تابع ( الجزء الأخير)
ثالثاً: (الأسباب الخاصة بالمربين)
الاستعجال في التصدير، والحكم على الأشخاص قبل التبين.
بل ربما المباهاة بهم ورفعهم على أكتاف غيرهم ، وهذا عادة يُنشء الاكتفاء المبكر على الذات، والشروع في العطاء قبل الأخذ، و نقد الآخرين واستنقاصهم.
الضعف العلمي والتربوي
وانتقاله عبر الأجيال، واعتقاد بعضهم الكمال العلمي والتربوي.
سوء الاهتمام بالفرد، وعدم الصبر عليه.
وإن الاهتمام لابد وأن يشمل الجوانب التي تجب على المربي تجاه من معه من متابعة، و تقويم، والعناية العلمية والدعوية، والسلوكية، والاجتماعية، وبحث الخطط العملية في ذلك، واستشرافها من ذوي الاختصاص والخبرة.
والعمل على صقل مواهب الفرد، وتوفير القنوات المناسبة لإبرازها و ترقيتها، فالمنبر للملقي، والورقة للكاتب، والإعلام للصحفي والمذيع، و البحث والقراءة للمؤلف والناقد، وكافة المهارات والمواهب.
ضعف البصيرة بالواقع، وسوء مجاراة برامجه للواقع المعاصر،
فنجد البعض لازال عطاؤه منذ سنين عديدة هو ذات العطاء، وذات المادة والمحتوى، وذات الوسيلة، وربما أسقط التهم وضعف الفائدية في الجديد والمفيد. أقول إنا في عصر العولمة، عصر الفيس بوك والتويتر، عصر البرودباند والأجهزة الذكية، عصر الفكر والثقافة فلابد أن تجاري البرامج والعطاءات هذه المفاصل، ولا يُستغنى عن الأصل والمبدأ، مع توظيف الحديث، والإفادة من الجديد.
قلة الفهم والوعي بالتربية
لاسيما بالطرق المناسبة للتعامل مع من أصابه الفتور، أو من انتكس.
الانهزامية النفسية أمام بعض الفتن والمآزق.
فرض السيطرة والتحكم المركزي،
والاستعباد السلوكي والعلمي للفرد.
امتهان شخصية المتربي وإهمال الحاجات النفسية والعاطفية
كالحاجة للحب والتقدير وإعطاء الثقة في النفس، والبعد عن إشباعها والعناية بها، والعكس صحيح في وجود التدليل والسكوت عن الأخطاء وإرجاء عمل الحلول لها بهدف تحبيبه وعدم مجابهته مبكراً، وكل ذلك يُفضي إلى تدهور إيمان المتربي، وسقوطه - والعياذ بالله-،
ولاغرو أن يسجل المربي الأول في ذلك رقماً سابقاً، عن عثمان- رضي الله عنه- قال: إنا والله قد صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن أناساً يعلموني به، عسى ألا يكون أحدهم رآه قط.رواه أحمد وحسنه أحمد شاكر.
وموقفه عليه الصلاة والسلام مع أخي أنس الصغير حين سأله عن طائره النغير، ومع جابر حين سأله عن زوجه، بل كان النبي -عليه الصلاة والسلام- سائلاً وعالماً بأحوال أصحابه، وهذا قائد إلى القرب منهم والشعور بحاجاتهم.
سقوط بعض القدوات ورجال العامة فيما كانوا يدعون لنبذه ومعاداته،
بل أصبح التمييع في بعض المسلمات، والانفتاح غير المنضبط هوية البعض، وهذا وإن كان لا يمثل ظاهرة، وربما كان بعضهم لا يقصد به تراخياً وتنازلاً أقصد القدوات إلا أن بعض المتأخرين أسقطوا ذلك على مسايرة الواقع، والفهم للعصر الحاضر، وحين تبحث عن عشرة أحاديث صحيحة في جعبة بعضهم مقارنة بأولئك فلا تكاد تجد نصفها.
أقول والحديث هنا عن المربي، لزوماً ألا ينبري لمهنة التربية والتي هي حرفة العظماء لإخراج العظماء إلا من انطبقت عليه ملامح وخصال المربي، وليست مهنة عادية، بل هي من أعظم المهن حيث أنها تقوم على أعظم الخلق، يقول أحد الكتاب، وهو يتحدث عن المربي: (ولكنا هنا ونحن نتحدث عن المربي، نشير إلى هذه البديهية، وهي أن من يعجز عن القيادة لا يصلح للتربية، ولو كان في ذاته شخصاً طيباً مشتملاً على كل جميل من الخصال.. وليس كل إنسان طيب الخصال قادراً على القيادة ولا الزعامة، ولا مطالباً بها كذلك! فهي أصلاً موهبة لدنية، تصقلها التجارب وتزيدها مضاء وقدرة، ولكنها لا تنشئها حيث لا تكون!).
(معينات على تجاوز المرحلة)
مع معرفة الأسباب يظهر لنا العلاج بفعل خلافها، وقد وردت بعض الحلول حيال ذكر الدافع، ويُزاد على ذلك ما يلي:
الدعاء، والابتهال إلى الله بالمعونة والثبات،
وما أعظم ما أورثته النصوص في ذلك
.{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } [آل عمران:8], وقد كان يكثر عليه الصلاة والسلام في سجوده: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) رواه الترمذي.
الحرص على البيئة العلمية التربوية الجادة،
ومواكبة ذلك في كل مكان زمان حتى الموت، والبحث عن صاحب سنة يعينك وتعينه، وتدارسه ويدارسك. ففي الترمذي عن حنظلة - رضي الله عنه- وكان من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بأبي بكر وهو يبكي فقال: ما لك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا أبا بكر نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة نسينا كثيراً. قال: فو الله إنا لكذلك انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما لك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيراً، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" لو تدومون على الحال الذي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم وعلى فرشكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح،
ونأخذ من هذا الحديث كيف هو حال المؤمن حين يقترب من مصدر قوته، وهم العلماء أصحاب الهدى، وكيف به إذا انشغل بالدنيا.
تربية النفس ومجاهدتها و تزكيتها، وأطرها على الحق أطراً،
(قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته) مختصر منهاج القاصدين ص403، وهذا يمثل أحد جوانب التزكية عند أفضل الأمة إيماناً، (وقال أنس - رضي الله عنه -: سمعت عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- ودخل حائطاً فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك. وقال البختري بن حارثة: دخلت على عابد بين يديه نار قد أججها وهو يعاتي نفسه، فلم يزل يعاتبها حتى مات). المرجع السابق.
ووسائل ذلك كثيرة منها:
ت
دبر القرآن الكريم والعمل بما فيه، و معايشة مجالس الإيمان والوعظ و ترقيق القلب، سواء بالقراءة أو بمجالسة الوعاظ والمصلحين، وحضور مجالس الزاهدين والورعين.
الدوام على الطاعة والعمل الصالح،
وهو هدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كما تروي أمنا عائشة- رضي الله عنها - فتقول:"
كان أحب العمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يداوم عليه صاحبه".رواه البخاري، وهنا لفته جميلة وهي المداومة، لأنها كالزاد للمسافر ليسده في طريقه، وأما الانقطاع عن الطاعات، وإهمالها فذلك منفذ خطير على قلب العبد، وسلوكه.
تتبع قصص السلف، ومعرفة آثارهم وأقوالهم.
الاستشارة والتأني في القراءة لاسيما عند الإطلاع على الحضارات، و نيل الثقافات الأخرى.
الولوج في المشاريع والأعمال الدعوية،
والتي من خلالها يشرع الفرد في العمل، وربط العلم به، وتنمي عنده الانتماء لما يؤمن به، ويصعب اهتزاز وارتجاف المبادئ والقناعات التي يعتقدها.
(الخاتمة)
إن حرص المؤمن على أغلى ما يكنزه، وحفاظه على دينه الذي يمثل مهجته وحياته كلها، وبذله الغالي والرخيص في نمائه وزيادته، وعدم المساس به، أو التعدي عليه بأي شكل من الأشكال؛ ليمثل خلاصة موضوعنا، ومسكه الأخير..
وليس ما عرجنا عليه بالحديث المستفيض الذي يقف مع كل نقطة ليشرحها، ويصف مظاهرها وعلاجها، ولكن حسبي أني صورت شيئاً من الداء والدواء لنفسي أولاً، ثم لمن أراد من المؤمنين. يصف الواقع، وينير الطريق، ويبين الحقيقة - بإذن الله-.فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك..
وفي الختام أقول ما كان من حق وهدى فالله منه الخير والتقى، وإن زلل فنفسي وشيطاني والهوى، وأقول كما قال الأول: السعيد من اتعظ بغيره،والشقي من اتعظ غيره به... ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب..