قد يقول القائل : لكن قد ورد في السنة ما يمنع حتى صلاة الجنازة في المقبرة لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه:" أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى على الجنائز بين القبور" ؟
قال الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ في (أحكام الجنائز)(138) : أخرجه الأعرابي في " معجمه " (ق 235/ 1) والطبراني في " المعجم الأوسط " (1/ 80 / 2) ومن طريقه الضياء المقدسي في " الأحاديث المختارة " (79/ 2 - مسند أنس) وقال الهيثمي في " المجمع " (3/ 36): " وإسناده حسن ".
قلت ـ الألباني ـ : وله طريق أخرى عن أنس، عند الضياء يتقوى الحديث بها. ا.هـ
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ : هذا حديث قد رواه وأخرجه جمع من الحفاظ في مصنفاتهم منهم :
1 ـ أخرجه البزار في مسنده (13/ 112) من طريق عبد الله بن سعيد قال : حَدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأَجْلَحِ , عَنْ عَاصِم، عَن أَنَسٍ، قَالَ: نُهِيَ عَنِ الصَّلاةِ بَيْنَ الْقُبُورِ.
" عبد الله بن سعيد الأشج " ، قال عنه أَبُو حَاتِم : ثقة، صدوق. وَقَال فِي رواية أخرى: الأشج إمام أهل زمانه ، وَقَال النَّسَائي : صدوق. وَقَال في موضع آخر : ليس به بأس. ([14])
" عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأَجْلَحِ " قال عنه أبو حاتم : لا بأس به ، وذكره ابنُ حِبَّان في كتاب (الثقات) ([15])
" عاصم الأحول " وثقه الإمام أحمد وابن المديني والعجلي ([16])
فرجال هذا السند ثقات
2 ـ وقال ـ أي : البزار ـ في مسنده (13/ 507) وجدت في كتابي، عَن أبي هشام، حَدَّثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن أَبِي سُفيان - يَعْنِي: السعدي- عَنْ ثُمَامَةَ، عَن أَنَس : فذكره .
" أبوهشام" هو مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بن محمد الرِّفَاعِيُّ ،قال فيه الإمام الألباني : إن متابعة أبي هشام الرفاعي ، لا بأس بها، فإن أبا هشام، وإن ضعفه بعض الأئمة فليس من أجل تهمة فيه ([17])
" أبو معاوية " هو مُحَمَّد بْن خازم الضرير ، قال فيه يعقوب بن شَيْبَة : كان من الثقات وربما دلس ، وَقَال النَّسَائي : ثقة ، وَقَال ابْن خراش : صدوق، وهو في الأعمش ثقة، وفي غيره فيه اضطراب. ([18])
" أبوسفيان السعدي " هو طريف بن شهاب ، قال عنه ابن عبد البر اجمعوا على أنه ضعيف الحديث ([19])
" ثمامة بن عبد الله بن أنس " قال فيه ابن حجر في (التقريب)(ص: 134) : صدوق
3 ـ وأخرجه أيضا ـ أي : البزار ـ في مسنده (13/ 198) ، وأبو يعلى الموصلي في مسنده (5/ 175)
من طريق محمد بن المثني [ قَال فيه أَبُو بَكْر الخطيب : كان صدوقا، ورعا، فاضلا، عاقلا، وَقَال في موضع آخر: كَانَ ثقة ثبتا، احتج سائر الأئمة بحديثه] ([20]) .
وأخرجه ابن حبان في صحيحه (4/ 596) من طريق عَبْد اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى عَبْدَانُ [ قال فيه الخطيب : كان أحد الحفاظ الأثبات] ([21])، قال : حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ [قال فيه أَبُو حاتم : صدوق ، وذكره ابنُ حِبَّان في كتاب "الثقات" ] ([22])، وَأَبُو مُوسَى الزَّمِنُ [هو محمد بن المثنى].
وأيضا أخرجه ـ أي : ابن حبان ـ عنه في (6/ 89 ـ 90) من طريق مُحَمَّد بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَوْنٍ الرَّيَّانِيُّ [ وثّقه الخطيب.] ([23])، أنه قَالَ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ [ قَال عنه أَبُو حاتم : صدوق ، وَقَال النَّسَائي : ثقة ، وذكره ابنُ حِبَّان في كتاب "الثقات ] ([24])
كلهم عن حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ , عَنِ الأَشْعَثِ, عَنِ الْحَسَنِ، عَن أَنَس :" أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الصَّلاةِ بَيْنَ الْقُبُورِ. "
" حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ"وثقه الأئمة : يحيى بن معين والعجلي ويحيى بن سعيد وغيرهم ([26])
" الأشعث" هو واحد من ثلاثة كلهم يروون عن الحسن
الأول: أشعث بن سوار الكندي.
الثاني : أشعث بن عبد الله بن جابر الحداني.
الثالث: أشعث بن عبد الملك الحمراني.
وكل هؤلاء ثقات غير الأول ففيه ضعف، ولكن لا بأس به في المتابعات، كما يشير إلى ذلك ما حكاه البرقاني عن الدارقطني، قال:" قلت للدارقطني: أشعث عن الحسن؟ قال: هم ثلاثة يحدثون جميعا عن الحسن:الحمراني وهو ابن عبد الملك أبو هاني ثقة. وابن عبد الله بن جابر الحداني
يعتبر به، وابن سوار، يعتبر به وهو أضعفهم ".([27])
على كل الحال فالحديث قد حكم عليه أئمة الصنعة بالصحة ومنهم الإمام الألباني كما جاء عنه ذلك في (التعليقات الحسان )(4/ 130) .
ولكن الإشكال في لفظة " الجنائز" التي جاءت في رواية محمد بن سيرين مع أن الحديث مخرجه واحد عن أنس ، فمن تأمل في متنها وسندها التي جاءت فيه يحكم عليها بالشذوذ لمخالفة رجال سندها لمن هم أوثق منهم
أولا : هذه اللفظة قد ذكرها ابن الأعرابي في معجمه (3/ 1081) من طريق الْفَضْل : نا الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الطَّحَّانُ، نا جَعْفَرٌ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلَّى بَيْنَ الْقُبُورِ عَلَى الْجَنَائِزِ "
" الفضل " هو أبو العباس ابن يوسف بن يعقوب بن حمزة الجعفي ذكره ابن حبان في الثقات (9/ 8)
" الحسين بن يزيد الطحان" ، وثقه ابن حبان، وقال أبو حاتم : حدثنا عنه مسلم بن الحجاج، وهو لين الحديث. ([28])
" جعفر" هو جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنُ بِنْتِ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ كما ستقف على ذلك بعد حين في صحيح ابن حبان
وأيضا ذكرها الطبراني في الأوسط (6/ 6) بنفس السند ولكن أسقط منه" جعفر" .
فـمدارها ـ والله أعلم ـ على" الحسين بن يزيد " ، وقد عرفت لينه ، وهو مع ذلك قد خالف فيها عبد الله بن الأجلح سندا ومتنا ، إذ السند يرويه ابن الأجلح عن عاصم عن أنس بدون زيادة لفظة " الجنائز " ، والحسين يرويه عن محمد بن سيرين بزيادة تلك اللفظة في المتن ، وإذا دار الأمر بين ابن الأجلح والحسين بن يزيد ، فابن الأجلح أثبت منه مع ما يشهد له من الشواهد التي ذكرتها بدون ذكر تلك الزيادة في متنها ، بل يشهد لها حتى الحسين بن يزيد إذ روى الحديث عن حفص، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلَّى بَيْنَ الْقُبُورِ " ([29]) ، بدون ذكر تلك الزيادة كما ترى ، وهو في هذا الطريق قد وافق الجماعة سندا ومتنا .
أما ما جاء عن المقدسي في المختارة (5/ 245) أنه قال : أَخْبَرَنَا أَبُو رَوْحٍ عَبْدُ الْمُعِزِّ بْنُ مُحَمَّدٍ بِهَرَاةَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ أَحْمد الدَّارمِيّ أَخْبَرَهُمْ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أبنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بن مُحَمَّد الْفَارِسِي أبنا أبوبكر أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ بِشْرِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الضَّرَّابُ ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ حَيَّانَ السَّامِيُّ ثَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ عَنْبَسَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ الأَزْرَقُ ثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنِ الأَشْعَثِ وَعِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :" نهى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْجَنَائِزِ بَيْنَ الْقُبُورِ "
فالمقدسي قد خالف ابن حبان في هذا المتن بزيادة " الجنائز " ، إذ جاء عن ابن حبان في صحيحه (2317) أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ هُذَيْلٍ الْقَصَبِيُّ بِوَاسِطَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنُ بِنْتِ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ أَشْعَثَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُدَيرٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ:" أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور"
قال الإمام الألباني في (التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان)(4/ 132) : صحيح .
قلت : ولا يخفى على أهل الشأن أن ابن حبان أعلى مرتبة من المقدسي .
قال الإمام ابن تيمية في ( الرد على الإخنائي)(ص: 264) عند ذكره حديث (لا تتخذوا بيتي عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم).
(( وهذا الحديث مما خرجه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد المختارة الزائدة على ما في الصحيحين، وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم، وهو قريب من تصحيح الترمذي وأبي حاتم البستي ونحوهما ))
وبهذا يتبين أن لفظة " الجنائز" في الحديث شاذة لا تقبل زيادتها من الحسين بن يزيد ، إذ هو ليس ممن يحتمل تفرده لما قد رمي به بأنه لين الحديث مع مخالفته لمن هو أوثق منه .
قد يقول القائل : لكن قد جاء في مصنف ابن أبي شيبة (2/ 154) ما يشهد بصحة هذه اللفظة حيث قال : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ «أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَقْبَرَةِ»
وهذا السند رجاله ثقات ؟
الجواب : هذا صحيح ، ولكنه كما ترى فهو موقوف على أنس ـ رضي الله عنه ـ ، وقد جاء ما يخالفه من عمل الصحابة
ومن ذلك ما ذكره الإمام محمد الأمين ـ رحمه الله ـ في (أضواء البيان )(2/ 297)
(( وَقَدْ حَكَى الْخَطَّابِيُّ «فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ. وَحُكِيَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ صَلَّى فِي الْمَقْبَرَةِ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى وَسْطَ الْقُبُورِ؟ قَالَ: لَقَدْ صَلَّيْنَا عَلَى عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَسْطَ الْبَقِيعِ وَالْإِمَامُ يَوْمَ صَلَّيْنَا عَلَى عَائِشَةَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -،([30]) وَحَضَرَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. )) ا.هـ
وقال الحافظ الإمام ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في (فتح الباري )(3/ 197)
(( قال ابن المنذر: وقد قال نافع مولى ابن عمر: صلينا على عائشة وأم سلمه وسط البقيع، والإمام يومئذ أبو هريرة، وحضر ذلك ابن عمر.
قلت: صلاة الجنازة مستثناة من النهي عند الإمام أحمد وغيره، وقد سبق قول أحمد في ذلك.
وقال أيضاً -: لا يصلي في مسجد بين المقابر إلا الجنائز؛ لأن الجنائز هذه سنتها.
يشير إلى فعل الصحابة - رضي الله عنهم -.
قال ابن المنذر: وروينا أن واثلة بن الأسقع كان يصلي في المقبرة، غير أنه لا يستتر بقبر.
قلت: لأنه هو روى عن أبي مرثد حديث النهي عن الصلاة إلى القبور، فكان يخص النهي بحاله استقبال القبر خاصة.
قال ابن المنذر: وصلى الحسن البصري قي المقابر.
قلت: لعله صلى على جنازة، فإنه روي عنه أنه أمر بهدم المساجد المبنية في المقابر.([31])
قال: وكره عمر بن الخطاب وأنس بن مالك الصلاة إلى المقابر. انتهى ما ذكره. )) ا.هـ
فهذا ما تيسر لي جمعه وبيانه في هذه المسألة مع اعترافي بالقصور والضعف في هذا الفن الشريف العظيم ، وما هذا منى إلا مجرد محاولة نسأل الله تعالى فيها السداد والتوفيق والإصابة ، فمن وجد لنا خطأ فلا يبخل علينا بالتنبيه والتصحيح والله الموفق .
وفي الختام هذا الجمع الفقهي والبحث الحديثي أنبه على مسألة مهمة طالما غفل عنها عامة المسلمين ، والشباب الإسلامي خاصة الحريص على التمسك بالسنة وتطبيقها ، أنه كثيرا ما يقع بينهم من الاختلاف والتنازع والخصام ، بل التقاطع والهجر والاقتتال ، والإساءة للدعوة الإسلامية وهدم أسسها وأصولها والتي من أبرزها الاجتماع والائتلاف ونبذ الفرقة والاختلاف ، في مسائل اجتهادية قد اختلف فيها سلف الأمة من العهد الأول إلى يومنا هذا ، ولم يوجب اختلافهم فيها التقاطع والخصام الذي تنكره الشريعة والعقول السديدة والفطر السليمة ، وهذا من فقههم الغزير وفهمهم السليم وتطبيقهم السديد للسنة ، بل كان أحدهم من حرصه على اجتماع كلمة الجماعة ، والمحافظة على أصولها يترك قوله وما يراه راجحا عنده ليوافق الجماعة .
قال الإمام أبو عمر ابن عبد البر في (الاستذكار)(1/ 409)
(( ذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ كَانَ عِنْدَنَا جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الصَّلَاةِ عَلَى حَدِيثِ بن عُمَرَ وَرِوَايَةِ مَنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٌ لَا يَرْفَعُونَ إِلَّا فِي الْإِحْرَامِ عَلَى رواية بن الْقَاسِمِ فَمَا عَابَ هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ
وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا أَبَا عُمَرَ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَاشِمٍ يَقُولُ كَانَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ شَيْخُنَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ عَلَى حَدِيثِ بن عُمَرَ فِي الْمُوَطَّأِ وَكَانَ أَفْضَلَ مَنْ رَأَيْتُ وَأَفْقَهَهُمْ وَأَصَحَّهُمْ عِلْمًا فَقُلْتُ لِأَبِي عُمَرَ لِمَ لَا تَرْفَعُ فَنَقْتَدِي بِكَ قَالَ لَا أُخَالِفُ رواية بن الْقَاسِمِ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ عِنْدَنَا الْيَوْمَ عَلَيْهَا وَمُخَالَفَةُ الْجَمَاعَةِ فِيمَا أُبِيحَ لَنَا لَيْسَتْ مِنْ شِيَمِ الْأَئِمَّةِ )) ا.هـ
يقول صاحب كتاب ([32])( القول المعتمد في حكم تحية المسجد)(ص 65 ـ 67) مقررا هذا الأصل والثابت .
(( تنبيه هام : إن فعل تحية المسجد في أوقات النهي ويوم الجمعة والإمام على المنبر هي من المسائل الاجتهادية الفرعية التي اختلف فيها أهل العلم من عصر الصحابة إلى يومنا هذا وهم أهل الفقه في الدين والإنصاف وهم لا يجوزون أبدا أن تكون مثل هذه المسائل الفرعية وإن ترجح فيها جانب على آخر سببا في الفرقة والاختلاف بين المسلمين في المدينة الواحدة ، بل في المسجد الواحد وذلك سدا لذريعة الشذوذ والخروج عن الجماعة ، لأن في هذا معارضة لمقاصد الشريعة الداعية إلى الائتلاف والاجتماع والمحذرة من الاختلاف والافتراق .
فعلى المسلم العاقل وطالب العلم خاصة أن يقصد إلى تأليف قلوب أهل بلاده ومسجده .
قال ابن عبدالبر :" فَكُلُّ قَوْمٍ يَنْبَغِي لَهُمُ امْتِثَالُ طَرِيقِ سَلَفِهِمْ فِيمَا سَبَقَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَسُلُوكِ مِنْهَاجِهِمْ فِيمَا احْتَمَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبِرِّ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مُبَاحًا مَرْغُوبًا فِيهِ "([33])
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :" فَإِنَّ الِاعْتِصَامَ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَالْفَرْعُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مِنْ الْفُرُوعِ الْخَفِيَّةِ فَكَيْفَ يَقْدَحُ فِي الْأَصْلِ بِحِفْظِ الْفَرْعِ "([34])
ومما يؤسف له أن بعض المندفعين في بعض الأمصار التي ساد وانتشر فيها مذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ القائل بمنع تحية المسجد والإمام على المنبر يوم الجمعة وفي أوقات النهي بناء على اجتهاده في النصوص الواردة في ذلك يتحرى هذا المندفع وقت صعود الإمام المنبر للخطبة وأوقات النهي فيدخل المسجد لتحيته ولو ترتب على فعله ما ترتب من خصام ونزاع ونفور بحجة أنه يقيم السنة ، وجهل هذا المندفع بأن اجتماع الكلمة وتأليف القلوب من أعظم مقاصد الشريعة الإسلامية وأهدافها وخاصة أن مثل هذه المسائل المذكورة الخلاف فيها قديم من عهد الصحابة رضي الله عنهم واستمر في عهد التابعين والأئمة المجتهدين إلى عهد المحققين من أهل العلم ولم ينقل عنهم تفرقوا واختصموا في مثل هذه المسائل الفرعية بل شملهم كلهم مذهب أهل السنة والجماعة ، وكانوا يذمون من يخرج عن دائرة الاعتدال إلى التعصب في مثل هذه المسائل .
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : وَأَمَّا التَّعَصُّبُ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَحْوِهَا فَمِنْ شَعَائِرِ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي نُهِينَا عَنْهَا؛ إذْ الدَّاعِي لِذَلِكَ هُوَ تَرْجِيحُ الشَّعَائِرِ الْمُفْتَرِقَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَإِلَّا فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِنْ أَخَفِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ جَدًّا لَوْلَا مَا يَدْعُو إلَيْهِ الشَّيْطَانُ مِنْ إظْهَارِ شِعَارِ الْفُرْقَةِ. " ([35])
قال جامعه : وترك هذا المنهج العلمي القويم الذي قرره أهل العلم والتعصب لآحاد النصوص في مقابل كليات الشريعة ومقاصدها ودون الرجوع لأهل العلم الذين عرفوا به واشتهروا ، هو أول خطوة في الانحراف عن المسلك الصحيح والوقوع في مخالفة سبيل من سلف من الأئمة والعلماء وفي ذلك الهلاك والفرقة والنزاع .
قال ابن أبي زيد القيرواني :" وفي اتباع السلف الصالح النجاة وهم القدوة في تأويل ما تأولوه واستخراج ما استنبطوه وإذا اختلفوا في الفروع والحوادث لم يخرج عن جماعتهم "([36])
قال ابن تيمية :" وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ فِي مَسَائِلَ تَنَازَعُوا فِيهَا؛ عَلَى إقْرَارِ كُلِّ فَرِيقٍ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ عَلَى الْعَمَلِ بِاجْتِهَادِهِمْ كَمَسَائِلَ فِي الْعِبَادَاتِ والمناكح وَالْمَوَارِيثِ وَالْعَطَاءِ وَالسِّيَاسَةِ ... وَهُمْ الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ أَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى بَاطِلٍ وَلَا ضَلَالَةٍ وَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَتِهِمْ. وَتَنَازَعُوا فِي مَسَائِلَ عِلْمِيَّةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ كَسَمَاعِ الْمَيِّتِ صَوْتَ الْحَيِّ وَتَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ وَرُؤْيَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ قَبْلَ الْمَوْتِ مَعَ بَقَاءِ الْجَمَاعَةِ وَالْأُلْفَةِ."([37])
قال الله تعالى :{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء 115] )) ا.هـ
قلت : مسألتنا حكم صلاة الجنازة في المقبرة لا تخرج عن هذا التنبيه والتقرير ، فتأمل ذلك يا أيها المسلم العاقل وعض عليه بالنواجذ ، والله الموفق لفهم الحق واتباعه والحمد لله رب العالمين .
كتبه وجمعه : بشير بن عبدالقادر بن سلة
تحميل الموضوع بصيغة ptf
https://up./downloadf-3481yd1-pdf.html
([1]) قال الإمام الألباني في (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)(ص: 15): رواه البخاري (3 / 156 و 198 و 8 / 114) ومسلم (2 / 76) وأبو عوانة (1 / 399) وأحمد (6 / 80 و 121 و 255) والسراج في " مسنده " (3 / 48 / 2) عن عروة عنها ، وأحمد (6 / 146 و 252) والبغوي في " شرح السنة " (ج 1 ص 415) طبع المكتب الإسلامي عن سعيد بن المسيب عنها ، وسنده صحيح على شرط الشيخين
([2]) رواه البخاري (2 / 422) ومسلم وأبوعوانة أبو داود (2 / 71) وأحمد (2 / 284 و 366 و 396 و 453 و 518) وأبو يعلى في " مسنده " (278 / 1) والسراج والسهمي في " تاريخ جرجان " (349) وابن عساكر (14 / 367 / 2) عن سعيد بن المسيب عنه ومسلم أيضا عن يزيد بن الأصم عنه. وأخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " (1 / 406 / 1589) من الوجه الأول عنه ولكنه أوقفه ، انظر (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)(ص: 16 ـ 17)
([3]) رواه البخاري (1 / 422 و 6 / 386 و 8 / 116) ومسلم (2 / 67) وأبو عوانة (1 / 399) والنسائي (1 / 115) والدارمي (1 / 326) وأحمد (1 / 218 و 6 / 34 و 229 و 275) وابن سعد في " الطبقات " (2 / 258) . ورواه عبد الرزاق في " المصنف " (1 / 406 / 1588) عن ابن عباس وحده ، انظر (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)(ص: 17)
([4]) رواه البخاري (1 / 416 و 422) ومسلم (2 / 66 /) والنسائي (1 / 115) وابن أبي شيبة في " المصنف " (4 / 140 طبع الهند) وأحمد (6 / 51 طبع المكتب الإسلامي) وأبو عوانة في " صحيحه " (1 / 400401) والسياق له وابن سعد في " الطبقات " (2 / 241) والسراج في " مسنده " (48 / 2) وأبو يعلى في " الطبقات " (ق. 220 / 2) والبيهقي (4 / 80) والبغوي (2 / 415416) ، انظر (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)(ص: 18 ـ 19)
([5]) رواه أحمد (رقم 7352) وابن سعد (2 / 241242) والمفضل الجندي في " فضائل المدينة " (66 / 1) وأبو يعلى في " مسنده " (312 / 1) والحميدي (1025) وأبو نعيم في " الحلية " (6 / 382 و 7 / 317) بسند صحيح
وله شاهد مرسل رواه عبد الرزاق في " المصنف " (1 / 406 / 1587) وكذا ابن أبي شيبة (4 / 141) عن زيد بن أسلم. وإسناده قوي
وأخر اخرجه مالك في " الموطأ " (1 / 185) وعنه ابن سعد (2 / 240241) عن عطاء بن يسار مرفوعا. وسنده صحيح وقد وصله البزار عنه عن أبي سعيد الخدري وصححه ابن عبد البر مرسلا وموصولا فقال: " فهذا الحديث عند من قال بمراسيل الثقات وعند من قال بالمسند لإسناد عمر بن محمد له وهو ممن تقبل زيادته ". انظر " تنوير الحوالك " للسيوطي
وفيما قاله ابن عبد البر في عمر هذا نظر فقد قال الحافظ ابن رجب في " الفتح ": خرجه من طريقه البزار
وعمر هذا هو ابن صبهان جاء منسوبا في بعض نسخ البزار وظن ابن عبد البر أنه عمر بن محمد العمري والظاهر أنه وهم وقد روي نحوه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة بإسناد فيه نظر "، انظر (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)(ص: 25 ـ 26)
([6]) رواه ابن خزيمة في " صحيحه " (1 / 92 / 2) وابن حبان (340 و 341) وابن أبي شيبة في " المصنف " (4 / 140 طبع الهند) وأحمد (رقم 3844 و 4143) والطبراني في " المعجم الكبير " (3 / 77 / 1) وأبو يعلى في " مسنده " (257 / 1) وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " (1 / 142) بإسناد حسن وأحمد أيضا (رقم 4342) بسند آخر حسن بما قبله والحديث بمحموعهما صحيح وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " منهاج السنة " (1311) و " الإقتضاء " (ص 185) : " وإسناده جيد " وقال الهيثمي (2 / 27) : " رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن "
وفي اقتصاره في عزوه على الطبراني وحده قصور ظاهر مع أنه في المسند في ثلاثة مواضع منه كما أشرنا إليهما آنفا
والشطر الأول من الحديث رواه البخاري في صحيحه (13 / 15) معلقا ، انظر (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)(ص: 26 ـ 27)
([7]) انظر إلى (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)(ص: 40 ـ 41)
([8]) انظر (مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)(12/ 375)
([9]) انظر (آثار ابن باديس)(2/ 246 ـ 248)
([10]) ( شرح ثلاثيات)( 1 / 617 ) للسفاريني
([11]) رواه البخاري، كتاب الصلاة: باب كنس المسجد والتقاط الخرق، رقم (458) ، ومسلم، كتاب الجنائز: باب الصلاة على المقبرة، رقم (956) من حديث أبي هريرة.
([12]) فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر (14/ 28)
([13]) نفس المصدر (14/29 ـ 31)
([14]) (تهذيب الكمال )(15/ 29)
([15]) (تهذيب الكمال )(14/ 280)
([16]) (تهذيب الكمال )(13/ 490)
([17]) ( السلسلة الصحيحة)(1/ 326)
([18]) (تهذيب الكمال )(25/ 132)
([19]) (تهذيب التهذيب)(5/ 12)
([20]) (تهذيب الكمال)(26/ 364)
([21]) (تاريخ بغداد )(11/ 16
([22]) (تهذيب الكمال )(12/ 199)
([23]) (تاريخ الإسلام )(7/ 268)
([24]) (تهذيب الكمال)(30/312 ـ 313)
([25]) (تهذيب الكمال )(7/ 61 ـ 62)
([26]) (تهذيب الكمال )(7/ 61 ـ 62)
([27]) انظر ( السلسلة الصحيحة)(1/ 505)
([28]) (ميزان الاعتدال)(1/ 550)
([29]) معجم ابن الأعرابي (3/ 1082)
([30]) مع أنه ثبت عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه نهى عن الصلاة في المقبرة .
قال العلامة الشنقيطي في (أضواء البيان )(2/ 296) : (( وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ عَنْ خَمْسَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ.))
فيحمل نهيه على الصلاة ذات الركوع والسجود .
([31]) قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ : وهو الذي رُوي عنه عن أنس النهي عن الصلاة بين القبور ، فهذا دليل على أنه فهم من هذا النهي ، النهي عن الصلاة ذات الركوع والسجود بين المقابر أما صلاة الجنازة فهي مستثناة عنده من ذلك النهي ، وبهذا تعرف نكارة تلك اللفظة التي جاءت من طريقه ، ولله الحمد والمنة .
([32]) تأليف : مجذوب الهواري الجزائري ، تقريظ الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل العقيل ، والشيخ صالح بن سعدالسحيمي .
([33]) التمهيد (1/ 10)
([34]) مجموع الفتاوى (22/ 254)
([35]) مجموع الفتاوى (22/ 405)
([36]) الرسالة لابن أبي زيد مع الثمر الداني ( ص 528)
([37]) مجموع الفتاوى (19/ 122 ـ 123)