إن ردود بعض الأعضاء على كلامي قـد توحي للآخرين بأني أنا دي في الناس ان أقتلوا انفسكم فهو جائز ولا باس عليكم...هل يقول أحد بذلك ...؟ هل كان هذا تشويه مقصود لما قلته ينطوي على تعصــّب مقيت في الرّأي ام مجرّد سوء تفاهم..؟
انا أرجّح الإحتمال الثاني لان المفروض أنّي أتكلم مع متعلمين بعيدين عن التعصـّب الذي لا يؤدي في النهاية الا لمزيد من سوء التفاهم.
لذلك سأكرر ماقلته بصورة أكثر وضوحا : كل الناس يدركون ان الإنتحار حادث مروّع للنفس وظاهرة سلبية في المجتمع وكل الأفراد المتدينون منهم وغير المتدينين متفقون على أن الإنتحار شذوذ عن الطبيعة بما فيهم الشخص المنتحرنفسه باختصار لان العقل يدرك قبح هذا الفعل وشناعته بالبداهة ولايحتاج الأمر الى فتوى من هؤلاء الفقهاءحتى يفهم الناس ذلك...وكمسلمين لا ينبغي ان نتشفى في صاحب هذا الفعل ..كما لايجوز ان نجزم انه في النار لان ذلك يقتصر على المذكورين في القرآن كفرعون وهامان وأبو لهب...هذا من جهة.
والمعروف أيضا ان أسباب هذه الظاهرة تختلف من مجتمع لآخر,امّا تفشيها في مجتمع ذو طبيعة محافظة كمجتمعنا فهو يعبر عن أزمات حادة : سياسية ) انعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم.وعدم احترام حقوق الإنسان وما ادراك ما حقوق الإنسان.وعدم توفر ارادة سياسية جادة لإصلاح الأوضاع..(اقتصادية ) أزمة البطالة وقضايا الفساد وسوء توزيع الثروة ونتائجها...( اجتماعية) أزمة سكن و نتائجها....( ثقافية )أزمات فكرية ودينية لم يحسمها علماؤنا بتوجهاتهم المختلفة الى يومنا هذا...مسألة الثابث والمتغير , مسالة النص والواقع أو العقل والنقل وغيرها...( كل هذا وغيره يجري تحت ما يسمى بالعولمة وافرازاتها ) تشجيع النمط الإستهلاكي في التفكير وقتل العقل المتسائل و الفكر النقدي(.. أدى هذا الى انسداد الأفق وحدوث اختلال كبير في قيم المجتمع ومعاييره الأخلاقيةوالإنسانية-..وهو ما يؤثر سلبا على تماسك مؤسساته التقليدية (الأسرة ,المدرسة ,المسجد....) أما مؤسساته الحديثة (الجمعيات ,النقابات ,البرلمان ,الجامعة). فهي لم تنضج بعد لتؤدي الدور المطلوب منها ..لعدة أسباب لا يمكن تفصيلها في هذا المقام,وهو ما يقتل التفاؤل في نفوس الأفراد ويضعف من قوة غريزة حب البقاء في الكثير منهم وهنا تاتي الحلول الإنتحارية بدءا بالمخدرات , الى الحرقة الى الإحتراق ...
لذلك قلت لماذا يتجاهل هؤلاء الفقهاء كل هذا ويركزون فقط على ادانة الضحية ..؟لماذا ينكرون المنكر عندما يتعلق بالحلقة الضعيفة ويسكتون تماما عن ذلك اذا تعلق بفضح صاحب السلطة ؟اليس في ذلك ازدواجية تنم عن سذاجة في الرّأي و جبن في الموقف؟ هل من الإسلام ان ننكر منكرا عندما يحافظ موقفنا هذا على مصالحنا ونسكت عن آخر لأنه يهدّد بضياعها؟
من الجانب الآخر يأتي التطرّف الديني كرد فعل دفاعي اتجاه هذه الأوضاع حيث يتفق ضحياه تماما مع أولائك المنتحرين على تعفنها لدرجة لاتطاق لكن بالنسبة لهؤلاء هذا مجرّد ابتلاء من الله وهم مأجورين على ذلك ان صبروا عليها وهذا انطلاقا من اعتقادهم بالإنفصال التام بين شؤون الدين وشؤون الدنيا فالمؤمن الحقيقي بالنسبة لهؤلاء هو الذي لا تعنيه شؤون الدنيا او هي على الأكثر ليست من اولوياته وهو الذي يركز على الجانب التعبدي أملا في تحقيق نفس المطالب الدنيوية لكن خالصة من كل ما يعكرها وبكمية لا متناهية في دار الجنة (وهذا يذكرنا بما درسناه عن التاريخ الإستعماري الفرنسي للجزائر حيث قام في تلك الفترة جمع من الأئمة والفقهاء يخطبون في الناّس أن هذا الإستعمار قضاء وقدر ابتلانا الله به ولا راد لقضاء الله فعلى تقبل ذلك بلصّبر والرّضا وهم مأجورين عليه انشاء الله... )
لذلك تجد فقههم متضخما في شؤون العبادات ظامرا في الشؤون التي تهتم بالشؤون العامة كالسياسة والإقتصاد ... وهو تيار ديني تعمل الأنظمة المستبدة على نشر أفكاره لانه يخدم مصالحها بطريقة مجانية في مجتمعات متخلفة لها القابلية لتتشرب مثل هذه الأفكار. وفاتهم ان الإنسان جسد وروح وهو خليفة الله في الأرض و أن الدين جاء أصلا لخدمة مصالح الإنسان في هذه الدنيا قبل الآخرة والرقي به وبمجتعه الى حياة عادلة تليق بكرامته( ولاتنسى نصيبك من الدنيا.) (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كانك تموت غدا) وبالتالي يجب مراعات هذه الحقوق الدنيوية التي هي من صلب الطبيعة الإنسانية والشذوذ كل الشذوذ ان نحن حاولنا انكارها او تهميشها .بخلاف كل ذلك نجد الفقهاء الذين أنجبتهم الأمة الإسلامية في أوج حضارتها كابن سينا وابن رشد والفرابي وابي حيان التوحيدي ..وغيرهم من العلماء الذين أبرزوا للعالم بأسره الوجه المشرق للفكر الإسلامي ذلك أنهم كانوا من المفكرين الموسوعيين الملمّين بجميع علوم عصرهم كالفلسفة والطب وعلم الفلك علم الحركة والكيمياء وغيرها بالإضافة الى تمكنهم من علوم اللغة وعلوم الدين حيث كانوا ينظرون الى الإنسان ككل متكامل لا ينبغي أن نهمل أي جزء من أجزائه , فاين هم فقهاء اليوم من علوم العصر كعلم النفس وعلم الإجتماع وعلوم اللسانيات والأنثروبولوجيا...وغيرها من العلوم التي لايمكن فهم الإنسان والمجتمعات الإنسانية الا من خلالها..ان أراءهم وفتواهم الفقهية العجيبة تبين لناأنهم يعيشون خارج عصرهم وان الأحداث والظواهر المستجدة قد تجاوزت فكرهم التقليدي الجامد الذي لا يحسن الا ترديد أجوبة فقهية بطريقة آلية وسريعة يجدها كل من يبحث عنها في الكتب الصفراء ,بذون مراعاة لمتغيرات العصر...أو اجتهاد ينم على جهد فكري في كيفية اسقاط النصوص الدينية على الواقع...
وللخروج من هذا المشكل لابدّ من العمل على تكوين واعادة تكوين هؤلاء الفقهاء بطريقة تمزج فيها العلوم القديمة والمعروفة مع العلوم الإنسانية المعاصرة كما دعا الى ذلك الكثير من المفكرين بداية من الشيخ محمد عبده في بداية عصر النهضة الى يومنا هذا من طرف الكثير من المفكرين الإسلاميين المعاصرين