلونه من كل جانب وأناطوا أمر هذه الحركة بالجنرال طوطلبن Totleben فرتب حولهاالعدد الكافي من الجيوش وشيد ثلاثة خطوط من الاستحكامات كل خط بعد الآخر لتمكين الحصار.

ولما تم هذا العمل 24 أكتوبر سنة 1877 م صار وصول المدد إلى عثمان باشا من رابع المستحيلات ولبث مدافعاً عن مركزه حتى نفد كل ما ادّخره من الأقوات وعند ذلك عزم على الخروج بجيشه وخرق صفوف الأعداء فإن فازوا وكان ذلك غاية المراد وإن ماتوا ماتوا مدافعين عن شرف الدولة شهداء مؤدين للواجب عليهم كما تفرضه الواجبات نحو الدولة والدين.

ثم استعدّت الجنود 5 ذي الحجة سنة 1294هـ-10 دسمبر سنة 1877 م وأخلت المواقع العسكرية وخرجوا مرة واحدة مستميتين واستمروا في سيرهم يقصدون الاستحكامات التي أقامهاالروس ولا يبالون بالمقذوفاا المتساقطة عليهم وكانوا قبل خروجهم بأربعة أيام لا يتناولون من الغذاء غير القليل من الدقيق الذي بقي في بعض المخازن ومع ذلك فإنهم اقتحموا الخط الأوّل والثاني وكادوا يستولون على الخط الثالث لولا أن أصيب قائدهم البطل الشهير الغازي عثمان باشا برصاصة في فخذه ولما سقط هذا الشجاع الأرض ظنت عساكره أنه استشهد واستولى الرعب والفضل عليهم وأراد بعضهم الرجوع إلى المدينة التي كان احتلها الروس بعد خروجهم منها ولما رأوا أنفسهم بين نارين رأى قوّادهم أن الصواب التسليم فرفعوا علامته وتوقف الروس عن إطلاق النيران.

ثم ذهب اللواء توفيق باشا رئيس أركان حرب الجيش العثماني وهو الذي بمهارته شيد القلاع والحصون حول بلونه وطلب مقابلة القائد الروسي العام وهو الجنرال جانتسكي ثم ذهب الجنرال استروكوف مع توفيق باشا قابلاً عثمان باشا في المكان الذي وضعوه فيه بعد جرحه وطلب الجنرال من عثمان باشا أن يأمر أوّلاً جنوده بإلقاء السلاح ثم تكون المكالمة فيما بعد لأن ذلك الجنرال لم يكن لديه تعليمات من القائد العام الروسي وهو الغران دوق نيقولا أخي القيصر ولما قبل عثمان باشا طلب الجنرال المذكور عاد وأخبر جانتسكي بما تم فأتى بنفسه إلى مقر عثمان باشا.

وبعد أن حياه وهنأه على أعماله الحربية التي تشهد له ولجنوده بالبسالة وعلوّ المنزلة طلب منه فأصدر أوامره إلى الجيش العثماني بإلقاء السلاح وبعدها سلم سيفه ثم أركبوه في عربة وذهبوا به إلى بلونه وفي أثناء مسيره قابله الغران دوق نيقولا ومعه أمير رومانيا وسلما عليه باحترام وفي اليوم التالي صباحاً ذهب عثمان باشا مع طبيبه الخاص إلى حيث ينزل القيصر ولما دخل عليه قام له إجلالاً وبس في وجهه وأظهر إعجابه من مدافعته عن بلاده وإقدامه وردّ إليه سيفه وأمره بأن يحمله علامة الاحترام والتجلة ثم أرسلوه إلى مدينة كركوف يقيم بها إلى انتهاء الحرب.

ولقد كانت الجيوش التي مع عثمان باشا الغازي في بلونه لا تزيد عن 50,000 معهم 77 مدفعاً أما الجيش الروسي المحاصر فكان يزيد عن 150,000 معه 600 مدفع ومن ذلك يظهر الفرق بين شجاعة المتحاربين ومما يؤثر عن الجنود العثمانية أنهم لم يسلموا أعلامهم قط بل إنهم قبل خروجهم للمرة الأخيرة دفنوا بعضها في صناديق من الحديد تحت الأرض وأحرقوا الباقي يوم التسليم وكانت الدولة لما رأت تفاقهم الخطوب وازدياد الشرور وإثارة الروس للطوائف المسيحية القاطنة بولايتها وخصوصاً لما سقطت مدينة بلونه أرادت طلب الصلح من الروسيا إلا أن السير لايارد Layard سفير انكلتره بالآستانة وعدها بتداخل الدولة الإنكليزية تداخلاً عسكرياً ولولا هذه المواعيد العرقوبية لكانت الدولة فازت بمصالحة أخف ضرراً من التي حصلت فيما بعد كما ستراه.

الأعمال الحربية بالأناضول والهدنة ومعاهدة سان استيفانوس :

هذا ملخص الحركات الحربية التي تمت بأوروبا قبل أن يجتاز الروس البلقان أما في آسيا فكان النصر في أوّل الأمر حليف العثمانيين وكان الجنرال مليكوف ذهب يقصد مدينة قارص وأخذ الجنرال در هوجاسوف Der Hougassof يهدّد مدينة بايزيد وسار غيرهما من قوّاد الروس للاستيلاء على أردهان وباطوم ثم تمكن الجنرال مليكوف من الاستيلاء على مدينة أردهان عنوة 17 مايو سنة 1877م وحاصر قارص وأخذ يهدّد ارضروم.

وبعد أن استولى الجنرال هوجاسوف على مدينة بايزيد 20 إبريل سنة 1877م وانتصر على العثمانيين بجهة دار طاغ 10 يونيه سنة 1877م تقدّم جيش الغازي مختار باشا واحتل مرتفعات زوين وكان يتركب من 59 طابوراً من المشاة و 4000 من الوساري و مدفعاً بينما كان القائد إسمعيل حقي باشا يقود قوّة عظيمة من الأكراد يهدد بها قوّة الجنرال هوجاسوف وبذلك تمكن العثمانيون من قهر مليكوف وهوجاسوف وانتصر جيش مختار باشا انتصاراً عظيماً 26 يونيه سنة 1877م حتى سحق الحيش الروسي بجهات زوين ولهذا اضطر مليكوف أن يرفع الحصار عن قارس ويرجع القهقري نحو الكسندر فولى وتبعته العساكر العثمانية.

أما الجنرال هوجاسوف فقد تمكن من القهقري بحالة انتظام وأخذ الاحتراس التام من أن يقع في يد العثمانيين وتوجه نحو دار جدير ثم ذهب اسمعيل باشا لقتال هوجاسوف بجيش مؤلف من 40 طابوراً و 55 مدفعاً بينما كان مختار باشا يستعد للإجهاز على قوّة الجنرال مليكوف وبعد بذلك انتصر العثمانيون انتصارات مهمة على الجيش الروسي الذي طردوه تماماً من الأراضي العثمانية وأشهر هذه الوقائع هي وقائع كركانه واني وإيانيه واياك تبه سي وأوليار وقزل تبه وأشهرها جميعاً واقعة كدكلر التي أرسلت بسببها الحضرة السلطانية فرمان تشكر إلى مختار باشا ولقبته بلقب غازي.

وبعد ذلك اقتصر الروس على إجراء المظاهرات والمناوشات الخفيفة مبتعدين ما أمكن عن الاشتباك مع الجيوش العثمانية وسبب ذلك أن قوّتهم العسكرية نقصت جداً بما حصل لهم من الهزائم ونفذت تقريباً ذخائرهم الحربية وأرسل الغران دوق ميخائيل حاكم بلاد القوقاز العام يطلب الإمداد والذخائر ولما أتى المدد وتقوت الجيوش الروسية في أواخر سبتمبر 1877 سنة سار الجنرال مليكوف في طريق الهجوم ثم تقدم نحو مختار باشا المعسكر في قزل تبه وتلاقى معه في جهة الآجه طاغ ودام القتال بينهما أياماً ثم تقهقهر العثمانيون بعد خسائر عظيمة ولذلك اضطر مختار باشا أن يلتجىء إلى ارضروم فتمكن الروس من محاصرة قارص محاصرة شديدة ومنعوا عنها المواصلات الخارجية تماماً حتى استولوا عليها عنوة 18 نوفمبر سنة 1877 وأسروا منها 17000جندي واستولوا على مدافعها وكانت 300 .

وأراد مختار باشا بعد ذلك أن يوقف سير خصمه فلم يتمكن ولذلك ذهب إلى مدينة ارضروم وأخذ في جمع العساكر المتشتتة وإقامة الحصون والمعاقل حول تلك المدينة وقد نجح في ذلك بكل سرعة ولهذا أجمعت الجرائد العسكرية على مدح هذا القائد العظيم وبقي في هذه المدينة يصد هجمات الروس إلى أن انتهى الحرب واعلم أنه لما انتشر خبر سقوط بلونه وقارص وتقهقرت العساكر العثمانية أمام أعدائها أعلن أمير الصرب المدعو ميلان الحرب على الدولة 14 دسمبر سنة 1877م .

وذلك بعد أن اتفق مع الروسيا وأوعزت له بذلك لتكون حجته في المستقبل أقوى لنوال ما يطمح إليه بإبصاره متى تقررت شروط الصلح أما الدولة العثمانية العديمة النصير فلم تستغرب من خيانة هذا الأمير وكفر الصربيين بنعمتها لأنها كانت تنتظر ذلك من وقت إلى آخر وأرسل الباب العالي منشوراً إلى الصربيين يعلن فيه بعزل أميرهم ميلان وينصحهم في عدم التغرير بأنفسهم وكانت عساكر الجبل الأسود تخطت حدودها أيضاً وشنت الغارة على الأراضي العثمانية لأن الدولة لاحتياجها للجنود كانت استرجعت معظم القوة العسكرية الضاربة في تلك الأكناف كما ذكر.

فيتضح من ذلك أن الدولة العثمانية في هذه الحرب المشؤمة لم تكن تحارب الروس فقط بل كانت تنازل الروس وأفلاق وبغدان والصرب والجبل الأسود وجميع المسيحيين رعاياها تقريباً ولما أقبل فصل الشتاء بزمهريره كانت الدوائر العسكرية تظن أن ذلك يعطل الحركات الحربية ويجعل للدولة العثمانية الوقت الكافي لتجنيد قوة جديدة تنازل بها الأعداء إلا أن هذه الظنون لم تتحقق لأن الروس عقب انتصاراتهم السريعة ساقوا جيوشهم نحو البلقان ورأى الجنرال طوطلبن أن من الصواب الاستيلاء على ودين وروسجق وشمله قبل الذهاب إلى البلقان فأحيل عليه فتح هذه المدن وتقدم الجنرال غوركو يريد اختراق البلقان مهما كلفه ذلك من الرجال والأموال وسار هذا الجنرال في وسط الشتاء والثلوج حتى تلاقى مع شاكر باشا وبعد أن نازله وهزم جيشه استولى على صوفيه 4 يناير سنة 1877 وسلمت أيضاً العساكر العثمانية التي كانت تحمي شسبقه 9 يناير .

ثم زحف الجنرال غوركو فتلاقى مع جيش سليمان باشا وبعد أن استمر الحرب بينهما ثلاثة أيام أظهر فيها العثمانيون شجاعة تخلد لهم ذكراً في التاريخ بالقرب من مدينة فلبه تقهقروا مهزومين إلى جبال ردوب 19 يناير وفي يوم 20 منه احتلت مقدمة الجنرال اسكبيليف SKobeleff مدينة أدرنه وكانت القيادة العامة على عساكر البلقان لرؤف باشا ناظر الحربية ثم تقدم الروس حتى أضحوا على أبواب الآستانة بينهم وبينها مسافة 50كيلومتراً.

ولما رأت الدولة سوء حالتها طلبت عقد هدنة للمكالمة في شروط الصلح وأرسلت من طرفها نامق باشا وسرور باشا للمخابرة مع الغراندوق نيقولا في هذا الخصوص وأرسلت معهما مأمورين عسكريين وبعد أن تقابل هؤلاء المندوبون مع الغراندوق في بلدة قزانلق وعرضوا عليه مأموريتهم أخذهم معه إلى ادرنه لحين مجيء جواب القيصر على ذلك ثم صار التوقيع على اتفاقيتين إحداهما بين الغراندوق وسرور باشا ونامق باشا مفادهما استقلال البلغار استقلالاً إدارياً واستقلال رومانيا والجبل الأسود استقلالاً سياسياً مع تعديل حدودهما وتقرير غرامة حربية للروسيا تدفع نقداً أو يستعاض عنها ببعض البلاد والأخرى بين المندوبين العسكريين العثمانيين والروسيين ببيان شروط المهادنة وعلى ذلك توقفت الحركات العدوانية 31 يناير سنة 1878م .

وأمر الباب العالي برفع الحصار عن سواحل الروسيا التي على البحر الأسود وعاد الغراندوق نيقولا إلى بطرسبورغ غانماً ظافراً ولما علمت انكلتره بحصول الهدنة والشروط الابتدائية خافت على الآستانة كما تدعى أن تقع في يد الروس ولذلك أمرت عمارتها التي كانت بخليج بشيكة فدخلت بحر مرمره 14 فبراير سنة 1878 خلافاً لمعاهدة باريس القاضية بمنع مرور السفن الحربيةمن مضيق الدردنيل ولما لم يمكن الدولة منع الأساطيل الإنجليزية من عبور المضيق المذكور اكتفت بإقامة الحجة على ذلك وأراد بعض دول أوروبا أن يكون عقد شروط الصلح على يدها مخافة أن يوجد بها ما يخل بمعاهدة باريس المبرمة في سنة 1856 فلم تقبل الروسيا ذلك ورغبت أن يكون الصلح بينها وبين الدولة العثمانية فقط بلا وسيط ولهذا لم تعلن صورة هذه الاتفاقيات بصورة رسمية إلا في 15 فبراير سنة 1878م .

وبعد ذلك اجتمع المندوبون من الدولتين ببلدة سان استيفاونوس التي جعلها الجيش الروسي مقرّاً له بعد الهدنة فكان صفوت باشا ناظر الخارجية وسعد الله بك سفير الدولة في برلين من قبل الدولة والموسيو نيلدوف والكونت أغناتيف من طرف الروسيا وبعد اجتماعاتهم اضطر المندوبان العثمانيان للتوقيع على معاهدة مؤلفة من 29 بنداً أهمها المواد الآتية وهي :

أن تزاد أراضي الجبل الأسود أكثر من ضعفي حالتها التي كانت عليها وتستولي على ثغري اسبتزا وانتيفاري ويضاف على بلاد الصرب التي أصبحت مستقلة لواء نيش وتأخذ ورمانيا التي استقلت أيضاً من جهات دوبرويجه بدلاً عن بسارابيا التي استولى عليها الروس.

وأن تكون البلغار ايالة ممتازة تمتد حدودها من نهر الدانوب إلى بحر الأرخبيل بحيث لا يترك للدولة العثمانية بأوروبا إلا الآستانة وغليبولي وسلانيك وضواحيها وبلاد ابيروتساليا وألبانيا وبوسنه وهرسك أما بجهات آسيا فتستولي الروسيا على قارص وأردهان وباطوم وبايزيد وأن تدفع الدولة العثمانية غرامة حربية قدرها 1,410,000,000 روبل 245,217,391 ليرة عثمانية ولما شاعت هذه المعاهدة التي أمضيت في 30 مارس سنة 1878 بنشرها في الجريدة الروسية بعد مضي 42 يوماً من التوقيع عليها اغتاظت انكلتره جداً وأمرت بجمع احتياطي جيشها العامل وأمرت أساطيلها بالتجمع في مالطة حيث أحضرت إليها قوّة عسكرية من الهند ومع ذلك لم يمكنها أن تتصدى لإيقاف الروس بالقوّة لأنه لم تساعدها دولة من دولة أوروبا على ذلك وقد ذهبت مساعي السفير الإنكليزي الموسيو لاياراد أدراج الرياح ولم يتمكن من تجديد القتال بين الجنود الروسية والعثمانية المعسكرة في جنالجة أو بين الروس وأهالي جبل رودوب من المسملين الذي صبت عليهم أنواع البلاء من أهل البلغار والروس أثناء الحرب مع ما صرفه من المجهودات.

ولم تقبل الدولة العثمانية إشاراته لأنها خافت من قيام المسيحيين في كريد وتساليا وغيرهما وبعد مبادلة المكاتبات بين لوندره وبطرسبورغ زمناً تداخل البرنس بسمارك حتى عقد وفاقاً سرياً بين الروسيا وإنكلتره وأوستوريا 30 مايو سنة 1878 وقبلت الروسيا أن تعرض معاهدة سان استيفانو على مؤتمر أروبي بعد أن كاد الأمر يفضي إلى انتشاب الحرب بينها وبين إنكلتره كما سبق وفي نفس هذا الوقت تمكن اللورد بيكونسفليد من أن يعقد مع الدولة معاهدة دفاعية من مقتضاها صد الروسيا لو تقدّمت نحو بلاد الأناضول.

وتعهد الباب العالي بإجراء الإصلاحات اللازمة لتحسين حال المسيحيين الذين بتلك الجهات خوفاً من أن ينقادوا إلى مطامع الروسيا وأن تسمح الدولة لإنكلتره باحتلال جزيرة قبرص وإدارة شؤنها لتكون على مقربة من بلاد الروسيا ويمكنها صد هجماتها لودعت الحاجة ولوجود الاضطرابات بالآستانة وخوف الباب العالي من أن يحتلها الروس كما كانوا يحاولون ونظراً للارتباكات الحاصلة قبل الباب العالي تلك المعاهدة حفظاً لباقي أملاكه وتعديل معاهدة سان استيفانوا بكيفية أرجح لمصالحه 4 يونيه 1878 وفي أثناء انعقاد المؤتمر ببرلين ذيل الحكومتان هذه المعاهدة ببعض بنود لتوضيح كيفية إداراة الجزيرة المذكورة والمبلغ الذي تدفعه عنها انكلتره سنوياً للدولة وجعلت تركها موقوفاً على ترك الروسيا لمدينتي باطوم وقارص اللتين أضيفتا إلى الروسيا نهائياً أول يوليو سنة 1878م










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-18, 16:41   رقم المشاركة : 94
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 معاهدة برلين

معاهدة برلين :

لما رضيت الروسيا بعرض معاهدة سان استيفانوا على مؤتمر دولي كتب البرنس بسمارك تلغرافاً إلى كافة الدول العظام يدعوهم فيه لإرسال المندوبين عنهم للاجتماع في مؤتمر برلين يوم 13 يونيه 1878 الذي سيكون تحت رياسته وأرسل أيضاً كثير من الأمم ذات الصوالح مندوبين عنهم لتقديم طلباتهم وعرض رغباتهم على أعضاء المؤتمر وإن لم يكن يصرح لهم بالحضور في جلساته إلا إذا طلبوا وبعد المناقشات والمداولات أياماً بين المندوبين وقعوا على المعاهدة المعروفة بمعاهدة برلين وكان ينوب عن الدولة في هذا المؤتمر محمد علي باشا وقره تيودوري باشا وسعد الله بك ولم يتسحسن بعض المؤرخين تعيينها لمحمد علي باشا في ذلك المؤتمر لأنه ألمانيّ الأصل اعتنق الدين الإسلامي كما هو معلوم.

فكان مندوبو الدول وخصوصاً البرنس بسمارك ينظرون إليه بعين الغيظ والتحقير مما كان سبباً في أن البرنس بسمارك انتهره مرة أثناء انعقاد المؤتمر أما المعاهدة المذكورة فأهم مشتملاتها ما يأتي:

تقسيم إمارة البلغار التي كان طلب الجنرال اغناتيف تكوينها إلى قسمين يكوّن القسم الشمالي منها بلاد البلغار الممتازة والقسم الجنوبي بلاد الرومللي وله نوع امتياز أيضاً وأن تستقل رومانيا استقلالاً سياسياً ويضاف إلى بلادها مقاطعة دوبرويجه في مقابلة استيلاء الروسيا على بلاد ببساربيا وأن ينضم إلى بلاد الصرب التي أصبحت مستقلة تماماً أقليم نيش وأن يبقى لإمارة الجبل الأسود التي تعترف الدولة باستقلالها كذلك فرضة انتيفاري بار وثلث الأراضي التي أعطيت لها بموجب معاهدة سان ستيفانو.

وأن تستولي الروسيا على بساربيا التي كانت انتزعت منها بمعاهدة 1856 كما تقدّم وتضم إلى أملاكها بآسيا مدن قارص وأردهان وباطوم التي جعلت ثغراً حراً بعد هدم استحكاماتها.

وأن تترك للدولة بايزيد الشغراد أما من خصوص الغرامة الحربية فقد قرر المؤتمر بقاءها على حالتها كما وردت بمعاهدة سان استيفانو بشرط أن حقوقها من حيث الغرامة لا تضر بمصالح أصحاب الديون الأوروباويين وقرر المؤتمر أيضاً أن تستولي إيران على إقليم قطور النمسا على فرضة اسبيزا Spizza .

وأن تحتل عساكرها بوسنه وهرسك إلى زمن غير محدد لتجري فيها ما يوافقها من الإصلاحات وتعهد الباب العالي بأن يقبل بلا تمييز في الدين شهادة جميع رعاياه أمام المحاكم وأن يجري بالدقة في جزيرة كريد النظام الأساسي الذي عمل لها سنة 1868 وأن يدخل نظامات مشابهة لما في نظامات تلك المعاهدة مع تطبيقها على الاحتياجات المحلية في جميع جهات تركية أوروبا التي لم يسن لها المؤتمر نظاماً خاصاً.

وأن يقوم فعلا بلا تأخير في تحسين وتنظيم الأقاليم التي يسكنها الأرمن حسب أحوال واحتياجات تلك الجهات وأن يحميهم من تعديات الجركس والأكراد وأن يبلغ من وقت إلى آخر دول أوروبا بما أدخله من النظامات التي قضت بها هذه المعاهدة.

وهذه شروط لم نسمع بعقد مثلها بين دولتين أوربياويتني قهرت إحداهما الأخرى ولكن ما حيلة هذه الدولة بمفردها أمام دول أوروبا جميعاً ومن تأمل في بنود المعاهدة التي لم يغب ذكرها عن الأذهان يرى أنها نزعت من يد الباب العالي جميع الإمارات التي كان له عليها حق السيادة وأخذت منه ما يقرب من نصف أملاكه بأوروبا ولم يمض على هذه المعاهدة المشؤمة إلا بعض شهور حتى قام أهل كريد مطالبين بما خصهم به مؤتمر برلين من النظامات فعينت الدولة المشير الغازي أحمد مختار باشا فذهب إلى تلك الجزيرة ونظم المعاهدة المعروفة في التاريخ بمعاهدة هليبه 25 اكتوبر سنة 1878م .

وصدر أمر مولانا السلطان بإنفاذ ما احتوته تلك المعاهدة ثم قام اليونان وأهل الجبل الأسود يطالبون الدولة بما منحهم المؤتمر المذكور ولما أرادت الدولة انفاذ ذلك عارض أهالي البانيا لأن تنازل الدولة عن قطعة من أراضيهم مضر جداً بصالحهم وهي معارضة حقة لو أعارتها أوروبا جانب الالتفات ولما أرسلت الدولة المشير محمد علي باشا بمأمورية اقناع الأهالي وتسكين اضطرابهم وإعلامهم بأنه لا بد من إجراء ما أقرت أوروبا على عمله وأن الدولة لولا ذلك لم تفرط في شبر أرض من بلادها قام الأهالي عليه وقتلوه وعند ذلك أرسلت انكلتره وفرانسا والروسيا والنمسا وإيطاليا وألمانيا حتى اليونان مراكبهم الحربية إلى مياه الدولة ورست تلك الأساطيل بثغرراغوزه وبذلك تم لليونان وأهل الجبل الاستيلاء على ما خصهم من الأراضي.

واعلم أنه بعد أن وضعت الحرب أوزارها بين الدولتين عقدت الدولة العثمانية مجلساً حربياً لمحاكمة جميع القواد الذين أهملوا أو تهاملوا وأخلوا بواجباتهم العسكرية ونفت منهم كثيرين من بينهم المشير سليمان باشا وجرد البعض من رتبهم ونياشينهم وبرئت ساحة البعض ومن الحوادث المهمة الجديرة بالذكرالتي حدثت بالآستانة وقت احتلال الروس لضواحيها الحادثة المعروفة بحادثة جراغان وسببها أن شخصاً يدعى علي سعاوى أفندي أحد الذين كانوا فروا من المرحوم السلطان عبد العزيز من الآستانة مع مصطفى فاضل باشا 1282هـ .

وكان فصيح اللسان قوي الجنان له مشاركة حسنة في كثير من العلوم وبعض اللغات لا سيما اللغة العربية وكان لما عاد إلى الآستانة بوساطة مدحت باشا عين مدير للمكتب السلطاني الذي يتعلم فيه أولاد الحضرة الفخيمة السلطانية ولما عزل لتداخله في الأمور السياسية أخذ في بث الفتن كعادته ودبر مكيدة لإجلاس السلطان مراد على عرش الخلافة وقد انتهز لذلك فرصة اشتغال الدولة بالمخابرات السياسية واضطرابات الأفكار وخوف الناس من تقدّم الروس نحو الآستانة واتفق لذلك مع بعض المهاجرين الذين التجأوا إلى الآستانة في ذلك الوقت وبعد أن اجتمعوا انقسموا إلى قسمين قصد قسم منهم بحراً سراي جراغان حيث يقيم السلطان مراد.

وقصد القسم الثاني وكان يقوده على سعاوى المذكور السراي المذكورة برا ثم اجتمعوا عند بابا السراي ولما منعهم الحراس قتلوهم ودخلوا يفتشون على السلطان مراد حتى عثروا عليه وهموا بإخراجه وفي تلك الأثناء أتت فرقة عسكرية من سراي يلديز وحاصرت الثائرين براً كما حاصرتهم البحارة بحراً وهجموا على السراي وقتلوا كل من كان بها من الثائرين ومن ضمنهم علي سعاوى أفندي وبعد ذلك نقل السلطان مراد وعائلته إلى قصر ضمن سراي يلديز ثم هدأت الأفكار وعادت الأعمال إلى ما كانت عليه وبعد ذلك بأيام حصل حريق هائل بالباب العالي ويقال إنه بفعل أرباب تلك الثورة انتقاماً لما أصابهم من الخذلان.



الدستور العثماني

"النهضة الوطنية والاصلاحات في الدولة العلية"

توفي السلطان سليمان القانوني سنة 1566م والدولة العليا في إبان مجدها وأوج عظمتها وكانت ممالكها تحد شرقاً بالحدود الهندية وغرباً بالمحيط الاطلانطي وكانت أوروبا ترهب سطوته وتخشى قوته.

فخلفه من بعده ملوك لم يتعقبوا خطواته ولم ينهجوا منهجه، لا سيما وقد تألبت عليها الدول الأوروبية واختلفت عليها الفتن الداخلية فبدأت في الانحطاط وانسلخت منها أجزاء كثيرة، وكانت أحياناً تنحط إلى أن تولى الخلافة السلطان سليم الثالث سنة 1789 والبلاد في اختلال، والأحكام في ضعف والانكشارية قابضون على زمام الأمور يولون من شاؤوا من السلاطين ويخلعون من شاؤوا ويقتلون من لم يسر وفاق أهوائهم وأغراضهم، والبلاد في فوضى كادت تمزق شملها. فهاجه حب الإصلاح وصرح بميله إلى تنظيم الجند على النمط الحديث وتسليحهم بالأسلحة الحديثة الاختراع. فلم يوافق ذلك الانكشارية فبطشوا به فمات والإصلاح في مهده.

على أن الفكرة رسخت في أذهان العثمانيين فتلقاها السلطان محمود وعمد إلى الإصلاح من الوجهة الادراية والعسكرية. فبدد جند الانكشارية وأحل محلهم جيشاً منظماً. وأخذ يبعث بمنشورات الإصلاح إلى الولاة والحكام. ولكنه توفي ولم يتمم من فروع الإصلاح إلا تنظيم الجند تنظيماً غير تام.

وكانت فكرة الإصلاح قد سرت بين فئة من رجال الدولة فأقاموا يبثونها على عهد السلطان عبد المجيد والسلطان عبد العزيز، وأعظمهم شأناً وأعلاهم يداً مصطفى رشيد باشا وعالي باشا وفؤاد باشا.

فلما توفي السلطان محمود وخلفه السلطان عبد المجيد نشر خط الكلخانة المشهورة سنة 1839م أي في 26 شعبان سنة 1255 هجرية فكانت له ضجة اهتزت لها أوروبا وأخذ رجال الدولة منذ اصدار ذلك الخط الهمايوني ينظمون القوانين الخاصة لكل فرع من فروع القضاء.

ثم تألفت لجنة جمعت أعاظم الاساتذة العثمانيين فألفوا المجلة الشرعية التي صدرت الارادة الشاهانية من السلطان عبد العزيز عام 1289 هجرية بالسير حسب نصوصها، وسن قانون الأراضي سنة 1274 هجرية وقانون الطابو سنة 1275هـ وقانون الجزاء سنة 1274 هـ. وكل هذه القوانين مقتبسة من القوانين الفرنسية مع مراعاة نصوص الشريعة الاسلامية.

ثم وضع قانون التابعية العثمانية وتنظيم المحاكم الشرعية والمحاكم النظامية والمحاكم التجارية ونظامات الادارة الملكية ونظام ادارة الولايات ونظام شورى الدولة، ووضعوا نظاماً للمعارف ونظاماً للمطبوعات ونظامات أخرى للمطابع والطبع وحقوق التأليف والترجمة ونظامات للرسومات وآخر للمعادن وغيره للطرق والمعابر وغير ذلك مما يقتضيه سير الحضارة ويلائم حالة الأمة. وبالجملة فانهم لم يتركوا شيئاً من لوازم إدارة الدولة حتى دونوا له قانوناً.

فجموع هذه القوانين والنظامات كان معروفاً في بلاد الدولة العليا بالدستور.

ومع ذلك فكان الحكم مطلقاً وإرادة السلطان فوق كل قانون. وفي المدة الوجيزة التي جلس فيها السلطان مراد على سرير الملك كان مدحت باشا وحزبه الحر قد انتهى من إعداد القانون الأساسي وترتيب نظام مجلس المبعوثين.



الحادثة الارتجاعية وخلع عبد الحميد

تفرق شمل المستبدين منذ إعلان الدستور وازداد النفور بينهم وبين لجنة الاتحاد والترقي فأخذوا يفكرون في اجتثاث أصول الفساد الذي يزعمونه فشجعوا أولاً الجرائد على الكتابة ضد الجمعية.

ثم قامت حامية الأستانة بإيعاز من أركان السراي، ولخصوا مطالبهم في شكل ديني كي ينضم إليهم أهالي الأستانة وها هي مطالبهم :

1 - إحياء الشريعة.

2 - عزل الصدر الأعظم وناظري الحربية والبحرية.

3 - طرد احمد رضا بك وحسين جاهد بك وجاويد بك ورحمي بك وطلعت واسماعيل

حقي بك ألخ.من المجلس.

4 - عزل محمود مختار باشا لأنه لم يشترك معهم.

5 - العفو عنهم.

فعقد مجلس المبعوثين اجتماعاً فوق العادة، ومع أن عدد الأعضاء (لم) يتجاوز الخمسين فانهم قرروا إجابة مطالب الثوار وانتخبوا وفداً منهم ليبلغ السلطان قرارهم. فتعين إذ ذاك توفيق باشا صدراً اعظم وأدهم باشا ناظراً للحربية. وقرر العفو عن الجنود فبدأ أولئك يطلقون البنادق احتفالاً، وكان يبلغ عدد أولئك ثلاثين ألفاً.

واجتمع المجلس مرة أخرى بعدها فقرر قبول استقالة الرئيس أحمد رضا بك.

وانقلبت لهجة الجرائد انقلاباً إجبارياً فباتت تتكلم عن السلطان عبد الحميد كما كانت تتكلم عنه أيام الاستبداد.

وكانت الحالة كذلك في الاستانة فوردت الأنباء بمجيء الجنود من الروم ايلي لحماية الدستور ومجلس المبعوثين.

ثم حاصر جيش الحرية الأستانة، فأوفد المبعوثون وفداً لمقابلته.

ودخل الجيش تحت قيادة محمود شوكت باشا الاستانة وحاصر يلديز وحدثت هناك موقعة كبيرة انتهت بتسليم حامية يلديز.

ولكن السلطان عبد الحميد استمر على المقاومة فقرر جيش الحرية أن يحمل الحملة الأخيرة. فأطلقت القنابل على حامية الباب العالي والنادي العسكري واستولت عليهما.

ثم قبضت على الكثيرين من أنصار الحكم القديم الذين أثاروا الفتن، ومن بينهم مراد بك الداغستاني، وأعدم الجواسيس رمياً بالرصاص ويقدر عدد القتلى بـ 1200 قتيل، وحاصرت الجنود الدستورية بعدها قشلاقات اسكودار فاستولت عليها. ولم يبق إذ ذاك أي خطر على القانون الأساسي، فعاد أعضاء البرلمان إلى الأستانة واجتمعت الجمعية العمومية لتتداول في أمر السلطان عبد الحميد.

وكانت النتيجة عزل السلطان عبد الحميد وتولية السلطان رشاد مكانه.

وتم يوم 27 ابريل سنة 1909 تتويج السلطان رشاد باسم السلطان محمد الخامس.



السلطان محمَّد رَشَاد خَان الخامِس

(1909 - 1918م)

ولد جلالته سنة 1844 وقد قضى أغلب عمره في قصر زنجيرلي كوي محوطاً بالجواسيس الذين يرصدون حركاته ويقدمون التقارير المشوهة عنه.

اجتمع المجلس العمومي اجتماعاً سرياً وخلع عبد الحميد بموجب فتوى من شيخ الإسلام هذا نصها.

إذا اعتاد زيد الذي هو إمام المسلمين أن يرفع من الكتب الشرعية بعض المسائل المهمة الشرعية، وأن يمنع بعض هذه الكتب ويمزق بعضها ويحرق بعضها، وأن يبذر ويسرف في بيت المال ويتصرف فيه بغير مسوغ شرعي، وأن يقتل الرعية ويحبسهم وينفيهم ويغربهم بغير سبب شرعي وسائر أنواع المظالم، ثم ادعى أنه تاب وعاهد الله وحلف أن يصلح حاله، ثم حنث وأحدث فتنة عظيمة جعلت أمور المسلمين كلها مختلة وأصر على المقاتل، وتمكن منعة المسلمين من إزالة تغلب زيد المذكور ووردت أخبار متوالية من جوانب بلاد المسلمين انهم يعتبرونه مخلوعاً وأصبح بقاؤه محقق الضرر وزواله محتمل الصلاح. فهل يجب أحد الأمرين خلعه أو تكليفه بالتنازل عن الإمامة والسلطنة على حسب ما يختاره أهل الحل والعقد وأولي الأمر من هذين الوجهين ؟

الجواب : يجب كتبه الفقير

السيّد محمد ضياء الدين عفي عنه.

فلما قرئت هذه الفتوى الجليلة على الأعيان والمبعوثين سألهم سعيد باشا رئيس الأعيان الذي كان يراس الجلسة اتختارون خلعه أم تكليفه بالتنازل فأجابوا بصوت واحد : الخلع الخلع.

وهذه ترجمة قرار هذا المجلس العمومي (المؤلف من الأعيان والمبعوثين" :

"يوم الثلاثاء سابع ربيع الآخر سنة 1327 و 14 نيسان سنة 1325 (27 ابريل سنة 1909م) الساعة السادسة ونصف (عربي) (الواحدة بعد الظهر زوالي) قرئت الفتوى الشرعية الموقع عليها بتوقيع شيخ الإسلام محمد ضياء الدين افندي في المجلس العمومي المؤلف من المبعوثين والأعيان ورجح بالاتفاق وجه الخلع الذي هو أحد الوجهين المخير بينهما فأسقط السلطان عبد الحميد خان من الخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية وأصعد ولي العهد محمد رشاد أفندي باسم السلطان محمد خان الخامس إلى مقام الخلافة والسلطنة".

خلع عبد الحميد سنة 1909 فبويع بالخلافة الإسلامية الخليفة الشوري العادل أمير المؤمنين محمد رشاد الخامس.

فلما ولي الخلافة أعاد إليها عهد عمر بن عبد العزيز، إذ سار في المؤمنين سيرته، فكان من كل قلب قاب قوسين أو أدنى. وعمل على خدمة الأمة فأعزته وأخذ بيدها فاحبته وأجلها فأجلته وكانت الكلمة التي امتاز بها عهده السعيد تلك التي قالها على مسمع من وزرائه "إننا جميعاً خدام الشعب".

ولم يمض على توليته الخلافة إلا قليل حتى ألف بين قلوب الأمة في ظل الدستور، فكان لعناصر هذه الأمة أباً رحيماً وراعياً حكيماً. ولقد رأى العثمانيون جميعاً من حكيم تدبيره وسياسته ما ملأ قلوبهم ثقة وتعلقاً به وحباً وإقداراً له، فكان عهده فاتحة لرقي الممالك العثمانية وإصلاحها.

ومنذ ارتقاء جلالته على العرش تسلم حزب الاتحاد والترقي إدارة الحكومة العثمانية، وإنا لنذكر الاصلاحات التي تمت منذ الثلاث السنين الماضية والاتحاديون يديرون الحكومة العثمانية.



الاصلاحات الداخلية

تسلم حزب الاتحاد والترقي ادارة الحكومة واعداؤه من رجال العهد الماضي يعدون بالمئات، أولئك المنافقون الذين ارتكبوا من الأعمال المضرة في العهد البائد ما تقشعر منه الأبدان. وكانت الحكومة في اختلال تام والأمة قد فقدت أسباب الأمن والموظفون لا يتقاضون مرتباتهم والديون الخارجية لا تدفع اقساطها في أوقاتها واشتعلت في الولايات نيران الفتن والمشاغبات.

تلك هي حال الحكومة عندما تسلمها حزب الاتحاد والترقي. أما حال العناصر العثمانية المختلفة فكان على أسوأ ما يكون وكل عنصر كان يتأهب للفتك بأخيه. وكان بين المبعوثين لأول مرة من لم يفهم معنى الحرية ولا يعرف واجباته نحو الأمة ولا الفائدة من الاجتماع بمجلس المبعوثين.

تسلم حزب الاتحاد والترقي الحكومة في ذلك الوقت وبدأ في أعماله واصلاحاته بهمة لا تعرف الكلل ولا الملل.

كان أول ما ابتدأ في تنفيذه من الوسائل النافعة تعميم المساواة بين أفراد الأمة بوضعهم جميعاً في مستوى واحد إمام قانون واحد.

ولقد وفقت الحكومة لجمع الأسلحة من الأشقياء الذين يلجأون إلى الجبال في الروم ايلي. فأثار أولئك من أجل ذلك ثورات جديدة قاومتها الحكومة وأخمدتها، فعادت السكينة في انجاء الدولة العليا وعمَّ الأمن وانتشرت الطمأنينة.



الاصلاحات المالية

قبض حزب الاتحاد والترقي على ادارة الحكومة العثمانية والخزانة خاوية على عروشها فبدأ في إصلاحها، وتمكن من وضع ميزاني لمالية الحكومة العثمانية فكانت عبارة عن خمسة وعشرين مليوناً واردات وثلاثين مليوناً مصروفات. وكانت قد تراكمت الديون من جهة ولم تحصل الضرائب منذ سنين من جهة أخرى. فلما وضعت الميزانية المذكورة لم يكن أحد يعتقد إمكان تحصيل 25 مليوناً من بلاد الدولة، ولكن كان المتحصل عقب اعلان الدستور لأول مرة 26 مليوناً ونصفاً سنة 1910.

وفي سنة 1911 بلغ المتحصل ثلاثين مليوناً.

ولقد زادت واردات جميع مصالح الحكومة، وبالجملة فان المواد الأساسية لايرادات الحكومة نمت وازدادت إلى درجة كبيرة.

وكانت ايرادات الجمارك سنة 1910 ثلاثة ملايين ونصفاً فوصلت إلى خمسة ملايين سنة 1911 وكانت واردات العشور سنة 1910 ستة ملايين فأصبحت سبعة ملايين ونصفاً.

وبالجملة فإن حزب الاتحاد قد عرف أدواءالأمة وعلاجها فنجح في تقليل الهجرة وعدد المهاجرين في الروم ايلي وقلل من العثور في الأناضول، وقصارى القول إن الحزب قد نجح في مداواة هذه الأمراض نجاحاً باهراً.

ولقد وزع حزب الاتحاد المبالغ الجسيمة على سكان الجزيرة والموصل والاناضول لاحياء أراضيهم وتعميم الزراعة بينهم بعد الموات.

فلا عجب إذا ابتهج المسلمون في شرق الأرض وغربها بارتقاء جلالة مولانا السلطان الاعظم محمد الخامس عرش الخلافة العثمانية.

ولم يمضِ على جلوس محمد رشاد على العرش ثلاث سنوات حتى اعتدت إيطاليا سنة 1911، بتحريض من الدول المسيحية وبالاتفاق معها وبمعاونتها، على طرابلس الغرب - ليبيا - وانتزعتها منها بعد حرب دامت سنة بذلت فيها الدولة كل جهد وطاقة ومال ورجال حتى لم يبق ما تبذله، ثم جاءت حرب البلقان التي تولى كبرها كل من الصرب والبلغار والرومان مدفوعين بأيدي الدول الغربية المسيحية عامة وروسيا، التي كانت ولا تزال عدوة الإسلام والمسلمين، خاصة. ثم جاءت ثالثة الاسافي واعني بها الحرب العالمية الأولى التي اضطرت الدولة العثمانية على خوضها مرغمة.

وعلى الرغم من أن كفة الدولة العثمانية وحلفائها، المانيا والنمسا والبلغار، لم تكن لتعادل كفة الانكليز والافرنسيين والطليان والروس، في بادئ الأمر، ثم الولايات المتحدة، بعد ذلك، فقد استطاع العثمانيون أن يقاوموا أربع سنوات هلك فيها الزرع والضرع، فقد رأيت الجندي التركي يحارب وهو جوعان وعريان والأمراض تفتك به ولكنه كان يحارب بقوة الإيمان وباسم الاسلام ولذا فقد كانت كل المصائب تهون لديه. ولكن كان لا بد لهذه المأساة، التي رصد لها الغرب كل امكاناته، من نهاية فخرت الدولة صريعة سنة 1918 واستسلمت لاعدائها تحت ضربات حقدهم. ولولا استسلام البلغار أولاً والنمسا بعد ذلك لما حصل ما حصل ولكنها إرادة الله.

لقد كان من حظ محمد رشاد الا يشهد مأتم سلطنته لأنه مات قبل الاستسلام بشهور ولكني اعتقد أنه كان يقدر حدوث هذه المأساة، لأن البلاد كانت على شفا جرف وعلى وشك الانهيار من كل جانب ونتائج مثل هذه الحال لم تكن لتخفى على محمد رشاد لاسيما وقد بلغني انه كان عالماً بالتاريخ.



أواخر سلاطين بني عثمان

يوسف عز الدين

كانت ولاية العهد بعد محمد رشاد للأمير يوسف عز الدين، لأن ولاية العهد في الدولة العثمانية كانت من حق أكبر أفراد الأسرة المالكة سناً، بعد الجالس على العرش وليس من حق أكبر أولاد الجالس على العرش.

وكان يوسف عز الدين شخصية محبوبة من جميع الأوساط، وكان الناس يرجون منه الخير للبلاد، على الرغم من أنهم لم يروا منه خيراً ولا شراً، ولم يكن أولياء العهد يتدخلون في الأمور السياسية ولكنه كان محبوباً، ولعله كان من سوء حظ البلاد والعباد أن مات سنة 1916 وقد قيل، آنذاك، أنه مات مسموماً قتله الاتحاديون لأنه لم يكن يرى رأيهم ولا يوافقهم على سياستهم، وأشيع أنه مات منتحراً إثر نوبة جنون أصابته كالتي أصابت أباه عبد العزيز فانتحر.



محمد وحيد الدين السادس بن مراد

1916 - 1992

بعد وفاة يوسف عز الدين صارت ولاية العهد إلى الأمير وحيد الدين فخلف أخاه محمد رشاد على العرش باسم محمد السادس ولم تمضِ على خلافته بضعة شهور حتى استسلمت الدولة العثمانية واستولت جيوش الأعداء على كل البلاد من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، ولم يسلم من أيديهم وتعدياتهم إلا شرق الاناضول لأن روسيا كانت قد انسحبت من الحرب سنة 1917 بعد أن فرضت عليها الشيوعية ولذا فإنها لم تستطع أن تحرك ساكناً لتستولي على شرق الاناضول ولولا ذلك لما بقي بلد من بلاد الدولة العثمانية لم يدخل في حوزة اعدائها.

أراد وحيد الدين أن ينقذ ما يمكن انقاذه من البلاد فاستعان بمصطفى كمال وعهد إليه بإنقاذ البلاد كما سنرى ذلك مفصلاً، ولكنه وضع ثقته في غير موضعها، فلما رأى أن مصطفى كمال أخذ يعمل لحسابه الخاص وليس لحساب الدولة، ورأى أن الأمور تسير على غير ما كان يرجو تنازل عن العرش سنة 1922 واعتزل الحياة السياسية ومات سنة 1926 وأوصى أن يدفن في دمشق في تكية السلطان سليم حيث يوجد قبور لكثير من آل عثمان.



عبد المجيد بن عبد العزيز

واعتلى عرش السلطنة العثمانية، بعد تنازل السلطان محمد وحيد الدين، ولي العهد الذي اصبح السلطان عبد المجيد وبعد أن أصبح مصطفى كمال سيد الموقف جرد السلطان من السلطة الزمنية وجعله خليفة، أي أشبه بشيخ إسلام ولكن من غير سلطة روحية أيضاً. ثم ألغى الخلافة سنة 1924 وطرد عبد المجيد فذهب ليعيش في منفاه في مدينة نيس الأفرنسية على الشاطئ اللازوردي.

وبإلغاء الخلافة قضى مصطفى كمال على امبراطورية عظيمة كانت ملء عين الزمان وسمعه، وقتل أمجاداً، وقضى على ثقافة، ونحر أقواماً طالما ازهقوا أرواحاً بريئة صادقة في بناء هذه الامبراطورية، وطالما أراقوا دماءً زكية في سبيل إعلاء مجد الإسلام وكلمته.



خَاتِمَة الدَولةِ العُثمانيّة

بعد جهاد وجلاد شاقين، في الداخل والخارج، استمرا ستة قرون متوالية كانت خاتمة المطاف الحرب العالمية الأولى، التي دامت اربع سنوات ونيف، امتدت من سنة 1914 إلى سنة 1918، وثبت فيها العثمانيون، أمام أعدائهم، ثبوت الجبال ودافعوا عن دينهم ووطنهم وكرامتهم دفاع الأبطال. انتهت تلك الحرب بمأساة مفجعة اذ استيقظ المسلمون كلهم على كابوس مزعج انطوى على أعظم فاجعة أصيبوا بها وأكبر مصيبة نزلت بهم، منذ ظهور الإسلام والى تلك الساعة، فقصمت ظهورهم وكبلتهم بحبلي الخيبة والخسران، إذ رأوا بنيان دولة الخلافة ينهار كما تنهار بيوت الكرتون، لا بل وقد أصبحت هذه الدولة ذات العز الباذخ والشأن الرفيع الشامخ، التي كانت ملء عين الزمان وسمعه، أثراً بعد عين وكأنها لم تغن بالأمس واصبحت أرضها موطناً لاعدائها أو موطئاً لاقدامهم.

لقد كانت الصفعة قاسية جداً وأليمة جداً لأنها لم تكن مرتقبة ولا محسوبة فنحن كنا نعلم أننا في حرب مع أعداء أقوياء، وكنا نقدر الربح والخسارة ونحسب حسابهما ولكننا لم نكن نقدر الخسارة وحدها لا سيما بعد أن رأينا الدولة تقف في وجه الأعداء أربع سنوات وتكاد لا تتزحزح عن أماكنها في جميع الجبهات ثم نراها تنهار وتخر، في بضعة شهور، وكأن عاصفة اقتلعتها من جذورها أو فيضاناً طفا عليها فجرفها. إننا نحن الذين شهدوا تلك المأساة ندرك أبعادها إدراكاً تاماً ونشعر بالآمها ولا نستطيع التعبير عنها باللسان ولا بالقلم لأنها أكبر وأعظم من أن توصف.

كان من البديهي بعد أن اندحرت الدولة في ميادين الحرب أن تستقيل الوزارة العثمانية القائمة، وزارة الاتحاد والترقي، التي كان يرأسها طلعت باشا وتألفت وزارة جديدة برئاسة أحمد عزة باشا الأرناؤوط وأرسلت هذه الوزارة وفداً وزارياً الى مدينة مودروس في جزيرة ليمنوس، الكائنة في بحر يجه، بين البرّين التركي واليوناني، لمفاوضة الانكليز على شروط الهدنة، وهي لم تكن هدنة بالمعنى الصحيح بل كانت إملاءً واستسلاماً. وكان هذا الوفد برئاسة وزير البحرية، رؤوف بك بطل الدارعة الحميدية المشهور.

وبعدما اندحرت الدولة في الحرب رأى حكامها، زعماء حزب الاتحاد والترقي، أنهم خسروا المعركة نهائياً وأنه لا سبيل للمكابرة بل لا بد لهم من أن ينهجوا نهجاً جديداً وان الخطوة الأولى هي أن يتواروا عن الأنظار، فعقدوا اجتماعاً قرر فيه ثمانية منهم مغادرة البلاد على اعتبار أنهم هم المسئولون الأوائل عن الحرب وعما أصاب الدولة من انهيار وانهم إذا سلموا من أيدي أعدائهم فقد لا يسلمون من أيدي أبناء البلاد أنفسهم لأن الناس في مثل هذه الحالات يحكمون بالعواطف وتسيطر عليهم الغوغائية. وهؤلاء الثمانية هم : طلعة باشا رئيس الوزارة، انور باشا وزير الحربية، احمد جمال باشا وزير البحرية وقائد الحملة العثمانية على الجبهة المصرية والحاكم بأمره في سوريا الكبرى الممتدة من جبال طوروس الى قناة السويس، عزمي بك والي بيروت، بدري بك مدير شرطة استانبول، الدكتور ناظم بك والدكتور بهاء الدين بك من كبار رجالات الحزب ومدحت باشا أمين سر حزب الاتحاد والترقي. غير أن هذا الأخير وافق على مغادرة البلاد مسايرة لصديقه طلعة باشا ولكنه لم يكن، في قرارة نفسه، راغباً بهذه الهجرة.

فلما رأى طلعة باشا أن مدحت بك لا يرغب بالهجرة إلا مسايرة له قال له : إذا كنت لا ترغب بمغادرة البلاد فابق حيث أنت وأنا راض عنك فبقي وركب السبعة المذكورون، في أوائل نوفمبر 1918، سفينة حربية المانية حملتهم الى جزيرة القرم التي كانت تحت السيطرة الالمانية، آنذاك، وهناك استقبلتهم السلطات الألمانية بالترحاب ووضعت تحت تصرفهم قطاراً يحملهم الى برلين التي اختاروها داراً لهجرتهم.

وكان هؤلاء الفارون، منذ أن غادروا استانبول، يتحدثون فيما بينهم بما يجب عليهم فعله، فكان طلعة باشا يرى أن حياتهم السياسة قد انتهت وأن المنطق يقضي عليهم بأن يعتزلوا السياسة ويعيشوا في عالم المجهول فقد عملوا ما فيه الكفاية واخطأوا من حيث أرادوا الخير والصواب، وكان من رفاقه، ولا سيما المدنيين، من يرون رأيه وأما العسكريون وخاصة أنور باشا الذي كان مملؤاً شباباً وحماسة فإنه كان يرى غير ذلك ويفضل أن يغتنم ما بين روسيا والدول الغربية من عداء وأن يستثمر هذا العداء ويستمر في القتال حتى تستطيع الدولة العثمانية أن تحتفظ بأكبر جزء ممكن من البلاد وأن تعقد صلحاً مشرفاً مع الأعداء.

ولما لم ير استعداداً من رفاقه للسير في خطته فر خلسة من القطار، وهم في طريقهم الى برلين، وذهب الى القفقاس حيث كان أخوه نوري بك يقاتل الروس، وكان يأمل إثارة مسلمي داغستان واذربيجان وأن يقيم إمارة اسلامية في تلك الربوع. وبعد أن درس الوضع هناك إلى موسكو فاستقبله الروس استقبالاً حسناً وانزلوه قصراً فخماً واتفق معهم على محاربة الانكليز وحلفائهم ثم لحق به كل من أحمد جمال باش وبدري بك ولكنهما عادا إلى برلين. وجاء هو مرتين إلى برلين ليقنع رفاقه بالتعاون مع الروس ولكنهم أبوا ونصحوه باجتناب الشيوعيين لأنهم خداعون غدارون ولكنه لم يسمع لهم، ولعله كان يعلم علمهم ولكنه لم يكن يرى غير هذا الطريق يسلكه.

أدرك أنور باشا بعد أن اختلط بالروس أنهم يخدعونه وأن الهوة بينه وبينهم عميقة جداً، فهو يريد أن يعيد إلى تركيا شأنها وإسلامها وهم يريدون أن يقضوا على هذه الدولة التي أزعجتهم كثيراً أو أن يبعدوها عن الإسلام على أقل تقدير وأنهم باستضافته والمفاوضة معه إنما ارادوا حجره في روسيا لكي لا يزعج خطط مصطفى كمال الذي كان على اتفاق معهم واشترط عليهم الاّ يمدوا أنور باشا بالسلاح. وكان الروس يدركون من ماضي الرجلين أن مصلحتهم مع مصطفى كمال وليست أنور باشا لا سيما وأن الانكليز أيضاً كانوا يؤيدون مصطفى كمال.

بعد أن استيقن أنور باشا أن صداقة الروس كانت خداعاً وملقاً وأنه وقع في شركهم، رأى من العار أن يعود خاسئاً ويستجدي الحياة استجداء وصمم على أن يستمر في خطته حتى ينال احدى الحسنيين فإما النصر وإما لقاء الله. فكتب رسالة إلى جمال عزمي بك وإلى طرابزون السابق وهو غير عزمي بك والي بيروت، يوصيه بزوجته ودخل بخارى يسانده الحزب الاميري فيها وبطش بدعاة الشيوعية وأعوانها ولا سيما بحزب (مجددي) الشيوعي وحارب الروس وانتصر عليهم في معارك كثيرة تناقلت الأنباء العالمية أخبارها. فلما رأى الروس ذلك ورأوا أن الحماسة قد اشتدت ضدهم وأن العاقبة قد تكون وخيمة عليهم إذا تهاونوا بالأمر، جمعوا جيوشاً كبيرة لمقاومة هذه الثورة الجائحة التي لو كتب لها النجاح لكانت قضت على الامبراطورية الروسية وأرجعتها إلى حجمها الحقيقي وهو إمارة موسكو. وحدث، في 4 أوغست 1922 أنه بينما كان أنور باشا في قرية بالجوال شرقي بخارى وقد تفرق عنه الجند بسبب عيد الأضحى، أن هاجمه الروس بأعداد كبيرة فخرج إليهم بنفسه وظل يقاتلهم حتى قتل.

لقد مات أنور باشا ميتة شريفة تليق برجل مثله ولم يشأ أن يعيش عالة على أحد على الرغم من أن ملك الأفغان، امان الله خان، دعاه مرات كثيرة مع الرجاء والالحاح بأن يأتي إليه لينظم له جيشه ووعده بأن يجد عنده كل ترحيب وتكريم ولكنه اعتذر عن القبول وفضل هذه النتيجة الشريفة على حياة الاستجداء.

أما أحمد جمال باشا فقد استجاب لدعوة أمان الله خان وذهب إلى افغانستان وأخذ يعمل في تنظيم جيشها وجاء إلى موسكو فاحتجزه الروس بشكل لطيف لأنهم لم يكونوا يريدون لأفغانستان نهضة ووعياً، ولكنه استطاع أن ينجو منهم بلباقة إذ أنه ابدى استعداده للذهاب إلى تركيا لاستمالة الناس إلى جانبهم فسمحوا له بالذهاب عن طريق القفقاس، ولما كان في تفليس تصدى له شخص من الأرمن فقتله ويقال بأن الروس هم الذين دبروا اغتياله لكي يتخلصوا منه إذ أنهم لم ينخدعوا بوعده. وقتل الأرمن طلعة باشا في برلين كما قتلوا غيره من رجالات حزب الاتحاد والترقي المسئولين عما أصاب الأرمن، زمن الحرب، من قتل وتشريد.

كانت هذه صفحة من صفحات العهد العثماني ولكنها لم تكن آخرها ولا كانت أقواها صدمة على نفوس المسلمين لأن الناس كانوا قد نسوا رجال العهد العثماني وعلقوا آمالهم بالحركة الكمالية التي كانوا يعتقدون أنها ستعيد إليهم الشيء الكبير من آمالهم. فماذا كان ؟










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-18, 16:42   رقم المشاركة : 95
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 تابع

هل الاتحاديون هم الذين أضاعوا البلاد ؟

يتهم كثير من الناس جماعة حزب الاتحاد والترقي بأنهم هم الذين أضاعوا البلاد وقضوا على السلطنة العثمانية وهدموا هذا البناء الإسلامي الشامخ. وعلى الرغم من أن الاتحاديين قد ارتكبوا كثيراً من الأخطاء وعلى الرغم من أن الدولة العثمانية زالت إبان حكمهم فإن الإنصاف يقتضيا أن نقول :

إن الاتحاديين كانوا ثوريين متوثبين يريدون الخير لبلادهم إلا أنهم كانوا مثل كل الشبان متحمسين لغايتهم فأخطأوا الصواب أو أنهم استعجلوا الخير فوقعوا في الشر. لم يكن الاتحاديون هم الذين أضاعوا البلاد بل قد استلموا البلاد وهي في حالة احتضار وكان موتها وشيكاً لا بل كان يجب أن تكون قد ماتت قبل قرن من الزمن أو على أقل تقدير قبل أن يتسلم السلطان عبد الحميد الثاني مقاليد الحكم، وكل ما كانوا يستطيعون فعله هو أن يدفعوا عنها هذه النتيجة المؤلمة لو كانوا أهل خبرة ورأي وحكمة ولم يكونوا أهل حماسة وغرور، لقد كان باستطاعة الاتحاديين أن ينفخوا في البلاد روحاً جديداً لو كان لديهم الحنكة والادارة وأن يعمدوا إلى اللامركزية فيعطوا العرب والأرمن والأكراد وحتى لبنان استقلالاً داخلياً، ولو فعلوا ذلك لكانوا صفعوا كل الأجانب وقضوا على دسائسهم، لا بل لقد كان بالامكان إعطاء كل بلد عربي استقلالاً على حدة كما هو حاصل اليوم، ولو فعلوا ذل لما وجدوا من يجرؤ على طلب الانفصال والاستقلال التام. ولو وقع هذا لكان خيراً مما أصيبت به الدولة من زوال لأن الاتحاديين لم يكونوا يجهلون بأن الغرب كان مقرراً إزالة الدولة العثمانية واقتسامها فلو فعلوا هم ما كان الغرب يريد فعله لقطعوا الطريق عليه ولأبقوا للدولة كيانها ولكنهم ساروا بالعاطفة وبحماسة الشبان وعمدوا إلى القوة والبطش فضاعوا وأضاعوا البلاد. وآفة الشباب الغرور.

لقد تسلم الاتحاديون البلاد وليس فيها شيء سليم : الأعداء متربصون لها من كل جانب، وأجزاء البلاد تنسلخ عنها جزءاً بعد جزء وما لم يكن قد انسلخ كانت البرامج موضوعة لسلخه مثل طرابلس الغرب والبلقان. والبلاد تئن تحت وطأة الديون، والدولة عاجزة عن أن تفرض هيبتها على كثير من أجزاء البلاد. فالجزيرة العربية بأقسامها الثلاثة : اليمن والحجاز ونجد تكاد تكون شبه مستقلة وعُمان وعدن والسلطنات والكويت يسيطر عليها الانكليز سيطرة فعلية وإن كانت اسماً تابعة للدولة، والعراق في حالة اضطراب مستمر ومصر مستقلة فعلاً وسوريا ولبنان في قلق دائم والدسائس الغربية تستهوي شبان البلاد فماذا يستطيع الاتحاديون أن يفعلوا تجاه كل هذه العقبات ؟

الشيء الوحيد الذي كانوا يستطيعون أن يفعلوه هو أن يعطوا بأيديهم وبرضاهم ما كان مقرراً أن يؤخذ منهم غصباً ولو فعلوا لكانوا كسبوا صداقة هذه الأقوام التي يظل لهم بها ارتباط اسمي. ولكن الاتحاديين اختاروا طريق العنف والشدة فخسروا المعركة وكان من المعلوم انهم سيخسرونها.

وبالتالي فإن الاتحاديين لم يضيعوا البلاد بل استلموها وهي ضائعة من سوء حظهم أن كانت تصفية هذه الشركة المفلسة على أيديهم، وكان ذلك نتيجة طبيعية لما كانت عليه البلاد من سوء حال.

إننا لا نستطيع أن نتهم الاتحاديين بأنهم كانوا يريدون تخريب البلاد إذ ليس من المعقول أن يهدم المرء بيته، ولكننا نتهمهم بأنهم لم يكونوا رجال سياسة يستطيعون أن يقفوا أمام دهاء دول الغرب ومؤآمراتها فخدعوا وساروا بغير الطريق التي كان يجب عليهم أن يسيروا فيها فأخطأوا.



ما هي الأسباب التي أدّت إلى انهيار الدولة العثمانية ؟

يجب علينا أن نبحث عن الأسباب التي أدّت إلى زوال الدولة العثمانية بعد أن سيطرت على العالم بضعة قرون كانت فيها ملء عين الزمان وسمعه لا بل كانت فمه القائل ويده الباطشة ولسانه الناطق.

وترجع هذه الأسباب إلى:

1-زواج السلاطين بالاجنبيات وتسلط هؤلاء الاجنبيات على عواطف أزواجهن وتصريفهم في سياسة بلادهن الأصلية وتحكمهن بمقدرات الدولة. فكم من الملوك قتلوا أولادهم أو إخوانهم بدسائس زوجاتهم وارتكبوا أعمالاً تضر بمصلحتهم إرضاء لزوجاتهم.

2-تعدد الزوجات والمحظيات اللواتي كان الأجانب والحكام يقدمونهن هدية للسلطان كأنهن السلع أو التحف واللواتي كان السلاطين إذا رأوا كثرتهن في قصورهم يهدونهن أحياناً إلى قادتهم أو خواصهم على سبيل التكريم. وكان من البديهي أن يحصل بين أولاد الأمهات وأمهات الأولاد. وسواءً أكانت الامهات زوجات أو محظيات، تحاسد وتباغض يؤديان إلى قتل السلاطين أولادهم وإخوانهم وإلى أمور غير معقولة ومقبولة عقلاً وشرعاً.

3-تفكك روابط الأسرة السلطانية بسبب كثرة النساء حتى أصبحت عادة قتل السلطان إخوانه أو أولاده، يوم يتولى العرش، أمراً معروفاً ومألوفاً. وكأنه يضحي بخراف احتفاء بهذا اليوم من غير أن يشعر بوخز ضمير أو لسعة ألم.

ولذا فقد كان أفراد الأسرة السلطانية يعيشون في خوف مستمر ويتربص بعضهم بالبعض الآخر الدوائر ولا يبالون بأن يشقوا عصا الطاعة في وجه السلطان سواء أكان أخاً أم أباً أم ابناً وذلك ليس حباً بالسيطرة فقط بل لانقاذ أعناقهم أحياناً من الغدر.

4-تدخل نساء القصر بالسياسة وشفاعتهن لدى أزواجهن السلاطين برفع الخدم إلى منصب الوزارة أو إيصال المتزلفين إلى مراتب الحل والعقد، كرئاسة الوزارة وقيادة الجيش. وفي كثير من الأحيان لا يكون لهؤلاء الرجال ميزة يمتازون الا تجسسهم لحسابهن.

5-بقاء أولياء العهد مسجونين في دور الحريم فلا يرون من الدنيا شيئاً ولا يعلمون شيئاً، وكثيراً ما كانوا لا يتعلمون شيئاً أيضاً لأنهم لم يكونوا يدرون إلى ما سيصيرون فإما أنهم يذهبون ضحية مؤآمرة قبل أن يصلوا إلى العرش وإما أنهم يصلون إلى العرش لكي يجدوا فئة من الناس تسيطر عليهم وتتحكم بهم أو يسحبون عن العرش ويقتلون أو تسيرهم نساء القصر أو يسيرهم جهلهم. وتسليم أمور الدولة إلى غير الأكفاء من الناس إذ كان طباخ القصر وبستانه وحطّابه والخصي والخادم يصلون إلى رتبة رئاسة الوزارة أو القيادة العامة للجيش. فماذا ينتظر من جاهل أن يفعل.

6-احتجاب السلاطين وعدم ممارستهم السلطة بأنفسهم والاتكال على وزراء جهال. فقد كان سلاطين آل عثمان حتى السلطان سليم الأول يتولون قيادة الجيش بأنفسهم، فيبعثون الحماسة والحمية في صدور الجنود، ثم صار السلاطين يعهدون بالقيادة إلى ضباط فصار الجنود يتقاعسون تبعاً للمثل القائل "الناس على دين ملوكهم".

7-تبذير الملوك حتى بلغت نفقات القصور الملكية في بعض الأحيان ثلث واردات الدولة.

8-خيانة الوزراء، إذ أن كثيراً من الأجانب المسيحيين كانوا يتظاهرون بالإسلام ويدخلون في خدمة السلطان ويرتقون بالدسائس والتجسس حتى يصلوا إلى أعلى المراتب، وقد أبدى السلطان عبد الحميد استغرابه من وفرة الأجانب الذين تقدموا إلى القصر يطلبون عملاً فيه حتى ولو بصفة خصيان وقال : لقد وصلني في أسبوع واحد ثلاث رسائل بلغة رقيقة يطلب أصحابها عملاً في القصر حتى ولو حراساً للحريم،وكانت الرسالة الأولى من موسيقي افرنسي والثانية من كيمائي ألماني والثالثة من تاجر سكسوني. وعلق السلطان على ذلك بقوله : من العجب أن يتخلى هؤلاء عن دينهم وعن رجولتهم في سبيل خدمة الحريم. فهؤلاء وأمثالهم كانوا يصلون إلى رئاسة الوزارة، ولذا فقد قال خالد بك مبعوث أنقره في المجلس العثماني بهذا الصدد : لو رجعنا إلى البحث عن أصول الذين تولوا الحكم في الدولة العثمانية وارتكبوا السيئات والمظالم باسم الشعب التركي لوجدنا تسعين في المئة منهم ليسوا أتراكاً.

9-غرق السلاطين والأمراء في الترف والملذات.

10-الحروب الصليبية التي شنت على الدولة والتي لم تنقطع منذ ظهورها إلى يوم انهيارها.

11-الامتيازات التي كانت تمنح للأجانب اعتباطاً بسخاء وكرم لا مبرر لهما بل كانت تمثل التفريط بحق الوطن في أقبح صوره، فقد منحت الدولة العثمانية، وهي في أوج عظمتها وسلطانها، امتيازات لدول أجنبية جعلتها شبه شريكة معها في حكم البلاد. ولا أرى سبباً لهذا الاستهتار إلا الجهل وعدم تقدير الأمور قدرها الحقيقي وتقدير قوة ودهاء الدول التي منحت هذه الامتيازات والعاقل لا يستهين بعدوه مهما كان صغيراً وضعيفاً.

12-الغرور الذي أصاب سلاطين بني عثمان الذين فتحت لهم الأرض أبوابها على مصراعيها يلجونها كما يشاؤون. وإن من يقرأ كتاب الملك سليمان القانوني إلى ملك فرنسا لا يجد فيه ما يشبه كتاب ملك إلى ملك أو امبراطور عظيم إلى ملك صغير أو حتى إلى أمير، بل يجده وكأنه كتاب سيد إلى مسود. ومن يطالع صيغ المعاهدات، في أوج عظمة الدولة، وما كان يضفى فيها على سلاطين بني عثمان من ألقاب يكادون يشاركون بها الله تعالى في صفاته بينما تكون ألقاب الاباطرة والملوك عادية، أقول إن من يطالع صيغ هذه المعاهدات يدرك إلى أي حد بلغ بهؤلاء السلاطين الجهل والغرور.

13-إدخال الدين في كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة والسير بعكس ما يأمر به الدين، باسم الدين، حتى أصبح الدين ألعوبة في أيدي قبضة من الجهال يحللون ويحرمون على هواهم، ومثال ذلك إدخال أمر تغيير اللباس في نطاق الدين ثم لما أراد أحدهم إنشاء مطبعة في استانبول ووجد معارضة من قبل علماء الدين لجأ إلى السلطان وإلى حاشيته يطلب إليهم أن يقنعوا هؤلاء الجهال بفائدة المطابع فأمر السلطان شيخ الاسلام بأن يفتي بأن المطبعة نعمة من نعم الله وليست رجساً من عمل الشيطان كما أفتى العلماء من قبل فافتى شيخ الاسلام بجواز إنشاء مطبعة شريطة ألا تطبع القرآن الكريم ولا كتب ا لتفسير والحديث والفقه. وقد أنشئت أول مطبعة في استانبول سنة 1712 أي بعد أن كان قد مضى على اختراع المطبعة ما يزيد على قرنين نصف القرن وبعد أن أنشأت فرنسا المطبعة الوطنية بنحو قرنين.

هذه الأسباب التي قضت على الدولة العثمانية وأنزلتها من شامخ عزها إلى حضيض المذلة والهوان. وإن من يدرس، بإمعان نظر، كل سبب من هذه الأسباب المذكورة آنفاً ويرى مدى تأثيره الواسع في المحيط الدولي لا يعجب من انهيار هذه الدولة العظيمة تحت سياط هذه الضربات بل يعجب كيف استطاعت أن تعيش ست مئة سنة وهي تتحمل هذه الضربات القاسية التي نزلت بها والتي لو نزلتعلى جبل لصدعته، ولكنها عاشت بفضل اختلاف اعدائها على تقسيمها فيما بينهم وبفضل أيمان أهلها وتمسكهم إلى حد بالإسلام. ومن المؤسف المحزن أن يهدم أبناء أولئك المؤمنين بتنكرهم للدين وبتخاذلهم ما بناه آباؤهم وأجدادهم بجدهم وجهدهم وربما قدموه من تضحيات بالدماء والأرواح.

هل كان العثمانيون مستعمرين ؟

من الأمور التي أراد الغرب أن يوقروها في نفوسنا هو أن العثمانيين كانوا مستعمرين، وفي كل بلد حلها الغربيون المستعمرون أعلنوا أهلها أنهم إنما أتوا إليهم لإنقاذهم من المستعمر العثماني. فحينما دخل الافرنسيون الجزائر أعلن قائد الحملة أنه جاء لانقاذ الجزائر من الاستعمار وكانت النتيجة أنهم قضوا على استقلال الجزائر واستعمروها 130 سنة أسوأ استعمار، ولما دخل نابليون مصر أعلن أنه جاء لإنقاذ المصريين من استعمار المماليك، ولما استولى المستعمرون على بلاد الدولة العثمانية أخذوا يوقرون في نفوس أهل البلاد أن الدولة العثمانية كانت في بلاد العرب مستعمرة وسار الأطفال الذين تلقوا هذه الدروس عن المستعمرين والمغرضين والحاقدين على النهج وصدقوا هذا القول ولا يزال إلى يومنا هذا يوجد أناس يسمون الحكم العثماني في بلاد العرب استعماراً.

وإذا كان العهد العثماني قد مضى وانقضى فإن واجب الإنصاف يقتضينا أن نزيل من الأذهان هذه التهمة المغرضة التي أراد أعداء الإسلام تثبيتها في نفوس الناشئة لكي يباعدوا بنيهم وبين الأمة التركية المسلمة.

فالعثمانيون لم يكونوا إخواناً للعرب ومساوين لهم في الحقوق والواجبات بل العالم كله يعرف أن تسامح الدولة العثمانية مع العناصر الغربية، عنصراً وقومية وديناً، قد بلغ حداً لم يبلغه أي قوم في العالم. فالعثمانيون مسلمون والمسلمون لا يفرقون بين أبيض وأسود ولا بين عربي وتركي ولا بين مسلم وغير مسلم في المعاملة.

فإذا صح أن نقول بأن العثمانيين كانوا مستعمرين في بلاد العرب يصح أن نقول الأمويين مستعمرين في سوريا والعباسيين مستعمرين في العراق والفاطميين مستعمرين في الشمال الإفريقي والأيوبيين مستعمرين في مصر وسوريا وهلم جرا. وإذا كان هذا باطلاً بالبديهة كان القول بالاستعمار التركي باطلاً أيضاً. فالأتراك كانوا مسلمين والمسلم أخو المسلم أينما كان هذا بالاضافة إلى أن العرب كانوا شركاء الأتراك في الحكم فكان منا الوزراء ومنا الولاة ومنا القادة ولم يكن ما يفرق بيننا وبين التركي، لا بل كانت اللغة العربية هي اللغة الرسمية المستعملة في البلاد العربية في القضاء والادارة إلا ما كان منها ذا علاقة ببلاد الأتراك. وإذا كان الأتراك لم يفرقوا بين تركي وبين العربي والبلغاري والروماني واليوناني وغيرهم وكانوا يولونهم الوزارات والإمارات وهم على دينهم أحياناً أو بعد إسلامهم في بعض الأحيان فكيف يصح أن نقول بأن العثمانيين كانوا مستعمرين؟‍‍.

هل كان عبد الحميد مستبداً ؟

إنه كان ملكاً مثل غيره من الملوك في زمانه، ولكنه يمتاز على غيره بالدهاء وبعد النظر والصلاح. فعبد الحميد لم يكن ملكاً ديمقراطياً مثل ملك انكلترا أو السويد مثلاً بل كان ملكاً أوتوقراطياً يملك ويحكم وإذا كان قد ظهر منه شيء من الاستبداد فتلك كانت شيمة الملوك في ذاك الزمان، وتلك كانت مقتضيات الحكم في دولة تنهشها الذئاب من كل جانب، بيد أننا لو قسنا استبداد عبد الحميد باستبداد بعض حكام اليوم الذين لا يزيدون عن شيوخ قرى بالنسبة إليه نجد استبداده رحمة وحناناً بالنسبة إلى مظالمهم.

ولكي نأخذ فكرة سليمة عن السلطان عبد الحميد ننقل فيما يلي ما قاله زعيم الإسلام المغفور له جمال الدين الأفغاني مما ذكره المخزومي في كتاب: خاطرات جمال الدين الأفغاني، فهي فصل الخطاب قال :

"ان السلطان عبد الحميد لو وزن أربعة من نوابغ هذا العصر لرجحهم ذكاءً ودهاءً وسياسة. فلا عجب إذا رأيناه يذلل ما يقام لملكه من الصعاب من دول الغرب. إنه يعلم دقائق الأمور السياسية ومرامي الدول الغربية. وهي معد لكل هوة تطرأ على الملك مخرجاً وسلماً. وأعظم ما أدهشني ما أعده من خفيّ المسائل وأمضى العوامل كي لا تتفق أوروبا على أمر خطير في الممالك العثمانية. كان يريها عياناً محسوساً أن تجزئة السلطنة العثمانية لا يمكن أن تتم إلا بخراب الممالك الأوروبية بأسرها، وكلما حاولت دول البلقان الخروج على الدولة بحرب كان السلطان يسارع بدهائه العجيب لحل عقد ما ربطوه وتفريق ما جمعوه".

وإذا كنا لا نستطيع أن ندعي أن عهد عبد الحميد كان ديمقراطياً، فإننا لا نستطيع أن نتهمه بأنه كان استبدادياً صرفاً بل كان عهداً يساير زمانه ولم يكن أحد يشعر بالحرج في عهد عبد الحميد أو يشتكي الظلم والاستبداد إلا الذين يشتغلون بالسياسة ويتآمرون على الدولة بحسن نية أو سوء نية.



سياسة عبد الحميد الإسلامية

تبوأ عبد الحميد عرش السلطنة والبلاد، كما ذكرنا، في أسوأ حال، فالدول الغربية أصبحت منذ مؤتمر باريس المنعقد في 1856 تتدخل في أمور الدولة بكل حرية. وتنظر هذه الدول إلى الدولة العثمانية نظرتها إلى مريض على فراش الموت يجب البحث في تقسيم تركته، والخزينة في حالة إفلاس وقد بلغت ديونها حتى عام 1875 ثلاث مليارات وثلاثة عشر مليون فرنك ذهبي، وهو مبلغ كبير جداً بالنسبة لذلك الزمن، حتى أن الدول قد أحجمت عن عقد قرض مع السلطنة على الرغم من الفائدة الباهظة التي كانت تتقاضاها إذ كانت تبلغ 25 %، والقوميات ترفع رأسها، والحروب تشب على الدولة وتزيد نفقاتها على عجزها وإفلاسها، ودول الغرب المسيحية تصر على السلطنة لتحقيق الاصلاحات في البلاد ومعنى الاصلاحات ترك الحبل على الغارب للأقوام المسيحية الموجودة في الدولة.

حاول السلطان عبد الحميد حينما تبوأ العرش أن يعمل على إرضاء الغرب فأعلن الدستور الذي يساوي فيه بين العناصر والأقوام وكان شعاره (حرية، أخوة، عدالة، مساواة) أي أنه زاد على الشعار الافرنسي كلمة العدالة التي هي أساس كل شيء ولكنه رأى أن غاية الغرب ليست إعلان المساواة بل غايته القضاء على السلطنة، وما مطالبتها بالمساواة وغيرها إلا حيل لإنهاكها وتفريق شملها. فلما رأى عبد الحميد هذا أدرك أن لا شيء ينقذ السلطنة إلا القوة ولكن من أين له القوة، والقوة تحتاج إلى المال والخزينة مفلسة ؟‍.

إذن لا بد من الاتكال على قوة معنوية هي قوة الإسلام فاهتم بالدعوة إلى الجامعة الإسلامية وقد نجحت سياسته واستطاع أن يحكم البلاد ثلاثاً وثلاثين سنة كانت السلطنة على ضعفها ووهنها والمؤامرات التي تحاك لها في الداخل والخارج محترمة المكانة مرهوبة الجانب. وفي نطاق هذه السياسة قرب إليه كثيراً من رجالات الإسلام مثل جمال الدين الأفغاني والشيخ أبو الهدى الرفاعي من حماة وأحمد عزة العابد من دمشق والشيخ محمد ظافر من الجزائر والشيخ سعيد من حمص والشيخ أحمد أسعد القيصرلي من المدينة المنورة والسيد فضل الله من مليبار بالإضافة إلى فريق من أشراف مكة المكرمة وعلى رأسهم الحسين بن علي وعلي حيدر وعبد الاله باشا وصادق باشا وغيرهم، وأجرى على الجميع مرتبات كما أجرى مرتبات على غيرهم ممن تخلف في بلده وكان له نفوذ إسلامي. لقد فعل ما فعل من قبيل تأليف القلوب ولكنه لم يكن مخدوعاً بأحد بل ينزل كل واحد على قدره، وكان لا يأمن للشريف حسين وحينما أصر الاتحاديون عليه لتعيينه شريفاً على مكة بدل الشريف علي قال لهم : إني أبرأ من تبعة كل ما سيعمله هذا الرجل لأني أعرف حقيقته.

وقد تجاوز عبد الحميد هذه المرحلة من تقريب العناصر غير التركية وعهد إلى كثير من العرب بأعلى المناصب في الدولة منهم احمد عزة باشا العابد الكاتب الثاني في المابين وقد بلغ نفوذه مبلغاً فاق الصدارة، وشفيق بك المؤيد المفوض في الديون العامة وشفيق بك الكوراني رئيس الشرطة، وعرب حقي باشا وسليم بك ملحمة ونجيب بك ملحمة وسليمان البستاني وقد بلغوا كلهم رتبة الوزارة وكلهم من سوريا ولبنان، وطالب باشا النقيب وأحمد باشا الزهير (من أعضاء مجلس شورى الدولة) وهما عراقيان. وكان الفريق محمد باشا والفريق محيي الدين باشا ولدا الأمير عبد القادر الجزائري وفؤاد باشا المصري من مرافقي السلطان. وكان المشير أركان حرب شفيق باشا وأخوه الفريق وهيب باشا من أركان اساتذة المدارس العسكرية والحكومية وهما لبنانيان من قرية المتن. وكان شكري باشا الأيوبي الدمشقي ناظراً للأعمال العسكرية. والدكتور يوسف رامي من قرية فالوغا في لبنان أمير لواء والدكتور الياس مطر من بيروت أستاذاً للتشريح في الكلية الطبية في استانبول. والأستاذ سليم باز من دير القمر بلبنان أستاذاً في كلية الحقوق وغيرهم كثير.

وبالإضافة إلى ذلك فقد اتخذ السلطان عبد الحميد من العرب حرساً خاصاً أنزلهم حول قصره والبسهم عمائم خضر.

ولم يكتف بذلك بل إنه عمد إلى تزويج أميرات البيت المالك من غير الأتراك ورفع أزواجهن إلى رتبة داماد (أي صهر) وهم : الشريف علي حيدر الذي طمع في عهد الانتداب الافرنسي أن يكون ملكاً على سوريا، وصالح بك خير الدين باشا التونسي، وأحمد نامي شركسي الأصل ولبناني الجنسية وقد صار سنة 1926 رئيساً لدولة سوريا.

وكما قرب السلطان العرب إليه فإنه لم يهمل الأقوام المسلمة الأخرى فجمع حوله طائفة من الأكراد والأرناؤوط أمثال إسماعيل باشا الكردي ودرويش باشا الألباني وغيرهما وعني عناية خاصة بتربية الناشئة من أولاد العشائر فأنشأ مدرسة العشائر في استانبول لتوثيق عرى الاخوة بين العشائر ودار الخلافة.

هذا بعض ما فعله السلطان عبد الحميد في سبيل جمع كلمة رعايا الإمبراطورية العثمانية حول مبدأ واحد وهدف وهو الإسلام وهو عمل عظيم، ولكن بقدر ما كانت هذه السياسة ناجحة ومفيدة في تدعيم أركان الدولة فإنها كانت أشبه بناقوس الخطر بالنسبة إلى دول الغرب التي تخشى كلمة الإسلام وتحاربها بكل قواها لأن انتصار الإسلام يعني في نظرها اندحاراً للمسيحية ولذلك فقد عملت على إزالة عبد الحميد أولاً ثم على القضاء على الإمبراطورية بعد ذلك.

الثورة التركية ومصطفى كمال

وكان السلطان محمد وحيد الدين يدرك أن وجود تركيا لازم لدول الغرب لإقامة التوازن بينها وان انكلترا وفرانسا لنتسمحا بالقضاء على تركيا قضاءً مبرماً لأنهما بذلك تفسحان المجال أمام روسيا للاستيلاء على الأناضول وبالتالي على مضيقي البوسفور والدردنيل مفتاحي العالم، بل كان ما تريدانه هو تشذيب أطراف الدولة العثمانية وجعلها دويلة صغيرة مثل دول البلقان وباقي الدول التي كانتا تنويان خلقها في المنطقة على انقاض الدولة العثمانية. واستناداً على هذا التفكير السليم كان السلطان محمد وحيد الدين يعلم بأن استرجاع بعض ما أخذ لا يتم بالهبة بل لا بد من القتال في سبيله لاسترجاعه وبالتالي لا بد من القيام بثورة في البلاد وحيث إن السلطان كان يعرف مصطفى كمال إذ كان مرافقاً له يوم ذهب، وهو ولي عهد، إلى برلين ليقدم للأمبراطور كيوم سيفاً مهدى إليه من السلطان محمد رشاد، فقد اتخذه يوم عاد من الجبهة الفلسطينية مدحوراً مرافقاً له ثم عهد إليه سراً بأن يقوم بثورة في شرق الأناضول حتى يتسنى لرجال السياسة أن يحاوروا ويناوروا أثناء عقد الصلح ليأخذوا أكثر ما يمكن أخذه من الأعداء. وللتغطية على هذه الثورة عن عيون الأعداء عامة والانكليز خاصة الذين كانوا يسيطرون على استانبول، عينه مفتشاً عاماً لجيوش الأناضول بصلاحيات واسعة وزوده بمبلغ عشرين ألف ليرة عثمانية ذهباً، وهو مبلغ ضخم بالنسبة إلى ذاك الزمن وإلى ما كانت عليه خزينة الدولة من عجز وإفلاس. ذهب مصطفى كمال بمهمة معينة لحساب الدولة العثمانية ولكن خان الأمانة وغدر بالسلطان وعمل لحساب نفسه عملاً بالقول المأثور: أرسلته لي خاطباً فتزوج.

وكان السلطان قد عهد لمصطفى كمال بالوظيفة الكبيرة، التي نوهنا بها، وزوده بامتيازات أخرى من المساعدات المالية والمنشورات السرية. وغادر استانبول، في 17 مايو 1919 عن طريق البحر مصطحباً معه عدداً من العسكريين والمدنيين الذين اختارهم لمساعدته ووصل مدينة صامسون في 19 مايو، وبعد أن جمع حوله فلول الجيش والأهلين بدأ ثورته. وهنا يقول صبري أفندي ما معناه:

اطلع الحلفاء المحتلون على ما يرمي إليه السلطان من إرسال مصطفى كمال إلى الأناضول فاحتجوا إلى الوزارة القائمة في استانبول المحتلة مستندين إلى أحكام الهدنة المعقودة في عهد الوزارة السابقة وطالبوها باستدعاء الرجل، وحيث إن الشكايات قد كثرت ضده من الولاة بسبب ما يتمتع به من صلاحيات واسعة فقد دعوناه إلى استانبول بلسان وزير الحربية ولكنه لم يجب. ثم تكرر الاحتجاج من قيادة الاحتلال وتمادت أصوات الشكاية من الولاة إلى وزارة الداخلية وتكررت منا دعوة مصطفى كمال إلى العاصمة واستمر هو في عدم الإجابة، وإزاء ذلك هدد الحلفاء الوزارة بالرجوع إلى الحرب فاضطرت الوزارة إلى إقالته وأنا يومئذ رئيساً للوزارة بالنيابة بسبب غياب رئيس الوزارة فريد باشا في أوروبا لحضور مؤتمر الصلح.

قررت الوزارة إقالة مصطفى كمال من منصبه وعرضت القرار على السلطان محمد وحيد الدين لكنه لم يوافق عليه موصياً بالاكتفاء بدعوته إلى العاصمة والاستمرار في الدعوة ففعلنا، وتمادى المطل من مصطفى كمال والرفض من السلطان بالتوقيع على الاقالة، كما استمر احتجاج الحلفاء إلى الوزارة طالبين البت بالأمر. وأخيراً قررت الوزارة في 8 يوليو 1919 البت بأمر الرجل وذهبت أنا إلى القصر وقابلت السلطان ومكثت في حضرته من المساء حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وهو يماطلني بانتظار الجواب البرقي من مصطفى كمال إذ كان رئيس الديوان يكلمه برقياً من غرفة ثانية في القصر، فلما انقطع الأمل من نزول مصطفى كمال عند طلب الوزارة اضطر السلطان مكرهاً إلى التوقيع على قرار الوزارة بإقالته، فكان جوابه على إبلاغه القرار بالإقالة أن أعلن استقالته من الجيش بعبارة تنم عن التمرد. وعلى الرغم من أن السلطان وافق على قرار الإقالة بعد تعيينه بشهرين وبضعة أيام إلا أنه كان كارهاً ذلك بدليل أنه لم يصدر ضده أي أمر بل أقال في 2 اكتوبر الوزارة التي طلبت إقالته وأنا منها في منصب الرئاسة بالنيابة ... وأتى بوزارتين ملائمتين لحركة مصطفى كمال. وبعد مضي أكثر من سنة على الثورة لم تجن البلاد إلا الدمار والخراب وتقدم اليونان نحو قلب الأناضول حتى كادوا يطرقون أبواب أنقره أعيد تكليف فريد باشا بتأليف الوزارة وعلى الرغم من أن وزارته السابقة هي التي بعثت بمصطفى كمال إلى الأناضول فأنها في هذه المرة أصدرت حكمها عليه بالعصيان والتمرد على السلطان استناداً إلى فتوى أصدرها شيخ الإسلام عبد الله دري زاده، ولكن السلطان ما لبث أن أقال هذه الوزارة وكلف توفيق باشا، وهو من أنصار مصطفى كمال، بتأليف وزارة جديدة دامت في الحكم نحو سنتين خدمت فيهما أغراض مصطفى كمال. فلما قويت شوكة مصطفى كمال تنكر للسلطان وطلب إليه أن يتنازل عن الحكم ويكتفي بالخلافة المجردة من السلطة على أن يظل مقيماً في استانبول وتنتقل السلطة إلى أنقره، فرفض السلطان وتنازل عن العرش سنة 1922 وخلفه عبد المجيد خليفة لا ملكاً ثم خلع سنة 1924 واخرج من البلاد.

وقد ظل السلطان وحيد يحسن الظن بمصطفى كمال رغم التحذيرات وظل مصطفى كمال يستغل إخلاص السلطان وصدق وطنيته والسلطان ليس بغافل بل راض بكل شيء يكون فيه خير البلاد وقد قيل له مرة : "إنه لا يستبعد أن يغتصب هذا الرجل عرشك". فقال : "ليخدم الوطن وليغتصب عرشي" وشاعت كلمة سمعتها وأنا في بلادي تنسب إلى أحد الانكليز وهي: "إن السلطان وحيد الدين أراد أن يكيد الانكليز بمصطفى كمال فكاد الانكليز به للسلطان".

هذا موجز ما قاله سماحة شيخ الإسلام صبري أفندي وأنا أقول - الدكتور إحسان حقي -: إن من يمعن النظر في الثورة الكمالية يجد أن الانكليز قد لعبوا فيها أدواراً رئيسية مع ثلاثة أطراف. الطرف الأول هو مصطفى كمال الذي تبنوه وساعدوه للوصول إلى ما وصل إليه شريطة أن يلغي الخلافة ويفعل في تركيا ما فعل. والطرف الثاني هو اليونان الذين كانوا حلفاءهم في الحرب وخرجوا منها بلا غنيمة فطوحوا بهم في مغامرة كانوا يقدرون لها الفشل فأغروهم بالاستيلاء على أزمير على أن تكون نصيبهم من غنائم الحرب وهم في الواقع لا يريدون أن يمكنوهم من شيء لأنهم يعلمون بأن استيلاء اليونان على شيء من أرض تركيا يعني استيلاء روسيا عليه على اعتبار أن القومين يدينون بالارثوذكسية وروسيا هي حامية الأورثوذكسية في العالم، ولكن الانكليز ارادوا أن يعطوا اليونان درساً بهذه المغامرة لكي يرضوا من الغنيمة بالإياب ثم إنهم يخلقون من مصطفى كمال بطلاً محرراً لبلاده، والطرف الثالث هي الحكومة التركية نفسها التي استعملوها أداة للتفريق بين السلطان وبين مصطفى كمال وقد نجحوا في تمثيل هذه الأدوار الثلاثة نجاحاً تاماً.

أما مصطفى كمال فهو وحده من بين هذه الأطراف الثلاثة الذي كان يعلم ما يراد منه كما أنه كان يعلم النتائج لأنه كان على صلة بالانكليز منذ سنة 1917 يوم كان قائداً عثمانياً في جبهة فلسطين فقد أخبرني - أي أخبر الدكتور إحسان حقي - ابراهيم بك صبري بن صبري أفندي شيخ الاسلام الذي مر ذكره بما يلي : "اتصل الانكليز بمصطفى كمال يوم كان قائداً في فلسطين وطلبوا إليه أن يقوم بثورة على السلطنة ووعدوه أن يساعدوه على ذلك فاتصل مصطفى كمال بقائدين عثمانيين من زملائه كانا يتوليان قيادة جيشين قريبين منه وفاتحهما بالأمر (وقد ذكر لي إبراهيم بك اسمي القائدين المذكورين ولكني انسيتهما لأني لم اسجلهما عندي إذ اني لم أكن أتوقع أن احتاج إلى ذكرهما) فلما سمعا الخبر استعظماه واستنكراه وقالا له : "بما انك لم تحاول العصيان الذي يوجب الاعدام فاننا سنكتم الأمر وننصحك أن تعتبره منسياً وأنك لم تفاتحنا به ولا سمعناه منك".

وانتهى الأمر بالنسبة إلى هذين القائدين عند هذا الحد وأما بالنسبة إلى مصطفى كمال الذي قبل، وهو القائد العثماني، أن يتآمر مع الانكليز لارتكاب مثل هذه الخيانة فإنه لم ينته، ولا شك، بدليل ما وصل إليه، ولا يستبعد أن يكون الانكليز هم الذين دعموه لدى السلطان، بطريقة غير مباشرة، لكي يعينه مفتشاً عاماً لجيوش شرق الأناضول ليسهلوا مهمته.

قد يتساءل المرء : كيف يساعد الانكليز مصطفى كمال على القيام بثورة في بلاد هم يسيطرون عليها ؟ والجواب قد مر معنا وهو أن أمم الغرب كانت منذ زمن بعيد تريد تحطيم الدولة العثمانية وتريد اقتسام تركة (الرجل المريض) وقد عقدت هذه الدول مئة معاهدة لتقسيم هذه التركة ولكنها لم تكن تتفق على ما يصيب كلاً منها كما انها لم تكن قد افترستها. فلما نشبت الحرب العالمية الأولى وانهارت الدولة العثمانية رأت هذه الدول، وعلى رأسها انكلترا وفرنسا، أن بقاء تركية دولة صغيرة غير إسلامية يضمن لها مصالحا أكثر مما لو استولت عليها واستعمرتها كما فعلت بالبلاد العربية لأنها ستبقى حاجزاً بين العالم الحر وبين روسيا، التي وان كانت في تلك الأيام ضعيفة فانها لا بد لها من أن تسترجع قوتها في يوم من الأيام وتقوم فتطالب بإعادة تقسيم الغنيمة، وانها لن تسكت عن سيطرة انكلترا على الممرين المائيين ولذا فإن هذه الدول الغالبة رأت من الأصلح وجود دولة صغيرة ضعيفة وغير مسلمة صديقة للغرب كالدولة التركية الحالية التي صنعتها على يدي مصطفى كمال من أن تكون هي المسيطرة.

وهكذا فقد نال الغرب بغيته وأصبحت تركيا دولة صغيرة علمانية وتنكرت حتى لواقعها فهي قد أعلنت أنها دولة غير إسلامية مع أن 95% من سكانها مسلمون وتنكرت لآسيويتها مع أن مالها في أوروبا من مناطق لا يتجاوز عشر مساحتها، فقد ذكر سماحة شيخ الاسلام صبري أفندي في كتابه المذكور آنفاً أموراً منها أنه لما كان مصطفى كمال على فراش الموت أوصى بألاّ يصلى عليه صلاة الجنازة ولكنهم صلوا عليه إجابة لرجاء أخته. ثم انه لما دعيت تركيا لحضور المؤتمر الإسلامي الذي عقد في القدس سنة 1931 رفضت الحكومة التركية حضوره لأنها غير مسلمة، ولما دعيت لحضور المؤتمر الآسيوي الذي عقد في دهلي رفضت حضوره بحجة أنها ليست بدولة آسيوية.

هذه شذرات عن الثورة الكمالية ونتائجها وعماكان للأيدي الغربية من دور فيها نقلناه بكل تجرد وإخلاص خدمة للتاريخ.










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-18, 16:43   رقم المشاركة : 96
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 تابع 1

كيف استقبل المسلمون الثورة الكمالية ؟

لما قام مصطفى كمال، بوحي من السلطان وحيد الدين، بثورته التي أرادها السلطان عثمانية إسلامية وجعلها مصطفى كمال غربية علمانية، لم يكن المسلمون يعلمون عن أسراراها وخفاياها شيئاً فخدعوا بظاهرها وبالدعايات التي كانت ترافقها وأولوها كل دعم وتأييد واكبروا همة وإخلاص باعثها وذلك لأن العالم الإسلامي كان قد فقد صوابه بعد انهيار الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية وكان على استعداد تام لتأييد أية حركة تقوم في أية ناحية من العالم لنصرة الإسلام وإعادة الخلافة أو أنه كان كالغريق يرفع يديه إلى السماء ليتمسك بحبال الهواء.

لقد عايشت - الدكتور إحسان حقي - الحركة الكمالية منذ يومها الأول وأدركت كل أدوارها وقد أخذت بها وخدعت كما أخذ غيري وخدع من المسلمين إذ ظنناها حركة إسلامية ولم يكن من شيء يعزينا عما نحن فيه، بعد اندحار الدولة العثمانية، إلا الإسلام. فقد أصبحنا غرباء في أوطاننا أشقياء في بلادنا تعساء في مجتمعنا. أو نحن كالأيتام على مأدبة اللئام ليس لنا وطن ندعيه لأن الغريب يستعمره ولا لنا دولة نستند إليها لأن الأغراب يحكموننا. وصرنا نسمع سفهاء الناس يشتمون ديننا في وجوهنا ومن كان منهم مهذباً ولم يشتم قال لنا : لقد ولى زمانكم ونحن اليوم أسيادكم وإن لم يقولوها بألسنتهم قالوها بأفعالهم. وكنا نتطلع يمنة ويسرة فلا نجد على سطح الأرض كلها، وعلى كثرة عدد المسلمين فيها، دولة إسلامية واحدة مستقلة حرة نستطيع أن ندعيها أو ننتسب إليها لنعتز بها بل كان العالم الإسلامي كله مستعمرات غربية أو شبه مستعمرات.

لهذه الأسباب كان سرورنا بالثورة الكمالية عظيماً ولا حدود له لأننا كنا نستطيع أن نقول بأنه قام مسلم من بين المسلمين يقف في وجه الغرب ويعلن ثورته عليه وأنه غداً سيعيد إلى المسلمين الخلافة الإسلامية ويعيد إلينا شأننا وعظمتنا. وكما سررنا وانتعشنا بثورة مصطفى كمال فقد سررنا وانتعشنا بثورة أنور باشا ولكن سرورنا بثورة مصطفى كمال كان أعظم لاسباب كثيرة منها :

1-إن بلاد الأناضول متصلة ببلادنا العربية اتصالاً مباشراً وان وجود دولة إسلامية إلى جوارنا أفضل من وجود دولة غربية عدوة.

2-إن الدولة العثمانية هي أمنا التي غذينا بلبانها وكنا جزءاً منها فرجوع الحياة إليها هو بعث لنا.

3-إن مصطفى كما يعمل للخلافة الإسلامية بينما أنور باشا يعمل لإقامة دولة إسلامية وليس هذه كتلك.

4-إن السلطان يؤيد حركة مصطفى كمال ولم نسمع أنه كان يؤيد حركة أنور باشا.

5-إن هالة الدعاية التي أحيطت بها الثورة الكمالية كانت أعظم وأحكم من هالة الدعاية التي رافقت حرب أنور باشا.

6-إن الثورة الأنورية ماتت سنة 1922 بموت قائدها ولم يبق أمامنا إلا الثورة الكمالية.

7- إن الغربيين أرادوا أن يصرفوا تفكير العالم الإسلامي إلى الثورة الكمالية لكي يستهلكوا آلام المسلمين ويخففوا على نفوسهم أثر الصدمة التي أنزلوها بهم بإزالة الخلافة فأولوا الثورة الكمالية كل عنايتهم ودعموها برعايتهم لأنهم كانوا يعلمون نتائجها مسبقاً على اعتبار أنهم هم الذين صنعوها.

وكما أن الغربيين قد نجحوا في مخططهم وجعلوا العالم الإسلامي كله يسير فخوراً بضع سنوات وراء الثورة الكمالية فقد استغل مصطفى كمال عواطف المسلمين وأموالهم إلى أبعد حدود الاستغلال وكسا ثورته لباساً إسلامياً، سواءً بأحاديثه وتصريحاته وخطبه، أو بمعاملته لزعماء المسلمين. فمن ذلك أنه استعان بالزعيم الليبي الشهير السيد أحمد السنوسي وجعله مستشاراً له وكان يبرق إليه، كما قال لي صديقي الأمير شكيب ارسلان، إذا اراد شن هجوم على مكان ما قائلاً: إننا ننوي الهجوم غداً أو بعد غد على مكان ما فاقرأوا البخاري الشريف على نية النجاح والتوفيق، واستغل أيضاً أعمال وأقوال جميعة الخلافة الهندية التي قامت بزعامة الأخوين شوكة علي ومحمد علي واستغل الشعراء فمدحوه والأدباء فأثنوا عليه ومشايخ الطرق فرفعوه إلى مقام الولاية.

كان مصطفى كمال يبطن غير ما يظهر وينوي أن يفعل غير ما يقول إذ أنه ما كاد ينتصر نهائياً ويطمئن إلى مصيره حتى ألغى الخلافة وطرد الخليفة من البلاد وطرد السيد أحمد السنوسي وتنكر لكل القيم الإسلامية وسار بسيرة ليس فيها أية مصلحة للإسلام ولا للمسلمين لا بل ليس فيها أية مصلحة لتركيا نفسها، فها هي تركيا بعد مضي ستين سنة على هذه الثورة ما زالت بلداً نامياً ضعيفاً لا حول له ولا طول فالحركة العلمية فيها ضعيفة والأمية سائدة والحياة الاجتماعية متأخرة والحالة الاقتصادية في الحضيض، وكل ما فعلته هذه الثورة أنها أشغلت الناس بأمور جانبية تافهة مثل إلقاء الطربوش وسفور النساء ولو كان هذان الأمران تركا للزمن لتكفل بتحقيقهما من غير ثورة كما حدث في كل البلاد الإسلامية حتى في أشدها تعصباً ومحافظة مثل اندونيسيا وباكستان والهند وأفغانستان وحتى إيران حيث كان ذكر المرأة على اللسان في هذه البلدان يعد عورة، فأصبحت المرأة في هذه البلاد وفي بحر سنوات قليلة قد تخطت التركية وهي تماشي الغربية. وإذا كان السفور قد تحقق في بعض المدن التركية الكبيرة حيث لم تكن المرأة متحجبة حجاباً كاملاً فإن المرأة في بعض المدن الكبيرة الأخرى وفي الأرياف ما زالت كما كانت وما زالت متأخرة ولم ينفع السفور في تقدمها.

ما هي نتائج الثورة الكمالية ؟

خرج مصطفى كمال من ثورته منصوراً يكلل هامته تاج العز والفخار لأنه أعاد إلى تركيا حياتها واستقلالها وقد تقبل نصف العالم الإسلامي هذا النصر بسرور عظيم لأنهم خدعوا بظاهره وهذا النصف هو النصف الجاهل أو الغبي أو الذي لا يعرف من الأمور إلا ظاهرها، وأما النصف الآخر العاقل المفكر الذي ينظر إلى خلفيات الأمور بمنظار الحقيقة فقد أدرك مدى الكارثة التي حلت بالعالم الإسلامي كله وليس بتركيا وحدها.

لقد أشغل مصطفى كمال المسلمين بأمور جانبية تافهة أرضى بها الشبان التواقين إلى الأخذ بالمظاهر وأخذ المعول وهدم الكيان التركي من جذوره. واذا جاز لنا أن نسمي ما قام به مصطفى كمال ثورة فهي ولا شك ثورة على الدين وعلى الثقافة وعلى التاريخ وعلى العالم الإسلامي عامة والأمة التركية بصورة خاصة.

لقد أبطل مصطفى كمال الأبجدية العربية وأحلَّ محلها الأبجدية اللاتينية فقطع بعمله هذا صلة الأمة التركية بالعالم الإسلامي وقطع صلتها بماضيها وهدم أمجادها وقضى على ثقافة ترجع إلى ألف سنة فيها الكثير الجيد من العلوم والفنون والأدب والشعر والتاريخ.

لقد قضى مصطفى كمال الأمة التركية وطمس معالمها وعراقتها وخلقها أمة جديدة وكأنها ليست من هذا العالم أو كأنها كما يقول المثل مقطوعة من شجرة. ولم يقدم البلاد ولا أهلها خطوة واحدة إلى الأمام بل أرجعها خطوات إلى الوراء من كل ناحية بدليل تقدم بعض البلاد التي كانت جزءاً من الدولة العثمانية وفصلت عنها وقد تقدمت، بفعل الزمن، خطوات واسعة في الفن والأدب والعلم والعمران. وما دامت تركيا لم تتقدم فهي إذن متأخرة.

ثم إنه بقضائه على الخلافة جردها من سلاح ماض كان في يدها تهزه متى شاءت في وجه الأعداء وكانت الدولة العثمانية حتى في أخريات أيامها، يوم لم يكن لها حول ولا طول، مرهوبة الجانب يخشاها القريب والبعيد ويحترمها العدو قبل الصديق لأنها كانت تحمل صولجان الإسلام الذي كانت تهدد به العالم فأصبحت اليوم بفضل مصطفى كمال دولة ثانوية مثل غيرها من الدول الصغيرة ليس لها وزن سياسي إلا بقدر ما لمركزها الاستراتيجي من أهمية وبقدر حاجة الدول إليه وليس لها مركز علمي ولا اقتصادي حتى ولا سياحي على الرغم من جمال تركيا وما فيها من جبال وبحار وغابات وأنهار لو كانت في بلاد أخرى لاستغلت أحسن استغلال في السياحة والاقتصاد.

إننا إذا أخذنا في تقييم هذه الثورة نجد أنها كانت وبالاً على تركيا وعلى العالم الإسلامي لأنها قضت على كل ثروات تركيا المعنوية وسلبتها عظمتها التي كانت تقوم على الإسلام وعلى اللغة العربية وهي عظمة لن تعود ابداً.

إن ما فعله مصفى كمال كان في مصلحة الغرب وليس في مصلحة تركيا ولا في مصلحة الشعب التركي. لقد قطع مصطفى كمال كل صلة للاتراك باخوانهم المسلمين حتى أنه غير أسماء الناس وغير اسمه. لقد قضى مصطفى كمال على هذه الأمة بالعقم الأبدي وأجهض مقدماً كل حركة إصلاحية يمكن أن تقوم في البلاد لخير البلاد وخير أهلها.

لقد كانت الخلافة، على ضعف الخلفاء، وتخاذلهم وجهل بعضهم لا بل ورذائلهم، سلاحاً ماضياً بيد المسلمين يزعج الغربيين فعملوا حتى قضوا عليه. ولو كان مصطفى كمال أبقى على الهيكل الإسلامي ولم يمس اللغة لكان خلق تركيا خلقاً جديداً سليماً ولكانت اليوم سيدة العالم الإسلامي كما كانت من قبل ولو تقلصت أطرافها.

وإذا نظرنا إلى السياسة التي انتهجها السلطان الظاهر بيبرس والسياسة التي انتهجها مصطفى كمال نجد الفرق بين تفكير الرجلين بعيداً جداً إذ بينما استند بيبرس على الخلافة وأحياها في مصر، بعد أن تلاشت في بغداد فرفع بذلك من شأن نفسه ومن شأن المسلمين في كل مكان وكانت الخلافة له ولخلفائه من بعده قوة ودعماً ودرعاً واقياً، نجد مصطفى كمال قد استند على الانكليز لهدم الخلافة ليرفع نفسه ويهدم تركيا.

لقد كان باستطاعة مصطفى كمال، بعد أن انتصر على اليونان أن يتنكر للغربيين ويقلب لهم ظهر المجن فيخدم بذلك بلده وأمته ولم يكن الغربيين يستطيعون، آنذاك، أن ينالوه بأذى لأن العالم كله كان معه ولكنه لم يفعل لأن الخطة الغربية كانت تسلير هواه وهذا من سوء حظ المسلمين وحظ البلاد التركية في الدرجة الأولى. وما تشاؤون إلا أن يشاء الله.

لماذا دعّم الغرب الثورة الكمالية أو لم يناهضوها ؟

قد يتساءل المرء، حينما يرى دول الحلف الغربي، التي هزمت، في حرب دامت أربع سنوات ونيف، الامبراطورية العثمانية ومعها امبراطوريتين قويتين هما المانيا والنمسا ومملكة البلغار، كيف عجزت عن الانتصار على ثورة قام بها قائد عثماني هو نفسه كان قد انهزم أمام الانكليز في جبهة فلسطين ثم عند جبال طوروس يوم كانت إمكاناته أكثر وقوته أكبر ؟

وهو تساؤل وجيه ومعقول لا سيما وأن مصطفى كمال ظل نحو سنتين في شرق الأناضول وهو لا يستطيع أن يتقدم لمواجهة أعدائه بل كان أعداؤه اليونان هم الذين يتقدمون حتى وصلوا مشارف انقره.

وللجواب على هذا السؤال نقول : إن الفرق بين الحالين كان كبيراً جداً وذلك لأنه الحلف الغربي كان في الحالة الأولى يريد دحر الدولة العثمانية، دولة الخلافة الإسلامية، التي كانت قذى في عيون أهل الغرب وحسكةً في حلوقهم، ولذا فقد وضع، في ميدان المعركة، كل طاقاته وإمكاناته وعمد إلى كل السبل فسلكها وعمل بكل الوسائل حتى بلغ ما يريد، بينما الأمر لم يكن كذلك مع ثورة مصطفى كمال، إن أهل الحلف الغربي وعلى رأسهم انكلترا وفرنسا كانتا حريصتين كل الحرص على انتصار مصطفى كمال على اليونان لأسباب مر ذكرها كما أنهما كانتا حريصتين على بقاء بلاد الأناضول لأصحابها على أن تكون تابعة للغرب بعيدة عن الإسلام والمسلمين وكانتا تعلمان مسبقاً أن مصطفى كمال سيحقق لهما هذه البغية.

كانت دول الغرب حريصة على القضاء على الدولة العثمانية لأنها دولة إسلامية قادرة باسم الإسلام على أن تهدد العالم كله وليس الغرب وحده إذا استعملت هذا السلاح المعنوي استعمالاً صحيحاً وسليماً. ولذا فإن كل الحروب التي شنها أهل الغرب على الدولة العثمانية وكل المعاهدات والاتفاقات التي عقدوها كانت تدور حول هذه النقطة وهذا الهدف.

إن الحروب الصليبية بدأت منذ ظهر الإسلام ولكنها ظهرت بثوب عملي في القرن الحادي عشر الميلادي، يوم ضعفت البلاد الإسلامية، واشتدت يوم بدأت الدولة العثمانية تغزو أوروبا في عقر دارها. ومع أن دول الغرب مجتمعة ظلت أكثر من ثلاثة قرون تعمل للقضاء على هذه الدولة الإسلامية دون أن تبلغ ما تريد، على الرغم مما أصاب الدولة العثمانية من تضعضع، فانها قد ذهلت وارتبكت حينما تم لها هذا النصر بهذا الشكل الذي حدث والذي لم تكن تتوقعه ولا تتصوره أيضاً وذلك بأن ترى الامبراطورية العثمانية ومعها حليفاتها تنهار أمامها في بحر أسابيع أو شهور قليلة، بعد أن ثبتت أمام ضرباتها أربع سنوات لا بل وانتصرت عليها مرات.

قلت في بحر أسابيع لأن الحرب في سنواتها الأولية كانت سجالاً بين المتخاصمين، لا بل كانت في بعض الجبهات انتصاراً للحلف العثماني ولم يكن ما يبعث على الاعتقاد بحدوث هذا الانهيار، ولكن وقوف العرب إلى جانب الحلف الغربي وحماقات ارتكبها بعض رجال الاتحاد والترقي وامكانات الحلف الغربي المادية والمعنوية الواسعة واستسلام البلغار المفاجئ، كل أولئك غيرت وجه الحرب فاسفرت عما اسفرت عنه من انهيار ثلاث امبراطوريات كانهيار قصور الكرتون أو بيوت الرمال.

فهذا النصر الساحق الذي أحرزه الحلف الغربي على الحلف العثماني قد فرّح الغربيين ولكنه ادهشهم وأذهلهم ايضاً لا بل قد كانت دهشتهم أكبر من فرحتهم إذ كان شأنهم شأن الفقير المعدم الذي تهبط عليه ثروة كبيرة فجأة من السماء لم يكن يحلم بها فيحتار في أمره ويحتار فيما يفعل بهذه الثروة الطارئة وكيف ينفقها.

أدرك الغربيون بعد أن تم لهم هذا النصر أن اللقمة التي امامهم أكبر من أفواههم وأنهم لا يستطيعون هضمها وأنه لا بد لهم من إعادة النظر على برامجهم السابقة، وعلى الرغم من أنهم كانوا قد اقتسموا تركة ( الرجل المريض ) فيما بينهم مرات وأنهم باعوا جلد الدب قبل أن يصطادوه الا أن أوضاعهم اليوم تختلف عما كانوا عليه من قبل اذ مات أحد الورثة قبل موت الامبراطورية العثمانية واعني به امبراطورية موسكو بنشوب الثورة الشيوعية فيها، وماتت ايضاً كل من الامبراطورية الألمانية والامبراطورية النمسوية بسبب تحالفهما مع الدولة العثمانية. فاصبحتا في جانب التركة لا في جانب الورثة، ولذا فقد كان من البديهي أن يتغير التقسيم وتتغير الأهداف لا سيما وأنه لم يعد في الميدان إلا انكلترا وفرنسا، وأما إيطاليا واليونان فقد كان بالامكان إرضاؤهما بالقليل لأن إيطاليا كانت في بداية الحرب حليفة للدولة العثمانية ثم تركتها وانضمت إلى الحلف الغربي وهي لم تهضم بعد البلاد الليبية التي استولت عليها سنة 1911 ولم تكن الدولة العثمانية قد اعترفت بعد بتنازلها عنها، واليونان دولة صغيرة لا حول لها ولا طول وبالتالي فليس لها حساب. وأما امريكا، التي كانت السبب في انتصار الحلف الغربي، فانها كانت، بشخص رئيسها ولسن، تريد الحرية للجميع فإذا لم تصل إلى هذه الغاية تركت الدنيا لأهل الدنيا وانصرفت وهذا ما حدث. وكان كليمنصو رئيس وزراء فرنسا يقول : أنا في حيرة من أمري بين رجلين : الأول يظن نفسه المسيح والثاني يحسب نفسه نابليون. ويعني بذلك ولسن رئيس الولايات المتحدة، الذي كان مشبعاً بالروح الانساني، ولويد جورج، رئيس وزراء بريطانيا الذي كان مليئاً بالغرور.

غير أن الذي كان يخيف الغالبين هي روسيا التي وإن كانت قد خرجت من الحرب مغلوبة بسبب نشوب الثورة الشيوعية فيها، تلك الثورة التي كان الفضل الأكبر في نجاحها لألمانيا، التي زودت لينين بالمال والسلاح وأرسلته إلى روسيا ليقلب الحكم فيها، فإن حلفاءها القدامى أي انكلترا وفرنسا ومن معهما، كانوا يعلمون بأن ضعفها لن يطول أمده وأنه لا بد لها من أن تنهض وتقف على ساقيها ثم لا بد لها من أن تطالب بإرثها وأن تسعى إلى تحقيق مطامعها في البحر الأسود وفي الممرين المائيين، ولذا فقد كان لا بد للانكليز وهم سادة البحار، آنذاك، من أن يفكروا بهذه النتيجة وأن يتداركوا عواقبها قبل حلولها. وكان الحل هو إبقاء الأناضول لاصحابها.

فمن جهة كانت انكلترا وفرنسا تخشيان الدب الروسي الرابض على حدود الأناضول. ومن جهة ثانية كانتا قد تقاسمتا البلاد العربية فأخذت فرنسا سوريا ولبنان وأخذت انكلترا العراق وفلسطين بالإضافة إلى ما كانت تسيطر عليه من قبل من شواطئ الجزيرة العربية بدءاً بمستعمرة عدن فالمحميات فمسقط فمشيخات الخليج العربي بما فيها البحرين والكويت.

وفي الوقت الذي اتفقت فيه الدولتان الانكليزية والافرنسية على هذا التقسيم سراً كانتا قد أعطتا فلسطين للصهيونيين لتكون وطناً قومياً لهم، ووعدتا الشريف حسين بامبراطورية عربية تشمل الوطن العربي كله، أو أن الشريف حسين ظن أن رغبته حقيقة واقعة وأن مطالبه أوامر تعطى لحلفائه فتنفذ، فبات خاليالبال مرتاح الخاطر يعيش هو وكل العرب في حلم لذيذ معتمدين على صدق الحلفاء وإخلاصهم ويصدقون كل ما يقال لهم، ويكتفون من العهود بالوعود لا بل بالوعود الغامضة، ولم يكونوا يدرون أن عهود أهل الغرب الكلامية هراء والمكتوبة منها قصاصات ورق يمكن تمزيقها وحرقها في كل وقت حتى اذا كانوا مغلوبين فكيف بهم إذا كانوا غالبين ؟

اقتنع الشريف حسين بحسن نوايا حليفته بريطانيا على الرغم من أن تصرفات رجالها كانت تدل بوضوح على المراوغة والخداع. ولكن أنى للمسلم الشريف أن يسيء الظن بمن يتودد إليه ويظهر له الاخلاص ؟

ظل الشريف حسين ثابتاً على مبدئه محسناً الظن بالانكليز على الرغم من أن رجال الثورة الشيوعية، بعد أن استلموا الحكم في البلاد، فضحوا الاتفاقية السرية ( اتفاقية سايكس ـ بيكو ) المعقودة بين انكلترا وفرنسا وروسيا لتقسيم الامبراطورية العثمانية، وعلى الرغم من أن جمال باشا نبه العرب في الكلمة التي القاها في بيروت بتاريخ 30/11/1917 إلى هذه الحقيقة. وقد أعرب مندوبا انكلترا وفرنسا المقيمان في الحجاز صراحة عن سوء نية حكومتهما حينما رفضا الحفلة التي أقيمت في جدة احتفاءً بمبايعة الشريف حسين ملكاً على البلاد العربية. وقد تمت المبايعة في مكة المكرمة في 4/11/1916 وأقيم الاحتفال في جدة لكي يتسنى لهذين المندوبين حضوره ولكنهما لم يحضرا لأن حكومتيهما لم تعترفا بالشريف حسين ملكاً على البلاد العربية بل ملكاً على الحجاز ورفضتا منحه لقب صاحب الجلالة بل دعته بصاحب السيادة وأحياناً بصاحب السمو.

كانت الأمور، اذن، ظاهرة منذ البداية ولكن الشريف حسين لم يعد قادراً على الرجوع كما أنه كان صادقاً في ثورته وظل يحسن الظن بانكلترا.

فلما انجلت الحرب ورأى العرب أنفسهم أنهم أصبحوا أكثر فرقة وشتاتاً مما كانوا عليه من قبل وانهم أصبحوا محكومين بأسماء مخترعة، منها الانتداب والحماية والتحالف والاستعمار والقوة، بعد أن كانوا شركاء الدولة العثمانية في الحكم، اسقط في أيديهم وكانت ردة فعلهم عنيفة ويأسهم من حلفاء الأمس عظيماً ولكنهم لم يتحركوا بل ظلوا يعيشون بالآمال، اللهم إلا ما قيل عن مراسلات جرت بين الشريف حسين وبين مصطفى كمال ومراسلات جرت بين بعض رجالات سوريا وبين مصطفى كمال أيضاً ولكنها دفنت في المهد. وبدهي أن هذه المراسلات لم تكن تنفع شيئاً لأن مصطفى كمال نفسه كان بحاجة إلى المعونة من جهة ثم إنه لم يكن من الناس الذين يحبون العرب أو يعطفون عليهم من جهة ثانية.

ولعل السبب في عدم قيام العرب بحركة هو تقطيع أوصالهم وانعدام القيادة الموحدة فيهم وفقدان التنظيم السياسي وعدم وجود جيوش نظامية ثم وجود جيوش فرنسية وانكليزية في البلاد وهي لم تعد جيوشاً حليفة بل أصبحت جيوشاً غازياً.

وبينما كان العرب غارقين في بحور تأملاتهم يستجدون عطف حلفائهم تنبه السلطان وحيد الدين للأمر وأدرك أن بقاء الأناضول بلداً مستقلاً أمر لازم لأعداء الدولة العثمانية كما أن أدرك بأن الحصول على الاستقلال لن يتم إلا بالسعي إليه فاوعز إلى مصطفى كمال بأن يقوم بثورة مسلمة وكان ما كان مما أسلفنا ذكره.

هذا ما كان من أمر المغلوبين وأما ما كان من أمر الغالبين فقد ادركت انكلترا، وهي التي تحتل استانبول، انها لا تستطيع ابتلاع البلاد العثمانية كلها وان حصتها من البلاد العربية كافية لها وأن تماديها في استفزاز الشعور الإسلامي قد ينقلب عليها ويضر بمصالحها ولا سيما في شبه الجزيرة الهندية والباكستانية، التي كان يهمها امرها كثيراً، وأن الثورة التركية انما هي الخطوة الأولى وربما تبعتها ثورات وبالتالي فإنه لا بد من الهاء العالم الإسلامي بهذه الثورة، التي علق عليها المسلمون كل آمالهم في إحياء الخلافة، وعلق الغربيون عليها آمالهم بأن تكون هدماً للخلافة واجتثاثاً لجذور الإسلام من البلاد حتى لا تقوم لها قائمة، ولذا فان نجاحها كان يهم الانكليز أكثر مما يهم المسلمين، لأنها بهذه الثورة تصرف العرب عن التفكير بانفسهم وتعلق آمالهم على الثورة التركية، من جهة، وتكون، من جهة ثانية، قد ثبتت أقدامها وأقدام حليفتها فرنسا في البلاد العربية فإذا صحا العرب لا يجدون لأنفسهم مخرجاً مما وقعوا فيه.

عمل الانكليز جهدهم لإنجاح الثورة التركية بدليل أنهم لم يساعدوا اليونان بشيء، وبما قاموا به من دعاية للثورة ذاتها ولشخص مصطفى كمال حتى جعلوا الناس يظنون أن الخلافة الإسلامية أصبحت في متناول أيديهم وأنها قد استعادت مجدها وأن مصطفى كمال هو نور الدين زنكي أو صلاح الأيوبي أو حتى عمر بن الخطاب ونسي المسلمون مصائبهم فرحاً بانتصارات مصطفى كمال التي اعتبروها الخطوة الأولى نحو تحقيق آمالهم الإسلامية. غير أن ما حدث بعد ذلك خيب آمال المسلمين، ولكن الفرصة كانت قد فاتت ولم يعد بمقدورهم أن يفعلوا شيئاً بعد أن تفرق شملهم، وبعد أن انتزع عبد العزيز بن السعود الملك من الحسين، خليفة المسلمين المنتظر، فأخذه الانكليز وسجنوه في قبرص إلى أن توفي وجازوه جزاء سنمار.

كان الغرب عامة والانكليز خاصة يفضلون وجود دولة تركية ضعيفة مشذبة الأطراف بعيدة فكراً ومبدأ وروحاً عن البلاد العربية المجاورة على أن يسيطروا هم على الأناضول لأن وجود أية دولة أوروبية في الأناضول باسم الاستعمار أو الحماية أو الانتداب سيجعل الاحتكاك مع الروس مستمراً بينما وجود دولة تركية ضعيفة سائرة في ركاب الغرب أضمن للغرب وأنفع له.

وإذا كان الانكليز قد نكثوا عهودهم مع العرب لأنهم أدركوا ضعفهم وشتات كلمتهم وعدم اتفاقهم على رأي ولأنهم كانوا يعلمون بأنهم لن يتنازلوا عن دينهم ولا عن قوميتهم الإسلامية فإنهم قد ساعدوا مصطفى كمال، أو إن شئت فقل أنهم لم يناهضوه، لأنهم كانوا يعلمون أنه سيعطيهم كل ما يطمعون به وذلك لأن الاستعمار لم يعد، في أيامنا هذه، استعمار أرض وسماء وسيطرة عسكرية وحكماً مباشراً بل أصبح استعمار أفكار ومبادئ وأهداف، وقد أصبحت تركيا مستقلة في ظاهرها وفيما لا يضر الغرب ولكنها مستعمرة في أفكارها ومبادئها.

لقد جرب الانكليز العرب وامتحنوا إخلاصهم فوجدوهم لا يصلحون لصداقتهم لأنهم صادقون مع أنفسهم وإذا كان الملك حسين قد رضي بالسجن والنفي ولم يرض بأن يسجل التاريخ عليه أنه رضي بالوطن القومي اليهودي، مع أن رضاه أو عدمه لم يكن ليقدم ولا ليؤخر شيئاً، فمن البدهي الا يكون أداه طيعة في أيدي أهل الغرب ولذا فقد لاقى منهم العداوة والبغضاء.

لقد فرح المسلمون في العالم كله بنجاح الثورة التركية ولكن فرحتهم لم تطل بعد أن أدركوا ابعادها ومراميها ورأوا نتائجها ولمسوها في أنفسهم وفيما يعانون من أوضاع. ويحاول اليوم كثير من الأتراك المخلصين الرجوع إلى ماضيهم ولكنهم لا يستطيعون لأن الثورة قد ضربت بينهم وبين ما يبتغون سداً منيعاً لا يقدرون على النفوذ منه بعد أن قطعتهم الثورة من جذورهم وأبعدتهم عن تاريخهم ولغتهم وثقافتهم.

لقد ربح أهل الغرب بهذه الثورة شيئاً كثيراً لم يكونوا يحلمون به ولكن هذا الربح لم يأتهم مجاناً وهم نائمون بل لقد علموا له قروناً "وأن ليس الإنسان إلا ما سعى".










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-18, 16:44   رقم المشاركة : 97
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










M001

السلام عليكم بفضل الله أكملت نسخ كامل سلسلة التاريخ الإسلامي، أرجو أن تنال إعجاب الجميع.










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-21, 10:48   رقم المشاركة : 98
معلومات العضو
لقاء الجنة
عضو ماسي
 
الصورة الرمزية لقاء الجنة
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-22, 16:30   رقم المشاركة : 99
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










M001 رد

شكرا لك يا أخت لقاء الجنة اتمنى أن يكون هذا الموضوع قد أعجبك










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-22, 17:56   رقم المشاركة : 100
معلومات العضو
هاني_سات
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية هاني_سات
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك أخي على هذا الموضوع أظن أنك تعبت ؟؟؟










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-22, 17:59   رقم المشاركة : 101
معلومات العضو
laytitya
عضو نشيط
 
الصورة الرمزية laytitya
 

 

 
إحصائية العضو










Hourse

merciiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiii iiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiii

thankssssssssssssssssss










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-23, 19:35   رقم المشاركة : 102
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B18 رد

السلام عليكم، شكرا على التعلليقات، و بالنسبة للتعب فانه يزول عندما أرى تعليقاتكم التي ترفع من المعنويات و تجعلني أبذل جهد اكبر في جلب مواضيع أخرى.










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-25, 13:42   رقم المشاركة : 103
معلومات العضو
لقاء الجنة
عضو ماسي
 
الصورة الرمزية لقاء الجنة
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة yacine414 مشاهدة المشاركة
شكرا لك يا أخت لقاء الجنة اتمنى أن يكون هذا الموضوع قد أعجبك
......

كيف لا يا اخي...

و انت تبذل قصارى جهدك من اجلنا...

و الله يا اخي اتمنى ان يوفقك الله لما هو خير و ان يجعل كل ايامك سعادة و سلام....

ارق تحية مني اليك اخي...











رد مع اقتباس
قديم 2011-04-07, 16:31   رقم المشاركة : 104
معلومات العضو
ISMAIL12
عضو مشارك
 
الصورة الرمزية ISMAIL12
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفتح الإسلامي لبلاد المغرب وأبعاده الحضارية
كتب: د. نعيم الغالي *
14/12/1431 الموافق 20/11/2010

مقدمـة:
امتدت الدولة الإسلامية في عهد الخليفة عثمان بن عفان (23-35 هـ) على مجال شاسع من خراسان وأذربيجان شرقا إلى طرابلس غربا، وكانت الحملات الاستطلاعية الأولى التي قامت بها الجيوش الإسلامية باتجاه بلاد المغرب منذ سنة 27 هـ تهدف إلى اختبار الجيش البيزنطي الذي تراجع نحو المناطق الشمالية لإفريقية، غير أن فتح بلاد المغرب استغرق فترة زمنية طويلة نسبيا تعددت خلالها الحملات إلى حين وصولها إلى المغرب الأقصى والأندلس، ومهّد هذا الفتح إلى تلاقح الثقافتين الإسلامية والإفريقية مما أفرز تحولات حضارية جذرية شملت جميع المجالات الثقافية والعلمية والاجتماعية والعمرانية أدخلت بلاد المغرب كطرف فاعل في الحضارة الإنسانية.
يهدف هذا المقال إلى تحديد أهم مراحل فتح بلاد المغرب وانعكاساته الحضارية.
I – مراحل انتشار الإسلام ببلاد المغرب (27 – 82 هـ):
لم تكن عملية فتح بلاد المغرب يسيرة حيث تعددت الحملات العسكرية وتخللتها عدة صعوبات أفضت في النهاية إلى انتشار الإسلام في كامل شمال إفريقيا والأندلس.
1 – المرحلة الأولى لفتح بلاد المغرب (27 – 64 هـ):
منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب فكر عمرو بن العاص في فتح إفريقية سنة 22 هـ ،وذلك بعد أن فتح ليبيا الحالية، ولكن الخليفة عمر بن الخطاب لم يوافق على ذلك ،وقد يكون سبب هذا الرفض أن الحدود الشرقية لإفريقية كانت منيعة ،حيث كتب عمر بن الخطاب "لا إنها ليست بإفريقية ولكنها المفرقة غادرة مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيت" (ابن عبد الحكم، فتوح إفريقية والأندلس، ص33).
- حملة عبد الله بن سعد بن أبي سرح:لما عينه الخليفة عثمان بن عفان عاملا على مصر قام بأول حملة عسكرية باتجاه إفريقية سنة 27 هـ/647 م فتمكن من التقدم والتقى بالجيش البيزنطي عند مشارف سبيطلة وانتصر الجيش الإسلامي وقتل القائد البيزنطي جرجير، واكتفت هذه الحملة بتحقيق أول انتصار على البيزنطيين في بلاد المغرب ،وجمعت الغنائم ،وحصل اتفاق بين عبد الله بن سعد وزعماء القبائل على أن يأخذ منهم مالا ويخرج من بلادهم فلم يول عليهم أحدا، وكانت هذه الحملة الأولى مجرد اختبار لمدى قوة دفاعات البيزنطيين والتعرف على طبيعة المنطقة واستكشافها تمهيدا للحملات الموالية.
- حملات معاوية بن حُديج:قام بثلاث حملات لفتح بلاد المغرب كانت الأولى مع جيش عبد الملك بن مروان سنة 34 هـ حيث اتجه من الفسطاط إلى بلاد قمونية (موضع مدينة القيروان) ثم قاد حملة ثانية سنة 40 هـ وثالثة سنة 46 هـ ،واستقر في جبل القرن شمال القيروان ،وأرسل الجيوش لفتح المناطق القريبة ففتح عبد الله بن الزبير سوسة وعبد الملك بن مروان جلولاء.
- حملة عقبة بن نافع الفهري: اتجه إلى إفريقية سنة 50 هـ 670 م قادما إليها من الصحراء ومعه عشرة آلاف فارس فاتخذ القيروان معسكرا واختار موضعها على سهل فيضي تتوفر فيه المراعي وغابات الزياتين ،وهي بعيدة عن البحر لتفادي الغزوات البيزنطية ،وجعلها قاعدة للجيش الإسلامي وعاصمة لكامل بلاد المغرب، وواصل عقبة تقدمه باتجاه الغرب متفاديا الصدام مع البيزنطيين المتواجدين على السواحل الشمالية الشرقية لإفريقية، وفي سنة 55 هـ تم تعيين أبي المهاجر دينار واليا على القيروان فسلك سياسة مرنة مع البربر أدت إلى تراجع الغنائم والجباية ،فقرر الأمويون إعادة تنصيب عقبة بن نافع واليا على إفريقية والمغرب سنة 62 هـ فواصل حملته على القبائل البربرية مثل لواتة وهوارة وزناتة ومكناسة ،ووصل إلى طنجة ووليلى وبلاد السوس ،وبلغ المحيط الأطلسي، وكانت القبائل البربرية قد أعدت نفسها للانتقام والثأر من عقبة ،واستعانت في ذلك بالجيش البيزنطي ،واستغلت بقاء عقبة في عدد قليل من الجنود لتباغته في بسكرة جنوب جبال أوراس بجيش يضم 50000 جندي يقودهم كسيلة البربري فقتل عقبة سنة 64 هـ 684 م ومثلت هذه المعركة نهاية لمرحلة الانتصارات الإسلامية الأولى ببلاد المغرب وبداية لفترة صعوبات واجهت الانتشار الإسلامي.
2 – مرحلة الصعوبات ومواصلة الفتح باتجاه الغرب:
كان لمقتل عقبة بن نافع الأثر الإيجابي القوي على القبائل البربرية الرافضة لانتشار الإسلام وللبيزنطيين الذين يحكمون سواحل إفريقية، فتبنت هذه الأطراف حركة مسلحة تهدف إلى صدّ الحملات القادمة من الشرق.
أ – حركة كسيلة :استقر القائد البربري كسيلة بالقيروان بعد أن هجرها عدد كبير من المسلمين باتجاه مصر بعد مقتل عقبة بن نافع، وهكذا أصبحت السلطة في إفريقية مقسمة بين كسيلة بالقيروان والبيزنطيين بقرطاج،وانتهت هذه المرحلة سنة 69 هـ عندما أرسل الخليفة عبد الملك بن مروان زهير بن قيس البلوي في جيش لاستعادة إفريقية، ووقعت المعركة في ممس غرب القيروان قتل فيها كسيلة ،واستعاد فيها المسلمون سيطرتهم على كامل بلاد المغرب إلى حدود نهر ملوية، واضطر زهير إلى الرجوع إلى المشرق على إثر اندلاع حركة عبد الله بن الزبير، وفي طريق العودة هاجمه أسطول بيزنطي في برقة بليبيا وقتل سنة 71 هـ. ،وتواصل تأثير الأحداث السياسية بالمشرق الإسلامي في فتح بلاد المغرب ،حيث تعطلت الحملات إلى حين القضاء على الحركة الزبيرية ،فأرسل الخليفة الأموي حسان بن النعمان على رأس جيش يعد 40000 مقاتل سنة 76 هـ ،وتمكن حسان من إخضاع القيروان ،وانتصر على البيزنطيين والبربر ،ودخل قرطاج ،وطرد الروم البيزنطيين منها.
ب – حركة الكاهنة: برزت حركة مقاومة بربرية أخرى قادتها القبائل الزناتية البدوية بجبال أوراس بالمغرب الأوسط (الجزائر) وتزعمتها امرأة وهي داهيا بنت ماتية بن تيفان أطلق عليها لقب الكاهنة ،وجهزت جيشا لمنع تقدم المسلمين فاتجه إليها حسان ،ودارت بينهما معركة في جبال أوراس انتهت بانتصار الكاهنة وتراجع الجيش الإسلامي إلى الجريد ثم إلى قابس ،وفي النهاية استقر في برقة، وهكذا تمكنت الكاهنة من بسط نفوذها على كامل بلاد المغرب من جديد ،وأعادت بناء مملكة كسيلة في حين انحسر الوجود العربي في منطقة برقة.
واعتمدت الكاهنة سياسة الأرض المحروقة ،فخربت العمران وأحرقت الزرع واقتلعت الأشجار وخربت البلاد حتى لا يطمع فيها المسلمون، إلا أن هذه السياسة تسببت في نقمة عدد كبير من البربر والأفارقة والروم على الكاهنة ففروا باتجاه الجيوش الإسلامية، وفي سنة 82 هـ دارت معركة بوسط إفريقية انتهت بانتصار حسان بن النعمان ومقتل الكاهنة ،واسترجع المسلمون نفوذهم على كامل بلاد المغرب من جديد ،وساهم هذا الانتصار في نشر الإسلام واللغة العربية في صفوف القبائل البربرية التي لم تكن ترفض الدين الجديد وإنما انساقت في معظمها وراء الطامعين في إنشاء إمارة بربرية.
وبشكل عام فإن عملية فتح بلاد المغرب كانت صعبة وبطيئة استغرقت حوالي نصف قرن متأثرة بأزمات الخلافة الإسلامية بالمشرق ،وكذلك بمحاولات التصدي التي تزعمها بعض القادة من البربر ودعمها الروم البيزنطيون.
ج – فتح المغرب الأقصى والأندلس:
عينت السلطة الأموية موسى بن نصير واليا جديدا لبلاد المغرب سنة 85 هـ فاتخذ القيروان عاصمة لولايته وواصل حملاته العسكرية باتجاه المغرب الأقصى فأخضع المناطق الغربية لوادي ملوية وصولا إلى المحيط الأطلسي وجعل من مدينة طنجة قاعدة بحرية لتجهيز الجيش والأسطول لدخول الأندلس مستغلا انتشار الإسلام في صفوف البربر الذين اندمجوا في الجيش الإسلامي وكذلك الانقسامات السياسية التي كانت تشهدها الأندلس.
وبدأت الغارات الأولى على السواحل الجنوبية للأندلس منذ سنة 91 هـ ثم عين موسى بن نصير طارق بن زياد وهو من أصل بربري على جيش من 7000 مقاتل أغلبهم من القبائل البربرية مثل مكناسة وزناتة وهوارة... وانطلق الأسطول من طنجة سنة 92 هـ/711 م وحقق انتصارا حاسما على جيش لذريق، والتحق موسى بن نصير بالأندلس ليدخل طليطلة وسرقسطة واشبيلية سنة 94 هـ ،ولم تتوقف الفتوحات الإسلامية بل تواصلت على كامل الأندلس ،ثم وصل عبد الرحمن الغافقي إلى مدينة بواتيي الفرنسية سنة 114 هـ/ 732 م وانهزم أمام شارل مارتال.
تؤكد هذه المعارك والحملات التي قادها المسلمون في إفريقية وبلاد المغرب وصولا إلى الأندلس أهمية المشروع الحضاري الذي حمله المسلمون في مغارب الأرض والمتمثل في نشر الدين الإسلامي وتعاليمه لإخراج هذه المناطق من سيطرة المسيحيين الروم والبيزنطيين من جهة ومن الديانات الأخرى التي انتشرت في صفوف البربر، ولم يكن طول المرحلة الزمنية التي استوجبها فتح بلاد المغرب سوى دليل على أهمية الصراع بين الدعوة إلى الإسلام والمقاومة التي تزعمها أصحاب النفوذ السياسي والاجتماعي الرافضين للدين الجديد الذي سلبهم تلك الزعامة والنفوذ ،ونزع عنهم كل سلطة تمكنهم من بسط سيطرتهم على السكان الأصليين للمنطقة أي البربر، كما تدل هذه الأحداث على أن أغلب القبائل البربرية دخلت الإسلام اقتناعا ورفضا للمعتقدات السابقة ولم تسلم نتيجة الحروب وحدة السيف والدليل على ذلك سهولة اندماج البربر في الحضارة الإسلامية ومساهمتهم في انتشارها ورقيها على غرار تزعم طارق بن زياد وهو بربري للجيش الفاتح للأندلس رغم تعدد القادة العرب، وتشهد الحضارة الإسلامية لبلاد المغرب على شدة اندماج العنصر الأصلي البربري في المجتمع الإسلامي الجديد من خلال المعالم الثقافية والعلمية والعمرانية لبلاد المغرب والتي قام فيها البربر بدور فعال وبنّاء.
Ii – الأبعاد الحضارية لانتشار الإسلام في بلاد المغرب:
تعددت مظاهر الازدهار الحضاري لبلاد المغرب بعد الفتح الإسلامي ،ومن بينها اندماج البربر في الحضارة العربية الإسلامية المتواصل إلى زمننا الحاضر ،وإثراء الحضارة الإنسانية بعدد هام من العلماء والمفكرين والمبدعين فضلا عن تطور الفنون كالعمارة والزخرفة...
1 – اندماج البربر في الحضارة الإسلامية:
واجهت الجيوش الإسلامية في بلاد المغرب قبائل بربرية تجيد فن القتال ومتمرسة في الحروب إلى جانب الجيش النظامي البيزنطي، وكانت تلك القبائل متحررة في أغلب الحالات من ولاءات أو أحلاف تجمع بينها وبقية القبائل في ما عدا المصالح المشتركة بحيث لم تكن توجد مظاهر وحدة تجمع بينها وتجعلها تتضامن وتتحالف للوقوف بقوة أمام التحديات الخارجية، ولهذا السبب كانت منطقة شمال إفريقيا منذ فجر التاريخ معرضة للغزوات المتتالية من الفينيقيين والرومان والبيزنطيين والوندال... فغياب المصير المشترك ووحدة العقيدة والثقافة أمران جعلا من القبائل البربرية تبحث عن هويتها المشتتة بين ولاء بعضها للبيزنطيين واستقلال البعض الآخر على أرضه طالما أنه قادر على الدفاع عنها. ولما جاء الإسلام فإنه مثل عامل وحدة ثقافية واجتماعية وعقائدية وسياسية اجتمعت حوله مختلف القبائل تتهافت على القيام بدور لبناء هذا الصرح العملاق المتمثل في "خير أمة أخرجت للناس" والمساهمة في تدعيم المكاسب كنشر الإسلام في الأندلس ودعم الحضارة الإسلامية بمعالم وشخصيات علمية لا يزال أثرها قائما إلى يوم الناس هذا، ويتشابه دور الدين الإسلامي في هذا المجال مع الدور الذي لعبه في الجزيرة العربية لما حثّ الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم على تأسيس نظام سياسي يتجاوز الإطار القبلي ،وأدى إلى نشأة الدولة الإسلامية التي يتساوى فيها جميع الناس بقطع النظر عن انتماءاتهم القبلية.
ولئن كانت بداية عملية اندماج البربر بطيئة فإنها توسعت وفق السياسة التي اتبعها الولاة ،حيث شجع أبو المهاجر دينار – وهو غير عربي – البربر على اعتناق الإسلام وكان مرنا معهم وأسلم على يده الكثير منهم مثل القائد كسيلة.
وفي سنة 65 هـ كان ثلث جيش زهير بن قيس البلوي من البربر، كما أن كسيلة لما دخل القيروان لم يدمرها وأمّن أهلها وكذلك فعلت الكاهنة، ومن جهة أخرى ساهمت سياسة القائد حسان بن النعمان في اندماج البربر في الحضارة الإسلامية لما اشترط على القبائل المنهزمة نحو 12000 رهينة لينشر في صفوفهم الدين الإسلامي ويدعم بهم الجيش لتحقيق الانتصارات ،كما ساهم هؤلاء الرهائن في نشر الإسلام بين ذويهم فيما بعد ،وشاركوا في الفتوحات ،ونالوا نصيبهم من الغنائم ومن الأراضي ،وارتقى العديد منهم في الرتب العسكرية، وتعتبر كل هذه الأمثلة نماذج إسلامية لكيفية تعامل القادة مع السكان الأصليين ،حيث إن المسلمين لم يصلوا إلى بلاد المغرب ناهبين ومخربين وقاهرين ومستبدين وإنما جاؤوا لرسالة أسمى ونظرة أرقى تتلخص في نشر كلمة التوحيد ورفع راية الإسلام إلى أبعد ما تسمح به الظروف والإمكانيات المتاحة، وكان رد الفعل من طرف البربر بالمثل ،حيث أقبلت جل القبائل على الإسلام واندمجت في المجتمع الإسلامي الجديد ليس بقوة السيف ،وإنما بالاقتناع وترسيخ العقيدة الإسلامية لدى فئات واسعة من السكان.
وليس غريبا عن هذه الحضارة الجديدة ببلاد المغرب أن يعين الوالي - وهو عربي – رجلا من البربر وهو طارق بن زياد ليتولى قيادة الجيش الإسلامي لفتح الأندلس، وأن يتكون جند موسى بن نصير من 17000 من العرب و12000 من البربر ،وبذلك نجح المسلمون في نقل مجال الصراع من داخل بلاد المغرب إلى الخارج ،وأصبح كل من العرب والبربر في خط واحد لمواجهة القوط الغربيين ولنشر الإسلام في الأندلس.
هذه المعالم أتت لتؤسس لحضارة جديدة لم يسبق لها مثيل لدى السكان الأصليين فأمر موسى بن نصير بتعليم القرآن للبربر ،وأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز عشرة علماء إلى بلاد المغرب لترسيخ القرآن والسنة النبوية وتعاليم الإسلام في صفوف البربر.
كما ساهم استيطان العرب ببلاد المغرب واختلاطهم بالسكان الأصليين في بناء المجتمع الإسلامي الجديد، فمنذ الفتوحات الأولى وفد إلى بلاد المغرب أكثر من 180000 رجل من المقاتلة العرب استقر أغلبهم فيما بعد بالقيروان وقد كتب اليعقوبي "في مدينة القيروان أخلاط من الناس من قريش ومن سائر بطون العرب من مضر وربيعة وقحطان وبها أصناف من العجم من أهل خراسان ومن كان وردها مع عمال بني هاشم من الجند وبها عجم من عجم البلد البربر والروم وأشباه ذلك"(اليعقوبي، البلدان ص 348).
ولم تقف مظاهر الحضارة الإسلامية ببلاد المغرب عند هذا الحد بل شملت ميادين كانت مجهولة من قبل مثل العلوم والفنون والعمارة.
2 – تطور العلوم ببلاد المغرب بعد الفتح الإسلامي:
شهد المغرب الإسلامي نهضة علمية تبرز معالمها من خلال تعدد مراكز العلم كجامع عقبة بالقيروان وجامع الزيتونة بتونس وجامع القرويين بفاس وجامع قرطبة بالأندلس... وقد اشتهر الولاة والأمراء بحذقهم للعلوم واللغات والفنون والآداب مثل إبراهيم بن الأغلب الذي أجاد الشعر والبلاغة ،والمعز لدين الله الفاطمي الذي تكلم عدة لغات كالبربرية والرومية والسودانية، وبرز في إفريقية العديد من العلماء المتخرجين من جامعة القيروان فاشتهر في اللغة والأدب ابن الطرماح وأحمد اللؤلؤي ومحمد بن جعفر القزاز، وفي الفلسفة أبو بكر القمودي وسعيد بن الحداد، كما تأسست بالقيروان مدرسة للطب ،واشتهر فيها عدد من الأطباء مثل إسحاق بن عمران ومحمد بن الجزار ،وخاصة أحمد بن الجزار صاحب كتاب "زاد المسافر"
كما تطور علم الجغرافيا واستغل في أغراض تطبيقية كالتجارة، وعلم التاريخ والأنساب ،وقد اشتهر فيه ابن حيان وابن حزم القرطبي والقاضي النعمان.
وقد ساهم الغرب الإسلامي مساهمة فعالة في إثراء الحضارة الإسلامية خاصة في المجال الفكري، فبرز العديد من المفكرين ومن أبرزهم ابن رشد الفقيه والقاضي والفيلسوف والطبيب الذي ولد سنة 530 هـ/1126 م بقرطبة وعاصر الفيلسوف ابن طفيل والطبيب ابن زهر، وعاش ابن رشد بين الأندلس والمغرب الأقصى ،وألف العديد من الكتب أهمها "تهافت التهافت" و"فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" و"الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة" و"الكليات في الطب" وصنّف فيه ابن رشد الأدوية حسب فعالياتها وآثارها، كما شرح ابن رشد فلسفة أرسطو ونقلها إلى الغرب ،ولخص مؤلفات جالينوس في الطب ،وأقبل الغرب المسيحي على مؤلفاته باعتباره أبرز مفكري التيار العقلاني داخل الفكر العربي الإسلامي ومرجعا هاما في الفكر الأوروبي ،فشكل بذلك نقطة تواصل وتفاعل بين الثقافتين الإسلامية والمسيحية.
كما أفرزت الحضارة الإسلامية ببلاد المغرب عالما اشتهر بمؤلفاته الجغرافية رغم أنه كتب في علم النبات والأدوية وهو الإدريسي الذي ولد في مدينة سبتة بالمغرب الأقصى في أواخر القرن الخامس هجري وتنسب عائلته إلى الأشراف الأدارسة العلويين ودرس في قرطبة ،ثم تنقل في عدة بلدان ،وألّف عدة كتب من أهمها "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" و"الأدوية المفردة". وأسس الإدريسي جغرافيته على مفاهيم علمية صحيحة أهمها كروية الأرض ووجود خط الاستواء والأقاليم المناخية ،وتأثير الجبال في تكييف المناخ وتوجيه الرياح ونزول الأمطار، كما أنجز الإدريسي خريطة العالم المعروف في ذلك الوقت على شكل كروي ،وذلك قبل أن يثبت العلم الحديث صحة هذا الشكل.
وتجاوز الإشعاع العلمي لبلاد المغرب حدود المنطقة الإفريقية ،حيث انتقل الإدريسي إلى جزيرة صقلية ،وعاش في قصر ملكها روجار الثاني الذي كلفه بتأليف كتاب شامل في وصف مملكته والبلدان المعروفة في ذلك العهد، وقد أشار ابن خلدون إلى تلك العلاقة حينما كتب "ونحاذي بذلك ما وقع في كتاب نزهة المشتاق الذي ألفه العلوي الإدريسي الحمودي لملك صقلية من الإفرنج وهو روجار بن روجار عندما كان نازلا عليه بصقلية... وكان تأليفه للكتاب في منتصف المائة السادسة ،وجمع له كتبا جمّة للمسعودي وابن خرداذبة والحوقلي وابن إسحاق المنجّم وبطليموس والعذري وغيرهم..." (ابن خلدون، المقدمة، ص 68).
ولم يقتصر دور الحضارة العربية الإسلامية ببلاد المغرب على العلوم والثقافة بل تجاوز ذلك إلى الفنون والعمران بما جعله قادرا على الإسهام في تطوير التراث الإنساني وإثرائه بإضافات بناءة كانت منطلقا للنهضة الأوروبية الحديثة.
3 – ازدهار فن العمارة الإسلامية ببلاد المغرب:
شهد الغرب الإسلامي نهضة عمرانية لم يسبق لها مثيل تميزت بتعدد المدن إلى حد بروز شبكة حضرية متكونة من مدن كبرى ووسطى وصغرى، واشتهرت المدن الهامة بتنوع خصوصياتها المعمارية كالجوامع والقصور المتميزة بأشكالها الفنية المزخرفة.
أ – تعدد المدن الكبرى بالغرب الإسلامي
تأسست بالغرب الإسلامي شبكة حضرية متمحورة حول المدن الكبرى التي أسسها الأمراء واتخذوها عواصم لدولهم وقواعد لجيوشهم ،مثل القيروان وفاس وسجلماسة وتيارت (تاهرت) وقرطبة بالأندلس، ونشأت المدن المتوسطة والصغرى على طول المسالك والطرقات التي اتجهت نحو المشرق وباتجاه بلاد السودان جنوبا.
- مدينة القيروان: تم اختيار موضع القيروان على سهل فسيح حيث شيدت على أنقاض حصن بيزنطي من طرف عقبة بن نافع، وكانت القيروان في موقع حصين بعيدة عن البحر لتفادي غزوات البيزنطيين وهي في سهل خصب تتوفر به المراعي وعلى طريق المسالك التجارية الرابطة بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب، وفي عهد الخليفة هشام بن عبد الملك تم تجهيز المدينة بفسقيات ،وهي مواجل كبيرة الحجم تقع شمال المدينة وجنوبها تجمّع بها المياه لحاجة السكان كما توسعت أسواقها وأحيطت بسور يبلغ عرضه خمسة أمتار، وامتدت المدينة خاصة في العهد الأغلبي فشيدت القصور خاصة في العباسية ورقّادة وصبرة المنصورية وازدهرت صناعاتها وقصدها الناس من كل مكان للتعلّم والتجارة والإقامة حتى أصبحت من أهم الحواضر الإسلامية.
- مدينة المهدية: تقع المهدية على الساحل الشرقي لإفريقية، أسسها عبيد الله المهدي سنة 302 هـ على موقع روماني قديم يسمى جُمّة واختارها عاصمة للدولة الفاطمية عوضا عن القيروان، وقسم المهدي عاصمته إلى قسمين أحدهما مقر الدولة والجامع والأسواق ودار الصناعة والميناء المنقور في الصخر ويدعى المهدية وأحاطها بسور، والثاني لعامة الناس ويدعى زويلة ،ويفصل بين المدينتين باب الفتوح، ولا تزال معالم المهدية الفاطمية قائمة إلى يومنا هذا شاهدة على شموخ الحضارة الإسلامية بالغرب الإسلامي رغم الحروب والحملات التدميرية التي تعرضت لها، ذكر البكري حول المهدية "ولمدينتها بابا حديد لا خشب فيهما زنة كل باب ألف قنطار وطوله ثلاثون شبرا في كل مسمار من مساميرها ستة أرطال... وفي المهدية من المواجل العظام 360... ومرساها منقور من حجر صلد يسع ثلاثين مركبا وعلى طرف المرسى برجان بينهما سلسلة من حديد... وكان لها أرباض كثيرة آهلة عامرة أقربها إليها ربض زويلة فيه الأسواق والحمامات..." (البكري، المسالك ص 29-31).
- مدينة سجلماسة: هي مدينة صحراوية تقع في تافيلالت تنطلق منها القوافل التجارية إلى بلاد السودان جنوبا وإلى فاس شمالا، تأسست سجلماسة سنة 140 هـ لتكون عاصمة لبني مدرار الصفريين ومركزا تجاريا صحراويا هاما، شيدت بها القصور والمصانع والمساجد ولها سور يفتح بواسطة 12 بابا ولها أرباض كثيرة، وكان ازدهار سجلماسة مرتبطا بنشاط التجارة الصحراوية حيث تراكمت إيرادات الذهب من بلاد السودان ومرت بها القوافل قادمة من فاس وأغمات والسوس والسودان وحققت تجارتها أرباحا طائلة.
- مدينة فاس: أنشأها الأدارسة سنة 172 هـ وتقع أسفل جبال الأطلس الأوسط في سهل فسيح واشتهرت بجامع القرويين الذي يعتبر من أهم معالم المدينة إلى يومنا هذا.
تعتبر هذه المدن الكبرى أمثلة معبرة عن حركة التعمير والتمدين التي شهدها الغرب الإسلامي بعد الفتح ،ولا تزال هذه المدن قائمة إلى اليوم لتؤكد تواصل الحضارة الإسلامية ببلاد المغرب على عكس المدن التي شيدت زمن الفينيقيين والرومان والبيزنطيين والتي لم يبق منها سوى بعض الآثار.
ب – تطور فن العمارة بالغرب الإسلامي
يبرز ازدهار الفن المعماري ببلاد المغرب من خلال العمارة الدينية والمتمثلة في المساجد والجوامع والرباطات، والعمارة المدنية المتكونة من القصور والمنازل والمنشآت المائية الكبرى.
- المساجد والجوامع: شيدت المساجد والجوامع في جميع مناطق المغرب الإسلامي بالأرياف والمدن وهي تدل على متانة العلاقة القائمة بين السكان والدين الجديد، وكانت خطة بناء الجوامع متشابهة حيث تكوّن أغلبها من الصحن وقاعة الصلاة والمحراب مع تواجد الأعمدة الرخامية والشمسيات البلورية والقباب.
ويعتبر جامع القيروان من أهم المنشآت الدينية ببلاد المغرب، شيّد على مراحل عديدة وتم توسيعه عدة مرات. تنقسم قاعة الصلاة إلى 17 بلاطة أعرضها البلاطة الوسطى التي تؤدي إلى المحراب، ويقوم الجامع على أعمدة تعلوها تيجان ومسندات خشبية وحوامل عقود وعقود تضمن الإضاءة والتهوئة، ويضم الجامع قبة المحراب وقبة البهو ومنارة قاعدتها ذات شكل مربع تعلوها قبة، أما المحراب فتغطيه لوحات رخامية تعلوها الزخارف الجصية والخشب المذهب.
جامع عقبة بن نافع بالقيروان
- الرباطات: الرباط منشأة دينية وتعليمية وعسكرية تبنى على السواحل لمراقبتها من الغزوات البحرية وكانت الرباطات عبارة عن حصون دفاعية تتكون من عدة غرف ومسجد وتوجد أبراج دائرية في زواياه ويحتوي كل رباط على منارة مستديرة الشكل. ومن أهم الرباطات ما شيد على ساحل سوسة والمنستير وكذلك رباطات المدن المغربية.
- القصور: يعتبر تشييد القصور دليلا على أوج الرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي الذي تحقق خاصة للفئات الثرية المقيمة بالمدن وخاصة بالقيروان ،مثل قصر الصحن برقادة وكان يتكون من 109 غرفة ويحيط به سور ضلعه 104 مترا، كما تعددت القصور بفاس وسجلماسة وكذلك بمدن الأندلس وخاصة الزهراء وقرطبة، ولا تزال آثار هذه القصور قائمة إلى اليوم.
وتميزت العمارة المغربية بالزخرفة كالنقوش والعقود والأعمدة والتيجان والحنيات ،وكانت هذه الأشكال الفنية تنحت وتنقش على الرخام والحجارة والجص والخشب إضافة إلى الرسوم والألوان التي زينت المواد الخزفية وتكونت من أشكال طبيعية مثل ورق العنب والبراعم وجريد النخل إضافة على الأشكال الهندسية كالظفائر المعقدة والحروف العربية المكتوبة بالقلم الكوفي.
خــاتمة:
كانت بلاد المغرب قبل الفتح الإسلامي خاضعة لقوى أجنبية متتالية كالفينيقيين والرومان والبيزنطيين ،ولم يكن للبربر والأفارقة دور هام في الحضارة المغربية بل كانوا مستغلين من طرف الغزاة عن طريق الجباية والتجنيد والعبودية والسبي... فعلى مر العصور لم يدخل البربر التاريخ البشري ،ولم تكن مساهمتهم في الحضارة الإنسانية هامة إلى حين دخولهم الإسلام، ومثل فتح بلاد المغرب منعرجا حاسما في تاريخ المنطقة حيث اندمجت العناصر المحلية في المجتمع الجديد ليحصل التلاقح الثقافي بين المسلمين والبربر ومهّد لنشأة حضارة مضيئة في تاريخ الإنسانية لا تزال معالمها قائمة إلى يومنا هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جامعة منوبة تونس
المراجع:
- ابن خلدون، المقدمة، المكتبة التجارية الكبرى، مصر
- ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، دار المعرفة، مصر
- ابن عذاري المراكشي (ألف سنة 712 هـ/1312 م) البيان المغرب في أخبار المغرب
- أحمد عبد الرزاق أحمد، 1990، الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، القاهرة
- البلاذري (279 هـ/892 م) فتوح البلدان
- البكري، المسالك
- الواقدي (207 هـ/822 م): كتاب فتوح افريقية
- عبد الرحمن بن عبد الحكم (257 هـ/ 871 م): فتوح مصر والمغرب والأندلس
- سعد زغلول عبد الحميد، 1965، تاريخ المغرب العربي
- محمد الطالبي، 1985، الدولة الأغلبية (184-296 هـ) التاريخ السياسي
- لبيب عبد الستار، 1986، الحضارات، دار المشرق بيروت
- موسوعة بهجة المعرفة، 1982، طرابلس
- المركز الوطني البيداغوجي، 2005، كتاب التاريخ للسنة الثانية آداب وعلوم.
المصدر : موقع منارات إفريقيا










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
الاسلامي, التاريخ


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 03:03

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2023 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc