ودعت الجزائر والعالم وفقدَ العالم الإسلامي علمًا بارزا من أعلام النهضة الإصلاحية، والحركة العلمية المباركة في الجزائر طوال القرن العشرين وأوائل القرن الحالي. إنه الشيخ سعيد بن بالحاج شريفي، الشهير باسم "الشيخ عدون".
كانت جنازة مهيبة يوم الإربعاء 20 رمضان 1425هـ/ الثالث من نوفمبر 2004م، بمسقط رأس الفقيد بمدينة القرارة، حضرها آلاف المشيعين من مختلف جهات القطر الجزائري، من العلماء والزعماء، والقادة وعامة المسلمين، جاؤوا من كل حدب وصوب ليودعوا رجلا كان أمة يمشي بين الناس، ويغدقوا عليه من خالص الدعاء ما يكون شفيعا له عند رب الناس، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
كانت لحظات مهيبة خالدة، وموقفا مشهودا في التاريخ، فيه تخرس الكلمات، ويقصر البيان، فينعقد اللسان، ويكبو فرس اليراعة دون المرام، لجلال الموقف وهيبة المقام.
ويتساءل السائلون: من هو الشيخ عدون؟ وماذا يقول عنه الواصفون والعارفون؟ وما موقعه بين مقامات أعلام التاريخ؟ ممن صنعوا أمجاد الدول، وبنوا شوامخ القلاع، أو فتحوا الأقطار، وسحروا الأنظار، وعرفتهم ساحات النجوم في دنيا المال والفن والسياسة. واحتضت أسماءَهم موسوعاتُ الأعلام، وتزينت بها صفحات الجرائد وشاشات الإعلام؟
لا شيء من هذا كان، إلا نزرا يسيرا لا يعدو تعريفا في جريدة محلية أو وطنية، وحفلة تكريم ووفاء إخوانية، بعيدا عن الأضواء وصخب الإثارة الإعلامية السحرية.
فمن هو الشيخ عدون؟ وأي رجل يكون؟ وهل يستحق أن يحج لجنازته المشيعون؟ ويذكره بين الزعماء الذاكرون؟ أو يكون له لسان صدق في الآخرين؟
الشيخ عدون رجل نشأ في وادي ميزاب بالقطر الجزائري، وكان مولده بمدينة القرارة التي تبعد مسافة 630 كلم جنوب الجزائر العاصمة، رأى بها نور الحياة سنة 1319 هـ/ الموافق لـ 1902 ميلادية.
عرف الفقر والعوز في خطوات حياته الأولى، ففقد والده في بواكير العمر، وكشرت له الأيام عن أنيابها، حين لم يخلف الوالد الراحل ما يرثه الأبناء من متاع الحياة، إلا زادا من التنشئة على الفضيلة والاستمساك بأهداب الدين، وديونا بذمة الأب عاجله الموت دون قضائها، فكانت تركته مغارم لا مغانم، تحمّلها الابن سعيد عن رضى بقضاء الله في اجتماع ألَمِ اليُتْم وهَمِّ الدَّيْن، وما كان أمامه من خيار إلا أن يسافر مغتربا إلى مدينة سَرْيَانة وهو صبي دون العاشرة من عمره، فعمل أجيرا لسداد دين أبيه، وقضى بتلك القرية النائية في جبال الأوراس ذات الشتاء القارس والثلوج بضع سنين.
ولكن شغفه بالعلم كان قد ملك عليه أقطار نفسه، ورأى نفسه ثمرة اختُضِرت قبل تمام نضجها، وازداد لهفه للعودة إلى منابع العلم ليشفي غليله، وظل يتحين الفرص بالانكباب على ما يجده في محيطه من قصاصات أوراق فيها بعض الكتابة، فيقرؤها ويسلّي نفسه بها.
وظلت نفسه الطماحة طُلَعَةً إلى العلم تهتبل منه فرصا نادرة، ولحظات سانحة، حتى بلغ سن الثامنة عشرة فرجع إلى بلدته الأم، وانضم إلى طلبة العلم في حلقة شيخ المدينة الصالح الحاج عمر بن يحي المليكي، رحمه الله.
وكان قد برز نجم إبراهيم بيوض في حلقة هذا الشيخ، فتآلفت روح الطالب الجديد مع الطالب القديم، وكانت نقطة انطلاق مسيرة حافلة مباركة تركت أثرها في ميزاب والجزائر وفي مواطن شتى من العالم الإسلامي.
وحين توفي شيخ الحلقة الحاج عمر بن يحي كانت مؤهلات الشيخ بيوض القيادية قد اختارته زعيما للحركة العلمية ثم النهضة الإصلاحية في القرارة، وفي جنوب الجزائر، وقضى في هذا الجهاد ستين سنة كاملة من عام 1921م إلى وفاته سنة 1981م.
كان الشيخ عدون طيلة هذه الفترة الحافلة وزير صدق للشيخ إبراهيم بيوض في جهاده الإصلاحي ومشاريعه العلمية والتربوية. لم يتخل عنه ولم يتوان عن نصرته يوما. حتى لحق الشيخ بيوض بربه، فخلفه في ريادة الحركة الإصلاحية قرابة ربع قرن من الزمان، إلى أن فاضت روحه إلى بارئها، ولحق بالرعيل الأول من رجال العلم السابقين، الذين كانوا معه فريقا متلاحما متضامنا، عاهد الله على نصرة الدين وتنوير الأمة، وإخراجها من ظلمات الجهل، وإنقاذها من براثن الاستعمار، فتحقق للجزائر النصر والاستقلال، ونعمت بظلال الأمن والازدهار، ثم شاءت الأقدار أن يودع الشيخ عدون الجزائر وهي في غمرة احتفالات الذكرى الخمسين لاندلاع ثورة التحرير الكبرى.
تاريخ حافل أَرْبىَ على قرن من الزمان، ومسار زاخر بجلائل الأعمال، قطعه الشيخ الراحل بعزيمة وإيمان، وصبر ويقين، لم يحِدْ عنه قيدَ أنملة، على تقلب الأحوال، واشتداد وطأة المستعمرين، وأعوانهم الطامحين، وأذنابهم الطامعين، وبرغم اشتداد الفتن، وتنكر عشاق التسلق في غفلة من الزمن، وقَلْبِ بعضِ اللئام ظهر المجن، فقد ظل وفيّا صامدا، لم تزعزعه الأعاصير، ولم تفتّ من عزمه حبليات الليالي وطوارق الأيام.
أجل كانت بداية المشوار من حلقة العلم مع رفاقه تلاميذ الشيخ الحاج عمر بن يحي، ثم تطور نشاطه فكان العضو الرئيس في تأسيس "مدرسة الشباب" بزعامة الشيخ بيوض، سنة 1921 إثر وفاة شيخهما المليكي، وكانت مدرسة حديثة تعلم النشء علوم الشريعة واللغة العربية وفق المناهج العصرية، تطورت بعد فترة من الزمن لتأخذ اسم "معهد الحياة".
معهد الحياة :
يعرف الناس في وادي ميزاب أن معهد الحياة هو الشيخ عدون، وأن الشيخ عدون هو معهد الحياة. تلازما تلازُمَ الظل والإنسان، وما ذكر أحدهما إلا ورد الآخر على اللسان.
كان معهد الحياة أملَ الشيخ الأوحد، وهمّـهُ المقيم المقعد، فهو عصارة عمره، وروح رسالته منذ نشأته إلى يوم وفاته.
في رحاب معهد الحياة تولى الشيخ عدون تدريس قواعد اللغة العربية وظل أستاذا لها ما يربو عن خمسين سنة، كما أسند الإمام الشيخ بيوض إليه أمور تسييره منذ الأيام الأولى إذ شغلته قضايا الأمة العامة، فكان الشيخ عدون المديرَ الفعلي، والشيخ بيوض المدير الشرفي.
أجل لقد كان الشيخ عدون رجل الميدان وأساس البنيان، وإن لم يبدُ للعيان، وكان للشيخ بيوض وزيرَ صدق في ميادين الجهاد والكفاح، وكم مرةٍ صرح فيها أنه لولا الشيخ عدون لما حسم أمورا مصيرية عديدة في مسيرة الإصلاح الحافلة.
لكن هذا الوزير آثر البقاء في الظل، موقنا أن السفينة لا تحتمل إلا قائدا واحدا يزجيها، وإلا غرقت بمن فيها وما فيها. وكم من زعامات قامت بينها نزاعات بسبب شهوة السلطة وحب الرئاسة، فتآكلوا بداء التحاسد والتكاثر، وقضوا على الأمة في أتون التناحر.
في أحضان هذا المعهد لم يكن الشيخ رأسا في الإدارة يرقب المسيرة على الأوراق، مَحَاضرَ وتقارير تتلى عليه أو تملى، بل كان الأستاذ المربي، والمراقب الموجه، وفوق ذلك المديرَ المسؤول، يرعى كل صغيرة وكبيرة من شؤون الطلبة والمعلمين، رعاية الأم الحنون لفلذات أكبادها، على مدار السنين، يسبق إليه الفرح والحزن الذي أصابهم، ويناله منه أضعاف ما نالهم.
في ظل رعاية الشيخ عدون مضت من عمر المعهد أكثر من ثمانين عاما، في مسيرة مباركة، أثمرت ثمارا طيبة في تنوير الأمة، وبناء الأجيال، ولا يزال –بحمد الله- حصنا شامخا في سماء العلم والثقافة الأصيلة، يمدّ الجزائر وأمة الإسلام بأجيال من الهداة والدعاة الراشدين المرشدين.
ظل الشيخ عدون مشرفا مباشرا على أنشطة المعهد التعليمية من برامج ومقررات، وساعيا لتطوير مناهجه وتحديث أنظمته في الامتحانات وتحديد مستويات الدراسة، لم يأل جهدا في مده بكل جديد مفيد مما عرفته المدارس والمعاهد الحديثة في ربوع العالم العربي. إذ كان يحث الأساتذة وخريجي المعهد الذين توزعوا في بلدان شتى، على إمداده بكل نافع من هذه البرامج والكتب. ونجحت جهوده فعرف المعهد تطورا متسارعا، حتى عده الباحث السوري بسام العسلي تجربة رائدة في العالم العربي يحق للعرب أن يفخروا بها أمام العالم كما يفخر الروس بتجربة المربي الشهير بافلوف.
وكان لحصة الأخلاق نصيب الأسد في منهج المعهد، ولا يزال يحمل شعاره الخالد: الدين والخلق قبل الثقافة، ومصلحة الجماعة والوطن قبل مصلحة الفرد.
وتولى الشيخ عدون مهمة البناء الخلقي في دروس منتظمة للطلبة الجدد، توطئة لهم للانخراط في منظومة المعهد المتميزة، حتى يتخرجوا متميزين وممتازين في نتائج الأخلاق، قبل ما يسطرون من معارف في الأوراق. وقد يهون الرسوب في الامتحان، ولا يباح أن يرسب في السلوك أي إنسان، وإلا فهو الوبال والهم والهوان.
وظل هذا الدرس آخر ما تمسك به الشيخ حتى حال دونه ثقل السنين، فأسند الأمر لخلَف أمين، والموكب سائر بتوفيق رب العالمين.
وما ميز نظام المعهد قيامه على الربط بين الجانبين النظري والعملي في مجال التربية، إذ لا يكتفي بمنح الطالب معارف مجردة في دروس رتيبة، بل يشفعها بحصص تطبيقية في ما عرف باسم "الجمعيات الأدبية" كان الشيخ عدون قد ابتكرها، واتخذها مضمارا لاكتشاف المواهب وتشجيعها، وتفجير طاقات الشباب في ميادين الخطابة والكتابة، والشعر والأدب. فضلا عن التطبيق الأساسي الذي يرونه في أساتذتهم، استقامة والتزاما بتعاليم الإسلام، فيسلكون نهجهم ويتأسون بهم، ويكون لكلمتهم أثرها البالغ وصداها الخالد في أنفسهم، إذ عاينوها واقعا ملموسا، لا دعوى جوفاء، يتعلل مدعيها بقوله: "خذوا علمي ولا تعملوا عملي".
وكان الشيخ عدون في هذا المنهج الرائد والحارس، يربي تلاميذه على الأخلاق والفضيلة، ويحرص على أن يكونوا نماذج عليا في تمثّل قيم الإسلام بين الناس، يحاسبهم على التقصير فيما يستهين الناس به من الهفوات، ويغرس في وعيهم أنهم قدوة للناس، فلا يجوز أن يغفلوا عن هذه الحقيقة يوما، ويجسد لهم معنى الحكمة الشهيرة: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
علاقته بتلاميذه :
كانت علاقة الشيخ بتلاميذه علاقة الوالد الرؤؤف والأم الرؤوم بأبنائهما، يُعنى بهم ويسأل عن أحوالهم، ويسعى لحل مشكلاتهم، ويمدهم بالعون الأدبي والمادي لتجاوز عقبات التحصيل، وكان لا يكبر أمامه عائق في طريق العلم، ويبذل المستحيل ليذللـه، وكان يعقد الجلسات العديدة، يقضي فيها الساعات الطوال، لحل تلك المشكلات، وإزاحة المعوقات، كي يواصل هؤلاء مسارهم حتى بلوغ الغايات، ونيل أعلى الدرجات.
من هنا كان اهتمامه البالغ بالطلبة النجباء، كما اهتم بالمتمردين أيضا على حد سواء، هذا بالتشجيع والتأييد، وذاك بالتقويم والتسديد. وفي هاتين الجبهتين جهاد جليل، وفيهما كلام يطول، يقتضي بسطا تبخل به هذه الومضات وتقصر عنه هذه الصفحات.
وكان أكبر همه انقطاع الطالب عن العلم، بل كان يعدّ ذلك فرارا من الزحف، ويغضب لذلك أشد الغضب، ويردد على مسامع طلبته حُكم الفقهاء أن الفار من الزحف يقتل، تأكيدا منه على خطورة الأمر وفداحة العواقب ليس إلا. ولا غرو فقد ذاق مرارة الانقطاع عن التعليم، ورأى مصير الصغار حين يختضرون من رياض العلم، فيرمى بهم إلى أوحال الاستذلال والامتهان، فتُرزأ الأمة في قدراتهم ومواهبهم، ويضيع حاضرهم ومستقبلهم، ويخسرون دنياهم وآخرتهم، وذلك هو الخسران المبين.
وحنوُّ الشيخ على تلاميذه وحبه لهم ترك بصمات خالدة في ضمائرهم، وما رأيت أحدا ممن حظي بالتلمذة على يديه إلا أحبه حبًّا جمًّا لما كان يغْذُوهم به من هذا الحب والحنان، حب ينضح صدقا وإخلاصا ورغبة في أن يحقق كل طالب في مستقبله نجاحا كبيرا، ويكون بين الناس شيئا مذكورا.
أما جو الدرس فهو درس لمن رام نموذجا لطريقة التعليم المثلى، توضيحَ حقائقَ علمية، وزرعَ قيمٍ خلقية، وتوطيدَ محبةٍ ومودةٍ وتوقيرٍ واحترامٍ بين المعلم والتلاميذ، وفي تلك العلاقة سر التفوق وحافز على الجد في التحصيل، وفيه تختزل كثير من طرق التدريس العقيمة التي قصَرَتْ نظرها على الوسائل والشكليات، وأغفَلَتِ القدوة، وهي أُولىَ الأولويات، وأساس كل الخطوات.
ولكل طالب قضى عمرا في معهد الحياة، ذكرياتٌ عن حصص الدرس بين أحضان الشيخ عدون، لو جمُعت لكانت موسوعة ونبراسا يهتدي به المربون. وصدق من أرسلها قولةً حكيمة: حتى عصاه لمن عصاه رحيمة.
وبفضل معهد الحياة امتد نور الإصلاح فعم وادي ميزاب ومدن الجزائر، وتفيأت ظلاله بلدان أخرى مثل تونس وليبيا وعمان وتشاد ومالي وزنجبار. وغيرها من الأقطار.
وسطع نجم خريجي معهد الحياة حيثما حلوا وارتحلوا، وكانوا شموسا مضيئة، شرَّفوا المعهد وشرفوا أنفسهم وأوطانهم، وتبوؤوا مقاعد سامية في هيئات حكومية وخاصة، تعليمية وإدارية، ورصعوا صدور الجامعات والمؤسسات المختلفة، ونجحوا في شتى ميادين الحياة التجارية والصناعية والمهنية. وذلك بعض أثر بركة الإخلاص التي نفح بها الشيخ عدون ورفاقه أبناءهم في رحاب معهد الحياة.
ويكفيه شرفا في تشجيعه للنشاط الفكري والتأليف والطباعة والنشر، أن ينجب أمثال الشيخ علي يحي معمر، داعية الوحدة الإسلامية، ومنصف الإباضية من تهم أصحاب المقالات. والمؤرخ الكبير الشيخ محمد علي دبوز، والأديب الشيخ حمو فخار، كهف الحكمة والوقار، والفقهاء الشيخ الناصر المرموري والشيخ محمد ابن الشيخ والمرحوم الشيخ بكير ارشوم، وشاعر الجزائر والعروبة الدكتور صالح الخرفي، والأديب الشاعر والباحث الإسلامي الدكتورمحمد ناصر وبلبل الوادي وحكيم أم القرى الشيخ إبراهيم قرادي. ومن تلاميذه إطارات سامية بأرض عمان، أمثال سعادة الشيخ سعيد بن ناصر المسكري، والشيخ محمد بن ناصر السيابي، والشيخ يحي بن سفيان الراشدي، والدكتور خلفان بن محمد المنذري، وآلاف مؤلفة من الخريجين والنابهين، يقصر عن تعدادهم المقام، ويثقل بأثرهم ميزان الشيخ بين الأعلام.
.../...