تشريف الإسلام للمرأة - الصفحة 2 - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الفقه و أصوله

قسم الفقه و أصوله تعرض فيه جميع ما يتعلق بالمسائل الفقهية أو الأصولية و تندرج تحتها المقاصد الاسلامية ..

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

تشريف الإسلام للمرأة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2012-10-10, 10:03   رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


حياء الشرف والعزة
وحياء التلوم والشرف والعزة: فالنفوس الكبيرة إذا صدر منها ما هو أقل من قدرها تأنف، مثل رجل اعتاد أن يعطي لإخوانه مثلاً من (100 جنيه)، ثم مر على إخوانه فأعطى كل رجل منهم ذات يوم قرشاً فإنه يخجل؛ لأنه قد عودهم على الشيء الكبير العظيم، فكيف يعطيهم التافه؟ فيخجل وكأنه هو الآخذ لا المعطي، فتجده عندما يعطي إخوانه يستحيي منهم، ولا يستطيع أن يرفع نظره إلى إخوانه، فهذا حياء شرف النفس وعزتها.
(12/14)
الحياء من النفس
وحياء المرء من نفسه، فالرجل الشريف القدر العظيم النفس يجعل من نفسه نفسين: نفساً تفعل الشيء، ونفساً تحاسبها وتعاتبها وتراقبها: كأن رقيباً منك يرعى خواطري وآخر يرعى مهجتي وجناني فاجعل من نفسك رقيباً على نفسك، وقل لها: قومي يا مأوى كل سوء! وهل رضيتك لله طرفة عين؛ فاجعل من نفسك على نفسك مخبراً ورقيباً، وراقب الله عز وجل، مثل عمرو بن عبد قيس كان ينام في البرية، فقيل له: أما تخشى الأفعى وأنت نائم في الفلاة هكذا؟ قال: إني أستحي من الله أن أخشى شيئاً غيره وأنا في سلطانه، أي: هذا سلطان الله وملكه، وأنا عبده، والمخلوق لا يملك له ضراً ولا نفعاً.
ومثل عمرو بن عتبة بن فرقد كان يقوم الليل وهو في الجيش فلا يتحارس الجيش؛ لكثرة صلاة عمرو بن عتبة بالليل، فجاء السبع مرة فولى الجيش إلا عمرو فلم ينصرف من صلاته، فلما صلى قال للسبع: انصرف، فقالوا له: أما خفت الأسد؟ قال: إني أستحيي من الله عز وجل أن أخشى شيئاً غيره وأنا بين يديه.
وسقطت حديدة عند مسجد العزيز في جمعة الشيخ محمد حسان، وهذه الجمعة يحضرها اثنا عشر ألفاً أو عشرون ألفاً، فعندما سقطت ظنوا أنها قنبلة، فصاح الذين في المسجد وخرجوا منه، وسقطت الموبايلات، والمحافظ، وجرى من جرى وهرب من هرب، وخرج البعض من المسجد وطلب ماكنة حلاقة من أجل أن يتخلص من لحيته حتى لا يتهم، والشيخ محمد واقف يتعجب منهم، أهؤلاء خلاصة الخلاصة؟ فإذا كان حال هؤلاء هكذا فكيف بغيرهم؟! فالعملية تريد مراجعة كبيرة جداً، والإخوة الذين حضروا هذا لن ينسوه أبداً، والإخوة هم الذين صاحوا وهربوا، وأما الأخوات فلا أخت صاحت، فكانت النساء في هذا الموقف أشجع، وأما الرجال فخمس دقائق ولم يبق منهم أحد.
كان أبو الحسن بنان الحمال شيخ الإسلام عابداً، ذهب إلى ملك مصر أحمد بن طولون فأمره ونهاه، فجوع سبعاً وألقاه إليه، وبعد أيام فتحوا عليه فوجدوا السبع بجانبه يشمه، فقالوا له: أين كان قلبك والسبع يشمك؟ فقال: كنت أفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع، أهو نجس أو طاهر؟ وقد ينكر بعض الناس مثل هذه الحكايات؛ لأنها متعلقة بالأسود، والأسود جبلت على الوحشية، ولكن نقول: هي ثابتة مذكورة في تواريخ الإسلام، مثل: سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، ولها أثر من السلف عن سيدنا سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم وخادمه.
وقد حسن الإمام الألباني عليه رحمة الله حديث جابر بن عبد الله من رواية محمد بن المنكدر: أن سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم وقع في الأسر، ففر من الأسر، فبينما هو في الطريق إذ طلع عليه الأسد فتقدم منه، وقال له: يا أبا الحارث! -كنية الأسد- أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من أمري كيت وكيت فحكى للأسد الذي حصل له من أنه وقع في أسر الروم وفر منهم، فبصبص الأسد، يعني: حرك ذنبه يميناً ويساراً احتراماً له، وكأنه يقول: أنا أمام رجل كبير القدر، وسار معه حتى أوصله إلى مأمنه.
فإذا علمت أن الله قريب منك مطلع عليك عالم بحالك وأنك في سلطانه فلا تخش شيئاً غيره.
(12/15)
مقامات الحياء
إن مقامات الحياء مقامات عظيمة، ولذلك كان الحياء خلق الإسلام، والدرجة الأولى منه: أن تبغض إليك المعصية، فإذا علمت أن الله قريب منك فسيحملك هذا على استقباح الجناية، فتنظر إلى أدنى ذنب بأنه كبير في حق الله عز وجل؛ لأنك تعلم أن الله ناظر إليك في كل لحظة، وأنت مقيم على معصيته وعلى مخالفة أمره دق أو جل، صغر أم كبر، فقل: يا رب! أتراك ترحم من لم تقر عيناه بالمعاصي حتى علم أن لا عين تراه غيرك! فلا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها.
فالدرجة الأولى من الحياء تبغض إليك المعصية، وتحملك على استقباح الجناية، وتمنعك عن الشكوى لغير الله عز وجل، إلى درجة أن إحدى العابدات عندما جاءت إلى الإمام أحمد تسأله الأسئلة التي لا يسأل عنها العلماء اليوم، فقالت له: يا إمام! أنين المريض شكوى؟ قال: ما سمعت مثل هذا السؤال من قبل، ونرجو ألا يكون كذلك، قالت: يا إمام! إذا مرت الظاهرية -وهم أناس من الأمراء الظلمة- غزلنا غزلنا على ضوئها، فهل نبينه للناس، قال: افعلي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ثم قال لابنه عبد الله: تتبعها إلى أي البيوت تدخل، فقال له: دخلت في بيت بشر، قال: من بيتهم خرج الورع.
فالإمام أحمد غابت عنه هذه المسألة، حتى كان في مرض الموت، فقيل له: إن طاوساً يقول: أنين المريض شكوى، وفي البداية كان الإمام أحمد يقول: نرجو ألا يكون كذلك، فغابت عنه هذه المسألة، ثم فهمها الإمام عند الموت، فما أنَّ ابن حنبل حتى مات، ولذلك تجد العباد يقولون: تفقهوا في مذاهب الإخلاص.
وأشرف العلوم علم الأسماء الحسنى، فتعرف على كل اسم، وكيف تتعبد لله عز وجل بهذا الاسم والصفة، وانظر الصفات في المخلوقات، فتجد نفسك في وادٍ والناس في وادٍ آخر، فعندما تعرف مثلاً اسم المقيت من أسماء الله عز وجل، وتعرف أن المقيت هو الذي يعطي كل مخلوق قوته الضروري، وتعرف مثلاً أن عدد أنواع النمل 12000 نوع، وتحت كل نوع آلاف الملايين، وهذا صنف واحد، ثم الحشرات أكثر من ألف نوع، والطيور والأسماك كذلك، والنجوم لا يحصى عددها؟ والمجرات مائة ألف مليون مجرة، هذا في الجزء المرئي من السماء فقط، وعدد النجوم في كل مجرة ما يقرب من مائة ألف مليون نجم، وهذه تحتوي على نواة ونوية، وكل شيء حي يحتوي على خلايا حيه، والخلايا فيها سيتوبلازم وجدار للخلية ونواة ونوية، فمن الذي يعطي لكل مخلوق من هذه المخلوقات قوته الضروري في وقت واحد؟ وكم أمات وأحيا في وقت واحد؟ فإذا علمت هذا استحييت أن يراك الله راكناً إلى بعض خلقه، وهو ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، ومن له ملك الدنيا والآخرة، وملك السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى: ورب عليم بذات الصدور يدين لعزته الكابر يدين له النجم في أفقه يدين له الفلك الدائر تدين البحار وحيتانها وماء سحاباتها القاطر تدين النجاد تدين الوهاد يدين له الزاحف الناشر فكل عبيد له، وكل له قانتون، قهرهم بحكمه وبملكه، وأمره ومشيئته نافذة في خلقه.
إذا علمت أنه قريب منك فيقبح بك الشكوى إلى غيره: وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، والشكوى إلى الله ليست بشكوى.
الدرجة الثانية: علمك بقرب الله عز وجل فتبغض إليك كثرة المخالطة.
الدرجة الثالثة: وهي التي يقول عنها الإمام ابن القيم: شهود الحضرة وانجذاب القلب والروح من الكائنات وعكوفه على رب البريات.
وهناك درجات في القرب من الله عز وجل لا تحيط بها الأفهام، فتطير القلوب إلى الله عز وجل وتسجد تحت العرش، فمثلاً: بالله عليك هل حال قلبك هذا اليوم كحاله وأنت في أيام الاعتكاف وعكوف القلب وجمعيته على الله عز وجل في العشر الأواخر من رمضان؟ وأنت تريد أن تختم المصحف كل يوم؟ ويجوز لك العلماء الوصال إلى قبل أكلة السحور بقليل، فتجمع ما بين السحور والإفطار وأنت في أيام جمعية القلب وعكوفه على رب البريات.
فعندما يكون القلب عاكف على رب البريات في كل لحظه، في رمضان وشوال، وكل الأيام عنده ليلة القدر كيف يكون هذا الراجل! ولو أن شخصاً سمع سيدنا الشيخ المنشاوي يقرأ الزمر أو آل عمران أنه يريد أن يطير طيراناً، فما ظنك إذا كنت كل لحظات حياتك هكذا، فإنك تجد معاني في القرب لا تكيفها الأفهام ولا تحيط بها العقول، وفي الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) فهذه لا تحيط بها الأفهام: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب كيف نزوله تضيق بنا الدنيا إذا غبتمُ عنا وتزهق بالأشواق أرواحنا منا فكيف بالله عز وجل! بعادكم موت وقربكم حياة ولو غبتمُ عنا ولو نفساً متنا يقول القائل: أما تبصر الطير المقصص يا فتى إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنى ففرج بالتغريد ما في فؤاده وهيج أرباب القلوب إذا غنى كذلك أروح المحبين يا فتى تهدهدها الأشواق للعالم الأسنى وهل يسجد القلب لله عز وجل؟ قال الإمام ابن القيم: يسجد تحت العرش سجدة لا يقوم منها إلا يوم القيامة، فهذه درجات الحياء الثلاث.
(12/16)
من يستحيا منهم
إن مقامات الحياء مقامات عظيمة، ولذلك كان الحياء خلق الإسلام، والدرجة الأولى منه: أن تبغض إليك المعصية، فإذا علمت أن الله قريب منك فسيحملك هذا على استقباح الجناية، فتنظر إلى أدنى ذنب بأنه كبير في حق الله عز وجل؛ لأنك تعلم أن الله ناظر إليك في كل لحظة، وأنت مقيم على معصيته وعلى مخالفة أمره دق أو جل، صغر أم كبر، فقل: يا رب! أتراك ترحم من لم تقر عيناه بالمعاصي حتى علم أن لا عين تراه غيرك! فلا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها.
فالدرجة الأولى من الحياء تبغض إليك المعصية، وتحملك على استقباح الجناية، وتمنعك عن الشكوى لغير الله عز وجل، إلى درجة أن إحدى العابدات عندما جاءت إلى الإمام أحمد تسأله الأسئلة التي لا يسأل عنها العلماء اليوم، فقالت له: يا إمام! أنين المريض شكوى؟ قال: ما سمعت مثل هذا السؤال من قبل، ونرجو ألا يكون كذلك، قالت: يا إمام! إذا مرت الظاهرية -وهم أناس من الأمراء الظلمة- غزلنا غزلنا على ضوئها، فهل نبينه للناس، قال: افعلي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ثم قال لابنه عبد الله: تتبعها إلى أي البيوت تدخل، فقال له: دخلت في بيت بشر، قال: من بيتهم خرج الورع.
فالإمام أحمد غابت عنه هذه المسألة، حتى كان في مرض الموت، فقيل له: إن طاوساً يقول: أنين المريض شكوى، وفي البداية كان الإمام أحمد يقول: نرجو ألا يكون كذلك، فغابت عنه هذه المسألة، ثم فهمها الإمام عند الموت، فما أنَّ ابن حنبل حتى مات، ولذلك تجد العباد يقولون: تفقهوا في مذاهب الإخلاص.
وأشرف العلوم علم الأسماء الحسنى، فتعرف على كل اسم، وكيف تتعبد لله عز وجل بهذا الاسم والصفة، وانظر الصفات في المخلوقات، فتجد نفسك في وادٍ والناس في وادٍ آخر، فعندما تعرف مثلاً اسم المقيت من أسماء الله عز وجل، وتعرف أن المقيت هو الذي يعطي كل مخلوق قوته الضروري، وتعرف مثلاً أن عدد أنواع النمل 12000 نوع، وتحت كل نوع آلاف الملايين، وهذا صنف واحد، ثم الحشرات أكثر من ألف نوع، والطيور والأسماك كذلك، والنجوم لا يحصى عددها؟ والمجرات مائة ألف مليون مجرة، هذا في الجزء المرئي من السماء فقط، وعدد النجوم في كل مجرة ما يقرب من مائة ألف مليون نجم، وهذه تحتوي على نواة ونوية، وكل شيء حي يحتوي على خلايا حيه، والخلايا فيها سيتوبلازم وجدار للخلية ونواة ونوية، فمن الذي يعطي لكل مخلوق من هذه المخلوقات قوته الضروري في وقت واحد؟ وكم أمات وأحيا في وقت واحد؟ فإذا علمت هذا استحييت أن يراك الله راكناً إلى بعض خلقه، وهو ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، ومن له ملك الدنيا والآخرة، وملك السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى: ورب عليم بذات الصدور يدين لعزته الكابر يدين له النجم في أفقه يدين له الفلك الدائر تدين البحار وحيتانها وماء سحاباتها القاطر تدين النجاد تدين الوهاد يدين له الزاحف الناشر فكل عبيد له، وكل له قانتون، قهرهم بحكمه وبملكه، وأمره ومشيئته نافذة في خلقه.
إذا علمت أنه قريب منك فيقبح بك الشكوى إلى غيره: وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، والشكوى إلى الله ليست بشكوى.
الدرجة الثانية: علمك بقرب الله عز وجل فتبغض إليك كثرة المخالطة.
الدرجة الثالثة: وهي التي يقول عنها الإمام ابن القيم: شهود الحضرة وانجذاب القلب والروح من الكائنات وعكوفه على رب البريات.
وهناك درجات في القرب من الله عز وجل لا تحيط بها الأفهام، فتطير القلوب إلى الله عز وجل وتسجد تحت العرش، فمثلاً: بالله عليك هل حال قلبك هذا اليوم كحاله وأنت في أيام الاعتكاف وعكوف القلب وجمعيته على الله عز وجل في العشر الأواخر من رمضان؟ وأنت تريد أن تختم المصحف كل يوم؟ ويجوز لك العلماء الوصال إلى قبل أكلة السحور بقليل، فتجمع ما بين السحور والإفطار وأنت في أيام جمعية القلب وعكوفه على رب البريات.
فعندما يكون القلب عاكف على رب البريات في كل لحظه، في رمضان وشوال، وكل الأيام عنده ليلة القدر كيف يكون هذا الراجل! ولو أن شخصاً سمع سيدنا الشيخ المنشاوي يقرأ الزمر أو آل عمران أنه يريد أن يطير طيراناً، فما ظنك إذا كنت كل لحظات حياتك هكذا، فإنك تجد معاني في القرب لا تكيفها الأفهام ولا تحيط بها العقول، وفي الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) فهذه لا تحيط بها الأفهام: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب كيف نزوله تضيق بنا الدنيا إذا غبتمُ عنا وتزهق بالأشواق أرواحنا منا فكيف بالله عز وجل! بعادكم موت وقربكم حياة ولو غبتمُ عنا ولو نفساً متنا يقول القائل: أما تبصر الطير المقصص يا فتى إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنى ففرج بالتغريد ما في فؤاده وهيج أرباب القلوب إذا غنى كذلك أروح المحبين يا فتى تهدهدها الأشواق للعالم الأسنى وهل يسجد القلب لله عز وجل؟ قال الإمام ابن القيم: يسجد تحت العرش سجدة لا يقوم منها إلا يوم القيامة، فهذه درجات الحياء الثلاث.
(12/17)
الحياء من الله تعالى
والاستحياء يكون من الله عز وجل ومن الناس ومن الملائكة ومن النفس.
فأما الاستحياء من الله تبارك وتعالى، فكما جاء في حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس! استحيوا من الله عز وجل، قالوا: يا رسول الله! إنا لنستحيي من الله عز وجل، قال: ليس ذاكم، ولكن من استحيا من الله عز وجل فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا).
وأركان الحياء من الله تبارك وتعالى: (فليحفظ الرأس وما وعى)، فالرأس وما فيه من جوارح تحفظها لله عز وجل، حتى الخطرات وحديث النفس تحفظه لله عز وجل، وأول خيانة الصديقين حديثهم مع أنفسهم، فاحفظ حديث النفس لله عز وجل، يقول بعضهم: ظللت عشرين سنة حارساً لنفسي من الخطرات، أي: يحاسب نفسه على الخطرات.
فيا أخي! إذا مرت بك الوساوس والخطرات فاضبطها بضابطين من الكتاب والسنة.
فيحفظ الرأس وما وعى، فلا يتأثر بأفكار الصحف الصفراء التي هي من ضمن الثقافات الضرار.
(والبطن وما حوى) يعني: لا يدخل في بطنه وفي جوفه إلا الحلال، فيبحث عن الحلال ويدقق في هذه المسألة.
(وأن يذكر الموت والبلى)، فمن ذكر الموت هانت عليه شهواته.
(ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا)، فيستحي من الله عز وجل أن يراه مرابطاً على مفسدة، مقيماً على جيفة، عاكفاً على دنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضه، فيستحي من الله عز وجل أن يراه ملتفتاً إلى الدنيا، والدنيا لعب ولهو، واللعب واللهو لا يليق بمن شبوا عن الطوق وتركوا دنيا اللعب للصغار، فيعلم أن الملك يدعوه إلى جواره في أرض غرس غراسها الرحمن بيده، فكيف يراه منشغلاً بالدنيا وقد عكف قلبه على محبتها؟ ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره).
قبل سنة (1981م) كنت تجد الأخ يساوي 1000 أخ من هذا الوقت، كنت تجد عشرة فقط في مدينة أو في محافظة أقاموا دعوة، لكن في هذا الوقت نقول: الله المستعان على ضعف الهمم وموت القلوب، فابك على موت قلبك.
فاستح أن يسبقك غيرك إلى الله عز وجل، وأن يدعوك الملك إلى جواره وأنت بعيد بهمك عن مولاك: يا من يشير إليهم المتكلم وإليهمُ يتوجه المتظلم وشغلتم قلبي بكم وجوارحي وجوانحي أبداً تحن إليكم وإذا نظرت فلست أنظر غيركم وإذا سمعت فمنكم أو عنكم وإذا نطقت ففي صفات جمالكم وإذا سألت الكائنات فعنكم وإذا رويت فمن طهور شرابكم وبذكركم في خلوتي أترنم يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي عامر الألهاني: (يأتي أناس بأعمال مثل جبال تهامة بيضاء يجعلها الله هباء منثوراً، فقالوا: يا نبي الله! جلهم لنا، صفهم لنا ألا نكون منهم ولا نعرف، قال: أناس من جلدتكم لهم حظ من الليل، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)، فاحذر أن تكون ولياً لله في العلانية عدواً له في السر، وأن تكون حالك مثل حال كنيف مزين بالسراميك وباطنه وحشوه القاذورات، فلا تتجمل للناس وتطلع الله على القبيح من أمرك، فلم جعلت الله أهون الناظرين إلك؟ أفكان الله عز وجل أهون عليك من بعض خلقه؟ لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته به.
وموقف لك لا تنساه أبداً وإن نسيت نفسك، وهو موقفك بين يدي الله عز وجل، كما جاء في حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم أحد إلا سيخلو بربه ليس بينه وبينه ترجمان).
فهذا الموقف لن تنساه أبداً، فليكن ولاؤك المطلق وخوفك المطلق وحياؤك المطلق من الله عز وجل، فاعمل لهذا اليوم حتى لا يموت القلب، وحتى لا يموت الورع، يقول الجراح قائد الجيوش الأموية: تركت الذنوب أربعين سنة حياء من الله عز وجل، ثم أدركني الورع.
أي: بعد أربعين سنة من علي بالورع في النظر، وفي الشم، وفي الكلام.
فهذا المقام إن ذكرته وجعلته منك على بال فلن تقرب المعصية أبداً، ومثلما تميت الذنوب الحياء فكذلك الحياء لا يأتي إلى فاسق أو فاجر أبداً.
يقول ابن دقيق العيد: والله ما تكلمت كلمة ولا فعلت فعلاً منذ أربعين سنة إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل.
ولذلك كان من مقام المراقبة أن تقول: الله ناظر وشاهد ومطلع علي، وهذا درجة من درجات الحياء، وهذا مثل المرأة التي راودها رجل على الفاحشة، فقالت: انظر هل يرانا من أحد؟ فقال لها: ما يرانا إلا الكواكب، قالت له: فأين مكوكبها؟ ورجل خلا بامرأة بعد أن نام أهل القافلة وكانت في طريقها إلى الحج، وقال لها: ما أتيت في هذه القافلة من أجل حج ولا غيره، وإنما أتيت فيها لتخرجي فيها فأخلو بك، فقالت: انظر هل نام أهل القافلة جميعاً؟ فقال لها: نعم، قالت: انظر فهل نام الله؟ ثم صعقت المرأة وغشي عليها، فولى الرجل هارباً.
(12/18)
الحياء من الملائكة
ثم بعد ذلك الاستحياء من الملائكة ومن أخلاقهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: (ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحيا أمتي عثمان) رضي الله عنه.
وانظروا إلى التنويريين من اليساريين والشيوعيين، فهذا عبد الرحمن الشرقاوي كتب عن الخلفاء الأربعة، فكتب في سيرة سيدنا عثمان أنه لما تزوج نائلة بنت الأحوص بن الفرافصة الكلبية تكلم مع الصحابة بما كان بينه وبينها يوم البناء بعد أن خلعت تكة سروالها! فيا رجل! خل عندك دم، ومثل ما يقال: الناس تكذب كذباً معقولاً، وأنت كذبك غير معقول، فهلا كنت تقول هذا عن غير سيدنا عثمان؟ فسيدنا عثمان كان يغتسل في ثيابه حياء من الله عز وجل، وما يقيم صلبه إلا وثوبه عليه.
فانظروا مقام الصحابة ومقامنا، فنحن مطالبون أن نستحيي من الملائكة، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار:10] أي: فاستحيوا منهم.
{كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:11] يعني: لا ألأم ممن لا يستحي من الكرام.
وقد تلقى رجلاً كبيراً عظيم القدر من الصالحين لا يقدر العاصي أن يعمل عيبه أمامه، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك).
وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:10 - 11].
ويقول ابن أبي ليلى: ما على أحدكم إذا خلا بنفسه أن يقول: أهلاً بملائكة ربي، والله لا أعدمكم اليوم خيراً، خذوا على بركة الله، سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وكان الرجل يستشعر إذا خلا بنفسه أن معه الملائكة، فيقول: يا ملكاي! ادعوا الله لي، فأنتما أطوع لله مني.
وهؤلاء السلف كان عندهم رقة، يعرفها من قرأ كتب التراجم، وأما نحن فخشب مسندة، لا ذوق ولا أدب ولا رقة شعور ولا علم ولا جهاد ولا شجاعة ولا أي شيء.
ذهب الرجال الصالحون وأخرت نتن الرجال لذا الزمان المنتن وكان يقول مالك بن دينار: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب فنريد أن نرتفع إلى مقام الاستحياء من الملائكة، وما ظنك بالرجل الذي تستحيي منه الملائكة؟! وما ظنك بأناس تشتاق إليهم الجنة؟! فإذا قيل لك: إن الجنة تشتاق لناس، وناس يشتاقون إلى الجنة، فإن بينهما درجات كبيرة، وفي الحديث: (إن الجنة لتشتاق إلى علي وعمار وسلمان) وهو حديث صحيح حسنه الشيخ الألباني.
وهناك أناس يشتاقون للجنة، وأناس لا يشتاقون لها بالمرة.
(12/19)
الحياء من الناس
والموقف الآخر الذي لن تنساه إن نسيت نفسك وقوفك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام حوضه يسألك عن ميراثه، هل حفظت شيئاً منه أم ضيعته؟ فلا يعقل أن تكون حافظاً لاحتياطي فريق الكروم وناسياً لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تحرم عليهم النار وأول من يدخلون الجنة، ودرجات القرب من الله عز وجل، والعشرة المبشرين بالجنة، وغافلاً عن كل شيء في حياتك وفي تاريخ الإسلام، وأهم المعارك التي خاضها المسلمون، طالما أن كل حياتنا كرب وانكسار وخيبة أمل، ولم يبق إلا رحمة الله عز وجل.
فاقرأ أيام الرجال العظام مثل معركة الزلاقة وقائدها ابن تاشفين الذي صنع هرماً من رءوس الكفرة، ثم أذن المؤذن من فوقه، واعرف فتوحات المسلمين في أوروبا إلى حدود بودابست في شرق آسيا، واعرف الرجال العظام الذين فجروا معركة ذات الصواري، وفتح الفتوح نهاوند، وكيف أن المسلمين سيطروا على العالم وكيف ضيعوه، وهل يعيد التاريخ نفسه أم لا؟ فهذه أمور كثيرة لابد أن تعرفها، وقف مع نفسك واعرف ما هي علوم القلب، فربما تلطخت بكبيرة أشد عليك من الزنا والسرقة وأنت لا تعرف، واعرف العجب والكبر والفرق بينهما؛ لئلا يكون قلبك متلطخاً بالعجب أو بالكبر وأنت لا تدري.
وتعرف علوم القرب من الله عز وجل، وعلوم القلب من الإخلاص والخشية والرجاء والتبتل والثقة بالله عز وجل والتفويض والتوكل؛ لعل القلب يشيح بصيصاً من نورها.
فاستحي من الرسول صلى الله عليه وسلم إن كنت سادراً في غيك في الدنيا، هملاً مع الرعاع لا تعرف شيئاً، أينما برز إليك بارز من الدنيا طرت إليه زرافات ووحداناً.
فتعرف على رسولك صلى الله عليه وسلم وعلى سنته وسيرته، وتجنب البدع؛ حتى لا يعاتبك النبي صلى الله عليه وسلم عتاباً يقطع نياط القلوب الطاهرة.
وكان السلف ربما رأى أحدهم رؤيا في المنام فتجبه عن المعاصي، فقد كان رجل جاراً للإمام أحمد وكان يفعل السيئات والكبائر، ثم أتى يوماً إلى الإمام أحمد فرآه معرضاً عنه، فقال: لم تعرض عني يا إمام! وقد تركت ما كنت فيه من المعاصي لرؤيا رأيتها؟ قال: وأي شيء رأيت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم كأنه على علو من الأرض وحوله ناس كثير أسفل منه جلوس، فيقوم الرجل منهم إليه، فيسأله ادع لي، فيدعو له حتى لم يبق في القوم غيري، فأردت أن أقوم فاستحييت من قبيح ما كنت أصنع، وخجلت من أن أقوم بين يدي رسول الله أسأله وأنا قد فعلت ما فعلت، قال: فقال لي: يا فلان! لم لا تقوم إلي فتسألني مثلما سألني الناس فأدعو لك؟ فقلت: يا رسول الله! يقطعني الحياء منك، لا أستطيع أن أقوم؛ لقبيح ما أنا عليه، قال: فإن كان يقطعك الحياء فقم، فسلني أدعو لك، فإنك لا تسب أحداً من أصحابي، قال: فقمت فدعا لي، فانتبهت وقد بغض الله إلي ما كنت عليه، فقال الإمام أحمد: يا جعفر! يا فلان حدثوا بهذا واحفظوه؛ فإنه ينفع.
وربما استحيا الرجل منهم من الصالحين حتى يموت من الحياء، قال أبو الفتح بن مخرق: تعلق رجل بامرأة من أهل الشام فتعرض لها وبيده سكين، ولم يستطع أحد أن يقرب منه، وكلما اقترب منه رجل عقره، والمرأة تصيح ولا يستطيع رجل أن يقرب منها، فتقدم منه رجل شيخ، فحك كتفه بكتفه، فسقط الرجل وهو يتصبب عرقاً مغشياً عليه، وولت المرأة هاربة، ثم لما أفاق الرجل قالوا: ما الذي جعلك تسقط مغشياً عليك؟ قال: اقترب مني رجل فقال: اتق الله! فإن الله ناظر إليك، فخررت من كلمته، فقالوا: أما تعرف هذا الرجل؟ قال: من هو؟ قالوا: بشر بن الحارث الحافي، قال: أوقد رآني بشر على المعصية، فحم من وقته، ومات في اليوم السابع.
فقراءة التراجم تؤدبك في وقت غاب فيه المؤدب والقدوة، ومن أهم وسائل التربية أن تقرأ سير أعلام النبلاء، فتتأدب وتتربى وتعرف مقامك جيداً، وتعرف أين أنت من علوم الناس ودرجاتهم، وكم من العلوم حصلوا وفاتتك، وكم من الآداب تجملوا به وفاتتك، فتعرف قدرك.
(12/20)
أفضل الحياء وأكمله
ونهاية الحياء وكماله ألا تستحيي من الحق، وقدم الحياء من الله عز وجل على الحياء من الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه أو شهده أو سمعه) فيؤثر الحياء من الله عز وجل على الحياء من الناس.
فالحياء الشرعي لا يمنعك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما الذي يمنعك شيء آخر غير الحياء، وهو الجبن والخوف والهلع، فتركك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حياء من الناس ليس من الحياء في شيء، بل هو من الخور والهلع والجبن.
(12/21)
نماذج من الحياء
وانظروا إلى فهم أبي أيوب الأنصاري للحياء، عندما أعرس سالم بن عبد الله بن عمر فصنع أبوه وليمة ودعا الناس، قال: وكان فيمن دعا أبو أيوب الأنصاري، فأتى ورأى بيتنا قد سترناه بنجاد أخضر، أي: جعلنا فيه ستائر وبسطاً، فنادى أبي وقال: يا عبد الله! أتسترون الجدر؟ يعني: المفروض أن تقولوا: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ستر الجدران) فلا تستر إلا على قدر النافذة فقط، وليس مثل الإيتكيت الذي تغطى فيه الجدران الأربعة بالستائر، فستر الجدران منهي عنه شرعاً.
وانظر إلى حياء كليم الرحمن سيدنا موسى عليه السلام، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء).
وانظر إلى حياء النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء عن بعض الصحابة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً كرهه عرفناه في وجهه).
وقد استحيا من ربه بعد أن سأله التخفيف أكثر من مرة، فقال له موسى عليه السلام: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فقال: (لقد استحييت من ربي، ولكني أرضى وأسلم).
ومن حياء الصحابة: حياء سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد قال: أيها الناس! استحيوا من الله، فوالله ما خرجت لحاجة -يعني: لقضاء حاجة- منذ أسلمت إلا وأنا مقنع رأسي حياء من الله عز وجل.
فانظر إلى نفسك وأنت في هذه الحال، تحمل أمعاءك الغليظة ودورة المياه، فأنت كنيف متحرك، أفلا تستحي من الله عز وجل أن تعصيه، فقد خلقك من ماء مهين فاستحي منه، فما زال يخرج منك الغائط وأنت تأنف من رائحته، هذا حياء سيدنا أبو بكر الصديق.
وانظر إلى حياء محمد بن سيرين قال: ما غشيت امرأة قط في يقظة ولا نوم حتى في المنام غير أم عبد الله، وإني لأرى المرأة في المنام، فأعلم أنها لا تحل لي فأصرف بصري.
فهو متحكم في نفسه في المنام.
فيا ليتنا في يقظتنا كـ ابن سيرين في المنام، فهو في منامه إذا رأى المرأة لا تحل له يصرف بصره، وأنت في يقظتك أتصرف بصرك؟ وسفيان الثوري كان يبكي وهو في النوم، أفلم يكفه البكاء وهو في اليقظة حتى يبكي وهو نائم؟ فأي حال غلب على هؤلاء الرجال حتى تحكموا في لحظات نومهم؟ وانظر إلى حياء المرأة في قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] وكأن الأرض حياء وهي تمشي عليها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس للنساء وسط الطريق) فالنساء يمشين على جنب.
وحياء سيدتنا فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيها، حين جاءت تسأله خادماً فاستحيت، فقال: (ما جاء بك يا بنية؟! قالت: جئت أسلم عليك، فاستحيت من أبيها مرة واثنتين وثلاثاً، وربما أتاها وهي في مخدعها وعلي وقد أوشكا على النوم، فتدخل رأسها في المتاع حياء من أبيها رضي الله عنها).
وأما حياء الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين فكان كمال الحياء في النساء، تقول: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي رضي الله عنه واضعة ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فكانت تتخفف من بعض ثيابها، قالت: فلما دفن عمر رضي الله عنه كنت أدخل مجموعة معدودة علي الثياب حياء من عمر رضي الله عنه بعد موته.
فهذا هو الحياء في أكمل صوره.
فلا والله ما في المرء خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الخطايا أن يتوبا أنا العبد الذي أضحى حزيناً على زلاته قلقاً كئيبا أنا العبد الذي سطرت عليه صحائف لم يخف فيها الرقيبا أنا الغدار كم عاهدت عهداً وكنت على الوفاء به كذوبا أنا العبد المخلف عن أناس حووا من كل معروف نصيبا أنا العبد المفرط ضاع عمري ولم أرع الشبيبة والمشيبا أنا العبد الغريق بلج بحر أصيح لربما ألقى مجيبا أنا العبد السقيم من الخطايا وجئت الآن ألتمس الطبيبا أنا العبد الشريد ظلمت نفسي وقد وافيت بابكم منيبا أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا أنا العبد الفقير مددت كفي إليكم فادفعوا عني الخطوبا فوا أسفى على عمر تقضى ولم أكسب به إلا الذنوبا وأحذر أن يعاجلني ممات يحير هول مطلعه اللبيبا ويا ذلاه من حشري ونشري بيوم يجعل الولدان شيبا تفطرت السماء به ومارت وأصبحت الجبال به كثيبا ويا ذلاه من قبح اكتسابي إذا ما أبدت الصحف العيوبا وذلة موقف وحساب عدل أكون به على نفسي حسيبا ويا خوفاه من نار تلظى إذا زفرت أقلقت القلوبا تكاد إذا بدت تنشق غيظاً على من كان ظلاماً مريبا فيا من مد في كسب الخطايا أما آن الأوان لأن تتوبا وكن للصالحين أخاً وخلاً وكن في هذه الدنيا غريبا إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني يا من تمتع بالدنيا وزينتها ولا تنام عن اللذات عيناه أفنيت عمرك فيما لست تدركه تقول لله ماذا حين تلقاه؟ بارك الله في أيامكم وفي أموالكم وفي مسجدكم هذا وفي جلستكم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ومعذرة إن كنت قد أطلت عليكم.
والسلام عليكم ورحمة وبركاته.
(12/22)








 


رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:04   رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


انتصار الدعوة
إن الدعوة الإسلامية تحتاج منا إلى أن ننصرها، وأن نضحي في سبيلها، فإن فعلنا ذلك صار النصر حليفنا.
ولقد نصر الله تعالى رسله وأنبياءه والدعاة الصادقين من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يوم الدين، وكان نصر الله لهم بوسائل شتى وأساليب متعددة.
(13/1)
المفهوم الحقيقي للانتصار
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، ثم أما بعد: حين يبدو الشر نافشاً، والخير ضاوياً، ولا شعاع في الأفق، ولا معلم في الطريق؛ تضطرب بعض المفاهيم عند بعض الشباب العاملين في الساحة الإسلامية، وغياب المعنى الحقيقي لهذه المفاهيم الإيمانية يجعل الناس ينحرفون عن المنهج يمنة ويسرة، ومفهوم الانتصار إذا غاب معناه الحقيقي أو قصر في معناه بعض الشباب فإنهم ينحرفون عن المنهج يمنة ويسرة.
وقد يقول قائل: إن الله تبارك وتعالى يقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، والله تبارك وتعالى يقول: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
ويقول تبارك وتعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، فهل تحقق هذا الانتصار؟ وهل تحققت هذه الغاية ليحيى بن زكريا حينما ذبح؟ أو تحقق هذا الانتصار لزكريا حينما شنق؟ أو لإبراهيم حينما هاجر من بلدته؟ أو لنوح وهو لم يستطع أن يقيم دولة إسلامية بالمعنى الضيق الذي يفهمه الناس؟ فغياب المعنى الحقيقي لمفهوم الانتصار، وتقصير بعض الشباب في التمكين لشرع الله في الأرض، وقيام دولة تطبق منهج الله تبارك وتعالى، حصر النصر في هذا المعنى فقط، وجعل بعض الشباب يتصور أن لزاماً عليه أن يقيم هذا المنهج بأي وسيلة وإلا فشلت دعوته، وإن لم يستطع أن يقيم هذا الانتصار، وأن يجعل من هذه الدولة التي تحكم بشرع الله تبارك وتعالى حقيقة قائمة في واقعنا، كانت الهزيمة للدعوة، وتجعله يلجأ إلى وسائل ويستعجل اقتطاف الثمرة.
وآخرون قالوا: إن كان الأمر هو قيام الدولة الإسلامية فلنقمها بأي وسيلة حتى بالترخص أو بالالتقاء مع الباطل في منتصف الطريق، وهذا من باب التفريط.
وقد يقول البعض الآخر: أين هو الانتصار؟ إنا ندعو إلى الله تبارك وتعالى منذ عشر سنوات ونحن مضطهدون ومستضعفون في الأرض، فيشك في دعوته وإخوانه، ويقول: لا بد أن نغير هذا الطريق، ثم يميل إلى تفسير القرآن والسنة بما يوافق حالته المعنوية فيقول: ليس عليك هداهم {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272]، ثم يقبع في بيته ويعتذر من مخالطة الناس.
فغياب المفهوم الحقيقي لمعنى الانتصار يجعل بعض الناس يستعملون العنف، والبعض الآخر يترخصون بوسائل غير شرعية، ويعملون بقاعدة الغاية تبرر الوسيلة، وهي قاعدة وثنية، أو عن طريق الانتخابات أو بأي شكل من الأشكال، والآخر يقبع في بيته، إذاً: فما معنى الانتصار؟
(13/2)
معاني الانتصار
إن الانتصار له ثمانية معاني، فإذا تحقق واحد منها فقد تحقق معنى الانتصار، وقد تتحقق كلها في زمان معين أو في مكان معين، وهي ما يلي: المعنى الأول: وهو المتبادر إلى الذهن، انتصار الدعوة والداعية، فقد تنتصر الدعوة عند الناس ولا ينتصر الداعية كغلام الراهب لما قتل، فقد انتصر منهجه وانتصرت دعوته، ولم يمكن انتصار منهج غلام الراهب إلا بقتله، حيث قال للملك الظالم الطاغية: إنك لن تقتلني حتى تأخذ من كنانتي سهماً ثم تجمع أهل البلدة وتقول: باسم الله رب الغلام، فقتل الداعية وآمنت القرية بأكملها، ووقع المحظور.
ويتحقق هذا المعنى وهو أن الله تبارك وتعالى يهلك الظالمين في حياة الرسل أو في حياة الدعاة، ويمكن للرسل أو الدعاة تطبيق شرع الله تبارك وتعالى في الأرض.
وقد تحقق هذا المعنى لبعض الرسل ومنهم: سيدنا داود، قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26]، ويقول المولى تبارك وتعالى: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:251].
وتحقق أيضاً لسيدنا سليمان الذي آتاه الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وتحقق هذا المعنى أيضاً لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله له تبارك وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، وقال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، واستطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقيم دولة إسلامية بسيطة، ويحقق منهاج الله تبارك وتعالى في الأرض.
هذا هو المعنى الأول وهو المتبادر إلى الذهن، وهو الذي يدون في ذهن أكثر الشباب المنتمي للحركة الإسلامية، وهو أن يمكن المولى تبارك وتعالى لشرعه أن يحكم الأرض وأن يسود، لأن الله تبارك وتعالى فطر النفوس على محبة الخير وعلى استعجاله، {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13]، والإنسان يود أن تكتحل عينه بقيام دولة الخلافة، ويود أن يستنشق عبير الطاعة والذكر وتطبيق شرع الله تبارك وتعالى في الأرض، ومع بعد الناس عن دين الله تبارك وتعالى يتمنى الإنسان أنه يغمض عينيه ثم يفتحهما ودولة الإسلام قائمة في الأرض، هذا هو المعنى الأول المتبادر للذهن.
ولكن هل معنى الانتصار هو هذا المعنى فقط؟ ولو قصرنا الانتصار على هذا المعنى فقط فأين نحن من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرهط، والنبي يأتي ومعه الرجل والرجلان، والنبي يأتي وليس معه أحد)، وهذا نبي من الأنبياء يقرع أبواب الجنة ولم يستجب له أحد، فهل هو ما استطاع أن يقيم دولة لله في الأرض وأن يطبق فيها منهاج الله تبارك وتعالى؟! هل معنى ذلك أن هذا النبي فشل في دعوته؟ فحصرنا لمفهوم الانتصار في المعنى الأول فقط معناه أن النبي قد فشل في دعوته، ولكن الانتصار له معان كثيرة كما سنوضحها.
فالنصر يكون بغلبة الرسل وأنبياء الله والدعاة على أهل الباطل والمعاندين لدعوة الرسل، ويمكن الله تبارك وتعالى لهم من قيام دولة في الأرض تطبق منهاج الله تبارك وتعالى.
المعنى الثاني: إهلاك الله تبارك وتعالى للظالمين في حياة الرسل، إن المولى تبارك وتعالى ينتقم من الظالمين في حياة الرسل إذا لم يتمكنوا من إقامة دولة إسلامية لهم، كسيدنا نوح عليه الصلاة والسلام، قال الله تبارك وتعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:10 - 14].
فما قص الله تبارك وتعالى علينا أن نوحاً عليه الصلاة والسلام استطاع أن يقيم دولة يطبق فيها حكم الله تبارك وتعالى، فكل ما في القرآن أن إهلاك الله تبارك وتعالى للظالمين في حياة سيدنا نوح كان نصراً {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10]، واستجاب الله لدعاء نبيه بالنصر، وتحقق هذا النصر بإهلاك الظالمين.
المعنى الثالث: أن ينتقم المولى تبارك وتعالى من أعداء الرسل أو الدعاة بعد موت الرسل أو موت الدعاة ورحيلهم إلى الله تبارك وتعالى، فسيدنا يحيى عليه الصلاة والسلام السيد الحصور الذي قال عنه الله تبارك وتعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12] أي: آتاه الله النبوة من الصغر، تأتيه مومسة من مومسات بني إسرائيل -أي: امرأة بغية- وكانت ابنتها عشيقة للملك، فلما امتنع يحيى عليه الصلاة والسلام من مجاراتها قالت لابنتها: إن أراد منك الملك شيئاً فقولي له: رأس يحيى، وفي إحدى جلسات الملك مع العشيقة طلبت منه مطلباً واحداً فقط وهو رأس يحيى عليه الصلاة والسلام، فبعث بالجزارين فأتوا برأسه، ثم أرسلت بهذا الرأس إلى أمها وأرادت هذه أن تقبل الفم الذي ما نالت منه شيئاً في دار الدنيا، وكلما أرادت أن تقبله يطير الفم من بين يديها، ثم أتت الابنة لزيارة أمها فخسف الله بقدمها في الأرض ثم بساقها ثم بحقوها ثم بصدرها فلما رأت الأم أن ابنتها ستغيب تمنت لو يبقى لها تذكار من ابنتها، فقالت: اقطعوا رأسها يبقى هذا الرأس عندي، فكما قتل يحيى قتلت هذه المرأة التي كانت سبباً في قتله، ثم سلط الله بختنصر على اليهود فذبح منهم الآلاف المؤلفة لدم يحيى حتى سكن هذا الدم، فهذا انتقام من الله تبارك وتعالى لرسله بعد موت الرسل، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51].
قال الإمام ابن جرير الطبري: إنا بإعلائنا لهم على من كذبهم، أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذبيهم بعد وفاة رسلنا، كالذي فعلناه بقتلة يحيى بن زكريا بتسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتلهم له.
فهذا نص من ابن جرير الطبري أن الانتصار قد يحدث لنبي بعد وفاته، وهذا معنى من معاني الانتصار.
المعنى الرابع: أن ما يتصوره الناس هزيمة للرسل أو للداعية هو في ذاته أكبر نصر، فالقتل للداعية نصر، قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، فقتل الداعية انتصار له، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، فإن كان الله تبارك وتعالى يمن على نسمات عباده المؤمنين -أي: أرواحهم- بقول رسوله صلى الله عليه وسلم: (نسمة المؤمن -يعني روح المؤمن بعد موته- في حواصل طير على نهر بباب الجنة، تلعق من ثمار الجنة).
يعني: أن المولى تبارك وتعالى يأذن لأرواح المؤمنين أن تكون في حواصل طير تكون على شاطئ نهر بباب الجنة، تأكل من ثمار الجنة، ولكن لا يأذن الله لها بأن تسرح في الجنة، فتظل واقفة على باب الجنة وتأكل من الثمار ولا تسرح في أرجاء الجنة، فهذه روح المؤمن العادي أما روح الشهيد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في أرجاء الجنة حيث تشاء، ثم تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بأرجاء العرش)، فأرواح الشهداء تتنقل في الجنة كما تشاء؛ لأنها حبست أقدامها عن الفرار من أرض المعركة في دار الدنيا، ثم تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بأرجاء العرش.
يا ويح شعري وما ارتفعت بنا همم إلى الجنان وتالي القوم أواب إلى كواعب للأطراف قاصرة وظل طوبى وعصر الشدو ينساب إلى قناديل ذهب علقت شرفاً بعرش ربي لمن قتلوا وما غابوا والصادقون يعدون هذا نصراً، فـ حرام بن ملحان حينما طعن في غزوة مؤتة لطخ الدم على وجهه وقال: فزت ورب الكعبة! وعمير بن الحمام ألقى بتمراته وقال: إنها لحياة طويلة إن مكثت في الدنيا حتى آكل تمراتي هذه.
وتغنى جعفر الطيار بقوله: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها علي إن لاقيتها ضرابها وعامر بن فهيرة راعي الغنم لـ أبي بكر الصديق لما طعنه جبار بن سلمى قال: فزت ورب الكعبة.
فحدوث الشهادة لرجل هذا فضل من الله تبارك وتعالى، وقد يعطي الله تبارك وتعالى بشائر ونسمات الجنة لرجل قبل أن يقتل شهيداً، فـ أنس بن النضر في معركة أحد قال له سعد بن معاذ: إلى أين يا أبا عمرو؟! قال: واهاً لريح الجنة! أي: شم ريح الجنة قبل أن يدخل المعركة، ثم قال: إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد، فهذا نصر، وأي نصر أشرف من أن يعطي الله تبارك وتعالى ريح الجنة لعبد قبل أن يشرع في أي عمل صالح! قال الله تبارك وتعالى عن الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، فقد تركوا الصعاليك في دار الدنيا الذين لم يصلوا ولم يصوموا ولم يزكوا، ويتأذى المؤمنين برؤية أجسامهم، فأبدلهم الله تبارك وتعالى بالقرب منه، ومن الملائكة، ومن العرش، فهذا نصر.
وقوله تعالى: {يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] أتى بالفعل المضارع ليدل على التجدد والاستمرار، فرزقهم في الجنة دائم، ورزق الدنيا ينقطع.
كان أحد الصالحين إذا مر بسوق فاكهة يقول: السلام ع
(13/3)
وسائل الثبات على دين الله تبارك وتعالى
والمعنى التاسع من معاني النصر: الثبات على دين الله تبارك وتعالى، والوسائل التي تحقق الثبات في هذه الآونة ما يلي: الوسيلة الأولى: وهي تدبر كتاب الله تبارك وتعالى وتلاوته، وأن تنعم العين بالنظر لكتاب الله تبارك وتعالى، وأن تجلي به البصر، وأن تجلي القلب بالتنزه في رياض القرآن الكريم، ورحم الله أقواماً كان القرآن نعيمهم وعنوانهم ونزهتهم وبستانهم وأنسهم وريحانهم كما قال العلماء.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32].
فالقرآن أعظم وسيلة من وسائل الثبات في كل عصر حين تضطرب الأمور، وتختلط المفاهيم، فيرجع الصادقون إلى كتاب ربهم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42].
الوسيلة الثانية من وسائل الثبات على طريق الله تبارك وتعالى: الاستقامة والعمل الصالح، يقول الله تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، قال قتادة: أما في الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح.
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66]، فالمؤمن يجدد إيمانه دائماً بالعمل الصالح.
يقول الإمام ابن تيمية قبل وفاته: أنا إلى الآن أجدد إيماني، كان يقول: ما أسلمت إسلاماً جيداً إلى الآن.
وقال ابن دقيق العيد: والله ما تكلمت كلمة منذ أربعين سنة ولا فعلت فعلة إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله تبارك وتعالى.
والـ ربيع بن خثيم منذ عشرين سنة ما تكلم بكلمة واحدة في أمر من أمور الدنيا، حتى إن ابنته وهي صبية قالت: يا أبتي! أأذهب ألعب؟ فقال لها: اذهبي يا بنيتي فاصنعي خيراً، ولما سئل عن ذلك قال: والله لا يكتب في صحيفة أعمالي أني أمرت باللعب.
فكيف وحياتنا كلها لعب؟ يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (لست من دد وليس الدد مني).
فالمثابرة على العمل الصالح ثبات على دين الله تبارك وتعالى، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ثابر على اثنتي عشرة ركعة وجبت له الجنة).
ويقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، ومن أحبه الله تبارك وتعالى ثبته على دينه.
الوسيلة الثالثة: تدبر قصص الأنبياء والسابقين والتأسي بهم، يقول الله تبارك وتعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]، فالإنسان حين ينظر إلى جبروت الظالم ينظر إلى القصص الغابرة في التاريخ: في تاريخ الأنبياء وفي تاريخ الدعوات، كقصة سحرة فرعون الذين كانوا في أول النهار يقولون: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42]، ويقولون: وعزة فرعون أننا سنغلب، وفي آخر النهار سجدوا لرب هارون وموسى فـ {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70]، {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الشعراء:49]، وكأن الإيمان يحتاج إلى إذن حين يدخل القلوب!! الإيمان لا يحتاج إلى إذن فإذا وصلت بشاشته القلوب استجاب القلب، {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71]، فلما سجدوا لاحت لهم قصور الجنة، {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50]، وقالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:72 - 73].
يا دامي العينين والكفين إن الليل زائل لا غرفة التعذيب باقية ولا برد السلاسل وحبوب سنبلة تجف فتملأ الوادي سنابل.
وحين يتدبر الإنسان قصة سيدنا موسى {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، فمن فقد الله فماذا وجد؟ ومن وجد الله فماذا فقد؟ ومن كان مع الله فأي شيء عليه؟ الوسيلة الرابعة: الدعاء بتثبيت القلوب: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:250].
ومن مواضع استجابة الدعاء: الدعاء في جوف الليل الآخر، والدعاء عند السجود، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
فالمؤمن يدعو الله تبارك وتعالى أن يثبته على الإسلام حتى يلقاه عليه، ويدعو الله تبارك وتعالى لنفسه ولإخوانه وللمسلمين أن يفرج الله تبارك وتعالى عنهم الكربات.
الوسيلة الخامسة: ذكر الله تبارك وتعالى، فهو الباب الموصل للولاية العظمى، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، وذكر الله تبارك وتعالى مطلوب وخاصة في مواطن الفزع، وعند اشتداد الأمر، ومن ذكر الله تبارك وتعالى في كل حين غرس الله غرساً في الجنة، وبنى له قصوراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد! اقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وغراسها سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فهذا يغرس لك الغرس وأنت في دار الدنيا.
والذي ثبت سيدنا يوسف من الوقوع في المعصية هو الذكر: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]، فقد جعله يثبت ويقاوم هذه الفتنة، فالذكر عامل وعنصر من عناصر التثبيت.
الوسيلة السادسة: الحرص على العقيدة السليمة؛ عقيدة أهل السنة والجماعة: وهم الصحابة والتابعون وتابع التابعين من سلف هذه الأمة.
قال علماء السلف: أكثر الناس شكاً عن الموت أهل الكلام.
وقال سيدنا عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل.
فمن كان على اعتقاد سليم ثبته الله تبارك وتعالى.
قال هرقل لـ أبي سفيان قبل إسلامه: هل يرتد أحد منهم سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: وكذا الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
الوسيلة السابعة: التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة وليست الحماسة الثائرة، فالتربية الإيمانية تحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة والتوكل على الله تبارك وتعالى، وتغذيه بعناصر تبعده عن الجفاف، وهذه العناصر تستمد من الكتاب والسنة، وهي: الخوف والرجاء والمحبة لله تبارك وتعالى والشوق إلى الله تبارك وتعالى.
فالتربية العلمية القائمة على الدليل الصحيح تكون بعيداً عن التقليد الأعمى، والتربية الواعية التي تفهم منطلق الواقع وتعيشه لا تعيش في غيبوبة عن الواقع، وإنما تعيش بآلام المسلمين، وتعرف أعداء المسلمين ومصائب المسلمين، وتفهم خطط الكافرين، قال الله تبارك وتعالى: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]، فلابد أن يعلم المؤمن الواقع الذي تعيشه هذه الأمة.
والتربية الإيمانية متدرجة لا تخضع للحماسة الزائفة، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246]، فانتكس حماسهم الزائف عندما فرض عليهم القتال، ثم لما ولي عليهم طالوت ملكاً {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] أي: فضله الله تعالى عليهم في العلم والجسم، ثم لما عبر بهم النهر: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة:249]، {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:249]، أما البقية الباقية لما جاء وقت القتال: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا ال
(13/4)
الأسئلة
(13/5)
حكم بناء المساجد على القبور

السؤال
ما حكم بناء المساجد على القبور؟

الجواب
بوب الإمام البخاري على هذه المسألة فقال: باب حرمة بناء المساجد على القبور، فالتحريم من الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما فعلوا، ولولا ذلك لأبرز قبره.
وهذه المسألة فيصل بين أهل السنة والصوفية، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الصلاة في المسجد الذي به قبر فرضاً كانت الصلاة أم نفلاً لا تصح، سواء قصد الصلاة إلى القبر أو لم يقصد، وإن صلاها ولا يعلم أن في المسجد قبراً فتصح ولا يعيدها.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من شرار الناس من تقوم عليهم الساعة والمتخذين على المساجد قبوراً)، وقال: فاتخاذ القبور مساجد ذريعة للشرك، ولذا قالت عائشة: يحذر ما فعلوا، ولولا ذلك لأبرز قبره.
ثانياً: أن الحسين رضوان الله عليه لم يأت جثمانه إلى مصر؛ لأن مقتله كان في كربلاء، قال الإمام البخاري: دفن جثمانه بالبقيع، وغيره من العلماء قال: الرأس والجسد دفنا في كربلاء.
ولا يصح أن السيدة زينب أخت الحسين وبنت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تترك هدي جدها، وهي تعلم أن إكرام الميت الإسراع في دفنه، وأن من السنة الإسراع في دفن الميت، فالسيدة زينب لم تخالف هدي جدها صلى الله عليه وسلم وهدي أبيها سيدنا علي رضي الله عنه، حيث قال لـ أبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته).
فالعلماء قالوا: إن رأس الحسين لم يأت إلى مصر.
(13/6)
اصدق الله يصدقك
الصدق خلق عظيم، ووسام رفيع، منزلته عالية، وفضله سام في الدنيا والآخرة، فبه يصح العزم، وتعلو الهمة.
وهو خلق شامل لجميع نواحي الحياة، وضروري من أجل استقامتها وسيرتها؛ ولذلك أثنى الله على أصحابه، وأخبر أنه لا ينال جنته إلا أهل الصدق.
ولقد ضرب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في هذا الخلق العظيم في جميع مجالات الحياة، ونحن حتى نعود إلى نفس ما كانوا عليه لابد أن نكون صادقين في أعمالنا، وصادقين في عزمنا، وصادقين في كل شئوننا.
(14/1)
فضل الصدق والأمر به وثمرته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
أما بعد: فأولاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال: (ما بالي أسمع دف نعليك أو خشخشة نعليك قبلي في الجنة).
وثانياً: بارك الله تبارك وتعالى في أهل حلوان وفي جهدهم وفي عملهم الطيب.
تضيق بنا الدنيا إذا غبتم عنا وتزهق بالأشواق أرواحنا منا بعادكم موت وقربكم حيا ولو غبتم عنا ولو نفساً متنا نعيش بذكراكم ونحيا بقربكم ألا إن تذكار الأحبة ينعشنا أما تبصر الطير المقفص يا فتى إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنى ففرج بالتغريد ما في فؤاده فيطرب أرباب القلوب إذا غنى نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم الصدق في معاملة الله تبارك وتعالى، فالصدق ألا تتكلم إلا بيقين، ومنه تنشأ جميع مقامات السالكين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن صدق)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن تصدق الله يصدقك)، وقال الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21].
وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقال الله تبارك وتعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119].
ففي يوم القيامة لا ينجي إلا الصدق، لذا أمر الله تبارك وتعالى عباده أن يكونوا مع الصادقين، فالصدق أس مقامات الدين، وبه تميز سكان الجنان من سكان النيران، وأهل الإيمان من أهل النفاق.
ولعظم مقام الصدق قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87].
بل سمى الله عز وجل الدين كله صدقاً، فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]، فالصدق هنا هو الدين، والذي صدق به هو صديق هذه الأمة الأكبر أبو بكر الصديق.
والله تبارك وتعالى قص علينا في القرآن الكريم أنه طلب من نبيه أن يسأله مدخل الصدق ومخرج الصدق، فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء:80].
وذكر الله تبارك وتعالى عن خليله إبراهيم أنه سأله لسان صدق، قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84]، ووصف الله تبارك وتعالى أهل الجنة بقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55] وأخبر الله تبارك وتعالى عن عباده بقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:2].
(14/2)
مراتب الصدق
(14/3)
معنى مدخل الصدق
فهذه خمسة أشياء: مخرج الصدق، ومدخله، ولسانه، وقدمه، ومقعده، فأما مدخل الصدق: فكل دخول تكون فيه بالله ولله، مثل دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فقد ترك دياره وأحبابه لدين الله عز وجل، ولبناء دولة الإسلام في المدينة، وأثر الصدق من لحظته الأولى في زعيم أحبار اليهود عبد الله بن سلام، فقال: كنت فيمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة والناس جنبيه، قال: فلما رأيت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب على الله عز وجل، فكان أول ما سمعته منه: (أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام).
فهذا دخول الصدق.
(14/4)
مخرج الصدق ومخرج الكذب
وأما مخرج الصدق فكخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر هو والصحابة، فقد تركوا وراءهم كل شيء وخرجوا إلى الله عز وجل، فأعطاهم الله عز وجل الغنائم وأحلها لهم، وما أحلت لبشر قبلهم قبل هذا اليوم، وانتصر الإيمان على الكفر.
وأما مخرج الكذب فكخروج أبي جهل لما قالوا له: قد أفلتت العير من محمد فلا داعي لبقائك في بدر، فقال: لا والله، حتى تعزف القيان ونشرب الخمور، وحتى تسمع بنا العرب فلا تزال تخافنا أبد الدهر، فأذله الله عز وجل في هذا اليوم، وفي لحظاته الأخيرة برك على صدره عبد الله بن مسعود، والكذاب كذاب حتى آخر لحظة، ففي لحظة خروج نفسه قال: لمن الدائرة اليوم يا رويعي الغنم! -رويعي الغنم وهو راكب على صدره! - قال: لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فقد أخزاك الله يا فرعون! هذه الأمة.
فهذا كان خروج كذب.
(14/5)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:06   رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

مدخل الكذب
وأما مدخل الكذب: فلدخول عمرو بن عبد ود لما أراد أن يخترق الخندق؛ ليدخل على المسلمين في دارهم، فقتله علي أصغر فارس في المسلمين، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى على علي وقال له: اجلس يا علي! فإنه عمرو، وثلاث مرات يقول: يا رسول الله! وإن كان عمراً، فلما قتل علي عمراً كبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد:19].

(14/6)


الكلام على لسان الصدق
وأما لسان الصدق فهو: الثناء العطر للصالحين من عباد الله عز وجل، ولأنبياء الله ورسله بعد موتهم وبعد أن تغيب أشخاصهم في جوف الثرى، فيلهج الله عز وجل ألسنة الخلائق بمدحهم، وهذا بخلاف من يذمونه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما مروا عليه بالجنازة: (مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله! من المستريح ومن المستراح منه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المستريح العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وتعبها إلى سعة رحمة الله عز وجل، والمستراح منه العبد الكافر أو الفاجر أو المنافق تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب) وحتى الجماد يستريح منه.
وأما الصالحون فيبكي عليهم ممشاهم ومغداهم إلى المسجد، ومصعد عملهم إلى السماء، قال الله تبارك وتعالى عن فرعون وقومه: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]، وبمفهوم المخالفة يكون معنى هذا: أن الأرض والسماوات تبكي على موت الصالحين.
فموتهم جنازة لأهل الأرض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون النجم الغابر في الأفق؛ لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها أحد سواهم، قال: والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وأنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وأنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).
وقال الحارث المحاسبي: الصادق هو الذي لا يبالي ولو خرجت كل محبة له من قلوب الخلق في سبيل أن يصلح ما بينه وبين مولاه قيد أنملة.
قالوا: ومن الصدق ألا يتمنى أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله الصالح، ويرجو أن يكون بينه وبين الله عز وجل خبء من عمل صالح لا يطلع عليه أحد من البشر حتى ولو كانت زوجته.
وهذا كما قال القائل: ويبدو لك في مضمر القلب والحشا سريرة حب يوم تبدو السرائر وقال أبو تراب النخشبي: إن الصادق يرزقه الله عز وجل حلاوة العمل قبل الشروع فيه.
يعني: إذا علم الله عز وجل الصدق من قلبك وأنت عازم على العمل رزقك حلاوته قبل أن تبدأ فيه.

(14/7)


أمثلة الصدق من سير الأنبياء والصالحين

(14/8)


قصة أم إسماعيل لما تركها إبراهيم في مكة
وهذه امرأة مصرية ولا مانع أن نذكر اسمها؛ فأسماء أمهات المؤمنين التسع معروفة، هذه المرأة المصرية التي نفخر بها هي أم إسماعيل، وهي التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فتلك أمكم يا بني ماء السماء) لما أتى بها إبراهيم عليه السلام إلى جبال فاران، وهو موضع مكة الآن قالت له: يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً فلن يضيعنا.
ولا يوجد أسهل من الكلام، ولكن في المواقف الصعبة فإن الترجمة العملية تكون شيئاً آخر، وتصور أنت امرأة يأتي بها زوجها هي ورضيعها إلى مكان قفر في مكة -ونحن نعرف هجير مكة- ويتركها، وهي تعلم أنه بعد لحظات سيتركها ولا يترك معها إلا جراباً من التمر وسقاء من الماء ينفذ بسرعة، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ فقال لها: نعم.
فتقول: إذاً فلن يضيعنا.
فبالله عليك لو كنت أنا وأنت هل سنقول: إذاً فلن يضيعنا! ثم يرحل عنها إبراهيم، ثم يتضور ويتلبط رضيعها فتبحث له عن الماء، ويجعل الله من خطواتها ما بين الصفا والمروة ركناً من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، وهذا ما أورثتكموه أمكم أم إسماعيل يا بني ماء السماء! ثم يتبدى لها جبريل؛ لأنها في موقف يعجز عنه الرجال، فقال لها جبريل: من أنت؟ فقالت: أنا أم إسماعيل وزوج إبراهيم.
فقال لها: إلى من وكلكما؟ يعني: إلى من ترككما؟ فهو لم يترك معهما فاكهة الشتاء ولا فاكهة الصيف، ولا لحوم الشتاء، ولا لحوم الصيف، ولم يترك معهما طعاماً يكفيهما سنة، وإنما ترك لهما شيئاً يسيراً من تمر وماء لا يكفيهما لوقت يسير.
فقالت: إلى الله.
فقال لها: وكلكما إلى خير كاف، لا تخشي الضيعة؛ فإن الله لا يضيع أهله.
ويزعم أنه منا قريب وأنا لا نضيع من أتانا ويسألنا على الإخبار جوداً كأنا لا نراه ولا يرانا

(14/9)


قصة حفظ الله لموسى عليه السلام أثناء رضاعه
قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، والأم إذا خافت على ولدها تضمه إلى صدرها، فما بال أم موسى وهي تعلم أن فرعون وملأه يبحثون عن رضيعها -لبلاهة فكرهم وتفاهة عقولهم- ويجندون جنودهم للبحث عنه فتلقيه إلى البحر؟ فسبحان من قال لها: فإذا خفت عليه فبدلاً من أن ترضعيه وتضميه إلى صدرك ألقيه في اليم، فهناك رحمة الله عز وجل.
وسبحان من جعل من موج البحر مستراحاً ومأمناً ومناماً لموسى عليه السلام، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم عليه السلام.
ويتهادى التابوت ليصل إلى قصر غريمه فرعون وإلى فم التنين بدون حراسة، ولكنها إرادة الله وعنايته أن يصل إلى تحت القصر، وإنما يؤتى الحذر من مأمنه، فأوتي فرعون من قبل زوجه التي تبيت معه في مخدعه، وبهرها الجمال الموسوي الذي قال فيه الله عز وجل: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، فقالت: {لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]، وبهذا حفظ موسى عليه السلام كما حفظ يوسف عليه السلام لما أصبح أجيراً، قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} [يوسف:21]، فكانت بداية التمكين وهو أجير، وكيف يكون التمكين وهو أجير؟ ولكن مضى وعد الله عز وجل بذلك؛ وهذه مشيئة الله عز وجل ومكره عز وجل لأحبابه.
وانظر كم قتل فرعون من أجل موسى عليه السلام، ومع ذلك فكأن لسان القدر يقول له: لا نربيه إلا في حجرك.

(14/10)


قصة عمرو بن عتبة بن فرقد
وهذا عمرو بن عتبة بن فرقد إذا كان في الجيش لم يكن أحد من الجيش يحرس؛ لكثرة صلاة عمرو، وبينما هو قائم في الليل أتى السبع ففر الجيش ولم يفر هو، قالوا: فوالله ما انفلت من صلاته، ثم لما سألوه: أما خفت السبع؟ قال: إني أستحي من الله عز وجل أن أخشى شيئاً غيره.
وهذا ثابت عنه، ثم مات شهيداً.
وذات يوم لبس جبة بيضاء فقال: ما أحلى هذه الجبة وتحدر الدم عليها! ومر ببستان قد أينع ثمره وزهره فقال: ما أجمل هذا الوادي! وأجمل منه لو أن رجلاً صاح: يا خيل الله اركبي! فوالله ما أتم كلمته حتى سمع داعي الجهاد، فكان في طليعة القوم، وأصيب في نفس المكان الذي أشار إليه على الجبة، وتحدر الدم على المكان الذي أشار إليه، ولكن الجرح كان بسيطاً، فجعل يداعب جرحه ويقول: إنك لصغير، وقد يبارك الله في الصغير فيصبح كبيراً.
وثبت في كتاب (بذل الماعون في فضل الطاعون) أن معاذ بن جبل رفع يده إلى السماء لما أصيب بالطاعون وقال: اللهم وفر لأهل معاذ نصيبهم من رحمتك، فأصيب ابنه عبد الرحمن، فقيل له: كيف تجده؟ فقال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:147].
ثم بعد ذلك أصيب هو في إبهامه، فقال: إنك لصغير وقد يبارك الله في الصغير.
فمات عمرو بن عتبة من جرحه الذي ظل يداعبه ويهدهده، بعد أن كبر الجرح الصغير، وعند غروب الشمس خرجت روحه إلى الله تبارك وتعالى وكان صائماً.
فإن تصدق الله يصدقك.

(14/11)


قصة سعد بن معاذ في مرضه وحكمه في اليهود
وسعد بن معاذ كان صديق الأنصار، وكانت منزلته في الأنصار في الصدق تساوي منزلة أبي بكر في المهاجرين في الصدق وإن كان بينهما تفاوت عظيم، وكانوا يلقبونه بصديق الأنصار، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء).
وكان قد قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهم ذاهبون إلى بدر: (ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك)، فسر النبي صلى الله عليه وسلم واستنار وجهه.
ولما أصيب في أكحله -والأكحل: أكبر شريان في الجسم -نزف الدم حتى أصاب من في الخيمة، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى أبو بكر وعمر، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحاول أن يرقي له جرحه، ولما كان جرحه ينزف ويصيب من في الخيمة رفع سعد يده إلى السماء وقال: اللهم إن كنت أبقيت رسولك صلى الله عليه وسلم لحرب يهود -وكانوا حلفاءه- فأبقني، قالوا: فوالله لقد انقطع دمه فما قطر قطرة واحدة بعد دعائه الصادق.
ثم كانت حرب النبي صلى الله عليه وسلم لليهود وحصاره لهم، فقالوا: ننزل على حكم سيدنا سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتي بـ سعد بن معاذ، فلما وصل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا لسيدكم فأنزلوه)، ومن عظيم أدب سعد العظيم أنه نظر إلى الخيمة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: حكمي نافذ على من في هذا؟ -تأدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فأخذ الميثاق من اليهود على نفاذ حكمه فيهم؛ لأنه يعرف أنهم قد نقضوا عهدهم مع الله عز وجل، فكيف لا ينقضون عهدهم مع سعد وهو يعرف أنهم قوم بهت، فلما أخذ منهم العهد قال: حكمي فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى نساؤهم وذراريهم، وتقسم أموالهم.
ثم قال سعد: اللهم افجره؛ شوقاً إليه، فانفجر أكحله، فطببوه عند رفيدة الصحابية الطبيبة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه كل يوم ويسأل عن أخباره، فأتاها مرة فقالت: اشتد به الوجع، فأتى قومه بنو عبد الأشهل فحملوه إلى ديارهم، ونزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا رسول الله! من هذا الذي قد مات من أمتك؟! لقد نزل إلى الأرض سبعون ألف ملك ما نزلوا إلى الأرض قبل يومهم هذا لتشييعه).
والحديث صححه الشيخ الألباني.
فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم السير حتى تقطعت نعال من معه من الصحابة، فقالوا: يا رسول الله! تعبنا من هذا السير، قال: (أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة).
فـ حنظلة حملته الملائكة وغسلته ووارته، وهناك قوم تسلم عليهم الملائكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت أخاه حنظلة)، ولما وصل إلى البيت وجد أمه تنوح عليه وتقول: ويل أمك سعداً حزامةً وجداً وفارساً معداً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل نائحة كاذبة إلا نائحة سعد)، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (إن عرش الرحمن اهتز لموت سعد بن معاذ)، وفي رواية جودها الحافظ الذهبي: (إن عرش الرحمن اهتز فرحاً بموت سعد بن معاذ).

(14/12)


قصة أنس بن النضر في أحد
وانظروا إلى أنس بن النضر رضي الله عنه لما غاب عن أول مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين، قال رضي الله عنه: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين وأغيب عنه! لئن أشهدني الله مشهداً آخر مع النبي صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع، فلما كان في يوم أحد وبعد انكشاف المسلمين رآه سعد بن معاذ فقال له: يا أبا عمرو! إلى أين؟ قال: إليك عني يا سعد بن معاذ! والله إني لأشم ريح الجنة من دون أحد.
وهذا علم الله منه صدق العزم وهو لم يشرع بعد في العمل، فأراه شم ريح الجنة وهو في أحد، فقال: إليك عني يا سعد بن معاذ! والله إني لأشم ريح الجنة من دون أحد، وصدق الله عز وجل في اللقاء، حتى إنه لم تعرفه إلا أخته ببنانه، ووجدوا في جسمه ثمانين رمية ما بين طعنة بسيف، وضربة برمح، وفيه نزل قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
وبصدقهم على تحمل الضرب في سبيل الله، واستقامتهم، وتوكلهم على الله عز وجل سجلوا في التاريخ أحرف وصفحات من نور لا تكون لغيرهم أبداً.

(14/13)


بيان مثلنا في الاستقامة اليوم
ونحن هل صدقنا مع الله عز وجل في استقامتنا؟ أم يصدق فينا قول الشاعر: كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل نحن نقول ذلك ولكن عندما تأتي الشدة يكون حالنا كحال الكلب، فقد قيل: إن الكلب أتى إلى السبع وقال له: يا ملك الغابة! غير اسمي؛ لأن الكلب اسم قبيح، فقال له: الكلب اسمك.
فقال: لا، لا أريد هذا الاسم، فقال له: إذاً نعطيك قطعة من اللحم فإن احتفظت بها إلى الليل غيرنا لك اسمك.
فأخذها فلما أتت الظهيرة بقيظها وحرها نظر إلى بطنه وإلى قطعة اللحم، فقال: كلب كلب، إن الكلب اسم جميل، ثم التهم قطعة اللحم، ثم أتى إلى السبع في آخر الليل وقال له: غير اسمي.

(14/14)


بيان تعاون العرب مع الإنجليز لإقامة دولة اليهود
إن المسلمين والعرب لم يصدقوا اليوم مع الله عز وجل حتى في دار الدنيا، ولم يصدقوا حتى في قضيتهم التي تجمعهم وهي قضية فلسطين، يقول جمال حمدان -الذي قال عنه محمد حسنين هيكل: إنه العالم المصري الفذ، وله كتاب عظيم اسمه شخصية مصر- يقول: كل الأمر وما فيه أن إسرائيل أرادت قيام دولة فصنعها لها العرب.
فاليهود كانوا يريدون أن يقيموا دولة فجاء العرب وقالوا: نحن سنعمل لك الدولة فلا تتعبي نفسك، وأما كيف حدث هذا فإنه في عام (1917م) قامت الثورة العربية بقيادة الشريف حسين والي مكة، وتحالف مع الجنرال اللنبي قائد القوات البريطانية في مصر لطرد المسلمين الأتراك من فلسطين من القدس، ولم يدخل اللنبي فلسطين إلا ببنادق العرب، فهم الذين قاتلوا وطردوا إخوانهم المسلمين من فلسطين، هذا أول الأمر، وحينما دخل اللنبي فلسطين رطن بالإنجليزية -ولا يعرفها من حوله- وقال: ها قد عدنا يا صلاح الدين! وركز علمه وفيه صليبه هناك على جبل صهيون.
ثم بعد ذلك لما أراد العرب بثوراتهم أن يحرروا فلسطين في عام (1948م) جعلوا الجيوش العربية كلها تحت إمرة الملك عبد الله، وقائد قوات جيشه هو جولوب باشا، وقد كان قائداً إنجليزياً، وهل سيحارب الإنجليز من أجل عيون العرب؟! فكانت أعاجيب! ثم في آخر الأمر أتت منظمة فتح العلمانية، ومن أول يوم من قيامها ألغت ميثاق العمل الفلسطيني وكل ما يسيء إلى إسرائيل من عبارات، مثل رميهم من البحر إلى النهر وغيره من الكلام، ووزير خارجية فرنسا لما قابل عرفات بعد محادثاته في مصر قال له: إنك أعطيت الكثير لوزير الخارجية الأمريكي، أفلا تعطي متران وهو رئيس جمهورية شيئاً؟ فقال: ماذا أعطيه؟ قال: تتنازل عن ميثاق العمل الفلسطيني وما يتعلق بإسرائيل وحرب إسرائيل، فقال له: ماذا يعني هذا الكلام بالفرنسية، فقال: كدوه، فقال للسفير الفلسطيني: ماذا تعني هذه الكلمة؟ قال: تعني الإلغاء، فالرجل وهو ينزل من على درجات السلم لما سألوه عن ميثاق العام الفلسطيني قال: كدوه، كدوه، كدوه بالفرنسية.
وألغوا جهادهم بالفرنسية.

(14/15)


بيان تبدل حال المسلمين من العز إلى الذل
قالوا لنا: أرضنا أرض مباركة فيها الهدى والتقى والوحي والرسل ما لي أراها وبحر الزور يغرقها وأكبر الأمر في أرجائها دجل في أي شيء أمام الله قد عدلوا وكلهم كاذب قالوا وما فعلوا هذا جبان وهذا باع أمته وكلهم في حمى الشيطان يبتهلوا من يوم أن مزقوا أحكام ملتهم وثوبنا الخزي والبهتان والزلل عار على الأرض كيف الزور ضاجعها كيف استوى عندها الكذاب والرجل ما زال في القلب يدمي جرح قرطبة ومسجد في كهوف الصمت يبتهل فكم بكينا على أطلال قرطبة وقدسنا لم تزل في العار تغتسل في القدس تبكي أمام الله مئذنة ونهر دمع على المحراب ينهمل وكعبة تشتكي لله غربتها وتنزف الدمع في أعتاب من رحلوا كانوا رجالاً وكانوا للورى قبساً وجذوة من ضمير الصدق تشتعل لم يبق شيء لنا من بعدما غربت شمس الرجال تساوى اللص والبطل لم يبق شيء لنا من بعدما سقطت كل القلاع تساوى السفح والجبل يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستأتي على الناس سنون خداعة يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة).
يا شام! أين هما عينا معاوية؟ وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا؟ فقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا فرب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا يا ابن الوليد! ألا سيف نؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا سقوا فلسطين أحلاماً ملونةً وأودعوها سخيف القول والخطبا وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا؟ يا من يعاتب مذبوحاً على دمه ونزف شريانه ما أسهل العتبا من جرب الكي لا ينسى مواجعه ومن رأى السم لا يشقى كمن شربا

(14/16)


فضل الصدق في الجهاد
عن نعيم بن هبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الشهداء الذين يقاتلون في سبيل الله في الصف الأول لا يلتفتون بوجوههم حتى يقتلوا يلقون في الغرف العلا من الجنة، يضحك إليهم ربك، وإن ربك إذا ضحك إلى عبده المؤمن فلا حساب عليه).
فالصدق الصدق أيها الإخوة! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.

(14/17)


بيان أهمية الصدق مع الإخلاص
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من جعله الله رحمة للعالمين.
أما بعد: فما أحوجنا اليوم إلى الصدق، وكثير من الناس يلتبس عليه أمر الإخلاص بأمر الصدق، فقد يخلص عمله لله ولكنه لا يصدق فيه، فنحن بحاجة إلى أن نصدق مع الله تبارك وتعالى في أعمالنا، وإلى أن نبذل المجهود وأقصى ما نستطيعه فيها.

(14/18)


بيان أهمية العمل بالعلم
والعبد بحاجة إلى أن يتعلم، وإلى أن يقرن هذا العلم بالعمل الصالح، ويزينه بالإخلاص لله تبارك وتعالى، ويتوج هذا العلم والعمل والإخلاص بالصدق لله تبارك وتعالى فيه، ونحن إذا أردنا أن نحول علمنا وطلبنا للعلم من مجرد اجتماع وتأثر وقتي فلنجتهد ولنصدق في ذلك.

(14/19)


وسائل العلم
أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد فاستفد علماً وحلماً ثم قيده بقيد وهكذا يكون طلب العلم، فليس طلب العلم أن تفتح كتباً فتقرأ فيها فحسب، ولا أن تحشو عقلك ورأسك بمعلومات فحسب، وإنما طلب العلم كما قال الإمام الشافعي عليه رحمة الله: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وإخلاص وصدق وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان فلابد لكي تطلب العلم إلى أن تتحلى بهذه الأمور: ذكاء وإخلاص وصدق وبلغة، وهذه هي إمكانات العلم، وصحبة أستاذ وطول زمان، فصحبة الأستاذ تتعلم منها الأدب قبل العلم، وكيف يكون علمك هذا حجة لك لا عليك، وكيف تجعل هذا العلم نبراساً يضيء لك طريقك، فكم رأينا من علماء صار علمهم وبالاً عليهم، وكم رأينا من علماء استعملوا آلة الدين للدنيا، وكم رأينا من علماء أكبوا على وجههم والعياذ بالله في النار، وقد كان من المفروض أن يقودهم علمهم إلى جنة الله تعالى.

(14/20)


فضل العلم وأهمية الصدق فيه
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فيسعدني في هذا اليوم أن أجلس بين إخواني ومشايخي لكي أشارك معهم وقد شاركنا من قبل، وكلما تجددت علينا هذه المجالس ازددنا بذلك غبطة وفرحة، وازداد رجاؤنا في الله عز وجل، حيث نرى كل يوم ونسمع ونشهد إخواناً لنا يطلبون العلم ويجلسون أمام العلماء، فإن في ذلك صحوة للأمة، وهي ثمرة ما يبذله مشايخنا الأفاضل وعلى رأسهم أستاذنا وشيخنا الدكتور سيد حسين العفاني الذي ما كنت لأجرؤ أن أتكلم بين يديه، ولكن كما كان منهج سلفنا رضي الله تعالى عنهم، فقد كان عكرمة يتكلم بين يدي عبد الله بن عباس رضي الله عنه، حتى إذا أخطأ أو مال عن الصواب أرشده وبين له.
إن موضوع الصدق له أهميته ومكانته؛ ذلك أننا لا نستطيع أن نطلب العلم إلا بالصدق، ونحن نسمع كثيراً عن فضل العلم، ويكفي في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، فهذا من أعظم الفضل والشرف أن يكون الإنسان وريث الأنبياء يحمل العلم من بعدهم.
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
ولكن هذا العلم لكي نتحصل عليه وننال هذا الشرف لابد فيه من الصدق.

(14/21)


بيان شمولية معنى الصدق والكذب
وبعض الناس يظن أن الصدق هو مجرد الصدق في الكلام والحديث، أي: أنك عندما تتكلم لا تكذب، وهذا أحد جوانب الصدق وأحد أقسامه، بل ربما يكون أقل أقسامه، وإن كان المتخلف عنها في عداد المنافقين، وهناك أقسام أخرى للصدق: من ذلك الصدق في الإخلاص، فقد يدعي الإنسان الإخلاص وهو كاذب في إخلاصه، والدليل على ذلك: حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، (فيؤتى بأحدهم فيسأله الله ويعرفه نعمه فيعرفها، فيقول: ماذا عملت؟ فيقول: قرأت فيك القرآن وتعلمت العلم وعلمته، فيقول الله: كذبت).
والكذب هنا ليس كذباً في الكلام ولكنه كذب في الإخلاص، فهو حقاً قد قرأ القرآن وتعلم العلم وعلمه، لكنه لم يفعل ذلك لله عز وجل، ولكنه قرأ ليقال: قارئ، وتعلم ليقال: عالم، وقد قيل، ثم يؤمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار.
ثم ذكر بقية الثلاثة وفيهم الجواد الكريم الذي يقول له الله عز وجل: كذبت؛ إنما أنفقت ليقال: جواد، وفيهم المقاتل في سبيل الله الذي يقول له الله عز وجل: كذبت؛ إنما قاتلت ليقال: شجاع وجريء، فقد قيل.

(14/22)


الصدق في العزم وطلب العلم
وهناك الصدق في العزم، مثل أنس بن النضر عندما صدق في عزمه، والله عز جل ذكر الذين يعاهدون الله عز وجل ولا يصدقون في عهدهم، فقال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:75 - 77] أي: كانوا في عهدهم كاذبين، وفي عزمهم غير صادقين.
فينبغي لمن أراد أن يطلب العلم أن يكون صادقاً مع الله عز وجل، فيترك كل شيء من أجل العلم، وهذا يحتاج إلى عزيمة قوية وقرار حاسم، وعندما نتكلم عن طالب العلم لا نقصد بأنك تجلس وتذاكر وتحفظ وتتعلم وتعرف التفسير فقط ثم لا تعرف موعظة توسع بها صدرك، وتنشط بها رجاءك، وتجدد بها نشاطك، ولكننا نريد الثمرة، فنحن محتاجون إلى علماء للأمة يأخذون بيدها إلى الرشاد والحق والهدى، فأين هذه الثمار؟ وأين البذل لله عز وجل؟ فلا ينفع أن تأتي وتسمع محاضرة مدة ساعة أو ساعتين ثم تذهب وتنام، بل لابد أن تكون حياتك كلها للعلم، والعلم لا ينال براحة الجسم، وأما إرادة بعض العلم والتعذر بأنك لست فارغاً أو عندك أشغال أو أتعبك العيال فهذه كلها معاذير، فلماذا لا تعكس المسألة وتقول: عندي درس علم، ولست فارغاً للذهاب في المشاوير؛ من أجل درس العلم، ولست فارغاً لمقابلة الضيوف؛ من أجل درس العلم، ولست فارغاً لأن أفسح على العيال؛ من أجل درس العلم؟! فلماذا جعلنا العلم بل جعلنا أعمالنا كلها التي هي مع الله عز وجل على هامش الحياة، فبعد أن نأكل ونشرب وننام ونتكلم ونصاحب ونمزح ونمرح بعد ذلك نفكر أننا نمسك المصحف ونقرأ، ونفكر أننا نمسك كتاب صحيح مسلم ونحفظ منه حديثاً، أو نفكر أننا نتعلم مسألة من مسائل الفقه؟! والله عز وجل يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، وأبو هريرة لما كانوا ينكرون عليه كثرة الحديث قال: كنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، يعني: كان أهم شيء عنده أن يتعلم من النبي عليه الصلاة والسلام.
وكان السلف يذلون أنفسهم من أجل العلم، فـ عبد الله بن عباس -وهو من هو شرفاً ومكانةً وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول: كنت آتي هذا الحي من الأنصار لما أعلم ما عندهم من العلم، فأقيل عند باب أحدهم وإني لأعلم أني لو استأذنته لأذن لي.
وكان يفعل ذلك ليطيب بها نفسه، ويرقق بها قلبه.
فكانوا يذلون أنفسهم بصدق في العلم.
والإمام الشافعي الذي تربى يتيماً يقول: كنت يتيماً في حجر أمي، وكانت لا تجد ما تعطيه المعلم.
وهذه العادة موجودة حتى الآن في الريف، فالشيخ الذي يحفظ الأطفال في الكتاب منهم من يعطيه خبزاً، ومنهم من يعطيه دقيقاً، ومنهم من يعطيه أشياء يعيش بها، فكانت أم الشافعي لا تجد ما تعطي المعلم.
قال: فرضي مني أن أخلفه في مجلسه، يعني: ينظف المجلس بعدما يقوم المدرس ويمسحه، حتى حفظ كتاب الله عز وجل، ثم جلس في مجالس العلماء، قال: فكنت لا أجد ما أشتري به القراطيس -يعني: الأوراق التي يكتب فيها- فكنت أذهب إلى المزابل فإذا وجدت عظماً يلوح أخذته فكتبت عليه، حتى إذا امتلأ جعلته في جرة لنا قديمة، هذا هو الإمام الشافعي الذي مات وله خمسون سنة وقد ملأ علمه الآفاق، وهو أول من علم الناس علم أصول الفقه، وصنف كتاب الرسالة.
وكان عمر بن عبد العزيز يذهب إلى العلماء فمنهم من يدخله ومنهم من يرجعه.
فكانوا يذلون أنفسهم بصدق في العلم، وكانوا يقولون: من طلب الحديث أفلس، ولا ينال العلم إلا بالفقر، يعني: أنك تفتقر من كثرة الطلب ومن كثر الإنفاق، فإذا علمت أن منزلة العالم منزلة عظيمة عند الله عز وجل فينبغي عليك أن تنفق كل غال ورخيص من أجل أن تنال هذا العلم.

(14/23)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:07   رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


تفضيل العلماء على المجاهدين
ويكفي أهل العلم شرفاً أنه عندما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى مكانة العلماء في طبقات المكلفين ذكر مسألة وهي: هل العلماء أعظم منزلة أم المجاهدون؟ وكلنا يعلم منزلة المجاهد عند الله عز وجل، وانتهى في بحثه وتحقيقه إلى أن العالم أفضل مكانةً من المجاهد، فإذا كانت الأبواب مغلقة تمنعك من الذهاب للجهاد ونصرة إخوانك في كل مكان فهناك أبواب مفتوحة فجاهد فيها، ومنزلتها أعظم، ولعل الله عز وجل يغير على يديك وبعلمك من يقود الأمة، فربما يقعد طفل صغير بين يديك لتعلمه وترشده وتثبته على طريق الحق، فيكون سبباً لهداية الأمة.
ونحن نذكر قصة الغلام الذي هداه الله عز وجل على يد راهب، فكان هذا الغلام سبباً لهداية الأمة كلها، حتى قال له الراهب: أي بني! إنك اليوم صرت أعظم مني وأفضل.
وهذا دليل على صدق هذا الرجل في تعليمه للغلام، ولم يدخله غيرة ولا حسد، ولكنه قال للغلام: أنت اليوم أفضل مني.
ولا يتسع الوقت لأن نحكي هذه القصص، فكلها والحمد لله قصص مشهورة، ولكن هذا الغلام كان سبباً هدى الله سبحانه وتعالى الناس على يديه بعدما وصل الأمر إلى الملك، ثم كان ما كان حتى قال الناس جميعاً: آمنا برب الغلام.
فأبواب الخير عند الله عز وجل كثيرة، ولا تدري من أي باب ينصر الله عز وجل دينه، فرب طفل صغير أو إنسان يتعلم على يديك يكون سبباً لنجاة الأمة، ويكون سبباً لفتح باب الجهاد في سبيل الله عز وجل، فلا تترك أنت هذا الباب، وباب العلم مفتوح والحمد لله، وكتب العلم كثيرة، والعلماء بين يديك فاجلس واطلب العلم.
وقد استدل ابن القيم في تحقيقه أن العلماء أعظم منزلة من المجاهدين بقوله صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)؛ لأن الذي يرث الميت أقرب الناس إليه، فهم أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ورثوا العلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم).
قال: وأيضاً فإن العالم في جهاد مستمر لا كالمجاهد في المعركة، بل حتى وهو نائم يجاهد، فحياته كلها في جهاد مع أهل البدع والفرق، ومع أهل الملل والنحل، فيرد الشبهات عن الأمة ويدفعها عنها.
وقد كانت الشبهات من قريب عن اللحية والنقاب والسواك، ولكن كثر الكلام الآن، فهم الآن يتكلمون في أصول الدين، وفي العقائد، وفي مصادر الإسلام، ويتكلمون عن البخاري ومسلم، وعن كتب السنة التي هي الأصول، ويتكلمون عن الشرائع، وعن الحج، كالذين يقترحون على الناس أن يقسم يوم عرفة على سبعين يوماً؛ من أجل الزحام.
ومنهم من يحاول أن يمنع الناس من أداء الحج والعمرة؛ بحجة أن هذه الأموال التي تنفق صرفها على الفقراء والمرضى أولى، ومن ثم لا يضيع اقتصاد الأمة، حيث تنفق في هذه الرحلة أكثر من مليار، ونحن محتاجون لها؛ إذ علينا ديون، ونسي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب)، ومن غير العلماء سيدفع عن الأمة هذه الشبهات إذا كان كل أحد فيها همه جمع الأموال ولا يشبع من المال الذي يجمعه، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لتمنى أن يكون له ثانٍ، ولو كان له واديان لتمنى أن يكون له ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب).
وإذا رزقت القناعة فهذا هو الكنز الذي لا يفنى، فإنك إذا رزقت القناعة فلقمة من كسرة تكفيك، وإن لم ترزق القناعة فمال الأرض كله لا يكفيك، وستظل ترى الفقر أمام عينك.
ومن الشبهات: أن هناك من يقول: إن الهندوس بشر مثلنا، ولهم دين مثل ما لنا نحن دين، ولهم رب يرحمهم مثل ما لنا نحن رب يرحمنا، مع أنهم يتكلمون في العقائد وفي المسائل التي نقول عنها: إنها معلومة من الدين بالضرورة، ويعلمها العامي والعالم والصبي والصغير والكبير.
إذاً: فلابد من الصدق في طلب العلم، وبذل كل أوقاتنا وحياتنا في سبيله.
إن مجيئك إلى المسجد نعمة كبيرة جداً وفضل من الله واصطفاء واختيار منه عز وجل، فربنا اصطفاك من وسط هؤلاء الناس جميعاً لأن تكون في المسجد في طاعة لله عز وجل.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقني وإياكم الصدق في القول والعمل، وأن يجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
(14/24)
بيان ضرورة العلم لكل عمل
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبها يرتفع العبد في الدرجات، الحمد لله الذي من علينا وجمعنا في بيته الكريم الطاهر، أما بعد: فإن طلب العلم ضرورة لكل عمل، فأنت إذا أردت أن تدعو الناس إلى الله فلابد أن تكون على علم، وإذا أردت أن تستقيم على طريق الله فلابد أن تكون على علم، وإذا أردت أن تجاهد في سبيل الله فلابد أن تكون على علم، وكل عمل تعمله فلابد وأن يكون على علم وعلى نور يضيء لك الطريق؛ حتى لا تريد طاعة الله فتقع في معصيته.
وقد قال بعض السلف: إنك إذا لم تحسن أن تتقي لقيتك امرأة فنظرت إليها ووقعت في الحرام، وإذا لم تحسن أن تتقي أكلت الربا، وإذا لم تحسن أن تتقي وضعت سيفك على عاتقك، يعني: قاتلت به المسلمين.
فأنت إن لم تتعلم فكيف تحيا بالدين، وكيف تعيش لله تبارك وتعالى، فستقع ولاشك فيما يغضب الله عز وجل.
(14/25)
أهمية التدرج في طلب العلم
كان سلفنا الصالح يبدأون بصغار العلم قبل كباره، ونحن نريد أن نخرج من تلك الحالة السيئة التي يعيشها أغلب الملتزمين أو أغلب المتدينين، حيث إنه يأخذ علمه نتفاً ينتفها من الكتب، فقد يروق له هذا الكتاب تارة فيأخذ منه صفحة أو صفحتين أو غير ذلك، ثم ينتقل إلى غيره، ثم إلى ثالث وإلى رابع، ويكون حاله كحال ذلك الرجل الذي قص علي بعض إخواني مثله، قال: إنه منذ ثلاثين عاماً يتعلم لكنه ما حصل شيئاً، فقيل له: كيف ثلاثون عاماً وما حصلت شيئاً؟! قال: إن مثلي كمثل رجل أراد أن يحفر بئراً ليتحصل على الماء، وكان الماء مثلاً على مسافة عشرة أمتار، فجاء وحفر خمسة أمتار في بئر ثم تركه، وانطلق إلى موقع آخر فحفر مترين، ثم إلى ثالث فحفر سبعة وإلى رابع وهكذا حتى حفر ثلاثين بئراً، وهو يحفر فيها ما بين متر ومترين وخمسة، فظل هكذا وما تحصل على الماء، ولو بقي على البئر الأول حتى حفر الأمتار العشرة لتحصل على الماء.
وهذا بالضبط مثل من يأخذ من هذا الكتاب تارة ومن هذا تارة، فلم يحصل علماً ولا أصولاً ولا وقف على أرض صلبة، ولو علم نفسه الصبر، وجلس وزاحم العلماء بالركب، وصبر نفسه ورباها وعودها على أن تتعلم ممن سبقها، وأن تبدأ من حيث انتهى الآخرون، وأن تتعلم ما تحبه وما تكرهه، وما تشتهيه وما لا تشتهيه؛ لأنه إنما يتعلم لله جل وعلا لا لكي يقضي وطره، أو لكي يشبع شهوته، أو يلائم هواه، فلو صبرها على هذا لنال بفضل الله العلم والتربية.
ومسك الختام هو أن نرد الأمر إلى أهله، ونعطي أصحاب الحقوق حقوقهم، وما شكر الله جل وعلا من لم يشكر الناس، وما شكر الله تبارك وتعالى من لم يشكر من أجرى النعمة على يديه.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي صح عنه: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرى الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه).
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا بالأخذ بالأسباب لنتعلم، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، فمن تقواك لله جل وعلا أن تسلك سبيل العلم، واعلم أنك لن تصل إلى الله جل وعلا إلا عن طريق العلم، فالسائر على غير علم كالسائر على غير طريق، والذي يعبد الله جل وعلا على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فقليل مع العلم خير من كثير بغير علم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفق الجميع ليتعلموا ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في هذه الأعمال، وأن يجعلها خالصة لوجهه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعنا وإياكم في الجنة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(14/26)
أهمية الأخذ بالأسباب في طلب العلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي صح عنه: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرى الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه).
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا بالأخذ بالأسباب لنتعلم، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، فمن تقواك لله جل وعلا أن تسلك سبيل العلم، واعلم أنك لن تصل إلى الله جل وعلا إلا عن طريق العلم، فالسائر على غير علم كالسائر على غير طريق، والذي يعبد الله جل وعلا على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فقليل مع العلم خير من كثير بغير علم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفق الجميع ليتعلموا ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في هذه الأعمال، وأن يجعلها خالصة لوجهه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعنا وإياكم في الجنة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(14/27)
البحار الزاخرة في فضل المغفرة
لقد خلق الله الإنسان وجعله معرض للخطأ والتقصير والنسيان، ومن رحمته سبحانه أن فتح باب التوبة والمغفرة لمن عاد إليه وتاب واستغفر من ذنوبه، وحث سبحانه على المبادرة إلى التوبة، ويسر طريقها للسالكين، وسمى نفسه الغفور الرحيم.
(15/1)
الحث على المبادرة بالتوبة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين، ثم أما بعد: قال تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين، وكلام الملوك ملوك الكلام {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:53 - 60].
يا ابن آدم ابسط الحزن على قراب الأسف، وقل قد قدم الغائب، وقل: قد مسنا وأهلنا الضر.
يا غافر الذنب العظيم وقابلاً للتوب قلب تائب ناجاك أترده وترد صادق توبتي حاشاك تطرد تائباً حاشاك ما لي وأبواب الملوك وأنت من خلق الملوك وقسم الأرزاق ما لي وما للأقوياء وأنت يا رب القوي ولا تحد قواك يا أيها الماء المهين من الذي سواك ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد واراك ومن الذي غذاك من نعمائه ومن الكروب جمعيها أنجاك ومن الذي شق العيون فأبصرت ومن الذي بظهوره أعلاك ومن الذي تعصي ويغفر دائماً ومن الذي تنسى ولا ينساك قال ابن مسعود الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (وتمسكوا بهدي ابن أم عبد) قال: وددت لو أن الله غفر لي ذنباً واحداً وأني دعيت، ولا يدرى لي نسب.
إن مغفرة الذنب عظيمة، وأرجى آية في كتاب الله عز وجل للعصاة النافرين الشاردين عن باب الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، وليس العجب من نائم لا يدري كم مر من عمره، إنما الأعجب من نائم في يقظته، {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84].
آخر العدد فراق روحك، آخر العدد ركوب نعشك، آخر العدد دخول قبرك، آخر العدد عرصات القيامة، وتطاير الصحف، آخر العدد المرور على الصراط، فاتق الله عز وجل في أيامك التي تذهب هدراً، ولا تدري ما قيمتها، فمغفرة الذنوب لها قدر عظيم عند الله عز وجل، ويكفي من شأنها أن غفران الذنوب صفة من صفات الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3]، والتوب هنا: مصدر، بمعنى أن أقل توبة يقبلها الله عز وجل، فما ظنك بالتوبة النصوح، (يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم).
ومن أعجب الأشياء: أن تعرفه ثم لا تحبه، وأنت تسمع داعيه ثم تتأخر في إجابته، وأنت تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وتعلم قدر غضبه ثم تتعرض له، وتعلم قسوة القلب عند الخوض في غير حديثه ثم لا ترتاح إلى ذكره، وأعجب من هذا علمك أنك لابد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت فيما يبعدك عنه راغب، لقد أعطاك ما لم تأمل، وبلغك ما لم تطلب، وستر عليك من القبيح ما لو فاح لضجت المشام، فكم عدو حط منك بالذم فرقاك، وكم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك، وكم أمات بعض من لم يبلغ مرادك وأبقاك.
يا أهل الموت والفناء! كيف تستنكفون عن عبادته ولا رب لكم غيره، ولا واحد وارث لكم سواه، ينادى بصوت عزته: لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون، ويصاح على محجة حجته: لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، وينزل جاسوس علمه: لا يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ويترنم منشد فضله: لا تقطنوا من رحمة الله، ويهتف بقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، وكل موافق ومخالف يمشي وفق مشيئته، ويتقلب في قبضته، يا ابن آدم إنه ليس أعز من خالق طلبته بيده، وليس أذل من مخلوق هو بيد طالبه.
(15/2)
فضل المغفرة
إن للمغفرة فضلاً عظيماً، فالله عز وجل وصف نفسه بأنه الغفار، فقال سبحانه: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]، وقد كتبها الله تعالى بيده قبل أن يخلق الخلق، فكتب كتاب الرحمة بيده، فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي تسبق غضبي.
وقد فتح الله عز وجل باب التوبة أمام اليهود -عليهم لعائن الله- وهم الذين قالوا: إن يد الله مغلولة، وقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وهم الذين ادعوا له الولد، وقتلوا أنبياءه، وأمام النصارى الذين قالوا: إن ثالث ثلاثة، فقال الله عز وجل: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74]، فيقتلون أولياءه ثم يدعوهم إلى التوبة!! {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] أي: حرقوا المؤمنين والمؤمنات، {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10].
فأي كرم أفضل من كرم الله عز وجل، وأي نعمة سابغة أفضل من نعم الله عز وجل، هذا فعله بمن عصاه فكيف إرادته بمن أطاعه، إن كان هذا فعل الله عز وجل بالبعيدين عن بابه، فكيف بالمقربين الداعين إلى ثوابه؟! حكى ذو النون المصري أنه رأى ضفدعة كبيرة تسبح في الغدير وعليها أفعى، فقال: إن لهذه الضفدعة لشأناً، فعبر وراءها الغدير فلما وصلت إلى سطح الغدير الثاني إذا برجل سكران مخمور نائم وحية أخرى أرادت أن تلسعه في أذنه، وإذا بالأفعى تنزل من على ظهر هذه الضفدع ثم تستجمع كل قواها فتقتل تلك الأفعى، فيوقظه ذو النون ويقول له: يا غافلاً والجليل يحرسه عن كل شيء دب في الظلم كيف تنام العيون عن ملك تأتيك منه فوائد النعم فبكى الرجل فقال: يا رب، هذه إرادتك بمن عصاك فكيف إرادتك بمن أطاعك؟ إن فضل الله عز وجل في التوبة لا يدانيه فضل، والله تبارك وتعالى يسوي بين دعوته إلى الجنة وبين دعوته إلى المغفرة، قال الله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221]، فيسوي بين الجنة وبين المغفرة، بل لا يدخلون الجنة حتى يغفر الله عز وجل لهم، قال الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].
وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21].
فالله عز وجل من كرمه وفضله يدعو عباده إلى المغفرة، ويفتح لهم باب التوبة على مصراعيه.
(15/3)
حرمان الله الشيطان من المغفرة ومنه بها على ابن آدم
ومن عظم المغفرة: أن الله عز وجل حرمها الشيطان ومن بها على ابن آدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم.
فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
(15/4)
امتنان الله على نبيه بالمغفرة
من فضل المغفرة: أن الله تبارك وتعالى امتن بها على نبيه، فقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:1 - 2].
وفرح القلب الكبير قلب رسولنا بهذه المغفرة، وبغفران ما تقدم وما تأخر من ذنوبه، فيقول: (لقد أنزلت علي الليلة آيات أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) أحب إليه من حمر النعم، وأحب إلي من الدنيا وما فيها، ففرح القلب الكبير وأدى شكر هذه النعمة.
تقول له السيدة عائشة حينما رأته يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، تقول: يا رسول الله! أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! يقول: (يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً).
(15/5)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:08   رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الشفاعة العظمى هي طلب المغفرة لأًصحاب الكبائر من هذه الأمة
ومن أعظم المغفرة عند الله عز وجل: أن طلب المغفرة هي الشفاعة العظمى، وهي مقام نبينا المحمود، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، والمقام المحمود لم ينله أحد من البشر إلا نبينا.
إن مقام الشفاعة العظمى للخلائق بأسرهم هو مقام طلب المغفرة لأصحاب الكبائر من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هي الدعوة التي خبأها الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي).
بل إن الله عز وجل يخيره بين أن يدخل شطر أمته الجنة وبين الشفاعة وطلب المغفرة للخلق، فيختار الشفاعة لأمته، وهذا يدل على عظم هذه الشفاعة، ومن هنا نعلم قول سيدنا عبد الله بن مسعود: وددت أن الله غفر لي ذنباً واحداً ولا يدرى لي نسب.
وسؤال المغفرة والعفو عن الذنوب هو: السؤال في أحلى ليالي العمر، فقد يهون العمر إلا ليلة القدر، فأعظم دعاء مأثور عن نبينا: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا)، وأجمل ما يقوله الإنسان في ليلة القدر سؤال المغفرة، بل يقول النبي صلى الله عليه وسلم لصديق هذه الأمة ولحبيبه: (سل الله العافية، ما من الله تبارك وتعالى على عبده بأكثر من سؤاله العافية، وبأكثر من أن يستجيب الله تبارك وتعالى له).
ودعوة الأنبياء كانت دعوة للتوحيد ولغفران الذنوب، يقول سيدنا نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:10 - 13] أي: ما لكم لا تعظمون الله وتخافون منه.
ويذكر أنه كان هناك امرأة عاقر عقيم لا تلد، فأخذت هذه الآية وجعلت تمسح بها على بطنها وتدعو الله عز وجل، وتستغفر من ذنبها، ثم من الله تبارك وتعالى عليها بأن حملت بعد أن احتار فيها الأطباء، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:10 - 13].
إن انكسار القلب وخضوعه وذله واستسلامه بين يدي الله عز وجل، وخضوع الجوارح -كل ذلك لا يحصل إلا بذنب، ثم يتوب العبد منه، وأنين المستغفرين أحب إلى الله عز وجل من زجل المسبحين، تقابل المولى عز وجل بضعفك وذلك وفقرك وتقول: أسألك بغناك عني، وبفقري إليك، أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، هذه ناصية خاطئة كاذبة بين يديك، أسألك سؤال من رغم لك أنفه، وذلت لك جبهته إلا عفوت عني، ولذلك كان سيد الاستغفار كما جاء عن شداد بن أوس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
هذا الدعاء كان سيد الاستغفار لأنك تسير إلى الله عز وجل بين مشاهدتك لنعم الله عز وجل عليك، وبين ذكرك لعيوب نفسك، فانظر إلى ربك نظرة، ثم انظر إلى نفسك الحقيرة اللوامة نظرة، فستعود إلى الله عز وجل قائلاً (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي)، فقد خلوت بمحارم الله عز وجل ولم ترك إلا عين الله عز وجل، ثم أقدمت على المعصية وجعلت الله أهون الناظرين إليك.
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني إذا ارتكبت ذنباً واحداً فاعلم أن الله مطلع عليك، وهو يراقبك من فوق سبع سموات، يقول بلال بن سعد: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلا كبرياء من واجهته بها.
يا رب أتراك تغفر وترحم من لم تقر عيناه بالمعاصي حتى علم أن لا عين تراه غيرك، قدر قيمة هذا الجناب العظيم، وابك بكاء الندم على ما فاتك من طاعة الله عز وجل.
ابن سنة كان تائباً، فلما حسب سنين عمره وجدها إحدى وستين سنة، وعدد أيامها عشرون ألف يوم، فقال: إن كان هذا عدد الأيام فكيف وفي كل لحظة ذنب، كيف تلقى الملك، ثم مات الرجل من ساعته.

(15/6)


استغفار حملة العرش للمؤمنين
ومن فضل المغفرة وعظمها: استغفار حملة العرش للمؤمنين، ومن نحن حتى يستغفر لنا أحد حملة العرش الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أحدهم: (أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش قد مرقت رجلاه الأرض السابعة، وعنقه منثنية تحت العرش، والعرش على كاهله، خفقان الطير ما بين منكبيه مسيرة سبعمائة سنة) صححه الشيخ الألباني.
فهؤلاء يستغفرون لك، يقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7].
ثم يذكر هذا التائب في الملأ الأعلى، وينادى: هذا التائب قد أقبل على ربه، فسيد القضاة أبي بن كعب يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يأمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة:1]، قال: وذكرت يا رسول الله هناك في الملأ الأعلى، قال: نعم، فبكى أبي، فقيل له: لم البكاء؟ قال: ولم لا أبكي، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]).
يقول سيدنا يحيى بن معاذ: يا غفول يا جهول لو سمعت صرير الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند توبتك، وعند ذكرك لمولاك، لمت شوقاً إلى مولاك.
يا جوهرة بمزبلة لا تعرف قدرها! أنت المراد من هذا الكون، كم من ملك في السموات والأرض لا تذوق أعينهم غمضاً ليس لهم مرتبة: تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فإذا قمت من الليل ساعة أو نصف ساعة فإنك تحمل صفة: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، وكم ملك في السموات والأرض ما ذاقوا طعاماً، وما شربوا شراباً ليس لهم مرتبة: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك).
كم من ملك في السموات والأرض مسخرون لخدمتك يدخلون عليك دخول الرجل على سيده: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24].
يا ولي الله! إن ربك يستأذنك في زيارتك، هذا قدرك عند الله عز وجل، وينسبك الله عز وجل إلى نفسه، فكفاك جزاءً على الطاعة أن رضيك لها أهلاً حتى لو لم يكن هناك جنة، كفاك ما تجد في صدرك من أحاسيس ومن شوق إلى الله عز وجل، ومن رضاً عنه سبحانه، بل يكفيك نعمة ذهابك إلى المساجد، فهذه نعمة أنت لا تقدرها، ولكن غيرك يحس بألم فقدها، حين يتمتع بكامل صحته، وبكامل عافيته ولا يستطيع أن يذهب إلى المسجد، وأنت تأتي إلى المسجد كل يوم خمس مرات، فكفاك جزاءً على الطاعة أن رضيك لها أهلاً.
وحسبي انتسابي من بعيد إليكم وذلك حظ مثله يتيمم إذا قيل هذا عبدهم ومحبهم تهلل بشراً ضاحكاً يتبسم

(15/7)


تيسير الله سبحانه لطريق التوبة
الحمد لله حبيب قلوب التائبين، ومنتهى رغبة السالكين، ومحط آمال الراحلين.
من عظم التوبة عند الله عز وجل: أن الله سهل سبيلها لهذه الأمة، فجعل مجرد الندم توبة، ولم يسهل طريقها على بني إسرائيل لما عبدوا العجل من دون الله عز وجل، فلم يتب الله عز وجل عليهم حتى قام كل رجل منهم على الآخر بسيفه، فلم يأذن الله تبارك وتعالى في التوبة لعبده موسى إلا بعد قتل سبعون ألف يهودي، كما قال الله تبارك وتعالى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة:54] يعني: اقتلوا إخوانكم ممن عبدوا العجل، وألقى الله تبارك وتعالى عليهم الظلمة، ثم أمسك الرجل من الذين لم يعبدوا العجل السكين وطعن بها من وجده ممن عبد العجل، سواء كان أباه، أو أخاه، حتى قتل سبعون ألف يهودي، ثم تاب الله تبارك وتعالى عليهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الندم توبة)، ويكفي أن يعلم الله عز وجل الصدق من قلبك فيتوب عليك.
وانظر إلى الذين تاب الله تبارك وتعالى عليهم كـ عكرمة بن أبي جهل الذي حاد الله ورسوله، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، ثم بعد ذلك من الله عليه بالتوبة، وقتل شهيداً في سبيل الله عز وجل.
وسيدنا خالد بن الوليد في معركة اليرموك يقول له: يا أبا عمرو استبقنا لنفسك، فيقول: إليك عني يا خالد، لقد قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل معركة أفأفر اليوم عن الجنة!! من يبايع على الموت؟ فقتل، وقتل عمه، وقتل ابنه.
ويتوب الله على سجاح التي ادعت النبوة كما قال العلامة ابن كثير، بل وعلى طليحة الأزدي الذي ادعى النبوة، ولم يسلم إلا في عهد أبي بكر، وكان أحد أبطال معركة القادسية ومات شهيداً بعد القادسية، فماذا تنتظر بعد ذلك وقد فتح باب التوبة على مصراعيها.
والأمر مع الله عز وجل ليس بالأيام، ولا بعدد السنين التي قضيتها في طاعته، فقد يتوب تائب اليوم ويعلي الله تبارك وتعالى درجته، فانظر إلى السحرة الذين كانوا في أول الأمر يقسمون برأس فرعون، ويعدون القرب من فرعون مغنماً، ثم بعد ذلك يتوب الله تبارك وتعالى عليهم، فلما سجدوا نظروا إلى قصورهم في الجنة فقالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:72 - 73].
أيها المؤمنون! لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم آلهة، جاء في الأثر: يا داود حببني إلى خلقي، قال: كيف يا ربي؟ قال: ذكرهم بنعمي عليهم، فإنهم لم يعرفوا مني إلا الجميل، يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورحمتي إياهم لتقطعت أوصالهم شوقاً إلي، هذه إرادتي في المدبرين عني، فكيف بالمقبلين علي! ادع إلى الله عز وجل لعل الله ينقذ بك أحد الشباب الضائعين فيكون في ميزان حسناتك، ويكون خيراً لك من الدنيا وما فيها، حبب الله عز وجل إلى خلقه، لا تقنطهم من رحمة الله عز وجل، لا تنظر في ذنب الناس كأنك إله، يسر الأمر على عباد الله عز وجل، ووسع لهم طريق التوبة، وضيق أنت على نفسك بالخوف، كما كان الفضيل بن عياض، فقد رأى أهل الموقف وهم يبكون فبكى رحمه الله إلى قبيل الغروب وهو قابض بيده على لحيته، ثم قال: واسوأتاه منك وإن عفوت، واخجلي منك حتى وإن غفرت لي حتى وإن تبت علي، ثم بعد ذلك يقول لـ شعيب بن حرب: من أسوأ الناس؟ قال: لا أدري، قال: من يظن أن الله عز وجل لا يغفر لهؤلاء، أفترى لو أن جماعة مثل هؤلاء أتوا إلى باب غني فسألوه دانقاً -أي: سدس درهم- أفكان يردهم مع بكائهم؟ قال: لا، قال: فوالله للمغفرة أهون على الله عز وجل من الدانق على هذا الغني.
هذا هو الفضيل بن عياض سيد من سادات الأمة، كان سيدنا سفيان بن عيينة إذا قابله يقبل يده، ويقبل رأسه، وسيدنا عبد الله بن المبارك يقول له: إيه لا يحسن هذا غيرك يا طبيب القلوب.
يقول عبد الله بن المبارك: كنت كلما قسا قلبي نظرت إلى وجه الفضيل، فجدد لي الحزن، فأمقت نفسي.
وقد كان الفضيل في أول أمره قاطع طريق، وكان عاشقاً للنساء، وبينما هو ذات ليلة يتسلق الجدار ليصل إلى معشوقته، سمع قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16]، فقال: آن الأوان، وتاب إلى الله وقبل العلماء يديه، هذا هو الفضيل بن عياض.
وكذلك بشر الحافي، كان الإمام أحمد إذا سئل عن مسألة من مسائل الزهد يقول: أتسألوني عن الورع وفيكم بشر؟! وقد كان في بداية أمره يستمع إلى الغناء وإلى الجواري، ثم مر عابد ببابه فقال لجاريته: لمن هذا القصر؟ قالت: لسيدها بشر، قال: عبد هو أم حر؟ قالت: حر، قال: صدقت يا بنيتي! لو كان عبداً لاستعمل آداب العبودية، ولرأى حق العبودية، فسمعه بشر من بيته فخرج إلى الرجل حافياً وتاب على يديه، ثم بعد ذلك ما لبس نعلاً في رجله، وقال: حالة وصلت إلى الله عن طريقها وعرفت الله بها، لا أفارقها أبداً.

(15/8)


حجب التوبة عن المنافقين
من عظم المغفرة: أن الله حجبها عن المنافقين والكافرين، قال الله في شأن المنافقين: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80].
وقال عن الكافرين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} [النساء:168 - 169].
وحجبها عن أصحاب البدع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته).

(15/9)


سؤال الأنبياء مغفرة الله
من عظم المغفرة أن الأنبياء يسألونها من الله تعالى، يقول سيدنا نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28].
وقال إبراهيم: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82].
فعليك أيها المسلم أن تسأل الله المغفرة فإنك من الله بمكان، قال حبيبنا الشيخ أبو إسحاق: لا تحقر نفسك، أنت عند الله بمكان، فقبل أن توجد يستغفر لك الأنبياء، فسيدنا نوح يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28].
وأنت داخل في عموم {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28].
وسيدنا إبراهيم يدعو لك كما جاء في سورة إبراهيم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41].
والنبي صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19].
وأصحاب الأنبياء يسألون الله عز وجل المغفرة، كما قال الله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:146 - 147].
وأولوا الألباب يسألون المغفرة {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193].
وكذلك المتهجدين الذين يقومون الليل بين يدي الله عز وجل، {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].

(15/10)


استمرار المغفرة إلى عرصات القيامة
ومن عظم المغفرة: أنها تستمر إلى عرصات القيامة عند المرور على الصراط، وأعظم دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم هناك (اللهم سلم، اللهم سلم).
{يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].
فتستمر المغفرة حتى عرصات القيامة.

(15/11)


من كذب بالشفاعة فليس من أهلها
ومن عظم المغفرة: أن من كذب بالشفاعة -وهي: سؤال المغفرة- فلا يكون من شفعاء الله عز وجل في عباده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين -أي: الذين يسألون الله عز وجل طرد عباده من رحمته- لا يكونون شفعاء للناس يوم القيامة).
وقال سيدنا أنس: من كذب بالشفاعة فليس من أهلها.
فلا تقبل منه شفاعة.
ولذلك: من آدب الإسلام ومن معتقد أهل السنة والجماعة: أنك لا تدعو على كافر حي على ظهر الأرض باللعنة؛ لأن اللعنة دعاء بالطرد مطلقاً من رحمة الله، وطالما أنه في دار الدنيا فقد يختم الله له بالإسلام، كما ختم لـ عكرمة بن أبي جهل، وباب التوبة مفتوح، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لا تدعو على معين باللعنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على رعل وذكوان حتى نزل عليه قول الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، وهم يحاربونه، ويقتلون أصحابه، وبرغم هذا يقول له الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128].
وادع على الكافرين بما شئت، قل مثلاً: لعنة الله على الكافرين، لعنة الله على اليهود، لعنة الله على النصارى، أما المعين فلا يجوز لعنه باسمه، ولا تدعو عليه مطلقاً، وإذا قلت: الله يلعن المتبرجات وأنت تقصد واحدة بعينها فهذا لا يجوز، فالدعاء باللعن على المعين لا يجوز، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده.

(15/12)


شفاعة النبي لأهل الكبائر
من أصول أهل السنة والجماعة: أنهم يثبتون الشفاعة لنبينا صلى الله عليه وسلم، وأما الخوارج فيضيقون باب الرحمة، ويحجرون واسعاً، ويكفرون من يأتي بالكبيرة، ويحكمون عليه بالخلود في النار، والمعتزلة يقولون: إن صاحب الكبيرة مخلد في النار، ولكنه في منزلة بين المنزلتين، فلا هو مؤمن ولا هو كافر.
وأما أهل السنة فيقولون: لا نحكم على معين بالنار، فقد يتوب الله تبارك وتعالى عليه، والناس على الإسلام، ولا نستطيع أن نحكم على واحد بالنار، كما لا نستطيع أن نحكم على رجل بالجنة، إلا من حكم له الشارع.

(15/13)


الاستغفار شعار الصالحين
شعار الصالحين في كل لحظة هو الاستغفار، وحتى بعد الطاعات؛ لأنهم يعلمون أن لله من العظمة ما هو فوق طاعات الخلق، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199]، {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
فهم أناس يقومون معظم الليل، فإذا كان السحر مدوا أيديهم مستغفرين، والنبي صلى الله عليه وسلم بعد مشوار من الدعوة والجهاد يأمره الله عز وجل بالاستغفار {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3].
وسيدنا نوح بعد تسعمائة وخمسين سنة من الدعوة يختم دعوته بالاستغفار {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28].
فالباب مفتوح ولا يغلق أبداً، فهيا إلى ظلال الرحمة الندية المحيية لموتى النفوس، يا عفو عفوك عند السكرات، وفي القبور عفوك، وعند العرصات عفوك، وعند تطاير الصحف عفوك، وعند الميزان عفوك، وعلى الصراط عفوك.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين، تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، بك استعنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولبابك نقرع فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا.
اللهم إنا نسألك لذة العيش بعد الموت، وحسن النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك.
اللهم احشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا مفتونين، ولا مبدلين.
اللهم داو أمراض قلوبنا، اللهم لا تجمع بيننا وبين قوم طالما عاديناهم فيك، اللهم اجعل نبينا خير النبيين منزلاً يوم القيامة، اللهم شرف بنيانه، وأعل مكانه، وأتم نوره وتبيانه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

(15/14)


يا قومنا أجيبوا داعي الله
من رحمة الله سبحانه أن شرع لنا صوم شهر رمضان وقيامه، وقد ضاعف الله فيه الأجر والثواب، ولشهر رمضان فضائل تفرد بها على باقي الشهور، فهو شهر الجود والكرم، وشهر قراءة القرآن ففيه أنزل، وهو شهر أعز الله فيه الإسلام وأهله، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وتابعيهم أسوة حسنة.

(16/1)


فضل صيام شهر رمضان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله وعليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
إن في هذه الأيام تعرض النفحات، كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم، ألا فتعرضوا لها، فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة من رحمة الله ما يشقى بعدها أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افعلوا الخير جهرة، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده).
فيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، ويا شمس التقوى والإيمان على القلوب اطلعي، ويا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، ويا أقدام المتهجدين لربك انصبي واركعي واسجدي، ويا عيون المتأدبين في ليل رمضان لا تهجعي، ويا همم المحبين بغير الله لا تقنعي: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:31].
ضيف أنت حل على الأنام وأبسم المحيا بالصيام يجوب الدهر دواباً وفياً يعود مزاره في كل عام وتقبل كالغمام تفيض حباً فيبقى بعده أثر الغمام مسخت شعائر الضيفان لما قنعت من الضيافة بالمقام ورحت تتم للأزواد شرعاً من الإحسان علوي النظام بأن الجود حرمان وزهد ألذ من الشراب أو الطعام ها قد أتاكم شهر رمضان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الناس بقدوم رمضان، فيقول: (أتاكم شهر رمضان)، قال العلامة ابن رجب الحنبلي: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بحلول شهر رمضان، فتقبل الله منا ومنكم الصلاة والصيام.
هذا الشهر العظيم هو شهر الصوم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (من ختم له بصيام يوم دخل الجنة).
والغاية من الصيام يحددها الله تبارك وتعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
جمهور المفسرين قالوا: ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) أي: لعلكم تصلون إلى الغاية التي شرعت من أجلها العبادات وهي التقوى، ولأديب الإسلام مصطفى صادق الرافعي في قوله تبارك وتعالى: ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) معنى آخر يخالف فيه جمهور أهل العلم، يقول: والتقوى هنا: من الاتقاء والوقاية، أي: يتقي الرجل أن يصير عبداً لجسده ولشهواته، وأن يعامل الناس على حساب الجسد فقط، فيرفرف بروحه بعيداً بعيداً عن عالم اللحم والحمأ المسنون، وثورة البطن والفم والفرج.
والصيام يا إخوتاه! أعظم وقاية من النار، يقول رسولنا صلى الله وعليه وسلم: (الصيام جنة كجنة أحدكم) فالصيام جنة لمن يصوم من النار.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض).
وهذا الأمر قد يقول الناس فيه: هذا أمر سهل، ولكن حين تعلم عن حال النار كما جاء في الحديث: (إن آخر من يخرج من النار يخرج منها حبواً فيقول لمولاه: اصرف وجهي عن النار لا أسألك شيئاً غير ذلك)، فقد استولى عليه الخوف من النار فيقول ذلك حتى يدخل الجنة، فبدءاً يقول: اصرف وجهي عن النار لا أسألك شيئاً غير ذلك، ويأخذ الله تبارك وتعالى منه العهد الميثاق ألا يسأله شيئاً غير ذلك، ثم بعد ذلك يغدر ابن آدم.
والشاهد: أن الصرف والزحزحة عن النار فلاح، وبصيام يوم يجعل الله تبارك وتعالى بينك وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض، فكيف بمدرسة الثلاثين يوماً، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار مائة عام).
وفي رواية: (سبعين خريفاً) وهذا ثمرة صيام يوم واحد.
ويخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام أنه كفارة للذنوب، فيقول: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
ويقول: (من ختم له بصيام يوم دخل الجنة).
فإذا أتى رمضان أتى الصوم بغفران الذنوب، يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، ورجح الإمام النووي ومال إلى ذلك الحافظ ابن حجر: أن غفران الذنوب يشمل الصغائر والكبائر.
وقد يبدو لكم أن هذا الأمر هين، ولكن إذا قارنتموه بقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: وددت أن الله غفر لي ذنباً واحداً وأنه لم يعرف لي نسب، فكيف إذا أتى الصيام بغفران الذنوب كلها ورسولكم صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام يوماً في سبيل الله سقاه الله يوم العطش).
تصور أن أناساً يقفون أمام الله تبارك وتعالى في عرصات القيامة خمسين ألف سنة، ما ذاقوا طعاماً، وما شربوا شراباً، ثم يسقيهم الله تبارك وتعالى.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ) فكيف بالري الذي يأتي بعد خمسين ألف سنة! ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للجنة ثمانية أبواب، منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون، ولا يدخل معهم أحد سواهم، فإذا دخلوا أغلق من ورائهم، من دخل منه شرب، ومن شرب لا يظمأ أبداً).
يقابل الله تبارك وتعالى ظمأ الناس وعطشهم بالري، واسم الباب: الريان من الري، والري ضد الظمأ، فاسم الباب يبعث الراحة إلى النفس، فما ظنك بالداخل! فطوبى لمن أظمأ نفسه ليوم الري الكامل، وطوبى لمن جوع نفسه ليوم الشبع الأكبر، وطوبى لمن ترك شهوات حياة عاجلة لموعد غيب لم يره، لقد شد عطشك إلى ما تهوى فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الري الكامل، وقل: قد عيل صبر الطبع في سنيه العجاف، فعجل لي العام الذي فيه يغاث الناس ويعصرون.
وقد صمت عن لذات دهري كلها ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي من صام عن شهواته أدركها ولو في الجنة، ومن صام عما سوى الله فذلك ستره يوم لقيا ربه، وذلك ستره في يوم المزيد.
يا إخوتاه! يقول رسولكم صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصوم فإنه لا عدل له).
وفي رواية: (عليك بالصوم فإنه لا مثل له)، قال هذا لـ أبي أمامة الباهلي، فما كان هذا الصحابي الجليل يرى في بيته نار إلا في حضرة ضيف، فقد كان يسرد الصوم سرداً، وذلك بعد أن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عليك بالصوم فإنه لا عدل له).

(16/2)


سبب انفراد عبادة الصوم بهذا الفضل
قال العلماء: لأن في الصوم خواص لا توجد في عبادة غير الصوم، منها: ما جاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
قال العلماء: إن ثواب أي عمل من العبادات لا يزيد بحال من الأحوال عن السبعمائة ضعف، فيضاعفه الله تبارك وتعالى إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم، فإنه مضاعف فوق سبعمائة ضعف؛ لأنه من الصبر: (والصوم نصف الصبر) كما قال رسولنا صلى الله وعليه وسلم، والله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
فاستثني ثواب الصوم إلى سبعمائة ضعف، ويزيد على ذلك بكرم الله تبارك وتعالى وجوده ومنه.
الأمر الثاني: أن الإنسان قد يرتكب عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فيأتي يوم القيامة وقد خلص هذا وهذا، فيأخذ الغرماء من ثواب كل الأعمال؛ من ثواب الصلاة، وقراءة القرآن، والزكاة، والجهاد، والحج إلا ثواب الصوم، فلا يأخذ منه الغرماء شيئاً.
قال الإمام سفيان بن عيينة: يختم الله تبارك وتعالى على ثواب الصوم ولا يأخذ منه الغرماء شيئاً، ويدخل صاحبه به الجنة.
الخاصية الثالثة للصوم: كما جاءت في الرواية الثالثة: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به).
فالعبادات كلها لله تبارك وتعالى؛ لأن الله زاد الصيام تعظيماً فنسبه إلى نفسه، كما أن المساجد كلها لله، ويأتي الله تبارك وتعالى إلى مسجد بعينه وينسبه إلى نفسه، فيقول: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26]، والمراد به: المسجد الحرام، فهذه زيادة تخصيص وتشريف؛ لأن كل العبادات قد يدخلها الرياء إلا الصوم كما قال الإمام أحمد.
والصلاة قد تصح لك من الناحية الفقهية؛ إذ تأتي بأركانها وبشروطها وبسننها، وبالرغم من هذا قد يقذف بها في وجهك يوم القيامة، وقد قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (يأتي أناس بأعمال مثل جبال تهامة يجعلها الله هباء منثوراً، ثم قرأ الرسول صلى الله وعليه وسلم قول الله تبارك وتعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]).
وفي حديث محمود بن لبيد: يقول المصطفى صلى الله وعليه وسلم: (إياكم وشرك السرائر! قالوا: وما شرك السرائر يا رسول الله؟! قال: أن يقوم الرجل فيصلي فيطيل في صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه).
وأنتم تعلمون أول من تسعر بهم النار، فكل العبادات قد يدخلها الرياء إلا الصوم، فمتى صح لك من الناحية الفقهية أخذت الأجر كاملاً ولا رياء في الصوم.
فالصوم مداره كله على الإخلاص لله تبارك وتعالى، والإخلاص يا إخوتاه! يورث النصر والعزة، ألم يقل الرسول صلى الله وعليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والنصرة والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب).
فمفهوم الحديث يدل على أن من راءى بعمله أصابته الذلة والمسكنة والهوان والضعة في الأرض.
ويقول المصطفى صلى الله وعليه وسلم: (إنما ينصر الله عز وجل هذه الأمة بضعفائها: بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم).
ولذلك كثرت الانتصارات في شهر الصوم والإخلاص؛ وذلك لارتباط الناس بالإخلاص، فكانت هناك بدر، وفتح مكة، وغزوة تبوك، ومعركة عين جالوت، وكان هناك فتح عمورية، وكان هناك الاستيلاء على قلعة صدر بقيادة صلاح الدين الأيوبي، وموقعة الزلاقة، وكان هناك عبور المسلمين إلى الأندلس تحت قيادة خادم لـ موسى بن نصير وهو طارق بن زياد، فاستولى على تلك المناطق حتى وصل إلى جنوب فرنسا.
وعلى الطرف الآخر أبو عبد الله الصغير آخر ملك من ملوك الأندلس، ضيعه الإفراط والترف، فأضاع الأندلس، فقالت له أمه: ابك بكاء النساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال ولم يصل هذا الرجل في إصراره وتمسكه بوطنه وتمسكه بأرضه إلى ما فعلت إيزابيلا ملكة أسبانيا، ففي الأدب الأسباني -وهذه الرواية واقعية في تاريخ إيزابيلا - أن هذه المرأة أقسمت ألا تخلع قميصها الداخلي حتى تدخل غرناطة، وكان لها ما أرادت، فقد ضيع أبو عبد الله الصغير مملكة الإسلام في أسبانيا، وكان قد اشترط أن يتولى ولايات من قبل إيزابيلا ومن قبل فرديناند هو وأولاده وأحفاده، يقول أحد علماء السير: والله لقد رأيت أحفاده عالة يتسولون الناس في شوارع صرف في المغرب العربي، ضيع ملك الأندلس في سبيل أن يبقى الملك له ولأحفاده، فتسول أحفاده في شوارع المغرب.
فالصوم يا إخوتاه! مرتبط بالإخلاص، والإخلاص يؤدي إلى النصر.
يقول رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (يقول الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به).
لأنك تبتعد عن شهوات جبلك الله تبارك وتعالى عليها، حتى تحس بألم فقدك لهذه الشهوات.

(16/3)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:09   رقم المشاركة : 21
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

ثواب الصائمين
يا إخوتاه! إن الله يعطي أناساً يوم القيامة حتى يملوا، فإذا رفعوا رءوسهم وجدوا أمامهم قوماً قد سبقوهم إلى الدرجات العلى، فيقولون: يا رب! هؤلاء إخواننا الذين فضلتهم علينا؟ فيقول: هيهات هيهات، فإنهم كانوا يجوعون حين تشبعون، ويقومون حين تنامون، ويظمئون حين تروون، ألم يقل الله تبارك وتعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].
فكل الناس يأكلون، فما ثواب الصائمين؟ قال قتادة: يمد للصائمين موائد إطعام من رب البرية والناس بعد يحاسبون في عرصات القيامة.
وقال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك).
بل يقول مكحول الدمشقي: يروح على أهل الجنة برائحة ما وجدوا خيراً منها، فيقال: يا رب ما هذه الرائحة؟ فيقال: هذه رائحة أفواه الصائمين فتتطيب الجنة من عطر أفواههم.
وهذا إبراهيم بن علي النيسابوري تلميذ الإمام أحمد ظل ستين سنة يسرد الصوم فمات وهو صائم، فقال قبل الموت لابنه: قرب لنا القدح يا بني! ثم قال له: يا بني! هل غربت الشمس قال: لا، قال: تنح عني إذاً، ثم تلا قول الله تبارك وتعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] ثم مات.
وعروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة ظل يصوم يوماً ويفطر يوماً أربعين سنة، ومات وهو صائم.
فيا أهل الصيام! كيف حالكم مع الله تبارك وتعالى في هذا الشهر العظيم الذي ميزه الله تبارك وتعالى بخصائص دون باقي الشهور؟! الخير باد فيك والإحسان والذكر والقرآن يا رمضان والليل فيك نسائم هفهافة حنت لطيب عبيرها الرهبان

(16/4)


فضل قراءة القرآن في رمضان
شهر الصيام هو شهر نزول كل الكتب السماوية، يقول الله تبارك وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
وفي حديث واثلة بن الأسقع الذي حسنه الشيخ الألباني يقول: قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة من ست مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل من ثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل الزبور من ثمان عشرة ليلة مضت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان).
قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
فأين نحن من القرآن؟! يقول أحمد بن أبي الحواري: إني لأعجب لقراء القرآن كيف يهنيهم النوم ومعهم القرآن، أما والله لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رزقوا، ألم يقل رسولكم صلى الله وعليه وسلم: (أبشروا فإن هذا القرآن حبل الله المتين، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم).
والله لو لم يكن للقرآن إلا هذه الخاصية لكفاه، طرف القرآن بيد الله العظيم، بيد الله الكريمة، وطرفه بأيدي البشر، فاستمسكوا بهذا، استمسكوا بحبل الله تبارك وتعالى، (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
يقول رسولكم صلى الله وعليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين).
أبو جعفر القارئ أحد القراء العشرة لما مات تعجب مغسلوه من أنهم وجدوا نوراً يملأ ما بين قلبه وترقوته، فقال مغسلوه: والله لقد فضحت القراء من بعدك، فقد وجدوا هذا النور على صورة صفحة، أو ورقة من مصحف، فقال مغسلوه: هذا والله من القرآن.
ونافع أحد القراء العشرة لما مات شموا الطيب من فمه.
فأين نحن من كلام الله تبارك وتعالى، (من مات على شيء بعث عليه)، قال المناوي: أي: من عاش على شيء بعث عليه.
وهذا شيخ القراء في المملكة العربية السعودية يحكي عنه الشيخ عبد الرحمن بن عقيل الظاهري وهو الشيخ عامر يقول: إن هذا الشيخ الجليل أصيب سبع سنوات بسرطان في الحنجرة، فما كان يدرس طلبة الماجستير والدكتوراه إلا بإيماء منه فقط، فلما أذن الله بقرب موت هذا الشيخ وقبل موته بثلاثة أيام اعتدل الشيخ على سريره الأبيض وقطع صوته الجوهري بكلام الله تبارك وتعالى؛ بحيث يسمع السامع تلاوته بصوت ما سمعوا مثله من قبل، فلما انتهى من الختمة قبضت روحه إلى الله تبارك وتعالى.
أما سمعتم قول رسولكم صلى الله وعليه وسلم: (يأتي القرآن يوم القيامة ماحل مصدق).
وفي حديث أبي هريرة وابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول القرآن: يا رب! حله حلة الكرامة، يا رب! ألبسه تاج الكرامة، يا رب! ارض عنه فليس بعد رضاك شيء).
ويقول رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (من سره أن يحب الله ورسوله فلينظر في المصحف).
وأينا لا يسره محبة الله ورسوله؟! فلننظر في المصحف.
أطيلوا على السبع الطوال وقوفكم تدر عليكم بالعلوم سحاب وفي طي أسماء المثاني نفائس يطيب بها نثر ويفتح باب فلا فصلت لما أتاه مجادل فأنصت حتى ما يكون جواب أقر بأن القول فيه طلاوة ويعلو ولا يعلو عليه خطاب قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
قالوا للحسن البصري: إن هنا رجلاً يحفظ كتاب الله ثم ينام عنه، قال: ذاك رجل يتوسد القرآن أي: ذاك رجل ينام على القرآن.
ويقول محمد بن واسع: القرآن بستان العارفين، فأينما حلوا منه حلوا في رياض نضرة.
ويقول عثمان بن عفان: لو طهرت قلوبكم ما شبعتهم من كلام ربكم.
فهو روح لا تطيب الحياة إلا به، وهو نور يضيء القلوب، وتشرق بنوره.
فاتقوا الله تبارك وتعالى، وأقبلوا على القرآن في شهركم هذا شهر القرآن، لا نقول لكم افعلوا كما كان يفعل الإمام الشافعي، فقد كانت له ستون ختمة في ليل رمضان ونهاره، ولكن على الأقل عشرة أجزاء في كل يوم بدلاً من الجدال، فطيبوا أجوافكم بكلام الله تبارك وتعالى، وطيبوا أفواهكم بكلام الله تبارك وتعالى، إن الصديقين إذا تلي عليهم كلام الله اضطربت قلوبهم، واشتاقت إلى ما عند الله تبارك وتعالى إن كنت تزعم حبي فلم هجرت كتاب أما تأملت ما فيه من لذيذ خطابي والأسد بن يزيد عمي فأذن الله له عند فتح المصحف أن يرتد إليه بصره، فإذا أغلق المصحف وعاد إلى دنيا الناس عاد إلى العمى مرة ثانية.
فأقبلوا على الله تبارك وتعالى، واسألوا الله لي ولكم أن يشغلكم بكتاب الله عن الدنيا وأهلها، وعن الخوض فيها واللعب بها.

(16/5)


شهر رمضان شهر الكرم والجود
شهر رمضان يا إخوتاه! هو شهر الكرم، يقول ابن عباس رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله وعليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يأتيه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله وعليه وسلم حين يأتيه جبريل أجود من الريح المرسلة).
تعود بسط الكف حتى لو انه ثناها لقبض لم تجبه أنامله هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله وهذا سيدنا ابن عمر رضي الله عنه ما كان يفطر إلا في حضرة اليتامى والمساكين.
وهذا الإمام أحمد يعطي رغيفين أعدهما لفطره لسائل على الباب، ثم يظل طوال الليل صائماً، ويصوم اليوم التالي من غير أكل.
يقول المصطفى صلى الله وعليه وسلم: (أفضل الأعمال عند الله سرور تدخله على مسلم)، وسرور هذا الشهر الإطعام، (سرور تدخله على مسلم، أو تطرد عنه جوعاً، أو تطعمه خبزاً).
فلو أن الناس أتوا إلى مسجد من المساجد، فأتى كل منهم بالزائد عن حاجته من البقوليات واللحم وغيره ثم وضعه الناس في كيس ووزعوه على الفقراء لكان في هذا الخير.
يقول الجيلاني: وجدت خير الأعمال إطعام الناس، والله كأن كفي مكتوفة ما تمسك درهماً ولا ديناراً.
وفي الحديث: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، (ومن لا يرحم لا يرحم).
يقول الإمام الشافعي: يسن كثرة الجود في نهار رمضان وليله؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر العلماء أنه يجوز للرجل أن يقاضي الرجل إذا نزل عليه بمسمى الإسلام فقط، أي: إذا عرف أنه مسلم ولم يطعمه ثلاثة أيام فيجوز له أن يقاضيه بثمن قراه، يقول المصطفى صلى الله وعليه وسلم: (ومن نزل بقوم فلم يطعموه فله أن يعقبهم بمثل قراء ثلاثة أيام).
والرسول صلى الله وعليه وسلم يقول: (أدوى داء البخل)، فإياكم والبخل، انفوه عنكم.
يقول عبد الله بن جعفر: ابذل المعروف، وانثر المعروف نثراً، فإن صادف أهله كانوا له أهلاً، وإن لم يصادف أهله كنت أنت له أهلاً.

(16/6)


شهر رمضان شهر التراويح وقيام الليل
شهر رمضان يا إخوتاه! هو شهر التراويح وشهر القيام، (أتى رجل إلى الرسول الله صلى الله وعليه وسلم فقال له: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، ممن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء).
ويقول رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة منكم إلى ربكم، ومنهاة عن الإثم، ومكفرة للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد).
ويقول رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس).
قال الصحابي الجليل أبو ثعلبة الخشني: والله لا أموت كما تموتون، ولا أخلق كما تخلقون، فلما قام إلى صلاته وتهجده بالليل قبضه الله تبارك وتعالى إليه وهو ساجد، فرأت ابنته وكانت بجواره أن أباها قد مات، فقامت من نومها فزعة مرعوبة، وقالت لأمها: يا أماه! أين أبي؟ قالت: يا بنية! هو في مصلاه، فوجدته ساجداً فحركته فإذا هو ميت.
مات وهو ساجد في قيام الليل.
وكم عند الصحابة من أعاجيب، فهذا صحابي آخر اسمه علبة بن زيد الأوسي البكاء أحد البكائين، في غزوة تبوك قام إلى صلاته من الليل، وقد تخلف عن الغزو؛ لأنه لم يكن عنده ما يسوقه للجهاد، فقال في صلاته: اللهم إنك أذنت لرسولك في الجهاد، وليس عندي ما أخرج به مع رسولك، اللهم إني أتصدق على كل مسلم ظلمني في عرضي أو جسدي الليلة.
فأي واحد شتمه في عرضه ونال من عرضه، أو نال من جسده يتصدق بعرضه عنه، فلما أصبح صلى الله وعليه وسلم قال: (من المتصدق بعرضه الليلة، فقام إليه علبة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قبلت صدقتك).
فمن منا الذي يتصدق بعرضه على المسلمين؟ ومن منا الذي يعفو ويصفح؟ ومن منا الذي يعفو حتى يعتقه الله تبارك وتعالى في شهر العتق؟ ألم يقل الرسول صلى الله وعليه وسلم: (ولله عند كل فطر عتقاء من النار).
فتجاوزوا عن هفوات الناس، وحاسب نفسك بنفسك، أما غيرها من الأنفس فعليها حسيب غيرك، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يضحك الله إليهم) ومن ضحك الله إليه فلا يعذبه أبداً، قال: (ويستبشر بهم: رجل يكون في جهة فتنعدم الجهة، فيعلم ما له في الثبات وما عليه في الميزان، فيصبر نفسه بنفسه لله حتى يقتل أو يفتح الله على قومه، ورجل عنده صلاة الليل وامرأة حسناء فيذر شهوته ويقوم في سواد الليل، فيقول الله تبارك وتعالى: يذر شهوته من أجلي ولو شاء لرقد، والرجل يكون في سفر يطول سراهم بالليل فيمسون فينامون، ويقوم أحدهم في سراء وضراء).
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً أيقظ امرأته لصلاة الليل، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة أيقظت زوجها لقيام الليل، فإن أبى نضحت في وجهه الماء، فإن قاما من ليلتهما هذه كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).
يا إخوتاه! شهر رمضان تضاعف فيه الأعمال، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي).
فثواب العمرة في هذا الشهر يضاعف حتى يصل إلى ثواب الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأي روحانية في الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم! ترتفع فيها ثواب الأعمال حتى تصل إلى أن تأخذ ثواب حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مؤمن يسأل الله عز وجل خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك في كل ليلة)، هذا في غير رمضان فكيف برمضان! قم بنا يا أخي لما نتمنى واطرد النوم بالعزيمة عنا قم فقد صاحت الديوك ونادت لا تكون الديوك أطرب منا

(16/7)


نماذج من قصص التابعين في قيام الليل
كان علي بن الفضيل لا يأتي فراشه إلا زحفاً كما يزحف البعير، وإن قدميه لملتصقتان من أثر القيام.
وكانت امرأة مسروق بن عبد الرحمن تجلس خلف مسروق في ظلام الليل وهو يصلي تبكي له؛ رحمة مما يصنع بنفسه، وكان لا يأتي صلاته إلا زحفاً كما يزحف البعير.
يا إخوتاه! صاح الديك فلم تنتبهوا، وأعاد فلم تفيقوا، فقوى ضرب الجناحين، فلطم خديه حزناً على مصيبتكم.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة).
فرحم الله رجلاً أعان الناس على قيام الليل.
يقول صلى الله عليه وسلم: (من قام الليل بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام الليل بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام الليل بألف آية كتب من المقنطرين)، والقنطار خير من الدنيا وما فيها فأين المقنطرون؟ قال الحافظ ابن حجر ألف آية جزء عم وجزء تبارك.
ويجوز لك في رمضان بعد أن تصلي التراويح الإكثار من النوافل، وأرجح الأقوال في قيام الليل: أنه من النوافل المطلقة، فبعد أن تعود من التراويح وتصلي الوتر إن كان عندك ليل طويل فتستغله في العبادة والطاعة والصلاة، وإلا فسيأتي الشيطان فيقول: عليك ليل طويل فارقد، أو كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه).
يقول الحسن البصري: إنه والله بول ثقيل.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن، ماذا أنزل الليلة من الخزائن، من يوقظ صواحب الحجرات، يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة).
شهر رمضان شهر الجنة، ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من رمضان فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النيران فلم يفتح منها باب، وصفدت الشياطين مردة الجن، ونادى مناد من السماء: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة).
ففي رمضان تصفد الشياطين ومردة الجن، لكن شياطين الإنس لا يصفدون، وخرس الله تبارك وتعالى أفواههم إن لم يتوبوا، وخرس أفواههم حتى يعودوا إلى رحابه تبارك وتعالى.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يشغلهم به عن فجورهم وعن تمردهم على طاعة الله.
عباد أعرضوا عنا بلا جرم ولا معنى أساءوا ظنهم فينا فهلا أحسنوا الظنا فإن خانوا فما خنا وإن عادوا فقد عدنا وإن كانوا قد استغنوا فإنا عنهم أغنى هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم يا إخوتاه! هذا شهر الجنة، والله ما فتحت الجنة لأمة من الأمم مثلما فتحت لأمتنا هذه، ومع هذا لا نرى لها طالباً، فمهر الجنة طول التهجد في ظلمات الليالي وفي ليالي رمضان خاصة.
إن أهل السماء ليصلون عليكم، وينظرون إليكم أيكم يقال فيه: يا جبريل أقم فلاناً، وأنم فلاناً.
كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني.
اتقوا الله تبارك وتعالى، وأمهروا الجنة، وأمهروا حورها، ودع المفرغات من ماء وطيب، وأشغل هواك بالحور العين.
قال أبو سليمان الداراني: نمت ذات ليلة عن وردي فإذا أنا بحوراء من أهل الجنة تأتيني في المنام، وتقول: أتنام والملك يقظان؟! بؤساً لعين آثرت لذة نوم على مناجاة الملك العلام، ثم تقول له: أتنام وأنا أربى لك في الخدور منذ آلاف الأعوام، ثم أنشدته شعراً حفظه: أتخطب مثلي وعني تنام ونوم المحبين عنا حرام لأنا خلقنا لكل امرئ كثير الصلاة براه القيام أين ابن أدهم والفضيل؟ أين رجال الليل؟ ذهب السادة وبقي قرناء اللحاف والوسادة.
قم الليل يا أخي! إذا جن الغاسق حن العاشق، وقلوب المحبين جمرة تحت شحمة الليل، إذا هب عليها نسيم السحر أجج ما فيها من شوق إلى الله تبارك وتعالى.
قالوا للحسن البصري: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.
وهذا الحافظ عبد الغني المقدسي قام إلى صلاته من الليل وكان معه في البيت رجل شمسي -يعبد الشمس-، فلما سمع قراءة عبد الغني المقدسي زفر، وبعد أيام أسلم، فقال للحافظ عبد الغني المقدسي: لما استمعت إلى قراءتك أسلمت.
والحافظ عبد الغني المقدسي كان الناس يصطفون لرؤية وجهه، لسطعات النور التي على وجهه من أثر التهجد، فكذلك كن، فهم لكم سلف ونعم السلف.

(16/8)


ذكر بعض انتصارات المسلمين في شهر رمضان المبارك
يا إخوتاه! هذا الشهر رفع الله فيه أهل السنة والجماعة برفعته لإمامهم، لما ابتلي الإمام أحمد في العشر الأواخر من رمضان وصبر خرج من المحنة ذهباً أحمر خالصاً، فقالوا لـ بشر: ألا تقوم لترى ما فيه أحمد؟ فيقول بشر: حفظ الله أحمد من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن يساره، أتريدون مني أن أقوم مقام الأنبياء وورثة الأنبياء! ولذلك فإن الإمام أحمد يقول: الحمد لله الذي ربى بشراً بما صنعنا، فسياط على ظهر ابن حنبل صار بها إمام أهل السنة والجماعة.
وقد سمع الإمام أحمد إلى مقولة رجل، وذلك حين قال للإمام أحمد: إن هو إلا سوط واحد ثم لا تدري أين يقع الباقي، ثم قال الرجل: يا أحمد! اصبر لأمر الله، فإن يقتلك الحق يقتلك شهيداً، وإن تعش تعش حميداً مجيداً، وصار إمام أهل السنة.
في هذا الشهر أيضاً في السابع والعشرين من شهر رمضان أراح الله المسلمين من الحجاج الثقفي المبير، وقتل أيضاً في سنة ثلاثة وستين في هذا الشهر المختار بن عبيد الثقفي الكذاب، فأراح الله الأمة منه.
قال صلى الله عليه وسلم: (يخرج من ثقيف كذاب ومبير)، أما الكذاب فهو المختار الذي ادعى أن جبريل كان ينزل عليه، وأما المبير -المهلك- فهو الحجاج.
وقال عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأمة فأتت كل أمة بخبيثها وجئنا بـ الحجاج لفقناهم.
فكيف لو رأى ما يسع الناس في القرن العشرين؟!! والحسن البصري لما بلغه موت الحجاج سجد لله تبارك وتعالى.
وكان هناك آلاف من الناس في سجون الحجاج وأراح الله الأمة منه، كذلك أراح الله الأمة من الخرمي صاحب الإباحية، وأراح الله الأمة من المختار بن عبيد الثقفي الذي كان يقول: إن جبريل ينزل عليه، فقتله مصعب بن الزبير بن العوام.
فهذا الشهر يا إخوتاه! شهر الانتصارات، فأين نحن من الانتصارات؟ رسولكم صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل).
ونحن نقول: لنعل أبي طلحة ولقلامة ظفر أبي طلحة خير من ملء الأرض من أمثالنا.
فهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اشتاقوا إلى الجنة.
هذا عمير بن الحمام يقول: إنها لحياة طويلة إذاً أنا مكثت في الدنيا حتى آكل تمراتي هذه فأين نحن من أيام المسلمين؟! أين نحن من عين جالوت؟! كسرنا قوس حمزة عن جهالة وحطمنا بلا وعي نباله وأضحت أمة الإسلام حيرى وصار رعاتها في شر حالة فلا الصديق يرعاها بحزم ولا الفاروق يورثها فعاله ولا عثمان يمنحها عطاء ويرخص في سبيل الله ماله ولا سيف صقيل من علي يسيرنا إلى عذب زلاله ولا القعقاع يهتف بالسرايا فتخشى ساحة الهيجا نزاله سرى صوت المؤذن في سمانا وقد فقدت مآذننا بلاله ولا حطين يبعثها صلاح طوى الجبناء في خور هلاله اللهم أنعم علينا بالشهادة، اللهم أنعم علينا بالشهادة، اللهم أنعم علينا بالشهادة.
اللهم لا تجعلنا أهون شيء عليك.
اللهم لا تجعل حظنا من ديننا لفظنا.
اللهم متعنا برمضان، اللهم متعنا برمضان، اللهم متعنا برمضان، وارزقنا الخير بعده، وارزقنا حسن العمر بعده، وطول العمر بعده.
رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين، تقبل توبتنا، واسلل سخائم صدورنا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، وببابك نقف فلا تطردنا.
اللهم جد بالعتق علينا وعلى إخواننا، اللهم جد بالعتق علينا وعلى إخواننا، اللهم جد بالعتق علينا وعلى إخواننا.
اللهم انصر المسلمين في كل مكان.
اللهم فرج الكرب عنهم، اللهم فرج الكرب عنهم في البوسنة، اللهم فرج عنهم وعن كل مستضعف في كل مكان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصل اللهم وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

(16/9)


أسود من التاريخ
إن الحق عالٍ رغم كل شيء، ودولة الباطل مهما طالت فهي زائلة، ولكن سنة الله ألا يعلو الحق إلا على أكتاف رجال مخلصين يسطرون بتاريخهم المشرق الصفحات الوضاءة، فهم النبراس الذي يجب أن يحتذى به للخروج من الأزمة الراهنة.

(17/1)


لا حل لهذه الأمة إلا بالجهاد
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، و {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، والبخاري في التاريخ عن أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعمله في طاعته إلى يوم القيامة).
وفي هذه الأيام تكثر الهمم الساقطة، والعزائم الضعيفة، والأرواح الصغيرة، والنفوس الهزيلة التي يعيش أصحابها على جانب الحياة وعلى هامش التاريخ، فينالهم الذل من كل مكان، وتعلوهم أقدام الغرب الكارهة الكريهة، حتى يقول رأس الكفر ورأس الصليبيين على مرأى من العالم: إنه يعد لحملة صليبية، ثم تراجع وقال: إنه يعد لحملة مقدسة.
يا أيها الشيطان إنك لم تزل غراً وليس لمثلك الميدان أنا ضد أمريكا إلى أن تنتهي هذي الحياة ويوضع الميزان هي ظل دوح الموبقات وكل ما في الأرض من شر هو الأغصان فهي زارعة الشر في الأرض، وهي رأس الإرهاب في الأرض وإلا فمن الذي قتل أطفال المسلمين في العراق في مخيمات العامرية، وضربهم بالقنابل الفسفورية، وكتبوا على رءوس صواريخهم: إن عجز محمدهم عن نصرهم فليدعوا المسيح لينصرهم.
وذلك فيما يسمى بعاصفة الصحراء أو المجد للعذراء، لقد كانت هذه الحرب حرباً صليبية أعلنوها في الخليج، ثم بعد ذلك أزهقوا بسلاحهم من الأرواح ما أزهقوا على ثرى فلسطين.
والله عز وجل قادر أن يبعث من يحيي في هذه الأمة نواتها، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة:38 - 39].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة، يذهب الله به الهم والغم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله).
وقال صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (أوصيك بتقوى الله؛ فإنها رأس كل شيء، وعليك بالجهاد في سبيل الله؛ فإنه رهبانية الإسلام)، حسنه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله سبع خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار؛ الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويشفع في سبعين من أهل بيته).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في أرجاء الجنة حيث تشاء، ثم تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بأرجاء العرش).
يا ويح نفسي وما ارتفعت لنا همم إلى الجنان وتالي القوم أواب إلى كواعب للأطراف قاصرة وظل طوبى وعطر الشجو ينساب إلى قناديل ذهب علقت شرفاً بعرش ربي لمن قتلوا وما غابوا وقال الآخر: يا ويحنا ماذا أصاب رجالنا أو ما لنا سعد ولا مقداد أجدادنا كتبوا مآثر عزنا فمحا مآثر عزنا الأوغاد سلت سيوف المعتدين وعربدت وسيوفنا ضاقت بها الأغماد وقال الآخر: قالوا سهرت وفي فؤادك حرقة تدمى وألف تساؤل يتردد وعلى جبينك قصة مكلومة تروي المآسي للجميع وتسرد أنا يا صحاب قضية مسلوبة لعب الدعي بها وغاب السيد أنا يا صحاب مشاعر موتورة للشعر تسلك والمسالك توصد على مدار تاريخ الإسلام كان بين المسلمين وبين الصليبيين في كافة أرجاء الدنيا معارك برز فيها قادة يرصع بأسمائهم جبين التاريخ، أذكر لكم 25 ملكاً أو أميراً أو قائداً هزموا الصليبيين وأوقعوا بهم شر هزيمة، وذلك حتى نقول لكل صليبي: اخسأ فلن تعدو قدرك، فمهما صالوا وعربدوا وظنوا أن لهم الدولة في العالم فوالله إن مصيرهم إلى نهاياتهم، فمن كان يظن أن روسيا ستسقط يوماً من الأيام على يد أناس يعيشون في الجبال؟ ومن كان يظن أن الحضارة الروسية ستنهار؟ يقول كبار الخبراء العسكريين في العالم الغربي ومنهم قائد الطيران الأمريكي السابق: إن أمريكا ستنهار من الداخل مع بداية سنة 2021م، وقال هذا أيضاً محللون اقتصاديون وسياسيون وتربويون وعسكريون.
وانهيارها من الداخل يعني: بدون عامل خارجي, وإن كانوا قد توقعوا سقوط أمريكا سنة 2021م فما ظنك إذا أرسل الله عز وجل عليهم عقوبة وسنة من سننه الكونية جزاء بما قدمت أيديهم من بغي وظلم ودمار عم أرجاء البسيطة؟ ولذا نقول لكم في دعوة للأمل حتى لا ييأس الناس ويظنوا أن شمس الإسلام ستغيب يوماً: شمس الإسلام لن تغيب، وقد مرت على الأمة الإسلامية ظروف أحلك من الظروف التي نعيش فيها، ويشاء الله عز وجل أن يرفع البلاء عن الأمة.
يقول قطز: والله لن أستظل بظل جدار حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام منهم.

(17/2)


أبطال في عصر الخلافة الراشدة
ولو رجعنا إلى بداية قيام الدولة الإسلامية لوجدنا أسامة بن زيد أسد الله وأسد رسوله، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم يذيق الصليبيين في شمال الجزيرة العربية الذل والهوان، ويوقع الرعب بهم وهم حلفاء الروم، وفي خلافة أبي بكر الصديق يضع فارس الإسلام وسيف الله وسيف رسوله أبو سليمان خالد بن الوليد في أول لقاء له مع صليبي العرب في معركة في الجبهة الفارسية تسمى: معركة أُلَّيس أو نهر الدم.
وقد كانت بينه وبين نصارى العرب من تغلب وبكر بن وائل وبني عجل وأهل الحيرة وقبيلة جذرة العربية، وعلى رأس هذا التجمع الصليبي عبد الأسود العجلي، وكانوا قد تحالفوا مع قوات الفرس وعلى رأسهم جابان 150000 محارب، وكان سيف الإسلام خالد جيشه 18000 مقاتل فقط أمام 150000 مقاتل.
وبلغ من استهزائهم بالمسلمين أنهم مدوا البسط ليتناولوا الطعام فحذرهم جابان من الاستهانة بـ خالد وقال لهم: اتركوا الطعام واستعدوا للصدام، فعصوه فقال: إن القوم سيعاجلونكم قبل أن تطعموا الطعام وإنكم إنما هيأتموه لهم ليأكلوه بدلاً منكم.
ولما أتى خالد بجيشه اضطرهم إلى أن يتركوا طعامهم ودعا خالد للمبارزة، فخرج إليه مالك بن قيس، فقال له خالد: يا ابن الخبيثة ما جرأك علي من بينهم وليس فيك كفاء، يعني: أنت لست بكفء لأن تبارز خالد بن الوليد، ثم قتله واقتتل المسلمون ونصارى العرب والمجوس قتالاً شديداً، حتى إن خالداً رضي الله عنه نذر لله إن منحه الله أكتافهم أن يجري النهر بدمائهم، إذ قال: اللهم إن لك علي إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحداً حتى أجري نهرهم بدمائهم، وبعد قتال عنيف وقتل المسلمون ما قتلوا نادى خالد لا تقتلوا أحداً ولكن اضطروهم إلى الأسر.
فاضطرتهم جيوش المسلمين ورجالهم إلى الأسر وقدموهم إلى حافة النهر ليضربوا رقابهم حتى يوفي خالد بنذره، وحبس ماء النهر فقال له القعقاع بن عمرو التميمي: والله لو أنك قتلت أهل الأرض جميعاً لم تجر النهر من دمائهم ولكن أرسل على الدماء قليلاً من الماء فيجري النهر وتبر بيمينك، وكان له ما أراد وجرى النهر أحمر قانياً بدمائهم.
وقال الصديق للناس في المدينة: يا معشر قريش عدا أسدكم على الأسد -يريد أن خالداً عدا على الفرس- فغلبه على خراذيله -يعني: غلبه على اللحم المطيب المعد له-، عجزت النساء أن ينشئن مثل خالد.
وقال خالد للعرب المسلمين: كلوا على بركة الله وباسم الله، فكان الطعام الذي قد أعد لأن يأكله الفرس طعاماً للمسلمين.
وفي معركة عين التمر اجتمع الصليبيون العرب كلهم حنقاً على خالد وقالوا للفرس: لا تقاتلوا خالداً نحن العرب أعلم بقتال خالد منكم فدعونا وخالداً، وجمعوا كل فرسانهم، ونظر خالد إلى الجيش وأراد أن ينهي المعركة دون أن يخسر رجلاً واحداً من رجاله، فقال لعشرة فرسان: احموا جنبي واكفوني ما عنده فإني حامل عليهم، ووسط ذهول الجيشين ينطلق عشرة من الرجال يقودهم خالد حتى دخل في وسط الجيش، ثم ظل خالد يصاول عقة بن أبي عقة ثم يقتلعه من فوق سرجه ويحتضنه، ويعود به على فرسه كالطفل الرضيع، ثم يذبحه ما بين الجيشين لتنتهي المعركة.
هذه ثاني وقعات خالد بالصليبيين.
وأما الثالثة: فكانت معركة الفرات في 15 ذي القعدة 12 هجرية، وكانت بين الفرس والروم والنصارى الموتورين وبين خالد بن الوليد لتقع المعركة بين 150000 أمام 12000 مقاتل، فعبروا نهر الفرات يريدون خالد بن الوليد، ولك أن تتصور الأعداء الفرس والروم الذين كانوا على عداء دائم ولأول مرة يجتمعون على قتال المسلمين، واليوم نسمع أن أسبانيا تستمر في قتل العرب، وألمانيا كذلك، وفرنسا كذلك، وبريطانيا كذلك، والفلبين تصرح أنها قبضت على الإرهابيين، فقامت الدنيا كلها على المسلمين مثلما قام الفرس والروم لأول مرة في التاريخ في معركة الفرات سنة 12 هجرية، وقتل سيف الله خالد بن الوليد منهم في هذه المعركة 100000 في المعركة، وبعد المعركة وأثناء المطاردة 100000، فلما سمع الخليفة أبو بكر بهذه المعارك، قال: لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد، وأمر خالداً أن يترك العراق ليساعد المسلمين في جبهة الشام.
وكانت أول معارك سيف الله خالد أنه اضطر النصارى إلى دفع الجزية في بصرى، فكانت أول جزية يقبضها المسلمون على يد البطل خالد بن الوليد، وكان فتح دمشق بعد ذلك في 15 رجب سنة 14 هجرية، وقد وقفت خمسة جيوش إسلامية أمام أسوار دمشق: جيش القائد أبي عبيدة، وجيش شرحبيل بن حسنة، وجيش يزيد بن أبي سفيان، وجيش عمرو بن العاص، وجيش خالد بن الوليد وظلوا أربعة أشهر كاملة أمام أسوار دمشق والجيوش لا تستطيع أن تدخل هذه المدينة.
وكان خالد لا ينام ولا ينيم -يعني: لا ينام هو ولا يترك من أمامه ينامون خوفاً منه وذعراً منه- يعيش على تعبئة كاملة، عيونه ذكية ساهرة، فأخبرته: أن بطريرك الروم نسطار بن نسطور قائد الروم في دمشق ولد له مولود، وأنه سيوزع الخمر على حامية السور في مساء الأحد في 15 رجب سنة 14 هجرية.
وهنا أعد خالد بن الوليد قرباً نفخ فيها الهواء حتى امتلأت، وكأن الروم قد حفروا خندقاً عظيماً وأجروا فيه ماءً كثيراً، فما استطاع خالد وقواته أن يعبروها إلا سباحة على ظهر القرب، وأعد سلالم من حبال الليف منتهية بخطاطيف وحلق، ودعا مذعور بن عدي العجلي، والقعقاع بن عمرو التميمي فجعلا يلقيان بهذه الحبال فتعلق حبلان في أعلى السور وصعد عليها مذعور بن عدي العجلي، والقعقاع بن عمرو ومعهما بقية الأحبال حتى ثبتوها في أعلى السور، وتسلق خالد وقواده إلى أعلى السور، ثم قال لبقية الجنود: إن سمعتم تكبيراتنا من خلف الأسوار فانهدوا إليهم، وألقى خالد بنفسه مع التكبير من فوق الأسوار هو وقادة الجيش، فقتلوا من قتلوا من جنودهم المكلفين بحراسة الباب الشرقي لدمشق، ثم فتحوا الباب وظل خالد يحصد أرواح الروم حصداً حتى سلموا لـ أبي عبيدة.
وقالوا: أسرعوا بفتح الباب الغربي لـ أبي عبيدة حتى لا يحصدنا خالد حصداً.
والتقى جيش أبي عبيدة بجيش خالد بن الوليد عند سوق الزياتين بدمشق وتم الصلح.
وقد تلت هذه المعركة معركة اليرموك الفاصلة التي أنهت الوجود الصليبي من على أرض الشام، حتى قال هرقل وهو يودع دمشق: سلام عليك يا سورية سلام مودع لا يلقاك بعد هذا اليوم أبداً، وكان الروم قد أعدوا 200000 فارس على رأسهم ماهان أقوى فارس عندهم، أمام 36000 فارس فقط من المسلمين.
وخطب هرقل في الروم فقال: يا معشر الروم إن العرب قد ظهروا على سورية ولم يبقوا بها حتى تعاطوا أقاصي بلادكم، وهم لا يرضون بالأرض والمدائن والبر والشعير والذهب والفضة حتى يسبوا الأخوات والأمهات والبنات والأزواج، ويتخذوا الأحرار من أبناء الملوك عبيداً، فامنعوا حريمكم وسلطانكم أو ذروا مملكتكم.
فكتب أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنه فقال: قد جاء المسلمين ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله عز وجل بملائكة أو يأتيهم بغياث من قبله، فقال خالد لـ أبي عبيدة حينما اجتمع بقيادة القوات في الجابية: أرى والله! إن كنا نقالتهم بالكثرة والقوة فهم أكثر منا وأقوى، وما لنا بهم إذاً طاقة، وإن كنا نقالتهم بالله ولله فإن جماعتهم ولو كانوا أهل الأرض جميعاً لا تغني عنهم شيئاً، ثم قال لـ أبي عبيدة: تطيعني فيما آمرك به، قال: نعم.
قال: ولني ما وراء ذلك فإني أرجو الله عز وجل أن ينصرني عليهم، ثم تنازل له أبو عبيدة عن قيادة القوات، ورتب خالد صفوف جيشه، فجعل أبا عبيدة أمين هذه الأمة في القلب، وعلى الميمنة أعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وعلى الميسرة قباث بن أشيم، وهاشم بن عتبة قاتل الأسود على الرجالة، وعلى الخيل خالد بن الوليد ومعه قيس بن هبيرة فارس الإسلام.
وخطب ماهان في جنوده قبل المعركة فقال: أنتم عدد الحصى والثرى والذر فلا يهولنكم أمر هؤلاء القوم؛ فإن عددهم قليل، وهم أهل الشقاء والبؤس، وجلهم حاسر وجائع، وأنتم من الملوك وأبناء الملوك أهل الحصون والقلاع والعدة والقوة والسلاح، فلا تبرحوا الميدان وفيكم عين تطرف حتى تهلكوهم أو تهلكوا أنتم.
ثم دعا خالداً للكلام معه، فقال: يا خالد! قد علمنا أنه ما أخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع فهلموا إلى أن نعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاماً وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها، فقال له خالد: إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت غير أنا قوم نشرب الدماء، وإنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم فجئنا لذلك.
ولخوف الروم من المسلمين جعلوا يسلسلون كل مائة فارس بسلسلة حتى إذا فر رجل يعود به التسعة والتسعون.
ويقف الجيشان 200000 أمام 36000، ولكن الستة والثلاثين ألفاً هؤلاء منهم ألف صحابي،

(17/3)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:10   رقم المشاركة : 22
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

أبطال في الدولة الأموية
وأرسل موسى بن نصير مولى من مواليه وهو طارق بن زياد ففتح بلاد الأندلس، وظل موسى بن نصير مع طارق بن زياد يجوبا المدينة إثر المدينة حتى قال: أما والله لو انقادت لي العرب لقدتهم إلى روما حتى يفتحها الله تبارك وتعالى على يدي.
يقول موسى بن نصير لـ سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين: يا أمير المؤمنين! كانت الألف شاة تباع بمائة درهم، والعلج -الرجل الصليبي- وزوجته وأولاده يباعون بخمسين درهماً.
يعني: بثمن خمس شياه تشتري عائلة كاملة.
وخاض طارق بن زياد معركة وادي لكة التي استمرت أسبوعاً كاملاً حتى فتح الله للمسلمين بلاد الأندلس، وخاض بفرسه البحر، وقال لـ موسى بن نصير: يا أيها الأمير والله لا أرجع عن قصدي حتى أنتهي إلى البحر المحيط وأخوض فيه بفرسي.
ومن القواد الذين صنعوا تاريخ المسلمين أبو سعيد الجرادة الصفراء مسلمة بن عبد الملك بن مروان، قال عنه الإمام الذهبي: كانت له مواقف مشهودة مع الروم، وكان أولى بالخلافة من إخوته، غزا الصائفة وافتتح حصون الروم وهربت منه الروم إلى أقصى الأرض.
وكانت المرأة من الروم إذا أرادت أن تسكت طفلها تقول له: اسكت وإلا أدعو لك البطال ليأخذك.
وهذا مثل قول بعض الأمهات اليوم لطفلها: نم وإلا أتيت لك بالعفريت.
وقال بعضهم يحكي عن مثل هذا: ذهبت في ليلة داجية في بلاد الروم وإذا أنا بنور خافت يخرج من نافذة، وإذا بامرأة تهدهد صبيها وتقول: نم وإلا قلت: خذه يا بطال، ثم مدت يدها إلى خارج النافذة فأخذته منها، وهذا الشخص الذي كانوا يخوفون به أطفالهم هو عبد الله بن بطال القائد المسلم.

(17/4)


أبطال في عصر الدولة العباسية
ثم بعد ذلك جاء هارون الرشيد الخليفة المفترى عليه، الذي كان يصلي مائة ركعة تطوعاً لله عز وجل في اليوم والليلة.
قال منصور بن عمار الواعظ: أكثر من لقيت دمعاً فضيل بن عياض، وهارون الرشيد.
أما فضيل بن عياض فقد قال فيه عبد الله بن المبارك: إذا مات الفضيل ارتفع الخوف من الأرض.
فملك يقارن حزنه وبكاؤه وخوفه من الله عز وجل بخوف الفضيل إنه لملك رشيد! وقد فتح هارون حصن الصفصاف سنة 181 هجرية، وأخذه من ملك الروم قسطنطين بن ليون عنوة.
وأرسل إليه نقفور ملك الروم الذي تولى الحكم بعد الملكة أغسطة ملكة الروم، فكتب إليه: من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ -طائر كبير في السماء-، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثالها إليها، ولكن ذاك ضعف النساء وحمقهن.
فإذا قرأت كتابي فاردد ما وصل إليك من أموالها، وافتدي نفسك بمالك.
فغضب هارون لما وصله الكتاب فمزق الكتاب وكتب في ظهره: من هارون ملك العرب إلى نقفور كلب الروم أما بعد: يا ابن الكافرة! فالجواب ما ترى لا ما تسمع والسلام.
وسار بنفسه على رأس الجيش حتى اضطر نقفور إلى دفع جزية قدرها 400000 دينار سنوياً.
وافتدى هارون الرشيد أسارى المسلمين في بلاد الروم وكان عددهم 3700 أسيراً حتى لم يبق أسيراً واحداً في بلاد الروم.
ثم جاء من بعده المعتصم رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعنا لكنها لم تلامس نخوة المعتصم فبمجرد أن صاحت امرأة في بلاد الروم وامعتصماه، ويسمع المعتصم قصتها وهو يدعو بالشراب لأن يشرب فيقول لساقيه: دع هذا الشراب حتى أفرغ من قتالهم، ثم قال: أي مدنهم أكثر أمناً؟ قالوا: عمورية، فساق الجيش إليها وانتصر واضطر ملك الروم إلى دفع الجزية مرة ثانية.
يقول الشاعر: أما سمعت بأرض الروم مسلمة تشكو لمعتصم ظلم المغيرينا فتسبق الخيل أصوات استغاثتها وتملأ الكون صيحات الملبينا وتصرخ اليوم آلاف مؤلفة فهل سمعت سوى أحزان باكينا ونحن نسمع أصوات استغاثتها وليس نسمعها إلا أغانينا خضر مرابعنا بيض صنائعنا سود وقائعنا حمر ليالينا ويذبح الطهر طهر البكر في دمه ونحن نسبح في أحلام ماضينا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وكان في المغرب أيام حكم الخليفة العباسي المستعصم فارس يسمى: ابن فتحون، وقد بلغ من ذعر الروم منه أن الرجل كان إذا أراد أن يسقي فرسه الماء فتمتنع عن الشرب فيقول لها: اشربي أم أنك رأيت صورة ابن فتحون في الماء؟ ولك أن تتخيل مدى ذعر الروم من هذا القائد.
وخرج علج رومي ودعا المسلمين للمبارزة، فقتل من المسلمين ثلاثة، ثم نادى في المسلمين أيها المسلمون! رجل لثلاثة منكم، فشق ذلك على الخليفة فقال: علي بـ أبي الوليد بن فتحون فلما أتي به، قال له الخليفة: أما تسمع؟ قال: أسمع، وماذا تريد؟ قال: أن تأتيني به الساعة.
قال: لك هذا، ثم دعا بسوط، فقيل له: أما تخرج إليه بالسيف؟ قال: لا والله ثم دعا بسوط -والسوط هو الذي تؤدب به الكلاب- وعقد فيه عقدة وجعل لها خية في طرف السوط -يدخل فيها عنق فارس- ثم خرج وسط دهشة الرجل الصليبي فظل يصاوله فضربه الرومي على السرج ضربة قاتلة وفي لمح البصر نزل عن سرجه وتعلق برقبة فرسه، وقبل أن يصل ابن فتحون إلى الأرض علا مرة ثانية فوق السرج ثم ضرب هذا الفارس بالسوط ولف السوط على عنقه حتى دخلت الخية في عنق هذا الرجل وشدها إليه، ثم اقتلعه من على سرجه وأتى به إلى وسط صفوف المسلمين.
فكم نحتاج إلى مثل هؤلاء.

(17/5)


أبطال في الأندلس وأسبانيا
نأتي بعد ذلك إلى محمد بن عبد الرحمن بن الحكم أمير المؤمنين في الأندلس، صاحب معركة سليط التي قتل فيها 300000 من جيوش أوروبا، ومن بعده أتى عبد الرحمن الناصر فأدب ملك ليون أوردنيو وشانسو ملك ناصار في غزوة موبش واستمر الحريق عشرة أيام، وكان يغزو وربما مكث في غزوته أربعة أشهر، ودخل عاصمة ملك ناصار واستولى عليها.
ومن أبطال المسلمين أيضاً: الحاجب المنصور ملك المسلمين في أسبانيا، وقد بلغ عدد الغزوات التي غزاها 50 غزوة، وكانت له غزوة في الصيف وغزوة في الشتاء، وأراد أن يعبر جبال برينيه -التي هي جبال البرانس- إلى فرنسا، وكان أكثر جنود هذا الملك من السبي الذين اعتنقوا الإسلام بعد ذلك.
وقد غزا الغزوات الكثيرة واستولى على برشلونة، وغزا زامورا حتى دخل في عاصمة المملكة التي كانت تسمى (ليون) أقوى مملكة نصرانية في ذلك الوقت، ووصل إلى شانتياقو ثاني مدينة عندهم -يعني: بعد مدينة بيت المقدس-، ويذكر عنه أنه كان يجمع غبار الحروب لتصنع منه لبنات توضع معه في قبره، وفي مرة من المرات سار بجيشه وسط جبلين وكان الممر الذي سلكه ضيقاً، ففوجئ أن الغزاة قد اجتمعوا خلفه وسدوا الممر بين الجبلين فظل يبني المدن والقرى ويعسكر هو وجنودهـ وهم ينظرون خروجه فلما أطال أخذوا يرسلون إليه: أن عد، واخرج من غير غنائم ولا أسرى.
فرد عليهم: لا، ثم أرسل إليهم: إنا لا نكاد نصل إلى بلادنا إلا وقد جاء وقت الغزوة الأخرى، ولذا سنظل ها هنا إلى وقت الغزوة الثانية فإذا غزونا عدنا.
وظل يحرق في بلادهم ويقتل ويسبي حتى قالوا له: إذاً فعد ومعك غنائمك، قال: لا أحمل الغنائم على دواب وإنما تحملونها أنتم على دوابكم، وتدفعون إلي المال والطعام حتى أصل إلى بلادي، وتنحون جيف قتلاكم عن الطريق.
فكان له ما أراد.
ولما مات الحاجب المنصور استولى ألفونسو ملك أسبانيا على المملكة ونصب سرير ملكه على قبر المنصور، وقال لزوجته: أما ترين أني ملكت ملك ملك العرب، ونصبت سرير ملكي على قبره؟ فقال له أحد العرب ممن كانوا في جواره: لو تنفس صاحب هذا القبر وأنت عليه ما سمع منك ما يكره سماعه.
فهم أن يبطش به، فقالت له المرأة: والله إنه لحق.

(17/6)


أبطال دولة المرابطين في المغرب وغيرها
ومن أبطال المسلمين: يوسف بن تاشفين أمير المرابطين، خاض يوم الجمعة 12 رجب سنة 479 هجرية هو والمعتمد بن عباد معركة من أكبر معارك المسلمين في الأندلس اسمها: معركة الزلاقة، اجتمع له ألفونسو ملك قشتالة وملك أرجون وقوات من كل دول أوروبا بأمر من البابا، فكانت المعركة بين 200000 صليبي أمام 48000 يقودهم يوسف بن تاشفين والمعتمد بن عباد.
وقبل بداية المعركة أرسل يوسف بن تاشفين -وكان خاض البحر من المغرب العربي حتى ينصر المعتمد بن عباد في أسبانيا- إلى ألفونسو: بلغنا أنك دعوت للاجتماع بك وتمنيت أن يكون لك فلك تعبر البحر إلينا عليها فقد جزناه إليك، وجمع الله بيننا وبينك في هذه العرصة وسترى عاقبة دعائك {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:14].
وقد انتهت المعركة بقتل وأسر 180600 وفر فقط 400، ثم جمع أمير المؤمنين يوسف بن تاشفين رءوس هذه الجثث وجعلها على هيئة هرم وأذن المؤذن فوقها بأذان النصر وصلوا المغرب.
وهناك معركة أخرى هي معركة: الأرك كانت بعدها خاضها يعقوب بن يوسف أمام ألفونسو الثامن، وكان الملك الرومي قد كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى النصرانية، فمزق الكتاب وكتب إليه في ورقة صغيرة: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37].
وكان النصر في هذه المعركة أيضاً للمسلمين، وكان عدد القتلى 146000 قتيل من الصليبيين، وبلغ عدد الأسرى 30000 أسير، والخيام 150000 خيمة، وبلغ عدد الخيول 80000، و100000 من البغال، و400000 من الحمير، و60000 درع، وكانت الفتاة تباع بدرهم.
ومن أبطال المسلمين الظاهر بيبرس الذي أكمل ما بدأه صلاح الدين الأيوبي، ففتح قلعة أرصوف، ودمر ثلث الفرسان المدافعين عنها، حتى قال شاعر صليبي في قصيدة له: المسيح أصبح فيما يظهر مسروراً لما حل بالمسيحيين من مذلة وهوان، وقد هزم الظاهر بيبرس الأرمن وقتل ابن ملكهم وأسر الابن الآخر، ودخل عاصمة ملكهم وأخذ 40000 أسير، وهو الذي حرر يافا، وأخذ قلعة الشقيف، ودمر أنطاكية، وقتل ملكها سيمون وما من جندي من المسلمين إلا وأصبح له أسير من الفرنجة، وأرسل الملك الظاهر بيبرس سفيرهم محيي الدين إلى ملك عكا، فأراد ملك عكا أن يستعرض قواته أمامه، فقال له السفير: إن كل هذا الجيش لا يضارع أسرى الفرنجة عندنا في القاهرة، وسقطت قلعة الحصن -قلعة الأكراد- التي ما استطاع صلاح الدين أن يسقطها على يد الملك البطل الظاهر بيبرس.
ثم أتى من بعده السلطان محمد بن قلاوون فحرر اللاذقية وطرابلس، ثم أتى الملك أشرف خليل ففتح عكا، وهو الملك المسلم الوحيد الذي استطاع أن يدخل عكا؛ لأن صلاح الدين بعد أن استرجعها أخذها النصارى منه مرة أخرى، ولكن الملك الذي استطاع أن يبقي عكا في أيدي المسلمين إلى الأبد هو الملك أشرف خليل حيث دخل عكا سنة 690 هجرية.
ودخل المسلمون في عصره إلى قبرص في رمضان، وأتوا بملكها إلى الإسكندرية مأسوراً وكان يردد: قبرص قبرص قبرص وربما رددها في منامه، إذ كان شغله الشاغل بعد فتح عكا أن يفتح قبرص، وكان قبلها أن أرسل ملك قبرص بعض فرسانه وبعض البحرية فدخلوا مدينة الإسكندرية واستولوا عليها، وذبحوا من المسلمين ما ذبحوا، فنذر أشرف خليل أن يأسر هذا الملك، وتم أسره، فغزا المسلمون قبرص ودارت معركة لمدة سبعة أيام في رمضان، ثم عاد المسلمون بملك قبرص أسيراً.
ومن أبطال المسلمين الملك ألب أرسلان من السلاجقة، وقد خاض سنة 643 هجرية معركة ملاذكرد، وكان عدد جنوده 15000 أمام ملك الروم أرمانوس وكان عدد الروم في هذه المعركة 600000، وقبل بدء المعركة لبس الملك ألب أرسلان كفنه وتحنط بحنوطه وقال للناس: لا أمير لكم اليوم ولا سلطان لكم اليوم، من أراد أن يرجع ويبكي نفسه فليرجع، فلبس جيشه عن بكرة أبيه الأكفان وعرف هذا الجيش في التاريخ باسم جيش الأكفان، فكان النصر بإذن الله، فقد هزم الـ 15000 جيش الروم وعدده 600000 ووقع أرمانوس في الأسر، ونودي عليه في آخر النهار: من يشتري الكلب؟ فصاح أسير من المسلمين: لا نشتري الكلب إلا بكلب، فوضعوا رباط الكلب في عنقه وجروه إلى بلاده، فلما رآه الرومان على هذه الحال سملوا عينيه.
أما في الهند! وأحوال المسلمين فيها فإن السلطان فتح علي خان المشهور بجهاده للإنجليز، قيل له: سيقتلك الإنجليز، فقال: يوم من حياة الأسد خير من مائة سنة من حياة ابن آوى.
وأما سلطان المسلمين في الفلبين فإنه لما قدم ماجلان إلى الفلبين قال: إنني باسم المسيح أطلب منكم التسليم، ونحن العرق الأبيض أصحاب الحضارة أولى منكم بحكم هذه البلاد، فتقدم منه سلطان المسلمين في الفلبين لابولابو وقاتله في معركة حتى ذبحه.
وأما الأتراك فإن السلطان العثماني مراد بن أورخان بلغ من ملكه أنه دخل صوفية عاصمة بلغاريا ودخل بيزنطة، فتجهز إمبراطور القسطنطينية وملك الصرب والبلغار والمجر ليلتقوا معه في معركة تسمى: معركة مارتيزا، فينتصر عليهم ويضطرهم إلى دفع جزية سنوية.
وفي سنة 791 هجرية يفتح جميع بلاد البلغار ويأخذ ملكهم شيمان أسيراً، ثم عاد ليؤدب ملك الصرب لازار في معركة قوصوه حتى يغدر به الصرب ويقتلونه غيلة في هذه المعركة بعد أن انتصر، وكان يدعو قبيلها في صلاة التهجد يقول: إلهي ومولاي إن كان في استشهادي نجاة لأحد من المسلمين فلا تحرمني الشهادة في سبيلك؛ لأنعم بجوارك، ونعم الجوار جوارك، إلهي ومولاي لقد شرفتني بأن هديتني إلى طريق الجهاد في سبيلك فزدني تشريفاً بالموت في سبيلك، وكان له ما أراد.
ومن بعده السلطان العثماني بايزيد الصاعقة الذي انتصر على لازار ملك الصرب وأمراء النمسا وألمانيا وفرسان القديس يوحنا، وفرسان البابا في معركة سنة 798 هجرية.
ومن بعده السلطان مراد الثاني والد السلطان محمد الفاتح الذي استولى على الحكم وسنه حينها 18 سنة، ويهزم المجر وبولندا وفرنسا وألمانيا والزنادقة في معركة فارانا في 28 رجب سنة 848 هجرية ويقتل ملك المجر والكاردينال مندوب البابا في معركة كوسوفا سنة 852 هجرية.
وأتى بعده سليمان القانوني ليفتح بلغراد في رمضان سنة 927 هجرية، ثم يؤدب ملك المجر ويقتله سنة 923 هجرية في معركة موهاس، ويقف بأربعة مليون جندي أمام فيينا عاصمة النمسا، ويصل إلى الميدان الرئيسي فيها.
ثم جاء بعده خير الدين بربروس ليؤدب أساطيل الدولة الأسبانية، وكان أمير البحار في الدولة العثمانية خير الدين بربروس وأخوه عروب الدين بربروس هما اللذان أقاما دولة الجزائر.
ويليه ملك المغرب مولاي عبد الملك الذي انتصر في معركة وادي المخازن سنة 986 هجرية على البرتغال وأسبانيا والفاتيكان والنمسا، وقتل في هذه المعركة ملك البرتغال، ثم مات هذا القائد لمرض ألم به، وقد كان يقود المعركة وهو على محفة من شدة المرض.
ومن الحبشة ظهر بطل مسلم وكان ابن قسيس ثم أسلم بعد ذلك، واستطاع أن يوحد جهود المسلمين ومن ثم ينتصر على جيوش الصليبيين سنة 935 هجرية، وهو يقول: الجهاد بغيتنا ومنانا، ولا نزال نصبر لهم على الضرب والطعن حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، ويؤسس مملكة للمسلمين في الحبشة.
فأين نحن من هذا كله؟ إنه لا سبيل إلى النصر إلا أن يعود المسلمون إلى الله عز وجل، وحينها تعود لنا العزة والشرف والكرامة والسؤدد، فإن يوماً من حياة الأسد خير من مائة سنة من حياة ابن آوى أو كما قال السلطان فتح علي خان.
اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك، اللهم احم المسلمين المستضعفين في كل مكان، واحم أعراض المسلمين ودماء المسلمين في بلاد أوروبا وأمريكا.
اللهم انصر المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم احم إخواننا في فلسطين، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك بالصليبيين، اللهم وحد صفوف المسلمين، وهيئ لشريعتك أن تحكم الأرض وأن تسود.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
ربنا احشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مفتونين ولا مبدلين، واجعل خير أيامنا يوم لقياك، وارزقنا لذة العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك.
رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين، وتقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، فبك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا.
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! اللهم صل على عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك، وارزقنا الصدق في معاملتك، واشف مرضانا ومرضى المسلمين.

(17/7)


الاتباع بين أصحاب الوجد والعقلانية
فرض الله عز وجل اتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلق الفلاح والنجاح على ذلك، فأطاع أمره سبحانه من كتب الله له السعادة في الدنيا والآخرة، وجاء أقوام وفرق استعاضوا عن الكتاب والسنة بعلوم الكلام والجدل وشطحات لا ترجع إلى عقل أو دين، ومنهم من قدم عقله وحكمه على دين الله، ومنهم من اعتمد على منامات وحكايات وأساطير الإسلام بريء منها كل البراءة، ولا نجاح ولا فلاح إلا بالاتباع والاعتصام بالكتاب والسنة، وقد كثرت أقوال الصحابة والعلماء في التنبيه على أهمية الاتباع والتقيد به.

(18/1)


وسطية أهل السنة وفضلهم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
إن أهل السنة والجماعة وسط بين العقلانيين والقبوريين، ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب أهل الحديث من علماء السلف وسط في شيء، يقول العلامة ابن القيم: واكحل جفون القلب بالوحيين واحـ ذر كحلهم يا كثرة العميان وقال: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين النبي وبين قول فلان وقال الشافعي ناصر السنة رحمه الله: لولا أصحاب المحابر لخطبت الزنادقة على المنابر.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: النظر إلى وجه الرجل الذي يدعو إلى السنة ويذب عنها عبادة.
وقال الفضيل بن عياض: الملائكة حراس السماء، وأهل الحديث هم حراس الأرض.
وقال الحسن البصري: استوصوا بأهل السنة خيراً؛ فإنهم غرباء.
وقال سفيان الثوري: لو لقيت رجلاً من أهل السنة والجماعة فأقرئه مني السلام، فما أقلهم في هذا الزمان!

(18/2)


المدرسة العقلية وأساسها
إن الأفكار التي قدست العقل وقدمته على النقل، وجعلته مشرعاً يحكم على النص: ينقضه أو يؤوله، أفكار وافدة وبيئة، والحق ثقيل مريء، والباطل خفيف وبيل.
والمدرسة العقلانية أو كما تسمى أفراخ المعتزلة لها أس من أهل الاعتزال أصحاب واصل بن عطاء، وهذه المدرسة يمثلها في العصر الحديث جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمود شلتوت ومصطفى المراغي ومحمد فريد وجدي وفهمي هويدي ومحمد عمارة وغيرهم، وهي أسماء رنانة، والناس يكنون لها احتراماً كبيراً.

(18/3)


بيان حال الأحاديث الواردة في فضل العقل
إن المدرسة العقلية اعتمدت على حديث موضوع واستدلت به، وهو: (أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك، فبك آخذ وبك أعطي، وبك الثواب وبك العقاب).
وهو حديث موضوع، وقد ذكر الحافظ أبو حاتم البستي والإمام الدارقطني والشيخ أبو الفرج بن الجوزي: أن الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل العقل لا أصل لشيء منها، وهي أحاديث موضوعة، وذكر ذلك الإمام السيوطي أيضاً، والشيخ الألباني رحمه الله، فقال: مما يحسن التنبيه عليه أن كل ما ورد في فضل العقل من الأحاديث لا يصح منها شيء، وهي تدور بين الضعف والوضع، وقد تتبعت ما أورده منها أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب (العقل وفضله) فوجدتها كما ذكرت لا يصح منها شيء، فالعجب ممن يتكلم في فضلها!

(18/4)


ثناء القرآن على العقل
إن المولى تبارك وتعالى أثنى على العقل فقال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وقال الله تبارك وتعالى في آيات كثيرة: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73]، وقال الله تبارك وتعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]، وقال: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:28]، وقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
ونعى على قوم لا يفكرون بعقولهم ولا يتدبرون، فقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، وقال الله تبارك وتعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} [يونس:42].

(18/5)


ذم السلف للكلام والجدل
وهناك أحاديث كثيرة في مدح العقل والتنويه بشرفه، وأما جعله حاكماً على الشرع مقدماً عليه فهذا أس الوبال والوباء الذي دخل على هذه الأمة، قال الإمام الشافعي: إنما فسد العرب لما تركوا الفطرة واتبعوا منطق أرسطو طاليس.
وعندما دخل المنطق ونشأ علم الكلام ولجأ الناس إلى الجدل ضاعت الأمة الإسلامية.
وحينما دخل استخدام المنطق والجدل وعلم الكلام تنبه إلى خطورة ذلك الإمام الشافعي، فلما قابل بشر المريسي وناظره قال: والله لأن يلقى الرجل الله عز وجل بكل شيء خلا الشرك خير له من أن يلقاه بمثل هذا الكلام.
وقال: رأيي في علماء الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، وأن يطاف بهم في العشائر والأمصار ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكلام.
وقال الإمام أحمد: الخوض في علم الكلام يفضي إلى الزندقة.
وقال الإمام مالك: أفكلما جاءنا رجل هو أجدل من رجل أراد منا أن نترك ما جاء به جبريل إلى قلب نبينا صلى الله عليه وسلم؟! وقال أبو يوسف لـ بشر بن غياث المريسي: يا بشر! إما أن تتوب أو تفسد علينا خشبة.
يعني: نصلبك على خشبة إن لم ترجع عن أقوالك هذه العفنة.

(18/6)


بيان نسبة العقل للشرع وتفاوت العقول وحاجتها إلى الشرع
قال العلماء: إن العقل مع الشرع كالعامي مع المفتي، فالعقل يوصلك إلى باب الملك، ويعلمك أن للكون إلاهاً عظيماً، والعقول لا تسلم إلا للأعقل والأكمل، ولا أعقل من عقل الرسل، فالله عز وجل اختارهم همزة الوصل بين السماء والأرض، وقد وعوا تكاليف الشرع والوحي، ووعوا ما في الملكوت ولم تغب عقولهم لحظة واحدة.
فأين هؤلاء الفلاسفة من أنبياء الله عز وجل ومن خواص رسله؟ وأي عقل يحكمونه في دين الله عز وجل؟ فأهل الاعتزال قدموا العقل على النقل، بل إن الأشاعرة وهم مخنثة المعتزلة قالوا: إن أصول الكفر ستة أشياء، وذكروا أن الأصل السادس من أصول الكفر: هو الأخذ بظاهر النصوص، يعني: لو أنك أخذت بالظاهر الذي يفهمه الناس من الكتاب والسنة ولم تتأوله أو تحرفه فهذا أصل من أصول الكفر عند الأشاعرة.
وأي عقل نحكمه في نصوص الوحي إذا كانت العقول مختلفة؟ فالعقول عند المصريين تختلف عن عقول الهنود والصينيين، فأي عقل نحكمه في دين الله عز وجل وفي شرعه؟ إن العقول هدت الهنود إلى عبادة البقر، وغيرهم ينكر هذا سواء من المصريين أو غيرهم، فلا أحد يقول: إنه يقدس البقرة، لكن أغندي وكان رجلاً عظيماً من عظماء دول عدم الانحياز يقول: إنني أجد نفسي وملايين الهنود نتوجه بالعبادة والإسلام لأمنا البقرة، فهذا شيء معقول عند أغندي أن يعبد البقرة، ويقول: فأمنا البقرة تعدل وتفضل أمنا الحقيقية بأسباب كثيرة.
بل إن عقول الهنود هدتهم إلى عبادة الفئران من دون الله عز وجل، وكما ذكر في مجلة العربي: أن هناك معبداً من الرخام الأبيض كلف أصحابه ملايين الجنيهات، بل المليارات، ويكفيك أن تعلم أن إله هذا المعبد نوع من الفئران البيضاء.
من أنت يا أرسطو! ومن أفلاطون قبلك يا مبلد! ومن ابن سينا حين قرر ما هديت له وأرشد هل أنتم إلا الفراش وقد رأى ناراً توهج فدنا فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد فلتخسأ الحكماء عن رب له الأفلاك تسجد فأي عقل نحكمه في شرع الله عز وجل؟ أهو عقل الخواص من الفلاسفة والمثقفين أم عقل العوام؟ وهل نحكم العقل السلفي أم نحكم العقل الصوفي؟ وهل نحكم العقل الأصولي أم الفلسفي؟ وهل نأخذ بعقل المثاليين من الفلاسفة أم بعقل الواقعيين؟ وهل نأخذ بآراء الماديين من الفلاسفة أم بآراء الإلهيين؟ وهل نحكم عقول الأديان الخاملة أم عقول الأجيال الفاضلة كما قال أهل الفلسفة؟ وهل نأخذ بعقل المسلم المتميز بهويته الحر في تفكيره أم عقل المسلم المأزوم تحت ضغوط الحضارة المعاصرة بجبروتها؟ وهل نأخذ بالعقل الجاهلي أم بالعقل الإسلامي أو بالعقل الأوربي الجاهلي الذي استباح إلغاء الله عز وجل وعبد نفسه مكان العلي العظيم؟ فالعقل الأوربي الجاهلي استحسن اللواط، ونكاح الأمهات والبنات، والعقل العربي الجاهلي استباح وأد البنات، أم هل نحكم العقل الذي انحرف عن منهج الإسلام وعطل السنة، وهو عقل القرآنيين الذي استحسن إلغاء الإسراء والمعراج، بل واستحسن إلغاء كل المعجزات الحسية وأنكر الكثير من المغيبات كالجن والملائكة والدجال؟ إن العقل اليوناني في أيام الفلاسفة دافع عن البغاء الرسمي وعن حرفة المومسات والشذوذ الجنسي الذي ظهر في المجتمع الإغريقي في أيام فلاسفة اليونان، بل إن فلاسفتهم وأصحاب المنطق منهم كانوا يحبذون البغاء والشذوذ الرسميين، فهل نأخذ بهذه المقدمات الباطلة ونحكمها في دين الله ونفضلها حتى على النصوص المتواترة؟! يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الرسل تخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول، أي: أن الوحي والشرع يخبران بالأشياء التي تحتار فيها العقول ولا تستطيع أن تكيفها، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة تسمى شجرة طوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها)، فهذا فوق نطاق العقل.
فالشرع يأتي بمحارات العقول لا بمحالاتها.
يعني: إن العقول السليمة الصحيحة إذا حكمت باستحالة شيء فلا يأتي الشرع يقرره، والمعقولات الصحيحة لا يصادمها شرع صحيح.

(18/7)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:10   رقم المشاركة : 23
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


جناية المعتزلة على الأمة
وأما جنايات العقل على هذه الأمة وتدميره لها فقد بدأ عندما دخل علم الكلام بمقدماته الباطلة في عقيدة هذه الأمة، ومحاكمه أصحابه لعلماء الأمة وتعذيبهم لهم، وكان أول ظهوره عند المعتزلة عندما قدموا العقل على نصوص الشريعة، وأتوا بأصولهم الخمسة ومنها التوحيد، والتوحيد عند المعتزلة هو: تعطيل صفات الله تبارك وتعالى كلها، فقالوا: هو عليم بلا علم، وسميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، فأثبتوا لله عز وجل الأسماء فقط ونفوا عنه كل صفة، حتى صفة العلم نفوها عن الله عز وجل، وقالوا: عليم بلا علم، وبصير بلا بصر، وقادر من غير قدرة، وعطلوا صفات الله عز وجل، ولم يكتفوا بهذا بل جروا الأمة إلى مسألة خلق القرآن، وعذب فيها إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد، والذي تولى كبر هذه المحنة هو أحمد بن أبي دؤاد شيخ المعتزلة، وقد مات أحمد بن نصر الخزاعي والبويطي وغيرهما من علماء الأمة في هذه المحنة، وعذب الإمام أحمد، واقتادوه إلى السجن في شهر رمضان وعذب وضرب بالسياط؛ بسبب بدع المعتزلة، ولولا السياط التي كانت على ظهره لما صار إمام أهل السنة والجماعة.
(18/8)
بيان التوحيد والعدل والوعد والوعيد عند المعتزلة
وقادتهم عقولهم إلى نفي رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة، فهم في أصلهم الأول التوحيد عطلوا صفات الله عز وجل، وقالوا بخلق القرآن، وعذبوا علماء الأمة.
وقد دعا الإمام أحمد بن حنبل على أحمد بن أبي دؤاد كبير المعتزلة، فابتلاه الله بالفالج -الشلل-، فكان نصف جسده لو نهشت منه السباع لا يحس به، والنصف الآخر لو سقط عليه الذباب لكأنما نهشته السباع، فقال أحمد بن أبي دؤاد: أصابتني دعوة أحمد بن حنبل.
وأما الأصل الثاني عند المعتزلة فهو: نفي القدر، وسموه مسألة العدل، وقالوا: إن الله عز وجل لا يخلق الشر، وأثبتوا لهم مشيئة مع الله عز وجل، وقالوا: إن الإنسان يخلق فعل نفسه، ونفوا القدر، وقالوا بخلق أفعال العباد.
وقال أهل السنة والجماعة: إن أفعال العباد مخلوقة لله عز وجل، وهم قالوا: إن العبد يخلق فعل نفسه.
وقالوا: بالتحسين والتقبيح العقليين، حتى إن بعضهم عندما ذكر لـ عمرو بن عبيد -كبير المعتزلة- حديث رواه الأعمش قال: لو قابلت الأعمش لكذبته -مع أن الحديث صحيح-، ولو لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددت عليه هذا الحديث، ولو لقيت الله عز وجل لقلت له: ما على مثل هذا أعطيناك الميثاق.
فأي دمار فوق هذا؟! بل خاضوا في أعراض الصحابة، وكذبوا سمرة بن جندب وأبا هريرة وغيرهما من أهل العلم.
وأما في الوعد والوعيد فهم كما قال أهل العلم: مخنثة الخوارج الذين يكفرون عوام المسلمين ويكفرون مرتكب الكبيرة.
يعني: أن الخوارج قدوتهم، فقالوا: بالمنزلة بين المنزلتين.
ومعنى هذا الكلام: أن مرتكب الكبيرة ليس مسلماً ولا كافراً ولكنه مخلد في النار، وهذا القول أصل من أصول جماعة التوقف والتبين، وأصحاب التوقف يقولون: إنا لا نحكم للرجل بإسلام ولا بكفر حتى نسأله ونتبين حاله، كما كان الأزارقة من الخوارج يقولون: لا نحكم على الناس بردة ولا بكفر حتى نمتحنهم، فالناس الذين يأتون إلينا ولا نعرف خباياهم نجري لهم الاختبار، فإن وافقونا كانوا منا.
والمعتزلة قالوا بالمنزلة بين المنزلتين، يعني: لم يحكموا على مرتكب الكبيرة بأنه مسلم أو كافر، وقالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، وهو مخلد في النار، هذا قول أهل الاعتزال في القديم.
(18/9)
من أقوال العلماء في الكلام وبيان رجوع بعض علماء الكلام إلى الحق
قال الإمام أحمد عن علم الكلام: لا يفلح صاحب كلام أبداً، علماء الكلام زنادقة.
وقال الإمام الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم من العمل.
ولقد رجع طوائف من علماء الكلام إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، فلقد قال الرازي وهو من الأشاعرة: نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذىً ووبال وقال الطوغاني: سمعت فخر الدين الرازي يقول: يا ليتني لم أشتغل بعلم الكلام، وبكى.
وقال أبو المعالي الجويني وهو من علماء الأشاعرة: لقد بلوت أهل الإسلام وعرفت علومهم، وركبت البحر الخضم وخضت في الذي نهوني عنه، وكل ذلك في طلب الحق وهرباً من التقليد، والآن رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، فعليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص فالويل لـ ابن الجويني.
وكان يقول لأصحابه: يا أصحابنا! لا تشتغلوا بعلم الكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ بي ما اشتغلت به.
فعلم الكلام جعل المعتزلة تكفر هذه الأمة، بل وتجيز الخروج بالسيف على هذه الأمة.
(18/10)
بيان انحرافات جمال الدين الأفغاني
ومدرسة الاعتزال الجديدة أو أفراخ المعتزلة الجدد دمروا الأمة أيضاً، وهم يحملون أسماء رنانة، وفي الزوايا خبايا.
فـ جمال الدين الأفغاني شيخ المدرسة العقلية في العصر الحديث هو جمال الدين بن صفدر الأفغاني، وصفدر من ألقاب الإمام علي عند الشيعة، فقد كان أبوه إيرانياً تزوج بامرأة من الأفغان، فولدت له جمال الدين الأفغاني.
ومن المآخذ التي أخذها أهل العلم على جمال الدين الأفغاني الشيعي: أنه كان من الرافضة، وعندما أتى في تفسيره إلى الربا المحرم في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] قال بجواز الربا المعقول الذي لا يثقل كاهل المديون ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال، فهذا الربا لو كان خفيفاً وفوائده خفيفة معقولة فلا مانع منه، وهو جائز عند جمال الدين الأفغاني.
وأما الطوام في هذا الرجل فقد كان زعيماً من زعماء الماسونية، ففي 22 ربيع الثاني سنة (1292 هـ‍) كتب جمال الدين الأفغاني طلباً للانضمام إلى المحفل الماسوني، وهذا نص الطلب: يقول مدرس العلوم الفلسفية بمصر المحروسة جمال الدين الكابولي الذي مضى من عمره 37 سنة: بأني أرجو من إخوان الصفا، وأستدعي من خلان الوفاء -أعني: أرباب المجمع المقدس الماسون الذي هو عن الزلل والخلل مصون- أن يمنوا علي ويفضلوا إلي بقبولي في ذلك المجمع المطهر، وبإدخالي في سلك المنخرطين في هذا المنتدى المفتخر.
ولكم الفضل.
فهو يستجدي منهم أنه يدخل المجمع الماسوني، وقد دخله، وتم اختياره بعد ثلاث سنوات رئيساً للوب كوكب الشرق، وهو محل من المحافل الماسونية التي كانت موجودة في مصر، ودعوه في 7 يناير 1878م لاستلام القادوم بعد إتمامه، وأن يأتي بلبس الماسون.
وهذا الرجل إذا أردنا أن ندينه من فمه فنقول فيه مثل ما قاله الشيخ الدكتور محمد محمد حسين: إن هذا الرجل كان يثير النعرات القومية عند المصريين فيقول: تناوبتكم أيدي الرعاة واليونان والرومان والفرس والعرب والأكراد والمماليك والفرنسيس، وكلهم يشقون جيوبكم.
يعني: يتكلم ويقول: تناوبتكم أيدي العرب، فأدخل المسلمين أيضاً من ضمن الغزاة الفاتحين أصحاب الظلم والظالمين، هكذا كان كلامه على الفتح الإسلامي.
ثم يقول: انظروا أهرام مصر وهياكل رمسيس وآثار طيبة ومشاهد تيوة وحصون دمياط شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم.
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح هذا ما يقوله هذا الرجل.
ومع أنه كان ينعي على عباد القبور إلا أنه كان إذا وجد وسط القبوريين فإنه يتكلم كما يتكلم المتصوفة القبوريين.
وقد كان يميل إلى أسلوب الاغتيال وإلى تدبير الاغتيالات السرية حتى في وجوده في إيران.
ومما يؤخذ أيضاً على هذا الرجل: اختلاطه الكثير باليهود والنصارى، وكان يحيط نفسه بخليط كبير من اليهود والنصارى مثل سليم النقاش من نصارى الشام وهو ماسوني، وأديب إسحاق وهو أيضاً ماسوني، ولما مات أديب إسحاق قال عنه: إنه كان تراث العرب وزهرة الأدب، وقضى نحبه في شرخ الشبوبة وعنفوان الفتوة، وترك لنا قلوباً آسفة وسبولاً فائضة، إنا لله وإنا إليه راجعون.
يسترجع على موت أديب إسحاق! ومن المآخذ عليه: أن طبيبه الخاص كان هارون اليهودي، ومن يوم أن جاء مصر سكن في حارة اليهود وما فارقها حتى غادر مصر.
وكان يسعى إلى إسقاط الخلافة العثمانية، فقد قال السلطان عبد الحميد في مذكراته: وقعت بين يدي خطة أعدها في وزارة الخارجية الإنجليزية كل من مهرج اسمه جمال الدين الأفغاني وإنجليزي يدعى بـ لنز، قالا فيها بإقصاء الخلافة عن الأتراك.
وكان يشرب الفنيات، ومحمد عمارة كل يوم ثلاثاء يكتب في جريدة الشعب ويقول: غرائب التنوير ومدرسة التجديد ومدرسة المستنيرين وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وشيخ المدرسة كان يشرب قليلاً من الفنيات! وهذا قاله الشيخ محمد رشيد رضا في الجزء الأول صفحة 49 من تاريخ الأستاذ الإمام قال: إنه كان يشرب قليلاً من الفنيات.
ومن المآخذ أيضاً عليه: أن السلطان عبد الحميد استشاره في إرسال بعثة من العلماء لنشر الإسلام في اليابان حسب طلب إمبراطور اليابان، فثناه عن عزمه وقال له: إن العلماء نفروا المسلمين من الإسلام، فأجدر أن ينفروا الكافرين.
يقول الشيخ يوسف النبهاني: إنه جالس جمال الدين الأفغاني من أول النهار إلى آخره فما وجده صلى فريضة واحدة، ذكر ذلك في قصيدته الرائية، وكان شيخ الأزهر في ذلك الوقت الشيخ عليز وعندما كان يتواجد جمال الدين الأفغاني داخل المسجد الأزهر كان يضربه بعكازه حتى يخرجه.
هذا النسبة لـ جمال الدين الأفغاني.
(18/11)
بيان انحرافات محمد عبده
ثم أتى من بعده مفتي مصر في عصره الشيخ محمد عبده، وهو التلميذ الأول لـ جمال الدين الأفغاني، فكان أول ما فعل أنه دعا للتقريب بين الأديان، وأنشأ جمعية من أجل ذلك هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية، وهي جمعية العروة الوثقى، وكانت جمعية دينية سرية سياسية، وكان صاحب الرأي الأول فيها الشيخ محمد عبده، وكان سكرتيرها مرزا باقر، وقد كان مسلماً ثم تنصر وتسمى بـ مرزا يوحنا.
وكتب الشيخ محمد عبده في رسائل له إلى القس الإنجليزي إسحاق تلر، يقول: كتابي إلى الملهم بالحق الناطق بالصدق، حضرة القس المحترم إسحاق تلر، أيده الله في مقصده، ووفاه المذخور من موعده.
ويقول له في هذا الخطاب: ونستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل، فتهزم له ظلمات الغفلة، فتصبح الملتان العظيمتان المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما إلى الأخرى، وتصافحتا مصافحة اللباب، وتعانقتا معانقة الأنثى.
وهذا موجود في كتاب الأعمال الكاملة لـ محمد عبده، جمع وتحقيق محمد عمارة الجزء الثاني صفحة 363 - 364، قال: وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التقريب بين الأديان لما راسل قيصر الروم ونصارى نجران.
ومن المآخذ التي تؤخذ على الشيخ محمد عبده: أنه كان يقول: إذا تعارض العقل والنقل فقد اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل.
يعني: لو اصطدم العقل مع آية فنأخذ بما دل عليه العقل ونترك هذه الآية.
ومما يؤخذ عليه أيضاً: دخوله في الماسونية مع شيخه، وكان يحتفظ بكتب الماسونية في منزله وبالخط الأفغاني، وقد صودرت في أثناء سجنه بمصر، وصدرت منه عبارات لأستاذه الأفغاني تفوح منها رائحة تجاهل الإسلام، والدعوة إلى الفرعونية المصرية.
ومحمد عبده هو الذي كتب بخط يده برنامج الحزب الوطني الحر، وهو غير الحزب الوطني لـ مصطفى كامل، وهذا الحزب هو حزب علماني يجمع رجالاً مختلفي العقيدة والمذاهب.
ويقول محمد عبده: إن خير أوجه الوحدة: الوطن، يعني: إن الإسلام لا يجمع الناس بقدر ما يجمعهم الوطن، يعني: الوطن يجمع الناس أكثر مما يجمعهم دين الله عز وجل، فهو من القائلين بالوحدة الوطنية.
يقول: إن خير أوجه الوحدة الوطن؛ لامتناع الخلاف والنزاع فيه.
وأيضاً مما يؤخذ على محمد عبده: علاقته المريبة بالإنجليز، حتى إن اللورد كرومر الذي قال: جئت لهدم ثلاثة: الكعبة، والقرآن، والأزهر، صرح بأن الشيخ سيظل مفتياً في مصر ما ظلت بريطانيا العظمى محتلة لها.
فأي علاقة كانت تربطه بالإنجليز حتى يدافعوا عنه هذا الدفاع؟! ولما ألف محمد أحمد خلف الله الشيوعي رسالة: الفن القصصي في القرآن الكريم، وقال: إن قصص القرآن عبارة عن أساطير وأكاذيب، رفضت جامعة فؤاد قبول رسالة الدكتوراة هذه، فقال أمين الخوري الذي كان متزوجاً من الدكتورة ابنة الشاطئ: إنها ترفض اليوم ما كان يقرره الشيخ محمد عبده بين جدران الأزهر منذ اثنين وأربعين عاماً.
وقال لهم: لماذا ترفضون هذا الكلام؟ إن هذا هو نفس كلام محمد عبده عندما قال: إن قصص القرآن عبارة عن تمثيل، ومحمد أحمد خلف الله إنما زاد قوله: إنه أساطير، يعني: عبارة عن أكاذيب.
ومما يؤخذ أيضاً على محمد عبده: أنه الواضع الحقيقي لكتاب تحرير المرأة، وهو الذي صاغه الصياغة النهائية، كما يقول محمد عمارة نفسه الذي جمع كلام الشيخ محمد عبده، فقد قال: هناك فصول كاملة في كتاب تحرير المرأة لـ قاسم أمين أعدها الشيخ محمد عبده، وهي فصول: الحجاب الشرعي، والزواج وتعدد الزوجات، والطلاق، فهذه كاملة من صنع الشيخ محمد عبده، والفصول الأخرى من تأليف قاسم أمين، ثم صاغه محمد عبده الصياغة النهائية، وقد ظلوا في مجلة المنار يثنون على هذا الكتاب وقت أن قامت الزوبعة عليه.
(18/12)
بيان انحرافات أعلام المدرسة العقلية في هذا العصر
ومن أهم رجال هذه المدرسة أيضاً: مصطفى المراغي ومحمود شلتوت وعبد القادر المغربي، فقد خالفوا الإسلام وانحرفوا في مجال العقيدة وفي الكلام عن أمارات الساعة، فأنكروا أحاديث المهدي، مع أن العلماء حكموا أنها متواترة، فقد رفضوها بتاتاً، وقالوا: إن فكرة المهدي أصلاً اقتبسها المسلمون من اليهود الذين قالوا: بعودة المسيح وظهوره مرة أخرى.
وأنكروا أحاديث الدجال، مع أن الأحاديث فيه متواترة كما قال الحافظ ابن كثير.
وقال الإمام النووي: إن الذي ينكر أحاديث الدجال المتواترة هم الخوارج والجهمية وبعض أهل الاعتزال.
وأنكروا أيضاً ظهور الدجال، وقالوا: إن أحاديثه مضطربة.
وأولوا العرش بالملك في قول الله عز وجل: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، وقالوا: العرش هنا كناية عن الملك والسيطرة.
وأولوا صحف الأعمال التي يأخذها العبد يوم القيامة باليمين أو بالشمال، وقالوا في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة:19] يعني: كناية عن التفاؤل، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة:25] قالوا: كناية عن الانتظار.
ومحمد فريد وجدي كان يقول بعقيدة الجبر، وخالفه الشيخ محمد عبده فكان يقول بالاختيار، وكان محمد فريد وجدي يقول أيضاً: إنه يؤمن بتحضير الأرواح.
وفي مجال المعجزات: أنكروا كل معجزة، وقالوا: إن هذه المعجزات لا يستطيع العقل أن يكيفها، وهي ليست حكراً على الرسل، وأما المعجزات القديمة التي حكاها الله في كتابه عن الأنبياء فقد نقل عنهم الشيخ محمد رشيد رضا: أن وجود هذه المعجزات في القرآن الكريم كانت سبباً في إحجام الناس عن الإسلام، يعني: لو أن القرآن لم تكن به هذه الأشياء لكان مفكرو الغرب وأهل العقل منهم أسلموا، ولكن الذي صدهم عن الإسلام المعجزات القديمة للأنبياء القدامى، قالوا: وكل الأديان السابقة كانت تصادم العقل إلا الدين الإسلامي فإنه أتى في مرحلة وجوب نضوج العقل فلم يحتج دين الله عز وجل إلى معجزة؛ لأن المعجزات يعاقب بها المولى عز وجل منكري النبوات، والله عز وجل جعل المعجزات دليلاً على صحة وصدق الرسل، وهم ينكرونها بتاتاً.
ومحمد حسين هيثم في كتابه: (محمد) أنكر كل معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم إلا القرآن فقط، فأنكر انشقاق القمر، مع أن الأحاديث الواردة في انشقاق القمر لرسول صلى الله عليه وسلم بلغت حد التواتر ومع هذا أنكرها، فهم إما أن يؤولوا المعجزات أو ينكروها.
وخالفوا أهل السنة والجماعة في الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة وقالوا: إن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد، وإنما يؤخذ بالحديث المتواتر، فخالفوا بذلك عقيدة أهل السنة والجماعة.
واختلفوا في أصل الإنسان هل هو سيدنا آدم أم لا؟ واضطربوا في ذلك اضطراباً عظيماً، ومال محمد عبده إلى أن أصل الإنسان ليس آدم، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم لآدم وآدم من تراب)، وقال: كثير من الناس البشر لا يعرفون آدم ولا حواء كأهل الصين والهند، وأنه يستوي عندهم أن يكون أصل الإنسان آدم أو القرد.
بل نقل محمد رشيد رضا عن الإمامية والصوفية: أنه كان قبل آدم المشهور آدميون كثيرون، يعني: آدم وآدم وآدم وآدم، ونقل عن الإمامية: أن الله تبارك وتعالى خلق قبل آدم ثلاثين آدماً، بين كل آدم وآدم ألف سنة! فهم يأتون بكلام الشيعة ويردون الأحاديث الصحيحة المتواترة.
وأما مقالته في الملائكة فأغرب وأعجب، يقول محمد عبده عن الملائكة: يشعر كل من فكر في نفسه ووازن بين خواطره أنه عندما يهم بأمر فيه وجه للحق والخير ووجه للباطل أن في نفسه تنازعات، فنوازع الخير عند الإنسان هذه هي الملائكة! وأين يأتي بحديث مجيء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض الثياب لا يرى عليه أثر غبار السفر، وجعل يسأله؟! فهل كانت مواد الخير هذه ممثلة في شخص تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثه وتكلمه؟! ويقول في قول الله عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]: كل هذا من القصص التمثيلي، يعني: لم يكن هناك سجود ولا شيء، نسأل الله أن يثبت علينا عقولنا.
ويقول: إن الله تعالى لما خلق الأرض ودبرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها ونظامها، جعل كل صنف من القوى مخصوص بنوع من أنواع المخلوقات لا يتعداه ولا يتعدى ما حدد له من الأثر الذي خص به، وخلق بعد ذلك الإنسان وأعطاه قوة يكون بها مستعداً للتصرف في جميع هذه القوى، وتسخيرها في عمارة الأرض، فعبر الله عن تسخير هذه القوى له بالسجود! فهل يصح أن يقال: إن الله عز وجل عبر عن تسخير كل ما في الأرض لابن آدم بسجود الملائكة لآدم؟! هذا القول لا يقوله أحد.
وأما عن عقيدته في الجن فيقول: إن الجن لا يستبعد أن يكونوا عالم الميكروبات.
ويقول في قول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]: المس هو: الصرع والأمراض العصبية، وسببها بإذن الله تلك الجراثيم التي تدخل جسم الإنسان! ويقول في قول الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] عن الشيطان وقبيل الجن: تلك الميكروبات ترانا من حيث لا نراها، ولكن الله سبحانه مكننا من رؤيتها بالميكرسكوبات! وأما الحديث الذي رواه الإمام البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه والدارمي وأحمد وفيه: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم) فيقول عنه: لا شك أن الجراثيم تلك تجري في خلايا جسم الإنسان وفي دمه، حيث تنقل الأمراض وتسري في البدن! ويقول في الحديث الذي رواه الإمام مسلم وأحمد والدارمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه؛ فإن الشيطان يدخل مع التثاؤب): ولا شك أن الفم من أهم مداخل الميكروبات إلى جسد الإنسان، ولاسيما إذا كان في حال التثاؤب، فقد يلج منه ذباب أو ميكروبات وجراثيم لا نراها، فوضع اليد على الفم من أجل ألا تدخل الميكروبات! ويقول في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات؛ فإن الشيطان يبيت على خياشيمه): ولا شك أن الخياشيم من مداخل الميكروبات إلى جسم الإنسان! ويقول عن حديث: (فناء أمتي بالطعن والطاعون): والطاعون أيضاً هو من فعل الميكروبات! هذا مما أخذه أهل العلم على محمد عبده.
(18/13)
انحرافات العقلانيين في التفسير
وأما انحرافاتهم في التفسير: فمنها في قول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275]، قال علماء أهل السنة والجماعة: الخلود هنا طول المكث وليس التأبيد، أي: ومن عاد إلى حل الربا واستحله فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
وأما محمد عبده ومحمد رشيد رضا فذهبوا إلى أن الرجل إذا مات مصراً على الربا فهو مخلد في النار، وخالفوا بذلك عقيدة أهل السنة والجماعةن ومالوا إلى قول أهل الاعتزال في أن الرجل آكل الربا إذا مات مصراً عليه يكون كافراً مخلداً في النار.
وأيضاً في قول الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3]، ذهبوا إلى تحديد الزواج وتقييده بواحدة، بل قال مصطفى المراغي لما اجتمع بعلماء الحنفية: انظروا إلى أحكام توافق العصر وأنا مستعد أن آتي لكم بنصوص من الشرع تؤيد ما ذهبتم إليه.
وقالوا: إن الطلاق لا يقع إلا أمام القاضي؛ حتى يقيدوا الطلاق.
ومن انحرافاتهم أيضاً: قولهم في قول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43]: إن العلة هنا مطلق السفر أو مطلق المرض، فقالوا: يجوز للرجل إذا كان مسافراً أو مريضاً ووجد الماء أن يتيمم مع وجود الماء.
وهذا الكلام قاله محمد عبده ومحمد رشيد رضا، ولم يقل به أحد من أهل العلم.
وقالوا في قول الله عز وجل: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:157 - 158]، وقوله عز وجل: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران:55]: إن عيسى عليه السلام توفاه الله عز وجل وقبضه إليه وأنه قد مات، وخالفوا بذلك عقيدة أهل السنة والجماعة، وأنكروا رجوع المسيح في آخر الزمان، وردوا هذه الأحاديث.
قال الشيخ محمود شلتوت وهو يتكلم عن العلماء الأفاضل الذين حكوا التواتر، وهم (22) عالماً: الإمام الطبري والإمام ابن كثير والإمام القرطبي والحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام السفاريني وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والسبكي والذهبي والألباني والغماري والكوثري غيرهم.
ومحمد عمارة حكم بإسلام اليهود والنصارى، وأنهم لا يخلدون في النار، وهذا القول قاله في كتاباته، ونحن لا نفتري على الرجال، وهذا كله في كتب محمد عمارة بالطبعة وبالصفحة وبرقم السطر كذلك، فقد قال بإسلام اليهود والنصارى، وأن اليهود والنصارى الذين بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتركوا مع المسلمين في أصل التوحيد، فهم ناجون عند الله تبارك وتعالى.
(18/14)
بيان ضلالات الترابي
وأيضاً من المدرسة العقلية حسن الترابي زعيم السودان، وهذا الرجل له فكر معوج، فهو يقول: إن المرتد لا يقتل؛ لأنه يمشي تحت قانون الدولة.
ويقول أيضاً: بجواز زواج المسلمة من اليهودي أو النصراني، وقد ناظره الشيخ مناع القطان والشيخ القرضاوي ليلة كاملة في رمضان، ولكن الرجل ظل مقتنعاً بما هو عليه.
بل إنه يقول: ولعل في بعض رقص الغرب الذي هو الباليه معنىً راقياً.
ويقول: إذا وجد في الجنة باباً تاسعاً فسيدخل منه أهل الفن.
وهذا كله في كتابه (تجديد الفكر الديني).
وقال: إن الجن عبارة عن ميكروبات، وفي قوله تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل:3]، إنها الميكروبات.
وقال: إن الملائكة هي نوازع الخير، وأن آدم ليس أبو البشر، وهو يرد الأحاديث الصحيحة والمتواترة، ويقدم العقل على الشرع عند تنازعهما، فأي شيء أبقى في دين الله عز وجل؟!
(18/15)
مناظرة بين العقل والنقل
قال القائل: علم العليم وعقل العاقل اختلفا من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا فالعلم قال: أنا أحرزت غايته والعقل قال: أنا الرحمن بي عرفا فأفصح العلم إفصاحاً وقال له بأينا الله في قرآنه اتصفا؟ فأيقن العقل أن العلم سيده فقبل العقل رأس العلم وانصرفا
(18/16)
بيان انحرافات الصوفية
(18/17)
أولاً: عقيدتهم في الله عز وجل
وأما علماء الصوفية إن كان فيهم علماء فإن عقيدتهم في الله عز وجل وخاصة الفلاسفة منهم: هي القول بالحلول ووحدة الوجود.
(18/18)
ثانياً: عقيدتهم في الرسل
وأما عقيدتهم في الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم يقولون بالحقيقة المحمدية، أي: أن الله عز وجل خلق أولاً الحقيقة المحمدية، وقالوا: هي أول الكائنات، ثم من هذه الحقيقة المحمدية أو النور المحمدي خلق الله كل ما في الكون من وجود، وأول من قال هذا محيي الدين بن عربي، ثم تبعه على ذلك الجيلي وابن سبعين وعبد السلام بن حشيش شيخ أبي الحسن الشاذلي، فقالوا: إن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وجد أولاً، قال هذا عبد الكريم الجيلي في كتاب الإنسان الكامل، وقال: إن أول ما خلق الله عز وجل النور المحمدي، ومن هذا النور المحمدي خلق الله كل الكائنات.
واستدلوا بحديث جابر الموضوع الذي حكم عليه الألباني بالوضع.
(18/19)
بيان ضلالات ابن عربي
ومن تراهات الصوفية ما قاله محيي الدين بن عربي شيخ الصوفية الأكبر، وكبريتهم الأحمر في كتابه (فصوص الحكم)، قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده الكتاب، فقال لي: هذا كتاب (فصوص الحكم) فخذ واخرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة.
وقال: وهذا الكتاب أخذته مباشرة من اللوح المحفوظ، والعلماء لم يكفروه إلا بهذا الكتاب؛ لأنه قال فيه بإسلام قوم نوح، وقال: إن نوحاً مكر بهم ومكروا به، وأنهم كانوا يعبدون الإله الواحد في شخص الصور المتعددة.
وقال فيه بإسلام فرعون وأنه كان أعلم بربه من موسى عليه السلام.
وهذا موجود في كتاب (الفتوحات) وفي كتاب (فصوص الحكم).
(18/20)
ثالثاً: عقيدتهم في الجنة والنار
أما عقيدتهم في الجنة والنار فإن الحلاج يقول عن الجنة: ما الجنة؟ إنها لعبة صبيان، ويقول عن النار: ما النار؟ أستطيع أن أبصق عليها بصقة فأطفئها!
(18/21)
بيان ضلال الصوفية في أمر الخضر
يقولون: كان الخضر حنفياً ولم يكن شافعياً، ويقولون: إن السرهنتي سأل الخضر: هل تصلون بالمذهب الشافعي؟ فقال له الخضر: لسنا مكلفين بالشرائع، ولكن لأن قطب الزمان شافعي فنحن نصلي وراءه على مذهبه الشافعي.
فقد اختلفوا هل كان الخضر شافعياً أو مالكياً، وهذا من جهلهم، مثل أن يأتي شخص يسأل: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحمدياً أو بيومياً؟!
(18/22)
نظرية خاتم الأولياء عند الصوفية
وأما عقيدتهم في الولاية فإنهم قالوا: كما أن للأنبياء خاتماً فالأولياء لهم خاتم، وأول من قال بنظرية الختم هذه هو الحكيم الترمذي ثم تابعه على ذلك محيي الدين بن عربي، وزاد محيي الدين بن عربي وقال: إن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، ثم تبعهم على ذلك أحمد التيجاني صاحب الطريقة التيجانية، وكان كل واحد منهم يقول: أنا خاتم الأولياء، يعني: أنهم أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم محمد عثمان المغرني صاحب الطريقة الخاتمية التي اتفقت مع الأعداء على ضرب المسلمين.
وعند الصوفية أن مقام الولاية فوق مقام النبوة.
(18/23)
مسألة ديوان الصوفية
وأما ديوان الصوفية فإنهم يقولون: إن هذا الديوان يعقد كل يوم في الثلث الأخير من الليل، وكل يوم والناس الذين هم جالسون في هذا الديوان يقررون مصير الخلائق حتى اليوم التالي: من الأرزاق، وعالم الحجب، وما فوق الحجب، وما يكون في الملكوت! ويقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر هذا الديوان مع زوجاته، وتحضره الملائكة أيضاً.
ويقولون: إن لغة أهل الديوان اللغة السريانية إلا في وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فباللغة العربية؛ احتراماً لقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الديوان يعقد في غار حراء، ومن الجائز أحياناً أن يعقد في صحراء السودان! ويقولون: إن الأولياء ينظرون في اللوح المحفوظ، وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن الله خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء، كفتاه من ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، عرضه ما بين السماء والأرض، ينظر الله عز وجل فيه كل يوم 360 نظرة، يخلق بكل نظرة ويحيي ويميت، ويفعل ما يشاء.
(18/24)
قول المتصوفة بجواز رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة
وتراهات الصوفية هذه امتد أثرها إلى بعض الاتجاهات الإسلامية حتى إن بعض إخواننا في الهند وباكستان يقولون بجواز رؤيتهم للملائكة وللأنبياء يقظة، كما يقول الصوفية بجواز رؤيتهم لرسول صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، وهذا القول ما قال به أحد من أهل العلم، وكان بعض المتصوفة من التبليغ في الهند وباكستان يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر إلى مدرسة العلوم بديوبن، وهي أصل جماعة التبليغ، وأنه يعد الحساب للكشف الختامي لدار العلوم بديوبن.
وهذا قول باطل.
(18/25)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:11   رقم المشاركة : 24
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الحث على اتباع الكتاب والسنة
قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، وفضل الله: الإسلام، ورحمته: القرآن.
وقال الله تبارك وتعالى في محكم آياته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
وقال رسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون).
قال ابن المبارك: هم عندي أصحاب الحديث، وكذا قال يزيد بن هارون والإمام ابن المديني، وقال الإمام أحمد: إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة هم أصحاب الحديث فلا أدري من هم.
وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1 - 2].
وحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته حياً، فلا ترفع خزعبلات الأذهان ولا نتائج الأفكار العفنة فوق هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أحالك على غير حدثنا وأخبرنا فإنما يحيلك على قياس فلسفي أو على ذوق صوفي، ولولا حدثنا وأخبرنا ولولا عبد الرزاق وأمثاله لما وصل إلينا من الكتاب شيء.
وقال الله تبارك وتعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، قال ابن عباس: سبيل وسنة.
وقال الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية:18]، قال الحسن: على السنة.
وقال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:121]، قال عطاء: يتبعونه حق اتباعه، ويعملون حق العمل به.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]، قال الحسن: الكتاب هو: القرآن، والحكمة هي: السنة.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، قال سعيد بن جبير: ثم استقام ولزم السنة والجماعة.
وقال شمر بن عطية: ((ثُمَّ اهْتَدَى)) أي: للسنة.
وقال الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، قال ابن عباس: أما الذين ابيضت وجوههم فأهل السنة والجماعة وأولوا العلم، وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدع والضلالة.
وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، قال عطاء: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم اتباع الكتاب والسنة، وليس اتباع الذوق.

(18/26)


بيان انحراف الصوفية عن اتباع الكتاب والسنة
فهم يقولون: حدثني قلبي عن ربي هكذا مباشرة! ويقولون: خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله! وهذا البحر هو بحر الشطحات، ويقولون: إنكم تأخذون علمكم من ميت عن ميت، ونحن نأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت! ويقولون: نحن لا نحتاج إلى طريق؛ فقد وصلنا.
قال الجنيد: نعم وصلوا ولكن إلى سقر.
ولسان حالهم كما قيل عنهم: ويقول قلبي: قال لي: عن سره عن سر سري عن قفا أحوالي عن حضرتي عن فكرتي عن بلوتي عن صفو ذاتي عن صفات فعالي دعوى إذا ألفيتها حققتها ألقاب زور لفقت بخيال وكما يقول القائل: وقالوا: سكرنا بحب الإله وما أسكر القوم إلا القصع كذاك البهائم إن أشبعت يرقصها ريها والشبع وقيل: أقال الله: زمر لي وطبل وقل كفراً وسمي الكفر ذكر؟!

(18/27)


بيان فضل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54].
وقال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
قال الحسن: ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فعلامة محبتك لله عز وجل حب اتباعك لرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، فالحواريون من هذه الأمة هم الذين يتبعون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} [الصف:14]، وأعظم شيء أن تكون نصيراً لله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم رقى المتبع لسنته صلى الله عليه وسلم وخلع عليه اسم الحواري.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أناساً من أمتي يأتون بعدي يود أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد أمتي حباً لي قوم يكونون بعدي يود أحدهم أنه فقد أهله ماله وأنه رآني).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم زمان صبر).
أي: صبر على السنة، وهذا أفضل أنواع الصبر؛ لأنه صبر على الطاعة, وهو أفضل وهو من الصبر عن المعصية ومن الصبر على الفتن.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم زمان صبر، للمتمسك فيه منهم أجر خمسين شهيداً منكم).
أي: من الصحابة، يعني: المتمسك بالسنة في هذا الزمان له أجر خمسين شهيداً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر).
وعن ابن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طوبى للغرباء، أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصهم أكثر ممن يطيعهم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة: (أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ قالوا: بلى، قال: إن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، فالسنة معه، وقد كان جبريل عليه السلام يدارسه السنة كما يدارسه القرآن.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن -أي: القرآن فقط-، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله).
فقوله: (ألا يوشك رجل شبعان) يعني: لا يقول هذا إلا الشبعانون المترفون.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فيسرى اختلافاً كثيراً).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه عمر وقال له: (يا رسول الله! إنا نسمع أحاديث من يهود فتعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوكون أنتم بعدي -يعني: أمتحيرون أنتم بعدي- كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي).
وفي لفظ الدارمي: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى الرسول صلى الله عليه وسلم بنسخة من التوراة فقال: يا رسول الله! هذه نسخة من التوراة، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل عمر يقرأ ووجه رسول يتغير، فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكل يا ابن الخطاب! -يعني: ثكلتك الثواكل أن أغضبت رسول الله-، أما ترى ما بوجه رسول الله، فنظر عمر إلى وجه رسول الله، فقال: أعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله، رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى عليه السلام فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حياً وأدرك نبوتي لاتبعني).
فلا تأخذ برأيك ولا بعقلك وتقدمهما على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(18/28)


من أقوال الصحابة في الحث على اتباع الكتاب والسنة والتمسك بهما
قال علي بن أبي طالب: (لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أحق بالمسح من ظاهره، ولكني رأيت رسول صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهرهما).
وعن حذيفة بن اليمان: أنه أخذ حجرين وضع أحدهما على الآخر، ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله! ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً، قال: والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور، والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا: تركت السنة.
يعني: يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً.
وقال ابن مسعود: اتبعوا ولا تبتعدوا؛ فقد كفيتم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: أما تخافون أن تعذبوا وأن يخسف بكم؟ أقول لكم: قال رسول صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وقال عمر؟ يعني: يقول للصحابة: والله لو قلت لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلتم: قال أبو بكر وقال عمر فيوشك أن يخسف بكم وأن تعذبوا.
وعبد الله بن عمر رضي الله عنه من رآه في طلبه لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنه مجنون، وكان يقول لـ نافع: لعل خفاً يقع على خف، يعني: لعل خفاً من ناقتي يقع على خف ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثبت عنه أنه حاد في طريق، ولما سئل قال: (وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى إلى هذا المكان تنحى فأناخ ناقته ثم ذهب إلى الخلاء)، ففعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع ولولا أصحاب المحابر لخطبة الزنادقة على المنابر.

(18/29)


من أقوال السلف في الحث على التمسك بالسنة
قال الإمام الزهري: الاعتصام بالسنة نجاة.
وقال سعيد بن جبير: لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل عمل إلا بقول، ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة للسنة.
وقال يونس بن عبيد: أصبح من عرف السنة غريباً، وأغرب منه الذي يعمل بها.
وقال يونس بن عبيد أيضاً وهو تلميذ الحسن البصري: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها.
وقال أيوب السختياني: إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله عز وجل لعالم من أهل السنة.
يعني: مثلاً لو أن رجلاً جاء من ألمانيا أول مرة إلى مصر، فإذا أراد الله به خيراً أتى به إلى مسجد من مساجد السنة من أول يوم.
وقال ابن شوذب: إن من نعمة الله على الشاب إذا تنسك أن يؤاخي صاحب سنة يحمله عليها.
وقال الإمام الأوزاعي: ندور مع السنة حيث دارت.
وقال: خمس كان عليهن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله عز وجل.
وقال أيوب السختياني: إذا حدثت الرجل بسنة فقال: دعنا منها وأنبئنا عن القرآن فاعلم أنه ضال.
وقال مكحول: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن؛ لأنها مبينة ومفسرة له.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: المتبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله عز وجل.
يعني: أن اتباع السنة في عصره أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل.
قال الألباني: هذا في زمانه، فماذا يقال في زماننا نحن؟! وقال ابن عمر: لا يزالون على الطريق ما اتبعوا الأثر.
وقال سفيان: الملائكة حراس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض.
وقال الفضيل بن عياض: إن لله عباداً يحيي الله بهم البلاد هم أصحاب السنة، ومن كان يعلم أن ما يدخل جوفه من حل كان من حزب الله.
وقال عبد الله بن المبارك: ما رأيت أحداً ألزم للسنة من أبي بكر بن عياش.
وعن عون قال: من مات على الإسلام والسنة فله البشرى بكل خير.
دين النبي محمد أخبار نعم المطية للفتى آثار لا تعدلن عن الحديث وأهله فالرأي ليل والحديث نهار ولربما غلط الفتى أثر الهدى والشمس بازغة لها أنوار وهكذا أيها الإخوة! رأينا أن هناك شرعاً وهناك عقلاً، والعقل بدون الشرع يضل ويزيغ، والشرع بدون العقل لا قيمة له، والخير كل الخير في اتباع الشرع وليس في اتباع العقل أو الوجد كما رأينا.

(18/30)


الأسئلة

(18/31)


أسباب قسوة القلوب وأسباب رقتها

السؤال
ما هي الأسباب المؤدية إلى قسوة القلب وما علاجها باختصار شديد؟

الجواب
من ضمن أسباب قسوة القلب: نسيان ذكر الله تبارك وتعالى وإهماله، جاء رجل إلى الحسن البصري فقال له: أشكو إليك قسوة قلبي، فقال: أذبه بالذكر.
وإن كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنسِ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم في ليلة أسري بي فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قيل: وما المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).
يا من يذكرني بعهد أحبتي طاب الحديث بذكرهم ويطيبُ أعد الحديث علي من جنباته إن الحديث عن الحبيب حبيب ملأ الضلوع وفاض عن جنباتها قلب إذا ذكر الحبيب يذوب ما زال يخفق دائماً بجناحه يا ليت شعري هل تطير قلوب ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أكثر من ذكر الله حتى يقول الجاهل: إنك مجنون)، والحديث صححه الحافظ ابن حجر والشيخ الألباني.
وأتى رجل إلى أبي مسلم الخولاني وكان كثير الذكر لله عز وجل فقال: أمجنون أنت يا عماه؟! قال: لا يا بني! بل هذا دواء الجنون.
ومن حديثي بكم قالوا به مرض فقلت لا أذهب الله عني ذلك المرض ويقول الشاعر: والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي ولا جلست إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تستقل الشمس فيجدها شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم)، فالغبي كل الغبي والغباوة كل الغباوة البعد عن ذكر الله تبارك وتعالى.
وقال الله تبارك وتعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وأعظم الذكر قراءة القرآن الكريم، فهو مزامير الأنس، من حضرة القدس، بألحان التوحيد، من رياض التمجيد، وهذا طعم الخبر فكيف بطعم النظر! وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
فعليكم بأحسن الحديث، والطيب من القول، والأنس بالله عز وجل، وقراءة القرآن.
قال ابن تيمية: ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري أينما ذهبت فهي معي، إن معي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال: مساكين أهل الدنيا؛ خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أجمل ما فيها؛ لذة الأنس بالله عز وجل.
ويقول ابن القيم: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً، وأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب.
فأول شيء يرق به القلب: ذكر الله عز وجل.
وثانياً مما يرقق القلوب: العطف على اليتامى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أردت أن يلين قلبك وتدرك حاجتك امسح رأس اليتيم، وادنه منك، وأطعمه من طعامك، واسقه من شرابك، يلن قلبك وتدرك حاجتك).
وأما أسباب قسوة القلوب فمنها: التسويف، قال أحد الصالحين: أنذرتكم سوف؛ فإنها جند من جنود إبليس.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل)، فقوله: (ويهلك آخرها بالبخل والأمل) أي: بالتسويف.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله عز وجل آنية في الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).
وتقسو القلوب أيضاً بكثرة الطعام، والأصل كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني جواز الشبع أحياناً، وأما أن تأكل كل يوم وتملأ بطنك فهذا لا يصح.
وأتى رجل إلى الحسن فقال له: علمني كيف أقوم الليل، فقال: صف لي أكلك كيف تأكل؟ قال: آكل حتى أشبع، قال: يا بني! ذاك أكل البهائم، قال: صف لي شربك، قال: أشرب حتى أرتوي، قال: ذاك يا بني! شرب الأنعام، اذهب يا بني! فتعلم الأكل والشرب، ثم ائت أعلمك قيام الليل.
ولذلك يقول الإمام ابن القيم في كتاب (الفوائد): قيل لرجل من الصالحين: فلان يأكل في اليوم ثلاث أكلات، فقال: قولوا لأهله: يبنوا له معلفاً.
ومما يرق به القلب كثرة الصوم، وأكثر ما يدر الدمع في العين الصوم.
نزف البكاء دموع عينك فاستعر عيناً لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للدموع تعار وأنت جرب عندما تصوم تجد أن القلب يرق وتذرف الدمعة، كما قال العلامة القسطلاني.
وآخر ما قرأت في كتاب (تاريخ أصبهان): أنه كان هنالك رجل من أصحاب الحديث مكث أربعين سنة هو وابنه وامرأته يصومون، وكان يسرد الصوم سرداً.
وما مات عمر وعثمان رضي الله عنهما حتى سردا الصوم سرداً، ومات عثمان رضي الله عنه وهو صائم.
وتجد الأعاجيب في حكايات السلف عن الصوم، فمنهم من صام أربعين سنة لا تشعر به زوجه، فكان يخرج بطعامه من البيت ويتصدق به في عرض الطريق، فإذا أتى إلى حانوته ظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، وإذا أتى إلى بيته بعد المغرب ظنوا أنه قد أكل ما أخذه من طعام.
وأيضاً قيام الليل مما يرق به القلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة منكم إلى ربكم، ومنآة عن الإثم، ومكفرة للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد).
قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وأيضاً مما يرق به القلب: البعد عن المخالطة الكثيرة للناس، فالأنفاس الصادرة من العصاة تعكر الجو وتغبره، والمخالطة الكثيرة للناس والكلام الكثير معهم مما تقسو به القلوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك بطول الصمت وحسن الخلق، فوالذي نفسي بيده ما تجملت الخلائق بمثلهما).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

(18/32)


معنى قول المعتزلة سميع بلا سمع وبصير بلا بصر

السؤال
ما معنى: سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعليم بلا علم؟

الجواب
معنى هذا الكلام: أنهم أثبتوا الأسماء فقط لله عز وجل، فأثبتوا له مطلق الوجود بدون أي صفة، وعلماء أهل السنة والجماعة قالوا: إن أسماء الله عز وجل اشتقت منها صفاته، فالعليم معناه: ذات علية متصفة بصفة العلم، والحكيم ذات علية متصفة بصفة الحكمة، والخبير ذات علية متصفة بصفة العلم، والقدير ذات متصفة بصفة القدرة، وهم نفوا الصفات وعطلوها تماماً ولم يثبتوا لله تبارك وتعالى صفة.
والله أعلم.

(18/33)


بيان حال سيد قطب

السؤال
هناك من يقول: إن الشيخ سيد قطب يقول بوحدة الوجود وأن عقيدته أشعرية، هل هذا صحيح؟

الجواب
بداية يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني عن الشيخ سيد قطب: إن الشيخ سيد قطب لم يكن عالماً، وحرام على الناس أن يحاسبوه حساب العالم، يعني: الشيخ سيد قطب كان داعية عظيماً، ولكنه لم يكن عالماً كـ ابن تيمية أو الشوكاني أو الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو ابن باز أو غيره، فالرجل دخل مؤخراً في الحركة الإسلامية ولم يطلع على عقيدة أهل السنة والجماعة، ومن الإنصاف ألا تبخس الناس ما قدموه للإسلام من خدمات، ثم إن كانت عندهم آثار سيئة أو أخطاء فتذكر الأخطاء، ولكن من الإنصاف أن تذكر بداية الحسنات، وكما قالوا: إن الماء إذا بلغ القلتين لا يحمل الخبث، فلا تأتي إلى داعية مثل الشيخ سيد قطب وتنسفه نسفاً ولا تذكر له حسنة واحدة.
وقال الشيخ محمد إسماعيل المقدم عنه: يكفيه أنه دفع حياته من أجل دينه، وأنه أشار بسبابته وقال: إن هذه السبابة التي نشير بها إلى الله عز وجل لا تسجد لغير الله عز وجل، وهذا من باب إنصاف الشيخ سيد قطب، ولا نقول عليه ما قاله الشيخ ربيع بن هادي المدخلي، والشيخ ربيع بن هادي المدخلي كلامه عن الشيخ سيد قطب وإن كان فيه حقائق إلا أنه كلام جاف، وإن كان أغلبه كلام علمي ولكنه كلام جاف، وظاهر كلامه أنه ليس لـ سيد قطب حسنة واحدة، والشيخ الألباني يقول عن سيد قطب: إن بعض كتاباته عليها نور العلم، مثل كتاب (معالم في الطريق)، ففيه فصل عليه نور العلم، وهو فصل لا إله إلا الله منهج حياة، قال: وأما كتابه العدالة الاجتماعية فلا يساوي شيئاً.
والشيخ سيد قطب له أخطاء جمعها الشيخ أحمد الدويش في كتابه (المورد الزلال في الرد على أخطاء الظلال)، ومن ضمن هذه الأخطاء: أن الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله كان يقول: إن أحاديث الآحاد لا يحتج بها في مجال العقائد، وأخطأ في هذا.
ومن ضمن أخطاء الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله عليه: أنه أول بعض الصفات مثل صفة الاستواء في قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وأخطأ في هذا، ورد عليه الشيخ الدويش، وقد زل به قلمه في أوائل سورة الحديد وفي سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، ورد عليه الشيخ الدويش، ولأنه لم يكن عالم حديث فقد رد بعض الأحاديث مثل حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم الموجود في البخاري، فللرجل أخطاء نتجنبها ونأخذ من حسناته فقط؛ حتى نكون في إنصاف والله أعلم، أما أن نحاسبه على أنه كان عالماً فالشيخ سيد قطب لم يكن عالماً.

(18/34)


المراجع والمصادر لهذه المحاضرة
السؤال الأول: المطلوب من فضيلة الدكتور أن يرشد الإخوة إلى المراجع والمصادرة لهذه المحاضرة لكي يرجعوا إليها؟

الجواب
المراجع هي كتاب (المدرسة العقلية) للدكتور فهد بن زيد الرومي، وكتاب: (المدرسة العقلية وانحرافاتها)، و (منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير) للدكتور فهد بن عبد الرحمن سليمان، وهناك (طوام وانحرافات في المدرسة العقلية في التفسير والعقائد)، وكتاب: (محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة)، ومحمد عمارة يأتي في جريدة الشعب كل يوم ثلاثاء وجمعة، وكتاب: (الفكر الصوفي) للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وكتاب: (العقلانيون أفراخ المعتزلة)، وكتاب: (المعتزلة بين القديم والحديث) للشيخ محمد عبده وطارق الحليلي، وكتاب: (منهج الأشاعرة في العقيدة) للشيخ سفر الحوالي، وكتاب: (صلاح الأمة في علو الهمة) المجلد الثاني لصاحبكم العبد الفقير إلى الله.

(18/35)


الإمام أحمد بن حنبل
لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه مثل وقدوة، فما بلغوا ما بلغوا إليه من توفيق الله لهم ورضائه عنهم إلا بزهدهم وورعهم وخوفهم من الله عز وجل، وممن اقتدى بهم في ذلك الإمام الجليل أحمد بن حنبل، فكانت حياته حافلة بالاستقامة على دين الله، والصبر على محاربة البدع.

(19/1)


مولد الإمام أحمد بن حنبل ونشأته
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
نمضي مع سلسلة شيوخ الإسلام.
كن بالخير موصوفاً ولا تكن للخير وصّافاً، فإن الواو والراء والدال لا تشم منها رائحة الورد.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل فتيلة المصباح تضيء للناس وتحرق نفسها)، واليوم موعدنا مع الإمام حقاً وشيخ الإسلام صدقاً أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني أحد الأئمة الأربعة، وإمام أهل السنة والجماعة.

(19/2)


خوف الإمام أحمد من الله
كان الإمام أحمد إذا ذكر الموت خنقته العبرة، وكان يقول: الخوف يمنعني من أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموت هان عليّ كل أمر الدنيا، إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنما هي أيام قلائل، ما أعدل بالفقر شيئاً، لو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر.
قال الإمام أحمد: أريد أن أكون في شعب من شعاب مكة حتى لا أعرف، لقد بليت بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحاً ومساءً.
يقول ذلك من خوفه من الشهرة.
قال المروزي: ذكر لـ أحمد أن رجلاً يريد لقاءه، فقال: أليس قد كره بعضهم اللقاء يتزين لي وأتزين له.
التقى سفيان الثوري بـ الفضيل بن عياض فتذاكرا فرقاً فدمعت أعينهما، فقال الإمام سفيان الثوري: إني لأرجو أن يكون مجلسنا هذا خير مجلس جلسناه علينا بركة، قال: ترجو هذا؟ إني أخاف أن يكون أشأم مجلس جلسناه علينا شؤماً.
فقال سفيان للفضيل: لم؟ قال: ألست عمدت إلى أحسن ما عندك من الكلام فأخرجته لي، وعمدت أنا إلى أحسن ما عندي من الكلام فأخرجته لك فتزينت لي وتزينت لك، فراءيتني وراءيتك، فعبدتني وعبدتك! فبكى سفيان وقبّل رأس الفضيل بن عياض وقال: أحياك الله كما أحييتني.
قال الإمام أحمد: ليتنا نترك الطريق ما كان عليه بشر بن الحارث الحافي.
فقلت له: إن فلاناً يقول: لم يزهد أبو عبد الله في الدراهم وحدها، بل زهد في الناس.
فأنت تجد الرجل يملك مليون جنيه، يريد أن يدخل انتخابات الشعب ومجلس الشورى، وهو يعلم أنه لا أحد يعلم، وأنه ساقط ساقط، فينفق منها ربع مليون جنيه.
إذاً: الرجل يبذل المال من أجل الشهرة، فالزهد في المال شيء بسيط جداً، وإن كانت الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة وأنت تركتها كلها فإن الزهد قصر الأمل، والزهد الزهد في النفس؛ فلما قيل للإمام أحمد أنت لم تزهد في الدراهم وحدها، بل زهدت في الناس، قال: ومن أنا حتى أزهد في الناس؟ الناس يريدون أن يزهدوا فيَّ.
هذا هو الإمام أحمد، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(19/3)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:12   رقم المشاركة : 25
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

قراءة الإمام أحمد للقرآن وصبره على مرضه
قال عبد الله بن الإمام أحمد: كان أبي يقرأ كل يوم سبعاً من القرآن، يختمه كل أسبوع مرة.
وكان الإمام أحمد يخرج لطلب الحديث وهو غلام صغير قبل صلاة الفجر، فكانت أمه تستحلفه بالله أن يمكث في البيت حتى يؤذن المؤذن لصلاة الفجر ثم يخرج لطلب الحديث.
وكان الإمام أحمد يحيي الليل وهو غلام، بات معه رجل من علماء الحديث فأعد له وضوءه من الليل، فلما أصبح أتى فوجد الماء على حاله فقال: طالب علم لا يكون له ورد من الليل! قال: إني على سفر فقال: حج مسروق فما مات إلا ساجداً، يعني ما أتى عليه الليل إلا وهو ساجد متنفل وهو في سفره للحج.
قال صالح: كان أبي إذا دعاه رجل يقول: ليس يحرز الرجل المؤمن إلا حفرته.
الأعمال بخواتيمها، ثم لما كان في مرض الموت قال: أخرج لي كتاب عبد الله بن إدريس وقال: اقرأ عليّ حديث ليث: إن طاوساً كان يكره الأنين في المرض قال: فما سمعت لأبي أنيناً حتى مات.
ودخلت عليه امرأة وهي مخة بنت الحارث الحافي فقالت: يا إمام! أنين المريض شكوى؟ وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم فقال: والله ما سئلت عن مثل هذا السؤال من قبل، ثم قال لها: نرجو أن لا يكون كذلك، وما علم الإمام أحمد بهذه المسألة إلا في مرض الموت فما أنَّ حتى مات.
ثم قالت له: إنا نغزل غزلنا على ضوء مصباح الشارع فإذا مر قوم من الظاهرية -وكانوا ظلمة- ربما غزلنا بعض الغزل على ضوء مصباحهم، فهل نبيّنه للناس؟ فقال: بينيه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
ثم قال الإمام لابنه عبد الله: اتبعها يا بني! فانظر أي البيوت تدخل، فقال: دخلت في بيت بشر، قال: من بيتهم خرج الورع.
وكان الإمام أحمد إذا سئل عن مسألة من مسائل الزهد والورع قال: تسألونني عن الزهد وفيكم بشر، مثل هذه لا تخرج إلا من بيت بشر.

(19/4)


تبرك الإمام أحمد بآثار النبي صلى الله عليه وسلم
قال عبد الله بن أحمد: كان أبي يأخذ شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فيضعها على فيه يقبِّلها، وربما وضعها على عينه، وربما غمسها في الماء وشربه يستشفي به؛ وهذا خاص بآثار النبي صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: ورأيت أبي أخذ قصعة النبي صلى الله عليه وسلم فغسلها في زير الماء ثم شرب فيها.
قال الإمام الذهبي: قلت: أين المتنطع المنكر على أحمد؟ وقد ثبت أن عبد الله بن الإمام أحمد سأل أباه عن لمس رمانة منبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أرى بذلك بأساً -أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج ومن البدع-

(19/5)


بعد الإمام أحمد عن الولاة وعطاياهم
ذكر أن الإمام أحمد أتت عليه ثلاثة أيام ما طعم فيها شيئاً، فبعث إلى صديق له يلتمس منه دقيقاً، فجهّزوه للإمام أحمد بسرعة وعملوا له عشاءً كي يأكل سريعاً، فقال: كيف ذلك؟ فقالوا: تنور صالح مسجر، فقال: ارفعوا.
ولم يأكل؛ وذلك لأن ابنه صالح كان يقبل هدايا وأعطيات الخليفة، ثم قام فأمر بشد باب بينه وبين صالح لكونه كان يأخذ جائزة المتوكل.
هذا هو الإمام أحمد! كان أبعد الناس عن مجلس السلاطين، يقول سعيد بن المسيب: إذا رأيتم العالم يرتاد أبواب الأمراء فاشهدوا أنه لص.

(19/6)


زهد الإمام أحمد بن حنبل وقيامه الليل
قال الإمام أحمد لبعض أصحابه لما ذكر الدنيا: قليلها يجزئ وكثيرها لا يجزئ.
وذكر الإمام أحمد الفقر فقال: مع الفقر الخير، وكان الإمام أحمد يؤثره على الدنيا.
ولو لم يكن للفقر إلا أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام يستريحون من تعب يوم القيامة، والله عز وجل يختار لنبيه دائماً الأكمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) (من أصبح منكم آمناً في سربه) أي: مطمئناً على أولاده وعلى نفسه (معافى في بدنه) أي: عنده صحة، (عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).
وهذا رجل غني جداً كان يقول لهم: وددت لو أتخذ كل ملكي وآكل الأكلة التي أنتم تأكلونها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً).
كان يمر الهلال، والهلال، والهلال ولا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، وكان يعيش على الأسودين: التمر والماء.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوى من شدة الجوع وما يجد من الدقل ورديء التمر إلا ما يسد به جوفه، وما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً قط من يوم أن بعثه الله، ولا رأى شاة سمينة قط.
وسيدنا يوسف عليه السلام ما كان يشبع وهو على خزائن مصر، يقول: أخاف أن أشبع وأنسى الجياع.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو لبست فأفنيت، أو أكلت فأبليت).
قال صالح: ربما رأيت أبي يأخذ الكسر (كسر الخبز) ينفض الغبار عنها، ويصيرها في قصعة ويصب عليها ماء ثم يأكلها بالملح، وما رأيته اشترى رماناً ولا سفرجلاً ولا شيئاً من الفاكهة إلا أن تكون بطيخة فيأكلها بخبز وعنب وتمر.
قال صالح: قال لي أبي: كانت والدتك تغزل غزلاً دقيقاً فنبيع الأستار بدرهم أو أقل أو أكثر فكان ذلك قوتنا.
قال: وكنا إذا اشترينا الشيء نستره عن أبي كي لا يراه فيوبخنا، وكان ربما خُبز له فيجعله في فخارة مع عدس وشحم، وقليل من التمر فيجيء الصبيان فيصوت بعضهم فيدفعه إليهم.
فالإمام أحمد يعطيهم الفخارة وفيها قليل من التمر فيضحكون منه ولا يأكلون، وكان يأتدم بالخل كثيراً، وكانت له قلنسوة خاطها بيده فيها خط، فإذا قام من الليل لبسها، وكنا نسمعه كثيراً يقول: اللهم سلم اللهم سلم، أتى إليه رجل وعليه فرو خلق وخريقة على رأسه، وهذا الرجل حاف في برد شديد فسلم عليه وقال: يا أبا عبد الله! قد جئت إليك من موضع بعيد ما أردت إلا السلام عليك، وأريد عبادين، وأريد إن أنا رجعت أسلم عليك، فقال: إن قدر، فقام الرجل وسلم وأبو عبد الله قاعد، فما رأيت أحداً قام من عند أبي عبد الله حتى يقوم أبو عبد الله له إلا هذا الرجل.
فقال لي أبو عبد الله: ما أشبهه بالأبدال، أو قال: إني لأذكر به الأبدال، وأخرج إليه الإمام أحمد أربعة أرغفة وقال: لو كان عندنا شيء لواسيناك.
وقال المروزي: قلت لـ أبي عبد الله: ما أكثر الداعي لك.
قال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً بأي شيء.
وقلت: قدم رجل من طرسوس فقال: إنا كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء لـ أبي عبد الله، وكنا نمد المنجنيق ونرمي عن أبي عبد الله، ولقد رمي عنه بحجر والعلج متترس بدرقة، فلما رموه بالحجر ودعوا باسم أبي عبد الله فذهب الحجر برأس هذا الفارس، فتغير وجه أبي عبد الله وقال: ليته لا يكون استدراجاً ومكراً.
هذا خوف الكبار على أنفسهم.
وقال المروزي: رأيت طبيباً نصرانياً خرج من عند أحمد ومعه راهب فقال: إنه سألني أن يجيء معي ليرى أبا عبد الله.
وقال علي بن أبي فزاره جارنا: كانت أمي مقعدة -أي: مصابة بالشلل- من نحو عشرين سنة، فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل فسله أن يدعو لي.
فأتيت إلى الإمام فدققت عليه في دهليزه، فقال: من هذا؟ قلت: رجل سألتني أمي وهي مقعدة أن أسألك الدعاء لها، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب وقال: نحن أحوج أن تدعو هي لنا، ثم قال: فوليت منصرفاً وأنا حزين، فخرجت عجوز وقالت: قد تركته يدعو لها.
فقال: فدققت الباب، فخرجت أمي على رجليها تمشي.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: كان أبي في كل يوم وليلة يصلي ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من تلك الأسواط أضعفته، فكان يصلي كل يوم مائة وخمسين ركعة، وهنا يستفاد شيء فقهي أن صلاة الليل من النفل المطلق؛ وأفضل الصلاة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ما زاد عن إحدى عشرة ركعة، أو عن ثلاث عشرة ركعة، ولكن هذا الحديث لا يدل على المنع من أن تزيد على الثلاث عشرة ركعة أو إحدى عشرة ركعة، وليس في الزيادة ابتداع لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر ركعة كما يقول تميم الداري: كنا نقرأ بالمئين، وكنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا عند طلوع الفجر خشية أن يفوتنا الفلاح (السحور).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن تكثير الركعات كانت عوضاً عن طول القيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ركوعه نحواً من قراءة خمسين آية، وسجوده نحواً من ذلك، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن قدامة والإمام النووي وابن عبد البر وجماهير علماء المسلمين، والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، فالمراد: صلاة معظم الليل والله أعلم.

(19/7)


منزلة الإمام أحمد بن حنبل عند العلماء المعاصرين له
كان شيخه يزيد بن هارون كثير المداعبة والمزاح، فما كان يترك المزاح إلا في حضور الإمام أحمد فكان يترك المزاح أدباً، وكان يوقره ولا يمازحه.
قال قتيبة: وأشار إلى أحمد بن حنبل: إذا رأيت رجلاً يحب أحمد فاعلم أنه صاحب سنة، ولو أدرك أحمد سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد لكان هو المقدم عليهم.
وقيل لشيخه قتيبة بن سعيد: يضم أحمد إلى التابعين، قال: إلى كبار التابعين، لولا أحمد لأحدثوا في الدين، أحمد إمام الدنيا بأسرها.
وقال الشافعي: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل والإمام أحمد بن حنبل قال عن شيخه الشافعي: ما من رجل مس محبرة ولا تناول قرطاساً إلا وللشافعي في عنقه منة ودين، كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن؛ فانظر هل عن هذين من عوض؟ هذا أدب الشيوخ وأدب التلامذة مع شيوخهم.
وقال إسحاق بن راهويه رحمه الله: أحمد حجة بين الله وبين خلقه.
وقال علي بن المديني: أحمد أفضل عندي من سعيد بن جبير في زمانه؛ لأن سعيداً كان له نظراء -أي: ناس أمثاله في العلم- ولم يكن لـ أحمد نظراء.
وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام حافظ الحديث: إني لأتدين بذكر أحمد بن حنبل، ما رأيت رجلاً أعلم بالسنة منه، وكان أهل الحديث الحفاظ في مجلس فيه يحيى بن معين وأبو خيثمة فجعلوا يذكرون الإمام أحمد فقال رجل بعض هذا: أنتم كل جلسة تقضونها في ذكر أحمد بن حنبل أو ماذا؟ فقال يحيى: وكثرة الثناء على أحمد تستنكر؟ لو جلسنا مجالسنا بالثناء عليه ما ذكرنا فضائله بكمالها.
وقال ابن معين الإمام العظيم: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، وقال: ما رأيت من يحدث لله إلا ثلاثة: يعلى بن عبيد والقعنبي الراوي عن الإمام مالك وأحمد بن حنبل رحمه الله، كان الإمام أحمد أفضل أهل زمانه.
وقال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيته ذكر الدنيا قط، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] يعني: ما كان لهم هم ولا شاغل إلا الكلام عن الآخرة، لا يعرفون شيئاً من أمور الدنيا.
قال الشافعي: لو كُلِّفت شراء بصلة من السوق ما استطعت أن أعي مسألة من مسائل العلم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهم هماً واحداً كفاه الله سائر همومه).
وكان الإمام أحمد يرهن نعله، ولم يشتر نعله بخمسة وسبعين جنيهاً، أو أكثر، إنما هي نعل استمر في استخدامها ست عشرة سنة كما قال ابن الجوزي ورهنها يتقوت بها.
قال الحميدي: ما دمت بالحجاز وأحمد بالعراق وابن راهويه بخراسان لا يغلبنا أحد، يعني: لا يغلبنا أحد من المبتدعة، كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة.
قال أبو عمير بن النحاس الرملي عن الإمام أحمد رحمه الله: ما كان أخبره بالدنيا، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عُرضت له الدنيا فأباها والبدع فنفاها.
قال علي بن المديني: أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أحدث إلا من كتاب، وأنظر إلى أدب الكبار مع الكبار.
وهذا الإمام البخاري يقول: أشتهي أن أدخل بغداد فيحدثني علي بن المديني وأحدثه، وقال: ما استصغرت نفسي بين يدي عالم قط إلا بين يدي علي بن المديني، وعلي بن المديني هذا يقول عن الإمام أحمد: أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أحدِّث إلا من كتاب.

(19/8)


كتب الإمام أحمد وعلمه
بلغت كتب الإمام أحمد يوم مات حمل اثني عشر جملاً، ما كان على ظهر كتاب منها حديث إلا ويحفظه.
قال الإمام الحافظ إبراهيم الحربي: رأيت أبا عبد الله كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين.
وقال إسحاق بن راهويه شيخ الإمام البخاري: كنت أجالس أحمد وابن معين ونتذاكر فأقول: ما فقه هذا الحديث ما تفسيره؟ فيسكتون جميعاً إلا أحمد.
وقال أبو بكر الخلال تلميذ الإمام أحمد: كان أحمد قد كتب كتب أهل الرأي -وهم الأحناف- وحفظها ثم لم يلتفت إليها.
وقال يحيى بن آدم الإمام الحافظ: أحمد بن حنبل إمامنا.
وكان الإمام أحمد أعلم الناس قاطبة بحديث سفيان الثوري، قال شيخه عبد الرحمن بن عدي: من أراد أن ينظر إلى ما بين كتفي الثوري فلينظر إلى هذا.
وأشار إلى الإمام أحمد.
قال المروزي تلميذ الإمام أحمد: غشي على الإمام أحمد عند ابن عيينة لما زحمه الناس، فقال شيخه سفيان بن عيينة: مات خير الناس، ظن أنه قد مات لما اشتد الزحام، والإمام أحمد يقول: كفى! وهم يدوسون عليه فغشي عليه، ثم أفاق بعد ذلك رحمه الله.
أراد شيخ أن يدخل على الإمام أحمد فقال: كنا عند ابن عيينة سنة ففقدت أحمد بن حنبل أياماً فدللت على موضعه، فجئت فإذا هو في شبيه بكهف في مكان يسمى جياد بمكة بعد الصفا، فقلت: سلام عليكم أأدخل؟ قال: لا، ثم قال بعد ذلك: ادخل.
قال: فدخلت عليه فإذا عليه قطعة لبد خلق -يعني: قطعة من الصوف مقطعة- فقلت له: لم حجبتني؟ فقال: حتى استترت منك، فقلت: ما شأنك؟ قال: سُرقت ثيابي، مثل ما كانوا في مجلس مالك بن دينار فقعد الرجل يقول كلاماً فأبكى الجميع، وبعدها أتى يبحث عن نعله فلم يجده فقال: كلنا يبكي فمن سرق النعل؟ فقال هذا الرجل: فبادرت إلى منزلي فجئته بمائة درهم فعرضتها عليه فامتنع، فقلت: قرضاً فأبى.
وظل ينقصها حتى بلغت عشرين درهماً فأبى، فقمت وقلت: ما يحل لك أن تقتل نفسك، فقال: ارجع، فرجعت، فقال: أليس قد سمعت معي من ابن عيينة؟ قلت: بلى قال: تحب أن أكتبه وأن أنسخه لك؟ قلت: نعم.
فقال: اشتر لي ورقاً فاشترى له الورق، فنسخ له الإمام أحمد من كتابه في هذه الأوراق فكتب بدراهم اشترى منها ثوبين، وهذا يدل على عفّة العلماء وورعهم، وربما جمع أحدهم المرقعات من المزابل فغسلها في نهر دجلة فصنع منها ثوباً يكسو عورته، ثم يبكي ويقول: ما ضرهم ما أصابهم! جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة.
واستمع إلى العجب العجاب من إمام أهل السنة: قال الإمام أحمد: قدمت صنعاء أنا ويحيى بن معين فمضيت إلى عبد الرزاق في قريته.
الإمام أحمد اكترى نفسه عند الجمّالين حمالاً يأخذ متاع الناس الحجيج الذاهبين من مكة إلى اليمن، فكان يخدمهم وهو إمام أهل السنة، وذلك لأنه سمع أن عند عبد الرزاق الصنعاني إمام أهل اليمن ومحدثها أحاديث ليست عنده، فأراد أن يأتي إلى عبد الرزاق، ولا توجد وسيلة إلا أن يخدم قافلة للحجيج ذاهبة إلى اليمن.
ذهب الإمام أحمد ووصل إلى بيت عبد الرزاق في قريته، قال: فلما ذهبت أدق الباب، قال لي بقّال: لا تدق فإن الشيخ يُهاب، وعبد الرزاق الصنعاني كانت له هيبة عظيمة مثل الإمام مالك يقولون عنه: يدع الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان نور الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان وكان الملك العادل ملك مصر، كان إذا رأى عبد الغني المقدسي يقوم له فيقولون له: إنه فقير وإنه قارئ، قال: والله ما دخل عليَّ مرة إلا وخُيِّل إليّ أنه سبع، فالبقال يقول للإمام أحمد: لا تدق عليه الباب فإن للمشايخ هيبة، قال: فلما ذهبت أدق الباب قال لي بقال تجاه داره: مه لا تدق فإن الشيخ يُهاب، فجلست حتى إذا كان قبل المغرب خرج، فوثبت إليه وفي يدي أحاديث انتقيتها، فسلمت وقلت له: حدثني بهذه رحمك الله فإني رجل غريب.
فقال: ومن أنت؟ وزبرني -يعني كلمه بشدة- فقلت: أنا أحمد بن حنبل فتقاصر عبد الرزاق وضمني إليه، وقال: بالله أنت أبو عبد الله؟ ثم أخذ الأحاديث وجعل يقرؤها حتى أظلم الليل، فقال للبقال: هلم المصباح حتى خرج وقت المغرب، وكان عبد الرزاق يؤخر صلاة المغرب، ولما ذكر الإمام عبد الرزاق الصنعاني الإمام أحمد دمعت عيناه وقال: بلغني أن نفقته نفدت قال: فأخذت بيده، فأقمته خلف الباب وما معنا أحد فقلت: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير، إذا بعنا الغلة أشغلناها في شيء، يعني: القمح أو الذرة أو الشعير قال: وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها وأرجو أن لا تنفقها حتى يتهيأ شيء.
قا عبد الرزاق: فقال لي: يا أبا بكر لو قبلت من أحد شيئاً قبلت منك.
ولم يقبل الإمام أحمد بن حنبل.
وكان أحمد بن حنبل يصلي إماماً بـ عبد الرزاق الصنعاني فسها الإمام أحمد، فسأل عنه عبد الرزاق: لماذا سها في صلاته بالقرآن؟ فأخبر أنه لم يأكل منذ ثلاثة أيام، يعني: من شدة الجوع نسي آيات من كتاب الله عز وجل.

(19/9)


مصدر علم الإمام أحمد
قال أبو بكر بن أبي شيبة: لا يقال لـ أحمد بن حنبل: من أين قلت؟ لأنه نهر جار، ولا يقال له: أين دليلك، ودليله على ذلك السمع.
قال ابن نمير: كنا عند وكيع بن الجراح فجاءه جماعة من أصحاب الإمام أبي حنيفة، فقالوا: هل هنا رجل بغدادي؟ يقصدون الإمام أحمد، فلم يعرفه وكيع، فبينما وكيع جالس إذ طلع أحمد بن حنبل فقالوا: هو هذا! قال: هاهنا يا أبا عبد الله، فجعلوا يذكرون عن أبي عبد الله الذي ينكرون، هذا يقول: كذا! وهذا يقول: كذا! وهذا جعل أبو عبد الله يحتج بالأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا لـ وكيع: بحضرتك.
فقال: رجل يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا أقول له؟ ثم قال وكيع: ليس القول إلا ما قلت يا أبا عبد الله! فقال القوم لـ وكيع: خدعك والله البغدادي.
وقال عالم: وضع أحمد بن حنبل عندي نفقته فقلت له: يا أبا عبد الله! بلغني أنك ذو حسب ونسب، فقال: يا أبا النعمان! نحن قوم مساكين.
وقال أبو زرعة الرازي لـ عبد الله بن الإمام أحمد: كان أبوك يحفظ ألف ألف حديث -مليون حديث- قال الذهبي: هذه حكاية صحيحة تدل على سعة علم الإمام أحمد وكانوا يعدون له الأحاديث المقررة والآثار عن الصحابة وفتاوى التابعين وتفسيراتهم، كل هذا كان يحفظه الإمام أحمد، فقد بلغ ما يحفظه من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الموقوفة عن الصحابة والمقطوعة وفتاوى التابعين ألف ألف حديث، وفي عصرنا هذا الذي يحفظ رياض الصالحين يقولون عنه: شيخ!

(19/10)


زوجات الإمام أحمد وأولاده
رحل إلى الكوفة لطلب الحديث ولم يكن استأذن والدته، فرجع إلى أمه ليستأذنها في الرحلة لطلب العلم فبارك الله له في طلبه.
تزوج الإمام أحمد وهو ابن أربعين سنة فرزقه الله خيراً كثيراً.
إذاً: الإمام أحمد أجّل الزواج لسن الأربعين لشغله بطلب الحديث، وأمر الزواج يختلف من رجل إلى رجل، والأحكام الشرعية للزواج تدور بين الندب والوجوب والإباحة والكراهية والتحريم، فالرجل الذي يتعلم وليس له حاجة في النساء ولا يملك أي مال لا يتزوج؛ لأنه لو تزوج فإنه سيفتن هذه المرأة، وفي نفس الوقت هو لا يستطيع الباءة.
وشيخ الإسلام ابن تيمية لم يتزوج، والإمام النووي لم يتزوج، والإمام أحمد أخّر الزواج لسن الأربعين، فالشاب الذي لا يستطيع الزواج عليه بالصوم فإنه له وجاء، وطالب العلم الأولى له أن يؤخِّر.
تزوج الإمام أحمد عباسة بنت الفضل فولدت له أكبر أبنائه صالح ابن الإمام أحمد.
ثم توفيت فتزوج بعدها ريحانة فولدت له عبد الله، وقيل: إنها كانت عوراء اختارها لدينها.
ثم اشترى جارية اسمها حُسْن، والجارية حين ينكحها تصبح أم ولده، مثل مارية فهي لم تكن من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها كانت جارية للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أنجبت إبراهيم صارت أماً لولده، فالإمام أحمد اشترى جارية فولدت له أم علي زينب، ثم ولدت له الحسن والحسين وماتا، ثم ولدت الحسن ومحمداً فعاشا حتى بلغا سن الأربعين سنة، ثم ولدت له سعيداً.
إذاً: هذا حال الإمام أحمد وحال زوجاته.

(19/11)


مولد الإمام أحمد
ولد الإمام أحمد في ربيع الأول سنة (164هـ).
مات أبوه شاباً وتولت أمه تربيته.
أم تربي مثل الإمام أحمد وأم تربي مثل الشافعي، وأم تربي مثل سفيان الثوري، فكل أم خلفت ابناً وصنعت منه رجلاً عظيماً.
فقد كانت أم سفيان الثوري تقول: يا بني! تعلم العلم وأنا أكفيك بمغزلي هذا.
وأم الشافعي تبيع له أنقاض بيتها.
كذلك أم الإمام أحمد صنعت من ابنها رجلاً، إذ مات زوجها وهو شاب، فولدت هذه الأم الجبل الإمام العظيم أحمد بن حنبل، ولكن لا يعرف ما اسمها؟ إلا أنه يكفيها أنها صنعت الإمام أحمد.
يقول الإمام أحمد: ثقبت أمي أذني وصيّرت فيهما لؤلؤتين، فلما ترعرعت نزعتهما، فكانتا عندها ثم دفعتهما إلي، فبعتهما بنحو من ثلاثين درهماً.

(19/12)


بداية طلبه للحديث
تلقى الإمام أحمد الحديث، وكان بداية طلبه للحديث وهو ابن خمس عشرة سنة، أي: في العام الذي مات فيه مالك وحماد بن زيد.
سمع الإمام أحمد من ابن بشير، وأكثر عنه حتى سمع منه أكثر من ثلاثة آلاف حديث، وقد تأدب الإمام أحمد في مجلس شيوخه غاية الأدب، قال: ما نلنا هذا العلم إلا بالذل ولا نبذله إلا بالذل، ومكث أربع سنوات في مجلس هشيم بن بشير شيخه لا يكلمه في مسألة هيبة له.
ومن شيوخ الإمام أحمد سفيان بن عيينة الهلالي وأيوب بن النجار وأبو خالد الأحمر وعِلي بن ثابت ويزيد بن هارون.
فالإمام أبو خالد كان يجلس له في مجلس الدرس تسعون ألفاً، وقد روى الإمام أحمد في المسند عن مائتين وثمانين شيخاً من شيوخ الحديث، وكتب عنه شيخه هشيم بن بشير ثلاثة آلاف حديث.

(19/13)


الدعوة إلى دين رب العالمين
إن الدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، فقد بذلوا في سبيلها الغالي والنفيس.
وطريق الدعوة طريق طويل، فقد تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، وشق بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وعاش مع الوحوش عيسى، وأوذي فيه محمد صلى الله عليه وسلم.
فقم بواجبك أيها المسلم تجاه الدعوة إلى الله تكن من الفائزين.

(20/1)


مكانة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأهميتها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: فيقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64].
ويقول تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22].
وقال تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:41 - 44].
أناضل إلى دين عظيم وهبته عطاء مقل مهجتي وحياتي وممتثل لله أسلم وجهه يقول أنا وحدي سأحمي ديني بظهري ببطني بالضلاع بمقلتي بجنبي بعظم الصدر حتى التراقي على ذروة التوحيد تخفق رايتي وتحت روابيها تصب دمائي إن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى عظيمة كريمة رفيعة في كل ما يمت إليها بصلة، رفيعة لأن الله هو العلي، وكريمة لأنها أتت إلينا: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:13 - 16].
والدعوة إلى غير الله دعوة خسيسة لئيمة، يقول الله تبارك وتعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:9 - 14].
إن الرجل يستطيع أن يعمي ويلبس على كل من في الأرض، لكنه لا يستطيع أن يعمي ويلبس على من في السماء، ويستطيع أن يكذب على أهل الأرض جميعاً، لكنه لا يستطيع أن يكذب على من في السماء، قال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13].
والدعوة إلى غير الله تبارك وتعالى لئيمة، يقول تعالى حاكياً عن فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر:26]، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
ويقول الله تبارك وتعالى عن قوم لوط: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56].
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
فهؤلاء الذين يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل لا تكون دعوتهم إلى الله تبارك وتعالى أبداً، وإنما هي دعوة إلى الطواغيت المقنعة: هبل رمز السخافة والخيانة والعمالة والدجل هتافه التهريج ما ملوا الثناء زعموا له ما ليس عند الأنبياء ملك تجلبب بالضياء وجاء من كبد السماء هو عالم ومعلم هو عبقري ملهم ومن الجهالة ما قتل وثن يقود جموعهم يا للخجل! لقد بذل الصالحون في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى الكثير، بل بذلوا الأنفس والمهج في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن هذه الدعوة ربها وسيدها ومالك أمرها هو الله تبارك وتعالى.
وقفة: إذا أردت أن تخدم فاعقل من تخدم، وإلى من تدعو، ثم ادع بعد ذلك، فحينئذ تصيب في تلك الخدمة والدعوة.
وإذا تدبرت علمت أن رب هذه الدعوة مستو على العرش، يدبر أمر الممالك، فيعز ويذل، ويداول الأيام بين الناس، ويقلب الليل والنهار، ويذهب بدولة ويأتي بأخرى، له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله.
إليه يا أهل الموت والفناء! يا من تفني آجالكم ممر الساعات، واختلاف الليل والنهار، وهما شعبة يسيرة من سلطانه، كيف تستنكفون عن عبادته ولا رب لكم غيره، ولا وارث لكم سواه، ينادى على باب عزته: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويصاح على محجة حجته: لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟! قال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:13 - 14].
وقال تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:72 - 73].
وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:15 - 16].
وقال الله تبارك وتعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} [فصلت:47]، {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111].
فكل موافق ومخالف يمشي وفق مشيئته، وتحت قبضته، يقول أبو جعفر المنصور لأحد العباد: لم خلق الله الذباب؟ قال: ليذل به أعناق الجبابرة.
هذا في دار الدنيا فكيف بقهر الله لعباده في الآخرة؟ {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:61 - 62].
إذاً: فهذه الدعوة ربها وسيدها هو الله عز وجل، وإن بذل الناس فيها ما بذلوا.

(20/2)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:13   رقم المشاركة : 26
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

تكفل الله سبحانه بنصر عباده ودعوته ودينه
إن الله تبارك وتعالى قد تكفل بنصر عباده، وبنصر دعوته، قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].
قال جبريل لأم إسماعيل عليها السلام هاجر: لا تخشي الضيعة؛ إن الله لا يضيع أهله.
فلا تنظر إلى الدعوة فإن لها رباً سيحميها ويحفظها، ولكن انظر إلى نفسك أنت، إن الله لا يضيع أهله، فاحرص على أن تكون من أهل الله، واترك الأمر إلى رب السماوات والأرض: لا تدبر لك أمراً فأولو التدبير هلكى سلم الأمر تجدنا نحن أولى بك منكا والله تبارك وتعالى يحفظ عباده بما يغيب عن عقولهم، ويحفظ عباده بالنواميس الأرضية، فالمهم أن يكون عند العباد ثقة، فهذا سيدنا نوح عليه السلام ماذا قال لقومه عندما سحروا منه بقولهم: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} [هود:38]، لم يقل: فإنا سنسخر منكم يوم القيامة، وإنما قال: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] يعني: في لحظتنا هذه وفي وقتنا هذا.
وقال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62].
ويزعم أنه منا قريب وإنا لا نضيع من أتانا ويسألنا على الإقتار جوداً كأنا لا نراه ولا يرانا وقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما)! وهذا مثال لحفظ الله لدعوته ولأنبيائه ولعباده الصالحين: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].
انظر كم قتل فرعون من أجل ذبح موسى، قتل آلافاً مؤلفة من بني إسرائيل، وجعل الجواسيس يبحثون عن أي طفل رضيع فيذبحونه، وعندما ولدت أم موسى موسى ألهمها الله تبارك وتعالى أن تلقي بولدها في لجج البحر وأمواجه، مع أن المرأة إذا خافت على وليدها ضمته إلى صدرها، فما بال أم موسى تلقيه في البحر؟ ثقة بما عند الله تبارك وتعالى، ويقيناً بما عند الله تبارك وتعالى، فألهمها الله تبارك وتعالى أن تضع ولدها في تابوت وتلقيه في البحر، فسبحان من جعل من موج البحر لموسى مستراحاً ومأمناً ومناماً، وجعل النار على إبراهيم برداً وسلاماً.
فيتهادى التابوت ليصل إلى قصر فرعون؛ لتكون المعركة في بيت فرعون، يا فرعون لقد تعبت في سبيل البحث عن موسى فها نحن قد أتينا إليك بموسى رضيعاً فافعل به ما شئت، وحينما يفتح التابوت يرى الذي قال فيه المولى تبارك وتعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، فأسر الجمال الموسوي آسية عليها السلام، وقالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9].
فماذا قال فرعون البائس؟ قال: أما لك فنعم قرة عين وأما لي فلا، والبلاء موكل بالمنطق، فنفعها الله تبارك وتعالى بهذه الكلمة فآمنت بموسى، وفرعون خذله الله تبارك وتعالى، فانظر يا فرعون كم قتلت من بني إسرائيل من أجل موسى، ونحن نقول لك: لا نربيه إلا في حجرك؛ ليكون هلاكك بعد ذلك على يده.
إن الله تبارك وتعالى يا إخوتاه! لم يحم عبده وكليمه بكوكبة من الملائكة، ولا بفرسان من البشر، وإنما حماه بستر رقيق من المحبة يغلف قلب آسية، ففرعون أهون وأحقر عند الله تبارك وتعالى من أن يوكل عليه ملكاً من الملائكة، هذا الذي طغى وعتا حمى الله تبارك وتعالى كليمه منه بقول امرأة: {لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]، فيقول لها فرعون: سمعاً وطاعة لا تَقْتُلُوهُ، فينفذ أمر آسية التي بعد ذلك آمنت بموسى، وتخلت عن ملكها وعن أبهات الملك، والمرأة بطبيعتها أضعف ما تكون أمام إغراء المجتمع، ولكن آسية الصامدة تتخلى عن هذا كله، وكانوا يعذبونها، فإذا ذهبوا عنها أظلتها الملائكة، {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].
وقلب الله تبارك وتعالى النعم التي أعطاها لفرعون نقماً عليه، فقد عذب بالماء وبكل ما يتصل بالماء، وبالجراد وبالقمل وبالضفادع، ثم كانت نهايته أن أغرقه الله تبارك وتعالى بالمياه التي افتخر بها.
يقول جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني يا محمد! وأنا أدس في فيه من حال البحر المنتن؛ حتى لا تدركه رحمة الله تبارك وتعالى)، فكونوا على يقين بنصر الله تبارك وتعالى لجنوده وأوليائه وأنبيائه وعباده الصالحين.

(20/3)


ضرورة إعطاء الدعوة حقها من التضحية والفداء
لا تسترخصوا الدعوة؛ فالدعوة غالية، فأعطوها كل أوقاتكم، ونهاية الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ومآلها إلى الجنة، ولا مستراح للعابد إلا تحت شجرة طوبى، ولقد أعطي النبيون ما أعطوا، وأعطي العلماء والدعاة ما أعطوا بالدعوة إلى الله، قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132 - 133].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت ما غفل عن الدعوة، تقول السيدة أم سلمة: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، حتى ما يفيض بها لسانه) تعني: حتى ثقل لسانه الطاهر المطهر عن أن ينطق بها، ونحن ما زلنا أحياء أقوياء أفلا نعطي الدعوة حقها؟ إن كان الله تبارك وتعالى يقول لنبيه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] يعني: تكاد تموت من الغم على هذه الدعوة، وعدم استجابة الناس لها.
تقول السيدة عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هل مر عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: يوم العقبة، يوم عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب).
يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مشى في الطريق ولم يعرفه ولم يفق إلا في قرن الثعالب؛ وذلك بسبب همه في أمر الدعوة، فقد ينطلق الرجل مهموماً للبحث عن لقمة العيش إذا وجد أولاده يصرخون من الجوع فلا يفيق إلا في منتصف الطريق، فنريد من الرجل أن يمضي في طريقه وهو مهموم يحمل عبء الدعوة، فلا يفيق إلا بعد مدة، هذا حال أنبياء الله تبارك وتعالى.
قال: (فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب، وإذا بسحابة قد أظلتني فيها جبريل، فسلم علي ثم قال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعث معي ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فسلم ملك الجبال بالنبوة ثم قال: يا رسول الله إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ولكني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً).
(وجاء أعرابي مشرك ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم تحت شجرة وسيفه معلق عليها فاخترط سيفه، ثم لوح بالسيف في وجه رسول الله فقال له: أتخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله، فيبست يده وسقط السيف منها، ثم قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أتخافني؟ قال: يا محمد! كن خير آخذ، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني لا أكون مع قوم يقاتلونك، ولا أقاتلك أبداً، فلما رجع قال: أيها الناس! جئتكم من عند خير الناس، جئتكم من عند محمد صلى الله عليه وسلم).
فالدعوة الهادئة تصل إلى قلوب الناس بسرعة، ودعوة الفطرة تصل إلى قلوب الناس بسرعة، ويتحمس لها الدعاة إلى الله تبارك وتعالى.
وهذا سيدنا أبو بكر رضي الله عنه عند أن بلغ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وثلاثين رجلاً أصر على رسول الله بالظهور بالدعوة، فقال: (إنا قليل يا أبا بكر) فما زال حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق رسول الله والصحابة كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر خطيباً بين الناس، فكان أول خطيب يدعو إلى الله تبارك وتعالى ورسول الله جالس يستمع.
قال: فقام المشركون إلى المسلمين وضربوهم ضرباً شديداً، وقام الفاسق عتبة بن ربيعة الكافر إلى أبي بكر بنعلين مخصوفتين يضرب بهما وجه أبي بكر، حتى ما يعرف أنفه من وجهه، وأقبلت بنو تيم فحملوا أبا بكر في ثوب وهم لا يشكون في موته، فأوصلوه إلى البيت ثم عادوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن مات أبو بكر قتلنا به عتبة بن ربيعة، ولم يفق أبو بكر إلا في آخر الليل، فكانت أول كلمة قالها: ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فنالوا منه بألسنتهم، ثم وكلوا به أمه أم الخير، فما زالت به، قال: والله! لا أذوق طعاماً حتى أنظر ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعث بها إلى أخت عمر بن الخطاب، ثم استند على أمه حتى وصل إلى رسول الله، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم رق له وبكى، وبكى المسلمون.
يقول سيدنا أنس: (ضرب المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى غشي عليه، فدفعهم عنه أبو بكر الصديق وقال لهم: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله، فقالوا: من هذا؟ قالوا: أبو بكر المجنون، فتلهوا به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا رسول الله، ثم أتوا إلى أبي بكر رضي الله عنه فظلوا يضربونه حتى حمله قومه إلى دارهم، فجعل أبو بكر لا يمس شيئاً من غدائره إلا وسقط معها لحم الرأس، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام!).
يقول سيدنا علي: والله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون؛ هذا يكتم إيمانه، وهذا يعلن إيمانه.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله ما لم يؤذ أحد، وأخفت في الله ما لم يخف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ما بين يوم وليلة وما لي وبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواريه إبط بلال)، ورسولكم صلى الله عليه وسلم شد الحجر على بطنه من شدة الجوع، ولله خزائن السماوات والأرض، وقتل عمه حمزة بن عبد المطلب ومثل بجثته، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، وشق رأسه، ولله جنود السماوات والأرض.
ويقول له الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1 - 5]، {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7].

(20/4)


ضرورة نشر الدعوة في كل مكان وعدم اختصاصها بالمساجد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: فلقد كان رسولكم صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تبارك وتعالى في السوق وفي الطريق، وكلكم تعلمون حديث ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك)، قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس في الطريق.
يقول سيدنا معاذ: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له: عفير، فقال: أتدري يا معاذ! ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟) قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق، فما بالنا لا ندعو إلا في المسجد، لتنتشر الدعوة حتى تشمل الطرقات، وحتى تشمل تجمعات الناس.
اصرخ بدينك في الطريق اصرخ بجرحك في رءوس لا تفيق قل: إنه الطوفان يأكلنا ويطعم من بقايانا كلاب الصيد والغربان والفئران في الزمن العقيم لا بد من الدعوة إلى الله تبارك وتعالى في الطريق وفي الأسواق، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى الأسواق يدعو إلى الله تبارك وتعالى، ويقول: (أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ويراه أبو لهب فيحثو التراب على وجهه، ويقول: لا تتبعوا هذا الصابئ، إنه يريد أن يصدكم عن عبادة اللات والعزى) ونحن يا إخوتاه! ما دعونا إلى الله ولم يحث التراب على وجوهنا، ما فعل بنا هذا، وأمامنا طريق طويل، وإن وضع على رءوسنا التراب فإننا على الدرب، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل به هذا ونحن لسنا أكرم على الله تبارك وتعالى من رسوله، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يبشرك إن ذهبت إلى السوق بأنك ستأخذ أجر دعاء السوق، والحديث حسنه الشيخ الألباني، وإن ضعفه الشيخ مقبل.
فاخرج إلى السوق وادع إلى الله تبارك وتعالى، وإن لم يكن عندك علم فقل: أيها الناس! تعالوا إلى المسجد فصلوا تدخلوا الجنة، وأظن الجميع يستطيع أن يقول هذا، إن بائع الفاكهة حين يبيع سلعته يرفع صوته عند الدعوة إلى بضاعته، فما بالنا نستحي من الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ونخجل، وكأنها بضاعة كاسدة، مع أن هذه البضاعة تؤدي بنا إلى الجنة؟! وما بالنا لا ندعو إلى الله تبارك وتعالى في السوق؟ (فرسولكم صلى الله عليه وسلم ركب حماراً له بأرض سبخة، فقال له عبد الله بن أبي بن سلول: ابتعد عني يا محمد! فإن رائحة حمارك تؤذيني، فقال أحد الأنصار: والله لريح حمار رسول الله أطيب من ريحك).
ونحن نقول للعلمانيين وللمنافقين وللزنادقة: لريح حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب من ريحكم، فما ظنك بنقاب عائشة رضي الله عنها! فالنقاب الذين تتكلمون عنه هو أطهر من الطهر.
ويسخر كل أفاك دعي ديوث من نساء المسلمين ويهزأ بالحرائر بالنقاب وقد لبسته أم المؤمنين فلستم من نقاب وليس منكم فذا شرف لسكن الطاهرين وما عرف العفاف لكم طريقاً وفاح الطهر من بيت الأمين أترم بيوت طهر يا لئيم! وبيتك من زجاج هش لين يعني: هب أن النقاب سنة، ولكن قد لبسته أمهات المؤمنين، فبهذا يصير شعاراً ويجب أن يحترم، وأما أن يسخر منه فهذا شأنهم، فإن كانوا مسلمين فليحكموا بيننا وبينهم الكتاب والسنة، وإلا فليفعلوا ما يشاءون.
فالأمر ليس أمر نقاب وليس تطرف وليس كذا ولا كذا، إنما المتطرف هو الخبيث عادل إمام الذي يطعم كلبه لحم حمام مشوي بمائة وعشرين جنيهاً يومياً، مرتب اثنين من الموظفين، هذا هو المتطرف والله، المتطرفون هم الذين يذبحون المسلمين في البوسنة والهرسك، وهم الذين يحاصرون الآن تسعين ألف مسلم، فهؤلاء هم المتطرفون، ولسنا نحن المتطرفين، وإنما نمضي على طريق الله تبارك وتعالى، فادع إلى ربك إنك على صراط مستقيم.

(20/5)


تضحية الأنبياء والمرسلين وأتباعهم في سبيل الدعوة إلى الله
في سبيل هذه الدعوة لاقى الصالحون ما لاقوا، فأين أنت يا مخنث العزم! والطريق طويل، تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، واضطجع للذبح إسماعيل، وشق بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وعاش مع الوحوش عيسى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار في البكاء داود، واتهم بالسحر والشعوذة والجنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل اتهم في عرض زوجته، وذبح سعيد بن جبير وما في الأرض رجل إلا وهو محتاج إلى علمه، وذبح الحسين بن علي، وداست الخيل فمه الذي قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أجل هذه الدعوة ضرب ابن حنبل، يقول شاباص التائب الذي كان يكلف بضرب ابن حنبل: والله لقد ضربت ابن حنبل ضرباً لو كان في فيل لهده.
وقال أيضاً: لقد فاق أحمد بن حنبل الشطار، يعني: صبر أكثر مما يصبر المجرمون، قال: لقد فاق أحمد بن حنبل الشطار، والله لقد ضربته لو أنيخ لي بعير فضربته لنقبت عن جوفه، وتحمل الإمام أحمد بن حنبل ما تحمل، وكانت نفسه عليه مثل ما قالوا عن سعيد بن المسيب: كانت نفسه عليه في الله أهون من ذباب، تلمحوا ببصيرتهم عاقبة ما عند الله تبارك وتعالى، فهان عليهم كل شيء في سبيل دينهم.
كان أحدهم إذا أريد على دينه دارت عينه في حماليقها، وغضب لله تبارك وتعالى، ولولا سياط على ظهر ابن حنبل ما صار إمام أهل السنة والجماعة، وقال له رجل: يا بن حنبل! اصبر لأمر الله، فإن يقتلك الحق تمت شهيداً، وإلا تعش حميداً مجيداً.
وكان الإمام أحمد يدعو لـ أبي الهيثم اللص الطرار، كان يقول: اللهم اغفر لـ أبي الهيثم، اللهم سامح أبا الهيثم، فقال له ولده: من أبو الهيثم يا أبت؟ فقال: أبو الهيثم اللص الطرار، قال: لما مددت للسياط إذا برجل يجذب ثوبي من خلفي وقال: يا ابن حنبل: أما تعرفني؟ قال: قلت: لا، قال: أنا اللص الطرار أبو الهيثم، ضربت ثمانية عشر ألف سوط تحملتها من أجل الدنيا ومن أجل الشيطان، أفلا تصبر أنت لطاعة الرحمن؟ فنفع الله تبارك وتعالى الإمام أحمد بهذه الكلمة.
وهذا أبو نعيم الفضل بن دكين لما أتي به ليتكلم في مسألة خلق القرآن قال: والله لعنقي أهون علي من زري، فقام أحمد بن يوسف وكان بينه وبين الفضل بن دكين شحناء، قام إليه وقبل رأسه، وقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً.
وهذا البويطي تلميذ الإمام الشافعي يقول عنه الربيع بن سليمان المرادي: إنه مات في حديده في فتنة خلق القرآن، وكان يقول: والله لأموتن في قيدي؛ حتى يأتي أناس من بعدنا يعلمون أنه في سبيل هذا الأمر مات أناس في حديدهم.
يا دامي العينين والكفين إن الليل دائم لا غرفة التعذيب باقية ولا ضرب السلاسل وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل من يتهاون عن الدعوة يظل قلقاً أبداً، ومحروماً أبداً من الطمأنينة الإيمانية، فيا إخوتاه! انشروا الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.
قيل للشافعي: يبتلى الرجل أم يمكن؟ قال: لا يمكن حتى يبتلى.
فاصبروا على أمر الله تبارك وتعالى، وادعوا في كل مكان وفي كل طريق وعمارة وشارع، فالدعوة إلى الله تبارك وتعالى لا تدانيها منزلة بعد منزلة النبوة.
يقول الإمام ابن القيم: والدعوة إلى الله أشرف مقامات التعبد: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
ويقول الحسن البصري: هذا ولي الله، هذا حبيب الله.
يا إخوتاه! إن الداعي إلى الله تبارك وتعالى الذي يفضح شبه العلمانيين والأقزام والزنادقة والمنافقين يأخذ أجر المهاجر في سبيل الله، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، بل ويأخذ أجر المجاهد في سبيل الله، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] أي: بالقرآن، وهذا في سورة مكية.
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من أتى إلى مسجدي هذا لعلم يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره).
فلا تقيسوا دعوتكم بدعوة الظالمين، فدعوتكم سندها الله تبارك وتعالى العلي الأعلى، ولا تقيسوا دعوتكم بدعوات أرضية ترتبط بأشخاص، تخلقها الضرورات، وتذهب بها الأحداث والليالي، ادعوا إلى الله تبارك وتعالى كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما دعا نوح، وكما دعا يوسف، فقد دعا يوسف إلى الله تبارك وتعالى وهو في السجن، دعا الرجلين قبل أن يجيب مسألتهما؛ دعاهما إلى الله تبارك وتعالى.
وشغلت عن فهم الحديث سوى ما كان عنك فإنه شغلي وأديم نحو محدثي وجهي ليرى أن قد عقلت وعندكم عقلي ونوح دعا إلى الله تبارك وتعالى ليلاً ونهاراً، ورسولكم صلى الله عليه وسلم وهو مطارد في يوم الهجرة دعا بريدة بن الحصيب الأسلمي وقومه إلى الله تبارك وتعالى، فأسلموا.
يا إخوتاه! إن أنفاس الدعاة وقف لله تبارك وتعالى، فمن أراد المنزلة القصوى من الجنة فعليه بالمنزلة القصوى في الدنيا، وهي الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين.
اللهم تقبل توبتنا، وأجب دعوتنا، واسلل سخائم صدورنا.
اللهم بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، وبباك نقف فلا تطردنا.
اللهم إنا نشهد أن لا إله إلا أنت، لك الحمد كله، ولك الملك كله، اللهم يا حنان يا منان اللهم فك الكرب عن إخواننا في البوسنة والهرسك، اللهم فك الكرب عن إخواننا في البوسنة والهرسك، اللهم احفظ أعراضهم، اللهم احفظ دماءهم، اللهم احفظ دماءهم، اللهم احفظ أعراضهم، اللهم آمنهم في بلادهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأقم الصلاة.

(20/6)


الرسل والرسالات
الإيمان بالرسل ركن من أركان الإيمان لا يتم الإيمان إلا به، وأهمية الإيمان بالرسل نابعة من أنهم الواسطة بين الله وبين خلقه، والمبلغون لشرعه، والأمناء على وحيه، وهم من دلوا الخلق على الله، وعرفوهم بحقوقه، وأقاموا دينه، وجاهدوا فيه.
وقد ضل في باب الرسل والأنبياء طوائف من الناس بين غال فيهم جعلهم فوق رتبتهم، وجاف عنهم متنقص لهم، وهدى الله أصحاب المنهج الحق إلى الصواب في المسألة، فأنزلوا الرسل منازلهم واعتقدوا الحق فيهم.

(21/1)


الإيمان بالرسل ركن من أركان الإيمان
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير من ما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
أما بعد: فالإيمان برسل الله تبارك وتعالى والإيمان بالرسالات أصل من أصول الإيمان بالله تعالى، يقول الله عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136].

(21/2)


تعريف النبي والرسول والفرق بينهما

(21/3)


معنى النبي
النبي لغة: مشتق من النبأ، وهو: الخبر، قال الله تبارك وتعالى: {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3].
والنبي صلى الله عليه وسلم مخبرَ من قبل الله تبارك وتعالى، مخبرَ عن الله تبارك وتعالى، ومخبِر عن الله تبارك وتعالى لقومه.
وقيل أيضاً: النبي مشتق من النبوة، والنبوة هي المكان المرتفع عن سطح الأرض.
وتطلق أيضاً على كل علم من أعلام الأرض يهتدي به الإنسان في سيره.
والمناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي: أن النبي له قدر عظيم عند الله تبارك وتعالى وعند الناس، والأنبياء أعلام هدى يخرج الله عز وجل بهم الناس من الظلمات إلى النور.

(21/4)


معنى الرسول
والرسول مشتق من الإرسال، والإرسال هو: التوجيه، تقول: أرسلت فلاناً إلى فلان إذا وجهته إليه، وفي قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]، أي: إني باعثة بهدية مع شخص.
وقيل أيضاً: الرسول هو الذي يتابع أخبار من أرسله، من قول العرب: جاءت الإبل رسلاً، يعني: جاءت الإبل متتابعة؛ فالرسول هو: من أرسله الله عز وجل إلى قوم بعينهم ليبلغهم أخبار الله تبارك وتعالى ووحيه.

(21/5)


الفرق بين النبي والرسول
وأما الفرق بين النبي والرسول: فقال فريق من العلماء: لا فرق بين النبي والرسول، فالنبي هو الرسول.
ويرد عليهم قول الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54] فلو كان النبي هو الرسول لما ذكر الصفتين.
وأيضاً يقول المولى عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:52]، ففرق الله عز وجل بينهما.
وأيضاً فرق المصطفى صلى الله عليه وسلم بينهما، فذكر عدداً للأنبياء وعدداً للرسل، فلو كان النبي هو الرسول لكان عددهم واحداً.
فالقول الأول بأن النبي هو الرسول قول خطأ، وإن ذهب إليه فريق من العلماء.
القول الثاني: إن الرسول أعم من النبي، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً.
وكتب الأزهر تقول: الرسول: هو رجل أرسله الله تبارك وتعالى إلى قوم من البشر وأمره بتبليغ الرسالة، والنبي: هو رجل أوحى الله عز وجل إليه ولم يأمره بتبليغ الرسالة.
وهذا القول قول خطأ، وإن كان موجوداً في أكثر الكتب.

(21/6)


ضلال ابن عربي في الرسل والأنبياء
وهذا القول دفع بعض الصوفية مثل محيي الدين بن عربي في كتابه فصوص الحكم، وفي كتاب الفتوحات المكية إلى أن يقول: إن هناك أنبياء خصوا بالتشريع وأنبياء خصوص الخصوص.
يعني: إن كان النبي أوحى الله إليه بوحي ولم يأمره بالبلاغ فإنه من الممكن أن يكون هناك أنبياء بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم من أمته، وهذا القول نص عليه صراحة في كتبه هذه، فهو يقول: ومحمد صلى الله عليه وسلم هو آخر الرسل، وليس آخر النبيين.
وربنا أرسله برسالة عامة للناس، ولا يمنع هذا أن يكون من أمته أنبياء.
فالرسول له النبوة العامة، أي: له نبوة التشريع، ولكن يمكن أن يوجد أنبياء بعده، هذا عند محيي الدين بن عربي.
بل إنه قال: إن حديث: (لا نبي بعدي) قصم ظهور الأولياء، وما أبقى للأولياء حاجة.
وذهب أيضاً في كتابه فصوص الحكم إلى أن للأولياء خاتماً، وقال: أنا خاتم الأولياء، وبي ختمت دولة الأولياء.
ثم فضل خاتم الأولياء على خاتم الأنبياء، وقال: إن خاتم الأولياء يأخذ من الله مباشرة، أما خاتم الأنبياء فإنه يأخذ من الملك، أي: يأخذ بواسطة، وأما نحن فنأخذ من المعين الذي يأخذ منه الملك.
وهذا قوله صراحة في فصوص الحكم.

(21/7)


الرد على من قال إن النبي غير مأمور بالبلاغ
فأما بطلان القول بأن النبي لم يأمره الله عز وجل بالبلاغ فمن أوجه: الدليل الأول: أن المولى عز وجل نص صراحة في القرآن الكريم أنه أرسل الأنبياء كما أرسل الرسل، والإرسال يقتضي البلاغ، فعندما أقول لك: أنا أرسلتك إلى قوم، فالمعنى: بعثتك إليهم حتى تبلغهم شيئاً معيناً، فالإرسال يقتضي البلاغ، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:52]، فالله عز وجل نص على أنه أرسل الرسل ووجههم كما وجه الأنبياء إلى قوم بعينهم، فالإرسال يقتضي البلاغ.
الدليل الثاني: ما رواه الإمام البخاري والإمام مسلم والإمام النسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط)، أي: النبي يأتي يوم القيامة ومعه جماعة من الناس، قال: (ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد).
فمعنى قوله: (رأيت النبي ومعه الرهط) أو: (رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان) أن النبي تكلم معهم وبلغهم شيئاً من أمر الله، فاستجابوا له وامتنع الباقون، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (رأيت النبي)، لم يقل: رأيت الرسول.
فإذا قال أحد: إن الحديث مروي بالمعنى، قلنا: هذا رواه الإمام مسلم، والإمام مسلم كان يروي الحديث باللفظ دون المعنى.
الدليل الثالث: قول الله تبارك وتعالى عن يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39]، ويوسف كان نبياً ومع هذا بلغ الرسالة إلى صاحبي السجن بنص القرآن الكريم.
الدليل الرابع: قول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246] وهذا يوحي أن النبي كان يبلغ شيئاً من وحي الله تبارك وتعالى وينفذ تعليمات الملك إلى قومه.
الدليل الخامس: وهو أوضح الأدلة على وجوب البلاغ على الأنبياء، وهو حديث الحارث الأشعري كما في الوابل الصيب: (إن الله سبحانه وتعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يبطئ بها، فقال له عيسى عليه السلام: إن الله تعالى أمرك بخمس كلمات تعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي وأعذب).
ولو كان لا يجب عليه البلاغ لأنه نبي وليس برسول، لما قال: إني أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي وأعذب؛ لأن ترك الأمر المستحب لا يوجب عقاب المولى عز وجل.
إذاً: التعريف الذي نحن نختاره: أن الرسول هو من أوحي إليه بشرع جديد، والنبي هو المبعوث لتقرير شرع من قبله.
فسيدنا موسى عليه السلام نزل برسالة وهي التوراة، وبعد موت موسى عليه السلام قام أنبياء بشريعة التوراة وليس بشريعة جديدة، وإنما قاموا يبلغون ويقررون شريعة رسول الله الذي قبلهم، ولذلك فإن داود وسليمان وزكريا ويحيى -وهم أنبياء- بعثهم الله تبارك وتعالى بشريعة موسى عليه السلام، وهي التوراة، ولذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري: (إن بني إسرائيل كانت تسوسهم -أي: تحكمهم- الأنبياء بشريعة موسى، كلما مات نبي خلفه نبي).

(21/8)


عدد الأنبياء والمرسلين وحكمة الله في ذلك
عدد الأنبياء والرسل مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ورسول، عدد الرسل منهم ثلاثمائة وخمسة عشر.
والله عز وجل من رحمته بالخلق أرسل عدداً كثيراً من الأنبياء والرسل، يقول المولى عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
وروى الإمام أحمد في مسنده حديثاً صححه الشيخ الألباني عن أبي ذر الغفاري قال: (قلت: يا رسول الله! كم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر جماً غفيراً).
وفي رواية أبي أمامة عن أبي ذر قال: (قلت: يا رسول الله! كما وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربع وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً).
وسيدنا أبو ذر يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربع وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً)، رواه الإمام أحمد، وأورده التبريزي في مشكاة المصابيح، وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح.
وهناك رسل قصهم الله عز وجل في القرآن، ورسل قصهم علينا الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة، ورسل لم يخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم شيئاً؛ يقول الله تبارك وتعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164]، ومعنى ذلك: أن في رسل المولى عز وجل من لم يقص الله من أخبارهم شيئاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول المولى عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78].
فنحن نؤمن بأن الله عز وجل أرسل رسلاً وأنبياء، وقص علينا بضعاً منهم في القرآن الكريم، وقص علينا الرسول شيئاً عنهم في السنة، والله عز وجل تفرد بأخبار رسل لم يقصها على نبيه صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يأتي أحد فيقول: الرسل والأنبياء هم المذكورون في القرآن الكريم فقط، فنقول له: بل هناك رسل غيرهم لا نعرف عنهم شيئاً، فهناك رسل لم يقصهم الله تبارك وتعالى.

(21/9)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:14   رقم المشاركة : 27
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي


الأنبياء والرسل الذين ذكرهم القرآن الكريم والسنة النبوية
(21/10)
الأنبياء والرسل الذين صرح القرآن بذكرهم
والرسل والأنبياء الذين ذكرهم الله عز وجل في القرآن الكريم بأسمائهم خمسة وعشرون رسولاً ونبياً، ثمانية عشر منهم ذكروا في سورة الأنعام، والسبعة الباقون متفرقون في سور القرآن الكريم.
فالذين في سورة الأنعام قصهم الله عز وجل علينا في قوله تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83] {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:84 - 86]، فهؤلاء ثمانية عشر.
وقد ذكر أنبياء ورسلاً متفرقين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} [آل عمران:33]، وسيدنا آدم عليه السلام كان نبياً مكلماً، واختصه الله بالتكليم كما اختص موسى وكما اختص رسولنا صلى الله عليه وسلم، فسيدنا آدم عليه السلام كان نبياً مكلماً.
وفي الحديث الصحيح: (أنبياً كان آدم يا رسول الله؟! قال: نبي مكلم).
وقال الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29].
وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [هود:50].
وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [هود:61].
وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [هود:84].
وقال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:85].
(21/11)
الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم إشارة
وهناك أنبياء ذكروا في القرآن الكريم إشارة ولم يذكروا بأسمائهم، وهم الأسباط أولاد سيدنا يعقوب، وعددهم: اثنا عشر رجلاً، قص الله عز وجل علينا منهم يوسف فقط.
والأنبياء رسل، وإن لم يقل بهذا الشيخ محمد علي الصابوني، والأسباط كانوا رسلاً بنص قول الله تبارك وتعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [البقرة:136]، أي: وما أنزل إلى الأسباط، وهذا يدل على نبوتهم.
ويقول المولى عز وجل: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140] فالأسباط أنبياء كما في هذه الآية.
ودليل آخر: قوله تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:84].
(21/12)
ذكر نبوة ذي النون والخضر وشيث
وهناك أنبياء مذكورون في السنة ولم يذكروا في القرآن الكريم، ومنهم: ذو النون، وهو يونس عليه السلام، وهو مذكور في القرآن الكريم، وفي الحديث: (لا يقولن أحدكم: أنا خير من يونس بن متى)، وهذا حديث صحيح.
والخضر ما نص النبي صلى الله عليه وسلم على نبوته، وإلا لما اختلف العلماء هل كان نبياً أم لا؟ والراجح وهو جمهور أهل السنة: أنه كان نبياً، ولكن لم ينص النبي صلى الله عليه وسلم صراحة على ذلك.
وشيث ابن سيدنا آدم، أنزل الله عز وجل عليه خمسين صحيفة، كما رواه الإمام ابن كثير في البداية والنهاية، وقال: وكان نبياً بنص الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر مرفوعاً: (أنه أنزل عليه خمسون صحيفة).
(21/13)
ذكر نبوة يوشع بن نون وبيان الفضيلة التي اختصه الله بها
وسيدنا يوشع بن نون فتى موسى كان نبياً، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف:60]، ولا يوجد نص على نبوته في القرآن الكريم.
وقد خصه الله بفضيلة عظيمة، حيث إن الله عز وجل ما حبس الشمس إلا له، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والإمام مسلم: (غدا نبي من الأنبياء -وهو سيدنا يوشع بن نون - فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يلم بها ولما يلم بها)، يعني: رجل عقد على امرأة ولم يدخل بها؛ لأنه سيبقى مشغولاً بها.
قال: (ولا رجل قد بنى بنياناً ولم يرفع سقفه)، أي: لأنه يريد أن يأتي بالحديد والإسمنت فهو مشغول عن الجهاد.
قال: (ولا رجل قد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر أولادها، فغدا فدنا من القرية -بيت المقدس- حين صلى العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئاً، فحبست له الشمس).
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي انفرد بروايته الإمام أحمد -وهو حديث صحيح على شرط البخاري -: (إن الشمس لم تحبس إلا لـ يوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس).
(21/14)
بيان من اختلف في نبوتهم
(21/15)
ذو القرنين
وهناك صالحون مشكوك في نبوتهم، منهم: ذو القرنين وتبع.
يقول الله عز وجل: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86]، فهل قال الله عز وجل هذا القول لـ ذي القرنين مباشرة أو عن طريق نبي؟ يميل سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص إلى الجزم بنبوة ذي القرنين، وجزم بهذا أيضاً الحافظ ابن حجر وقال: وظاهر القرآن يؤيد ذلك، أي: وظاهر القرآن يؤيد نبوة ذي القرنين.
وسيدنا علي بن أبي طالب نفى ذلك بإسناد صحيح عنه، فهذا نتوقف في الحكم له بالنبوة أو عدمها.
(21/16)
تبع
وأما تبع فكان ملك اليمن وكان مسلماً؛ لأنه ثبت أنه قال أحاديث حينما أتى إلى المدينة وقال: لو عشت إلى أن يصل أحمد لكنت وزيراً له وابن عمه.
وكان ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، ولكن هل كان نبياً أم لا؟ الأولى أن نتوقف؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف، فلم يقطع بالنبوة ولم ينفها عن ذي القرنين أو عن تبع.
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الحاكم والبيهقي وصححه الألباني: (ما أدري أتبع نبي أم لا، وما أدري أذو القرنين نبي أم لا)، فإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري فغيره أولى.
فالرسول صلى الله عليه وسلم توقف في الحكم بالرسالة لـ ذي القرنين ولـ تبع، ولم يثبت النبوة لهما ولم ينفها عنهما.
(21/17)
الخضر عليه السلام
وبالنسبة للخضر، فهناك رسالة طيبة للحافظ ابن حجر اسمها: النبأ الزهر في شأن الخضر، وهي من ضمن الفتاوى المنيرية، وأظنها في المجلد الثاني ضمن مجموع الفتاوى المنيرية.
والخضر يستدل به الصوفية على أن الولي يجوز له أن يخرج عن ظاهر الشريعة؛ بدليل أن الخضر قتل الغلام، وأن الولي خير من النبي؛ بدليل أن سيدنا موسى قال: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60]، والحقب ثمانون سنة، وذلك حتى يذهب إلى الخضر ثم يجلس بين يديه مجلس الطالب المتعلم الذليل المتواضع له، فيقولون: الولي أفضل من النبي، حتى قالوا: مقام الرسالة في برزخ فويق النبي ودون الولي وقال قائلهم أيضاً: خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله.
وعبد الحق بن سبعين يقول: لقد حجر ابن آمنة واسعاً إذ زعم أن لا نبي بعده.
وأولى الأقوال -وهو ما ندين به لله عز وجل وعليه أهل السنة والجماعة- أن الخضر كان نبياً.
(21/18)
الأدلة على نبوة الخضر
ويدل على ذلك سياق القصة، فالله تبارك وتعالى يقول: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65]، قال العلماء: هذه رحمة النبوة، والعلم هو علم الوحي الذي اختص الله به نبيه الخضر.
وهذا الدليل ليس واضحاً قوياً.
والدليل الثاني وهو أوضح: أن سيدنا موسى نبي ورسول من أولي العزم، وهو معصوم في تحمل الرسالة وفي أدائها وفي تبليغها، وقد أجمع علماء المسلمين أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة، فلا يجوز للنبي أن يزيد في الوحي، أو أن ينقص منه، أو أن يشك فيه، أو أن ينسى شيئاً منه، هذا في جانب التبليغ؛ قالوا: فكيف يجوز لنبي معصوم من أولي العزم مثل موسى عليه السلام أن يتلقى العلم من رجل غير معصوم.
يعني: لو كان الخضر ولياً فيمكن أن يخطئ في العلم ويمكن أن يصيب، فكيف يتلقى المعصوم علمه من رجل غير معصوم في تبليغ العلوم الشرعية، بل ويحرص على لقياه ولو أن يمضي ثمانين سنة، وعندما يقابله يتواضع له ويجله ويجلس منه مجلس المتعلم الذليل، قالوا: وهذا يحق في شأن الخضر؛ لأنه نبي يعلم موسى أن الله عز وجل قد خصه بأسرار من علمه تبارك وتعالى لم يخص بها موسى.
ولذلك جاء في القصة التي يروونها: أن العصفور أتى ونقر نقرة من ماء البحر فوضعها على فخذ الخضر، فقال: أتدري ما يقول العصفور يا موسى؟! قال: علم ذلك عند ربي، قال: يقول العصفور: أنت يا خضر! على علم علمكه الله لا أعلمه أنا ولا موسى، وموسى على علم علمه الله إياه لا أعلمه أنا ولا أنت، وأنا على علم علمني الله إياه لا تعلمه أنت ولا موسى، وما علمي وعلمك وعلم موسى بجانب علم الله إلا كهذه القطرة إلى جانب الماء.
أي: اختص الله عز وجل نبيه الخضر بشيء من الوحي لم يخص به موسى عليه السلام، فاحتاج موسى إلى معرفته؛ حتى يستزيد من هذا العلم.
وأيضاً الخضر أقدم على قتل الغلام وخرق السفينة، ولو كان هذا مجرد خاطر فقد أجمع العلماء على أن الأولياء خواطرهم غير معصومة، ولا يجوز للولي أن يخرق ظاهر الشريعة، ويقول بسقوط التكليف، ولا يقول: أنا ولي ويفعل الفاحشة؛ فضلاً عن أن الخضر يقول: أوحي إلي بالقتل، وزيادة على ذلك يقول: إنه أمر بقتل الغلام، وأنه لو امتد به العمر لكان سبباً في كفر والديه، فكيف يعلم هذا؟ والدليل الرابع: قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]، ففصل الخضر لموسى أن هذا وحي من الله تبارك وتعالى، قال: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:81]، ويقول المولى عز وجل: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82].
وهذا يدل على أن الخضر كان نبياً ولم يكن ولياً.
(21/19)
الاختلاف في كون الخضر حياً أم قد مات
وهل الخضر حي الآن أو قد مات؟ اختلف في ذلك أقوال العلماء، حتى اضطرب شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة، فهو يقول عنه في مجموع الفتاوى في صفحة: إنه حي، وفي الصفحة التي بعدها يقول: إنه ميت، وهذه فتوى صريحة لا تحتمل تأويلاً، وهي بحاجة إلى مراجعة في مجموع الفتاوى، وهذا مما اضطرب فيه قول شيخ الإسلام ابن تيمية.
وذهب جمع كثير من العلماء إلى: أن الخضر حي لم يمت، وأن إلياس حي لم يمت، ووردت في ذلك أخبار كثيرة؛ وهي ضعيفة وباطلة لدرجة أن الإمام النووي قال: إن الرجل الذي يخرج من المدينة ويقتله المسيح الدجال ثم يحييه مرة ثانية هو الخضر.
قال هذا في شرح مسلم، وهذا القول قول مرجوح.
وذهب كبار المحدثين ومنهم الإمام البخاري وابن دحية وابن كثير وابن حجر العسقلاني إلى أن الخضر قد ميت.
والدليل على أن الخضر قد مات: ما قاله الإمام أحمد بن حنبل لما سأله إبراهيم الحربي عن تعمير الخضر وإلياس وأنهما باقيان يشاهدان ويروى عنهما؟ فقال: من أحال على غائب لم ينصف.
ثم قال الإمام أحمد: وما ألقى هذا إلا الشيطان.
والدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما كان جالساً في حلقة من أصحابه كما رواه الإمام البخاري: (لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الأرض أحد).
والدليل الثالث: أنه لو كان الخضر حياً لكان قاتل في معركة بدر وفي أحد وبعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكان فك الخلاف في سقيفة بني ساعدة ولاستشاره المسلمون، فليس من المعقول أن يذهب إلى البراري والفيافي والقفار والجبال ويترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يحارب وحده حتى يشج رأسه في أحد، وكيف والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
وكيف وقد أخذ الله عز وجل الميثاق على النبيين والخضر منهم؛ يقول المولى عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].
فكيف يترك الخضر نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان حياً؟! هذا لا يعقل ولا يجوز.
(21/20)
بيان أن الكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل
الكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل، لا كما يقول أصحاب الأفكار القذرة الذين اخترعوا ديناً اسمه الوحدة الوطنية، وترى الواحد منهم يصعب عليه أن يقول: إن النصارى كفرة، وهذا جاء في آية من آيات القرآن لا من عند أهل السنة ولا أتى به أهل السنة، بل هذا جاء في كتاب الله عز وجل إن كانت لكم عقول وإن كنتم مسلمين، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:150 - 151].
وإذا أتيت بواحد منهم وقلت: أنت تعترف بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ يقول لك: نعم، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وهذه الشهادة لو قالها نصراني دخل في الإسلام.
ولو أن أحداً ارتد عن الإسلام فإنه لا يرجع إليه إلا بالنطق بالشهادتين وبنقض ما ارتد به وخرج به من الإسلام، يعني: إن كان قال: الصلاة في الإسلام ليست واجبة، فنقول له: أنت مرتد، ارجع إلى الإسلام بالنطق بالشهادتين، ثم بالإقرار بأن الصلاة واجبة، أي: يعترف بما جحده.
وإذا قال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول للعرب وليس للناس جميعاً، أي: أنه معترف بالرسول لكن للعرب فقط وليس لجميع الناس؛ فإن علم ذلك من حاله فنطقه بالشهادتين لا يكفي لدخوله في الإسلام، بل لا بد من الإقرار بأن محمداً رسول الله إلى الناس كافة، وأن رسالته ناسخة لما قبلها من الشرائع.
فهؤلاء كفرة بنص القرآن الكريم.
(21/21)
نفي وجود رسل بين عيسى ومحمد عليهما السلام
والنبوة لا تثبت إلا بدليل صحيح إما من القرآن وإما من السنة.
وأما من قال: إن قرقيس وخالد بن سنان والرسل الذين أرسلهم الله عز وجل إلى آل ياسين في سورة يس رسل؛ فنسأله: هل هناك رسل بعد سيدنا عيسى عليه السلام، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا نبي بيني وبينه)؟ فليس هناك أنبياء بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين سيدنا عيسى.
فلو قال: إن هؤلاء الأنبياء بين سيدنا عيسى وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهذا لا يجوز، فإن كانوا قبل عيسى فخير وبركة كما ذهب إليه الشيخ عمر الأشقر.
وقول من قال: إن خالد بن سنان -وهو عربي- كان نبياً من الأنبياء بين عيسى والمصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخلت عليه بنت خالد بن سنان قال: (أهلاً بابنة أخي، أهلاً ببنت نبي ضيعه قومه) فهذا الحديث لا يصح.
والأنبياء من العرب أربعة: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر!
(21/22)
موقف العقلانيين اليوم تجاه الأنبياء والوحي والعقل والرد عليهم
والعقلانية تقول: إن الأنبياء الخمسة والعشرين كانت لزمان العيش في الجبال، وأما في القرن العشرين ونحن نركب الصواريخ ونطلق الأقمار فإن الناس غير محتاجة للرسل، وإن العقل بمفرده كاف لهداية البشرية؛ بدليل أنهم يردون الوحي الذي هو حق المولى عز وجل من القرآن ومن السنة ويقدمون عليه العقل، فيجعلون العقل حاكماً على الكتاب والسنة.
(21/23)
العقل يقود البراهمة إلى عبادة الحيوان
والبراهمة وهم قوم من المجوس يزعمون أن إرسال الرسل عبث، وأن العقل يغني عن الرسل.
وهؤلاء البراهمة الذين يقولون: إن العقل يغني عن الرسل، كان أحدهم قائداً كبيراً جداً في القرن العشرين ولم يغنه عقله حتى عبد البقرة، فـ غاندي كان يقول للناس: عندما أرى البقرة لا أجدني أرى حيواناً؛ لأني أعبد البقرة، وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع.
ثم يقول: وأمي البقرة تفضل على أمي الحقيقية من عدة وجوه: فالأم الحقيقية ترضعنا مدة عام أو عامين وتتطلب منا خدمات طوال العمر نظير هذا، ولكن أمنا البقرة تمنحنا اللبن دائماً ولا تطلب منا شيئاً مقابل ذلك سوى الطعام العادي.
ثم يقول: إن ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة والإجلال، وأنا أعد نفسي واحداً من هؤلاء الملايين.
فهذا زعيم ورجل كبير يعبد البقرة.
وأكبر من هذا ما نقلته مجلة العربي الكويتية عن معبد أنفق عليه ملايين الملايين من الدولارات، وهو مكسو بالرخام الأبيض، وهذا المعبد ينفق عليه آلاف النذور والهدايا، والإله الذي يقدمون إليه هذه النذور هو الفئران، فهم يعبدون الفئران، فانظر كيف قاد العقل البشرية إلى الدمار!
(21/24)
عجز العقل عن معرفة قضايا الغيب والأوامر الشرعية وصفات الله تعالى وأفعاله بدون الوحي
وبالنسبة لموقف العقل من الوحي، فهناك أشياء يقف العقل عاجزاً عنها تماماً، كالغيب والجنة والنار والقيامة وصفة النار، ولو أتيت بأي عاقل بدون وحي فإنه لا يستطيع أن يتكلم فيها كلمة واحدة.
والأوامر الشرعية والنواهي والمباحات، وأن هذا واجب، وهذا مستحب، وهذا مندوب، وهذا جائز، لا يستطيع العقل أن يخبرنا عنها شيئاً بدون الشرع، وصفات الله تبارك وتعالى وأسماؤه وأفعاله عز وجل بالأمم الغابرة لا يستطيع العقل أن يتكلم عنها.
وهناك مجالات يقف العقل أمامها عاجزاً، حتى قال القائل: من أنت يا أرسطو ومن أفلاط قبلك يا مبلد ومن ابن سينا حين قرر ما بنيت له وشيد هل أنتمو إلا الفراش وقد رأى ناراً توهج فدنا فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد فلتخسأ الحكماء عن رب له الأفلاك تسجد والعاقل ينهى عن أن يقحم العقل في غير مجاله.
(21/25)
عجز العقل عن معرفة حسن وقبح الأفعال تفصيلاً
العقل أيضاً يعلم حسن الحسن وقبح القبيح على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل، فلا يستطيع العقل وحده أن يحدد أن هذا الفعل حسن أو قبيح، نعم يعلم قبيح القبيح وحسن الحسن على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل.
أيضاً: إن كان الفعل فيه مصلحة وفيه مفسدة فكيف يحدد العقل أن المصلحة تربو على المفسدة أو أن المفسدة تربو على المصلحة؟
(21/26)
بيان عدم التعارض بين العقل الصريح والوحي الصحيح
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الوحي يخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول.
والعقل السليم النظيف لا يصطدم بالوحي الصريح الصحيح، فالوحي يخبر بمحارات العقول، أي: عن الحاجات التي يحتار فيها العقل، فالوحي يفسرها له ويوضحها، فهو يخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول، يعني: لو كان العقل نظيفاً وسليماً مائة في المائة فلا تأتي سنة صحيحة بمخالفته كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: درء تعارض المنقول مع صريح المعقول، أو: درء تعارض العقل والنقل.
(21/27)
نسبة أهل الكتاب القبائح إلى الأنبياء
وأما موقف الأدعياء من عصمة الأنبياء فهناك قبائح نسبها إليهم اليهود عليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين إلى يوم القيامة، وقبائح نسبها إليهم النصارى عليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين إلى يوم القيامة.
(21/28)
أولاً نسبة اليهود القبائح إلى الأنبياء
فمن هذه القبائح: قال اليهود في الإصحاح (32) عدد (1) من سفر الخروج: نبي الله هارون عليه السلام صنع عجلاً وعبده مع بني إسرائيل.
وقالوا عن سيدنا إبراهيم عليه السلام في الإصحاح (12) عدد (14) من سفر التكوين: إن إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قدم امرأته سارة إلى فرعون حتى ينال الخير بسببها.
وهذه قبيحة نسبوها إلى سارة، وهي بريئة منها.
وقالوا أيضاً كما ورد في سفر التكوين إصحاح (19) عدد (30): إن لوطاً عليه السلام شرب خمراً حتى سكر، ثم قام على ابنتيه فزنا بهما الواحدة بعد الأخرى! وقالوا: إن يعقوب عليه السلام سرق مواشي حميه وخرج بأهله خلسة دون أن يعلمه! وهذا موجود في سفر التكوين إصحاح (31) عدد (17).
وقالوا: إن روابين ابن سيدنا يعقوب زنى بزوجة أبيه يعقوب، وإن يعقوب عليه السلام علم بهذا الفعل القبيح وسكت! وهذا موجود في سفر التكوين إصحاح (35) عدد (32).
وسبحان الله! حتى الغيرة برءوا منها الأنبياء، وأحد الناس شكته امرأته في محكمة شرعية وكانت منتقبة وادعت أنه ضربها على وجهها، فأمرها القاضي أن ترفع النقاب، فقال له زوجها: ما حصل هذا الكلام ولكن الذي تقوله حق، لكن لا ترفع عنها النقاب، ثم نظر إلى امرأته وقال: أغار عليكِ من نفسي ومني ومنكِ ومن مكانكِ والزمان ولو أني خبأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني فقال القاضي: اكتبوا هذا في ديوان الأدب.
وهم يقولون: إن سيدنا يعقوب علم أن ابنه زنى بامرأته ثم سكت.
وقالوا: إن داود عليه السلام زنى بزوجة رجل من قواد جيشه، ثم دبر حيلة لقتل ذلك الرجل فقتل، وبعدئذ أخذ داود هذه الزوجة وضمها إلى نسائه، فولدت له سليمان.
وقالا: إن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى لها الهياكل والتماثيل! هؤلاء هم اليهود.
(21/29)
ثانياً نسبة النصارى القبائح إلى الأنبياء
أما بالنسبة للنصارى فليسوا بأفضل من اليهود في هذا، فقد نسبوا إلى الأنبياء والرسل القبائح، منها: ما ورد في إنجيل متى: أن عيسى عليه السلام من نسل سليمان بن داود عليهما السلام، وإن جده فارض هو من نسل الزنا.
وهذا أوردوه في إصحاح متى الأول عدد (10).
وفي إنجيل يوحنا إصحاح (2) عدد (4): أن يسوع أهان أمه في وسط جمع من الناس، أي: شتم أمه في وسط جمع من الناس.
فأين هذا من قول الله تبارك وتعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم:32]؟ وأيضاً في إنجيل يوحنا إصحاح (10) عدد (8): أن يسوع شهد بأن جميع الأنبياء الذين قاموا في بني إسرائيل هم سراق ولصوص.
يعني: أن سيدنا المسيح عليه السلام قال: إن كل الأنبياء سراق، وهذا طبعاً لا يجوز.
(21/30)
موقف الفرق من عصمة الأنبياء
(21/31)
موقف الشيعة من عصمة الأنبياء
وأما موقف العلماء من عصمة الأنبياء، فالشيعة قالوا بعصمة الأنبياء من الصغائر ومن الكبائر، سهواً أو عمداً أو نسياناً، قبل الرسالة وبعدها، من يوم أن يخلقوا حتى يبعثوا، ووافقهم القاضي عياض على دعوى العصمة قبل النبوة وبعدها من الصغائر ولو سهواً.
(21/32)
موقف أهل الكلام من عصمة الأنبياء
وأما المتكلمون ومنهم الآمدي والباقلاني من الأشاعرة فقالوا: إنه لا يمتنع عليهم الكبائر قبل النبوة، وقالوا: ممكن أن الأنبياء قبل النبوة يفعلون الكبائر والصغائر، بل قالوا: لا يمتنع عقلاً أن يرسل الله من أسلم وآمن بعد كفره، يعني: زاد الباقلاني جواز الكفر على الأنبياء قبل الرسالة.
أما بعد النبوة فقالوا: إن الأنبياء لا يجوز عليهم تعمد الكبائر أو فعلها، ويجوز عليهم الصغائر.
(21/33)
موقف أهل الحديث وغيرهم من عصمة الأنبياء
ومذهب أهل الحديث ومذهب السلف، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر، إلا صغار الخسة فهم معصومون أيضاً منها، أما باقي الصغائر فغير معصومين منها، وهذا هو قول علماء الإسلام وقول أكثر أهل الكلام وعلماء التفسير وعلماء الحديث وأكثر الأشعرية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: بل لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول.
يعني: أن الأنبياء معصومون من الكبائر ومن صغائر الخسة، وأما بقية الصغائر فيجوز عليهم أن يفعلوها، ولكنهم إذا فعلوها تابوا منها وأقلعوا عنها في الحال، وكان حالهم بعد التوبة أكمل من حالهم قبل التوبة.
وهذا القول الفصل، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة.
والدليل على ذلك: قول الله تبارك وتعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، هذا عن آدم عليه السلام.
وأما عن نوح عليه السلام فإنه لما فقد قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]، قال له الله عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]، فقال نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47].
وسيدنا داود عليه السلام قال الله عز وجل عنه: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24] وذلك لما حكم لخصم دون أن يسمع من الآخر.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال له الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1].
وقال الله عز وجل: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2].
(21/34)
جواز الخطأ على الأنبياء في الاجتهاد دون التبليغ
ويجوز على الأنبياء أن يخطئوا في الاجتهاد كما مال إلى ذلك صاحب كتاب الموافقات الإمام الشاطبي؛ لقول الله تبارك وتعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68].
وأما في تبليغ الرسالة للأنبياء فإن إجماع العلماء على عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة، فلا يجوز للنبي أن يزيد في الوحي ولا أن ينقص منه ولا أن يشك فيه، ولا أن ينسى شيئاً منه، إلا شيئاً ينسيه الله عز وجل إياه.
قال الله عز وجل: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6].
وقال الله عز وجل: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46].
والأفعال البلاغية للأنبياء التي علموها القوم على سبيل التعليم، كأن يصلوا أمام الناس حتى يتعلموا الصلاة، هذا لا يجوز عليهم فيه الخطأ ولا السهو ولا النسيان.
فإذا استقر الأمر واستقر هذا الفعل وعلمته الأمة ثم فعله النبي عبادة جاز عليه النسيان، كما نسي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة.
(21/35)
بيان جواز وقوع النسيان والغضب من الأنبياء
والأنبياء يجوز عليهم ما يجوز على البشرية من غضب أو نسيان، كما صح في الحديث: (إن المولى عز وجل حين خلق ذرية آدم نثرهم بين يديه، وجعل بين عيني كل منهم وبيصاً من نور، ثم قال آدم: يا رب! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك.
فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، قال: من هذا يا رب؟! قال: نبي من آخر أمتك من ذريتك، قال: ما اسمه؟ قال: اسمه داود، قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: فزده من عمري أربعين، فلما جاءه ملك الموت قال: أوليس قد بقي من عمري أربعين سنة؟ قال: أوليس قد أعطيت ابنك داود، فأخطأ آدم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وأخطأ آدم فأخطأت ذريته)، فإذاً: يجوز عليهم النسيان، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني.
وأيضاً يجوز عليهم الغضب، فإن نبياً من الأنبياء لدغته نملة، فأمر بمتاعه فأخرج من تحت الشجرة، ثم حرق قرية النمل، فعاتبه الله عز وجل فقال: (فهلا نملة واحدة)، ومن هنا جاء النهي وتحريم قتل النمل.
(21/36)
ضلال الخوارج في عصمة الأنبياء والرد عليهم
وبعض الفرق الضالة، مثل العجاردة أتباع عبد الكريم بن عجرد من الخوارج قالوا: إن النبي قد يزيد أشياء في الوحي؛ لأن سورة يوسف ليست من القرآن الكريم ففيها العشق والعاشق والمعشوقة، وهذا لا يكون من كلام الله، ليس من عند الله.
والأزارقة جوزوا الكفر على الأنبياء قبل البعثة وبعد البعثة، فقالوا: ممكن للنبي أن يبعثه ربه بالرسالة ويبلغها ثم يكفر.
وهذا قالت به الأزارقة من الخوارج الذين هم جماعة نافع بن الأزرق.
وأما الفضلية من الخوارج فجوزوا الذنب على الأنبياء بعد البعثة، وكل ذنب عندهم كفر، فكفروا الأنبياء، وجوزوا كفر الأنبياء بعد البعثة.
والأزارقة الذين قالوا بجواز الكفر على الأنبياء قبل البعثة وبعدها استدلوا بقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7].
والإمام أحمد قال: من قال بكفر النبي قبل البعثة يعزر ويؤدب، وهذا القول قول سوء، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه قط.
وأما قول الله عز وجل: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] فإن الضلال في اللغة يطلق ويراد به أشياء، فيأتي الضلال بمعنى: الاضمحلال، يعني: الذهاب، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} [السجدة:10]، أي: إذا غبنا في الأرض، تقول: ضل اللبن في السمن، وضل السمن في اللبن، يعني: غاب السمن في اللبن.
فالضلال يأتي بمعنى الذهاب والاضمحلال.
ويأتي الضلال أيضاً بمعنى: الكفر، ويأتي أيضاً بمعنى: الذهاب عن حقيقة الشيء، كما في قول الله عز وجل: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، يعني: لا يذهب عن حقيقة الشيء بل يعلم حقيقة كل شيء، وكما في قوله عز وجل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282].
إذاً: يكون معنى قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} [الضحى:7]، أي: ووجدك غافلاً عن أحكام الشرائع، لا تعرف الظهر كم ركعة، والعصر كم ركعة، والمغرب كم ركعة، والعشاء كم ركعة.
وفي تفسير ثان وإن لم يختره الشيخ الشنقيطي ولكن اختاره قوم كثيرون من علماء التفسير، قالوا: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} [الضحى:7]، أي: محباً، أي: ووجدك محباً للهدى فهداك.
وقد جاء القرآن بذلك، فقال إخوة يوسف لأبيهم: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95]، يعني: في حبك القديم ليوسف.
وهناك قول أصرح وهو قول كثير عزة لـ عزة: هذا الضلال أشاب مني المفرقا والعارضين ولم أكن متحققا يعني: حبك أشاب مني المفرقا.
عجباً لعزة في اختيار قطيعتي بعد الضلال فحبلها قد أخلقا يعني: بعد هذه السنين كلها وبعد شيبي في حبها.
فيكون معنى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} [الضحى:7] أي: وجدك محباً للهدى فهداك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(21/37)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:15   رقم المشاركة : 28
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الأسئلة

(21/38)


حكم قول (سيدنا) لآحاد الناس

السؤال
هل يجوز أن نقول للمرء: سيدنا؟

الجواب
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أبو بكر سيدنا وأعتق بلالاً سيدنا.
وهذا ثابت عن عمر، فإن كان قاله عمر رضوان الله عليه فأحرى بنا أن نقوله، ولكن لم يستدل به العلماء، ففيما قرأته للحافظ ابن حجر لم يستدل به.
والله أعلم.

(21/39)


ضابط صغائر الخسة

السؤال
ما هي صغائر الخسة؟

الجواب
صغائر الخسة مثل لها الشيخ محمد بن سليمان الأشقر بسرقة الأشياء الصغيرة التافهة.
والله أعلم.

(21/40)


الفرق بين الهم والعزم

السؤال
ما هو الفرق بين الهم والعزم؟

الجواب
العلماء فرقوا بين الهم والعزم، فقالوا: الهم: بدء الإرادة، والعزم: منتهاها، وقالوا: الهم هو الميل الغريزي أو الميل الطبعي، وقالوا: إن صرفه عنه وازع التقوى كتب له به حسنة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا هم أحدكم بالسيئة فلم يفعلها كتبت لها بها حسنة).
وأما العزم فاختلف العلماء هل يعاقب عليه الرجل أم لا يعاقب؟ ومال الشيخ الشنقيطي إلى أن الرجل يعاقب بالعزم على المعصية؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: قد عرفنا القاتل فما بال القتيل؟ قال: لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه).
والله أعلم.

(21/41)


تعريف الولي

السؤال
من هو الولي؟

الجواب
قال الشافعي: إن لم يكن العلماء أولياء لله تبارك وتعالى فليس على ظهر الأرض لله ولي.
والولاية العامة يدخل فيها صالحو المؤمنين، ولكن الصوفية حينما يتكلمون عن الأولياء يقصدون العابد الذي يجري عليه الله عز وجل الكرامات أو خوارق العادات أو المشهور بالتعبد.
فهم يقولون -وخاصة الذين يميلون إلى الفلسفة منهم كـ العفيف التلمساني وعبد الحق بن سبعين وابن إسرائيل ومحيي الدين بن عربي وعبد الكريم الجيلي -: بأن الأولياء أعلى رتبة من الأنبياء ومن الرسل، وقال أبو يزيد البسطامي: خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله.
وثبت هذا القول عنهم: مقام الرسالة في برزخ فويق النبي ودون الولي والولي يطلق في الاصطلاح على طائفة من العباد من خواص عباد الله تبارك وتعالى الذين هم دون الأنبياء منزلة.
والله أعلم.

(21/42)


الفرق بين النبي والرسول

السؤال
ما الفرق بين النبي والرسول؟

الجواب
ما يميل إليه الشيخ عمر سليمان الأشقر: أن الرسول يأتي برسالة جديدة، وأما النبي فلا يأتي برسالة جديدة وإنما يرسله الله عز وجل بشريعة من كان قبله يقررها ويعمل بها ويدعو إليها.
فمثلاً: سيدنا موسى كان رسولاً إلى بني إسرائيل وأتى بشريعة التوراة، والأنبياء ممن أتوا بعده دعوا قومهم إلى الله تبارك وتعالى وبلغوهم وحيه وهو التوراة.

(21/43)


مذهب أهل السنة في العمل بأحاديث الآحاد وأدلتهم على ذلك

السؤال
ما حكم العمل بحديث الآحاد؟

الجواب
بالنسبة لحديث الآحاد فالقول الراجح وهو قول الشافعي والبخاري: أنه يعمل به في مجال العقائد.
وهناك رسالة طيبة للشيخ الألباني في حجية خبر الآحاد، والله تعالى يرسل الواحد إلى قومه بالتوحيد، وبعث رسول الله معاذ بن جبل إلى اليمن بالتوحيد، فقال له: (فادعهم إلى عبادة الله تبارك وتعالى، فإن هم أجابوك لذلك) والتوحيد لا يحتمل الشك ولا الظن.
وأيضاً يقول المولى عز وجل في سورة التوبة: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة:122]، والفقه في الدين يشمل الفقه الأكبر وهو التوحيد، والطائفة تطلق على الواحد فما فوقه.
ويقول المولى عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، يقول الإمام البخاري: إن الطائفة تطلق على الواحد فأكثر.
والله أعلم.
فمذهب أهل السنة والجماعة حجية خبر الآحاد في مجال العقائد، وأن الأمة مطالبة شرعاً بالتعبد والعمل بخبر الآحاد.
وبالنسبة لأحاديث عذاب القبر فقال العلماء: هي أحاديث آحاد، ولكن لا يكفر من ينكرها.
والله أعلم.

(21/44)


حكم الانتفاع بمال الأب إن كان من حرام

السؤال
ما حكم أكل المرأة وشربها من مال أبيها الذي تعلم أن مصدره حرام؟

الجواب
إن كانت تقيم مع أبويها وينفق عليها والدها، وكان ماله مختلطاً من حلال وحرام، فيجوز لها أن تتورع عنه، وإن كان الغالب على مال أبيها الحلال فيجوز لها من باب الدعوة له أن تأخذ منه، ولكن إن كانت قادرة على الإنفاق على نفسها أو على أهلها من مالها فلا يجوز لها أن تأكل أو تشرب منه.
والله أعلم.

(21/45)


حكم مجالسة النصرانية من أجل دعوتها

السؤال
ما حكم مجالسة النصرانية ومحادثتها والأكل من طعامها بقصد دعوتها إلى الإسلام؟

الجواب
يجوز الأكل من مال النصرانية من أجل دعوتها، ويجوز الكلام معها، وإن جاز الأكل جاز الكلام من قبيل الدعوة، ولكن لا تواليها.
والله أعلم.

(21/46)


ما ينبغي لطالب العلم من العبادة وطلب العلم

السؤال
ما هي الخصال التي تنصح طلاب العلم بالتحلي بها؟

الجواب
السلفيون المفروض أن يكونوا أرق الناس أفئدة، فالرجل المتحلي بالعلم لا بد أن يكون من أرق الناس، وطالب العلم منوط به حفظ العلوم الشرعية مثل البخاري ومسلم نقول له: طلب العلم أولى، ولكن لو لم تكن كـ البخاري ولا الألباني ولا ابن باز ولا ابن عثيمين، ولا حتى تخطب جمعة، ولا تدرس درساً فعليك أن تحرص على العبادة والطاعات، وعليك الأخذ بقسط وافر من قيام الليل وخاصة في الشتاء، وقد صح عن عمر بن الخطاب أنه قال: الشتاء غنيمة العابدين.
وقال أبو هريرة كما وصح عنه: الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة، فالتعب بالصوم والبرد ينسيك ألم الجوع، ثم تذهب إلى الله عز وجل بيوم قد حكم لك فيه بالصيام.
ويقول الحسن البصري: إن الملائكة لتفرح بالشتاء للمؤمن.
ويقول يحيى بن معاذ: ليل الشتاء طويل فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك.
فعلى الإنسان أن يكثر من قيام الليل، وعليه أن يكثر من الصيام فيأخذ نفسه ويجربها في صيام الإثنين والخميس، فإن استقامت يجربها في صيام يوم وإفطار يوم، وهذا أفضل الصيام.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ما مات حتى سرد الصوم، وكذلك عائشة ومالك بن أنس، لكن لا تأتي اليوم وتقول: أصلي من العشاء إلى الفجر وأصوم يوماً وأفطر يوماً، وبعد أسبوع تبغض نفسك العبادة، فلا تصلي حتى الصلوات الخمس.
فالإنسان يأخذ نفسه بالتدرج حتى يستقيم على حال، فيأخذها بقيام الليل، ثم بالصيام، ثم بكثرة الأذكار، ثم بكثرة ذكر الموت وزيارة المقابر.
ونقول للإخوة: عليكم بصلاة الفجر ولو عرفتم وغلب على ظنكم أنكم لا تصلون الفجر فناموا في المسجد لو كنتم عزاباً، ولو كنتم متزوجين فناموا عند أهاليكم ثم تعالوا إلى المسجد حتى لا تفوتكم صلاة الفجر، يقول صلى الله عليه وسلم: (لو علم الناس ما في ركعتي الفجر لأتوهما ولو حبواً).
وإذا أراد الرجل أن يرطب قلبه فليرطبه عند ثلاث: عند قراءة القرآن، وعند صلاة الفجر، وعند الذكر، فإن وجده وإلا فليعلم أن الباب مغلق، وليسأل الله عز وجل أن يمن عليه بالقلب فليس له قلب.
وبالنسبة للورد القرآني فاجعل لك ورداً تختمه كل أسبوع، تبتدئ من ليلة السبت ثم تختم يوم الخميس، وقد ورد أن الصحابة كانوا يختمون في الأسبوع.
وإن ترقى بك الحال وعظم بك المقام فاختم في كل ثلاثة أيام، ولكن عليك بالوسط، فاختم في الأسبوع، ولا يفوتنك ولو ركعتين من القيام، وعليك بالصيام وكثرة الذكر والصمت وزيارة المقابر وصلاة الجماعة والحرص عليها، والمواظبة على الصف الأول وعلى صلاة الفجر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

(21/47)


الرد على مصطفى محمود - تاريخ إنكار السنة
لقد أراد الله الشر كوناً ولم يرده شرعاً، وقدر الله أن يتصارع الخير والشر لحكمة ارتضاها سبحانه وتعالى! وإن من أعظم الشرور في هذا العصر شر القرآنيين الذين أنكروا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفسروا القرآن بأهوائهم، وحكموا العقل وأعملوه في النصوص، فأقروا ما شاءوا وأنكروا ما شاءوا، فضلوا وأضلوا.

(22/1)


الرد على ما ورد من إنكار الدكتور مصطفى محمود للسنة في جريدة الأهرام

(22/2)


كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم التي حفظتها المصادر
الشيخ محمد عجاج الخطيب في رسالة الدكتوراه المسماة: (السنة قبل التدوين الفعلي في عهد عمر بن عبد العزيز) قال: حفظت لنا المصادر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوثيقة التي كتبت بينه وبين اليهود وبين مسلمي الأوس والخزرج، قال: وهذه موجودة.
الكتاب الثاني الذي نقله العلماء كتاب أبي بكر لـ أنس بن مالك، حيث كتب له كتاباً فيه الصدقات التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الكتاب الثالث: صحيفة كانت في قائم سيف عمر بن الخطاب فيها صدقة السوائم نقلها عنه عبد الله بن عمر، ثم أخذها سالم بن عبد الله بن عمر فأعطاها لـ عمر بن عبد العزيز.
ثم صحيفة لسيدنا علي بن أبي طالب كان يعلقها في سيفه، كتب فيها أسنان الإبل، وحرم المدينة، وأشياء من الجراحات.
ثم صحيفة عن عبد الله بن مسعود نقلها عنه ابنه عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وكان يحلف بالله أن هذا خط أبيه.
ثم صحيفة كتب فيها قيس بن سعد بن عبادة وعبد الله بن أبي أوفى حديث الاستفتاح في الصلاة، دفعها إلى أبي بكر الصديق.
ثم أيضاً كتاب لـ مصعب بن عمير.
وكتاب لـ محمد بن مسلمة الأنصاري وجد في ذؤابة سيفه، وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم.
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لربكم في أيام دهركم نفحات؛ فتعرضوا لها).
وكتاب لـ سبيعة الأسلمية تروي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالنكاح بعد وفاة زوجها بقليل لما وضعت، ونقله الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية.
وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن حزم في الصدقات وفي الأسنان، وفي الديات.
وكتاب سمرة بن جندب نقله عنه ابنه سليمان، قال محمد بن سيرين: في رسالة سمرة إلى بنيه علم كثير.
رواه الإمام البخاري.
وصحيفة جابر بن عبد الله الأنصاري نقلها عنه سيدنا قتادة.
وصحيفة صادقة لـ همام بن منبه موجودة في متحف برلين، ونقلها الدكتور محمد حميد الله فيها مائة وثلاثون حديثاً مروية بسند واحد.
فأين يذهب مصطفى محمود من هذه الكتب؟ وهذه فقط الكتب التي كتبت في عهد النبوة.

(22/3)


احتجاج مصطفى محمود بأن السنة إنما جمعها بشر مثلنا والرد عليه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: ففي جريدة الأهرام في يوم السبت الماضي كتب الدكتور مصطفى محمود تحت عنوان: ليس إنكاراً للسنة، قال: أما السنة القولية التي جمعها رواة الأحاديث عن الرسول الكريم فقد جمعها ودونها بشر مثلنا.
فنقول: نعم.
هم بشر؛ لكن ليسوا مثلنا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذي يلونهم)، وسيدنا الإمام أبو حنيفة يقول: ما جاءنا عن رسول الله فعلى الرأس والعين، وما جاءنا عن الصحابة تخيرنا من أقوالهم، وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال؛ لأن العلماء يعدوه من صغار التابعين.
فيقول الدكتور: فهم بشر مثلنا غير معصومين في سلسلة من العنعنات عبر عشرات العصور، لم تدون الأحاديث إلا بعد زمن الخلفاء الراشدين وعلى عهد أيام سلاطين القصور.
وهذا كذب، فقوله: إن السنة لم تدون إلا على عهد سلاطين القصور فيه طعن في عمر بن عبد العزيز فقد كان يلقب خامس الخلفاء الراشدين، وأيامه كانت أيام سنة، ولقد أمر عمر بن عبد العزيز بإحياء السنة وإماتة البدعة، فأيام سلاطين القصور هذه فيها غمز في عمر بن عبد العزيز.

(22/4)


احتجاج مصطفى محمود بأحاديث النهي عن تدوين السنة والرد عليه
يقول الدكتور: ولقد أجمع رواة الأحاديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن تدوين الأحاديث، وجاء هذا النهي في أكثر من حديث لـ أبي هريرة.
وهذا أيضاً كذب منه، فالإجماع الذي حكاه الشيخ أحمد محمد شاكر محدث الديار المصرية، والإجماع الذي نقله حافظ الدنيا الإمام الحافظ ابن حجر في فتح الباري على عكس ذلك.
يقول الدكتور: وقد نهى عن تدوين الأحاديث وجاء هذا النهي في أكثر من حديث لـ أبي هريرة وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود في كلمات قطعية لا تقبل اللبس! أقول: أولاً نحسن الظن بكل المسلمين بداية، ونقول: إن الرجل يستفاد منه في مجال عجائب المخلوقات؛ فهذا مجاله، وأما فوق هذا فلا وألف لا، فقد ادعى الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأخذ الكتب وإحراقها، فمن أين أتت لنا السنة القولية والفعلية؟ والحمد لله أنه قد رد على أمثاله؛ لأن هذا أصل قول المستشرقين، حيث قالوا: إن السنة تأخر تدوينها إلى عهد عمر بن عبد العزيز أو أيام محمد بن شهاب الزهري، فهو أول من دون السنة، وهو رد على ذلك، واستشهد بحديث عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) رواه الإمام مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم.
وقد أجاب العلماء على هذا الحديث بأنه حديث منسوخ بأحاديث أتت من بعده تجوز الكتابة، وحكى ذلك الإمام ابن قتيبة، والإمام أبو سليمان الخطابي في معالم السنن، والشيخ أحمد محمد شاكر شيخ الديار المصرية، وذكر ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح، والأحاديث التي فيها أمر بالكتابة وأتت متأخرة عن حديث أبي سعيد الخدري تبين هذا، منها: حديث رواه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة: (أن رجلاً من أهل اليمن قال: اكتب لي يا رسول الله! فقال: اكتبوا لأبي فلان).
وفي رواية الإمام مسلم: (اكتبوا لـ أبي شاه) رواه الإمام البخاري في كتاب العلم، باب كتابة العلم، ورواه الإمام مسلم في كتاب تحريم مكة وصيدها.
الحديث الثاني: ما رواه همام بن منبه قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثاً مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو -يعني عبد الله بن عمرو بن العاص - فإنه كان يكتب ولا أكتب).
وسيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص له صحيفة تسمى: الصحيفة الصادقة، نقلها علماء الحديث بتمامها، فليس معقولاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بحرق الأحاديث فيقوم سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص بإخفاء الأحاديث عنه ثم إخراجها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وهل يعقل هذا؟ كذلك من الأحاديث في الرد عليه: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق) رواه الإمام أبو داود والدارمي وأحمد والحاكم في المستدرك والخطيب البغدادي في تقييد العلم، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة.
وقال أبو جحيفة: قلت لـ علي رضي الله عنه: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة، قال: قلت: وما هذه الصحيفة؟ قال: فيها العقل -الديات- وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر) رواه الإمام البخاري ومسلم.
ثم قالوا أيضاً في الرد عليهم: وأين أنتم من كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل والمقوقس وغيرها؟! فأورد العلماء عدة أقوال في ذلك، منها: أن أحاديث النهي عن الكتابة كانت متقدمة، ثم نسخت بأحاديث إذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة أن يكتبوا عنه بعد ذلك.
القول الثاني: أن النهي كان عن كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة؛ لئلا يختلط الحديث بالقرآن، كما قال ذلك الإمام أبو سليمان الخطابي والقاضي عياض.
القول الثالث: أن النهي كان خاصاً بوقت نزول القرآن، نقل ذلك الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني.
قال الشيخ شاكر رحمه الله: أجمعت الأمة إجماعاً قطعياً على الأمر بتقييد العلم، والأمر بتقييد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 204): الأمر استقر، والإجماع -إجماع الصحابة- انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان.
بهذا يكون الكلام الذي قاله الدكتور كذباً حيث يقول: انعقد الإجماع على حرق كل الأحاديث.
ثم يأتي الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي هو أعلم الناس في علم الحديث فينقل الإجماع على استحباب تقييد العلم بل على وجوبه ولله الحمد.

(22/5)


الأدلة الواردة في وجوب اتباع السنة

(22/6)


حرص الصحابة على اتباع السنة وحضهم الناس على ذلك وزجر من خالفها
خير هذه الأمة الذي يعدل إيمانه بإيمان هذه الأمة بأسرها هو سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد قال: ما كنت تاركاً شيئاً كان يعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت به؛ إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ.
أو أن أضل.
وسيدنا عمر بن الخطاب يقول: أيها الناس! اتهموا العقل على الدين، إن الرأي إنما كان مصيباً من رسول الله؛ لأن الله كان يريه ذلك، وإنما هو منا الظن والتكلف.
وقال سيدنا عمر: إياكم وأصحاب الرأي! فإنهم أعداء السنن، أعيتهم السنن أن يحفظوها فقالوا برأيهم فضلوا وأضلوا.
وقال: أيها الناس! اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل وما آلو عن الحق في يوم صلح الحديبية عندما يجيء سهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لـ علي بن أبي طالب: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فيقول سهيل: ما نعرف اسم الرحمن ولكن اكتب مثل ما نكتب: باسمك اللهم) إلى آخر الصلح، فيعترض سيدنا عمر فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتراني أرضى وتأبى يا عمر؟!) فسيدنا عمر رأى أن الشروط فيها ضرر على المسلمين فقال: (يا رسول الله! أولسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالكافرين؟ قال: بلى، قال: أولست برسول الله؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟) فيقول سيدنا أبو بكر لـ عمر: (الزم غرزه).
وهذا سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهره).
وهذا سيدنا عبد الله بن عباس يقول للصحابة: أيها الناس! يوشك أن تعذبوا وأن يخسف بكم؛ أقول لكم قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وقال عمر.
وقال: أيها الناس! يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وقال عمر.
ولما حدث أبو الدرداء معاوية: (أن رسول الله نهى بيع الورق والذهب إلا مثلاً بمثل.
فقال: ولكني لا أرى بهذا بأساً؛ فقال أبو الدرداء: أيها الناس! من يعذرني من معاوية؟! أخبره عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك ببلدة أنت فيها).
وعمران بن حصين رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء خير كله)، فيقول بشير بن كعب وكان يهودياً فأسلم: ولكنا نجد أن فيه رقة وضعفاً، وأن فيه خيراً، فقال: أحدثك عن رسول الله وتحدثني عن معاريضك! لا آتيك بحديث أبداً، فجعل الصحابة يقولون له: يا أبا نجيد إنه طيب! فما زالوا به حتى سكن عنه غضبه.
وهذا سيدنا عبد الله بن عمر قال عنه سيدنا نافع: لو أن رجلاً رأى عبد الله بن عمر في اتباعه لآثار النبي صلى الله عليه وسلم لقال: جن عبد الله بن عمر، كان يرخي عنان ناقته ويقول لـ نافع: لعل خفاً يقع على خف، أي: لعل خف ناقتي يجيء على خف الناقة التي كان يركب عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان يأتي إلى مكان بين مكة والمدينة فيحيد عن الطريق، وعندما يسأل عن ذلك؟ يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ويأتي إلى شجرة بعينها يقيل تحتها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيل تحتها.
وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع

(22/7)


الأدلة القرآنية على وجوب اتباع السنة والنهي عن مخالفتها
قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24].
الدعوة إلى السنة فيها حياة للقلوب والأرواح: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
وقال الله تبارك وتعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1 - 2].
وقال الله تبارك وتعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].

(22/8)


الأدلة من السنة على وجوب اتباع السنة وتحريم مخالفتها
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين أيديكم أيام الصبر، للمتمسك منهم بما أنتم عليه أجر خمسين شهيداً، قالوا: منهم يا رسول الله؟! قال: بل منكم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجد، وإياكم ومحدثات الأمور).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: ما عندنا من كتاب الله أحللنا حلاله وحرمنا حرامه، ألا وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله).
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له عمر بن الخطاب: إنا نجد بعض صحف اليهود فتعجبنا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمتهوكون أنتم بعدي -أي: أمتحيرون أنتم بعدي- وقد جئتكم بها بيضاء نقية؟! والذي نفسي بيده لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
وفي رواية: (أن عمر كانت عنده نسخة من التوراة، فجعل يقرأ فيها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله يتغير وجهه ويغضب، فقال أبو بكر الصديق لـ عمر: ثكلتك الثواكل إن أغضبت رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال عمر: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله! رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمتهوكون أنتم بعدي؟ والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
وفي رواية: (والله لو بعث موسى فيكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفي رواية: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
فهذه أحاديث وآيات تدل على فضل الاتباع؛ قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وشأن عظيم أن تحِب وأعظم منه أن تحَب، ولن يحبك الله عز وجل حتى تتبع هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تبارك وتعالى: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] ويقول الله تبارك وتعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] فجعل طاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي عين طاعة لله عز وجل، وقال الله تبارك وتعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فهذه طاعة مستقلة لله فيما أمر به من قرآن، ثم طاعة مستقلة لرسول الله فيما حرمه ولم يحرمه الكتاب، ثم لم يفرد طاعة مستقلة لأولي الأمر، وإنما عطف طاعتهم على طاعتهم لله ورسوله كما قال أهل العلم.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].

(22/9)


مناقشة أقوال من حكموا العقل على النقل والرد عليهم

(22/10)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:16   رقم المشاركة : 29
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

أول معصية سببها تحكيم العقل
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: فإن أول من عارض الله بعقله هو أبو مرة إبليس اللعين، فهو أول من عارض الشارع الحكيم، فقد حكم عقله حين أمره الله عز وجل بالسجود لآدم: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76] فأول معصية كانت في هذا الكون سببها تقديم العقل وتحكيمه.
يا إخوتاه! العقول بعد مجيء الشرع لا تستقل بتحسين ولا بتقبيح، وإلا فلماذا يزوج الواحد منا ابنته برجل غريب بعدما يجلس طوال عمره يؤكلها ويشربها ويلبسها أحسن الثياب؟! وهناك بعض العقول تقول لك: (جحا أولى بلحم ثوره)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الحمار الأهلي ولم يحرم الحمار الوحشي، أليس هذا حماراً وهذا حماراً، فلماذا يأتي التحريم في هذا والحل في هذا؟ وأكل لحم الخيل حلال، فلماذا يحرم أكل لحم البغال العقول لا تستقل بتحسين أو بتقبيح بعد مجيء الشرع، لكن الشرع هو الحاكم والعقل محكوم عليه، والشرع يأتي بمحارات العقول لا بمحالاتها، أي يأتي بالأشياء التي تحتار العقول فيها من علم الغيب، فيأتي الشرع ليبينها للناس، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان همزة الوصل ما بين السماء والأرض.
ونقول للناس: أي عقل نحتكم إليه؟ ألعقل الأوروبي الجاهلي الذي يبيح نكاح المحارم، وزواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، ويحل اللواط؟ أنحتكم إلى العقل الأوروبي لأجل أن نخترع القنبلة الذرية؟ أم نحتكم إلى عقل الهندوس الذي أباح لهم عبادة البقر والفئران؟ أم إلى عقل اليابانيين الذين يعبدون بوذا؟ أم إلى عقل عوام المسلمين من بائعي الترمس وبائعي الفول؟ بأي عقل نأخذ؟ عقل الرجل العامي أم الرجل المفكر؟! وفي الفلسفة هل نأخذ بعقل الفلاسفة الإلهيين أم الفلاسفة الماديين؟ وهل نأتي بأقوال لـ أرسطو وهي ما نفعت أمة اليونان ثم نضيع هدينا؟!

(22/11)


تاريخ أعداء السنة
يقول الإمام الشافعي: إنما فسد العرب لما اتبعوا لسان أرسطو طاليس.
المعتزلة أتت بالمنطق وحكمته، وأتت بعلم الكلام وتركت لسان الفطرة والهدي القرآني الجميل.

(22/12)


تاريخ ظهور المبتدعة الذين ردوا السنة قديماً
وكان أول شيء أنه بدأ تغييب السنة من أيام الخوارج، حيث كفروا سيدنا علياً وحزبه، وسيدنا معاوية وحزبه، وأصحاب الجمل، ومن حضروا موقعة صفين، وقالوا: كل هؤلاء كفرة فكيف يؤخذ منهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! فأنكروا حد الرجم؛ لأنه أتى من شيعة علي وهم أناس كفار، وأنكروا حدوداً كثيرة لأنها أتت بالسنة عن طريق الصحابة الذين كفروهم.
كذلك الشيعة كفروا الصحابة كلهم، وحكموا بالإسلام لخمسة عشر صحابياً من شيعة علي؛ ولذلك لم يقبلوا الأحاديث المروية عن كل الصحابة الذين كفروهم.
ثم جاء المعتزلة وقالوا: العقل فوق النقل، العقل فوق السنة، وأي حديث يعارض العقل فلا نقبله؛ فقالوا: أحاديث الآحاد لا نأخذ بها في العقيدة، نريد الأحاديث المتواترة، ولذا ردوا حديث رؤية المؤمنين لربهم في الجنة وقد رواه ثلاثون صحابياً، بل إنهم كانوا قليلي أدب، فهذا عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة روى له الأعمش حديثاً فقال: لو قابلت الأعمش لقلت له: أنت كذاب، ولو سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته عليه، ولو لقيت الله لقلت له: ما على هذا أخذت الميثاق منا! ويقول النظام: من سمرة بن جندب؟ قبح الله سمرة! ويقول عن عبد الله بن مسعود في حديث انشقاق القمر أنه رآه بعينيه قال: كذب.
ويقول: من علي بن أبي طالب قد أفتى برأيه فضل! ويقول: إن عمر بن الخطاب شك في إيمانه يوم صلح الحديبية.
ويقول: لو شهد عندي علي بن أبي طالب وطلحة والزبير على رابطة بقل ما أخذت بشهادتهم.
إذاً قالوا: إن أحاديث الآحاد كلها لا نأخذ بها؛ وقد حكى الإمام الشافعي في كتابه أنه قابل رجلاً من المبتدعة فقال له الرجل: لو أن رجلاً أخذ بركعتين فقط من الصلاة وأتى بأقل شيء من الصلاة ثبت له حكم الصلاة.

(22/13)


ظهور أعداء السنة من القرآنيين في الهند
وقد قتل سنة ألف وتسعمائة واثنين في الهند في قرية تسمى البنجاب رجل مخبول اسمه غلام نبي أو عبد الله الجكرالوي وكان المفروض أن يدخلوه مستشفى المجانين وقد أنشأ جماعة اسمها: جماعة القرآن وقال: لا نأخذ إلا بالقرآن ونرد السنة كلها.
وجاء بعده أحمد برويز جردبوري وأحمد الدين الأمرتسري كل هؤلاء من مبتدعة الهند، وهم موجودون الآن في الهند، ينكرون السنة مطلقاً، فإذا قيل لهم: كيف تصلون؟ قالوا: الصلاة إما فرضان وإما ثلاثة فروض وإما خمسة فروض، المتقدمون منهم قالوا: نصلي خمسة فروض؛ لقول الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114] فهذه هي الخمسة الفروض.
ثم جاء المتأخرون منهم وقالوا: صلاة الظهر والعصر والمغرب هذه كلها بدعة، فنحن نصلي ثلاث ركعات فقط.
وجاء أناس بعدهم وقالوا: نصلي فرضين فقط، وهما: الصبح والعشاء، والأذان ثابت في السنة لكنهم قالوا: لا يوجد شيء اسمه أذان.
فإن قيل لهم: كيف تصلون؟ يقولون: إن الله كان علياً كبيراً، بدلاً من أن يقول: الله أكبر يقول: إن الله كان علياً كبيراً، ويقرأ الفاتحة ثم يقرأ عدة آيات.
قلنا: فالركوع ستقول فيه: سبحان ربي العظيم وبحمده، يقول لك: بل أركع ثم أقرأ قرآناً بصوت عالٍ.
ستقول له: أذكار الركوع جاءت بها السنة، يقول لك: لا، أنا عندي قرآن.
وفي السجود ستقول: سبحان ربي الأعلى كما جاءت به السنة؟ يقول: لا، أقرأ خمس آيات من كتاب الله، وسجدة واحدة تكفي.
فهذه هي صلاتهم! نأتي إلى الزكاة فنقول: من أين تأخذون نصاب الزكاة؟ قالوا: نكتشفه من القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111] فالمال يستوي مع النفس، ثم قال في نصاب البدن: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:65] فيكون نصاب الأبدان العشر، فكل واحد يشتغل ويأتي فجر اليوم الثاني فيدفع لإمام المسجد عشر ما اكتسبه.
فهذه الزكاة عندهم يومياً.
نأتي إلى الصيام فالمتقدمون منهم قالوا: نصوم شهر رمضان مثل المسلمين، والمتأخرون قالوا: ولماذا شهر رمضان بالذات؟! ثم قالوا: ولماذا نحسب بالحساب القمري؟ فالحساب القمري إنما هو حساب أهل الجاهلية، فنحن نحسب بالحساب الشمسي، ونحدد من واحد وعشرين أكتوبر إلى واحد وعشرين نوفمبر كل سنة فنصومها.
ثم قالوا: ولماذا نصوم الشهر كله؟! (أياماً معدودات) وأياماً هذه جمع قلة، وهي من العدد ثلاثة إلى العدد تسعة، فنصوم من واحد وعشرين رمضان إلى صبيحة يوم العيد، فهذا هو الصوم عند القرآنيين الذين ينكرون السنة! نأتي إلى الشرك فنقول لهم: ما هو الشرك عندكم؟ قالوا: الشرك اتباع السنة، أقسم بالله إنه هذا اعتقادهم، وأما الموت والبرزخ وما بعده فقولون: هذه القبور ما هي إلا مكان لحفظ الأجساد من التعفن، لكن وجد سؤال ملكين، ولا عذاب قبر ولا أي شيء من هذه الأشياء! وعندما قلنا لهم: ما الجنة والنار؟ انقسموا في هذا إلى فريقين: فريق قال: الجنة والنار موجودتان لكن لم يخلقا بعد وسوف يخلقهما الله يوم القيامة.
والفريق الآخر قالوا: الجنة والنار غير موجودتين ولا يوجد بعث، وهذه الحياة ستنقضي، والناس كانوا من قبل يركبون على الحمار والبعير، ونحن الآن في الرقي والتطور، فهذه هي جنة الفردوس بالنسبة للناس.
ولك أن تقول عن هؤلاء ما تريد! اللهم إنا بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا! إلهي! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبك نصيباً.
إلهي! ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله فكن دليلنا.
إلهي! ما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه فكن أنيسنا.
إلهي! أتينا أطباء عبادك ليداووا لنا خطايانا فكلهم عليك يدلنا، اللهم عرفنا وجه نبينا في رضوانك والجنة، واحشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مفتونين ولا مرتابين.
اللهم اجعل نبينا خير النبيين عندك مكانة، وأعظمهم عندك وسيلة، اللهم اجزه خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته.
اللهم يا ولي الإسلام وأهله! ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك عليه، اللهم ثبتنا على القرآن والسنة حتى نلقاك عليهما، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
إخواني! تبرعات اليوم للفقراء والمساكين وأعمال الدعوة في المركز، ومجلة التوحيد مع فتاوى للشيخ ابن باز هدية، وكتاب الحضارة الإسلامية للدكتور اللواء أحمد عبد الوهاب.

(22/14)


مقولات أصحاب حركة التغريب وخطرها على الأمة
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: فإن حركة التغريب انتقلت من الهند إلى مصر، والأشاعرة يسميهم العلماء مخانيث المعتزلة؛ لأنهم يقدمون العقل على النقل، ويقولون: أحاديث الآحاد لا نأخذ بها في مجال العقيدة؛ ولذلك فالمدرسة العقلية الحديثة والقديمة ردت أحاديث كثيرة من هذه الأحاديث، كأحاديث نزول المسيح عيسى ابن مريم في آخر الزمان، فقد ردها الشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا ومحمود شلتوت ومصطفى المراغي ومحمد بخيت المطيعي مع أنهم كانوا مدافعين عن الإسلام في مجالات أخرى، مثل مجال الإصلاح الاجتماعي، لكن في مجال السنة تخبطوا كثيراً، فما أخذوا بأحاديث نزول المسيح عيسى ابن مريم في آخر الزمان، ولا بأحاديث الدجال، فلم يعترفوا بها، ولا بأحاديث انشقاق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا استخراج حظ الشيطان من قلب نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا حديث لطم موسى لملك الموت وهو في صحيح البخاري ومسلم.
كذلك ردوا حديث الذبابة، وحكموا العقل حتى في صحيح البخاري ومسلم، وردوا أحاديث كثيرة من السنن وغيرها.
وهذا معمر القذافي بعثت له رابطة العالم الإسلامي رسالة تخاطبه هل هو قال: لابد أن نحذف (قل) من سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والمعوذتين لأن لفظ (قل) كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنكر أنه قال هذا الكلام، ولكنه قال أمام الوفد كما هو مسجل: أما السنة القولية فآخذ منها ما يوافق عقلي.
وقد بعث الله الشيخ ابن باز بكتاب يسأله فيه عن حقيقة ما نسب إليه على لسان صحفية إيطالية كتبت عنه كتاباً أسمته: (القذافي نبي الصحراء) وهذه الصحفية قالت له في ضمن ما قالته: كما ينقله الشيخ ابن باز يا نبي الله! هل رعيت الغنم؟ قال: بلى ما بعث الله نبياً إلا ورعى الغنم.
والآن قد تجد رجلاً مثلاً صاحب (مخدرات) يقول لك: أنا (جدع) أنا (ابن بلد) أنا (عترة)، لكن عمرك ما تجد صاحب مخدرات يقول لك: أنا نبي.
محمود أبو رية عدو السنة وعدو أبي هريرة كتب كتاباً اسمه: شيخ المضيرة أبو هريرة كله افتراء على أبي هريرة، وله كتاب اسمه: أضواء على السنة المحمدية أنكر فيه أحاديث كثيرة من البخاري ومسلم، وما مات حتى اسود وجهه، وجعل يصيح في سكرات الموت يقول: ما لي ولـ أبي هريرة! ما لي ولـ أبي هريرة! فانظر كيف انتقم الله منه أشد انتقام، وجعله عبرة في حياته وبعد مماته.
وهناك أناس تبعوا محمود أبو رية في رد السنة مثل: الدكتور أحمد زكي أبو شادي أول رئيس تحرير مجالس العرب الكويتية، حيث قال: إن أحاديث كثيرة في البخاري ومسلم لا يقبلها العقل، ونحكم عليها بالوضع.
وجاء بعده شخص اسمه محمد أبو زيد الدمنهوري قال: إن الاحتكام إلى السنة يصيب الأمة بالصداع، ولن تستريح هذه الأمة من صداعها حتى نبدأ بحرق البخاري ثم بحرق مسلم، وحينئذ ترتاح الأمة من صداعها.
وتبعهم طه حسين، وتوفيق الحكيم وإبراهيم عبد القادر المارزي الذي أنكر حديث الهجرة، ومحمد بخيت المطيعي شيخ الأزهر سابقاً أنكر أحاديث الخلافة، ومحمد عمارة أنكر أحاديث الخلافة وقال: إن هذه الأحاديث دستها قريش لمؤامرة سياسية.
وحسن الترابي أنكر حد الرجم وحد الردة وقال: يجوز في الدولة الإسلامية أن يرتد المسلم أو المسيحي عن دينه، بل يقول بتزويج المسلمة من الكتابي، وهذا موجود في كتابه: تجديد الفكر الديني.
ويقول: ويجوز أن يكون للجنة تسعة أبواب، منها باب يسمى باب الفن، يدخل منه الفنانون إلى الجنة! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

(22/15)


الشفاعة
مسألة الشفاعة من مسائل العقيدة المميزة بين أهل السنة وأصحاب البدع، وقد وردت آيات وأحاديث متواترة تثبت الشفاعة يوم القيامة، ومن الشفاعة ما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو عام له ولغيره من أمته كالشهداء وغيرهم

(23/1)


إثبات أهل السنة للشفاعة وإنكار الخوارج والمعتزلة لها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: فحديثنا اليوم هو عن الشفاعة.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم، وبـ الدجال، وبالشفاعة، وبعذاب القبر، وبقوم يخرجون من النار بعد ما دخلوا.
أي: سيكون في هذه الأمة قوم يكذبون بمسائل من مسائل العقيدة بسبب أنها جاءت عن طريق أخبار الآحاد، وهي عندهم ظنية الدلالة، أي: تفيد الظن ولا تفيد العلم.
والحقيقة: أن أحاديث الشفاعة متواترة عند المحدثين، ولقد جمع العلماء طرق أحاديثها.
أما شبهة أن أخبار الآحاد لا يعمل بها في مجال العقائد فهذه دسيسة من قبل أعداء السنة، ولقد تولى الرد عليهم فأفحمهم الإمام الشافعي في الرسالة، وابن حزم في إحكام الأحكام، وابن القيم في الصواعق المرسلة، وبوب الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب أو كتاب أخبار الآحاد، وللشيخ الألباني حفظه الله رسالة مستقلة في أن الحديث حجة بنفسه في مجال العقائد، وللشيخ عبد الله بن جبرين أيضاً رسالة في أخبار الآحاد وفي حجيتها في موضوع العقائد.
أهل السنة في موضوع الشفاعة وسط بين الفرق، فبعض فرق هذه الأمة كالمعتزلة والخوارج أنكرت بعض مقامات الشفاعة، وهي الشفاعة الخاصة بأصحاب الكبائر، وفريق من هذه الأمة غلا في موضوع الشفاعة فأثبتها حتى للأموات، وأطلق إثباتها، وأهل السنة وسط بين الفريقين؛ لأنهم يجمعون بين الأحاديث ولا يأخذون بحديث ويتركون آخر.
فمعنى الشفاعة في اللغة: السؤال في التجاوز عن الذنوب، ويسمى الرجل الذي يشفع: شافعاً أو شفيعاً أو مشفعاً، والذي يقبل الشفاعة يسمى: مشفعاً، وفي الحديث: (إذا بلغ الحد السلطان فلعن الله الشافع والمشفع) فالمعنى اللغوي يوافق المعنى الشرعي في الشفاعة.

(23/2)


الجمع بين الأدلة النافية للشفاعة والأدلة المثبتة
وهناك آيات نفت الشفاعة والشفيع، وهناك آيات أثبتت الشفاعة والشفيع، فكيف نجمع بينها؟ فمن الآيات الواردة في نفي الشفاعة قول الله تبارك وتعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48].
ويقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254].
وقال تعالى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23].
هذه ثلاث آيات في نفي الشفاعة.
وهناك آيات في نفي الشفيع، يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51].
وقال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:70].
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18].
وقال تعالى أيضاً: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100] فهذه الآيات تنفي الشفيع.
وهناك آيات تثبت الشفاعة والشفيع، يقول الله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، فيكون هناك شفاعة بعد إذن الله تبارك وتعالى.
ويقول الله تبارك وتعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28].
أما الآيات الواردة لإثبات الشفيع فمنها قول الله تبارك وتعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109].
إذاً: فكيف تجمع بين آيات تثبت الشفاعة وآيات تنفي الشفاعة؟ يقول الله تبارك وتعالى أيضاً: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، (إلا) هنا استثناء ناقص أي: الذين يعبدون الأوثان لا يملكون الشفاعة، لكن يملكها الذين يشهدون بالحق.
مثال للاستثناء الناقص: قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26] يعني: لا يسمعون كلام اللغو والإثم، وإنما قول: (سلاماً).
فنقول: الجمع بين الآيات المثبتة للشفاعة والآيات النافية للشفاعة: أن الآيات النافية للشفاعة المقصود بها نفي الشفاعة التي تطلب من غير الله ابتداءً؛ لقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44].
والآيات التي تثبت الشفاعة نجمع بينها وبين الآيات النافية: أن هناك إثباتاً للشفاعة بشروط وهي: أولاً: قدرة الشافع على الشفاعة، يعني: فلا يستشفع الشخص بأموات لطلب مسألة من مسائل الدنيا! يقول الله تبارك وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] يعني: لا يوجد شخص يقول لك: أنا أذهب إلى قبر البدوي وأقول له: اشفع لابني يدخل (بكالوريوس) وينجح في دراسة (البكالوريوس) مجال الطب، هذه لا يملكها.
الشرط الثاني: إسلام المشفوع له، ويستثنى من ذلك عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو طالب.
يقول المولى تبارك وتعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18].
أهل التكفير والهجرة يقولون: هذه الآية تنفي الشفاعة لأن الظالم هو مرتكب الكبائر، فدلت الآية على نفي الشفاعة.
نقول: قال علماء التفسير: الظالمون هنا المقصود بهم الكافرون، قال هذا الحافظ ابن كثير، وقال هذا أيضاً الإمام البيهقي.
قال البيهقي: الظالمون ها هنا هم الكافرون، يشهد لذلك مفتتح الآية، إذ هي في ذكر الكافرين، ويقول الإمام ابن كثير: أي: ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم، ولا شفيع يشفع لهم {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] أي: ما للكافرين من حميم ولا شفيع يطاع، يستثنى من ذلك أبو طالب، فالرسول صلى الله عليه وسلم يشفع له يوم القيامة؛ فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ إلى كعبيه، وتوضع الجمرة في أخمص قدمه يغلي منها دماغه، فنفعته شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشرط الثالث: الإذن للشافع: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ولذلك يقول المولى عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: (ارفع رأسك، واشفع تشفع) وذلك حين يأتي للشفاعة العظمى يسجد تحت العرش.
الشرط الرابع: الرضا عن المشفوع له، قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] أي: ويرضى عن المشفوع له.
هناك بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة في نفي الشفاعة، ومن الأحاديث التي وضعتها فرقة المعتزلة ونسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، هذا الحديث لا أصل له، كما ورد في كتاب: أسمى المطالب.
وأيضاً هناك حديث وضعته الشيعة: (ثلاثة أنا شفيع لهم يوم القيامة: الضارب بسيفه أمام ذريتي، والقاضي لهم حوائجهم عندما اضطروا إلي، والمحب لهم بقلبه ولسانه).

(23/3)


الشفاعات التي يشفعها الرسول صلى الله عليه وسلم

(23/4)


الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم
الشفاعة العظمى، وهي شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحشر، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له: أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربنا، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً عليه السلام، ثم بعد ذلك يأتون إبراهيم، ثم بعد ذلك يأتون عيسى، ثم يقول لهم عيسى: اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتون محمداً فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاتم الأنبياء، قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأقول: أنا لها أنا لها، فأنطلق فآتي تحت العرش، فأسعى ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح علي من المحامد وحسن الثناء ما لم يفتحه على أحد من قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب! أمتي يا رب! فيقال: يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب)، هذا حديث في شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيضاً من الأحاديث الواردة: يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فأنطلق فأستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فأحمد ربي محامد علمنيها، ثم أشفع، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أرجع، فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، قل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أرجع، فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فأقول: يا رب! ما بقى في النار إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود).
ومعنى هذا في هذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحد له ثلاثة حدود: أخرج من النار من كان في قلبه مثقال برة من إيمان أخرج من النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان أخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وهناك حديث آخر عن أنس بن مالك رضي الله عنه، يرويه عنه الحسن البصري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحد له أربعة حدود يشفع فيهم، ثم لا يبقى بعد ذلك إلا قوم نطقوا بالشهادتين، ولم يأتوا بحسنة واحدة، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفع فيهم فلا يشفع، فيقول الله عز وجل: ليست هذه لك، إنما هي لي هؤلاء عتقائي من النار) يعيرهم أهل النار يقولون: كنتم تعبدون ربكم وكنا لا نعبده، وأنتم معنا في النار؛ فيرسل الله عز وجل ملكاً بكف من ماء فينضحه عليهم، فيخرجون من النار، فلو ضيّفهم واحد من أهل الجنة لوسعهم، وهؤلاء يقال لهم: المحررون.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب: (أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إلى الله تبارك وتعالى: هون على أمتي.
فرد إلي ثانية: اقرءوا على حرفين، فرددت إليه أن هون على أمتي.
فرد إلي الثالثة: اقرءوا على سبعة أحرف، فلك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها.
فقلت: اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم من غير فخر).
وعن ابن طاوس عن أبيه قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنه يقول: اللهم تقبل شفاعة محمد الكبرى، وارفع درجته العليا، وأعطه سؤله في الآخرة والأولى، كما آتيت إبراهيم وموسى.
كل هذه أحاديث في إثبات الشفاعة، والشفاعة العظمى هي المقام المحمود، قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وقد ورد حديث ضعيف في تفسير المقام المحمود بغير الشفاعة، وأنه الجلوس على العرش.
وقد شنع الكوثري على أهل السنة لأجل هذا الحديث الضعيف الذي ذكر فيه أن المقام المحمود أن الله عز وجل يجلس النبي صلى الله عليه وسلم على العرش، ونسبوا هذا إلى الدارقطني، ومجاهد، وقال في هذا ابن القيم بيتين من الشعر في النونية، ثم حرر هذه المسألة تحريراً طيباً جميلاً الشيخ الألباني رد فيه على الكوثري في مقدمة مختصر العلو وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح في تفسير المقام المحمود بأنه الشفاعة العظمى.

(23/5)


الشفاعات الثابتة للمؤمنين

(23/6)


أدلة الشفاعة لأهل الكبائر
ثم هناك شفاعة لأهل الكبائر من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا النوع من الشفاعة تنكره المعتزلة والخوارج، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان شفاعته لأهل الكبائر: (إنه خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، قلنا: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلنا من أهلها؟ قال: هي لكل مسلم).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث الذي أخرجه ابن ماجة: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، كل هذه أحاديث واردة في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر.

(23/7)


الشفاعة لقوم قد أمر بهم إلى النار
وهناك شفاعة أيضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس قد أمر بهم إلى النار، فيستوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الملائكة، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أمر بقوم من أمتي قد أمر بهم إلى النار فيقولون: يا محمد! ننشدك شفاعة، قال: فآمر الملائكة أن يقفوا بهم، قال: فأنطلق وأستأذن على الله عز وجل، فيؤذن لي، فأسجد فأقول: يا رب قوم من أمتي قد أمر بهم إلى النار، قال: فيقول: انطلق فأخرج منهم، فأنطلق، فيخرج منهم من شاء الله أن يخرج، ثم ينادي الباقون: يا محمد! ننشدك شفاعة، فأستأذن فيؤذن لي، فأسجد، فيقال لي: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأثني على الله بثناء لم يثن عليه أحد من قبلي ثم أقول: إن قوم من أمتي قد أمر بهم إلى النار، فيقال: انطلق فأخرج منهم، فيقول: يا رب أخرج منهم من قال لا إله إلا الله ومن كان في قلبه حبة من إيمان؟ قال: فيقول الله عز وجل: يا محمد! ليست تلك لك، تلك لي).
وهؤلاء قوم سيدخلون النار، فيعيرهم أهل النار فيقولون: أنتم كنتم تعبدون الله ولا تشركون به أدخلكم النار، فيحزنون لذلك، فيبعث الله عز وجل ملكاً بكف من ماء فينضح بها في النار، ويغبطهم أهل النار، ثم يخرجون ويدخلون الجنة، فيقال لهم: انطلقوا فتضيفوا الناس لو أن جميعهم نزلوا برجل واحد كان لهم عنده سعة ويسمون: المحررين، وهذا الحديث حديث صحيح.

(23/8)


الشفاعة لقوم يدخلون الجنة بغير حساب
وهناك شفاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم يدخلون الجنة بغير حساب، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أعطيت سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، وقلوبهم على قلب رجل واحد فاستزدت ربي فزادني مع كل واحد سبعين ألفاً، فقال أبو بكر رضي الله عنه: فرأيت أن ذلك آت على أهل القرى ومصيب حافات وأصحاب البوادي) يعني: غير مكة والمدينة والطائف ثم يصل إلى أن يأخذ بيد قوم من الأعراف.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وعدني ربي سبعين ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفاً وثلاث حثيات من حثيات ربي).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل وعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفاً بغير حساب، فقال يزيد بن الأخنس السلمي: والله ما أولئك في أمتك يا رسول الله إلا كالذباب الأصهب في الذبان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربي قد وعدني سبعين ألفاً، مع كل ألف سبعين ألفاً مع كل ألف سبعين ألفاً، وزادني حثيات).
وقال: (سألت ربي عز وجل فوعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفاً على صورة القمر ليلة البدر، فاستزدت فزادني مع كل ألف سبعين ألفاً، فقلت: أي رب! إن لم يكن هؤلاء من مهاجري أمتي؟ قال: إذاً أكملهم لك من الأعراب).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سألت الله عز وجل الشفاعة لأمتي، فقال: لك سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قال: قلت: رب زدني، قال: فإنك لك مع كل ألف سبعين ألفاً قال: قلت: رب زدني، قال: فحثا بين يديه وعن يمينه وعن شماله، فقال أبو بكر: حسبنا يا رسول الله! فقال عمر رضي الله عنه: يا أبا بكر دع رسول الله يكثر لنا كما أكثر الله عز وجل قال: فقال أبو بكر: إنما نحن حفنة من حفنات الله عز وجل.
فقال رسول لله: صدق أبو بكر).
كذلك يشفع المصطفى صلى الله عليه وسلم في دخول الناس الجنة يقول: (أنا أول شافع في الجنة)، يعني: يشفع في دخول الناس الجنة، وهذه شفاعة عظيمة.

(23/9)









رد مع اقتباس
قديم 2012-10-10, 10:17   رقم المشاركة : 30
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الشفاعة في رفع الدرجات في الجنة
كذلك يشفع في رفع بعض الدرجات لأناس لا يبلغها عملهم، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم عن أبي سلمة رضي الله عنه وقد شق بصره فأغمض عينه ثم قال: (إن الروح إذا قبض أتبعه البصر؛ فصرخ أناس من أهل أبي سلمة فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال: اللهم اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه) فبدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع الله عز وجل أبا سلمة درجة لا يبلغها عمله.
كذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم لـ عامر بن الأكوع الذي قتل بعد غزوة حنين، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لعبيدك عامر اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس)، فهذه الشفاعة تكون لنيل درجات لا تبلغها الأعمال.
وقلنا أيضاً: له شفاعة لعمه أبي طالب، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ الكعبين؛ فيغلي منهما دماغه).

(23/10)


الشفاعات الثابتة للمؤمنين
هل هناك شفاعة لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين؟ نعم، يشفع المؤمنون والشهداء والملائكة.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين: ربيعة ومضر).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ليخرجن من النار بشفاعة رجل ما هو بنبي أكثر من ربيعة ومضر).
قال الحسن: كانوا يرون أنه عثمان رضي الله عنه أو أويس القرني.
وهناك شفاعة للأولاد يشفعون في آبائهم! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب أنى لي هذه؟ فيقال: باستغفار ولدك لك).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أطفال المسلمين الذين يموتون قبل الحلم وصغارهم دعاميص، الجنة يتلقى أحدهم أباه -أو قال: أبويه- فيأخذ بثوبه -أو قال: بيده- كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا، فلا يتناهى -أو فلا ينتهي- حتى يدخله الله الجنة).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحلم إلا أدخلهما الله وإياهم بفضل رحمته الجنة، فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: حتى يجيء أبوانا، ادخلوا الجنة، حتى يجيء أبوانا، ادخلوا الجنة، حتى يجيء أبوانا، فيقولون مثل ذلك؛ فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم)، وهذا من كرم الله تبارك وتعالى!

(23/11)


أسباب الشفاعة يوم القيامة

(23/12)


شفاعة القرآن والصيام
هناك أسباب أخرى للشفاعة، فهناك شفاعة للقرآن الكريم والصيام، الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهناك حديث موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح له حكم الرفع يقول فيه: (اقرءوا القرآن؛ فإنه نعم الشفيع يوم القيامة، يقول القرآن يوم القيامة: يا رب حله حلة الكرامة).
كل أهل الجنة لا يدخلون الجنة إلا وعلى رءوسهم التيجان؛ حتى تقول الملائكة للجنة: طوبى لك يا دار الملوك وحامل القرآن له تاج خاص بالقرآن، وإن كان شهيداً فله كذلك تاج خاص، وقد يلبس ثلاثة تيجان، يقول أبو هريرة: (اقرءوا القرآن؛ فإنه نعم الشفيع يوم القيامة، إنه يقول يوم القيامة: يا رب! حله حلة الكرامة يا رب! اكسه كسوة الكرامة، فيكسى كسوة الكرامة يا رب! أرض عنه، فليس بعد رضاك شيء).
وعن عبد الله بن عمر في الصحيح الموقوف عليه قال: (يجيء القرآن يشفع لصاحبه فيقول: يا رب! لكل عامل عمالة من عمله، وإني كنت أمنعه لذة النوم فأكرمه، فيقال: ابسط يمينك فيملأ من رضوان الله، ثم يقال له: ابسط شمالك فيملأ من رضوان الله، ثم يكسى كسوة الكرامة، ويحلى حلية الكرامة، ويلبس تاج الكرامة).

(23/13)


سكنى المدينة المنورة والموت بها
من أسباب الشفاعة أيضاً: سكن المدينة المنورة، والموت بها: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصبر أحد على لأوائها فيموت إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة إذا كان مسلماً).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من صبر على لأوائها - أي: على شدة المدينة - كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة).

(23/14)


الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أيضاً من أسباب الشفاعة: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب الوسيلة له: يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله لي الوسيلة، فإنه لا يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى على محمد صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي)، وهذا الحديث إسناده حسن.
أما قول من قال: (من زار قبري وجبت له شفاعتي) فالحديث ضعيف.

(23/15)


شفاعة المصلين على الميت
أيضاً من أسباب الشفاعة شفاعة المصلين على الميت الواحد: يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل المسلم يقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه).

(23/16)


منع اللعانين والمكذبين بالشفاعة من الشفاعة
إذاً: من المسلم الذي لا تقبل شفاعته؟ صنفان من الناس لا تقبل شفاعتهما يوم القيامة وهما: اللعانون والمكذبون بالشفاعة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة).
فبعض الناس تعودت ألسنتهم على اللعن؛ والجزاء من جنس العمل، فإن اللعن دعاء بالطرد من رحمة الله، فإن لم يكن هو لها أهلاً رجعت عليك.
كذلك من كذب بالشفاعة لا يشفع في الناس، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (من كذب بالشفاعة فليس له فيها نصيب)، الذي يكذب بالشفاعة كان جزاؤه من جنس عمله، فلا تقبل شفاعته يوم القيامة.
قد تقبل شفاعته في الدنيا، كأن صادف سارقاً سيذهبون به إلى الحاكم يقول: اتركوه يا جماعة! استروا عليه ربنا يستر علينا وعليكم في الدنيا والآخرة هل تجوز؟ والزبير بن العوام شفع في سارق، لكن هذا إذا لم يصل الأمر إلى السلطان، فإذا وصل الأمر إلى السلطان فلا عفا الله عنا إن عفونا عنه.
كان صفوان بن أمية بن خلف نائماً في المسجد، وثوبه تحت رأسه، فجاء سارق فأخذه، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر السارق، فقال صفوان: يا رسول الله! أيقطع رجل من العرب في ثوب، قد عفوت عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلا كان هذا قبل أن تجيء به؟ ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي، فإذا وصل إلى الوالي فعفا فلا عفا الله عنه، ثم أمر بالقطع من المفصل).
وقال ابن الجوزي في التنقيح: وحديث صفوان حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد في مسنده.

(23/17)


الذين يؤتون أجرهم مرتين
من الذين يضاعف لهم الله عز وجل الأجر فيعطيهم أجرهم مرتين؟ المولى عز وجل يضاعف الأجر كرماً منه وتفضلاً لبعض خلقه، فيعطيهم الأجر مرتين، ومن هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد صح عن ابن مسعود (أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يوعك وعكاً شديداً، فقال له: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً! قال: إني لأوعك كما يوعك الرجلان منكم قال: ذلك أن لك أجرين؟! قال: نعم).
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيه الله عز وجل أجره مرتين.
ومنهم أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن: يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31].
كذلك مؤمن أهل الكتاب الذي آمن بنبيه ثم آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، يعطيه الله عز وجل أجره مرتين: يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص:52 - 54].
ويقول علماء الضرار: إن النصارى يدخلون الجنة، فعلماء الوحدة الوطنية يقولون: إن النصارى ليسوا كفاراً، وسيدخلون الجنة؛ لأن هؤلاء مؤمنون برسولهم.
ويحاولوا أن يقرروا كلامهم هذا فيقولون: يقول الله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82]، لكن الآية التي بعدها تبين أنهم آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالذين يعطيهم الله عز وجل أجراً ومغفرة رجل آمن بنبيه ثم آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، كـ عبد الله بن سلام آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت، فدخل فاحتبسه صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا معشر يهود! ماذا تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: حبرنا وابن حبرنا وخيرنا وابن خيرنا! وسيدنا وابن سيدنا! فلما خرج ودعاهم إلى الإسلام قالوا: سفيهنا وابن سفيهنا! وجاهلنا وابن جاهلنا!) فـ عبد الله بن سلام له أجران.
كذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران).
كذلك الحاكم المجتهد إذا أصاب الحق له أجران: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد).
كذلك المرأة التي تتصدق على زوجها وهي غنية، فتعطي زوجها ولا تعيره لفقره: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة على ذي قرابة يضاعف أجرها مرتين).
وأخرج الشيخان عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت: (جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجارات من الأنصار حاجتها حاجتي فخرج علينا بلال فقلنا: له ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألان: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجرهما، فدخل بلال فسأله فقال صلى الله عليه وسلم: لها أجران؛ أجر القرابة، وأجر الصدقة)، فالحديث جاء يبين فضل الصدقة على الأقارب وأنها تضاعف.
كذلك ممن يؤتيهم الله عز وجل أجرهم مرتين: طالب العلم الذي يبلغه الله عز وجل أمنيته في العلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من طلب علماً فأدركه كتب الله له قسمين من الأجر، ومن طلب علم ولم يدركه كتب الله له قسماً من الأجر).
كذلك ممن يعطيهم الله عز وجل أجرهم مرتين: الذي يواظب على صلاة العصر: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم - يعني: العصر - فضيعوها، فمن حفظها اليوم فله أجرها مرتين).
كذلك المجاهد الذي يقتل نفسه خطأ له أجران، كما ثبت في حديث سلمة بن الأكوع قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وكان سيف عامر بن الأكوع فيه قصر، فتناول به ساق يهودي فرجع ذباب السيف فأصاب ركبة عامر؛ فمات منها فقلت: يا رسول الله! زعموا أن عامراً قد حبط عمله فقال: كذاب من قال، إن له لأجرين).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للماشي في الجنازة قيراطان، وللراكب قيراط).
كذلك الصابرون يعطيهم الله عز وجل أجرهم مرتين، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:54].
فاكظموا الغيظ، فالذي يكظم الغيظ حتى تأتي الفرصة فيعفو له الأجر مرتين، ومن كتم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه له أجر عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظه وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله قلبه نوراً يوم القيامة)، صححه الألباني.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة فتوجه على رءوس الأشهاد وزوجه من الحور العين ما يشاء).
فاكتموا غيظكم، وحولوه إلى دعوة إلى الله، ولو أن كل أخ دعا عشرة إخوة وكل أخت دعت عشر أخوات إلى الله تبارك وتعالى، وصدقوا الله تبارك وتعالى في دعوة هؤلاء فإن الله يضاعف عدد الإخوة في مصر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

(23/18)


الأسئلة

(23/19)


وجوب الإيمان بما أخبر الله دون السؤال عن الكيفية

السؤال
ذكرتم في هذا الدرس أن القرآن يشفع لصاحبه ويقول يوم القيامة: يا رب كذا يا رب كذا فهل يتكلم القرآن يوم القيامة وهو ليس بمخلوق؟ وقد سمعت أنه من صفات الله عز وجل ولا يتكلم، فنرجو التوضيح في ذلك وجزاكم الله خيراً؟

الجواب
مشاهد القيامة مشاهد غريبة لا يتدخل الإنسان فيها بعقله، فتصوروا مثلاً حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (يؤتى بالموت على هيئة كبش ويذبح ما بين الجنة والنار).
هل يستطيع إنسان أن يتصور أن الموت يأتي في صورة كبش؟ وهذا مخلوق؛ فكيف بصفات الخالق! القرآن من كلام الله تبارك وتعالى، والكلام صفة من صفات الله تبارك وتعالى، هل يستطيع الإنسان أن يكيف الصفة؟ نحن لا نسأل عن الكيفية، وإنما نؤمن بذلك ونصدقه.

(23/20)


حكم تارك الصلاة

السؤال
ما حكم تارك الصلاة؟

الجواب
هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على أقوال، وجمهور أهل العلم منهم الشافعية والمالكية والحنفية وفريق من الحنابلة على رأسهم ابن قدامة الحنبلي ذهبوا إلى أن تارك الصلاة تكاسلاً ليس بكافر، وذهب بعض الحنابلة إلى أن تارك الصلاة كافر، ومنهم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين له عندي نص الفتوى التي أرسلها إلي، حيث قال: لو أن عامياً قلد مفتيه وكان مفتيه يقول بأن تارك الصلاة غير كافر ولا يخلد في النار، فقلده في ذلك لا يكفر.
وهذه مسألة مختلف فيها، فجمهور أهل العلم على عدم كفر تارك الصلاة، والذي يرجح هو من يملك أداة الترجيح.
واستدل جمهور أهل العلم بحديث عبد الله بن مسعود أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (يأتي قوم لا يعلمون من الإسلام شيئاً لا يدرون ما صلاة ولا زكاة، لا يعلمون إلا قول لا إله إلا الله)، وبأحاديث الشفاعة، وهذا خلاف معتبر، والله أعلم.

(23/21)


عدم وجود تعارض بين حديث النهي عن الشفاعة في الحدود وحديث المجيز للشفاعة ما لم تبلغ السلطان

السؤال
قلتم إنه يجوز الشفاعة في الحدود، بينما رفض النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشفاعة للمرأة المخزومية وقال لـ أسامة: (أتشفع في حد من حدود الله؟) فهذا يدل على عدم جواز الشفاعة في الحدود، فما قولكم في ذلك؟

الجواب
لا تعارض بين الحديثين، فالحديث الأول الذي ذكرناه يدل على جواز الشفاعة في الحدود ما لم يصل الأمر إلى السلطان، والحديث الثاني يبين أنه إذا وصل الأمر إلى الوالي لا تجوز الشفاعة عند ذلك، فلا تعارض بين الحديثين، فهذا حديث يثبت الشفاعة قبل أن يصل الأمر إلى الوالي، أما إذا وصل الأمر إلى الوالي فليست هناك شفاعة، وفي آخر حديث صفوان: (فإذا وصل الأمر إلى الوالي فلا عفا الله عني إن عفوت) فليس هناك تعارض.

(23/22)


إثبات شفاعة الفتاة لأبيها ما لم تبلغ الحلم

السؤال
هل صحيح أن الفتاة التي تموت ولم تتزوج تشفع لوالدها؟

الجواب
الحديث يبين أنهم إن لم يبلغوا الحلم.

(23/23)


التنكيس المنهي عنه في قراءة القرآن

السؤال
فضيلة الشيخ! قرأتم في صلاة الجمعة في أول ركعة سورة البروج وفي الثانية بجزء من سورة طه، فهل يجوز ذلك أم أن هذا من التنكيس المنهي عنه؟

الجواب
التنكيس المنهي عنه هو التنكيس في نفس السورة، فلقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام الليل: فقرأ بالبقرة ثم النساء، ثم آل عمران، فهذا فيه جواز التنكيس في غير السورة الواحدة.

(23/24)


حال رواية أن عمر بن عبد العزيز قابل الأنبياء عند سكرات الموت

السؤال
حضرت خطبة الجمعة لأحد العلماء، فكان يتكلم عن سوء الخاتمة، وتكلم عن مثالين أو روايتين في حسن الخاتمة: الأولى: عن الخليفة عمر بن عبد العزيز والثانية: عن أبي حامد الغزالي، أما في الأولى فقال: إنه حينما حضرت الوفاة عمر بن عبد العزيز أخرج زوجته فاطمة من الحجرة، فخرجت فوضعت أذنيها على الباب، فسمعت عمر رضي الله تعالى عنه يتكلم مع الأنبياء فيقول: أهلاً بأبي البشر آدم، أهلاً بخليل الرحمن إبراهيم، أهلاً بكليم الله موسى، أهلاً بخير الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهل لهذا أصل ثابت؟

الجواب
لم يثبت هذا، وإنما الثابت في كتب الرقائق كما ذكر ابن الجوزي، وابن رجب الحنبلي، وابن أبي الدنيا، وما ذكر في وصايا العلماء عند الموت: أنه لما جاءته الوفاة أخرج فاطمة من عنده ثم قال: مرحا بوجوه ليست بوجوه إنس ولا جان! ثم تلا قول الله تبارك وتعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، قالت فاطمة: فدخلت عليه فإذا هو ميت، والله وأعلم.
هذا هو الثابت في البداية والنهاية، وصفة الصفوة أو حلية الأولياء أو كتاب ابن الجوزي عن موت عمر بن عبد العزيز ولم يثبت غيره، والله أعلم.

(23/25)


حال رواية أن الغزالي رأى ربه قبل الموت جهرة

السؤال
والرواية الثانية ذكرها الخطيب عن أبي حامد الغزالي أنه قال: أحضري لي قميصاً أبيض، ثم اغتسل ونام، ثم مات وترك ورقة مكتوباً فيها أنه رأى الله سبحانه جهرة؛ فهل هذا حقيقي؟

الجواب
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (واعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت).
أهل السنة والجماعة قالوا في مسألة الرؤية: إنها غير ثابتة لأحد من البشر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكليم الرحمن موسى عليه السلام من أولي العزم ولم ير ربه، فما ظنك بمن دونه!؟ أما بالنسبة لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في دار الدنيا فقد اختلف فيها أهل العلم على قولين، وجمهور أهل السنة والجماعة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير ربه عياناً، وإنما رآه مناماً، كما ثبت في حديث الترمذي الذي سأل عنه محمد بن إسماعيل البخاري فقال: حديث حسن صحيح، وهو حديث: (رأيت ربي فيما يرى النائم في أحسن حلة).
فقالوا: إنه رآه مناماً، أما الرؤية الحقيقية فجمهور أهل العلم أنها لم تحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم عائشة رضوان الله عليها، والذين أثبتوا الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ابن عباس رضي الله عنه، وابن عباس جاءت عنه الروايتان، رواية مطلقة ورواية مقيدة، رواية مطلقة تبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه، ورواية مقيدة تبين أنه رأى ربه بعين فؤاده.
والعلماء الذين جمعوا بين الروايتين قالوا: الرواية المطلقة تحمل على المقيدة، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بعين فؤاده.
وبعض أهل العلم منهم الحافظ ابن حجر العسقلاني، والإمام القرطبي توقف في مسألة إثبات الرؤية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والرؤيا مناماً لله تبارك وتعالى من أحد البشر كل بكيفيته.

(23/26)


حكم الاستمناء باليد للضرورة

السؤال
أعمل في إحدى الشركات، وفي مكان الورشة التي أعمل فيها توجد مواد سامة كلحام من الرصاص والقسطير وغيرها، وقد ذكر الأطباء أن ذلك يسبب أضراراً في الجهاز التناسلي وتشوهاً في المولود، فجرى لنا كشف في الدم، ويريدون تحليل دم ومني، فهل يجوز لي الاستمناء باليد للتحليل، مع العلم أنني لم أتزوج بعد، وأنني أعمل في نفس المكان الذي توجد فيه هذه المواد السامة، أرجو الإجابة؛ لأن آخر موعد للتحليل غداً وجزاكم الله خيراً؟

الجواب
مذهب الإمام أحمد بن حنبل أنه يجوز ذلك عند الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، والأولى أن تبعث للشيخ ابن عثيمين رسالة في ذلك.

(23/27)


زهر البساتين فى فضل الصدق والصادقين
الصدق من صفات المؤمنين، ومن خصال المخلصين، فبه ينال صاحبه رضا ربه، وحب خالقه، فما خاب من صدق، ولا خسر من اتخذ الصدق شعاراً له في حياته.
وللصدق مراتب ودرجات، وقد ورد في فضله الكثير من الأحاديث والآيات.

(24/1)


الصدق في القرآن العظيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة وجود إسناده ابن كثير: (إنها ستأتي على الناس سنون خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل لـ أبي هريرة: ما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة).
وحديثي اليوم عن الصدق، فالصدق بداية الطريق إلى الله عز وجل، وهو طريق القوم الذي تندرج منه جميع مقامات السالكين، الطريق الواضح الذي من لم يسر عليه لا يصل إلى رب العالمين، به تميز سكان الجنان من سكان النيران، ومحك الأعمال وروحها وأساسها، وهو أساس عمود اليقين، وقد أخبر الله عز وجل أن الفلاح كل الفلاح في مصاحبة الصادقين، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
وخص الله عز وجل المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ثم قال: {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
وأخبر الله عز وجل أنه لا ينفع يوم القيامة إلا الصدق؛ فقال الله عز وجل: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة:119].
وقسم الله عز وجل العباد إلى صادق ومنافق، قال تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24].
وأخبر الله عز وجل أنه لا ينفع إلا الصدق، قال: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21].
وأخبر الله عن جميع مقامات الإيمان سواء الظاهرة والباطنة، ثم قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].
كان الفضيل بن عياض يقول: إذا كان الله عز وجل سيسأل الصادقين من أمثال عيسى وموسى ويحيى عن صدقهم، فكيف بالكذابين من أمثالنا؟! ولعظم الصدق أمر الله نبيه أن يسأله أن يهبه مخرج الصدق ومدخل الصدق، فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء:80].
وأخبر عن خليله أنه دعاه أن يهب له لسان صدق في الآخرين، قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84].
وأخبر عن أهل الجنة أن مقعدهم مقعد الصدق، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]، ولله در الصادق شيخ الإسلام ابن تيمية! فقد حبس في سجن القلعة بدمشق وأخذوا منه كل الكتب، ولم يتركوا له إلا المصحف فقط، ففاضت روحه، وكان كثيراً ما يختم القرآن، فقد عكف على ختم القرآن، وفاضت روحه عند تلاوة هذه الآية: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس:2].

(24/2)


الأمور المتعلقة بالصدق المذكورة في القرآن
القرآن تكلم عن خمسة أشياء: مخرج الصدق، ومدخل الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق.

(24/3)


مدخل الصدق ومخرج الصدق
والجامع لهذه الأشياء هو الحق الثابت المتصل بالله ولله، وما كان منها بالله عز وجل وبأمر الله عز وجل، فمخرج الصدق تكون فيه ضامناً على الله عز وجل، متحركاً لأمر من أمور الله عز وجل، كمخرج رسولنا صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فقد هرب وفر بدينه ليرسي قواعد الإسلام في بلدة أخرى: ويح قوم جفوا نبياً بأرض ألفته ضبابها والظباء وسلوه وحن جذع إليه وقلوه ووده الغرباء ونحا المصطفى المدينة واشتا قت إليه من مكة الأنحاء كان يلقب بالصادق وما احتملوا صدقه، الحجارة كانت تعلم أنه صادق، كما روى الإمام مسلم يقول سيدنا صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم علي قبل البعثة)، وبرغم هذا ما احتملوا صدقه، فأخذ صدقه ورحل وترك مكة للغوغاء، إذاً: هذا مخرج الصدق.
أما مخرج الكذب فمخرج أبي جهل حينما خرج إلى بدر بعد أن نجت عيرهم، فقالوا: قد نجت العير ولا داعي للقاء محمد، قال: لا، بل نقيم ثلاثة أيام في بدر، ننحر الجزور، ونشرب الخمر، وتعزف القيان حتى تسمع بنا العرب فتخافنا وترهبنا، فكان خروجهم من أجل الكذب ومن أجل الرياء فمات في قليب بدر.
ومدخل الصدق كدخول نبينا صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقد اعترف زعيم اليهود بنبوته منذ أن رآه، وهذا لأن دخوله صدق، قال عبد الله بن سلام: (لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان الناس كنفيه، فلما استبنت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب على الله عز وجل)، فمن أول نظرة نظرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أن وجهه لا يمكن أن يكذب على الله عز وجل، بخلاف الكذاب فلو قمت بدهنه مليون سنة بطلاء أبيض فإن ذرات وجهه تنطق بالكذب، قال: (وكان أول ما سمعته منه: أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام).
أما دخول الأحزاب المدينة فهذا دخول كذب، فـ عمرو بن عبد ود كان أكبر فارس في الجزيرة العربية، وأراد أن يقفز بفرسه على الخندق وكان عريضاً، ويقول للصحابة: من يبارز؟! من يبارز؟ فقال سيدنا علي: يا رسول الله! أنا لها، وكان سيدنا علي مازال شاباً صغير السن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اجلس إنه عمرو)، وفي المرة الثانية يقول عمرو: من يبارز، أما فيكم من يبارز؟ فيقول سيدنا علي: يا رسول الله! دعني له يقول: (اجلس إنه عمراً)، فقال في الثالثة: وإن كان عمرو، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج يبارز فقال: من أنت يا بني؟! ينظر إليه نظرة المستهزئ، قال: أنا علي بن أبي طالب، قال: أما كان في أعمامك من يكفيك، إني والله لا أرضى بقتلك! قال: ولكني والله أحب قتلك، فظل يصاوله حتى قتله علي بن أبي طالب، ولما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك كبر وكبر صحابة رسول الله.
فعندما أراد أبو سفيان ومن معه من الأحزاب دخول المدينة بالزور وبالبهتان وبالكذب، فوالله ما فرقتهم إلا الريح! فما أبقت لهم من كراع ولا خف.
فكل خروج من بيتك تكون فيه ضامناً على الله عز وجل ولأمر من أمور الله عز وجل فهذا مخرج الصدق، وكل دخول في موطن من المواطن تكون فيه ضامناً على الله عز وجل فهذا مدخل الصدق.

(24/4)









رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
tags


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 03:53

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc