الدليل السادس :
عن خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ قالت :
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ )
رواه مسلم (2708).
ولو كانت كلماته مخلوقة لكانت الاستعاذة بها شركا ؛ لأنها استعاذة بمخلوق ، ومن المعلوم أن الاستعاذة بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته شرك
فكيف يصح أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته ما هو شرك ظاهر ، وهو الذي جاءهم بالتوحيد الخالص !
فدل هذا على أن كلمات الله تعالى غير مخلوقة .
قال نعيم بن حماد :
" لا يستعاذ بالمخلوق ، ولا بكلام العباد والجن والإنس والملائكة ".
وقال البخاري عقبه : " وفي هذا دليل أن كلام الله غير مخلوق ، وأن سواه خلق "
ينظر " خلق أفعال العباد " (ص: 143).
الدليل السابع :
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه ) حديث حسن
أخرجه عثمان الدارمي في " الرد على الجهمية " رقم : (287، 340)
واللالكائي رقم : (557).
تضمن هذا الحديث إثبات عقيدة السلف ( القرآن كلام الله غير مخلوق ) وذلك من وجهين :
الأول : التفريق بين كلام الله وما سواه من الكلام ، والكلام إما كلام الله الذي هو صفته ، أو الكلام المخلوق الذي هو من خلق الله
فأضاف ما كان صفة لله إلى الله ، وعمم ما سواه ، ليشمل كل كلام سوى ما أضافه إلى الله ، ولو كان الجميع مخلوقا لما كانت هناك حاجة إلى التفريق .
والثاني : جعل الفرق بين كلام الله وكلام غيره ، كالفرق بين ذات الله وذات غيره ، فجعل شأن كلامه وصفته ، من شأن ذاته وصفتها ، كما أن كلام المخلوق وصفته ، هو مناسب وملائم لذات المخلوق وصفتها .
وقد احتج بهذا الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في " الرد على الجهمية " (ص: 162 – 163)
فقال بعدما ذكر الأحاديث في هذا المعنى :
" ففي هذه الأحاديث بيان أن القرآن غير مخلوق ؛ لأنه ليس شيء من المخلوقين من التفاوت في فضل ما بينهما ، كما بين الله وبين خلقه في الفضل ؛ لأن فضل ما بين المخلوقين يستدرك
ولا يستدرك فضل الله على خلقه ، ولا يحصيه أحد ، وكذلك فضل كلامه على كلام المخلوقين ، ولو كان مخلوقا لم يكن فضل ما بينه وبين سائر الكلام ، كفضل الله على خلقه
ولا كعشر عشر جزء من ألف ألف جزء ، ولا قريبا فافهموه ، فإنه ليس كمثله شيء , فليس ككلامه كلام ، ولن يؤتى بمثله أبدا " انتهى.
الدليل الثامن :
من المعقول الصريح : أن كلام الله إن كان مخلوقا ، فلا يخلو من أحد حالين :
الأولى : أن يكون مخلوقا قائمًا بذات الله .
والثانية : أن يكون منفصلا عن الله بائنا عنه .
وكلا الحالين باطل ، بل كفر شنيع .
أما الأولى فيلزم منها أن يقوم المخلوق بالخالق ، وهو باطل في قول أهل السنة ، وعامة أهل البدع ، فإن الله تعالى مستغن عن خلقه من جميع الوجوه .
وأما الثانية فيلزم تعطيل صفة الكلام للباري تعالى ، إذ أن الصفة إنما تقوم بالموصوف
- كما سبق تقريره - لا تقوم بسواه ، فإن قامت بغير الموصوف كانت وصفا لمن قامت به ، وهذا معناه أن الرب تعالى غير متكلم ، وهو كفر بيِّن ، كما بينا الدلالة عليه .
الدليل التاسع :
علمت أن الصفة لا تقوم بنفسها ، فإن كانت صفة للخالق قامت به ، وإن كانت صفة للمخلوق قامت به ولا بد ، فالحركة ، والسكون ، والقيام ، والقعود ، والقدرة ، والإرادة ، والعلم
والحياة ، وغيرها من الصفات ، إن أضيفت لشيء كانت وصفا له ، وهي تابعة لمن قامت به ، فهذه صفات تضاف للمخلوق ، فهي صفات له حيث أضيفت له
ومنها ما يضاف إلى الخالق ، كالقدرة والإرادة والعلم والحياة وغير ذلك ، فهي صفات له حيث أضيفت له ، وحيث أضيفت للمخلوق فهي مخلوقة ، وحيث أضيفت للخالق فهي غير مخلوقة .
فصفة الكلام كغيرها من الصفات ، لا بد أن تقوم بمحل ، فإذا قامت بمحل كانت صفة لذلك المحل
لا صفة لغيره ، فإن هي أضيفت إلى الخالق تعالى فهي صفته ، وإن أضيفت إلى غيره فهي صفة لذلك الغير ، وصفة الخالق غير مخلوقة كنفسه ، وصفة المخلوق مخلوقة كنفسه .
فلما أضاف الله لنفسه كلاما ، ووصف نفسه به ، كان كلامه غير مخلوق ؛ لأنه تابع لنفسه ، ونفسه تعالى غير مخلوقة ، والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات .
فإن قيل : هو مخلوق .
قلنا : إذا يتنزه الله عن الاتصاف بمخلوق ، وأنتم تنزهونه تعالى بزعمكم عن قيام الحوادث به
فحيث نزهتم ربكم تعالى عن ذلك ، فإنه يلزمكم أن لا تضيفوا إليه كلاما ، وبهذا تكذبون السمع والعقل الشاهدين على أن لله تعالى صفة الكلام .
لكنهم أبوا الإقرار بأن كلام الله تعالى غير مخلوق بأدهى مما سبق من الباطل ,
فقالوا : نثبت أن الله متكلم بكلام قائم في غيره ، فكلم الله تعالى موسى بكلام مخلوق قائم بالشجرة ، لا به تعالى ، فنحن نزهناه عن قيام الحوادث به .
قلنا : جعلتم الكلام إذا صفة للمحل الذي قام به ، ويلزم ، على قولكم ، أن يكون كلام الشجرة
فكانت الشجرة بهذا هي القائلة لموسى : ( يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )
فانتفى حينئذ الفرق بين قول الشجرة
وقول فرعون اللعين : ( أنا ربكم الأعلى )
لأن كلام الشجرة صفتها لا صفة الله ، وكلام فرعون صفته ، وكل ادعى الربوبية ، فلم يكن موسى إذا محقا في إنكاره قول فرعون ، وقبوله قول الشجرة !!
فتأمل رحمك الله لهذا الكفر الصراح ، الذي أوقع أهله فيه الابتداع المشين ، وعدم الرضا والتسليم لحقائق التنزيل ، واستبدال الوحي الشريف بزبالات الأذهان التي تصرفها الأهواء كيف شاءت .
ولقد كانت هذه الحجة العقلية مما احتج به الإمام أحمد رحمه الله على الجهمية المعتزلة حين ناظرهم بحضرة المعتصم
قال رحمه الله :
" وهذه قصة موسى ، قال الله في كتابه حكاه عن نفسه : ( وكلم الله موسى ) فأثبت الله الكلام لموسى كرامة منه لموسى ، ثم قال بعد كلامه له ( تكليما ) ؛ تأكيدا للكلام
قال الله تعالى : يا موسى ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا )
وتنكرون هذا ، فتكون هذه الياء تَرِد على غير الله ، ويكون مخلوق يدعي الربوبية ؟!
ألا هو الله عز وجل"
رواه حنبل في " المحنة " (ص: 52).
الدليل العاشر :
من كلام أئمة السلف في إثبات هذه العقيدة :
يقول عمرو بن في دينار - من خيار أئمة التابعين -:
" أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونهم منذ سبعين سنة ، يقولون : الله الخالق ، وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله ، منه خرج ، وإليه يعود " .
وقال عبد الله بن نافع : كان مالك يقول :
" القرآن كلام الله " ويستفظع قول من يقول : القرآن مخلوق " رواه صالح بن أحمد في " المحنة " (ص: 66) بسند صحيح عنه .
وقال الربيع بن سليمان صاحب الشافعي وتلميذه ، حاكيًا المناظرة التي جرت بينه وبين حفص الفرد في القرآن :
فسأل الشافعي ، فاحتج عليه الشافعي
وطالت فيه المناظرة ، فأقام الشافعي الحجة عليه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وكفَّر حفصا الفرد
. قال الربيع : فلقيت حفصا الفرد في المجلس بعد ، فقال : أراد الشافعي قتلي .
رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في " آداب الشافعي " (ص: 194 – 195) وسنده صحيح .
وقال ابن أبي حاتم :
" سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين ، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار ، وما يعتقدان من ذلك ؟
فقالا :
" أدركنا العلماء في جميع الأمصار : حجازا ، وعراقا ، وشاما ، ويمنا ، فكان من مذهبهم : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته ".
أخرجه ابن الطبري في " السنة " (1/ 176) بسند صحيح .
وقد ساق الإمام أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي في كتابه العظيم " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " :
القول بذلك عن خمس مئة وخمسين نفسا من علماء الأمة وسلفها ، كلهم يقولون : القرآن كلام الله غير مخلوق ، ومن قال : مخلوق ، فهو كافر .
قال رحمه الله :
" فهؤلاء خمس مئة وخمسون نفسا أو أكثر ، من التابعين ، وأتباع التابعين ، والأئمة المرضيين ، سوى الصحابة الخيرين ، على اختلاف الأعصار
ومضي السنين والأعوام ، وفيهم نحو من مئة إمام ، ممن أخذ الناس بقولهم ، وتدينوا بمذاهبهم ، ولو اشتغلت بنقل قول المحدثين لبلغت أسماؤهم ألوفا كثيرة "
انتهى من " السنة " (493).
باختصار، وتصرف يسير
من كتاب " العقيدة السلفية في كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية " (ص: 121-147) .
وينظر للتوسع في ذلك أيضا
: المجلد الثاني عشر من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : "القرآن كلام الله"
و"مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم .
اخوة الاسلام
اكتفي بهذا القدر و لنا عودة
باذن الله ان قدر لنا البقاء و اللقاء