وقائع الروم ايلي :
لا يخفى أنه في مبدأ جلوس السلطان كانت الدولة محفوفة بالاتباكات الشديدة والاضطرابات العديدة والثورات الكثيرة المنتشرة بولاياتها بالروم ايلي ولذا أصدر السلطان الأوامر بسرعة إرسال الجنود إلى حدود الصرب والجبل الأسود وبوسنه وهرسك لإخماد الثورة فاستدعت نظارة الحربية عساكر الرديف من كافة الايالات وبعد أن سلحتهم أرسلت غالبهم إلى المواقع العسكرية وشدّدت الأوامر على قوّاد الجنود بالمواقع الحربية ببذل المجهود وصرف الهمة لسرعة إطفاء الثورة.
فانتصرت العساكر العثمانية في غالب الوقائع وشدّد السردار عبد الكريم نادر باشا الحصار على الكسناج حتى أنه بعد أيام كسر جموع الصربيين وهزم قائدهم الجنرال جرنايف الروسي الذي كان متقلداً قيادة الصربيين بإيعاز من دولته التي كانت تسعى في تهييج الطوائف المسيحية على الدولة كما هي عادتها وعادة الدول الأوروباوية الأخرى متى أرادت معاكسة الدولة وانتصر أيضاً أحمد أيوب باشا وسليمان خيري باشا على جيوش الصرب التي كانت تحت قائده لاشانين وفتحت نيشواز ثم رتب الس عسكر عبدي باشا الجنود وتقدّم إلى بلغراد باقي جموع الصربيين.
وخاف البرنس ميلان أمير الصرب من عاقبة الأمر فطلب من قناصل الدول 2 شعبان 1293هـ التوسط في الصلح وبناء على ذلك تداخلت الدول الأوروباوية التي لما أيقنت بعجز الثائرين توسطت في طلب المهادنة ولوالي شهر لوضع شرائط الصلح وأبلغ السير هنري آليوت سفير الإنكليز في الآستانة ذلك إلى الدولة وأيد طلبه جميع السفراء إلا أن الباب العالي اعترض على محرراتهم الشديدة اللهجة ثم قدموا شرائط المصالحة والتزم الباب العالي بقبول المهادنة في ظروف 48 ساعة وكان الباب العالي يظن أن الدول الأوروباوية تعلن أميري الصرب والجبل الأسود بتوقيف الخصام إلا أنهما لم يتوقفا إلا بعد مخابرات وتداخلت دولة الروسيا في الأمر بشدة واستمرّت المخابرات السياسية بين الدول والباب العالي بواسطة السفراء لا تنقطع.
وكانت الدول تغل يد الدولة في غالب المخابرات عن التصرف في حقوقها الشرعية وفي تلك الأثناء استعفى محمد رشدي باشا من منصب الصدارة لتقدّمه في السن 4 ذي الحجة 1293هـ ووجهت الصدارة إلى مدحت باشا وتقرر امتداد زمن الهدنة وعينت الصرب من قبلها المسيو قرستيج ومايخ فتقابلا مع صفوت باشا ناظر الخارجية وبعد المذاكرة اتفق الطرفان وعادت المناسبات بينهما ببقاء كل شيء على أصله كما كان ولما كانت مسألة الجبل الأسود لم تنته بعد رأت الدولة لزوم تجديد الأعمال الحربية وأصدرت الأوامر إلى عموم المراكز العسكرية في حدود الجبل المذكور بأن تكون على قدم الاستعداد حتى إذا انتهت مدة الهدنة وتصدت جنود الجبل لاستعمال السلاح قابلتها العساكر العثمانية بالصرب.
القانون الأساسي ومجلس الشورى :
لما كان السلطان عبدالحميد خان من يوم جلوسه على تخت الخلافة منح البلاد نظاماً دستورياً مناسباً لحالتها يحفظ لعموم الأمة العثمانية حقوقها ويربط جميع الأجناس والملل المتكونة منها الدولة العثمانية ببعضها لمنع الدسائس الموجبة للمنافسات واشتراك جميع الرعايا في تحسين شؤن الدولة أصدر فرماناً بناء على ما قرره الوزير في 5 شوال سنة 1293هـ بتنظيم مجلس عمومي يتكوّن من مجلسين
أحدهما : ينتخب الأهالي أعضاءه ويسمى بمجلس المبوعثان.
والثاني : تعين الدولة أعضاءه ويسمى بمجلس الأعيان.
وبعد أن مضى أربعة أيام على صدارة مدحت باشا أصدر له السلطان فرماناً مرفقاً بالقانون الأساسي يشتمل على مادة أمر بأن يكون العمل بمقتضاه في جميع المماليك العثمانية وتلى هذا القانون بالآستانة في محفل عام 14 ذي الحجة سنة 1293هـ .
وأطلقت المدافع من القلاع البرية والبحرية سروراً بذلك ويتضمن هذا القانون الحقوق العمومية لتبعة الدولة العلية وواجبات الوزراء والمأمورين والمجلس العمومي وهيئة مجلس الأعيان وهيئة مجلس المبعوثان والمحاكم والديوان العالي والأمور المالية والولايات وموادّ شتى أخرى وقد أعلنه الباب العالي لعموم الولايات ثم أخذت الدولة في السير على موجبه والعمل بنصوصه من ذلك التاريخ.
ولقد كان صدور هذا القانون في الزمن الذي كانت فيه الدولة مرتبكة بتداخل الروسيا ودول أوروبا في مسائلها الداخلية ثم قويت الدسائس الروسية حتى تمكنت من عزل أحمد مدحت باشا أوّل الساعين في وضع هذا القانون الشورى ونفي إلى خارج الممالك العثمانية 21 محرم سنة 1294هـ أي بعد شهرين من صدارته لأنهم نسبوا إليه السعي في إرجاع السلطان مراد إلى عرش الخلافة وفصل السلطة الدينية عن السلطة الدنيوية بمعنى أن السلطان لا يكون خليفة لجميع المسلمين في المعمورة بل يكون سلطاناً على الأمة العثمانية فقط تنفيذ المقاصد بعد الدول الأوروباوية الساعية في إضعاف الشوكة الإسلامية وتعين بعده للصدارة أدهم باشا قال بعض الواقفين على السياسة أنه لم يكن من الصواب نفي مدحت باشا في الوقت الحرج المذكور لأنه لو بقي في منصبه ربما أمكنه بعد أن رفضت الدولة قرار المؤتمر الذي عقده السفراء في ذلك الوقت بالآستانة كما سيأتي أن يجد حلاً للمشاكل التي حدث معظمهما بسببه ثم اجتمع مجلس المبعوثان العثماني 4 ربيع الأول في سراي بشكطاش وافتتح بحضور جلالة مولانا السلطان وتليت فيه خطبة عظيمة عن لسانه الملوكي.
وأخذ بعد ذلك يعقد جلساته ويتذاكر فيما يعرض عليه من المسائل وقد امتدح سيره كثير من الجرائد الوطنية والأجنبية على اختلاف أنواعها ومشاربها وقالت إن حسن سيره وانتظام جلساته يدل على ترقي الأمم العثمانية ولكن من الأسف أن استعمل بعض أعضائه حدة في أمور لا لزوم للخوض فيها في ذلك الوقت ولما كان بعد دول أوروبا لا تحب أن ترى اتفاق الأمة العثمانية وأن يكون لها مجالس نيابية شورية أخذت تدس الدسائس من يوم ظهور هذا المجلس إلى عالم الوجود.
ولما خافت الدولة من أن رواج الدسائس الأجنبية بين الأعضاء يؤدي بلا شك إلى المشاكل والاختلالات التي أرادت الدولة التخلص منها بتشكيل هذا المجلس فتكون جلبت على نفسها الضرر من حيث أرادت المنفعة صدر أمر سلطاني بعد اتفاق وزراء الدولة وأعيانها بإرجاء اجتماعه إلى أجل غير محدود 10 صفر سنة 1295هـ .
رفض قرار المؤتمر والبروتوكول وحرب الروسيا :
قلنا فيما تقدم أن الدول اتفقت على التضييق على الدولة العثمانية وإجبارها سياسياً على قبول مهادنة الصرب والجبل الأسود وكان ذلك تارة بالنصائح المؤلمة وتارة بالتهديد ولما قبلت الدولة ذلك أرسلت تلغرافين لأميري الصرب والجبل الأسود تدعوهما إلى عمل طريقة لتسوية الخلافة فأجاب البرنس ميلان أمير الصرب تلغرافياً بقبوله المصالحة على طريقة الاستاتيكو أي بقاء حالة امتيازاته كما كانت عليه أوّلاً وعين من قبله المندوبين السابق ذكرهما أما جواب البرنس نيقولا أمير الجبل الأسود فتأخر خمسة أيام وكان بلا شك يستشير بعض دول أوروبا التي يستند عليها ثم طلب تقرير قاعدة لذلك بمعرفة مندوبي الدول الذين تداخلوا في أمر المهادنة الأولى.
غير أنه لم تمض إلا مدة قليلة حتى قامت الروسيا في ميدان المعارضة تطلب عقد مؤتمر للنظر في مسألتي البلغار وبوسنه فزادت الحالة ارتباكاً وبعد أن أظهرت الدولة جنوحها إلى السلم قامت الدولة الأوروباوية تساعد دولة الروسيا في طلبها وعقد مؤتمر بالآستانة من سفراء الدول وعينت الدولة صفوت باشا ناظر الخارجية وأدهم باشا سفيرها بباريس مندوبين من طرفها وبعد عقد جلساته أخيراً في نظارة البحرية تحت رياسة صفوت باشا قرر طريقة الإصلاحات اللازم إدخالها في ولايات بوسنه وهرسك والبلغار تحت مراقبة الدول ثم قدموا ذلك القرار إلى الدولة وكانوا قبل ذلك اجتمعوا بسفارة الروسيا وقرروا الموادّ الأساسية لهذا المؤتمر ولم يسمحوا لمندوبي الدولة بالحضور وهذا مما دل على تحيزهم للروسيا وتألبهم على معاكسة الدولة العثمانية.
وفي خلال ذلك ساقت الروسيا مائتين وخمسين ألف عسكري إلى حدود المملكتين و 150,000 إلى حدود الأناضول وهاجت الأفكار في بلاد الروسيا في كثير من عواصم أوروبا.
وقالت النسما إذا تجاوزت الروسيا نهر الطونة أرسل عساكري للمحافظة على بوسنه.
وقال اليونان إذا تقدمت الروسيا للحرب مع الدولة لزمنا إظهار التشيع للأروام الموجودين في أراضيهم.
ولهذا كانت الدولة العثماية في مركز حرج بحيث لو أقدمت على الحرب لاضطرت لمقاومة هذه الأمم بمفردها ولهذا أصدر السلطان الأوامر إلى نظارة الحربية بحشد الجيوش في حدود الدولة من جهتي الروم ايلي والأناضول وعين المشير أحمد مختار قائدا عاماً على جيوش الأناضول والمشير عبد الكريم نادر باشا قائداً عاماً على جيوش الروم ايلي وعين المشير درويش باشا قائد الباطوم وكان عثمان باشا وقتئذ قائداً على فرقة ودين.
ورأى جلالة السلطان أن يشرك الأمة معه للنظر في هذه الحالة كما هو القانون الأساسي فجمع مجلساً عاماً مؤلفاً من كافة الوزراء الموظفين والمعزولين والعلماء والأعيان والتجار والرؤساء الروحانيين وبعض كبار المأمورين بحيث بلغ عددهم مائتي نفس وعرض عليهم قرار المؤتمر فأجمعوا على رفضه لأن الإصلاحات المطلوبة فيه للولايات موجودة في القانون الأساسي الذي منحته الحضرة السلطانية لجميع الشعوب العثمانية بلا استثناء ولأن قبوله موجب لتداخل الأجانب في أمور الدولة الداخلية.
أما قرار المؤتمر المذكرو فكان يشتمل على المواد الآتية وهي :
أوّلا:ً إضافة جهة مالي روزنيك إلى بلاد الصرب وردّ حدودها القديمة إليها.
ثانياً : أن يضاف إلى الجبل الأسود جهات اسبيذا و مقاطعة من ألبانيا وهرسك.
ثالثاً : منح بلاد بوسنه وهرسك استقلالاً إدارياً وأن يعين الباب العالي لها حاكماً مسيحياً لمدة خمس سنوات.
رابعاً : منح الاستقلال الداخلي لبلاد البلغار أيضاً.
خامساً : تشكيل بوليس وطني للأقاليم المذكورة واعتبار اللغة السلافية لغة رسمية لأنها لغة الأكثرين وتخصيص نصف إيرادات البلاد المذكروة لمنافعها الداخلية.
سادساً : انتخاب مشايخ القرى والقضاة والبوليس وغير ذلك في أقاليم فلبه ومقدونيا العليا المجاولة للبلاد المذكورة.
سابعاً : أن يحتل هذه الأقاليم مدة زمن قوّة عسكريةبلجيقية تكون مصاريفها من طرف الدولة.
وقد أثارت هذه الطلبات الغريبة الإحساس الوطني لدى العثمانيين وتهيئوا جميعاً لرفضها لأن أوروبا لا تحرمهم بذلك من ثمرات انتصاراتهم وفتوحاتهم فقط بل تعاملهم أيضاً كمغلوبين والأمر بخلاف ذلك كما علمت ولما رأت حكومة اليونان أن العنصر السلافي سيقوى بهذه الاقتراحات اضمت في الرأي إلى الدولة العثمانية ومع أنه صار تعديل هذه الاقتراحات فيما بعد إلا أن الدولة رفضتها رفضاً باتاً ولما رفضت الأمة والدولة قرار المؤتمر كما ذكر سافر مندوبو الدول وقناصلها من الآستانة كأنهم بذلك قطعوا معه الصلات الودية.
وبعد ذلك كتب البرنس غورجقوف نشرة إلى سفراء الروسيا لدى دول أوروبا 31 يناير سنة 1877م قال فيها برفض الدولة العثمانية لقرار المؤتمر ويطلب منهم أن يعلموه بآراء الدول التي ينوبون لديها ليتفق الكل في العمل إزاء الدولة العثمانية وكتب أيضا صفوت باشا ناظر خارجة الدولة إلى سفرائها يعترض على عقد المؤتمر لم يعقد فيما بعد بطريقة رسمية إلا لعرض أمور اتفقت الدول عليها من قبل للتصديق عليها فقط.
وقال إن الدولة لا يمكنها أن تقبل هذه الاقتراحات أصلاً لأنها تحط بقدرها أما الدول فلم ترسل جواباً عن ذلك لا للروسيا ولا للدولة وفي تلك الأثناء تم الصلح بين الدولة والصرب بشروط أهمها خروج العساكر العثمانية من الصرب وأن لا تشيد الصرب فيما بعد قلاعاً جديدة وأن يرفع العلم العثماني بجانب العلم الصربي ولم تعقد المصالحة مع الجبل الأسود لطلبه تنازل الدولة له عن قطعة من أراضيها.
ولما رأت الروسيا أن مساعيها التي اجتهدت في الحصول عليها ربما ضاعات بالصلح بين العثمانيين والبلاد التي أثارتها عليهم ومال سكانها من النصارى إلى السكينة بعد أن أصابهم من الخسائر الجمة هزيمة جنودهم ما أصابهم ولا يعود لها فيما بعد حق بالمداخلة في أمورهم لتحسين حالتهم.
كما هوّلت بذلك لدى دول أوروبا سيمساوان المالك العثمانية أصبح لها قانون أساسي يمنح المساواة لجميع الرعايا بلا تمييز هو الأمر الذي لم تتحصل عليه للآن حرر البرنس غورجقوف بروتكول أي بلاغاً نهائياً وعرضه على الدول الأوروباوية التي اشتركت في مؤتمر الآستانة وهو يتضمن إرجاع الدولة لجنودها وترك السلاح وتحسين أحوال الولايات المذكورة تحت مراقبة السفراء لتأمين خير النصارى.
وبعد أن صدّقت عليه نواب إنكلتره وأستوريا وفرانسا وألمانيا وإيطاليا 31 مارس سنة 1877 أرسلوه إلى الدولة وأوعزت إنكلتره سراً إلى سفيرها بالآستانة بأن يخبر الباب العالي بأن تصديقها على هذا البروتوكول هو للمحافظة على السلم في أوروبا فقط أي أنها لا تصادق عليه في المعنى وهو تشجيع للدولة في أن تستمر على رفض القرار المذكور.
ولما وصل هذا البلاغ إلى الدولة العلية طلبت أن يكون ترك السلاح منها ومن الروسيا معاً في آن واحد كما تقتضيه العدالة ولما لم تقبل الروسيا ذلك التزمت الدولة برفض البروتوكول وكتب ناظر الخارجية لسفراء الدولة بأوروبا نشرة قوية الحجة جداً تبرأ فيها من عدم ميل الدولة للسلام مظهراً تحامل أوروبا عليها بأقوال جديرة بالمطالعة.
ولكن ما فائدة الحق إذا كان صاحبه ضعيفاً وعليه انقطعت العلاقات السياسية بين الدولتين وأعلنت الروسيا الحرب على الدولة بمكتوب أرسلته إلى نائب سفيرها ببطرسبورغ 11 ربيع الآخر 1294-25 إبريل سنة 1877 ثم تقدّمت الجيوش الروسية وتجاوزت الحدود العثمانية بعد أن تعاهدت مع رومانيا سراً على أن تجعل رومانيا جميع مخازنها ومؤنها وذخائرها الحربية وجيشها تحت تصرف الروسيا وأصدرت أيضاً الدولة الأوامر إلى جميع قوّاد جيوشها بمقابلة العدوّ بما عهد فيهم من البسالة والإقدام وكتبت إلى دول أوروبا نشرة تعترض فيها على ما فعلته رومانيا من الفعل المخالف للقانون لأنها لا تزال بلاداً خاضعة للسيادة العثمانية كما قررته الدول ولا حق لها في عقد معاهدة مع دولة معادية لها ومع ذلك فإن الدول لم تلتفت إلى هذا الاحتجاج الشرعي فتأملوا يا ذوي الألباب ولما لامت الدولة رومانيا على فعلها هذا وأرسلت بعض مدرعاتها فأطلقوا النيران على سواحلها بنهر الطونة أظهرت العداوة وأرسلت جيشها وعدده 60 ألف مقاتل فانضم إلى الجيوش الروسية وأعلنت استقلالها 14 مايو سنة . 1877
الجيوش العثمانية بالروم ايلي :
سبق ذكر إغارة الجنود الروسية على حدود الدولة ودخولها ولايتي إفلاق وبغدان ثم تقدّمت الجيوش الروسية والرومانية تحت قيادة الغراندوق نيقولا 27 يونية سنة 1877م وتمكنت من عبور نهر الطونة على صنادل من جهة سمنيتزه Simnitza ومدّت بعد ذلك جسراً فوق الصنادل عبرت عليه أكثر جيوشها سريعاً ثم تقدّمت تقصد مدينة طرنوه وبينهما كانت الجيوش الروسية تعبر نهر الطنة وتنتشر طولاً وعرضاً بالأراضي العثمانية كان السردار عبد الكريم نادر باشا بمعسكره في شمله لا يبدي حراكاً ولا يخرج من خيمته إلا في النادر غير مهتم بأمر القتال كما يجب ويصف أوقاته في أمور لا فائدة منها تقريباً.
وكان أحمد أيوب باشا معسكراً بفرقته بجوار قرية تدعى ترانسك من أرض البلغار فأرسل الطلائع للمناوشات ولما انتشر خبر دخول جيش الروسيا ولاية الطنوة وقع اضطراب جسيم وقلق شد بالآستانة فأرسلت الدولة السر عسكر رديف باشا ومعه نامق باشا بحراً إلى وارنة ومنها إلى روسجق لتحقيق كيفية عبور الجيش الروسي نهر الطونة بدون مقاومة والنظر في الأهمال الذي حصل من الحاميات العثمانية الموجودة هناك لأنه لم يسبق للروس قبل ذلك عبور هذا النهر بدون أن يتكبدوا خسائر جسيمة لأنه من الموانع الطبيعية أمام الجيوش.
وقد ظهر من التحقيق أن عبد الكريم نادر باشا القائد العام كان ينوي مقاتلة الروس في بلاد البلغار لعدم إمكان عبور الجيوش العثمانية إلى أراضي الأفلاق والبغدان لقلة الاستعدادات من جهة وتشتت جيوش الدولة في حدود الصرب والجبل الأسود واليونان وغيرها من جهة أخرى ولعصيان أهالي المملكتين وغير ذلك وقال إن الدولة غيرت قومندان سفن الطونة الموجودة بهذه الوظيفة منذ عشرين سنة وله إلمام تام بتلك الجهات ومعرفة المواقع التي يمكن للعدوّ العبور منها مما يمكن لقائد الجيوش أن يستشيره في هذه الأحوال وعينت مكانه قائداً لم يسبق له سفر في نهر الطونة قط.
ولما نظر ديوان الحرب في التقرير الذي رفعه إليه السر عكسر رديف باشا ورأى أن عبور الروس هو من إهمال السردار العام فصله عن وظيفته وعين مكانه محمد علي باشا وشكلت الدولة مجلساً حربياً لمحاكمة عبد الكريم نادر باشا ووصلت المسؤلية أيضاً إلى السر عسكر رديف باشا فحكم عليهما بالنفي إلى بعض جزائر البحر الأبيض المتوسط ووجهت السر عسكرية إلى محمود باشا الداماد.
ثم تقدّمت جيوش الروسيا نحو البلقان واستولى الجنرال غوركو على مضايق البلقان ومواقع شبقة واحتل البارون كرودنر Krudner مدينة نيكبولي عنوة وأسر بها سبعة آلاف جندي واستولى على 113 مدفعاً وعشرة آلاف بندقية 15 يوليه سنة 1877 م فسار الغازي عثمان باشا بفرقة من ودين وكانت مركبة من أربعين أورطة مسرعاً لمساعدة نيكبولي.
ولما قرب منها وبلغه سقوطها قصد موقع بلونه لمتانته ولكونه ملتقى الطرق العسكرية الموصلة بين سوال الطونة وغيرها من البلاد إلى مضايق جبال البلقان وعسكر فيه واهتم في تشييد الاسحتكامات لصد هجمات الروس الذين هاجموه فيها دفعتين الأولى في20 يوليو تحت قيادة الجنرال شيلدر Schilder والثانية في30 منه تحت قيادة الجنرال كروندنر فارتدوا خائبين.
وكانت قوّتهم في الهجوم الثاني تزيد عن ثلاثين أورطة بيادة وقدرها من السوارى ومدافع الطوبجية تزيد عن مائتي مدفع وبعد رجوع الروس من أمام بلونه مقهورين وصلت الإمدادات إلى العثمانيين فتمكنوا بها من الاستعداد لحركة التعرض والهجوم وانقسم الجيش إلى ثلاثة أقسام الأوّل انضم إلى فرقة الغازي عثمان باشا وبقي في مواقع بلونه للدفاع عنها وتقدم بالثاني السردار محمد علي باشا لمحاربة الجيش الروسي الذي تحت قيادة البرنس الكسندر ولي عهد القيصر والثالث انضم إلى جيش سليمان باشا الذي دعى من حدود الجبل الأسود بجيشه لاستخلاص مواقع شبقه من يد الروسيين فتقابل مع الجنرال غوركو وانتصر عليه انتصاراً عظيماً باسكي زغرة.
ولما انهزم غوركو إلى البلقان تعقبه سليمان باشا وسعى في الاستيلا على مضيق شبقه وبينما كان جيش محمد علي باشا منصوراً في واقعة صارى نصوحلر التي اشترك فيها الجيش المصري تحت قيادة الأمير حسن باشا قسم الغراندوق نيقولا قواه إلى فرقتين وجه إحداهما لمقابلة جيش محمد علي باشا وجعل الأخرى مدداً له عند اللزوم أو إلى ردّ عثمان باشا الذي كان يهدّد الخطوط الروسية بالانتصارات التي حازها محمد علي باشا وسليمان باشا وعثمان باشا وقرب اجتماعهم معاً للإحاطة بأجنحة بعض الفرق الروسية أصبح شأن الجيش الروسي حرجاً للغاية.
وعند ذلك تقدّم أمير رومانيا بجيشه البالغ عدده مائة ألف مقاتل لمساعدة الروسيا واجتاز به نهر الطونة وصادف حضور قيصر الروس بنفسه لميدان القتال لتشجيع جيشه مع بعض الامتدادات فتقوّت الروس بذلك وانتصروا في بعض المواقع على الجيوش العثمانية وكان الجنرال زمرمان عبر بفرقته نهر الطونة من حوالي ايساقجي ودخل أراضي دوبريجه وقصد بازارجق حيث القوّة المصرية بعد عدة وقائع تقهقر راشد حسني باشا ومات في تلك الواقعة اللواء زكريا باشا المصري وعادت الجيوش إلى وارنه اتباعاً للأوامر التي أصدرها الأمير حسن باشا بعد عودته بالجيش المصري من واقعة صارى نصوحلر التي انصتر فيها محمد علي باشا على جيش الروس كما سبق.
ثم اقتدت الروس بنصائح المارشال مولتك الألماني حيث قال إن حصار القلاع القوي أفضل من الهجوم عليها لأن بالحصار يسهل الاستيلاء والانتصار سيما وأن أركان حرب الجيش الألماني هم الذين رسموا معظم خطوط السير للجيش الروسي وشجعوه على مقاتلة العثمانيين وهم الذين نصحوه على عبور نهر الطونة بكل ما يمكن من السرعة وغير ذلك من المساعدات الأدبية التي قامت بها ألمانيا للروسيا في هذه الحرب فصمموا على محاصرة بلونه من كل جانب وأناطوا أمر هذه الحركة بالجنرال طوطلبن Totleben فرتب حولهاالعدد الكافي من الجيوش وشيد ثلاثة خطوط من الاستحكامات كل خط بعد الآخر لتمكين الحصار.
ولما تم هذا العمل 24 أكتوبر سنة 1877 م صار وصول المدد إلى عثمان باشا من رابع المستحيلات ولبث مدافعاً عن مركزه حتى نفد كل ما ادّخره من الأقوات وعند ذلك عزم على الخروج بجيشه وخرق صفوف الأعداء فإن فازوا وكان ذلك غاية المراد وإن ماتوا ماتوا مدافعين عن شرف الدولة شهداء مؤدين للواجب عليهم كما تفرضه الواجبات نحو الدولة والدين.
ثم استعدّت الجنود 5 ذي الحجة سنة 1294هـ-10 دسمبر سنة 1877 م وأخلت المواقع العسكرية وخرجوا مرة واحدة مستميتين واستمروا في سيرهم يقصدون الاستحكامات التي أقامهاالروس ولا يبالون بالمقذوفاا المتساقطة عليهم وكانوا قبل خروجهم بأربعة أيام لا يتناولون من الغذاء غير القليل من الدقيق الذي بقي في بعض المخازن ومع ذلك فإنهم اقتحموا الخط الأوّل والثاني وكادوا يستولون على الخط الثالث لولا أن أصيب قائدهم البطل الشهير الغازي عثمان باشا برصاصة في فخذه ولما سقط هذا الشجاع الأرض ظنت عساكره أنه استشهد واستولى الرعب والفضل عليهم وأراد بعضهم الرجوع إلى المدينة التي كان احتلها الروس بعد خروجهم منها ولما رأوا أنفسهم بين نارين رأى قوّادهم أن الصواب التسليم فرفعوا علامته وتوقف الروس عن إطلاق النيران.
ثم ذهب اللواء توفيق باشا رئيس أركان حرب الجيش العثماني وهو الذي بمهارته شيد القلاع والحصون حول بلونه وطلب مقابلة القائد الروسي العام وهو الجنرال جانتسكي ثم ذهب الجنرال استروكوف مع توفيق باشا قابلاً عثمان باشا في المكان الذي وضعوه فيه بعد جرحه وطلب الجنرال من عثمان باشا أن يأمر أوّلاً جنوده بإلقاء السلاح ثم تكون المكالمة فيما بعد لأن ذلك الجنرال لم يكن لديه تعليمات من القائد العام الروسي وهو الغران دوق نيقولا أخي القيصر ولما قبل عثمان باشا طلب الجنرال المذكور عاد وأخبر جانتسكي بما تم فأتى بنفسه إلى مقر عثمان باشا.
وبعد أن حياه وهنأه على أعماله الحربية التي تشهد له ولجنوده بالبسالة وعلوّ المنزلة طلب منه فأصدر أوامره إلى الجيش العثماني بإلقاء السلاح وبعدها سلم سيفه ثم أركبوه في عربة وذهبوا به إلى بلونه وفي أثناء مسيره قابله الغران دوق نيقولا ومعه أمير رومانيا وسلما عليه باحترام وفي اليوم التالي صباحاً ذهب عثمان باشا مع طبيبه الخاص إلى حيث ينزل القيصر ولما دخل عليه قام له إجلالاً وبس في وجهه وأظهر إعجابه من مدافعته عن بلاده وإقدامه وردّ إليه سيفه وأمره بأن يحمله علامة الاحترام والتجلة ثم أرسلوه إلى مدينة كركوف يقيم بها إلى انتهاء الحرب.
ولقد كانت الجيوش التي مع عثمان باشا الغازي في بلونه لا تزيد عن 50,000 معهم 77 مدفعاً أما الجيش الروسي المحاصر فكان يزيد عن 150,000 معه 600 مدفع ومن ذلك يظهر الفرق بين شجاعة المتحاربين ومما يؤثر عن الجنود العثمانية أنهم لم يسلموا أعلامهم قط بل إنهم قبل خروجهم للمرة الأخيرة دفنوا بعضها في صناديق من الحديد تحت الأرض وأحرقوا الباقي يوم التسليم وكانت الدولة لما رأت تفاقهم الخطوب وازدياد الشرور وإثارة الروس للطوائف المسيحية القاطنة بولايتها وخصوصاً لما سقطت مدينة بلونه أرادت طلب الصلح من الروسيا إلا أن السير لايارد Layard سفير انكلتره بالآستانة وعدها بتداخل الدولة الإنكليزية تداخلاً عسكرياً ولولا هذه المواعيد العرقوبية لكانت الدولة فازت بمصالحة أخف ضرراً من التي حصلت فيما بعد كما ستراه.
الأعمال الحربية بالأناضول والهدنة ومعاهدة سان استيفانوس :
هذا ملخص الحركات الحربية التي تمت بأوروبا قبل أن يجتاز الروس البلقان أما في آسيا فكان النصر في أوّل الأمر حليف العثمانيين وكان الجنرال مليكوف ذهب يقصد مدينة قارص وأخذ الجنرال در هوجاسوف Der Hougassof يهدّد مدينة بايزيد وسار غيرهما من قوّاد الروس للاستيلاء على أردهان وباطوم ثم تمكن الجنرال مليكوف من الاستيلاء على مدينة أردهان عنوة 17 مايو سنة 1877م وحاصر قارص وأخذ يهدّد ارضروم.
وبعد أن استولى الجنرال هوجاسوف على مدينة بايزيد 20 إبريل سنة 1877م وانتصر على العثمانيين بجهة دار طاغ 10 يونيه سنة 1877م تقدّم جيش الغازي مختار باشا واحتل مرتفعات زوين وكان يتركب من 59 طابوراً من المشاة و 4000 من الوساري و مدفعاً بينما كان القائد إسمعيل حقي باشا يقود قوّة عظيمة من الأكراد يهدد بها قوّة الجنرال هوجاسوف وبذلك تمكن العثمانيون من قهر مليكوف وهوجاسوف وانتصر جيش مختار باشا انتصاراً عظيماً 26 يونيه سنة 1877م حتى سحق الحيش الروسي بجهات زوين ولهذا اضطر مليكوف أن يرفع الحصار عن قارس ويرجع القهقري نحو الكسندر فولى وتبعته العساكر العثمانية.
أما الجنرال هوجاسوف فقد تمكن من القهقري بحالة انتظام وأخذ الاحتراس التام من أن يقع في يد العثمانيين وتوجه نحو دار جدير ثم ذهب اسمعيل باشا لقتال هوجاسوف بجيش مؤلف من 40 طابوراً و 55 مدفعاً بينما كان مختار باشا يستعد للإجهاز على قوّة الجنرال مليكوف وبعد بذلك انتصر العثمانيون انتصارات مهمة على الجيش الروسي الذي طردوه تماماً من الأراضي العثمانية وأشهر هذه الوقائع هي وقائع كركانه واني وإيانيه واياك تبه سي وأوليار وقزل تبه وأشهرها جميعاً واقعة كدكلر التي أرسلت بسببها الحضرة السلطانية فرمان تشكر إلى مختار باشا ولقبته بلقب غازي.
وبعد ذلك اقتصر الروس على إجراء المظاهرات والمناوشات الخفيفة مبتعدين ما أمكن عن الاشتباك مع الجيوش العثمانية وسبب ذلك أن قوّتهم العسكرية نقصت جداً بما حصل لهم من الهزائم ونفذت تقريباً ذخائرهم الحربية وأرسل الغران دوق ميخائيل حاكم بلاد القوقاز العام يطلب الإمداد والذخائر ولما أتى المدد وتقوت الجيوش الروسية في أواخر سبتمبر 1877 سنة سار الجنرال مليكوف في طريق الهجوم ثم تقدم نحو مختار باشا المعسكر في قزل تبه وتلاقى معه في جهة الآجه طاغ ودام القتال بينهما أياماً ثم تقهقهر العثمانيون بعد خسائر عظيمة ولذلك اضطر مختار باشا أن يلتجىء إلى ارضروم فتمكن الروس من محاصرة قارص محاصرة شديدة ومنعوا عنها المواصلات الخارجية تماماً حتى استولوا عليها عنوة 18 نوفمبر سنة 1877 وأسروا منها 17000جندي واستولوا على مدافعها وكانت 300 .
وأراد مختار باشا بعد ذلك أن يوقف سير خصمه فلم يتمكن ولذلك ذهب إلى مدينة ارضروم وأخذ في جمع العساكر المتشتتة وإقامة الحصون والمعاقل حول تلك المدينة وقد نجح في ذلك بكل سرعة ولهذا أجمعت الجرائد العسكرية على مدح هذا القائد العظيم وبقي في هذه المدينة يصد هجمات الروس إلى أن انتهى الحرب واعلم أنه لما انتشر خبر سقوط بلونه وقارص وتقهقرت العساكر العثمانية أمام أعدائها أعلن أمير الصرب المدعو ميلان الحرب على الدولة 14 دسمبر سنة 1877م .
وذلك بعد أن اتفق مع الروسيا وأوعزت له بذلك لتكون حجته في المستقبل أقوى لنوال ما يطمح إليه بإبصاره متى تقررت شروط الصلح أما الدولة العثمانية العديمة النصير فلم تستغرب من خيانة هذا الأمير وكفر الصربيين بنعمتها لأنها كانت تنتظر ذلك من وقت إلى آخر وأرسل الباب العالي منشوراً إلى الصربيين يعلن فيه بعزل أميرهم ميلان وينصحهم في عدم التغرير بأنفسهم وكانت عساكر الجبل الأسود تخطت حدودها أيضاً وشنت الغارة على الأراضي العثمانية لأن الدولة لاحتياجها للجنود كانت استرجعت معظم القوة العسكرية الضاربة في تلك الأكناف كما ذكر.
فيتضح من ذلك أن الدولة العثمانية في هذه الحرب المشؤمة لم تكن تحارب الروس فقط بل كانت تنازل الروس وأفلاق وبغدان والصرب والجبل الأسود وجميع المسيحيين رعاياها تقريباً ولما أقبل فصل الشتاء بزمهريره كانت الدوائر العسكرية تظن أن ذلك يعطل الحركات الحربية ويجعل للدولة العثمانية الوقت الكافي لتجنيد قوة جديدة تنازل بها الأعداء إلا أن هذه الظنون لم تتحقق لأن الروس عقب انتصاراتهم السريعة ساقوا جيوشهم نحو البلقان ورأى الجنرال طوطلبن أن من الصواب الاستيلاء على ودين وروسجق وشمله قبل الذهاب إلى البلقان فأحيل عليه فتح هذه المدن وتقدم الجنرال غوركو يريد اختراق البلقان مهما كلفه ذلك من الرجال والأموال وسار هذا الجنرال في وسط الشتاء والثلوج حتى تلاقى مع شاكر باشا وبعد أن نازله وهزم جيشه استولى على صوفيه 4 يناير سنة 1877 وسلمت أيضاً العساكر العثمانية التي كانت تحمي شسبقه 9 يناير .
ثم زحف الجنرال غوركو فتلاقى مع جيش سليمان باشا وبعد أن استمر الحرب بينهما ثلاثة أيام أظهر فيها العثمانيون شجاعة تخلد لهم ذكراً في التاريخ بالقرب من مدينة فلبه تقهقروا مهزومين إلى جبال ردوب 19 يناير وفي يوم 20 منه احتلت مقدمة الجنرال اسكبيليف SKobeleff مدينة أدرنه وكانت القيادة العامة على عساكر البلقان لرؤف باشا ناظر الحربية ثم تقدم الروس حتى أضحوا على أبواب الآستانة بينهم وبينها مسافة 50كيلومتراً.
ولما رأت الدولة سوء حالتها طلبت عقد هدنة للمكالمة في شروط الصلح وأرسلت من طرفها نامق باشا وسرور باشا للمخابرة مع الغراندوق نيقولا في هذا الخصوص وأرسلت معهما مأمورين عسكريين وبعد أن تقابل هؤلاء المندوبون مع الغراندوق في بلدة قزانلق وعرضوا عليه مأموريتهم أخذهم معه إلى ادرنه لحين مجيء جواب القيصر على ذلك ثم صار التوقيع على اتفاقيتين إحداهما بين الغراندوق وسرور باشا ونامق باشا مفادهما استقلال البلغار استقلالاً إدارياً واستقلال رومانيا والجبل الأسود استقلالاً سياسياً مع تعديل حدودهما وتقرير غرامة حربية للروسيا تدفع نقداً أو يستعاض عنها ببعض البلاد والأخرى بين المندوبين العسكريين العثمانيين والروسيين ببيان شروط المهادنة وعلى ذلك توقفت الحركات العدوانية 31 يناير سنة 1878م .
وأمر الباب العالي برفع الحصار عن سواحل الروسيا التي على البحر الأسود وعاد الغراندوق نيقولا إلى بطرسبورغ غانماً ظافراً ولما علمت انكلتره بحصول الهدنة والشروط الابتدائية خافت على الآستانة كما تدعى أن تقع في يد الروس ولذلك أمرت عمارتها التي كانت بخليج بشيكة فدخلت بحر مرمره 14 فبراير سنة 1878 خلافاً لمعاهدة باريس القاضية بمنع مرور السفن الحربيةمن مضيق الدردنيل ولما لم يمكن الدولة منع الأساطيل الإنجليزية من عبور المضيق المذكور اكتفت بإقامة الحجة على ذلك وأراد بعض دول أوروبا أن يكون عقد شروط الصلح على يدها مخافة أن يوجد بها ما يخل بمعاهدة باريس المبرمة في سنة 1856 فلم تقبل الروسيا ذلك ورغبت أن يكون الصلح بينها وبين الدولة العثمانية فقط بلا وسيط ولهذا لم تعلن صورة هذه الاتفاقيات بصورة رسمية إلا في 15 فبراير سنة 1878م .
وبعد ذلك اجتمع المندوبون من الدولتين ببلدة سان استيفاونوس التي جعلها الجيش الروسي مقرّاً له بعد الهدنة فكان صفوت باشا ناظر الخارجية وسعد الله بك سفير الدولة في برلين من قبل الدولة والموسيو نيلدوف والكونت أغناتيف من طرف الروسيا وبعد اجتماعاتهم اضطر المندوبان العثمانيان للتوقيع على معاهدة مؤلفة من 29 بنداً أهمها المواد الآتية وهي :
أن تزاد أراضي الجبل الأسود أكثر من ضعفي حالتها التي كانت عليها وتستولي على ثغري اسبتزا وانتيفاري ويضاف على بلاد الصرب التي أصبحت مستقلة لواء نيش وتأخذ ورمانيا التي استقلت أيضاً من جهات دوبرويجه بدلاً عن بسارابيا التي استولى عليها الروس.
وأن تكون البلغار ايالة ممتازة تمتد حدودها من نهر الدانوب إلى بحر الأرخبيل بحيث لا يترك للدولة العثمانية بأوروبا إلا الآستانة وغليبولي وسلانيك وضواحيها وبلاد ابيروتساليا وألبانيا وبوسنه وهرسك أما بجهات آسيا فتستولي الروسيا على قارص وأردهان وباطوم وبايزيد وأن تدفع الدولة العثمانية غرامة حربية قدرها 1,410,000,000 روبل 245,217,391 ليرة عثمانية ولما شاعت هذه المعاهدة التي أمضيت في 30 مارس سنة 1878 بنشرها في الجريدة الروسية بعد مضي 42 يوماً من التوقيع عليها اغتاظت انكلتره جداً وأمرت بجمع احتياطي جيشها العامل وأمرت أساطيلها بالتجمع في مالطة حيث أحضرت إليها قوّة عسكرية من الهند ومع ذلك لم يمكنها أن تتصدى لإيقاف الروس بالقوّة لأنه لم تساعدها دولة من دولة أوروبا على ذلك وقد ذهبت مساعي السفير الإنكليزي الموسيو لاياراد أدراج الرياح ولم يتمكن من تجديد القتال بين الجنود الروسية والعثمانية المعسكرة في جنالجة أو بين الروس وأهالي جبل رودوب من المسملين الذي صبت عليهم أنواع البلاء من أهل البلغار والروس أثناء الحرب مع ما صرفه من المجهودات.
ولم تقبل الدولة العثمانية إشاراته لأنها خافت من قيام المسيحيين في كريد وتساليا وغيرهما وبعد مبادلة المكاتبات بين لوندره وبطرسبورغ زمناً تداخل البرنس بسمارك حتى عقد وفاقاً سرياً بين الروسيا وإنكلتره وأوستوريا 30 مايو سنة 1878 وقبلت الروسيا أن تعرض معاهدة سان استيفانو على مؤتمر أروبي بعد أن كاد الأمر يفضي إلى انتشاب الحرب بينها وبين إنكلتره كما سبق وفي نفس هذا الوقت تمكن اللورد بيكونسفليد من أن يعقد مع الدولة معاهدة دفاعية من مقتضاها صد الروسيا لو تقدّمت نحو بلاد الأناضول.
وتعهد الباب العالي بإجراء الإصلاحات اللازمة لتحسين حال المسيحيين الذين بتلك الجهات خوفاً من أن ينقادوا إلى مطامع الروسيا وأن تسمح الدولة لإنكلتره باحتلال جزيرة قبرص وإدارة شؤنها لتكون على مقربة من بلاد الروسيا ويمكنها صد هجماتها لودعت الحاجة ولوجود الاضطرابات بالآستانة وخوف الباب العالي من أن يحتلها الروس كما كانوا يحاولون ونظراً للارتباكات الحاصلة قبل الباب العالي تلك المعاهدة حفظاً لباقي أملاكه وتعديل معاهدة سان استيفانوا بكيفية أرجح لمصالحه 4 يونيه 1878 وفي أثناء انعقاد المؤتمر ببرلين ذيل الحكومتان هذه المعاهدة ببعض بنود لتوضيح كيفية إداراة الجزيرة المذكورة والمبلغ الذي تدفعه عنها انكلتره سنوياً للدولة وجعلت تركها موقوفاً على ترك الروسيا لمدينتي باطوم وقارص اللتين أضيفتا إلى الروسيا نهائياً أول يوليو سنة 1878م