شرح كتاب النكاح لمعالي د. سعد بن ناصر الشثري - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الكتب و المتون العلمية و شروحها ..

قسم الكتب و المتون العلمية و شروحها .. يعنى بجميع المتون من نظم و قصائد و نثر و كذا الكتب و شروحاتها في جميع الفنون على منهج أهل السنة و الجماعة ..

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

شرح كتاب النكاح لمعالي د. سعد بن ناصر الشثري

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2019-04-22, 10:30   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B18 شرح كتاب النكاح لمعالي د. سعد بن ناصر الشثري

المحرر في الحديث (4)
الدرس الأول (1)
معالي د. سعد بن ناصر الشثري
بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدة من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشيخ الدكتور:سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
الله يحييك، أرحب بك، وأرحب بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يرزقني وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، والنية الخالصة.
{نستأنف في هذا الفصل -بإذن الله- ما توقفنا عنده في الفصل الماضي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابُ النِّكَاحِ
عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ عبدِ اللهِ بمنىً، فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ، فَقَامَ مَعَهُ يُحدِّثُهُ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: يَا أَبَا عَبدِ الرَّحْمَنِ، أَلا نُزَوِّجكَ جَارِيَةً شَابَّةً لَعَلَّهَا تُذَكِّرُكَ بَعْضَ مَا مَضَى مِنْ زَمَانِكَ؟ قالَ: فَقَالَ عبدُ اللهِ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، لَقَدْ قَالَ لَنا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ».
وَعَنْ أَنسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَأَلُوا أَزوَاجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُم: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُ بِالْبَاءةِ وَينْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيْدًا وَيَقُولُ: «تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الْوَلُودَ؛ إِنِّي مُكَاثِرٌ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَسَمُّوَيهِ وَابْنُ حِبَّانَ)}.
قول المؤلف -رحمه الله: (كِتَابُ النِّكَاحِ).
لفظة "النِّكاح" في اللغة: تطلق على معنيين:
- أحدهما: الوطء.
- ثانيهما: العقد.
وبالتالي وقع اشتراك في لفظ "النِّكاح" بين هذين المعنيين، وكثير من النُّصوص قد يشتمل لفظها على المعنيين معًا، ومن هنا قيل في قوله تعالى: ï´؟فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُï´¾ [البقرة: 230]، وهذه الآية في المطلقة ثلاثًا، فإنها لا تحل لمطلقها حتى يعقد عليها غيره ويطئها، جمعًا بين هذين المعنيين.
والنِّكاح مُرغَّبٌ فيه في الشَّرع، وقد جاءت النُّصوص بِحَثِّ المؤمنين عليه، وقد وصف الله -جلَّ وعَلا- الأنبياء عليهم السَّلام بأنهم لهم أزواج ولهم ذريَّة.
والنِّكاح هو شأن نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد كان يتزوج النِّساء، ويرغب أصحابه في التزويج، وقد ذكر المؤلف هنا ثلاثة أحاديث تدل على هذا المعنى:
أولها: حديث علقمة، قال: (كُنْتُ أَمْشِي مَعَ عبدِ اللهِ)، يعني عبد الله بن مسعود.
قوله: (بمنىً)، وذلك في أيام الحج.
قال: (فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ)، أي: عثمان بن عفان، الخليفة الراشد.
قال: (فَقَامَ مَعَهُ يُحدِّثُهُ)، أي: يكلمة.
قوله: (فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: يَا أَبَا عَبدِ الرَّحْمَنِ)، يعني: عبد الله بن مسعود.
قال: (أَلا نُزَوِّجكَ جَارِيَةً شَابَّةً)، فيه الترغيب في التزويج، وفيه حرص الصَّحابة على أن يكون الرجل معه امرأة، وظاهر هذا أنَّ زوجة ابن مسعود قد توفيت، فأراد عثمان أن يكون مع ابن مسعود زوجة تقوم به.
قال: (لَعَلَّهَا تُذَكِّرُكَ بَعْضَ مَا مَضَى مِنْ زَمَانِكَ؟)، مما يكون بين الرجل وأهله خاصة.
قالَ: (فَقَالَ عبدُ اللهِ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ)، كأنه فهم منه أنَّه إنما قال له هذا الكلام لكبر سنِّ ابن مسعود، فأراد أن يؤكد عليه هذا المعنى، فقال: لئن كنت تذكر ذلك انطلاقًا من كبرِ سنِّي، فلقد كنت يومًا من الأيام على عهدِ الشباب وكان عندي القوة، ولذلك قال لنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ»، المعشر: الجماعة. والشباب هو: مُقتبل العمر.
قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ»، الباءة: ما يُهيَّئ للنِّكاح، والأصل فيها المنزل، يُقال: بوَّأه الله مَنزلًا من الجنة، أي: هيَّأ له مَنزلًا من الجنة.
وأيضًا يُمكن أن يُطلق على القُدرة على إتيان النساء.
قال: «فَلْيَتَزَوَّجْ»، فعل مضارع مسبوق بلام الأمر، ولذلك قال بعض الظاهريَّة: إنَّ الزواج واجب شرعي يحرم على الإنسان أن يتركه، واستدلوا على ذلك بأنه مُقتضى مفهوم الأمر.
وذهب الجمهور إلى أنَّ الزَّواج ليس بواجب، وإنما هو من المستحبات، وقالوا: إنَّ الأمر هُنا مصروف من الوجوب إلى الاستحباب، واستدلوا عليه بأنه قد عُلِّلَ بعلَّة، فقال: «فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ»، فالمعنى أنَّ من استطاع أن يغضَّ بصره ويحصِّن فرجَه فإنَّه لا يجب عليه النِّكاح. وقول الجمهور هنا أقوى.
وقد اختلف العلماء في مسألة أيهما أفضل: الزواج أو التَّخلِّي للعبادات؟
الجمهور على أنَّ الزواج أفضل، ويستدلون عليه بهذا الحديث، والحديث الآتي.
والشافعية: على أنَّ التَّخلي للعبادات أفضل، واستدلوا عليه بأنه مِن فِعْل النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل عهد النُّبوة، حيث كان يتخلَّى في غار حراء.
وأكثر الأصوليين على أنَّ أفعال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل البعثة لا يُؤخذ منها حُكمٌ شرعي.
وفي الحديث: الترغيب في غض البصر وعدم إطلاقه، ومن ذلك ألا ينظر الإنسان إلى وجوه النِّساء الأجنبيات أو إلى مفاتنهنَّ، سواء كان هذا بالرؤية المباشرة، أو كان هذا من خلال وسائل الإعلام وقنوات الاتصال، ولا شكَّ أنَّ غضَّ البصر له ثمرة عظيمة، وقد أمر الله -جلَّ وعَلا- في قوله: ï´؟قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْï´¾ [النور:30]، وجاء في الحديث أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ النَّظْرَةَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ، مَنْ تَرَكَهَا من مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ» .
وأصل الكلام هنا في غَضِّ البصر، ويصدق عليه أيضًا كل ما كان مُهيِّجًا للإنسان في هذا الشَّأن، فإنَّه يأخذ حُكمه.
قوله: «وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ»، أي: أنَّ الزواج سببٌ من أسباب تحصين الفرج عمَّا لا يحل للإنسان، وقد قال الله -جَلَّ وعَلا- في وصف المؤمنين أصحاب الجنان: ï´؟وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَï´¾ [المؤمنون:5].
وقوله: «وَمنْ لَمْ يَسْتَطِعْ»، أي: من لم يستطع الزواج.
قال: «فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ»، أي: يُعوِّض عنه بالصوم.
قال: «فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»، الوجاء: رض العرق الذي يكون بين الخصيتين والقضيب.
وبعضهم يقول: رض الخصيتين رضًّا شديدًا يُذهب شهوة الجماع.
وفيه الترغيب لغير المتزوجين بالأكثار من الصِّيام؛ ليكون هذا من أسباب انطفاء شهواتهم.
ثُمَّ أورد المؤلف بعد حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- (أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَأَلُوا أَزوَاجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ؟)، أرادوا أن يقتدوا به، وفيه مشروعية الاقتداء بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد قال تعالى: ï´؟لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًاï´¾ [الأحزاب:21]، وقال: ï´؟وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَï´¾ [الأعراف:158].
وفيه السؤال عن أحوال الفاضل من النَّاس ليُقتَدى به.
قوله: (فَقَالَ بَعْضُهُم: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ)، وفي بعض الروايات
المراد بقوله: (لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ)، أنهم يتركون النِّكاح، فظنُّوا أنَّ هذا من القُرَب، وبالتَّالي عهدوا لله -جلَّ وعَلا- بفعله، والصَّواب أنَّ هذا ليس من القُرَبِ، وبالتالي لا يحق للإنسان أن يُفاخر به، أو أن يتعبد لله -جلَّ وعَلا- به.
قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا آكُلُ اللَّحْمَ)، أي: يتركه زُهدًا فيه ورغبةً عنه، ويظن أنَّ ذلك من القُربات.
قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ)، أي: لا يتمكَّن النَّوم منِّي، بل أتقرب إلى الله بأن أكون مستيقظًا غير نائمٍ طوال وقتي.
فلمَّا جاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأُخبر بمقالتهم، فوجدهم، فقام خطيبًا (فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ)، وفي هذا مشروعية بداءة الخطب بحمد الله والثناء عليه، كما فيه موعظة الإمام لعموم النَّاس بما قد يشاهده من مُنكراتٍ أو مُخالفاتٍ تحصل من أفراد الناس.
وفي هذا: أنَّ القيام على الأمر المخالف في أول نشأته من أسباب اضمحلال أمره.
وفي هذا أيضًا: مشروعية الخطبة العامَّة للتَّنبيه على خطأ وقع في خاصة بدون أن يذكر شيئًا من صفاتهم.
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا»، يعني: ما السبب الذي يجعل بعض الأقوام يقولون كذا وكذا -من المقالات السابقة.
فأخبرهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن هديه فقال: «لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ»، يُصلي بعض الليل، وينام أغلبه.
قال: «وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ»، يصوم لرؤية الشهر، ويفطر عند وجود العلة التي لا تمكن من الصوم.
قوله: «وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ»، أي: من هديه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يتزوج النِّساء، وهذا يدلك على أنَّ العبادات لا تُؤخذ من الرأي المجرد، لابد أن تستند إلى النُّصوص، وهكذا لابد من النَّظر في سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهديه، ولذا قال: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي»، أي: مَن لم يرضَ بمثل ذلك «فَلَيْسَ مِنِّي». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
ثم أورد من حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُ بِالْبَاءةِ)، الباءة: النِّكاح.
قوله: (وَينْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ)، التبتل: ترك النِّكاح على جهة التَّقرب لله -جلَّ وعَلا.
قوله: (وَيَقُولُ: «تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الْوَلُودَ»). الودود: المرأة التي من شأنها أن تتحبَّبَ لزوجها. الولود: هي كثيرة الولادة.
قد يقول قائل: كيف يَعرف أنَّ هذه المرأة صاحبة ولادة، وليس بينه وبينها معرفة سابقة؟
قيل: بالنظر في ذريتها، وكيف كانت معهم، هل رُزقت بمولود، وقيل: بالنظر في قرابتها، فإذا كان النِّساء مِن قرابتها يلدنَ فلا بأسَ حينئذٍ أن يكون الزواج من إحداهنَّ.
وفي هذا الترغيب في الحبابة واللطافة وحسن الخلق، وأنَّه ينبغي أن يُؤتى الزوج من ذلك ما يُؤتاه غيره من أفراد الناس.
قوله: «تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الْوَلُودَ»، الولود: كثيرة الولادة، ونعرفها بولادة لها سابقة، أو بالنظر إلى صفات قرابتها.
ثم قال: «إِنِّي مُكَاثِرٌ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ»، أي: مكاثر بأولادكم أعداءكم يومَ القيامة.
وأخذ بعض أهل العلم من هذا الحديث: الترغيب في إعداد بيت الزوجيَّة وتهيئته.
وفي الحديث: مساعدة أهل الخير الذين يُريدون الزواج.
وفيه أيضًا: النَّهي عن ترك النِّكاح على جهة التَّقرب لله -جلَّ وعَلا.
وقوله: «تَزَوَّجُوا»، الأصل أنَّ هذا أمر، لكنه قد صُرف عن الوجوب إلى الاستحباب؛ لأنَّ الشرع قد جاء بالترغيب في الصَّبر على من لم تكن من أهل الود والحصافة.
ثم علل ذلك بقوله: «إِنِّي مُكَاثِرٌ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ»، أي: يغبط الله -عز وجل- هذه الأمة بكونها تكثر أعدادها، وبالتَّالي يكون هذا محل مقارنة النبي لأمته بغيرها من الأمم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِها، ولِحَسَبِها، ولِجَمَالِها، ولِدِيْنِها، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
في هذا الحديث بيان الصفات التي يُرغب الشَّرع في تفقدها عند المرأة التي يُراد الزواج بها، فقال: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ»، يعني: هناك أربعة أسباب يجعل الناس يبحثون عن المرأة التي يريدون الزواج بها:
الصفة الأولى: «لِمَالِها»، فهناك مجموعة من الناس يتزوجون بعض النساء لما لديهنَّ من المال، وفي مرات كثيرة يكون هذا المال سببًا من أسباب طُغيان الزوجة على زوجها.
الصفة الثانية: وهي صفة الحَسَبِ والنَّسَبِ، بحيث تكون من العوائل أو القبائل المعروفة؛ لأنَّ بعض الناس يقصد أن يرفع نفسه بزواجه من هؤلاء.
الصفة الثالثة: قال: «ولِجَمَالِها»، أي: أنَّ بعض الناس يتزوجون النِّساء من أجل ما لديهنَّ من الصفات الحميدة.
الصفة الرابعة: قال: «ولِدِيْنِها»، أن يختار المرأة من أجل دينها، والذي يتزوج المرأة من أجل دينها يجد عددًا من الفوائد، منها:
- الأولى: أنَّ المرأة تراعي حق الله في التَّعامل معه، وبالتالي تُحسن التَّعامل معه ولو أساء.
- الثَّانية: أنَّ الدِّين يحث صاحبه على الصبر، فتكون من أهل الصبر.
- الثَّالثة: أن تُحسن تربيتها لأبنائها.
- الرابعة: أنَّ المرأة تُتزوَّج لدينها يأمن زوجها عليها، ويطمئن قلبه عند ذهابه منها.
قوله هنا: «فَاظْفَرْ»، هذا أمر بأن يختار ذات الدِّين للفوائد السَّابقة.
قوله: «بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»، قيل: إنَّ المراد أن يدعو له أن يُقبَر بعد موته، بحيث لا يُلقى إلى السِّباع أو في البحار، فإذا قُبِرَ فإنه حينئذٍ تتحلَّل يده وتصبح ترابًا، ولذا قال «تَرِبَتْ يَدَاكَ».
وبعضهم قال: إن لفظ «تَرِبَتْ يَدَاكَ» من الاستغناء. وبعضهم يقول: هي من الفقر، يقول القائل: ترِبَ الرجلُ، إذا افتقر، أي: أصبح جزءًا من التراب.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذا رَفَّأَ الإنْسَانَ إِذَا تَزَوَّجَ قَالَ: «بَاركَ اللهُ لَكَ، وَبَاركَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنكُمَا فِي خَيْرٍ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ -فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ - وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ)}.
قوله: (وَعَنْهُ)، أي: عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قوله: (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذا رَفَّأَ الإنْسَانَ)، معناه: إذا دعا لإنسان مُتزوِّج، وكانوا في الجاهلية يقولون: "بالرفاة والبنين"، وبعضهم يقول: "منك الأولاد ومنها الإناث"، ونحو ذلك، وهذه كلها ليست واردة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليست من الألفاظ المستحسنة في هذا الباب.
قال: (كَانَ إِذا رَفَّأَ الإنْسَانَ إِذَا تَزَوَّجَ قَالَ: «بَاركَ اللهُ لَكَ، وَبَاركَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنكُمَا فِي خَيْرٍ»)، هذه هي اللفظة المشروعة أن تقال عندما يوجد عقد النكاح.
قوله: «بَاركَ اللهُ لَكَ»، أي: عظم ما تنتفع به من أمور الدنيا، يقال: هذا رزق مُبارك، أي: دارٌّ. ويُقال: هذه سيارة مباركة، أي: لم يقع منها شيء من الاعتداء؛ فهذا أيضًا وصف.
وبالتالي نفهم معنى البركة، أن يبارك الله لك في زوجك، بحيث تصبح أخلاقها عالية، وتصرفاته جميلة، ويعطيك الله من محبتها في قلبك. وهكذا من البركة: تيسير أمور الدنيا في نكاحات ونحوها.
قال: «وَبَاركَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنكُمَا فِي خَيْرٍ»، أي: اجتمعتما في أمرٍ من أمور الخير، ومن ذلك أن يجتمعا في بيت مَن يقوم بترتيب هذا الصُّلح ونحوه.
قال المؤلف: (رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ -فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ - وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ)
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبدِ اللهِ قَالَ: علَّمَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ، وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجةِ، قَالَ: التَّشَهُّدُ فِي الحَاجَةِ: إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِي اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأشْهدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَابْنُ مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: حَدِيْثٌ حَسَنٌ)}.
قوله: (وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ)، هو عوف بن مالك.
قال: (عَنْ عَبدِ اللهِ قَالَ: علَّمَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ)، التَّشهد ركنٌ من أركان الصَّلاة، ويكون بعد الفراغ من الركعة الثَّانية، وفي آخر الصَّلاة، سمي بالتَّشهد؛ لأنَّه يُختَم بالشهادتين.
وموطن التشهد هو: الجلوس الذي يُسلَّم بعده، أو الجلوس الذي يكون بعده الوقوف للثالثة مُباشرة.
قال: (علَّمَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ)، أي: الألفاظ التي نقولها في التشهد، وهذا الذكر المذكور هنا هو رواية ابن مسعود.
قال: (وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجةِ)، أي: علمنا أيضًا التشهد للحاجة، فقال: (التَّشَهُّدُ فِي الحَاجَةِ: إِنَّ الْحَمْدَ للهِ)، أي: الثناء بالجميل الكامل إنما يكون لله -سبحانه وتعالى- وحده.
قال: (نَسْتَعِيْنُهُ)، أي: نطلب منه العون -سبحانه وتعالى.
قوله: (وَنَسْتَغْفِرُهُ)، أي: نطلب مغفرة الذنوب.
قوله: (وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا)، ما من إنسان إلا وعنده شرور في نفسه، قد يعلمها وقد لا يعلمها، وبالتالي على الإنسان أن يتحرَّزَ منها، إذا قد ياتي الشيطان فيحرك كوامنها، وبالتالي تعود بالسوء والشَّرِّ والضرر على الأُمَّة جمعاء.
قال: (مَنْ يَهْدِي اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ)؛ لأنَّ الهداية بيد رَبِّ العِزة والجلال.
قال: (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ)، هذه صفة ينفرد الله -جلَّ وعَلا- بها، ولا تذكر في الكلام إلا إذا ذكر معها الهداية، ولذا قدمت الهداية عليها.
قال: (وَأشْهدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، شهادة التَّوحيد، فهو يُقر ويعترف جازمًا بذلك، عالمًا بأنه لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحقٍّ إلا الله، فلا يجوز صرف شيءٍ من العبادات إلى غيره.
قال: (وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد روى بعض الأئمة هذا الخبر وحسَّنوه وصححه الإمام أبو الأحوص، وجماعة من أهل العلم.
وبالتالي نعلم فضل هذا الخبر، وما فيه من الفوائد، فهذه خطبة عظيمة.
قوله: (وَيَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ)، المراد بها:
أولًا: قوله تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَï´¾ [آل عمران: 102].
ثانيًا: قوله تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً غڑ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ غڑ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاï´¾ [النساء:1].
ثالثًا: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًاï´¾ [الأحزاب:70].
فكأنَّه يقول: إنَّ هذه الآيات والاستدلالات جعلتني ممن أُحجم أن أتكلم في ذلك المحفِل.
وهذا اللفظ مما يُستحب للإنسان أن يُوضع له ويُهيَّأ له بعد وفاته.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيفْعَلْ» قَالَ جَابِرٌ: فَخَطَبْتُ جَارِيَةً مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فَكُنْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا تَحْتَ الكَرَبِ حَتَّى رَأَيْتُ مِنْهَا بعضَ مَا دَعَاني إِلَى نِكَاحِهَا فَتَزَوَّجْتُهَا. رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُد، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقٍ وَهُوَ صَدُوقٌ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَينِ وَهُوَ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ وَاقدِ بْنِ عبدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ ثِقَةٌ ،عَنْ جَابِرٍ)}.
هذا الحديث ظاهره أنَّه حسن الإسناد، إِلَّا أنَّ فيه علَّة، وهو أنَّه من رواية ابن إسحاق -صاحب السيرة- وهو مُدلِّس، فإذا رَوَى عن غير الشَّاميين فلابد من تحديثه، وهنا لم يُذكر التَّصريح من ابن إسحاق أنه استمعه مُشافهةً.
قوله: «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ»، فيه مَشروعية القُدوم على المرأة من أجل الخِطبَةِ.
قوله: «الْمَرْأَةَ»، يعني: المرأة التي يُريد الزَّواج بها.
قال: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيفْعَلْ»، هذا أمر، ولكنه مُعلق بالمشيئة، ولذا قال: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ»، وحينئذٍ صرفناه ليكون دالًّا على الإباحة.
بعض الفقهاء يقول: إن النَّظر إلى المخطوبة مُستحبٌ.
والجماهير يقولون: إنَّه مُباح وليس بمستحبٍ.
قوله: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيفْعَلْ»، فيه استحباب نظر الزَّوج الخاطب للمرأة المخطوبة.
قال جابر: (فَخَطَبْتُ جَارِيَةً)، أي: بنتًا صغيرة مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فكان يُريد أن يشاهدها قبل أن يدخل بها، فكان يتخبَّأ تحت الكرب، أي: أجزاء النخلة التي تكون في ساقها.
قال: (حَتَّى رَأَيْتُ مِنْهَا بعضَ مَا دَعَاني إِلَى نِكَاحِهَا)، يقول: أعدت النظر وقلَّبته، ووجدتُّ أنَّ الزواج بها مُناسب لما تشتمل عليه من صفات، فَتَزَوَّجهَا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا يَخْطُبَ الرَّجلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ)}.
قوله هنا: (نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ)، أصل البيع مشروع وجائز، ولكن هذه الصُّورة مُستثناة من ذلك الأصل، والأصل في النَّهي أن يكون طلبًا لترك الفعل غَير جازمٍ.
قوله: (أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ)، فإذا وجدته قد اشترى سلعةً فلا تقل له: سأعطيكَ أحسنَ منها، وردَّها وخذ بضاعتي، وأعطيك أقل منها سعرًا، ونحو ذلك؛ فهذا ليس من شأن أهل الإيمان.
قال: (وَلَا يَخْطُبَ الرَّجلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ)، إذا خُطبت امراة فلا يجوز للرجل أن يخطبها مرة أخرى؛ لأنها مَشغولة بحق الخاطب الأول.
قال: (حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ)، فهذا الخاطب الجديد قد تكون نفسه مُتعلقة بهذه المرأة فيذهب إلى خاطبها ويقول: أنا أريد أن تُعينني على زواج فلانة ونحو ذلك.
قوله: (أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ)، أن يقول له: أذنتُ لك مثل هذا.
{أحسن الله لكم شيخنا..
ما هي الحالات التي يجوز فيها للرجل أن يخطب امرأة قد خُطبَت من قبل؟}.
هذا الحديث الذي معنا يُبيِّن عددًا من الحالات التي تتعلق بهذا السؤال:
الحالة الأولى: فهناك امرأة خُطِبَت فعدلَ الخاطبُ عن خطبة المرأة، فيجوز لغيره أن يخطبها.
الحالة الثانية: إذا رُدَّ الخاطب الأول، فحينئذٍ يجوز لغيره أن يخطبها.
الحالة الثالثة: إذا كان في حالة الانتظار، لم يُعطَ جوابًا بالموافقة، فقد جاء في الحديث أنَّ فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- جاءت إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: يا رسول الله، إنَّ أبا جهمٍ ومعاوية خطباني، فأمرها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تنكح أسامة؛ والمعنى أنها لم تُجِب بعدُ.
الحالة الرابعة: إذا أذن الخاطب الأول، جاء الخاطب الثَّاني واستأذن من الخاطب الأول، فأذن له؛ فحينئذٍ يجوز له أن يخطب.
فيما عدا هذه الحالات لا يجوز للإنسان أن يخطب امرأة قد خطبت قبله.
والخطبة: إحدى المراحل التي تسبق عقد الزواج، ويُقال: "الخِطبة" بكسرِ الخاء ويُراد به خِطبة النِّكاح.
وأما "الخُطبة" فهي الكلمة والموعظة تُلقَى بينَ الناس.
وهذا الحديث فيه النَّهي عن أن يبيع بعضنا على بيع بعضٍ.
وإذا كانت الخِطبة من مُقدمات الزَّواج؛ فقد تقدم معنا أيضًا أنَّ من مُقدمات الزَّواج خُطبة الحاجة، وتقدم معنا ما يتعلق برؤية المخطوبة وأحكام ذلك.
وتقدم معنا حكم أصل النِّكاح، وذكرنا أنَّ الجمهور يرون أنَّ النِّكاح مُستحب إذا لم يكن هناك سببٌ داعٍ.
إذن في تحرير محل النزاع نقول: إذا خشي الإنسان على نفسه من الوقوع في الحرام وجب عليه أن يتزوَّجَ، أمَّا إذا لم يخشَ على نفسه من الوقوع في الحرام، ففي هذه الحال قال الجمهور: هو مُستحبٌّ، واستدلوا على ذلك بالتعليل في قوله: «فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ»، ولكون بعض الصَّحابة لم يُبادر إلى الزَّواج، ولذا خاطبهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحديث ابن مسعود السَّابق.
والظاهرية يقولون: إنَّ الزَّواج واجب، واستدلوا عليه بالأمر في قوله: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ»، واستدلوا عليه بما ورد في حديث أنس، أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يَأْمُرُ بِالْبَاءةِ وَينْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيْدًا)، والأمر للوجوب، والنَّهي يُفيد التحريم.
والجمهور يقولون: إنَّ النَّهي هنا عن اتَّخاذ تركِ الزواج دِيانةً وعبادةً يُتقرَّب بها لله -جلَّ وعَلا- ولذلك الرجل الذي جاء فقال: (لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ)، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
وبالتالي نعلم المراد بهذه الأحاديث الواردة في هذا الباب.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ سَهْلِ بنِ سَعدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِي لَكَ، فَنظرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لم يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ لمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيْها، فَقَالَ: «فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟» فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ، فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا؟» فَذَهَبَ، ثمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرْ وَلَوْ خَاتِمًا مِنْ حَدِيْدٍ»، فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا خَاتِمٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إزَارِي؟ -قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ، فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ» فَجَلَسَ الرَّجُلُ، حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ، قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ لَهُ فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ: «مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟» قَالَ مَعِيَ سُورَةُ كَذَا وَسُورَة وكَذَا- عَدَّدَهَا، فَقَالَ: «تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «اذْهَبْ فَقَدْ مُلِّكْتَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: «قَالَ: انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ»، وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: «أَمَلَكْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»)}.
هذا الحديث الشريف فيه فوائد كثيرة.
قال: (جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه قُدوم النِّساء إلى أهل الفضل، وليس معناه أنَّ هُناك خُلوة أو اختلاط، فإنَّ الاختلاط هو الإتيان المتكرر للمكان الواحد، بخلاف ما كان للمرة الواحدة وبدون ترتيب مُسبق.
فَقَالَتْ: (يَا رَسُولَ اللهِ، جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِي لَكَ)، هبة المرأة نفسها للرجل خاص بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقول الله -جلَّ وعَلا: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين} [الأحزاب/50]، فلما قال: {خالصة لك} معناه أن الحكم يختص بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأما ما عداه فإن المرأة لا تهب نفسها للرجل.
وبعض الحنفية استدل بهذا على أنه لا يلزم وجود ولي، ولكن ليس في الحديث دلالة على ذلك، فهذه المرأة امرأة منقطعة، ويظهر أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما زوجها الرجل زوَّجها بحكم ولايته، ولذا لم يجعلها تباشر عقد النِّكاح بنفسها، وإنما الذي باشر عقد النِّكاح هو النِّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مما يدل على لزوم وجود الولي.
قال: (فَنظرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ)، ظاهر هذا أنَّ المرأة المتحجبة التي لم يَظهر مِن بَدنها شيء يجوز النَّظر إليها وتصويب النَّظر؛ لأنَّ ذلك ليس فيه شيءٌ من كشفِ بدنها.
والذي يظهر أنَّ هذا في حالة عدم سفور المرأة، وفي حالة عدم بيان جلباب المرأة لشيءٍ من أعضاء بدنها.
قال: (ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لم يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا)، يعني: لم يردها، ولم يفعل شيئًا تجاه طلبها عندما طلبت منه أن يتزوج منها، فجلست.
قال: (فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ لمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيْها)، فيه طلب الرَّجل الزَّواج بالمرأة.
هل يُستدلُّ بهذا الحديث على أنَّ المرأة يجوز لها أن تعرض نفسها للرجل كما قال بذلك طائفة؟ أو نقول: إنَّما يُستحب ذلك في حقِّ الولي أن يَعرض موليَّته على الرجل الكفء لئلا يفوت؟
فَقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟»، أي: هل لديك مهر تتمكَّن به من دفعه لهذه المرأة التي تريد الزَّواج منها؟
في هذا دلالة على أنَّه لابد أن يكون في الزَّواج مَهرٌ، ولا يجوز أن يكون هناك زواج اتُّفق على أنَّه لا مَهر فيه، ولو قُدِّر أنَّه تَزَوَّج امرأةً وشرطت أَلَّا مهر لها؛ فإنَّه يثبت لها حينئذٍ مَهر المثل؛ لأنَّ هذا شرط فاسد، ولكنه لا يفسد العقد؛ لأنَّه مُتلعق بأثرٍ مِن آَثَار العقد، وليس مُتعلقًا بصلب العقد.
فقال الرجل: (لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ)، أي: ليس عندي شيء أتمكَّن من دفعه مهرًا للمرأة.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ، فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا؟»، أي: تجد أمرًا له قيمة تتمكن به من دفع مَهر هذه المرأة.
قال: (فَذَهَبَ، ثمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا)، أي: لم أجد شيئًا أقوم بدفعه لهذه المرأة ليكون مهرًا لها.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرْ وَلَوْ خَاتِمًا مِنْ حَدِيْدٍ»، فيه دلالة على أنَّ المهر يجوز أن يكون مالًا قليلًا، وهذا مذهب أحمد والشَّافعي.
وخالفهم الإمام مالك، فقال: لابد أن يكون بمقدار ثلاثة دراهم.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنَّ أقله عشرة دراهم.
وهذه الأقوال تحديدات، وليس على فرضها شيءٌ ثابت، وقياسها على غيرها من المسائل قياسٌ مع الفارق.
واستدل بهذا الحديث على جواز لُبس خاتم الحديد، وأنَّه لا حرج في ذلك.
قال: (فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا خَاتِمٌ مِنْ حَدِيدٍ)، أي: لم أجد لها مهرًا حتى الخاتم الحديد.
قال: (وَلَكِنْ هَذَا إزَارِي؟)، الإزار: هو قطعة القماش التي يقوم الرجل بلفها على أسفل بدنه، فيغطي بذلك عورته.
قال المؤلف: (قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ)، الرداء: قطعة القماش التي تكون في أعلى البدن، فلم يكن لديه إلا إزار فقط.
فقال الرجل: (فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟»)، أي: ما تستفيد هذه المرأة من الإزار الذي ستدفعه لها؟!
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ»، وبالتالي هذا يتنافى مع ما قصده الشَّارع من أمر الزَّوجية.
قال: «وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ»، أي: إذا لبست المرأة هذه الإزرة لم يكن على الرجل منه شيء، ولم يتمكَّن من غطاء عورته.
قال الراوي: (فَجَلَسَ الرَّجُلُ، حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ)، يعني: تطاول به الزمان.
قال: (قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُوَلِّيًا)، أي: قافلًا راجعًا.
قال: (فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ لَهُ)، أي: أن يرجع له.
قال: (فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ: «مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟» قَالَ مَعِيَ سُورَةُ كَذَا وَسُورَة وكَذَا- عَدَّدَهَا، فَقَالَ: «تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «اذْهَبْ فَقَدْ مُلِّكْتَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»)، في هذا دلالة على فضل القرآن، وعلى حرص الصَّحابة-رضوان الله عليهم- على حفظ القرآن، وبعض العلماء يَستحب أن تكون القراءة من المصحف نَظَرًا، ولعل الأظهر أنَّ المستحب أن يقرأها عن ظهر قلب، لا حال قراءته من المصحف، ولا شك أنَّ المصحف فاضل، وأنَّه ينبغي للإنسان تقديره واحترامه، لكنَّ القِراءة عن ظهر قلبٍ أولى، إذ فيها مُتابعة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيها استحضار وتذكر آيات القرآن.
قَالَ الرجل: (نَعَمْ)، يعني: أقرأ هذه السور عن ظهر غيب.
فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ»، أي: عُدْ إلى أهلك.
قال: «فَقَدْ مُلِّكْتَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»، أي: عقدتُّ لكَ عليها مقابل ما معك.
وهنا إشكالان:
الإشكال الأول: أنَّ بعض الفُقهاء قال إن هذا الحديث دليلٌ على أنَّ عقد النِّكاح قد ينعقد بألفاظ مُغايرة لألفاظ النِّكاح والتَّزويج.
الإمامان الشافعي وأحمد يقولان: عقد النِّكاح لا ينعقد إلا بهذه الصِّيغة. وبالتالي لا تكن لفظة «ملكتكها» من ألفاظ العقد عندهم.
وعند الإمامين أبي حنيفة ومالك -رحمهما الله: أنَّ عقد النِّكاح ينعقد بكل لفظٍ يدلُّ عليه، ومن ذلك لفظ التَّمليك.
الإشكال الثاني: في قوله «بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»، فكيف يزوجه المرأة وهي لا تستفيد ممَّا معه، وإنما هو يحفظ آيات القرآن؟
أُجيبَ عن هذا بأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قصد بهذا أنَّ الزَّوج يُعلم زوجته هذه الآيات القرآنية.
ولذا جاء في لفظ: «انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ»، وهذا يدلنا على أنَّه لم يعْطِه مَهرًا.
وقد استدلَّ بعضهم بهذا الخبر على استحباب أن لا يطلب الإنسان من غيره شيئًا، كما استدلَّ به على استحباب تقليل مهر النِّكاح، وعدم المزايدة والمبالغة فيه.
فهذا شيء من معاني هذه الأحاديث التي وردت في أوائل باب النكاح، وذكرنا فيها عددًا من الأحكام الفقهية المأخوذة منها، وبالتالي نكون قد استكملنا هذا الخبر.
بارك الله فيك، ووفق الله لخيري الدنيا والآخرة، وجعلنا الله وإيَّاك من الهداة المهتدين، كما أسأله سبحانه لجميع إخواني وإخوتي ممَّن يشاهدوننا التوفيق لكل خير، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يرزقهم علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا ونيَّة خالصة، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختام نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّة عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

منقول ..البناء العلمي https://benaa.islamacademy.net/stude...orks.php?id=60









 


رد مع اقتباس
قديم 2019-04-22, 14:19   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الْمُحَرِّرُ فِي الحديثِ (4)
الدَّرسُ الثَّاني (2)
معالي د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور:سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ}.
الله يبارك فيك، أحييك، وأحيِّي إخواني المشاهدين، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- لهم التوفيق لكل خيرٍ.
{نستأنف في هذه الحلقة -بإذن الله- ما انتهينا منه في الحلقة الماضي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالى: (وَعَنْ عبدِ اللهِ القُرَشِيِّ، عَنْ عَامرِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَـيْـرِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالحَاكِمُ -وَقَالَ: صَحِيْحُ الْإِسْنَادِ.
وَعَنْ أَبي مُوسَى قالَ: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيرُهُ.
وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الأَيِّمُ، حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ, وَكَيْفَ إِذْنها؟ قَالَ: «أَنْ تَسْكُتَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا منْ وَليِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وإِذْنُهَا سُكُوتُهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي لفظٍ: «لَيْسَ للْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ، وَاليَتِيْمَةُ تُسْتَأْمَرُ، وَصْمْتُهَا إِقْرَارُهَا». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ.
وَعَنْهُ: أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَلَهُ عِلَّةٌ بَيَّنَهَا أَبُو دَاوُد وَأَبُو حَاتِمٍ وغَيرُهُما وَهِي: الْإِرْسَالُ.
وَعَنِ الْـحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا, وَأَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ بَيْعًا مِنْ رَجُلَيْنِ, فَهُوَ لِلأَوَلِ مِنْهُمَا». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَقَدْ رُويَ عَنِ الْحسَنِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ عَنْ سَمُرَةَ.
وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَقيلٍ، عَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيْهِ أَو أَهْلِهِ فَهُوَ عَاهِرٌ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ"، وابْنُ عَقِيْلٍ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاج بِهِ)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعد:
فقد أوردَ المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ- في هذا الموطن عددًا من الأحاديث التي تتعلَّق بأركان النِّكاح وشروطه، فإنَّ لعقدِ النِّكاح أركانًا وشروطًا، فمن أركانه:
ïƒک الزَّوجان الخاليانِ من الموانعِ.
ïƒک الإيجاب والقبول، وهو آخر ما تكلَّمنا عنه فيما مضى.
ويبقى عندنا البحث في شُروط عقد النِّكاح، فهناك شروط متفق عليها، وهناك شروط مختلف فيها.
فمن الشُّروط المختلف فيها: شرط إعلان النِّكاح.
فعند فقهاء المالكيَّة أنَّه يُشترط لصحَّة عقد النِّكاح إعلانه، ولا يلزم إعلانه في كل مجال وعند كلِّ أحدٍ، وإنما يلزم إعلامه وإعلانه في دائرة الزَّوجة وما حولها.
هذا الإعلان أمر به النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في هذا الخبر «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ»، والأصل في الأوامر أن تكون للوجوب، ولذلك رأى المالكية أنَّ إعلان النَّكاح واجب، وأنَّه لا يصح عقد النَّكاح عند التَّواصي على كتمانه وعدمِ إظهاره، واستدلُّوا بأدلَّةٍ منها هذا الخبر.
وهذا الخبر خبرٌ جيد، قد صحَّحه طائفةٌ من أهل العلم، ولذلك لا مَطعن فيه، فالأصل وجوب الالتزام بما ورد فيه، ولذلك فإنَّ مذهب المالكيَّة بوجوب إعلان النِّكاح مذهبٌ قويٌّ.
والجمهور يشترطون بدلَ الإعلانِ أن يكونَ هناك شاهدان لعقد النَّكاح، ويستدلون عليه بالنُّصوص العامَّة الواردة في إيجاب أن يكون هناك شاهدين كقوله تعالى: ï´؟وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْï´¾ [الطلاق: 2].
فالمقصود: أنَّ الجمهور يَرون أنَّ الشَّاهد في عقد النَّكاح شَرط لصحَّتهِ.
والمالكيَّة يقولون: يكفينا الإعلان.
ولكن الإعلان قد يكون متأخرًا، بخلاف الشَّاهد فيلزم أن يكون حاضرًا في مجلس العقد.
ثُمَّ عرَّج المؤلف على ذِكْرِ مسألة اشتهر الخلاف فيها بينَ الأمَّة؛ ألا وهي: تزويج المرأة لنفسها، فهل يجوز للمرأة أن تُزَوِّجَ نفسها؟ أو تُوكل امرأة أخرى في تزويجها أولا ؟
الجمهور يقولون: الولي شَرطٌ في عقد النَّكاح، ولا يصح عقد النَّكاح إلا به، واستدلُّوا على ذلك بعددٍ من الأحاديث، منها:
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ»، فالأصل في النَّفي في قوله «لَا نِكَاحَ» أنه نهيٌ مشدَّد.
وقوله «إِلَّا بِوَلِيٍّ»، أي: لا يَصِحُّ عقد النِّكاح إلا بأن يكون هناك وليٌّ.
واستدلوا على ذلك أيضًا بحديث أبي هريرة الذي ذكره المؤلف هنا، حيث قال: («لَا تُنْكَحُ الأَيِّمُ، حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ إِذْنها؟ قَالَ: «أَنْ تَسْكُتَ»)، وكونها يصحُّ استئذانها دليلٌ على أنه لابدَّ من ولي في عقد النِّكاح.
ويدلُّ على ذلك أيضًا ما ورد في قوله تعالى: ï´؟وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِï´¾ [البقرة: 232]، فخاطب الأولياء بألا يمنعوا مولياتهم بالزَّواج من مُطلقيهم، وما هذا إلا أنَّ للولي تصرفًا، وإلا لَمَا مَنَعَه من التَّزويج.
وفي هذا الحديث: مسألة استئذان المرأة في عقد الزواج، والمرأة إن كانت ثيِّبًا فالجماهير على أنَّه لابد مِن أَخْذِ إِذنِها، وأمَّا إذا كانت بكرًا فالجماهير على أنَّه لا يُؤخذ إذنها.
وقد وقع اختلاف فيمن يجوز إجبارها على عقد النِّكاح:
فقال طائفة: إنَّ هذا إنما يكون للصَّغيرة، وهذا مذهب أبي حنيفة. ولعلَّ هذا القول هو الأظهر؛ لأنه لا تُجبر إلا الصَّغيرة، لهذه الأحاديث.
وقال طائفة: إنَّ هذا إنَّما يكون للبكرِ حتى ولو كانت بالغة.
أمَّا قوله: «وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ»، وفي لفظٍ «حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» هذا دليلٌ على أنَّه لابدَّ مِن رضاها، ولا يجوز لها أن تُزَوِّج نفسها بدون أن يكون لها ولي.
قال: ( ابْن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا منْ وَليِّهَا»)، فلا يزوجها الولي إلا برضاها.
قال: «وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ»، أي: يُعاد إليها الأمر، ويُطلب أمرها.
قال: «وإِذْنُهَا سُكُوتُهَا»، ففي هذا دلالة على أنَّ سكوت المرأة دليلٌ على رضاها عن الرَّجل.
وفي لفظٍ قال: «لَيْسَ للْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ»، لابدَّ من رضاها وموافقتها.
قال: «وَاليَتِيْمَةُ تُسْتَأْمَرُ»، أي: يُردُّ لها الأمر ويُطلب منها ما تأمر فيه.
قال: «وَصْمْتُهَا»، يعني: لو قُدِّرَ أن المرأة صمتت؛ فإن إقرارها كافٍ في التَّزويج.
ثُمَّ أوردَ المؤلف من حديث ابن عباس (أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا)، الجارية: الفتاة الصَّغيرة. والبكر: أي لم تبلغ البلوغ، أو أنها لم تتزوَّج قبل ذلك.
قال: (أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي: خيَّرها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بينَ المضي والبقاء معه وبين مفارقته.
وقوله: (أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، هذا فيه دليل على أنَّه لابدَّ من إذن البكر، ولابدَّ من رضاها في عقد الزَّواج، فهذه ذكرت أنَّ أباها زوَّجها وهي كارهة، وفي بعض الأحاديث أنَّه زوَّجها، أي: هذه الفتاة من ابن أخيه، قال: (فتزوجها ابن عمها)، وعلَّلت ذلك بأنه إنما أراد أن يرفع خسيسته، فخيَّرها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين البقاء معه وبين إلغاء عقد النِّكاح.
ثُمَّ أوردَ المؤلِّف الحديث عَنِ الْـحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ، والحسن سمع من سمرة عددًا قليلًا من الأحاديث، وبقية الرِّوايات عنه لم يسمعها، وبالتالي شكَّكوا في كثير من رويات الحسن عن سمرة إِلَّا إذا صرَّح بالسَّماع.
قال: (عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ»)، أي: كل واحد من الوليين زوَّج الموليَّة في نفس الوقت، فحينئذٍ يكون الحكم:
ïƒک إن كان متفاوتين في الزَّمان: فنحكم بها للأوَّل؛ لأنَّه هو الذي عَقَدَ عليها أولًا، ولكن إذا لم يكن هُناك بينة فماذا نفعل؟
ïƒک كثير من أهل العلم قالوا: نتركهم حتى يتبين حالهم مَن هو الأولى بالولاية.
ïƒک ومنهم مَن يقول: يُمضَى تزوُّج من زوَّجها برضاها وباختيارها.
ثُمَّ أورد المؤلِّف من حديث عبدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَقيلٍ، عَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ»، أي: كل عبدٍ، والمراد بالعبد هنا: المملوك.
قال: «تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيْهِ أَو أَهْلِهِ فَهُوَ عَاهِرٌ»، فإذا كانَ هذا يُقال في حق هذه المسألة؛ فإنَّ هذا يصدق أيضًا على مَن عقدَ عقدَ نكاحٍ ثم زوَّج نفسه.
وهذا الحديث ضعيف الإسناد؛ لأنَّه من رواية عبد الله بن عقيل وهو ضعيف الرِّواية، وذلك لوقوع شيء من الاضطراب في روايته.
إذن هذه الأحاديث كلها فيما يتعلَّق بشروط النِّكاح، فعندنا في عقد النِّكاح أربعة شروط على مذهب الجمهور:
ïƒک أولها: رضا الزَّوجة.
ïƒک ثانيها: رضا الزَّوج.
ïƒک ثالثها: وجود الولي.
ïƒک رابعها: وجود الشاهدين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْهُ قَالَ: نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ للرَّجُلِ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ وَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي، وزَوِّجْنِي أُخْتَكَ، وَأُزَوِّجُكَ أُخْتِي. رَوَاهُ مُسْلِمٌ)
وعَنْ ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ " متفق عليه.
عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ. قَالَ: وَكَانَتْ خَالَتِي وَخَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ) رواه مسلم}.
هذه الأحاديث تتكلَّم عن موانع عقد النكاح:
أول موانع عقد النِّكاح: الجمع بين المرأة وبينَ ما لها به قرابة.
وباب موانع النِّكاح فيه تفاصيل كثيرة، قد ذُكرت في قوله -جلَّ وعَلا: ï´؟حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَï´¾ [النساء: 23]، فهنا ذكر عددٍ من المحرمات، نعدُّها بالتفصيل:
المحرمات اثنان وعشرون صنفًا، منهنَّ محرمات بالقرابة وتشمل سبعة أنواع:
ïƒک الأول: الأمهات وإن علونَ، فلا تتزوج جدتك، ولا جدة جدتك.
ïƒک الثاني: البنات وإن نزلن، بنتك، وبنت بنتك، وبنت ابنك، إلى آخره.
ïƒک الثالث: الأخوات، سواء كانت شقيقات أو أخوات لأب، أو أخوات لأم.
ïƒک الرابع: العمَّات، أيًّا كانت منزلتها، وفي أيِّ جدٍّ كان يلتقي معها.
ïƒک الخامس: الخالات، وهنَّ أخوات الأم، سواء كنَّ خالات شقيقات، أو خالات لأمٍّ.
ïƒک السادس: بنات الأخ.
ïƒک السابع: بنات الأخت.
قال تعالى: ï´؟حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِï´¾، فهذه من المحرمات في هذا الباب بسبب القرابة.
وعندنا أربعة أنواع محرمات بسبب المصاهرة، وهنَّ:
ïƒک الأول: أمُّ الزَّوجة، فلا يجوز أن تتزوَّج أم زوجتك، ولو كانت الزَّوجة الأولى مُطلقة قبل عشر سنين.
ïƒک الثاني: بنت الزَّوجة.
ïƒک الثالث: زوجة الأب.
ïƒک الرابع: زوجة الابن، كما نُصَّ على ذلك في هذه الآيات.
ومن المحرمات: المحرمات بالرضاع: فكل مَن تحرم عليك، أو يحرم وليُّها؛ فحينئذٍ لا يجوز أن يُجمَع بينهما، فلا تجمع بين امرأة وزوجة أبيها.
قال: (نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الشِّغَارِ).
المراد بالشغار: زواج البدل، وهو (أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ للرَّجُلِ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ وَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي، وزَوِّجْنِي أُخْتَكَ، وَأُزَوِّجُكَ أُخْتِي)، على سبيل المقابلة، فهذا مما نهي عنه في الشرع.
يبقى عندنا مسألة نكاح المُحرِم، فلا يجوز للمحرم أن يعقد عقد النكاح.
هل يجوز للمرأة المحرمة أن يُعقَد عليها، أو نقول: إنَّ النِّساء في هذا الأمر على أنواع؟
إذن البحث في موانع النَّكاح، فعندنا موانع متعلِّقة بالقرابة، وعندنا موانع متعلِّقة بوقت الإحرام.
عند الحنفيَّة: يجوز للمرأة أن تزوِّج نفسها وهي مُحرِمَة، ويُزوجها وليُّها وهي محرمة، ويكون الزَّوج مُحرمًا، ويكون الولي مُحرمًا.
ولكن الجمهور يمنعون، لورود حديث في النَّهي، فقد جاء في حديث عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لا تنكح المحرمة ولا تُنكَح» ، والمراد هنا عقد النِّكاح.
فالمقصود أنَّ الإحرام مانع من موانع النِّكاح، ولو عقد على امرأة وهي محرمة فحينئذٍ يكون عقدها عقدًا فاسدًا لابدَّ من تصحيحه؛ لأنه وقع في مخالفة للشرع.
وهذا هو قول الجمهور، أمَّا الحنفيَّة يقولون بجواز عقد النِّكاح للمحرم سواء كان وليًّا أو زوجًا أو شاهدًا، أو مأذونًا، ويستدلُّون عليه بحدث تزوُّج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بميمونة، فقد ورد في حديث ابن عباس أنه تزوجها وهي محرمة.
قال: (عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ: حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ)، وميمونة هي خالة ابن عباس.
إذن ابن عباس يقول: إنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تزوَّجها وهو محرم، وبريدة يقول: إنه تزوجها وهو حلال. فمن نقبل قوله ونصدقه في ذلك؟
نقبل قول يزيد بن الأصم؛ لأنه كان المباشر للقصَّة، وبالتَّالي يترجَّح لدينا مذهب الجمهور في أنَّه لابد أن يكون العاقد غير محرم، سواء كان قريبًا أم بعيدًا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَقَّ الشَّروطِ أَنْ يُوفَى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
هذا الحديث يتكلَّم عن شُروط عقد النِّكاح، وهناك فرق بين شروط النِّكاح والشُّروط في النكاح. ما هي هذه الفروق؟
• شروط النِّكاح: من قبل الشَّارع، بينما الشُّروط في النِّكاح: من قبل المكلَّفين.
• شروط النِّكاح لابد أن تكون في جميع العقود، وأمَّا الشَّرط في النِّكاح هذا مختصٌّ بما اشترط فيه الشرط، فيجوز أن يكون هناك شرطٌ في عقد النِّكاح، ويصح بالشروط الآتية:
ïƒک ألا يكون محرمًا.
ïƒک وألا يكون وسيلةً لمناقضة مَقصد الشَّارع.
وبالتَّالي نقول: إنَّ الأصل في الشُّروط هو أنها لازمة، وأنَّه يجب الوفاء بها، ويدل على ذلك هذا الحديث عن عقبة بن عامر، قال: «إِنَّ أَحَقَّ الشَّروطِ أَنْ يُوفَى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ»؛ لأنَّ عقد النِّكاح يُستحلّ به الفرج.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ أَوْطَاسٍ فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثمَّ نَهَى عَنْهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُحِلَّ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ)}.
هذه الأحاديث تذكر أشياءً من ممنوعات عقد النِّكاح، وتقدَّم معنا النَّهي عن نكاح الشِّغار، والمراد به: ربط نكاح امرأة بنكاح امرأة أخرى، فيقول: زَوَّجْتُك أُختي، وزوجني أختك؛ ويدخل في هذا ما لو لم يُسمِّ المهر، فيكون تبادل بدون أن يذكر فيه المهر. ونكاح الشِّغار باطل، وبالتَّالي لابدَّ من تصحيح هذا العقد.
وكذلك من الأمور التي لها تأثير في النِّكاح: ما يتعلَّق بالإحرام -كما تقدَّم- فإنَّ المحرم لا يجوز له أن يتولَّى عقد النِّكاح سواء لنفسه أو لغيره، ولا يكون وليًّا في عقد النِّكاح.
كذلك من المنهيَّات: نكاح المتعة.
والمراد به: النِّكاح المؤقَّت، فإنَّ الأصل في مشروعيَّة الزَّواج هو أن يكون هناك أُلفة بين النَّاس ومحبَّة وتوادّ، فإذا أَدخلوا هذا المعنى فيما بينهم؛ فحينئذٍ تنتفي تلك المعاني فيه، ولذلك نُهِىَ عن نكاح المتعة؛ لأنَّ مَقصده أن يكون النِّكاح رغبة، وهو على خلاف مَقصد الشَّرع.
فالمراد بنكاح المتعة: أن يكون النَّكاح مُؤقتًا.
الجمهور يقولون: النِّكاح بلا ولي نكاح باطل، ولا يجوز الاعتماد عليه، ويجب تجديد العقد لما حصل منه، لهذه الأخبار.
قوله: (رَخَّصَ)، فيه دليل على أنَّ الأصل هو المنع.
قال: (عَامَ أَوْطَاسٍ فِي الْمُتْعَةِ)، المراد به: النَّكاح المؤقت بوقتٍ محدَّد.
قال: (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ)؛ لأنَّ النَّاس كانوا محتاجين، وكان عندهم حاجة لإتيان أهلهم، ولذا كان الأمر على النَّهي، ثم بعد ذلك رُخِّصَ لهم في نكاحِ المتعة ثلاثة أيام، ثم بعد مضي هذه الأيام الثلاثة نهي عنه نهيًا باتًّا.
ثم أورد المؤلِّف حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: (لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُحِلَّ)، يعني: العاقد وهو الزوج الجديد الذي يُريد أن يحلل المرأة لزوجها.
قال: (لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُحِلَّ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ)، يعني متى علم بذلك وكان مواطئًا عليه. وهو حديث صحيح.
وفي الحديث: تشديد تحريم التَّحليل، وذلك أنَّ الشَّرع يُريد أن يكون النِّكاح نكاح رغبةٍ وليس نكاح إجبارٍ وتصول بين الزَّوجين. وفي هذا تحريم نكاح التَّحليل.
ونكاح التَّحليل مخالف للشَّرع، فهل يدل على بطلانه مطلقًا؟ أو يُمكن تصحيحه؟
وجه التَّصحيح له: أن يُلغى ما يكون بينهم من اتفاقات في هذا.
والصَّواب: أنَّ النَّهي عن التَّحليل نهيٌّ عامٌّ لكلِّ محلل.
والمقصود هنا: أنَّ نكاح التَّحليل نكاح محرم، وأنَّه نكاح لا يُجيزها لِمُطَلِّقِها، معاملةً له بنقيض مَقصوده.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَعيدٍ الـمَقْبُري، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لَا يَنْكِحُ الزَّانِي المَجْلُودُ إِلَّا مِثْلَهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِلَى عَمْرٍو وَهُوَ ثِقَةٌ مُحْتَجٌّ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَأَرَادَ زَوجُهَا الأَوَّلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «لَا، حَتَّى يَذُوقَ الآخِرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الأَوَّلُ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
أورد المؤلِّف حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَعيدٍ الـمَقْبُري، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-وهذا إسناد جيد.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لَا يَنْكِحُ الزَّانِي المَجْلُودُ إِلَّا مِثْلَهُ»، هذا فيه النَّهي عن نكاح الزَّاني.
والحنابلة يقولون: لا يجوز نكاح الزاني رجلًا أو امرأة، ويستدلُّون عليه بهذا الحديث، ويستدلُّون عليه أيضًا بقوله تعالى: ï´؟الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَï´¾ [النور: 3].
وقال الجمهور بحلِّه مع كراهته.
ولكن المذهب الأوَّل أقوى لوجود الدَّليل الواضح معه.
وقوله: «لَا يَنْكِحُ الزَّانِي المَجْلُودُ إِلَّا مِثْلَهُ»، يعني: ما ماثله في صفاته.
ثم أورد المؤلف حديثًا متفقًا عليه من طريق عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: (طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا)، بعض الفقهاء قال: هذا دليل على أنَّ الطَّلاق الثَّلاث يقع على أي طريقةٍ.
وبعضهم قال: الحديث ليس فيه استفصال، ويُمكن أنَّ مُراده بقوله (طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا)، يعني أن الزوج طلقها الثالثة، وقد مضى معه طلقتان طلقتان سابقتان، وبالتَّالي يكون لفظ الخبر فيه شيء من إمكانيَّة التَّفسير بتفسيرٍ مخالفٍ.
قالت: (فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ)، والظَّاهر من هذا أنَّه نكاح رغبة، وليس نكاح تحليل.
قالت: (ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا)، أي أنَّ الرَّجل الثَّاني طلَّق المرأة قبل أن يدخل بها.
فهل تُحل للأول؟
لا تحل، فقد جاءنا في الحديث أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جعل معيار الحل للزَّوج الأول هو وطء الزَّوجة من الزَّوج الثَّاني، فلابد أن يكون هناك رغبةٍ لا نكاح تحليل فقط.
قالت: (طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا)، فيه دلالة على مضي الطَّلقات الثَّلاث بلفظٍ واحد، وبذلك قال الجماهير، خلافًا لبعض فقهاء الحنابلة والظَّاهرية.
قالت: (فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَأَرَادَ زَوجُهَا الأَوَّلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا)، أي يعود إليها.
قالت: (فَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «لَا»)، يعني لا تحل له.
قال: «حَتَّى يَذُوقَ الآخِرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الأَوَّلُ»، فيه دلالة على أنَّه لا يحصل تحليل للزَّوج الأول بطلاقٍ لم يحصل فيه وطء.
فهذا شيءٌ من أحكام الأحاديث التي تتعلَّق بهذا الباب، وبالتَّالي نعلم أنَّ الشَّارع قد نظَّم هذا البابَ تنظيمًا قويًّا، وأنَّ تنظيمَ الشَّارع حاصرٌ، وأنه تحصل به مصلحة النَّاس، فالأصل في عقود الأنكحة هو الحل والجواز، إلا أن يأتي دليلٌ خاصٌّ في جزئيَّةٍ من جزئيَّاته.
فالمقصود: أنَّ هذه الأبواب جمعت عددًا من الأمور التي تكون سببًا من أسباب بطلان العقد، منها:
ïƒک الكلام في إعلان النِّكاح، وعدم إسراره، وفي هذا يدخل ما يسمونه سابقًا بالنَّهاريَّات اللاتي لم يُشهَرأمر زواجهن.
ïƒک الكلام على مسألة الزَّواج بلا ولي، فهل تُزوِّج المرأة نفسها أو لا.
ïƒک والكلام على العقد على المرأة بدون رضاها، وما هيولاية الإجبار في هذا.
ïƒک والكلام على مسألة ما لو زوَّجَ وليَّان؛ فحينئذٍ يكون زواج المرأة للأول منهما.
ïƒک والكلام على ما يتعلَّق بالجمع بين المرأة وقرابتها.
ïƒک والكلام على ما يتعلق بنكاح الشِّغار، وفصَّلنا في حكم نكاح المرأة من المحرِم، هل يصح عقدها أو لا يصح هذا النكاح الذي وقع في زمن الإحرام.
ïƒک والبحث في مسألة الشُّروط في عقد النِّكاح، شروط العاقدين.
ïƒک والبحث في مسألة نكاح المتعةِ، ونكاح التَّحليل، ونكاح المجلودين من الزُّناة.
ïƒک وبحث مسألة ما يتعلِّق باشتراط ذوق العسيلة للمحللين، أو مَن يُظن أنهم يُريدون التَّحليل.

أسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يُوفقنا وإيَّاكم لكل خير، وأن يجعلنا وإيَّاكم من الهُداة المهتدين، كما نسأله -سبحانه- أن يصلح أحوال الأمَّة، وأن يردهم إلى دينه ردًّا حميدًا، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختام نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّة عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.







https://benaa.islamacademy.net/files...oharer402.docx










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-22, 14:19   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الْمُحَرِّرُ فِي الْحَديث (4)
الدَّرسُ الثَّالِثُ (3)
معالي الشيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور: سعد بن ناصر. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ}.
الله يحييك، أرحب بك، وأرحب بأحبتي من المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{اللهم آمين..
نستفتح هذه الحلقة -بإذن الله- من قول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (بَابُ الْخِيَارِ فِي النِّكاح وَذِكْرِ نِكَاحِ الْكُفَّارِ.
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ: خُيِّرَتْ عَلَى زَوجِهَا حِيْنَ عَتَقَتَ، وأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأَدَمٍ مِنْ أَدَمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: «أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً عَلَى النَّارِ فِيهَا لَحْمٌ؟» فَقَالُوا: بلَى يَا رَسُولَ اللهِ, ذَلِك لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ، فَقَالَ: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ»، وَقَالَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَلهُ عَنْ يزِيدَ بنِ رُومَانٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ زوجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا.
وَعَنْ الْأَسودِ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ زوجُ بَرِيرَةَ حُرًّا فَخَيَّرَها رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفْظُهُ وَقَالَ: "حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ"، قَالَ إِبْرَاهِيمُ بنُ أَبي طَالبٍ: "خَالَفَ الْأسْوَدُ بنُ يزِيدَ النَّاسَ فِي زَوجِ بَرِيرَةَ قَالَ: إِنَّهُ حُرٌّ، وَقَالَ النَّاسُ: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا".
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، فَلَمَّا أَعْتَقَتُهَا, قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اخْتَارِي، فَإِنْ شِئْتِ أَنْ تَمْكُثِي تَحْتَ هَذَا العَبْدِ، وَإِنْ شِئْتِ أَنْ تُفَارِقِيْهِ»)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعد: فيقول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (بَابُ الْخِيَارِ فِي النِّكاح)، يعني: ما هي المسائل التي يُعطَى للمرأة حق فسخ النِّكاح فيها، فهذا هو المراد بالخيار في النِّكاح.
وأما قوله: (وَذِكْرِ نِكَاحِ الْكُفَّارِ)، أي: هل عقود أنكحتهم عقودٌ صحيحة يجوز البقاء عليها، أم لابدَّ من تجديدها؟
وقد ذكر المؤلف ثلاثة أحاديث في أوائل هذا الباب تتعلق بحديث بريرة، وكلها من رواية عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها:
أولها: حديث متفقٌ عليه، (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ)، بريرة هي امرأة كانت في زمن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حدثت لها قصص مُتعددة، وكانت في أول أمرها مملوكة، فزُوِّجَت برجلٍ يُقال له: مغيث، ثم عتُقَت بريرة، فخُيَّرَت بينَ البقاء مع زوجها، وبين مُفارقته؛ فاختارت مفارقة الزوج، فأخذ العلماء من ذلك أنَّ مَن أُعتقت فإنَّه يكون لها الخيار في إمضاء النِّكاح وإبقائه، أو في فسخ عقد النِّكاح.
وإذا كان الزوج مملوكًا فهذا بالاتفاق، وأما إذا كان حرًّا ففيه خلاف بين أهل العلم نتيجة الاختلاف بين الرواة في حال مغيث هذا؛ هل كان عبدًا أو كان حرًّا.
بعد ذلك جاء إليها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليشفع عندها في أن تعود إليه، فإنَّه كان يمشي في الأسواق يبكي من محبته لها، فقالت: "يا رسول الله أتأمرني؟" قال: «لا، إنما أنا شافع». فقالت له -رَضِيَ اللهُ عَنْها: "إذن لا حاجة لي فيه".
قال عائشة: (كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ)، أي: ثلاث أحكام منسوبة إلى سنة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليس المراد بالسنن هنا المستحبات، وإنما المراد: الأحكام المنسوبة إلى سُنة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الحكم الأول: (خُيِّرَتْ عَلَى زَوجِهَا حِيْنَ عَتَقَتَ)، فكانت مملوكة، وكانت مُتزوجة، فلمَّا عتقت خُيِّرَت بين فسخ النِّكاح وإبقائه وإمضائه؛ فاختارت الفسخ.
فالمقصود أنَّ السُّنَّة الأولى: أنَّ المملوكة إذا عُتقَت فإنَّها تُخيَّر في بعض الأحوال أو في جميعها.
السُّنة الثانية: قالت: (وأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ)، أي: أُهدِيَ لبريرة لحم، وفي هذا إطلاق لفظ الهدية على الصَّدقة، وفيه شُحًا كان عليه حال النُّبوَّة في بيت النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قالت عائشة: (فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، عائشة هي التي أعتقت بريرة، فبقيت عندها.
قولها: (وَالبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ)، البرمة: القِدر الذي يُصنع من الحجارة، وكانوا في الزَّمان الأول يَطبخون فيه، وفي هذا جواز طبخ الطعام داخل البيوت.
قالت عائشة: (فَدَعَا بِطَعَامٍ)، أي: دعا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بطعام، وفيه خدمة المرأة لزوجها، فإنَّ عائشة كان تخدم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولذلك كان يَطلب منها الطعام.
وفيه: أمر الزَّوج لزوجته فيما يتعلق بشأن أهل البيت.
والعلماء لهم ثلاثة أقوال في حُكم طاعة المرأة لزوجها:
- منهم من يقول بوجوب ذلك، لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ [النساء: 34]، ولظواهر الأحاديث الواردة في السُّنَّة من كون النِّساء يُطعنَ أزواجهنَّ ويقمنَ بخدمتهم، ومنها هذا الخبر.
- وهناك من قال: إنَّ مرجع الأمر على أعراف النَّاس، فإن تعَارف النَّاس على خِدمةِ المرأة لزوجها وطاعتها له لزمها؛ لأنَّ هذا مبنيٌّ على أنَّ مَن ما كان مَعروفًا في أعراف النَّاس كانَ بمثابةِ المشروط فِي عَقدِ النِّكاح.
والقول الأول هو قول كثيرٍ من أهل العلم، والقول الثَّاني هو قول الإمام مالك.
- وهناك مَن رأى أنَّ طاعة الزَّوج ليست واجبة، ولكنه يُخالف ظواهر هذه الأخبار.
وليُعلم أنَّه في مُقابل هذا يجب على الزَّوج أن يُنفق على زوجته، ولا يعني الأمر إساءة العِشرة أو مُعاملة المرأة بالسوء؛ بل يكون ذلك برفقٍ ولينٍ وبمودَّةٍ وأُلفةٍ.
قالت عائشة: (فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأَدَمٍ مِنْ أَدَمِ الْبَيْتِ)، الخبز: معروف، يُصنع من القمح -البر.
والأدم: يكون من الزيت، ونحوه.
فالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى لحمًا يُطبَخ، والآن لَمَّا طلبَ الطَّعام أُتيَ له بالخبزِ والأدم، وفي هذا جواز إطلاق اسم الطعام على ذلك.
فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً عَلَى النَّارِ فِيهَا لَحْمٌ؟»، فيه مُناقشة الرَّجل لأهل بيته فيما يتعلق بحوائجه ونفقاته.
فَقَالُوا: (بلَى يَا رَسُولَ اللهِ)، يعني: كان هناك لحم، ثُمَّ اعتذروا فقالوا: (ذَلِك لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ)، وذلك أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أخبر بأنَّ الصَّدقة لا تحل له ولا لأهل بيته، ولذلك تحرَّجوا من أن يُعطوه من هذا اللحم وهو لحمِ صدقةٍ.
قالوا: (فَكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ»)، وفي هذا أنَّ المال لا يكون له حُكمٌ في ذَاته، وإنما يتبدَّل حُكمه بتبدُّلِ سبب تملُّكه، ومن هنا كان هذا المال في أول الأمر صدقة لَمَّا كان عند بريرة، فلمَّا أهدته أصبح هدية وليس صدقة فحلَّ لآل محمد.
والأموال على ثلاثةِ أنواعٍ:
النوع الأول: أموالٌ محرمة لعينها ولذاتها، فلا تَحِل بأي وجه، مثل: الخنزير والخمر.
النوع الثاني: أموالٌ تتعلق حرمتها لتعلق حقوق الآخرين بها، كالمغصوب والمسروق، ونحو ذلك؛ فهذه يَلزم إرجاعها لأهلها، ويحرم للإنسان أن ينتفع بها، ولا يجوز لإنسان أن يَشتريها، ولا يجوز له أن يتصرف فيها بعد الشراء؛ بل يجب إعادتها لأهلها.
النَّوع الثَّالِثُ: ما كان ممنوعًا منه لكسبه: ومن ذلك الصدقة هنا.
فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، وهذه هي السنَّة الثالثة في بريرة، وذلك أنَّ مُلَّاكها اشترطوا على عائشة لما أرادت شراءها أن يكون الولاء لهم، بحيث تتبعهم، ويكون لهم بها علاقة، ولو قُدر موتها لورثوها، فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعائشة: «اشتريها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق».
 وفي هذا دليل على أن الشروط الفاسدة لا تفسد العقد كما قال الحنابلة.
 وفي هذا إنما تفسد الشروط في ذاتها.
 وفي هذا لُحُوق أمر الولاء بِأَمر الإِعْتَاق، فمن أعتق فهو صاحب الحق في الولاء.
 وفي هذا أن الولاء يكون لمن أعتق.
وقد أشار المؤلف إلى رواية أخرى: (كَانَ زوجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا)، أي: مملوكًا.
بينما قال الْأَسودِ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (كَانَ زوجُ بَرِيرَةَ حُرًّا)، وهذا الحديث عند أهل السُّنن، لكن أهل العلم قالوا: إنَّ لفظة (كَانَ زوجُ بَرِيرَةَ حُرًّا)، هذا من إدراج أسود النَّخعي لهذه اللفظة في هذا الحديث، ولذلك رأوا عدم تصحيح هذه اللفظة، ومن هنا كان الجماهير يرون أنَّ زوج بريرة كان عبدًا مملوكًا وليس بِحُرٍّ.
قالوا: "أخطأ الأسود في هذه الرواية".
قوله: (فَخَيَّرَها رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه دلالة على إثبات التَّخيير في هذه الحال.
قال الترمذي: (حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)، ولكن -كما تقدم- أنَّ فيه علة الإدراج، وهذا من الأمثلة على الإدراج الذي يكون في أول الخبر.
قال: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ بنُ أَبي طَالبٍ: "خَالَفَ الْأسْوَدُ بنُ يزِيدَ النَّاسَ فِي زَوجِ بَرِيرَةَ قَالَ: إِنَّهُ حُرٌّ، وَقَالَ النَّاسُ: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا")، وبالتَّالي تكون روايته شاذَّة، حيث خالف مَن هو أوثق منه.
ثم أورد المؤلف خبرًا ثالثًا بإسنادٍ جيد، وهذا الحديث من رواية أسامة بن زيد الليثي، وهو صدوق، فيكون الخبر حسن الإسناد. قال: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ).
إذن رواية القاسم ورواية عُروة؛ كلهم يقولون: إنه كان عبدًا، وخالفهم الأسود فقال: "كان حرًّا"؛ فتُقدَّم رواية الأكثر.
قال: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، فَلَمَّا أَعْتَقَتُهَا)؛ لأنَّ عائشة اشترت بريرة مَن القوم.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لبريرة: «اخْتَارِي»، أي: اختاري بين البقاء مع زوجك المملوك، أو فسخ النِّكاح.
قال: «فَإِنْ شِئْتِ أَنْ تَمْكُثِي تَحْتَ هَذَا العَبْدِ، وَإِنْ شِئْتِ أَنْ تُفَارِقِيْهِ»، فيه دلالة على أنَّ هذا الحق في الخيار إنما هو لحق المملوكة التي أُعتقَت، وبالتالي لها الخيار بين إمضاء عقد النِّكاح وبين إلغائه.
وبعض أهل العلم قَصَر ذلك على ما لو كان الزوج مملوكًا، وآخرون رأوا عموم النَّص فشملوا به ما لو كان حرًّا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلمَةَ الثَّقَفِيُّ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَسْلَمْنَ فَأَمَرَهُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا. رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ البُخَارِيُّ: "هُوَ حَدِيثٌ غَيرُ مَحْفُوظٍ"، وَتَكَلَّمَ فِيهِ أَبُو زرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَغَيرُهُمَا.
وَعَنِ الضَّحَّاكِ بنِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ- وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ البُخَارِيُّ، وَفِي لَفظِ التِّرْمِذِيِّ: «اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ»)}.
أورد المؤلف هنا حديثًا فيمن تزوَّج مَن لا يحل له، ومَن تزوج من لا يحل له فأسلم لا يخلو:
- إما أن تكون محرمة لعينها: كما لو تزوج أخته، أو تزوج عمته، أو خالته؛ فإن بعض الأديان كالمجوسيَّة تُجيز ذلك، فمثل هذا يجب عليه المفارقة، ولا يجوز له البقاء.
- أو تكون محرَّمة من أجل الجمع أو تجاوز العدد: ففي هذه الحال: هل يطلق النساء جميعًا؟ أو لا يفارق إلا من تزوجها أخيرًا؟ أو أنه يختار بينهنَّ؟
أورد فيه حديث ابن عمر، وفيه علَّة، وهوي أنه من رواية معمر بن راشد الصنعاني، ومعمر لما ذهب إلى العراق لم يذهب بكتابه، فحصلت أغاليط في رواياته في العراق، ولذلك تكلم بعض أهل العلم في روايته، خصوصًا أن معمرًا هنا رواه عن الزهري عن سالم عن ابن عمر -متَّصلًا- بينما كان ما يُحدِّث به من حديث الزهري مرسلًا، ومراسيل الزُّهري ضعيفة؛ لأنَّه يُسقط حتى الضعفاء، ولذلك حَكَمَ كثير من أهل العلم على هذا الخبر بأنَّه معلول، وأن الصواب فيه أنَّه مرسل.
قال: (أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلمَةَ الثَّقَفِيُّ)، من قبيلة ثقيف، وهي قبيلة عربية في الطائف، ولازالت مشهورة إلى يومنا هذا.
قال: (أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلمَةَ الثَّقَفِيُّ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ)، الحد المشروع هو أربع لقوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: 3].
قال: (فَأَسْلَمْنَ)، أي العشر نسوة أسلمنَ معه.
قال: (فَأَمَرَهُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا)، معنى هذا: أن يفارق سائرهنَّ.
وظاهر هذا الخبر أنَّه يختار أيّهما شاء، سواء تزوجها أولًا أو تزوجها أخيرًا، وأشار المؤلف إلى بعض الضعف في هذا الحديث.
الحنفية يقولون: يجب عليه الإبقاء على الأربع الأول، وما بعدهن فإنه يفارقهنَّ.
وهذا مخالف لظواهر الأخبار الواردة في هذا الباب، وظاهر هذا الخبر الذي معنا أنَّه اختار أربعًا منهنَّ وفارق سائرهن.
ثم أورد حديث الضَّحَّاكِ بنِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ، وهذا الحديث تكلم فيه أهل العلم من جهة جهالة طبقة رواته، وبالتالي يحتمل أن يكون موقوفًا.
يقول الإمام البخاري: "لا يُعرف سماع بعضهم من بعض".
قال: (عن الضَّحَّاكِ بنِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ؟)، من الملعوم انه لا يجوز المع بين الأختين لقوله تعالى: ﴿وَان تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: 23].
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ»، لذلك فإنَّ الجمهور يرون أنَّ مَن أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، أو أسلم وعنده أخوات؛ فإنَّه يُقال له: تخيَّر من التي تريدها أن تبقى معك وفارق البقيَّة. وهذا مذهب الجمهور.
أما الحنفية فيقولون: النِّكاح الأول هو الصحيح، وما عداه فإنَّه لا يكون صحيحًا.
قوله هنا: «طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ»، هل المفارقة تحتاج إلى تطليق؟
قال طائفة: تحتاج إلى تطليق.
وقال الجمهور: لا تحتاج إلى تطليق، وذلك أنه إذا اختار كان ذلك بمثابة الفسخ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: رَدَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ بعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكاح الأَوَّلِ وَلم يُحْدِثْ نِكَاحًا. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ وَقَالَ: "لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ" وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَغَيرُ وَاحِدٍ.
وَعَنْهُ قَالَ: أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَزَوَّجَتْ، فجَاءَ زَوجُهَا إِلَى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَسْلَمْتُ وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِي؟ فانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ زَوجِهَا الآخَرِ وردَّهَا إِلَى زَوجِهَا الأَوَّلِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ)}.
هذان حديثان وردَ في تفسيرهما وشرحهما كلام كثير لأهل العلم؛ يقولون: كيف يُراجعها بعد ست سنين ولم يُحدث نكاحًا جديدًا؟
هذا الحديث هو من رواية داود بن الحصين عن عكرمة، ورواية داود عن عكرمة لأهل العلم فيها كلام.
قال: (رَدَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ)، أبو العاص بن الربيع هو زوج زينب في الجاهلية.
قوله: (بعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكاح الأَوَّلِ وَلم يُحْدِثْ نِكَاحًا)، يعني: لم يُحدث نكاحًا جديدًا.
وبالتالي استشكل أهل العلم يُفارقها ست سنين، ثم بعد ذلك لا يحتاج إلى نكاح؟
فنقول في مثل هذا: إنَّ تحريم بقاء المرأة المسلمة مع الرجل الكافر إنما جاء في أواخر السنة السادسة، ومجيء أبي العاص إليهم كان في بداية السنة السابعة، فتبدأ عدتها بنزول الحكم بمفارقة المسلمة للكافر، فلمَّا نزلت الحكم نوت الفِراق وفارقته وبدأت تعتد، فلمَّا جاء بداية السَّنة السَّابعة وعدتها لم تنتهِ بعد جاء أبو العاص مرة أخرى؛ فأرجع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زينب إليه بالنِّكاح الأول، لأنها لازالت في مدة العدة.
ولذلك نقول: لو ارتدَّ الزَّوج فإنَّنا لا نحكم بقطع العلاقة بينها وبينه حتى نُراعي مُدَّة العدَّة.
ونقول: إذا أسلمت الزوجة، والزوج لم يُسلم؛ فإننا نفرق بينهما ونقول: العقد مراعى؛ فإن أسلم الزوج والزوجة لازالت في العدة رجعت إليه، وإن لم يُسلم إلا بعد انتهاء العدة فحينئذٍ لا ترجع إليه إلا بعقدٍ جديد ومهر جديد.
ثم أورد من حديث ابن عباس أيضًا، قال: (أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَزَوَّجَتْ)، كانت متزوجة وعندها زوج، فلمَّا جاءت إلى المدينة أسلمت، فتزوَّجت من أحد الصحابة.
قال: (فجَاءَ زَوجُهَا إِلَى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَسْلَمْتُ وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِي؟)، فكيف تتزوج برجلٍ ثانٍ وأنا قد أسلمتُ.
قال: (فانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ زَوجِهَا الآخَرِ وردَّهَا إِلَى زَوجِهَا الأَوَّلِ).
إذن عندنا أوجه:
- إذا أسلمت المرأة والزوج باقٍ على كفره: ننتظر مدَّة العدَّة، إن انتهت العدة انفسخ النِّكاح، فما دامت في العدَّة فإن أحكام الانتظار باقية في حقِّها.
- أمَّا إذا أسلم الزَّوج والزَّوجة لم تسلم؛ فلا يخلو:
* إن كانت كتابية: جاز له الاستمرار معها بلا إشكال.
* إن لم تكن كتابية: إن كان قبل الدخول فُرِّق بينهما، وإن كان بعد الدخول انتظرنا مدَّة العدة.
وهذا الخبر من رواية سماك بن حرب، وهو صدوق، ولكن روايته عن عكرمة لأهل العلم فيها كلام.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الصَّدَاقِ
عَنْ أَبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ونَشًّا. قَالَتْ: أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ، فَتِلكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَزْوَاجِهِ. رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
المراد بالصَّداق: المهر الذي يدفعه الزوج للزوجة بسبب عقد الزوجيَّة.
والصواب أنَّ الصَّداق أثرٌ من آثار عقد النِّكاح، فليس شرطًا فيه ولا ركنًا، خلافًا لكثيرٍ من الفقهاء.
إذا سُمِّيَ الصَّداق فحينئذٍ يلزم ذلك الصداق المسمى بالدخول أو بالخلوة أو بالوفاة، وإذا لم يُسمَّ الصَّاق؛ فننظر إلى أمثالها كم مقدار ما يُدفَع في مهورهنَّ، وذلك إذا كان بعد الدخول.
قال: (عَنْ أَبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟)، يعني كم دفع لأزواجه.
قَالَتْ: (كَانَ صَدَاقُهُ لأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ونَشًّا).
الأوقية: مقدار وزن معيَّن.
والنش: نصف أوقيَّة.
وفي هذا دلالة على جواز مشاركة الناس في أفراحهم وزواجاتهم.
وفيه استحباب التَّخفيف في المهور.
قَالَتْ عائشة لأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: (أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا, قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ، فَتِلكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأزواجه).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أعتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقهَا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ لَمَّا تَزوَّجَ عَليٌّ فَاطِمَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْطِهَا شَيْئًا»، قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ, قَالَ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ؟» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو يعْلى الـمَوْصِلِيِّ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ)}.
قال المؤلف: (وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أعتَقَ صَفِيَّةَ)، هي صفية بنت حيي، وكانت أُسرَت في يوم خيبر، فوقعت في نصيب بعض الصَّحابة، فجاء مَن جاء إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "يا رسول الله، امرأة من النساء لا تصلح لأحد سواك"، فطلبها ممن هي في نصيبه، فأعطيت له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكانت من نصيب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعد ذلك أعتق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صفية، وجعل عتقها صداقها، فالعتق كأنه بمثابة مالٍ يُدفَع، فجعله جزءًا من الصَّداق.
وبعض أهل العلم منع من أن يكون ذلك صداقًا صحيحًا، فقال: لابدَّ من مسمَّى، ولكن ظاهر الخبر جواز الاكتفاء بذلك كما قال الحنابلة خلافًا لغيرهم.
ثم أورد المؤلف من حديث أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: (لَمَّا تَزوَّجَ عَليٌّ فَاطِمَةَ)، فيه الزواج ببنات الأنبياء.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْطِهَا شَيْئًا»، "أعطِ" فعل أمر، وهذا يدل على أنَّ المهر والصداق من الواجبات.
قال: (مَا عِنْدِي شَيْءٌ)، يعني لا يوجد شيء أقوم بدفعه إليك كمهرٍ لفاطمة.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ؟»، كان قد أخذها في معركةٍ سابقةٍ، وبالتَّالي يُذكره النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتلك الأموال.
هذا الحديث قد رواه عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس به، وظاهر هذا الخبر يدل على الصِّحَّة، وعبدة بن سليمان سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل أن يختلط، ولكن روى حمَّاد بن سلمة ما يُخالف هذا الخبر، فرواه من طريق أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عن علي، فجعله من حديث علي.
وقوله: «أَعْطِهَا شَيْئًا»، "شيئًا" هنا نكرة في سياق الإثبات؛ فيدل على أنَّ ( شيء ) يُجزئ كما قال الشَّافعي وأحمد.
بينما قال مالك: لابدَّ أن يكون المال أكثر من ربع دينار.
وقال الإمام أبو حنيفة: لابدَّ أن يكون عشرة دراهم فما زاد.
قال: (مَا عِنْدِي شَيْءٌ)، أي: ما عندي مال أتمكن به من دفعه لفاطمة.
فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ؟»، سُمِّيَت بهذا الاسم لأن السيوف تتكسر عند هذه الدرع.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ عَلَى صَدَاقٍ أَو حِبَاءٍ أَو عِدَّةٍ قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكاح فَهُوَ لَهَا، وَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكاح فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِيَهُ، وأَحَقُّ مَا أُكْرِمَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ ابْنَتُهُ أَو أُخْتُهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه)}.
عبد الملك بن جريج من رواة الأحاديث ولكنه يُدلس، فلا يُقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع، وهنا لم يأتِ تصريح بالسَّماع، ولكن ورد عند النسائي هذا الخبر وقد صرَّح فيه بالتحديث، فنكون حينئذٍ قد أمِنَّا التدليس.
وعمرو بن شعيب ثقة، لكن أباه صدوق حسن الحديث، وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص؛ ومن ثَّم يكون هذا الحديث حسن الإسناد.
قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ عَلَى صَدَاقٍ أَو حِبَاءٍ أَو عِدَّةٍ قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكاح فَهُوَ لَهَا»:
الصداق: يعني ما يُدفع للمرأة من صداق من المهر
الحباء: الهدايا.
العدة: ما يوعد به الإنسان، ثم يُعطَى بعد ذلك.
حكم هذه الأموال: أنها للمرأة.
قال: «وَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكاح فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِيَهُ»، يعني يقول مثلًا: هذه ألف لأبيها، وهذه ألف ريال لعمِّها، وهذه ألف ريال لولد عمها؛ فهو ما أعطى والدها أو عمها إلا من أجلها؛ يُريد أن يُكرمها بإكرامهم، فالظاهر أن يكون المال لها. وهذا أحد المذاهب في هذا الباب.
وقال الإمام مالك: جميع المال للمرأة، وليس للأب شيء.
وقال الإمام أحمد: المال المسمى للأب؛ لأنَّه هو الذي من أجله أُعطي، ولا يكون لغيره من الأولياء.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ إِبْرَاهِيم, عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّه سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلم يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلم يَدْخُلْ بهَا حَتَّى مَاتَ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا العِدَّةُ، وَلها الْمِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ امْرَأَةً مِنَّا مِثْلَ مَا قَضَيْتَ، فَفَرِحَ بهَا ابْنُ مَسْعُودٍ. رَوَاهُ أَحْمدُ وأَبُو دَاود وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ وَهَذَا لَفْظُهُ-، وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ غَيرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَتَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِي صِحَّتِهِ)}.
هذا الحديث رواه ابن مسعود، والإمام الشافعي قال فيه: "إن كان قد ثبت هذا الخبر فهو أولى الأمور، ولا حجة لأحدٍ بعد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإن كثروا، ولا في قياس، فلا شيء في قوله إلا طاعة الله بالتَّسليم له".
ولذلك بعض أهل العلم شكَّكَ فيه، وأهل الحديث يقولون: هذا حديث ثابت صحيح عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّه سُئِلَ)، ابن مسعود أصبح من مفتي الصحابة في العراق.
قال: (عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلم يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا)، يعني: لم يُسمِّ الصَّداق، وذلك أن النساء على أربعة أحوال:
الحالة الأولى: أن تكون مدخول بها قد سُمِّي لها الصداق فهذه واضحة، فالصداق مسمى وقد دخلت بيته؛ فتأخذ المهر كاملًا.
الحالة الثانية: امرأة مسمى لها الصداق، ولكن الزوج لم يدخل بها، ثم حصلت فُرقَة من قبله؛ فحينئذٍ يكون للمرأة نصف المهر.
الحالة الثالثة: امرأة لم يذكر لها مهرًا وتزوجها، فيصح العقد ولكن يجب مهر المثل، فيُبحث عن مثلها من النساء ونوجب لها مهر مثلها.
الحالة الرابعة: لم يفرض لها مهرًا وطلقها قبل الدخول بها؛ فهذه ليس لها مهر، لا المسمى كاملًا ولا نصف المسمى ولا مهر المثل؛ وإنما يجب لها المتعة.
قال: (سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلم يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلم يَدْخُلْ بهَا حَتَّى مَاتَ؟).
هنا ترثه المرأة، ويجب عليها العدَّة، ويجب لها مهر المثل.
فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا)، أي: مهر المثل.
قال: (لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ)، أي: لا نقص ولا جور.
قال: (وَعَلَيْهَا العِدَّةُ)، عدَّة الوفاة -أربعة أشهر وعشرة أيام.
قال: (وَلها الْمِيرَاثُ).
فهناك ثلاثة أحوال يثبت بها المهر كاملًا:
- الدخول.
- الخلوة الكاملة.
- الوفاة.
فلو عقد على امرأة ومات؛ فحينئذٍ يجب لها المهر تامًّا.
قال: (فَقَامَ مَعْقِلُ بنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ)، هو رجل من العرب.
فَقَالَ: (قَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ امْرَأَةً مِنَّا مِثْلَ مَا قَضَيْتَ)، فوافق اجتهاد ابن مسعود الرواية الواردة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (فَفَرِحَ بهَا ابْنُ مَسْعُودٍ)، فرح بها ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لموافقة اجتهاده لسنة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بارك الله فيك، وجزاك الله خيرًا، ووفق لكل خير، وجعلنا الله وإياك من الهداة المهتدين، كما نسأله -جلَّ وَعَلَا- أن يصلح أحوال الأمة، وأن يردهم إلى دينه ردًّا حميدًا، وأن يوفق ولاة أمورهم لكل خير، وأن يجزي خادم الحرمين الشريفين وولي عهده كل خير، وأن يجعلهم من أسباب الهدى والتقى والصلاح والسعادة، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.




https://benaa.islamacademy.net/files...oharer403.docx










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-22, 17:54   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
Ali Harmal
مشرف منتدى الحياة اليومية
 
الصورة الرمزية Ali Harmal
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

وفقك الرحمن اخي وجعلة في ميزان حسناتك وجزاك الله خيرا ..









رد مع اقتباس
قديم 2019-04-23, 09:08   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

[QUOTE=Ali Harmal;3997850244]

وفقك الرحمن اخي وجعلة في ميزان حسناتك وجزاك الله خيرا ..
[/QUOTE

وإياكم ....شكرا









رد مع اقتباس
قديم 2019-04-23, 09:11   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الْمُحَرِّرُ فِي الْحَدِيثِ (4)
الدَّرسُ الرَّابِعُ (4)
معالي د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ}.
الله يبارك فيك، أرحب بك، وأرحب بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- أن يرزقنا وإيّاهم علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، ونية خالصة، كما نسأله -جلَّ وَعَلَا- أن يمدنا بعونه بمددٍ منه.
{نبدأ في هذه الحلقة -بإذن الله- من "باب الوليمة" من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ الوَلِيمَةِ
عَنْ أَنَسِ بنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى عَلَى عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ قَالَ: «مَا هَذَا؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَواةٍ مِنْ ذَهَب، قَالَ: «فَبَاركَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَو بِشَاةٍ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
قول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (بَابُ الوَلِيمَةِ).
الوليمة: ما يُصنَع عند الزَّواج من الأطعمة.
والوليمة سنَّةٌ نبويَّةٌ كريمةٌ، ولكنَّ السُّنَّة ألَّا يحصل فيها إسراف وزيادة عن الحاجة.
وقد أورد المؤلف في هذا الباب حديث أنس بن مالك: (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى عَلَى عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ)، هذه الصُّفرة: نوع من أنواع الطِّيب التي يتطيَّبون بها، وفيه جواز استعمال الطيب، وجواز استعمال الطيب الذي يكون له لونٌ مُؤثِّرٌ على الثياب
فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعبد الرحمن: «مَا هَذَا؟»، يعني: ما هذه الصفرة، ولماذا فعلتَ ذلك؟
قَالَ عبد الرحمن بن عوف: (يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً)، فبيَّن له سبب وجود هذا الأثر.
قال: (عَلَى وَزْنِ نَواةٍ مِنْ ذَهَبٍ)، فيه جواز جعل المهر مِن الذهب، وفيه استحباب التَّخفيف في المهور.
فقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَبَاركَ اللهُ لَكَ»، فيه ُّالدُّعاء للمتزوِّج، وأنَّ الأولى أن يُدعَى له بالبركة من الله -جلَّ وَعَلَا.
وفيه أنَّ الأصل في البركة: النَّماء والزِّيادة أن تكون من عند الله -جلَّ وَعَلَا.
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْلِمْ وَلَو بِشَاةٍ»، "أَوْلِم" فعل أمر، وفيه مشروعية وضع الوليمة في الزَّواج.
والجمهور: على أنَّ الوليمة مُستحبَّة وليست على الوجوب، وقالوا: إنَّ الأمر هنا جاء بعد النُّصوص الواردة بمنع إسراف الإنسان، وبمنع الإنسان من التَّصرف في مَاله، ولذا جاء فيها: "أولم" ليكون أمرًا بعد النَّهي فلا يدلُّ على الإيجاب.
قوله: «وَلَو بِشَاةٍ»، فيه استحباب أن تكون الوليمة بهذا المقدار.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلْيَأْتِهَا». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَلِمُسْلِمٍ: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُم أَخَاهُ فَلْيُجِبْ، عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا، وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا, وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ».
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَم».
وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُم إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ». أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَعَامُ أوَّلِ يَوْمٍ حَقٌّ، وَطَعَامُ الْيَوْمِ الثَّانِي سُنَّةٌ، وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّالِثِ سُمْعَةٌ، وَمَنْ سَمَّعَ، سَمَّعَ اللهُ بِهِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: "لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا منْ حَدِيثِ زِيَادِ بنِ عبدِ اللهِ، وَهُوَ كثيرُ الغَرَائِبِ وَالمناكِيْرِ" كَذَا قَالَ، وزِيَادٌ رَوَى لَهُ البُخَارِيُّ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ وَمُسْلِمٌ)}.
أورد المؤلف عددًا من الأحاديث المتعلقة بإجابة الدَّعوة.
تقدم معنا أنَّ الوليمة: هي ما يوضع من الطَّعام في الزَّواج.
وجمهور أهل العلم على أنَّ إجابة دعوة الوليمة واجبة.
وبعضهم قال: ليست بواجبة؛ لأنَّ الأصل إقامة الوليمة سنَّة، فتكون إجابتها كذلك.
والجمهور يقولون: قد يكون ابتداء الشيء مُستحبًّا ويكون نهايته على الوجوب، مثلًا: إلقاء السلام مُستحب، وردُّه واجبٌ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلْيَأْتِهَا»، فعل مضارع مسبوق بلام الأمر، فالأصل أن يكون مُفيدًا للوجوب.
قال: (وَلِمُسْلِمٍ: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُم أَخَاهُ فَلْيُجِبْ، عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ»)، وظاهر هذا إيجاب استجابة الدَّعوة لأي مُناسبةٍ فيها طعام، والجمهور يخصون الوجوب بإجابة دعوة وليمة الزواج.
ثم روى من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا الحديث صحيح الإسناد، وأخرجه الإمام مسلم، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا»، يعني إذا جاء لها أفراد الناس منعوهم.
قال: «وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا»، أي: يمتنع من الحضور إليها.
قال: «وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ»، هذا هو الشَّاهد، وفيه دلالة على وجوب إجابة الدعوة؛ لأنَّ من لم يُجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله.
وكذلك ورد عن أبي هريرة أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ»، ظاهر اللفظ الإطلاق، أي: دعوة، ولكن جاءنا في الحديث الثَّاني تقييده بدعوة الزواج، ولذا رأى كثير من أهل العلم أنَّ المطلق هنا يُقيَّد بما في الخبر الآخر.
قال: «فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ»، قيل: إنَّ المراد بهذا الدُّعاء، أي: يدعو لهم؛ لأنَّ الصلاة في اللغة هي الدعاء.
قال: «وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَم»، أي: ليأكل.
وهذا الحديث أيضًا في صحيح الإمام مسلم.
وجاء أيضًا في صحيح مسلم من حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُم إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ».
قوله: «فليُجِبْ»، ظاهره وجوب إجابة الدَّعوة، وإجابة الدَّعوة تكون بالحضور ولو لم يحصل هناك أكل.
وجوب إجابة الدعوة لها شروط:
الشَّرطُ الأول: أَلَّا يكون هناك مُنكر، فإذا كان فيه مُنكر فلا يجوز الذهاب إليه إلا إذا كان سيُنكره.
الشَّرطُ الثاني: أن تكون الدعوة مُوجَّهةً إلى الشخص بخصوصه، أمَّا دعوة الجَفَلَى والنَّاس بالعموم كأن يقوم في المسجد ويقول: أنتم مَدعوُّن لوليمة؛ فحينئذٍ نقول: لا يجب إجابة هذه الدَّعوة.
الشَّرطُ الثَّالِثُ: أن تكون الدَّعوة لأول يومٍ، أمَّا الدعوات الأخرى فهذه ليس بواجبٍ إجابتُهَا لحديث ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «طَعَامُ أوَّلِ يَوْمٍ حَقٌّ»، يعني: أول يومٍ في دعوات الزَّواج، وبالتالي تلزم إجابته.
قال: «وَطَعَامُ الْيَوْمِ الثَّانِي سُنَّةٌ»، أي: طريقة متَّبعة لا إشكال فيها، وبالتَّالي يُستحب إجابة الدَّعوة حينئذٍ.
قوله: «وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّالِثِ سُمْعَةٌ»، أي: تفاخرًا، وبالتَّالي لا يُجاب له، ولذا قال: «وَمَنْ سَمَّعَ، سَمَّعَ اللهُ بِهِ».
هناك اختلاف في الحديث هذا من جهةِ صحَّةِ الحديث، والجماهير على أنَّ هذا الحديث ضعيف، قالوا: إنَّ من رواة هذا الخبر زياد بن عبد الله البكائي، ولأهل العلم كلام في زيد، كذلك هو قد رواه عن عطاء بن السَّائب، عطاء اختلط آخر عمره، وزياد روى عنه بعد اختلاطه، ولذلك تكلموا في هذا الخبر.
هل المراد أن تكون الدعوة لنفس الأشخاص في الأيام المختلفة أو لا؟
مثلًا: في وليمة الزَّواج قد يجعل الإنسان ثلاث أو أربع ولائم، إحداها لقرابته، والثَّانية لجيرانه في يومٍ آخر، والثَّالثة لزملائه في العمل، والرَّابع لمن صاحبهم أو كانت بينه وبينهم أي علاقة؛ فليست لنفس الأشخاص؛ فاختلف العلماء حينئذٍ، هل كل واحدة لها حكمٌ مختص، وبالتَّالي كأنَّ كل واحدة من الولائم لليوم الأول؟ أو نقول: إنها متعلقة بزواجٍ واحد، وبالتَّالي فيُحكَم عليها بما في هذا الخبر؟
الجماهير يُرجِّحون الثاني؛ لأنَّ مقصود الشَّارع ألا يكون هناك إسراف، وألَّا يكون هُناك سُمعة ورغبة في الرياء.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَمَا يُبَاحُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ وَمَا يُتَزَيَّنُ بِهِ وَذِكْرِ الْقَسْمِ وَالنُّشُوزِ.
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤمنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيْمَهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، لَنْ تَسْتَقِيْمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، إِسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيْمُها كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا»)}.
قول المؤلف: (بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ)، أي: ما هي الأخلاق والأحكام والآداب المتعلقة بحق الزَّوجة على زوجها.
قوله: (وَمَا يُبَاحُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ)، أي: ما هو المقدار سواء في وقت الطُّهر أو وقت الحيض.
قوله: (وَمَا يُتَزَيَّنُ بِهِ)، أي: ما هي حدود الزينة المباحة.
قوله: (وَذِكْرِ الْقَسْمِ)، أي: عندما يكون عند الرجل أكثر من زوجة، فكيف يقسم بين زوجاته.
قوله: (وَالنُّشُوزِ)، يعني: ترك المرأة لبيت الزوجية بدون إذن الزَّوج. وأصل النُّشوز: عصيان المرأة لزوجها.
أورد المؤلف في هذا الباب حديث أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤمنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ».
الإيمان بالله يُحرِّك العبد إلى طاعته؛ لأنه يُؤمن بقوَّته وبقدرته وباطلاعه -سبحانه وتعالى- وبالتالي يكون خائفًا وجلًا من الله، راجيًا لفضله.
وأمَّا الإيمان باليوم الآخر فهو أيضًا مُهم؛ لأنه يدفع النَّاس لإيفاء الحقوق لأصحابها، وإعطاء كل ذي حق حقه.
فقال: «فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ»، فيه حق الجار وعظم منزلته.
قال: «وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا»، طلب منهم أن يطلبوا الوصية من غيرهم بالنساء، بحيث يقومون بحقوقهنَّ، وفيه بيان حق المرأة على الزوج.
ثم قال: «فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ»، الضِّلَع: عظام الصدر، وذلك أنَّ هذه العظام مائلة إلى منتهاها وأصلها، فإنها في الأصل تميل ميلانًا كبيرًا، وبالتالي يقول: إنَّ المرأة خُلقت من هذه العظام من آدم -عليه السلام- وبالتالي لابد أن تراعي ما فيها من إعوجاج.
قال: «وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ»، المراد بأعلاه: ما يكون مُرتبطًا بالعمود الفقري.
قال: «فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيْمَهُ»، أي: إذا أردتَّ أن تصلبه وتجعله على استقامة «كَسَرْتَهُ»؛ لأنه ما يُمكن أن يستقيم.
قال: «وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ»، فهكذا النِّساء، إن استمعت بها وتمكَّنت من حسنِ عشرةٍ معها على ما هي عليه؛ فحينئذٍ ستستمتع بها، وأمَّا إن أردتَّ أن تكون معك مائة بالمائة، وأن تقوم بما تطلبه مائة بالمائة؛ فحينئذٍ لن تستقيم الحياة بينكما.
قال في لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، لَنْ تَسْتَقِيْمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، إِسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيْمُها كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا».
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزَاةٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المدِينَةَ، ذَهَبْنَا لنَدْخُلَ، فَقَالَ: «أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا -أَيْ عِشَاءً؛ كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ المُغِيْبَةُ». مُتَّفق عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَلِلْبُخَارِيِّ: «إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الغَيْبَةَ، فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا»)}.
قول جابر هنا: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزَاةٍ)، فيه ذهاب الناس مع إمامهم.
قال: (فَلَمَّا قَدِمْنَا المدِينَةَ)، يعني: رجعنا.
قال: (ذَهَبْنَا لنَدْخُلَ)، يعني: ندخل المدينة ونذهب إلى بيوتنا وعند زوجاتنا.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا»، أي: لا تستعجلوا في الدُّخول، فهم قدموا في النَّهار، فأراد أن يكون هناك وقت بحيث يعلم النَّاس بقدومهم، وبالتَّالي يستعدون لهذا القدوم، فقال نبقى حتى الليل -أي عشاءً.
قال: «كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ»، الشعثة: التي في شعرها شعثٌ وعدم استقامة، فتقوم بتسريح الشَّعر.
قال: «وَتَسْتَحِدَّ المُغِيْبَةُ»، تستحدّ: أي: تحلق الشَّعر الزَّائد الذي لا يُراد من شعر عانةٍ ونحوه.
وقوله «المغيبة»؛ لأنَّ المرأة إذا غَابَ زَوجُها فإنها قد تترك هذه الأمور لعدم وجود الزَّوج.
وفي الحديث ترغيب النِّساء أن تستعد الواحدة منهنَّ لزوجها، وأن تُهيِّئ نفسها لزوجها بالتَّجمُّل كما تُهيِّئُه بالتحبُّبِ في أخلاقها.
قوله في الحديث الآخر للبخاري: «إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الغَيْبَةَ»، أي: الأسفار ونحوه.
قال: «فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا»، أي: لا يدخل عليهم في الليل، حتى لا يدخل عليهم وهم غير مُستعدين له، فقد يرى مِن المرأة شيئًا لا يتناسب مع الحال الكاملة، وبالتَّالي يُؤدي إلى النُّفرةِ منها.
وَفَهِمَ بعض النَّاس أن هذا يكون عند النِّساء شيءٌ من الأخلاق غير المرغوب فيها؛ وهذا فهمٌ خاطئ!
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى الْمَرْأَةِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ)}.
قوله هنا: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فيه تفاوت الناس في منازلهم في ذلك اليوم، وفيه أنَّ الإنسان ينبغي به أن يجعل الآخرة بين عينيه قبل أن يُقدم على أي فعلٍ.
قوله: «الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى الْمَرْأَةِ»، أي: يصل إلى خصائصها، سواء بالجماع أو بغيره.
قوله: «وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا»، يعني: يجد عندها أشياءً داخليَّة خاصَّة لا يُطَّلع عليها فيقوم بنشر هذا السِّر، وفي هذا وجوب ستر الأسرار وتحريم إذاعتها، وفيه أيضًا أنَّ كلًّا من الرجل والمرأة ينبغي لهما ألا يُظهر كل منهما عيوبَ صاحبه، فلا يجوز للرجل أن يُظهر عيوب امراته، ولا يجوز للمرأة أن تُظهر عيوب زوجها حتى ولو حصل بينهما خصومةٍ أو نزاعٍ، أو حتى ولو كان بينهما طلاق؛ وإنما يذكر الإنسان منها الخير، وتذكر منه الخير، قال تعالى: ï´؟وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًاï´¾ [النساء: 130].
وهكذا ينبغي أن يكون شأن أهل الإسلام فيما بينهم، يحفظ كل منهم مكانة الآخر، حتى ولو رأى منهم أشياء غير محمودة فلا ينقلها ولا يتكلم بها، وإنما يكتفي بذكر الأشياء الحَسنة والأمور الفاضلة.
{قال: (وَعَنْ حَكِيْمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيْهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا حَقُّ زَوْجِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: «تُطْعِمُهَا إِذَا أَكَلْتَ، وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّح، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ». رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفْظُهُ- وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه)}.
الأصل في لفظة "الزوج" أن تطلق على الرجل والمرأة، ولذلك عند ذكر حواء في الآيات القرآنية يقول: ï´؟وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَï´¾ [البقرة: 35].
قال مُعَاوِيَةَ: (يَا رَسُولَ اللهِ مَا حَقُّ زَوْجِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟)، يعني: ما حق المرأة التي تزوَّج عليها أحدنا.
فقَالَ: «تُطْعِمُهَا إِذَا أَكَلْتَ»، وفي هذا وجوب النَّفقة في الطَّعام بشرط أن يكون قادرًا.
قال: (وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ)، فيه وجوب الكسوة.
وفيه إشارة إلى أنَّ الكسوة بحسب أعراف النَّاس، وبحسب قدرتهم، وقد استدل بعض العلماء على أنَّ النَّفقة تكون على مِقدار قُدرة الزَّوجِ، وهذا أحد أقوال أهل العلم.
والصواب: أنه لابدَّ من مُراعاة حال الزَّوج وحال الزَّوجة، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيله في باب النَّفقات.
قال: «وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ»، فيه المنع من ضرب الوجه، وذلك أنَّ الوجه مجامع الحسُن، وتظهر فيه آثار الضرب، وأدنى شيء يُؤثر عليه، ولذلك أكَّدَ على المنع من ضربه.
قال: «وَلَا تُقَبِّح»، أي: لا تصفها بالقبح، ولا تدعو عليها بالقُبح، فلا يقول: قبح الله وجهكِ ونحو ذلك.
قال: «وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ»، أي: لا تفارق المرأة إلا في البيت، والمراد بالبيت: المضطجع الذي ينامون فيه، وبالتالي لا يتحول الزوج عنها ولا تتحول هي عنه.
{قال: (وَعَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، قَالَتْ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أُنَاسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الغِيْلَةِ، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسٍ فَإِذَا هُمْ يُغِيْلُونَ أَوْلَادَهُمْ، فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا» ثمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ الوَأْدُ الْخَفِيُّ، وَهُوَ: ï´؟وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْï´¾ [التكوير: 8]». رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَجُدَامَةَ بِمُهْمَلَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ)}.
قوله هنا (بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ)، أي: ما هي الطريقة المناسبة في التعامل مع النِّساء؟ وما هو الواجب الشَّرعي في هذا الباب؟ ويدخل فيه معاملتهم في الفِراش وغيره.
قوله: (عَنْ جُدَامَةَ)، بعضهم روى (جُذامَةَ)، وقد أشار المؤلف إلى أنَّ الصَّواب أنها بالمهملة يعني: أنَّ الدال ليس عليها نقط.
قالت: (حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أُنَاسٍ)، يعني: مجموعة من الخلق.
وَهُوَ يَقُولُ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الغِيْلَةِ»، الغيلة: أن يُجامع الرجل زوجته وهي في وقت الرَّضاع، فكانوا يعتقدون أنَّ المرأة إذا أتت بولدٍ ثم أتت بولد بعده في وقت إرضاعها للولد الأول فيؤثر هذا على المرأة، ويؤثر على الجنين الذي سيأتي، لكن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الغِيْلَةِ، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسٍ فَإِذَا هُمْ يُغِيْلُونَ أَوْلَادَهُمْ»، أي: يُجامعون زوجاتهم في وقت الرَّضاع فيحملن في ذلك الوقت.
قال: «فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا»، أي: يأتون بهم أصحاء على حالٍ جميلة.
وفي هذا دلالة على جواز جماع المرضع، وعلى جواز أن تحمل المرضع، وعلى جواز الانتفاع بما لدى الأمم الأخرى، وفيه أنَّ بناء أمور الحياة على التجارب وتكرار الأمور ونحوها.
قالت: (ثمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ)، العزل: أن ينزع الرجل ذكره عن المرأة عند قرب الإنزال، من أجل أَلَّا يُنزل في فرجها رغبةً في عدم وجود الولد منها.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ الوَأْدُ الْخَفِيُّ»؛ لأنه بمثابة قتل الأولاد.
قال: (وَهُوَ: ï´؟وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْï´¾ [التكوير: 8])، أي: تُسأل يوم القيامة.
وظاهر هذا أنَّه منعٌ عن العزل، وقد جاء في حديثٍ آخرٍ أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا سُئِل عَن العَزل قال: «لو أراد أن يخلق الله منه شيئًا خلقه»، وفي لفظٍ: «ما استطعت أن تضره».
وجاء في الحديث الآخر عن جابر: (كنَّا نعزل والقُرآنُ يَنزل، فلا نُنْهَى عن ذلك).
ولذلك رأى الجماهير أنَّ العَزل ليس مَنهيًّا عنه، خُصوصًا إذا كان هناك حاجة، ومثل هذا ما قد يحدث في أزمنتنا من أشياء تقوم بمنع وصولِ ماء الزوج إلى زوجته.
{قال المؤلف: (عَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنَّ لي جَارِيَةً، وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، وَأَنا أَكْرَهُ أَنْ تَحمِلَ، وَأَنا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ مَوْؤُدَةُ الصُّغْرَى، قَالَ: «كَذَبَتْ يَهُودُ, لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ, وَفِي إِسْنَادِه اخْتِلَافٌ)}.
هذا الحديث من رواية أبي مطيع بن رفاعة، وأبو مطيع هذا مجهول، قال عنه الذهبي: "لا يُعرَف"، ولذلك ضعفه كثير من أهل العلم.
وهناك مَن رواه عن أبي رفاعةَ عن أبي سعيد، والذي يظهر أنَّ أبا رفاعة هو أبو مطيع الذي ذكرناه، لأنه من بني رفاعة بن الحارث.
وفي بعض الألفاظ قال: (عنْ رِفاعة)، وفي بعض الألفاظ ورد عن ابن ثوبان عن جابر، ولكن هذه الروايات لا يصح أن نقابل بها الروايات الأولى، ولذلك تكلَّم أهل العلم في هذا الخبر.
قوله: (يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لي جَارِيَةً، وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا)، أي: لا أنزل في فرجها عند الجماع.
قال: (وَأَنا أَكْرَهُ أَنْ تَحمِلَ، وَأَنا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ)، أي: من الجماع. قال: (وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ مَوْؤُدَةُ الصُّغْرَى، قَالَ: «كَذَبَتْ يَهُودُ، لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ»).
{قال: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالقُرْآنُ يَنْزِلُ. مُتَّفَقٌ عَلِيْهِ، ولمسلمٍ : كُنَّا نَعْزِلُ على عَهْدِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبلغَ ذَلِك نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلمْ يَنْهَنَا)}.
هذا الحديث من أدلة مَن يُجيز العزل، ويرى أنه ليس بممنوع منه، وهذا من أنواع السُّنَّة الإقراريَّة، فأقرَّهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يُنكر عليهم.
وبعض أهل العلم يقول: هذا من إقرار الله للناس في زمن النُّبوَّة لقوله: (وَالقُرْآنُ يَنْزِلُ).
وبعضهم يقول: بل هو إقرار صريح لقوله في اللفظ الآخر: (فَبلغَ ذَلِك نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلمْ يَنْهَنَا).
{قال: (وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنزلتْ: ï´؟نِسَائُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوْا حَرْثكُمْ أَنَّى شِئْتُمْï´¾ [البقرة:223]، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ، وَلَهُ : إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً، وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْظُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ- وَأَبُو يَعْلى وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ، وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا)}.
قوله: (وَعَنْهُ)، يعني: عن جابر.
قَالَ: (كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ)، هذا جماع في القُبُل، ولكنه يأتيه من طرف الدبر، وكانت اليهود تنهى عن ذلك، وترى أنه من أسباب وجود الحَوَل عند الولد.
قال: (فَنزلتْ: ï´؟نِسَائُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوْا حَرْثكُمْ أَنَّى شِئْتُمْï´¾ [البقرة:223])، يعني: إن أراد مُقبلة أو أراد مُدبرة، بشرط أن يكون في صمَّامٍ واحدٍ، وهو الفرجُ والقُبُل.
قال: (وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ، وَلَهُ: إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً)، يعني: مُنكبَّة على وَجهها.
قال: (وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ)، المراد به: القُبُل.
ثم أورد المؤلف من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- حديثًا قد وقع الاختلاف فيه، فرواه بعضهم مرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بينما رواه آخرون مَوقوفًا على ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْظُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ»، يعني: نظر تقديرٍ ونظرَ خيرٍ ورحمةٍ.
قال: «إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا»، في هذا تحريم وطء المرأة في دبرها، والتَّشديد في مثل ذلك.
{قال: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِي أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا»)}.
هذا الحديث متفقٌ عليه.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِي أَهْلَهُ»، يعني: يُجامع زوجته.
قال: «قَالَ: بِسْمِ اللهِ»، أي: أتوكَّلُ عليه وأعتمدُ عليه.
قوله: «اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ»، أي: أبعد عدونا الشَّيطان عنَّا.
قوله: «وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا»، أي: أبعد الشَّيطان عن ما رزقتنا من الأولاد.
قوله: «فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا»، ليس معنى هذا أنَّه لا يوسوس الشيطان له، أو أنَّه لا يستجيب للشَّيطان، لكن لن يضره ضررًا مستمرًا، قد يستجيب للشيطان ولكن يُوفَّق للتوبة بعدَ ذلك.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجْتُ قَالَ لي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَّخَذْتَ أَنْمَاطًا؟» قُلْتُ: وأنَّى لَنا أَنْـمَاطٌ؟ قَالَ: «أَمَا إِنَّهَا سَتَكُونُ»، قَالَ جَابِرٌ: وَعِنْدَ امْرَأَتِي نَـمَطٌ، فَأَنَا أَقُولُ: نَـحِّيْهِ عَنِّـي, وَتَقُولُ: قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِنَّهَا سَتَكُونُ»، وَفِي لفظٍ: «فَأَدَعُهَا». مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
جابر بن عبد الله تزوَّج بعدَ يومِ أُحد لَمَّا مات أبوه عبد الله، وكان عنده عدد من الأخوات، فتزوج بامرأة من أجل أن تقوم بأخواته.
فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَّخَذْتَ أَنْمَاطًا؟»، الأنماط: بُسُط أو نمارق.
قال: (قُلْتُ: وأنَّى لَنا أَنْـمَاطٌ؟)، أي: من أين نأتي بأنماطٍ ونحن على فقرنا!
قَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهَا سَتَكُونُ»، أي: ستكون لديك أنماط.
قَالَ جَابِرٌ: (وَعِنْدَ امْرَأَتِي نَـمَطٌ)، يعني: الآن اتَّخذنا أنماطًا.
قوله: (فَأَنَا أَقُولُ: نَـحِّيْهِ عَنِّـي)، أي: أنا لستُ مُعتادًا عليه، فأبعديه عنَّا في ذهابي وإيابي.
فتَقُولُ الزوجة: (قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِنَّهَا سَتَكُونُ»)، أي: هذا إقرار مِنَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهذه الأنماط.
قوله: (وَفِي لفظٍ: «فَأَدَعُهَا»)، أي: أتركها من أجل ترك جابر لها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وعَنِ ابنِ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَعَنَ الوَاصِلةَ وَالـمُسْتَوصِلَةَ والواشِمةَ والـمُسْتَوشِمَةَ. مُتَّفَقٌ عَليهِ)}.
قوله: (لَعَنَ)، يعني: أبعد الله عن رحمته، وهذا دليل على أنَّ هذه الأفعال من الكبائر.
قال: (لَعَنَ الوَاصِلةَ)، الواصلة: هي التي تقوم بإتيان شعر وتقوم بربطه بشعرها، لما في ذلك من الغش والتَّدليس، ويُمكن أن يكون له آثاره.
قال: (وَالـمُسْتَوصِلَةَ)، هي التي تطلب أن يُوصَل الشَّعر.
قوله: (والواشِمةَ)، هي مَن تأتي بإبرةٍ وتقوم بغرزها في الجلد من أجلِ أن يسودَّ المكان، فيكون هناك وشمٌ، ومرَّات قد يُشكِّلونَ منه أشكالًا ونحو ذلك، وقد يضعون فيه كحلٌ أو نيل؛ فيكون لونه أسود أو أزرق أو أخضر.
قوله: (والـمُسْتَوشِمَةَ)، هي التي تطلب ذلك.
ففي الحديث: تحريم الوصل والوشم، وأنَّ ذلك من الكبائر، وأنه يُمنَع منه الرِّجال والنِّساء.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُ فيَعْدِلُ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» يَعْنِي الْقَلْبَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ, لَكِنْ قَدْ رُوِيَ مُرْسَلًا، وَهُوَ أَصَحُّ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ)}.
هذا الحديث اختلف الرُّواة فيه، فبعضهم لم يذكر فيه الصَّحابي، وبعضهم ذكر فيه اسم الصحابي؛ فيكون حينئذٍ قد اختُلف في وصله وإرساله.
والأصوب أنه مُرسل، وليس ثابتًا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالتَّالي فصواب الرواية أنه من حديث أبي أيوب عن أبي قلابة مرسلًا.
قوله هنا: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُ)، يعني: بين زوجاته، وفيه مشروعيَّة القسم بين الزَّوجات، ووجوب العدل في ذلك.
قوله: (فيَعْدِلُ)، أي: في القسم.
ويقول: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ»، أي: في توزيع نوبات النَّهار فيما بينهنَّ.
قوله: «فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» يَعْنِي الْقَلْبَ وما فيه، وفيه دلالة على أنَّ ما يكون في القلوب لا يؤاخَذ به العبد، وأنَّه لا يلزم الزوج أن يعدل بين زوجاته في المحبَّة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشيرِ بنِ نَهيكٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهِ مَائِلٌ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفْظُهُ- وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَسْنَدَ هَذَا الحَدِيثَ همَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ، وَرَوَاهُ هِشَامٌ الدَّسْتوَائيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ يُقَالُ)}.
قوله: (قَالَ: كَانَ يُقَالُ)، أي: لم ينسبه للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذن أشار المؤلف إلى الاختلاف في الحديث، فبعضهم يقول إنَّه صحيح الإسناد، وكل رجاله ثقات.
وبعضهم يقول: فيه خطأ، والصَّواب أنَّه من أخبار بني إسرائيل، فقتادة كان يقول فيه: (كَانَ يُقَالُ).
قوله: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ»، يعني: زوجتان.
قوله: «فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا»، أي: فيما يجب التَّسوية فيه بينهما.
قوله: «جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهِ مَائِلٌ»، لكونه لم يعدل بين هؤلاء النِّساء، مع أنَّ العدلَ بينهم واجب.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ [عَلَى الْبِكْرِ]، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، ثُمُّ قَسَمَ، قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: وَلَو شِئْتُ لَقُلْتُ: إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
إذا قال الصحابي (مِنَ السُّنَّةِ)، فيُنسَبُ الحديث للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمراد بها: الطريقة التي سار عليها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ)، أي: أقام عند البكر سبعة أيَّام، ثم بعد ذلك يقسم على الزوجات، سواء جعل لكل زوجةٍ ليلة ليلة، أو جعل لكل زوجة ليلتنا متتاليتان.
بينما إذا تزوج الثيب قعد عندها ثلاثة أيام، ثم بعد ذلك يقسمُ بين زوجاته.
{قال: (وَعَنْ أبي بَكرِ بنِ عَبدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِكَ عَلَى أَهْلِكَ هَوَانٌ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكَ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي». رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
لَمَّا تزوج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أم سلمة كانت ثيِّبًا، فأقام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندها ثلاثة أيَّام، ثم قال: «إِنَّهُ لَيْسَ بِكَ عَلَى أَهْلِكَ هَوَانٌ»، أي: نقصان منزلة.
قال: «إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكَ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي»، في هذا تخيير الزوج لزوجته عنده زواجه بثيِّبٍ أن يجلس عندها ثلاثة أيَّام ثمَّ يدور، أو يُسبِّع لها كالبكر، ولكن يلزم من ذلك أن يُسبِّع عند غيرها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لعَائِشَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُ لعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ)}.
في هذا الحديث:
ïƒک جواز أن تهب الزَّوجة ليلتها لزوجها ليجعلها عند مَن شاء من النِّساء.
ïƒک وفيه جواز أن تهب المرأة ليلتها لزوجة أخرى بعينها، كأن يكون عنده أربع نسوة؛ فتقول الكبيرة: أنا ما عندي قدرة على القيام بحقك، وأَهب يوم للزَّوجة الثَّانية فلانة؛ فحينئذٍ يجوز له أن يختار ذلك، ويجوز له أن يمتنع من الذَّهاب إلى الزَّوجة الأخرى ويقول لها: يلزمكِ أن تقومي بحقي.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟» يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا, قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَاتَ فِي اليَوْمِ الَّذِي يَدُورُ عَلَيَّ فِيهِ فِي بَيْتِي، فَقَبَضَهُ اللهُ، وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِي. مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ.
وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَا ابْنَ أُخْتِي, كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ مِنْ مُكْثِهِ عِندَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيْعًا فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيرِ مَسِيسٍ حَتَّى يَبْلُغَ الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا، فَيَبِيْتُ عِنْدهَا. رَوَاهُ أَحْمدُ، وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ لَعَنَتْها الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ، وَلمسْلمٍ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِراشِهَا فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا، حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا»)}.
في هذه الأحاديث:
ïƒک طريقة ترتيب الليالي بين الزَّوجات.
ïƒک وفيه أيضًا أنه يجوز للزوج أن يسأل زوجاته أن يُسقطنَ حقَّهنَّ في المبيت لحاجته، فإذا أسقطنَه سقطَ.
ïƒک وفيه أن الرجل يجوز له حال المرض أن يبقى عند إحدى نسائه بعد أخذ إذن بقيَّة النساء.
ïƒک وفيه فضل عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها.
ïƒک وفيه أنَّه يجوز للإنسان أن يمرَّ على جميع نسائه في كل يوم، ولكن لا يحق له أن يمرَّ على نسائه في ليلة فلانة، ولا يمر عليهن في ليلة الأخرى.
ïƒک وفيه وجوب أن تستجيب المرأة لطلب زوجها إذا دعاها إلى الفراش، وأنَّه لا يجوز لها أن تمتنع، وأنَّ الامتناع مِن كبائر الذنوب.
فهذا شيء من الأحكام المتعلقة بهذه الأحاديث، بارك الله فيك، ووفقك الله لكل خير، ووفق إخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- للجميع هدايةً وصلاحًا، واستقامةً ورفعةَ شأنٍ، وعزًّا وعلوَّ درجةٍ، كما أسأله -جلَّ وَعَلَا- أن يُسبغ علينا جميعًا النِّعَم، وأن يوالي علينا الخيرات، وأن يُوفِّقَ ولاة أمورنا لكلِّ خيرٍ، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:17   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الْمُحَرِّرُ فِي الحَدِيثِ (4)
الدَّرسُ الخَامِسُ (5)
معالي الشيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
الله يبارك فيك، حيَّاكَ الله، وحيَّا الله إخواني المشاهدين، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من باب "الخلع والتخيير والتمليك" من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي من "بَابُ الخُلْعِ وَالتَّخْييرِ وَالتَّمْلِيكِ".
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أَنَّ امْرَأَةَ ثَابتِ بنِ قيسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثَابتُ بنُ قَيْسٍ مَا أَعْتُبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِيْنٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الكُفْرَ فِي الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرُدِّيْنَ عَلَيْهِ حَدِيْقَتَهُ؟» قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْهُ: أَنَّ امْرَأَةَ ثَابتِ بنِ قَيسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِدَّتهَا حَيْضَةً. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد -وَقَالَ: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مُرْسَلًا- وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ- وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: هَذا حَدِيْثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ)}.
الحمدُ لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعدُ:
فإنَّ الخُلع فُرقةٌ من فرق النِّكاح، فإنَّ النِّكاح تحصل الفرقة فيه بعددٍ مِنَ الأسباب، منها:
ïƒک الخُلع، الذي هو فُرقةٌ بعوضٍ تدفعه المرأة أو يُدفَعُ لها
ïƒک الفَسخ: ويكون من قِبَلِ القَضَاء بطلبٍ من المرأة بوجودٍ عيبٍ في الرَّجل.
فالخلع لا يُشتَرط فيه أن يكون هناك عيبٌ في الرَّجل، وتدفع فيه المرأة عوضًا، بينما الفسخ يكون لسببٍ، ويكون مِنْ قِبَل القَضَاء، ولا يكون فيه عِوض.
ïƒک اللعان: فمتى تلاعن الزَّوجان حصلت بينهما فُرقَة أبديَّة.
ïƒک الطَّلاق: إذ يكون من قِبَلِ الزَّوجِ.
ïƒک الموت.
أمَّا التَّخيير: فهو أن يُخيِّر الرَّجلُ زوجته في نفسها، فيقول: إن أردتِّ الطلاق فاختاريه، فهل هذا يُعدُّ في نفسه طلاقًا وفُرقةً؟ أو لا يُعدُّ حتى تختار هي نفسها؟
وأمَّا التَّمليك: أن يُملِّك الزَّوج زوجته أمرها، فيقول: أمركِ بيدكِ؛ فهل يُعدُّ تطليقًا؟ وماذا تملك منه المرأة؟ هل تملك به طلقة واحدة أو ثلاثَ طلقات -على ما سيأتي بيانه من الأحكام.
أورد المؤلِّف في هذا حديث ابن عباس الذي أخرجه الشَّيخان: (أَنَّ امْرَأَةَ ثَابتِ بنِ قيسٍ)، جميلة بنت عبد الله.
قال: (أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وذلك أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الذي يتولَّى أَمْرَ القضاء في زمانه، فأتت إليه تطلب القضاء في قضيتها.
قوله: (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثَابتُ بنُ قَيْسٍ)، وهو زوجها.
قالت: (مَا أَعْتُبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِيْنٍ)، أي: ليس لي عليه ملحوظة، أو سبب يجعلني أستنقصه سواء في خُلقه وتعامله، أو في دينه.
قالت: (وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الكُفْرَ فِي الإِسْلَامِ)، ليس المراد بالكفر هنا الخروج من دين الإسلام، وإنما المراد به كُفر العشير بجحدِ الزَّوج وعدم القيام بواجبه.
وقد ورد في بعض الرِّوايات أنَّها رأت ثابت بن قيس دميمًا بينَ وسيمين، وقصيرًا بينَ طوالًا، فزهَّدها ذلك فيه.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرُدِّيْنَ عَلَيْهِ حَدِيْقَتَهُ؟»، الحديقة: البستان، ويُراد بها المهر الذي دفعه إليها.
وهذا يدل على أنَّ الخلع يُردُّ به المهر، فإن اتَّفقا على المهر السَّابق فلا إشكال في ذلك، وإن اتّفقا على أقل منه فلا إشكال أيضًا، ولكن لو كان الخلع على عوضٍ أكثر من المهر؛ فهل يصح ذلك؟
على قولين لأهل العلم في ذلك، ومنشأه: أنَّ قوله: «أَتَرُدِّيْنَ عَلَيْهِ حَدِيْقَتَهُ؟» هل هو أمر تعلَّقَ بهِ الحُكم، أو كان جوابًا عن سؤال؟
فإنَّ قلنا هو جواب عن سؤال: فحينئذٍ لا يُفهَم منه مفهوم المخالفة، وبالتَّالي يُمكن أن يُرد في عوض الخُلع أكثر من المهر السابق.
وأمَّا إن كان قوله: «أَتَرُدِّيْنَ عَلَيْهِ حَدِيْقَتَهُ؟» لتقرير حُكمٍ جديدٍ؛ فيُفهَم منه أنَّه لا يجوز أن تُطالَب المرأة في الخلع بأكثر من ذلك.
قوله: (قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ»)، كأنَّه هنا لم يلتفت إلى رضا الزَّوج.
ومذهب الأئمة الأربعة: أنَّ الخلع يُشترط فيه رضا الزَّوج، إِلا في رواية عن الإمام أحمد يقول: لا يُشترَط رضا الزَّوج بشرط أن يكون الخلع عند القضاء.
والفتوى وقرار هيئة كبار العلماء عندنا على اعتماد ذلك، أنه لا يُشتَرَط رضا الزَّوج في الخلع متى كان ذلك من قبل القَاضي، ومتى عَجز القَاضي عن التَّوفيق بينهما.
قال: «وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً»، أخذ منه الجمهور أنَّ الخلع طلاق، وأنَّه يُحسَب في عدد الطلقات.
وقال أحمد: ليس بطلاق، واستدل على ذلك بقول: ï´؟الطَّلَاقُ مَرَّتَانِï´¾، ثم قال بعدها في الآية: ï´؟فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِï´¾ [البقرة/229]، فهذا خلع، ثم قال في الآية: ï´؟فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىظ° تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُï´¾، فذكر الخلع بينَ عدد الطلقات، فلم يحتسب الخلع.
قال أحمد: هذا دليل على أنَّ الخلع فسخٌ وليس بطلاق.
وأمَّا الحديث الذي ذكره المؤلف من حديث ابن عباس: (أَنَّ امْرَأَةَ ثَابتِ بنِ قَيسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِدَّتهَا حَيْضَةً).
فقد رواه أبو داود والترمذي، ولكن فيه كلام لأهل العلم، وذلك أنَّ أكثر الرواة رووه عَن عِكرمة مُرسلًا، ولم يُذكر فيه الصَّحابي ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- وبالتالي قالوا: إنَّ الخبر لا يثبت عَن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأمَّا عدَّة المرأة في الخلع:
ïƒک فقول الجماهير: تعتد بثلاث حيَض كالمطلَّقات.
ïƒک ومنهم من قال: لا تعتدّ إِلَّا بحيضةٍ واحدة، واستدلُّوا بهذا الخبر، لأنَّه فُرقَة وليست بطلاق، والعدة بثلاث حِيَض إنما جاءت في الطلاق في قوله تعالى: ï´؟وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍï´¾ [البقرة:228].
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الخِيَرَةِ؟ فَقَالَتْ: خَيَّرَنا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفَكَانَ طَلَاقًا؟ قَالَ مَسْرُوقٌ: لَا أُبَالِي أَخَيَّرتُها وَاحِدَةً أَوْ مائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِي. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
قوله مسروق بن الأجدع: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها)، فيه سؤال العالمة من النِّساء، وهذا كان مِن وراء الحجاب، وذلك عندما يكون هناك تعارض بينَ مَن لا يدخل على عائشة كمسروق، ورواية من يدخل عليه كعروة؛ تُقدَّم رواية عروة؛ لأنَّه يشاهدها.
قال مسروق: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الخِيَرَةِ؟)، يعني تخيير الزَّوج لزوجته، كأن يقول: اختاريني أو اختاري نفسك؛ فهل يُعتبر هذا طلاقًا؟ أو نقول: إنه لا يقع به الطلاق حتى تختار نفسها؟
وقد قال الله تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًاï´¾ [الأحزاب:28-29]، فهذا تخيير النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد اختار أزواجه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يُحسَب طلاقًا، ولذلك قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها هنا: (أَفَكَانَ طَلَاقًا؟)، يعني: أنَّه لم يكن طلاقًا، فالتَّخيير ليس بطلاق.
فقال مسروق: (لَا أُبَالِي أَخَيَّرتُها وَاحِدَةً أَوْ مائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِي)، فإذا اختارت الزَّوج فحِينئذٍ بطل الخيار، ولا يثبت به طلاق.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ حَمَّادِ بنِ زَيدٍ قَالَ: قُلْتُ لأَيُّوبَ: هَلْ عَلِمْتَ أحَدًا قَالَ فِي: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَنَّهَا ثَلَاثٌ غَيرَ الـحَسَنِ؟ فَقَالَ: لَا، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ غَفْرًا، إِلَّا مَا حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ كَثيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ، عَنْ أَبي سَلَمَةَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلَاثٌ»، فَلَقِيتُ كَثيرًا، فَسَأَلْتُهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى قَتَادَةَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: نَسِيَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ» وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَكَى عَنِ البُخَارِيِّ أَنَّه قَالَ: هُوَ مَوْقُوفٌ- وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ، وَكَثيرٌ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ وَغَيرُهُ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: هُوَ مَجْهُولٌ.
وَعَنْ زُرَارَةَ بنِ رَبيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُثْمَانَ فِي (أَمْرُكِ بِيَدِكِ): الْقَضَاءُ مَا قَضَيْت. رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي التَّارِيخ)}.
أورد المؤلف حديث حَمَّادِ بنِ زَيدٍ قَالَ: (قُلْتُ لأَيُّوبَ)، يعني: السِّختياني.
قوله: (هَلْ عَلِمْتَ أحَدًا قَالَ فِي: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَنَّهَا ثَلَاثٌ غَيرَ الـحَسَنِ؟)، أي: أنَّه يقع بها ثلاث تطليقات.
فَقَالَ: (لَا)، يعني: أنَّه لا يقول أحد بذلك.
ثمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ غَفْرًا)، كأنَّه يستثني.
قال: (إِلَّا مَا حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ كَثيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ، عَنْ أَبي سَلَمَةَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلَاثٌ»، فَلَقِيتُ كَثيرًا، فَسَأَلْتُهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى قَتَادَةَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: نَسِيَ)، يعني: أنَّ لفظة (أَمْرُكِ بِيَدِكِ) هي كناية عن الطَّلاق، فإذا كان فيها لفظ أو قرينة أو نيَّة تجعلها للطلاق؛ فحينئذٍ تكون طلاقًا؛ لأنَّ الكنايات تكون حسب النِّيَّة، وفيها قولان لأهل العلم إذا نوى الطَّلاق بها؛ هل تُحسَب بثلاث طلقات أو تُحسَب بطلقة واحدة.
ثُم أورد حديث كَثيرٌ مولى ابن سمُرَة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «ثَلَاثٌ»، وهذا لفظٌ مرفوع، وقد وقع اختلاف فيه، فكثير من أهل العلم يُضعِّف هذا الخبر، ويعترضون عليه باعتراضات، منها:
ïƒک أنَّه من رواية كَثيرٍ مولى ابن سمُرَة، وقد قال عنه طائفة: إنَّه مجهول، وإن كان قد وثَّقه العجلي وابن حبان وجماعة.
ïƒک وأنَّه أُعلَّ بعلَّةٍ أخرى وهي: أنَّ الصَّواب أنَّ هذا الخبر موقوف وليس مرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ïƒک وأنَّ هذا الخبر علَّه أهل الحديث، حيث أن كثيرًا هذا لم يثبت من معرفته ما يُوجب قبول روايته، وقول العامَّة بخلاف روايته.
وبالتالي فهذا الخبر فيه ما فيه، ويحتاج إلى تحقق من إسناده.
ثم أورد عَنْ زُرَارَةَ بنِ رَبيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُثْمَانَ أنَّه قال فِي (أَمْرُكِ بِيَدِكِ): "الْقَضَاءُ" يعني: نهاية الأمر ونتيجته "مَا قَضَيْت"، أي: ما اختارته الزوجة، فيصبح الأمر في يد الزَّوجة.
وينبغي لنا أن نعلم أنَّ للشَّرع حكمة في جعله الفرقة إمَّا بيدِ الزَّوج، وإما بيد القضاء، لما في ذلك من تأنِّيهم قبل إيقاع الطَّلاق، بخلاف كثير من النِّساء.
وقوله هنا: (الْقَضَاءُ مَا قَضَيْت)، أي: أنَّ لفظة (أَمْرُكِ بِيَدِكِ)، لا يقع بها الطلاق بنفسها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الطَّلَاقِ
عَنْ مُـحَارِبِ بنِ دِثارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللهِ الطَّلَاقُ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالطَّبَرَانِيُّ، وَقَدْ رُوِيَ مُرْسَلًا، وَهُوَ أَشْبَهُ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: "إِنَّمَا هُوَ مُحَارِبٌ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرْسَلٌ"، وَقَالَ ابْنُ أَبي دَاوُدَ: "هَذِهِ سُنَّةٌ تَفَرَّدَ بهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ")}.
الطَّلاق: فُرقةٌ من فُرَق الطَّلاق، تكون في الغالب بلفظٍ من قِبَلِ الزَّوج.
وأورد المؤلف فيه حديث ابن عمر، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللهِ الطَّلَاقُ».
هذا الحديث ورد من طُرق مُتعدِّدَة أكثرها على أنَّه مرسلٌ، لم يُذكر فيه اسم الصَّحابي، ولذلك كان كثير من أهل العلم يتكلَّم في هذا الخبر.
وبعضهم قال: إنَّه قد رُويَ من طُرقٍ متعدِّدَةٍ.
وعلى كلٍّ؛ الحلال لا يوصَف بأنَّه مبغوض عند الله -جلَّ وعَلا- في تقرير كثيرٍ من أهل العلم، وإن كان آخرون أجازوه، واستدلوا عليه بأنَّ البصل مذمومٌ ولكنَّه مباحٌ.
وقول رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللهِ الطَّلَاقُ»، أي: أنَّ الشَّرع يُريد إبقاء الحياة الزَّوجيَّة لِمَا فيها من السَّكنِ، ولما فيها من المودَّة والرَّحمة، ولِمَا فيها من خيراتٍ عظيمةٍ، وبالتَّالي فالأولى أَلَّا يدخل الإنسان في بابِ الطَّلاق، وأن يتحاشاه ما استطاع إليه سبيلًا، إذ ليستِ العبرةُ بالفُرقَة التي تحصل بالطَّلاق، وإنَّما مَا يترتَّب عليه بعد ذلك من أُمورٍ مُتعلقة بأبناء، أو مُتعلقة بحقوقٍ مُشتركة بينهما، ولذلك يتطلَّع الشَّرع إلى عدم زيادة وجود الطَّلاق.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ مَالكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِي حَائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَسَأَلَ عُمَرُ بنُ الْخطابِ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثمَّ لْيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيْضَ، ثُمَّ َتَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَلمسْلمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ -مولَى آل طَلْحَةَ- عَنْ سَالمٍ، عَنِ ابْنِ عمرَ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِي حَائِضٌ، فَذَكرَ ذَلِكَ عُمرُ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَو حَامِلًا». وَقَالَ البُخَارِيُّ: وَقَالَ أَبُو مَعْمرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عَنِ ابْنِ عُمرَ قَالَ: حُسِبَتْ عَلَيَّ بتَطْلِيقَةٍ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمدَ بنِ صَالحٍ، عَنْ عبدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُريجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنِ أَيمنَ يَسْأَلُ ابْنَ عُمرَ -وَأَبُو الزُّبَيرِ يَسْمَعُ- فَقَالَ: كَيفَ ترَى فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟ فَقَالَ: طَلَّقَ عَبدُ اللهِ بنُ عُمرٍ امْرَأَتَهُ وَهِي حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ: عَبدُ اللهِ بنُ عُمَر طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِي حَائِضٌ -قَالَ عَبْدُ اللهِ- فَردَّهَا عَلَيَّ وَلمْ يَرَهَا شَيْئًا، وَقَالَ: «إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ» قَالَ ابْنُ عُمرَ: وَقَرَأَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِي إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّï´¾ [الطلاق:1]. رُوَاتُهُ أَثْبَاتٌ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ رَافعٍ، عَنْ عبدِ الرَّزَّاقِ)}.
ذكر المؤلف هُنا حديث ابن عمر، وهذا الحديث يترتب عليه اعتبار طلاق الحائض وعدم اعتباره، فابن عمر طلَّقَ زوجته وهي حائض، فَنَهَاهُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك، فدلَّ هذا على أنَّ الطَّلاق في زَمَنِ الحيضِ حَرام ولا يجوز ويأثم به الإنسان.
وهنا أُنبِّه على أنَّ الطلاق لا ينبغي أن يُقال بناء على انفعالٍ وقتيٍّ ولحظي، وإنَّما ينبغي أن يكون بعدَ تفكيرٍ وتأمُّلٍ، وبالتالي لا يوقعه الإنسان إِلَّا في الوقت المحدد شرعًا، وهو بعدَ انتهاء وقت الحيض وقبل الجماع.
إذا طلق الرجل زوجته وهي حائض؛ فهل يُحسَب في عدد الطلقات او لا يُحسَب؟
قالت طوائف كثيرة: إنَّه يُحسَب في عَدد الطلقات.
وقالت طائفة: لا يُحسب، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وقال بها جماعة من أصحابه، وهو مَذهب الظَّاهريَّة وجماعة.
منشأ الخلاف في هذه المسألة: هذه الواقعة التي ذُكرَت هنا، وهي أنَّ ابن عمر طلق زوجته وهي حائض، فبقيَ التَّردُّد؛ هل أمضى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك الطَّلاق أو أنَّه ألغاه ولم يعتبره ولم يُمضِهْ؟
فهذا هو منشأ الخلاف في هذه المسألة
- فمن قال: إنَّ الطَّلاق لا يقع: قال إنَّ هذا طلاق مُخالفٌ للسُّنَّة، فكيفَ نصحِّحُه! ثم هو مخالف لقوله تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّï´¾ [الطلاق:1]. وحينئذٍ نعلم أنَّ المسألة فيها خلاف.
قال: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِي حَائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عُمَرُ بنُ الْخطابِ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ)، فيه اهتمام الأب بحالِ أبنائه، فعمر أبٌ لابن عمر.
ومن الأدلة في هذا الباب: قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌ»، فإنَّ طائفة قالوا: إنَّ الطَّلاق في زمن الحيض ليس عليه أمرنا، فيكونُ مَردودًا.
قال: (فَسَأَلَ عُمَرُ بنُ الْخطابِ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ)، يعني: عن طلاق ابن عمر في زمن الحيض.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»، هذا اللفظ استدلَّ به مَن قال باعتبار طلاق الحائض؛ لأنَّ المراجعة ما تكون إلى بعد الطلاق، فدلَّ هذا على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم احتسبَ الطَّلاق.
ولكنَّ الآخرين أجابوا فقالوا: إنَّه قال: «فَلْيُرَاجِعْهَا»، ولم يقل: "فليرتجعها"، والمراجعة مُفاعلة بين اثنين، فكأنَّه قال: ليصطلح معها لتعود إليه.
قال: «ثمَّ لْيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيْضَ، ثُمَّ َتَطْهُرَ»، فأجَّل عليه مدَّة الطَّلاق من أجل أنَّه أراد أن تصلُح أحوالهم وتستقيم أمورهم.
وفي هذا دلالة على أنَّه قد يُعاقب الإنسان عُقوبة بسببِ مخالفته.
قال: «ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ»، ظاهره أنَّه لم يعتبر الطَّلاق، ولو أنه اعتبر الطلاق لما ألزمَه بمراجعتها، ولَمَا ألزمه بأن يختار بين التَّطليق والإمساك.
قال: «فَتِلكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»، وذلك في قوله تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَï´¾ [الطلاق:1].
قال: (وَلمسْلمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ -مولَى آل طَلْحَةَ- عَنْ سَالمٍ، عَنِ ابْنِ عمرَ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِي حَائِضٌ، فَذَكرَ ذَلِكَ عُمرُ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه سؤال الأب عن أحوال ابنه وما يتوافق معها من الشَّرع.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ»، والأصل في الأوامر أن تكون للوجوب، وبالتَّالي هذا دليل لمن يقول: إنَّه لم يحسب الطلقة؛ لأنَّها لازالت زوجة وفي أحكام الزَّوجات، وبالتَّالي يؤمرُونَ بعودةِ النِّساء إلى بيوتهنَّ.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيُرَاجِعْهَا»، يعني: يعود إليها، وقد تقدَّمَ معنا الخلاف في المراد بهذه اللفظة، هل هي من رجعَةِ النِّكاح، أو من المراجعة.
قال: «ثمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَو حَامِلًا»، فيه دلالة على أنَّ طلاق الطَّاهر في زمن ما بعدَ الحيضِ يُعدُّ طلاقًا جائزًا.
وهكذا في الحديث: أنَّ طلاق الحامل جائز وصحيح، ولا يلزم الفرقة.
وجاء في حديث ابن عمر قال: (حُسِبَتْ عَلَيَّ بتَطْلِيقَةٍ)، فكأنه اعتبر طلقة الحائض من ضمنِ أعدادِ الطَّلاق.
قال: (وَرَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمدَ بنِ صَالحٍ، عَنْ عبدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُريجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنِ أَيمنَ يَسْأَلُ ابْنَ عُمرَ -وَأَبُو الزُّبَيرِ يَسْمَعُ)، فيه سؤال العلماء، وضرب الأكباد والأسفار لمقابلتهم لتفصيل الإنسان حياته على وفق ما يُريد ربُّ العزَّةِ والجَلال.
فَقَالَ عبد الرحمن بن أيمن: (كَيفَ ترَى فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟)، يعني: مع أنَّه مَنهيٌّ عن تطليق المرأة وهي حائض.
فَقَالَ ابن عمر: (طَلَّقَ عَبدُ اللهِ بنُ عُمرٍ امْرَأَتَهُ وَهِي حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ: عَبدُ اللهِ بنُ عُمَر طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِي حَائِضٌ -قَالَ عَبْدُ اللهِ- فَردَّهَا عَلَيَّ)، يعني: ردَّ زوجته عليه.
قال: (وَلمْ يَرَهَا شَيْئًا)، أي: لم يحسبها في عددِ الطَّلقات.
وَقَالَ: «إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ»، أي: إذا طهُرَت بعدَ وقت حيضتها؛ لأنَّها تصبح حينئذٍ وقت طلاق سُنَّةٍ.
قَالَ ابْنُ عُمرَ: (وَقَرَأَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِي إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّï´¾)، يعني: مُستقبلات العدَّة.
وهنا مسألة: هل عدَّة المطلقة بالأطهار أو بالحيَض؟
قال أبو حنيفة وأحمد: هي بالحِيَض.
وقال مالك والشَّافعي: هي بالأطهار.
فقوله هنا: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّï´¾، يعني: مُستقبلات للعدَّة، وهذا دليل على أنَّ المرأة تعتدّ بالحِيَض.
{أحسن الله إليكم..
كيف نجمع بين قوله: (فَردَّهَا عَلَيَّ وَلمْ يَرَهَا شَيْئًا)، وقوله (حُسِبَتْ عَلَيَّ بتَطْلِيقَةٍ)؛ وكلُّها من قول ابن عمر؟}.
هناك منهجان في الجمع:
ïƒک الأول: لمَّا قال (حُسِبَتْ عَلَيَّ بتَطْلِيقَةٍ)، قالوا: هذا دليلٌ على احتسابها. وأمَّا قوله: (وَلمْ يَرَهَا شَيْئًا)، يعني: لم يرها باتًّة للطلاق كالطَّلاقات الثلاث.
ïƒک الثاني: قوله (حُسِبَتْ عَلَيَّ بتَطْلِيقَةٍ)، هذا اجتهاد من ابن عمر أو مَن وراءه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَينِ مِنْ خِلَافَةِ عُمرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُم فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَو أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِم، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِم)}.
هذا الخبر في صحيح مسلم، قال: (كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَينِ مِنْ خِلَافَةِ عُمرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً)، يعني: إذا طلَّقَ زوجته ثلاث تطليقات بلفظٍ واحدة؛ فإنَّه لا يُعدُّ إلا طلقة واحدة.
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا)، يعني: أصبح يراهم يُطلِّقونَ بسرعةٍ.
قوله: (فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُم فِيهِ أَنَاةٌ)، أي: يحقُّ لهم أن يتأنَّوْا فيه.
قوله: (فَلَو أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِم)، أي: لو اعتبرناه طلاقًا تامًّا (فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِم)، وأصبح بعدَ ذلك يُفتَى أنَّ مَن طلَّقَ وجته ثلاثًا بلفظٍ واحدٍ فحينئذٍ يُمضَى عليه، وتُعتبَر الطَّلقات الثلاث، وتُحسَب عليه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ مَحْمُودَ بنَ لَبِيْدٍ قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ رَجُلٍ طلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا؟ فَقَامَ غَضْبَانَ، ثمَّ قَالَ: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ وَأَنا بَينَ أَظْهُرِكُم» حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلا أَقْتُلُهُ؟. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ أحَدًا رَوَى هَذَا الحَدِيثَ غَيرَ مَـخْرَمَةَ)}.
مخرمة بن بوكير: من رواة الحديث، صدوقٌ، وروايته من قبيل الحسن.
قال: (عَنْ أَبِيهِ)، كثير من أهل العلم قالوا: إنَّ مخرمة لم يسمع من أبيه.
قال: (سَمِعْتُ)، أي: الأب يقول: سمعتُ (مَحْمُودَ بنَ لَبِيْدٍ قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ رَجُلٍ طلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا؟)، يعني: بلفظٍ واحدٍ.
قال: (فَقَامَ غَضْبَانَ)، غضبان من هذه الكلمة، ممَّا يدلُّ على تحريم جمع الطَّلقات في المحل الواحد.
ثمَّ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ وَأَنا بَينَ أَظْهُرِكُم»، ذلك لأنَّ هذا طلَّقَ زوجتَه ثلاث طلقات، ففوَّتَ على نفسه، وقد أمر الله -جلَّ وعَلا- المؤمنين بأن يُلاحظوا ذلك، فقال: ï´؟وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ غڑ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا غڑ وَمَن يَفْعَلْ ذَظ°لِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ غڑ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا غڑ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِï´¾ [البقرة/231]، فنهاهم الله -جلَّ وعَلا- عن اتَّخاذ آياتِ الله هُزوًا في ثنايا آيات الطَّلاق.
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ وَأَنا بَينَ أَظْهُرِكُم»، يعني: أيُطلِّق الواحد منكم زوجته وأنا بينَ أظهركم بدون سببٍ؟!!
قوله: (حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلا أَقْتُلُهُ؟)، لِمَا رأى مِن شدَّة تغيُّرِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليه.
{شيخنا، أحسنَ الله إليك..
هل يُفرَّق بين التطليق ثلاثًا بلفظٍ واحدةٍ، وبين أن يقولها في مجلسٍ واحدٍ؟}.
الجمهور لا يُفرّقون، فيقولون: إنَّ الجميع يقع به ثلاث طلقات.
وأمَّا مَن يوقع طلقةً واحدةً؛ فالأكثر على التَّفريق بينهما، ففرق بينَ ما إذا قال: "أنت طالق ثلاثًا" هو لم يتكلَّم بالطَّلاق إلا مرَّةً واحدة، بخلاف ما لو قال: "كلكنَّ طالق"، فحينئذٍ يختلف الحكم بين هذا الموطن وذاك.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ». رَوَاهُ أَحْمَدُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ)}.
هذا الحديث فيه عبد الرحمن بن حبيب، وتكلَّمَ بعضهم فيه.
وقوله: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ»، أي: تُعتَبر وتُلاحَظ.
قوله: «وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ»، أي: يترتَّب عليها الحكم.
قوله: «النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ»، فإذا نكَحَ أو طلَّقَ، فلا يُقبل منه أن يقول: أمزح! فليس المقام مَقام مزحٍ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّم». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ)}.
قوله: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا»، يعني: من الهمِّ والوساوس ونحو ذلك، وفيه دلالة على أنَّ الطَّلاق لا يقع بإضماره في النَّفسِ أو بالتَّردُّدِ فيه، فلا يقع إِلَّا بلفظهِ أو بعملٍ يُؤدِّي إليه.
وقد أخذ جمهور العلماء مِن هذا أنَّ طلاق الكتابةِ من الآصقة فإنَّ طلاقة مُعتبر، وذلك أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ»، والكتابة نوعٌ مِن أَنواع العَمَل.
وفي هذا دليلٌ على أنَّ الطَّلاق المكتوب يقع، ولا يُشتَرط أن يكون مَنطوقًا به.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ: ï´؟لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌï´¾ [الأحزاب:21] رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَلمسلمٍ: إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ فَهِيَ يَمِيْنٌ يُكَفِّرُهَا)}.
قوله: (إِذا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ)، يعني لو قال لزوجته: "أنتِ عليَّ حرامٌ"، هذه اللفظة موطنُ خلافٍ، وفيها أقوال متعدِّدَةٌ:
ïƒک فبعضهم يقول: هذا ظهار، يجب فيه صيام شهرين متتابعين.
ïƒک والأكثر على أنه يمين، وله أحكام اليمين.
قال تعالى: ï´؟لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌï´¾، حيثُ كان عليه تحريم، ومع ذلك اكتُفيَ فيه بأحكام اليمين، فاعتُبِرَ يمينًا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه مِنْ رِوَايَةِ عَطاءٍ عَنْهُ، وَرُوَاتُهُ صَادِقُونَ، وَقَدْ أُعِلَّ، قَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يَصحُ هَذَا الحَدِيثُ وَلَا يَثْبُتُ إِسْنَادُهُ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِنَحْوِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَطاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْهُ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَا)}.
قوله في هذا الحديث: «إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ»، المراد بالخطأ هنا: ما هو خلاف العمد.
والوضع: هو التَّجاوز.
قال: «وَالنِّسْيَانَ»، يعني: ما وقع نسيانًا، كأن يبيع سيارته وينساها.
قال: «وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»، أي: ما كانوا مُكرَهينَ عليه مُلزَمينَ بهِ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا: أَنَّ ابْنةَ الجَوْنِ لـمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدَنا مِنْهَا قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ: «لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيْمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
ابنة الجون: هي امرأة عربية كان لأبيها شأن، لمَّا أُدخِلَت على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودنا منها متزوِّجًا لها، قالت: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ)، يعني: ألتجئ وأحتمي به -سبحانه- منكَ.
فقال لها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيْمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ»، في هذا عدد من الأحكام:
ïƒک منها: أنَّ الأصل أنَّ الزَّوج هو الذي يدخل على الزَّوجة لا العكس.
ïƒک ومنها: أنَّ المرأة يحسُن بها أن تُسلِّمَ نفسها لزوجها.
ïƒک ومنها: أنَّه لا يُرغَّبُ في أن تستعيذ المرأة بالله من زوجها.
فقال لها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيْمٍ»، أي: التجأتِ إلى عظيمٍ، وهو ربُّ العزَّة والجَلالِ.
ثم قال لها: «الْحَقِي بِأَهْلِكِ»، وهذا لفظٌ مِن كنايات الطَّلاق.
هل هو كناية صريحة أو كناية خفيَّة؟
محلُّ تردُّدٍ بين العلماء.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ جَابرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا طَلَاقَ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ، وَلَا عِتْقَ إِلَّا بَعْدَ مِلْكٍ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، وَأَبُو يعْلى الْموصِلِي وَهَذَا لَفظُهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَلَهُ عِلَّةٌ، وَقَدْ رُويَ منْ حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو والـمِسْوَرِ بنِ مَـخْرَمَةَ وَغَيرِهمَا)}.
قوله في هذا الحديث: «لَا طَلَاقَ»، يعني: لا طلاق صحيح مُعتبرٌ تترتَّبُ عليه آثاره.
قوله: «إِلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ»، يعني: بعدَ عقدَ نكاحٍ، فلو طلَّقَ امرأةً قبل أن يعقد عليها لم يُعتبَر هذا الطَّلاق ولم يُلتَفت له.
قال: «وَلَا عِتْقَ إِلَّا بَعْدَ مِلْكٍ»، يعني: لا يصح العتق ولا يُعتبَر إلا إذا كان بعدَ مِلكٍ واقعًا على مَن يملكُه.
قال: (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، وَأَبُو يعْلى الْموصِلِي وَهَذَا لَفظُهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَلَهُ عِلَّةٌ)، العلَّة: أنَّه مرَّةً رُويَ من حديث جابر، ومرَّة رُويَ من حديث عبد الله بن عمرو.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيْقَ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ البُخَارِيُّ: وَقَالَ عُثْمَانُ: "لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا لِسَكْرَانٍ طَلَاقٌ"، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "طَلَاقُ الْسَكْرَانِ والـمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بـِجَائِزٍ"، وَقَالَ عَليٌّ: "وَكُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ، إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ، وَالْعِتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ")}.
هذا الحديث فيه ذكر قلم التَّكليف، وقد يستدل به أيضًا على قلم الأحكام الوضعيَّة، فقوله: «رُفِعَ الْقَلَمُ»، القلم في حقيقته ما رُفِعَ، أمَّا الذي رُفِعَ هو ترتيب الثَّواب والعِقاب عليه.
قال: «عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ»، فيه أنَّ النَّائم لا يتوجَّه إليه التَّكليف في وقت نومِهِ حتى يستيقظ.
قال: «وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ»، يعني: يبلغ.
قال: «وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيْقَ»، فهذه أحوالٌ ثلاثة لا يؤاخذ الإنسان بما يجري عليه فيها، وبالتَّالي فإنَّ طلاق مَن كان كذلك غيرُ مُعتَبرٌ؛ وإنَّما يقوم وليُّهم مَقامهم فيما يتعلَّق بأمرِ الطَّلاق، أو بأمرِ الفُرقَة.
قال عثمان: "لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا لِسَكْرَانٍ طَلَاقٌ"، أي: لا يُعتَبر طلاقًا؛ لأنَّهم يَهذون بما لا يُريدونَه.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "طَلَاقُ الْسَكْرَانِ والـمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بـِجَائِزٍ".
وَقَالَ عَليٌّ: "وَكُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ، إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ"، يعني: أنَّه لا يقع.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ، وَالْعِتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ". ولعلنا نقف على هذا.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 15:05   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
abdoucho90
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي

مشكووووور اخي بارك الله فيك










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-25, 13:52   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة abdoucho90 مشاهدة المشاركة
مشكووووور اخي بارك الله فيك
العفــــــــــــــــــــــــــــــــو .









رد مع اقتباس
قديم 2019-04-25, 13:54   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الْمُحَرِرُ فِي الْحَديِثِ (4)
الدَّرسُ السَّادسُ (6)
معالي الشيخ / سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
الله يبارك فيك، وأحيِّيكَ وأحيِّي إخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب "الرَّجْعَةُ والإِيلاء والظِّهار" من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (عَنْ يزِيدَ الرِّشْكِ، عَنْ مُطَرِّفِ بنِ عَبدِ اللهِ، أَنَّ عِمرَانَ بنَ حُصَيْنٍ سُئِلَ عَنِ الرَّجلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، ثمَّ يَقعُ بِها وَلمْ يُشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَلَا عَلَى رَجْعَتِهَا؟ فَقَالَ: طَلَّقْتَ لِغَيرِ سُنَّةٍ وَراجَعْتَ لغَيرِ سُنَّةٍ، أَشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَعَلَى رَجْعَتِهَا وَلَا تَعُدْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه، وَلَيْسَ عِنْدهُ: وَلَا تَعُدْ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مُخرَّجٌ لَهُم فِي الصَّحِيحِ)}.
الحمدُ لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياء والمرسَلين، أمَّا بعد:
فإنَّ كلمة الرَّجعة يُراد بها: إعادة الرَّجلِ زوجتَه المطلَّقة إلى عِصمته.
ويُشترط للرَّجعة شروط:
 أن يكون الطَّلاق رجعيًّا، فيكون بطلقةٍ أو طلقتين، أمَّا إذا كان بثلاثٍ فحينئذٍ لا رَجْعَة.
 أن تكون الرَّجعة في وقتِ العِدَّةِ، فإن مَضت العِدَّةُ ولم تحصل رَجْعَة فلا تثبت رجعة حينئذٍ.
أمَّا الإيلاء فالمراد به: حَلِفُ الزَّوج أَلا يقربَ زوجتَه مُدَّةً تَزيد عن مُدَّة الأربعة أشهر.
أمَّا الظِّهار: فهو تشبيه الرَّجلِ زوجتَه بمَن تحرم عليه على جهة التَّأبيد، كما لو قال لها: "أنتِ عليَّ كظهر أمي". وسيأتي أحكامه.
قال: (أَنَّ عِمرَانَ بنَ حُصَيْنٍ سُئِلَ عَنِ الرَّجلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، ثمَّ يَقعُ بِها وَلمْ يُشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَلَا عَلَى رَجْعَتِهَا؟)، هل الجماع هنا يُعدُّ رجعة؟
طلقها طلقةً أو طلقتين، ثُمَّ جَامعها، فهل يُعدُّ ذلك رجعة أو لا؟
هذا من مواطن الخلاف:
 فعند أحمد: أنه يُعدُّ رجعةً.
 وعند أبي حنيفة والشَافعي: لا يُعدُّ رجعة.
 وعند مالك: بحسبِ النِّيَّة، فإن نَوى بجماعه لها أنَّه يرتجع الزَّوجة؛ حَصَلت الرَّجعة بذلك.
قال: (سُئِلَ عَنِ الرَّجلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، ثمَّ يَقعُ بِها)، يعني: يقع بها قبل أن يتلفَّظ بالرَّجعة، فإنَّ الرَّجعة قد تكون بلفظٍ قوليٍّ، وقد تكون بفعلٍ.
قال: (وَلمْ يُشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَلَا عَلَى رَجْعَتِهَا؟ فَقَالَ: طَلَّقْتَ لِغَيرِ سُنَّةٍ)؛ لأنَّه طلَّقَ امرأته ويبدو أنه لم يُشهِد عليها.
قال: (راجَعْتَ لغَيرِ سُنَّةٍ، أَشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَعَلَى رَجْعَتِهَا وَلَا تَعُدْ).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: آلَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منْ نِسَائِهِ وَحَرَّمَ فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا، وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ كَفَّارَةً. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا وَهُوَ أَصَحُّ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ)}.
عَنْ عَائِشَة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: (آلَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منْ نِسَائِهِ)، يعني أقسَمَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألا يقرب نساءه.
قالت: (وَحَرَّمَ)، يعني أنَّه حكم بالحُرمَةِ.
قالت: (فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا، وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ كَفَّارَةً)، كأنها تقول أنَّ الأَيمان في الإيلاء ونحوه فيها كفارة يمين. وهذا أحد الأقوال في التَّحريم.
فهناك مَن يقول: إنَّ التَّحريم يقتضي أن يكونَ ظِهارًا.
وبعضهم يقول: هو طلاق.
وبعضهم يقول: هو طلاق معلَّق.
والصَّواب: أنَّه يمينٌ، ولذا قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها: (آلَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منْ نِسَائِهِ وَحَرَّمَ فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا، وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ كَفَّارَةً)، يعني فيما فعله.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يسَارٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلُّهُمْ يَوقِفُونَ الْمُولِي. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ)}.
المراد بالمُولِي: مَن أقسَم ألا يقرب زوجته مدَّة أكثر من أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهرٍ؛ فماذا نفعل؟
الإمام أبوحنيفة يقول: إذا مضت الأربعة أشهر وقع الطلاق، ولا نحتاج إلى إيقاف المولي ولا سؤاله.
الجمهور يقولون: نوقف المولي الذي أقسَمَ ألا يقرب زوجته، ونقول: أنت بالخيار، إمَّا أن تطلِّق، وإمَّا أن تسترجع.
قال سليمان بن يسار: (أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلُّهُمْ يَوقِفُونَ الْمُولِي)، يعني بعد الأربعة أشهر يسألونه؛ هل تريد إمضاء العقد أو الفسخ؟
وقوله: (كُلُّهُمْ يَوقِفُونَ الْمُولِي)، معناه أنَّه لا ينفسخُ عقدَ النَّكاحِ بالنِّسبة للمُولِي بمجرد مضي المدة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ الحكمِ بنِ أبانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قدْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَته فَوَقعَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قبلَ أَنْ أُكَفِّرَ، فَقَالَ: «مَا حَمَلَك َعَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللهُ؟» قَالَ: رَأَيْتُ خَلْخَالهَا فِي ضَوءِ الْقَمَرِ، قَالَ: «فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ وَصَحَّحَهُ، وَقَدْ رُويَ مُرْسَلًا، وَهُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ منَ الْمُسْنَدِ، قَالَهُ النَّسَائِيُّ)}.
قوله هنا: (عنِ الحكمِ بنِ أبانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)، هكذا في الرِّواية، وفي بعض الرِّوايات يكون مُرسلًا بدون ذكر ابن عباس.
والمتتبِّعُ للحديث يجد أنَّ هناك اختلافًا كثيرًا في هذا الباب، وقد حَكَمَ المؤلِّف أنَّ المُرسل أولى بالصَّواب مِن المسنَد، ونَسَبَهُ إلى النَّسائي -رَحمَهُ اللهُ تَعَالَى.
قال: (أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قدْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَته)، أي: شبَّه امرأته بمَن تحرُم عليه على جهة التَّأبيد، فقال لها مثلًا: "أنتِ كأُمِّي، أو أنتِ حرامٌ عليَّ كجدَّتي".
قال: (فَوَقعَ عَلَيْهَا)؛ لأنَّ مَن ظَاهرَ ممنوع أن يَطأ الزَّوجة.
فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قبلَ أَنْ أُكَفِّرَ)، أي: جامعها قبل أن يُكفِّر.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَمَلَك َعَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللهُ؟». قَالَ: (رَأَيْتُ خَلْخَالهَا فِي ضَوءِ الْقَمَرِ)، يعني: تحرَّكت نفسه لها، فلذلك جامعها.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللهُ»، أي: لا تُجامعها مَرَّة أخرى حتى تفعل ما أمرك الله به.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الْأَيْمَانِ
عَنِ ابْنِ عُمرَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أدْرَكَ عُمرَ بنَ الْخطَّابِ فِي ركْبٍ، وَعُمَرُ يَـحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»)}.
المراد باليمين: تَوثِيقُ الكلامِ بذكرِ مُعظَّمٍ.
والمراد باليَمينِ في اللِّسانِ الشَّرعيِّ: الحَلِفُ بالله تعظيمًا للكلام، وتصديقًا له.
قال: (عَنِ ابْنِ عُمرَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أدْرَكَ عُمرَ بنَ الْخطَّابِ فِي ركْبٍ)، يعني: كان عمر يسير، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وراءه فلحقَهُ.
قال: (وَعُمَرُ يَـحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، كأنَّه قد رفع صوته بذلك.
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»، فيه تحريم الحلف بغير الله، والنَّهي عنها.
{قال: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ، فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ)}.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ» هذا حَلِفٌ بغير الله، والحلف بغير الله ثلاثة أنواع:
 النَّوعُ الأوَّلُ: أن يحلف بغير الله مُعظمًا له، فهذا شركٌ أكبر.
 النَّوعُ الثَّاني: أن يحلف بهذه الأصنام توثيقًا للكلام بدون أن يكون قاصدًا لتعظيم هذه الأصنام، فهذا شرك أصغر لا يَخرج به الإنسان من الملَّة.
 النَّوعُ الثَّالثَ: ما يجري على اللسان، ومِن أمثلته اللغو، ونحوه؛ فهذا أرشد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صاحبه إذا نطق به أن يقول: "لا إله إلا الله"، أي: لا معبود بحقٍّ إلا الله.
وفي هذا: مقابلة السَّيئة بالحسنة حتى تمحُها كما أخبر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: «وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ».
القمار أمرٌ محرمٌ، وهو غُرمٌ محَقَّق وغُنمٌ مشكوكٌ فيه، وقد جاءت النُّصوص بتحريمه، قال تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَï´¾ [المائدة: 90].
ولكن مَن قال لصاحبه: "تَعَالَ أُقَامِرْكَ" باللسان بدونِ أن يقصدَ القِمارَ المنهي عنه في الشَّرع؛ فعليه أن يتصدَّق مِن أجل أن يُوازي ما فعله من قوله لصاحبه: "تَعَالَ أُقَامِرْكَ".
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمِيْنُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «الْيَمِيْنُ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ». رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
قوله: (وَعَنْه)، يعني: عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمِيْنُكَ»، أي: تأكيدُكَ الكلام بالقَسَم يُحمَل ويُفسَّر على ما يُصدِّقكَ به صاحبك، وهذه قاعدة في باب تفسير الألفاظ.
والأصل أنَّ اليَمين تكون على نيَّةِ المخاطَب لا على نيَّة المتكلِّم، ولكن وجدنا في بعض المواطن أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أجاز يمينًا على نيَّةِ المتكلِّمِ لا على نيَّةِ المخاطَب، فقد ورد في الحديث أنَّ عمران بن حصين أقسَم لجماعة يُريدون رجلًا أنَّه ليسَ صاحبَهم، وحلفَ عل ذلك، فحلفَ أنَّه أخوه؛ وهو يقصد أخوة الإسلام؛ فأجاز النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تلك اليمين، فحينئذٍ كيف نجمع؟
بعض الفقهاء قال: في مجلس القضاء على نيَّة المحلوف له، وفي غيره على نية المخاطَب.
وهناك مَن قال: المواطن التي يُقرُّ فيها العدل كمجالسِ القضاء اليمين على نية المحلوف له، وليست على نية الحالف.
وهناك أقوال أخرى في المسألة، ولكن هذين القولين أشهر الأقوال.
وَفِي رِوَايَةٍ: «الْيَمِيْنُ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ»، يعني: على نيَّة الطَّالب لليمين.
أنا آتي لك بمثال: إذا قال: "والله ما لفلان شيءٌ عندي"؛ فحينئذٍ ظاهره النَّفي، وقد يكون يريد الإثبات كأنه يقول: "والله مال فلان شيء عندي"؛ فهو نوى بها معنًى مغايرًا لما قد يفهمه الآخرون.
فحينئذٍ نقول: اليمين على نيةِ الحالف أو على نية المحلوف له؟
نقول: إذا كانَ المحلوفُ له غيرَ ظالمٍ، وهذا المحلوف له ليس في مجلسِ القضاء؛ فحينئذٍ اليمين على نية المحلوف له.
إذن؛ في مجلس القضاء وفي مواطن الظُّلم يكون اليمين على نيَّة المحلوف له، وفي غير ذلك على نية المتكلم الحالف.
وهناك مَن يقول: كل يمين يُخاطَب بها الآخرون الأصل أنَّه إنما يُريد ما ينويه المخاطب هنا.
وَفِي رِوَايَةٍ: «الْيَمِيْنُ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ»، يعني: تُفسَّر بما في نية المستحلف الطالب لليمن.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفظٍ للْبُخَارِيِّ: «فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِيْنِكَ»، وَفي لَفْظٍ: «إِذَا حَلَفْتَ عَلى يَـمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَـمِينِكَ، ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هَوَ خَيْرٌ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَإسْنَادُهُ صَحِيحٌ)}.
قوله: (وَعَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ»)، الإمارة مَنهي عن سؤالها، إلا في أحوالٍ خاصَّة، وما ذاك إلا أنَّ العبدَ المؤمن لا يُريد الرِّفعة لذاتِ الرِّفعَةِ، وإنما يُريدها تأييدًا لدين الله -عز وجل.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ»، أي: أُعطِيتَ الإمارة.
قوله: «وُكِلْتَ إِلَيْهَا»، أي: جعلك الله تعتمد على قدرتك، وحينئذٍ يكون الأمر عليك.
قوله: «وَإِنْ أُعْطِيتَهَا»، أي: كُلِّفتَ بها، وطُلبَ منكَ تولِّيها.
قوله: «عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا»، فإنَّ الله يُعينك عليها.
وفي هذا: الاستعانة بالله -عز وجل- ومشروعيَّة أن يعلِّق الإنسانُ قلبَه بربِّ العزَّة والجلال.
ثم قال: «وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ»، أي: أقسمَت بيمينٍ لتأكيد كلامك.
الإقسام على اليمين قد يكون على أمر ماضٍ، وقد يكون على أمرٍ مستقبل، ونحن نتحدَّث عن الأمر المستقبل، فقال: «وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا»، أي: أفضل وأحسن.
قال: «فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»، أي: خير مما هو موجود عندك.
وبالتالي نعلم أنَّ اليمين لا ينبغي أن تُقدَّس حتى تَمْنع الإنسان مِن فِعل الخير؛ بل فيه طريق للخلاص منها وهو الكفَّارة، وكفارةُ اليمين مَذكورة في قوله تعالى: ï´؟فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ غ– فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ غڑï´¾ [المائدة:89].
وَفِي لَفظٍ للْبُخَارِيِّ: «فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِيْنِكَ»، هل يقدم التكفير أو الحنث؟
الظَّاهر أنه لا حرج في الأمرين، وكلاهما ورد في الخبر.
وَفي لَفْظٍ: «إِذَا حَلَفْتَ عَلى يَـمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا»، أي: أفضل وأحسن عند الله -جلَّ وعَلا.
قال: «فَكَفِّرْ عَنْ يَـمِينِكَ»، أي: ادفع كفارة اليمين بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة.
قال: «ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هَوَ خَيْرٌ»، الخلاف الذي بين هذه الرِّواية والرِّواية التي قبلها أيهما يقدم؛ الحنث أو الكفارة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفْظُهُ وَحَسَّنَهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه وابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْلَمُ أحَدًا رَفَعَهُ غَيرَ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَابَعَهُ أَيُّوبُ بنُ مُوسَى عَنْ نَافِعٍ)}.
أيوب السختياني مرَّةً يرفع هذا الخبر، ومرة يقف فيه، وبالتَّالي وقع التَّردُّدُ في إسناد هذا الخبر، والجمهور على أنَّ هذا الخبر جيد الإسناد، ولكن بعضهم حَكَمَ بأنَّه مَوقوف وليس مَرفوعًا.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ»، فيه أنَّ الاستثناء مِنَ اليَمين مُؤثِّر ونافع.
وقوله: «فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ»، أي: لا تجب عليه كفارة اليمين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (كِتَابُ اللِّعَانِ
عَنْ سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قَالَ: سُئِلْتُ عَنِ المتلاعِنَينِ فِي امْرَأَةِ مُصْعَبٍ، أَيُفَرَّقُ بَينَهُمَا؟ فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ، فَمضَيْتُ إِلَى مَنْزِلِ ابْنِ عُمَرَ بِمَكَةَ، فَقُلْتُ للغُلامِ: اسْتَأْذِنْ لي، قَالَ: إِنَّهُ قَائِلٌ، فَسَمِعَ صَوتِي، قَالَ: ابْنُ جُبَيرٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: ادْخُلْ فوَاللَّهِ مَا جَاءَ بَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا حَاجَةٌ، فَدَخَلْتُ فَإِذا هُوَ مُفْتَرِشٌ بَرْذَعَةً، مُتَوَسِّدٌ وِسَادَةً حَشْوُها لِيفٌ، قُلْتُ: أَبَا عَبدِ الرَّحْمَنِ، الـمُتَلاعِنَانِ أيُفرَّقُ بَينَهُمَا؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، نَعَمْ، إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فلَانُ بنُ فلَانٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَو وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيفَ يَصْنَعُ؟ إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتْ عَلَى مِثْل ذَلِكَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يُجِبْهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتُلِيْتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ: ï´؟وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْï´¾ [النور:6] فَتَلَاهُنَّ عَلَيْهِ وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ، وَأَخْبَرهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ منْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا، ثمَّ دَعَاهَا فَوَعَظَهَا وَذَكَّرَهَا، وأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ منْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، قَالَتْ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ، فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّه لـَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، ثمَّ ثنَّى بِالْمَرْأَةِ فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَـمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَة أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِيْنَ، ثمَّ فَرَّقَ بَينَهُمَا. رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
اللعان: قيل هي أيمان تكون بين الرجل وامرأته بعد قذف الرَّجلُ لامرأته، من أجل درء حد القذف عنه.
قال سعيد بن جبير: (سُئِلْتُ عَنِ المتلاعِنَينِ)، الزَّوج يتهم زوجته بفعل الفاحشة، فيتلاعنون ويُفرَّق بينهما.
قال: (سُئِلْتُ عَنِ المتلاعِنَينِ فِي امْرَأَةِ مُصْعَبٍ، أَيُفَرَّقُ بَينَهُمَا؟ فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ، فَمضَيْتُ إِلَى مَنْزِلِ ابْنِ عُمَرَ بِمَكَةَ)، فيه مُراجعة أهل العلم، والتنقل من بلد إلى بلد مِن أجل مَسألة فقهيَّة واحدة.
قال: (فَقُلْتُ للغُلامِ: اسْتَأْذِنْ لي)، أي: على ابن عمر، وفيه الاستئذان قبل الدخول.
قال: (قَالَ: إِنَّهُ قَائِلٌ)، أي: قد نام نَومة الظُّهر.
قال: (فَسَمِعَ صَوتِي)، أي أن ابن عمر سمع صوت سعيد بن جبير.
قوله: (قَالَ: ابْنُ جُبَيرٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: ادْخُلْ فوَاللَّهِ مَا جَاءَ بَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا حَاجَةٌ)، أي: هناك سبب يجعلك تقدم في مثل هذه الساعة.
قال: (فَدَخَلْتُ فَإِذا هُوَ مُفْتَرِشٌ بَرْذَعَةً)، البرذعة: هي ما يوضع على ظهر الدابة من حمارٍ ونحوه.
قال: (مُتَوَسِّدٌ وِسَادَةً حَشْوُها لِيفٌ، قُلْتُ: أَبَا عَبدِ الرَّحْمَنِ)، أبو عبد الرحمن هو عبد الله بن عمر.
قوله: (الـمُتَلاعِنَانِ أيُفرَّقُ بَينَهُمَا؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، نَعَمْ)، أي: يُفرَّق بينهما.
قال: (إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فلَانُ بنُ فلَانٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَو وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيفَ يَصْنَعُ؟ إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتْ عَلَى مِثْل ذَلِكَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يُجِبْهُ)، أي: أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينتظر الوحي.
قوله: (فَلَمَّا كَانَ بَعدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتُلِيْتُ بِهِ)، وفي هذا أن الإنسان لا يفرض الفروض الباطلة المزيفة، والمعنى: أنَّ الذي سألتك عنه قد وقع لي في أهل بيتي.
قال: (فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ: ï´؟وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْï´¾ [النور:6]، فَتَلَاهُنَّ عَلَيْهِ وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ)، تلا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الرجل الذي يُرلد منه اللعان.
قال: (وَأَخْبَرهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ منْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا)، أي: لن يُثنيني كلامكَ عمَّا أنا عليه.
قال: (ثمَّ دَعَاهَا)، يعني دعا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المرأة.
قوله: (فَوَعَظَهَا وَذَكَّرَهَا، وأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ منْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، قَالَتْ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ) كأنها تقول: لا تصدقه.
قوله: (فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ)، أي: يطلب منه أيمان اللعان.
قوله: (فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّه لـَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
هنا إشكال: هل اللعان شهادة أو يمين؟
موطن خلاف بينهم.
قال: (ثمَّ ثنَّى بِالْمَرْأَةِ)، فيه أنَّ الرجل هو الذي يُبدأ به في اللعان.
قال: (فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَـمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَة أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِيْنَ، ثمَّ فَرَّقَ بَينَهُمَا).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلمُتَلاعِنَيْنِ: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيْلَ لَكَ عَلَيْهَا» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَالِي؟ قَالَ: «لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتُ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمتلاعنين: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيْلَ لَكَ عَلَيْهَا»، هذا فيه موعظة الخصوم قبل الحكم، والنظر في قضاياهم، وفيه التذكير بمراقبة الله -جلَّ وعَلا- ومحاسبته للعبد على أعماله.
فقال الرجل: (يَا رَسُولَ اللهِ، مَالِي؟)، يعني لما انتهى اللعان، قال الرجل: أعطوني مالي الذي أعطيتها إيَّاه من مهرٍ ونحوه.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتُ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا»، فيه أنَّ اللعان لا يُردُّ فيه المهر.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَلَهُ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَئَلْتُ أَنَسَ بنَ مَالكٍ -وَأَنا أُرَى أَنَّ عِنْدَهُ مِنْهُ عِلْمًا- فَقَالَ: إِنَّ هِلَالَ بنَ أُميَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بنِ سَحْمَاءَ، وَكَانَ أَخَا الْبَراءِ بنِ مَالكٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَ أَوَّلُ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَلَاعَنَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبِطًا قَضِئَ الْعَينَيْنِ، فَهُوَ لهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ» قَالَ: فَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ أكَحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ)}.
قوله: (وَلَهُ)، يعني: للإمام مسلم.
قوله: (عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ)، يعني: محمد بن سيرين.
قَالَ: (سَئَلْتُ أَنَسَ بنَ مَالكٍ -وَأَنا أُرَى)، يعني: أظن وأعتقد.
قوله: (أَنَّ عِنْدَهُ مِنْهُ عِلْمًا)، فيه أنَّ الإنسان لا يَسأل إِلا مَن غَلَبَ عَلى ظَنِّه أنَّ ذلك المسؤول عِنده عِلم من المسألة.
فَقَالَ: (إِنَّ هِلَالَ بنَ أُميَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بنِ سَحْمَاءَ، وَكَانَ أَخَا الْبَراءِ بنِ مَالكٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَ أَوَّلُ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَلَاعَنَهَا)، فيه جواز اللعان.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْصِرُوهَا»، أي: تابعوها بعد ولادتها.
قال: «فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبِطًا قَضِئَ الْعَينَيْنِ»، أي: أن عيناه فاسدتان «فَهُوَ لهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ»
قال: «وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ»، أي: الذي اتُّهِمَت به، فنظر إلى صفات البدن.
قوله: (فَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ أكَحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ)، يعني على الوصف المكروه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ رَجُلًا -حِينَ أَمَرَ الـمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يَتَلاعَنا- أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ وَقَالَ: «إِنَّهَا مُوجِبَةٌ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ)}
هذا الحديث فيه وضع الأيدي بحيث لا تُحرَّك عن وجود اللعان، وقال: «إِنَّهَا مُوجِبَةٌ»، يعني: أنَّ هذه الخامسة مُوجبة للأثر المترتب على اللعان.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ شهَابٍ، عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ: أَنَّ عُوَيـْمِرًا الْعَجْلَانيَّ أَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَطَ النَّاسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أمْ كَيفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ نَزَلَ فِيْكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا» قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنا، وَأَنا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا فَرَغَا -مِنْ تَلاعُنِهِما- قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ أَنَا أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ المتلاعِنَينِ، وَفِي رِوَايَةٍ: ذَلِكَ التَّفْرِيقُ بَينَ كُلِّ مُتَلَاعِنَينِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
أورد المؤلف هنا هذا الحديث وهو في الصحيحين (عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ: أَنَّ عُوَيـْمِرًا الْعَجْلَانيَّ أَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَطَ النَّاسِ)، يعني: يسأله، وهذا سؤال مُلفت لوجود جمع الناس.
فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أمْ كَيفَ يَفْعَلُ؟)، في هذا مشروعية القصاص في القتل.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ نَزَلَ فِيْكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ»، يعني: نزل قرانٌ يُتلَى.
قال: «فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا»، يعني: ائت بالمرأة.
قَالَ سَهْلٌ: (فَتَلَاعَنا)، أي: كلٌّ من الزوج والزوجة.
قال: (وَأَنا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلاعُنِهِما قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ أَنَا أَمْسَكْتُهَا)، يعني: يريد أن يُطلقها.
قال: (فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ المتلاعِنَينِ).
هذه أحكام مما يتعلق باللعان، وما يترتب عليه من الآثار، ولعلنا نرجئ البحث في بعض آثاره لأيامٍ قادمة، بارك الله فيكم جميعًا، وفقكم لكل خير، وجعلنا الله وإيَّاكم مِنَ الهُداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-25, 13:55   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الْمُحَرِرُ فِي الْحَديِثِ (4)
الدَّرسُ السَّابعُ (7)
معالي الشيخ / سعد بن ناصر الشثري
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور: سعد بن ناصر الشَّثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
الله يبارك فيك، أهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بأحبَّتي المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يرزقنا وإيَّاهم علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، ونيَّةً صادقةً.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- في باب "لَحَاقِ النَّسَبِ" من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَليَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ: «أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامُ لَمِنْ بَعْضٍ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ بِثَلَاثَةٍ، وَهُوَ بِاليَمَنِ، وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ اثْنَيْنِ: أَتُقِرَّانِ لهَذَا بِالْوَلَدِ؟ قَالَا: لَا, حَتَّى سَأَلَهُمْ جَمِيعًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ قَالَا: لَا, فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالَّذِي صَارَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَي الدِّيَةِ، قَالَ: فَذُكِرَ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ ماجَه، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَزمٍ، وَابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيرُهمَا، وَقَدْ أُعِلَّ, وَقَالَ أَحْمدُ: "هُوَ حَدِيثٌ مُنكَرٌ"، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الحَدِيثِ فاضْطَرَبُوا، وَرَوَاهُ الْحُمَيدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَفِيه: وَأَغْرَمَهُ ثُلُثَي قِيمَةِ الْجَارِيَةِ، وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا. وَاللهُ أَعْلَمُ)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فإنَّ الشَّريعة المباركة تحرصُ على إيجاد الرَّوابط التي تكونُ بينَ النَّاس، لتكون سببًا من أسبابِ تعاونهم، وقيامِ بعضهم مع بعضهم الآخر، ولذا قال تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواï´¾ [الحجرات: 13]، وقد جاء بإثباتِ الأنسابِ التي يترتَّب عليها كثيرٌ من الأحكامِ، سواءً فيما يتعلَّق بالمحرميَّة، أو ما يتعلَّق بالميراثِ، أو ما يتعلَّق بالكشف والولاية، ونحو ذلك مِن الأحكام، ومن هنا جاءت النُّصوص بالتَّحذيرِ من الانتسابِ إلى غير مَن يصح إليه الانتساب، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ملعونٌ من انتسب إلى غير آبائه» .
وإذا تقرَّرَ هذا فإنَّ الشَّريعة قد جعلت لإثبات الأنساب أبوابًا محدَّدةٌ، وهما: بابان يجمعهما شيءٌ واحد:
الباب الأوَّل: الفراش، فإذا كانت المرأة فراشًا للرجل يجوز له شرعًا وطؤها، فإنَّه يثبت نسب أولادها له، وهذا له وجهان:
* الأوَّل: الزَّواج، فإنَّ مَن تزوَّج بامرأةٍ ودخل بها، فإذا جاءت بولدٍ لستَّةِ أشهرٍ فما فوق فإنَّه يُنسب هذا الولد لصاحب الفراش، ويبقى هذا الفراش حتى بعد الوفاة وبعد الفرقة التي بين الزَّوجين، وقيل إنَّ هذا يثبت إلى أكثر مدَّة الحمل على اختلاف بين الفقهاء في تقدير مدَّة أكثر الحمل.
* الثَّاني: الإماء، فإذا كان عند الرَّجل أمة مملوكة يتسرَّاها؛ فإنَّة حينئذٍ يثبت النَّسب لولد تلك الأمة لسيدها، وهناك أحكام تفصيليَّة في مثل ذلك.
الباب الثَّاني: الوطء بشبهةٍ؛ فإذا كان هناك وطءٌ من الرَّجل لامرأة بشبهةٍ يظنُّ أنَّه يحلُّ له وطؤها؛ فإنَّه يثبت النَّسب حينئذٍ.
ومن أمثلة ذلك: ما لو دخل على امرأةٍ يظن أنها زوجته فوطئها فحملت منه؛ فحينئذٍ نقول: إنَّ هذا وطء بشبهةٍ، وبالتَّالس يثبت به النَّسب.
وإثبات الفراش يكون بالبيِّنة المعدَّة لها شرعًا؛ فمتى شهد اثنان بأنَّ هذه المرأة فراش لفلان ثبت به النَّسب.
وقد يسأل إنسان عن تطبيق الأشياء الجديدة فيما يتعلَّق بإثبات النَّسب، ومن ذلك تحليل الدم لمعرفة نوع الفصائل، ومعرفة الجينات، والكروموسومات، وتحليل ما يسمونه بـالحمض النَّووي (dna) ومثل هذا لا يُستَعمَل إلا عند وجود اللَّبسِ، أمَّا إذا كانت المرأة فراشًا لرجلٍ؛ فالأصل إثبات النَّسب، ويدلُّك على ذلك أنَّ الرجل قد يطأ امرأة بزنا؛ فالشَّرع لا يثبت النَّسب في هذه الحال، لأنَّ الوطء لم يكن لامرأة هي فراش للرجل ولا شُبهة في ذلك الوطء، ومع أنَّ هذا الولد تكوَّنَ من ماء ذلك الرَّجل إلا أنَّه شرعًا لا يُنسَب إليه.
إذا تقرَّرَ هذا؛ فإنَّه عند وجودِ شكٍّ أو شُبهةٍ، أو إذا كان الرَّجل قد جاءه الشَّيطان وبدأ يستجيب له في اتِّهام المرأة؛ فحينئذٍ إذا طَلبَ الزَّوجان إجراء التَّحليل ليورثهما القناعة، وليوقف ما قد يكون من لعانٍ ونحوه؛ فهذا لا بأسَ به، وبه يطمئن كلٌّ من الزَّوجين وتستقر الحلة الزَّوجيَّة.
هناك طريقان ذكرا في هذه الأحاديث:
أولهما: طريق القَافة، وهؤلاء القافة يعرفون تشابه أعضاء البدن ما بين شخصٍ وآخر، وعندهم من الدِّقة في النَّظر ومعرفة الفروق ما يجعلهم يعرفون الأقدام المتقاربة، وقد يحكمون بأنَّ هذين الشَّخصين بينهما قرابة أبوَّة أو قرابة أخوَّة أو نحو ذلك، ولا زال هؤلاء إلى وقتٍ قريبٍ ونحن نعرفهم، ولهم أشياء غريبة عجيبة يعرفون بها خصائص بعضَ النَّاس.
ووجدنا في وقتنا الحاضر مَن يتمكن من الكشف على الآخرين بمعرفة أقدامهم وبفحصها، فإذا كان ذلك في الكشف الطبِّي؛ فلا يبعد أن يكون مثله في معرفة الأثر ومعرفة وجه القرابة.
والقول بإثبات النَّسب بناء على القَافة هو قول جماهير أهل العلم، ويستدلُّون عليه بحديث عائشة المتفق عليه.
قالت عائشة: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَليَّ مَسْرُورًا)، وسروره وغطبته دليلٌ على إقرار الحكم الآتي، وهو إثبات النَّسب بناء على القافة.
قالت: (تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ)، وفي هذا سرور المؤمن بالخير، وبإزالة الإشاعات الكاذبة، فإنَّ الإشاعات الكاذبة يتبنَّاها النَّاس الذين تضعف ديانتهم، وبالتَّالي يبدؤون يطعنون في فلانٍ وفلانٍ، وكان زيد بن حارثة ذا سحنةٍ قريبةٍ من البياضِ، ولكنَّه تزوَّج بأم أيمن مرضعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكانت سوداء، فجاءت له بأسامة بن زيد وكان أسامة أسودًا، ولذلك تكلَّم مَن تكلَّم في نسبِ أسامة بن زيد، وبدأ بعضُ المنافقين يطعن فيه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من جهةِ نسبه لاختلاف اللون بينه وبين أبيه، فجاء مجزز المدلجي، وهو ممَّن يُعرَف بقصِّ الأثرِ وله خبرة في القيافة؛ فقال: (إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامُ لَمِنْ بَعْضٍ)، يعني أنها شبيه بعضها ببعضها الآخر؛ وكانوا قد وضعوا رداءً يغطي وجوههما، وكانت أقدامهم فقط هي البادية الظَّاهرة لمن يشاهدهم.
فقال مجزِّز: (إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامُ لَمِنْ بَعْضٍ)، وهذا فيه إشارة إلى وجود الشَّبه الكبير بينَ هذه الأقدام.
وأخذ جمهور العلماء من هذا أنَّ مَن خفيَ نَسبُه ولم يُعرَف فراشه فلا بأسَ أن يُعتَمدَ على قولِ القافة فيه.
ثم أورد المؤلِّف حديث زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وهو حديث قد صحَّحه جماعة، وأعلَّه آخرون، وسبب الإعلال: أنَّ إسناده قد وقعَ الاختلاف فيه والاضطراب، فمرَّة يروونه عن الشَّعبي عن عبد خير عن زيد بن أرقم، ومرة يروونه عن الشَّعبي عن عبد الله بن أبي الخليل عن زيد بن أرقم، ومرة عن عبد الله بن الخليل عن علي موقوفًا؛ ولذلك تكلَّمَ كثيرٌ من أهل العلم في هذا الإسناد فقالوا: إنَّه إسنادٌ مضطرب، ولم يقع اتِّفاق على اسم راويه بينَ بين الرُّواة. ولذلك قال الإمام أحمد: "هو حديثٌ منكرٌ". ولعلَّه قد وصل إلى مَن بعدَه طرائق وأسانيد تُظهر الإسناد الصَّحيح في هذا الخبر.
ثم قَالَ: (أُتِيَ عَلِيٌّ بِثَلَاثَةٍ، وَهُوَ بِاليَمَنِ)، كان علي في اليمن، وكان له ولاية قضاء بأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ)، الظَّاهر أن ذلك كان بشبهةٍ، أو كانوا قبل الإسلام.
قال: (فَسَأَلَ اثْنَيْنِ: أَتُقِرَّانِ لهَذَا بِالْوَلَدِ؟ قَالَا: لَا, حَتَّى سَأَلَهُمْ جَمِيعًا), في هذا دلالة على أنَّ إقرار الوالد بنسبِ ابنه يثبتُ به النَّسب، خصوصًا إذا لم يوجد له منازع.
قال: (فَجَعَلَ كُلَّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ قَالَا: لَا. فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ)، وفيه دلالة على جوازِ استعمال القرعة عند الاختلاط في الأنساب، وبذلك قال الجمهور خلافًا للحنفيَّة.
قال: (فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالَّذِي صَارَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ)، أي: الذي سقطت عليه القرعة.
قال: (وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَي الدِّيَةِ)، وذلك لأنَّ هذا الولد يدَّعيه ثلاثة، وبالتَّالي لو كان له دية لثبتت للثَّلاثة جميعًا، لكلِّ واحدٍ منهم ثلث ديةٍ، فلمَّا أخذَ أحدُ الثَّلاثة الولد كان للاثنين الباقين ثلث الدية لكل واحد منهم، بحيث يدفع الأول لكل واحدٍ من الاثنين ثلث الدِّية.
قال: (فَذُكِرَ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضَحِكَ)، فيه نقل الأخبار العامَّة، وفيه أنَّ النَّبي قد يُقر على الأحكام بسكوتِهِ وعدمِ اعتراضه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابُ العِدَدِ
عَنْ قَبِيْصَةَ بنِ ذُؤَيْبٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ قَالَ: "لَا تُلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبيِّنَا، عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ، إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا، أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ". رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ ماجَه, وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ"، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: قَبِيصَةُ لمْ يَسْمَعْ منْ عَمْرٍو, وَالصَّوَابُ : "لَا تَلْبِسُوا عَلَينا دِيْنَنَا"، مَوْقُوفٌ، وَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ.
وَعَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ سُبِيْعَةَ الأسْلَمِيَّةِ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوجِهَا بِليَالٍ فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ، فَأَذِنَ لَهَا فَنَكَحَتْ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "أُمِرَتْ بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَقَدْ أُعِلَّ .
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -رَضِيَ اللهَ عَنْها- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الـمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا, قَالَ: «لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ» .
وَعَنْ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلاثًا وَأَخَافُ أنْ يُقْتَحَمَ عَليَّ، قَالَ: فَأَمَرَها فَتَحَوَّلَتْ. رواهُمَا مسْلمٌ .
وَعَنْ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكِ بنِ سِنَانٍ، وَهِي أُخْتُ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَسْأَلُهُ أَنْ تَرجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَني خُدْرَةَ، وَأَنَّ زَوجَهَا خَرجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إِذا كَانَ بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُم فَقَتَلُوهُ, قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، فَإِنَّ زَوْجِي لم يَتْرُكْ لِي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةً, قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ -أَو فِي الْمَسْجِدِ- نَادَانِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -أَو أَمَرَ بِي، فَنُودِيتُ لَهُ- فَقَالَ: «كَيْفَ قُلْتِ؟» قَالَتْ: فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوجِي، قَالَ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ», قَالَتْ: فاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أرسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ ماجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ وَصَحَّحَهُ, وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ الذُّهْلِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيرُهُم، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ حَزْمٍ بِلَا حُجَّةٍ .
وَعَنِ ابْنِ جَريْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابرَ بنَ عَبدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: طُلِّقَتْ خَالَتِي فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَها فَزَجَرَها رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ, فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «بَلَى فَجُدِّيْ نَخْلَكِ، فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَّدَّقِيْ أَوْ تَفْعَلِيْ مَعْرُوفًا» رَوَاهُ مُسْلمٌ .
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصَبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَّسُ طِيْبًا إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ.
وَلَأبي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: «وَلَا تَخْتَضِبُ» وَللنَّسَائِيِّ «وَلَا تَمْتَشِطُ»)}.
هذه الأحاديث التي ذكر المؤلف في كتاب العِدَدِ.
والمراد بالعدَّة: مدَّة الانتظار.
والنِّساء ذوات العدد على أنواع متفرقة:
أولًا: الحامل: عدَّتها بوضع حملها.
ثانيًا: المتوفَّى عنها غير الحامل تعتدُّ بأربعة أشهرٍ وعشرًا، لقول الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًاï´¾ [البقرة: 234].
ثالثًا: المطلَّقة غير الحامل ذات القروء، فعدَّتها بثلاثة قروء.
رابعًا: المطلَّقة التي ليست بحاملٍ وليست من ذوات الأقراء، فعدتها بثلاثة أشهر.
خامسًا: المرأة التي ارتفعَ حيضُها بسببٍ لا تعلم ما هو، فإنَّها تنتظر سنةً كاملة.
هذا ملخَّص أحكام العدد، وقد ذكر المؤلف عددًا من الأحكام المتعلقة بهذا.
أولها: ما رواه قَبِيْصَةُ بنِ ذُؤَيْبٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ قَالَ: (لَا تُلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبيِّنَا)، يعني لا تخلطوا علينا بحيث لا نميِّز سنَّة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ)، أم الولد هي التي وطئها سيدها فجاءت منه بولدٍ، والولد يُنسَب للسَّيدِ، وهو من أولاده؛ لأنَّها فراشٌ للسَّيد، ولكن أمه تبقى كونها مملوكة حتى يموت السَّيد، فإذا مات لزمتها العدَّة وتصبح حرَّة، وليس لها من الميراث شيءٍ.
قال: (عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا، أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ)، فماثل بين عدَّة أم الولد وعدَّة الزوجة المتوفَّى عنها غير الحامل، وكما هو منطوق الآية التي ذكرت قبل قليل.
وأمَّا الأمة المملوكة فإنَّها تعتدُّ بنصف عدَّة الحرَّة، فتعتدُّ بشهرين وخمسة أيام.
ثم أورد الكلام في إسناد الخبر فقال: (وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ)، وقال إن الدَّاقطني شكَّ في سماع قبيصةَ من عمرو بن العاص، وقال: إن الصَّواب أنَّ هذا اللفظ موقوف على الصَّحابي، وليس مرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال المؤلف: (وَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ)، كأنه لم يُسلِّم بقول الدارقطني.
ثم أوردَ المؤلف حديث المِسْوَر بْنِ مَخْرَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَنَّ سُبِيْعَةَ الأسْلَمِيَّةِ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوجِهَا بِليَالٍ)، يعني لم توفي زوجها ولدت بعده بليالٍ قريبةٍ.
قال: (فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي تساله وتستفتيه، وفيه جواز سؤال العالم واستفتائه.
قال: (فاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ)، أي تتزوج، وكأنها تقول: هل لا زلتُ في العدَّة أو لا؟
قال: (فَأَذِنَ لَهَا فَنَكَحَتْ)، وفي هذا دلالة على أنَّ ذات الحمل انتهاء عدَّتها يكون بوضع الحمل، ولو وضعته في أيامٍ قليلة بعد وفاة الزَّوج.
وفي هذا دلالة على أنَّ قوله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّï´¾ [الطلاق: 4]، غير مخصوص بالآية الأخرى التي في قوله: ï´؟وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًاï´¾ [البقرة: 234].
قال: (فاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ، فَأَذِنَ لَهَا)؛ لأنَّها قد انتهت عدتها.
ثم أورد من حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: (أُمِرَتْ بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ)، بريرة مملوكة وزوجها مملوك، فأُعتقَت بريرة، وكما تقدَّم أنَّ المملوكة إذا أُعتقَت يكون لها الخيار بأنْ تبقى على زوجيتها مع زوجها المملوك أو لها فسخ العقد، وفسخ العقد يترتَّب عليه أنَّ المرأة عليها عدَّة، مثل فسخ عقد الزوجيَّة ومسائل الخُلع، فالمفارقة في الخُلع عِدَّتُه مِن ظاهر هذا الخبر ثلاث حِيَض، وظاهر إسناد الخبر أنَّه إسناد جيد قوي.
وإذا قال الصَّحابي "أمرنا" أو "أمرت" فإنَّه يُحمَل على أمر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهذا فيه دلالة أنَّ مَن فُسِخَ نكاحها تعتدّ بثلاث حِيَضٍ، وهذا قول الحنابلة والشَّافعيَّة وجماعة.
وبعض أهل العلم قال: يكفيها حيضة واحدة، لأنَّ المقصود التحقُّق من براءة الرَّحم، وقد حصلَ لها ذلك. ولكن لازال الناس على القول بأنها تعتد بثلاث حيض.
ثم أورد المؤلف من حديث الشَّعبي عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -رَضِيَ اللهَ عَنْها-، وفاطمة بنت قيس طُلِّقَت ثلاثًا على عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال لها النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ»، فهنا نفى أن يكون لها سُكنَى بعدَ الطَّلاق، وهذا في المطلَّقة ثلاثًا.
فإذا طُلِّقَت المرأة ثلاثًا:
قال أحمد: ليس لها سُكنَى ولا نفقة.
وقال أبو حنيفة: لها سكنى ونفقة، لعموم آيات المطلَّقات، وقال: إنَّ الخبر السَّابق خبر آحاد، فلا يصح أن يخصص به اللفظ القرآني.
وبعضهم قال: يكون لها السُّكنَى ولا يكون لها النَّفقة.
ولعلَّ القول الأوَّل أظهر، لأنَّه ظاهر هذا الحديث، وفي هذا نفي أن يكون للمطلَّقةِ ثلاثًا سُكنَى أو نفقة على الزَّوج.
ثم أورد المؤلف من حديث عروة عن فاطمة بنت قيس -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلاثًا)، استدلَّ به من يقول بجواز إيقاع الطَّلقات الثَّلاث في لحظةٍ واحدةٍ كما هو مذهب الإمام الشَّافعي.
وفيه أيضًا نفي السُّكنَى والنَّفقة، وقد تقدَّمَ أنَّ الحنفيَّة يُخالفون، وأنَّ المالكيَّة والشَّافعيَّة يُثبتون لها السُّكنَى ولا يُثبتون لها النَّفقة، وهناك بعض فقهاء بعض فقهاء الظَّاهريَّة عَكَسَ.
قالت: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلاثًا، وَأَخَافُ أنْ يُقْتَحَمَ عَليَّ)، يعني يأتيها لصوص يقتحمون البيت عليها، لأنَّها مطلَّقة وليس عندها رجل.
قَالَ: (فَأَمَرَها فَتَحَوَّلَتْ)، يعني تحوَّلت من مكانٍ إلى مكانٍ آخر خشيةً من أن يُقتَحَمَ عليها.
بعض الفقهاء استدلَّ بهذا الحديث على إيقاع الطَّلقات الثَّلاث بلفظٍ واحدٍ، وهذا قول الجماهير خلافًا لبعضِ التَّابعين، وهو رواية عن أحمد باعتبار الطَّلقات الثلاث المجموعة في لفظٍ واحدٍ لا تُحتَسبُ إلَّا طلقةً واحدة.
وفي هذا دلالة على أنَّ المطلقة لا يجب لها السُّكنَى.
ثم أورد من حديث فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكِ بنِ سِنَانٍ، وَهِي أُخْتُ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَسْأَلُهُ أَنْ تَرجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَني خُدْرَةَ)، بني خدرة قبيلة لهم مواطن، وذلك أنَّ الفريعة توفي زوجها، وقد فسَّرت ذلك فقالت: (وَأَنَّ زَوجَهَا خَرجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا)، يعني مماليك هربوا من عنده (حَتَّى إِذا كَانَ بِطَرَفِ الْقَدُومِ)، القدوم مكان يجلسون فيه.
قالت: (لَحِقَهُم فَقَتَلُوهُ)، يعني أنه وجدهم في هذا المكان، فتمكَّنوا من قَتْلِ سيِّدهم.
قَالَتْ: (فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي)، الآن هي متوفَّى عنها زوجها، وفيه دلالة على أنَّ الأصل أنَّ المتوفَّى عنها أن تبقَى في بيت الزَّوجيَّة، ولا يجوز لها أن تخرج منه.
قالت: (فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي)، يعني أترك واجب المكث في البيت وقت الإحداد.
قالت: (فَإِنَّ زَوْجِي لم يَتْرُكْ لِي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةً, قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ»، قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ -أَو فِي الْمَسْجِدِ- نَادَانِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -أَو أَمَرَ بِي، فَنُودِيتُ لَهُ- فَقَالَ: «كَيْفَ قُلْتِ؟» قَالَتْ: فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوجِي، قَالَ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»)، فيه إيجاب أن تبقى المتوفَّى عنها في بيت الزَّوجيَّة بعدَ وفاةَ زوجها حتى تنتهي عدَّتُها.
قَالَتْ: (فاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)، لأنَّها متوفَّى عنها غير حاملٍ، فتعتد أربعة أشهرٍ وعشرًا.
قَالَتْ: (فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أرسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ)، أي اتبع ذلك وقضى به عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وفي هذا دلالة على أنَّ المتوفَّى عنها تعتدّ بأربعة أشهرٍ وعشرة أيَّامٍ.
وفيه: إرسال القُضاة وأصحاب الولاية للنَّاس من أجلِ أن يبلِّغوهم بالأحكام، وهذا يستفاد من قولها: (فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أرسَلَ إِلَيَّ)، فهذا هو ظاهر هذا الخبر.
{قال المؤلف: (عَنِ ابْنِ جَريْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابرَ بنَ عَبدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: طُلِّقَتْ خَالَتِي فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَها فَزَجَرَها رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ, فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «بَلَى فَجُدِّيْ نَخْلَكِ، فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَّدَّقِيْ أَوْ تَفْعَلِيْ مَعْرُوفًا» رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
هذا الحديث مِن رواية ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، وابن جريج يُتهم بالتَّدليس، مثله أبو الزُّبير، ولكنَّهم صرَّحوا هنا بالسَّماع، فيكون الخبر صحيحًا متَّصلًا.
قال: (طُلِّقَتْ خَالَتِي فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَها)، يعني: تقطع عذق النخل بعد نضج التمر على النخل.
قال: (فَزَجَرَها رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ)، يقول لها: كيف تخرجين وأنتِ ما فارقتِ زوجكِ إلَّا قريبًا.
قال: (فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «بَلَى فَجُدِّيْ نَخْلَكِ»)، أي: اقطعي عذقه بحيث تأخذين تمرته، وذلك لأنَّها مطلَّقة، والمطلَّقة ليس عليها حداد بخلاف المتوفَّى عنها.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَّدَّقِيْ أَوْ تَفْعَلِيْ مَعْرُوفًا»، أي تتمكَّني من الصَّدقة بذلك العذق.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصَبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَّسُ طِيْبًا إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ».مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ. وَلَأبي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: «وَلَا تَخْتَضِبُ» وَللنَّسَائِيِّ «وَلَا تَمْتَشِطُ»)}.
هذا الحديث فيه حكمان:
الأول: أنَّ المرأة المحادَّة تُحادُّ أربعةَ أشهر وعشرة أيام، ولا يجوز لها أن تُحادَّ إلا على الزَّوجٍ، وأمَّا مَن عدا الزَّوج فإنَّه لا تُحادَّ عليه أكثر من ثلاثة أيَّام.
الثَّاني: هو وجوب الإحداد على المتوفي عنها في وقت العدَّة.
ويجمع الإحداد ثلاثة أشياء:
- الزِّينة.
- الطِّيب.
- الخروج من المنزل.
فالمرأة المحادَّة لا تفعل هذه الأشياء، وقد مثَّلَ لها في قوله: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا»، لأنَّ هذا من الزِّينة والجمال، والمرأة المُحادَّة منهيَّة عن التَّزيُّن والجمال.
قال: «وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصَبٍ»، ثياب العصب هي نوع من أنواع الثِّياب أو البُرود اليمانيَّة، ومن خاصِّيتها أنَّ اللون فيها من ذاتِ قِماشها وصُوفها، وليست ممَّا صُبِغَ.
قال: «وَلَا تَكْتَحِلُ»، الكُحل نوعٌ من أنواعِ الزِّينة المنهيَّة عنها المحادَّة.
قال: «وَلَا تَمَّسُ طِيْبًا»، "طيب" هنا نكرة في سياق النَّفي، فتفيد أنَّه لا يجوز لها أن تمسَّ شيئًا من الطِّيب ولو كانَ قليلًا.
قال: «إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ»، القسط والأظفار نوعٌ من أنواعِ الطِّيب، وفي الغالب أنَّهم يُبخِّرونَ به أهلَ البيتِ والنِّساء والأطفال ونحو ذلك.
والنبذة: هي القطعة اليسيرة، وهذا فيه استثناءُ هذا الأمرِ بالنِّسبَة للمحادَّة، فما كان فيه روائح عطريَّة فإنَّ المرأة المحادَّة تُمنَع منه، وما فيه روائحٌ طيِّبَةٌ ونُكهٌ جيِّدةٌ ولكنَّها ليست روائحَ عطريَّة فإنَّها لا حرج عليها في استعماله، مثل رائحة البرتقال والتُّفاح ونحوه.
باركَ الله فيكَ ووفَّقكَ الله للخيرِ، وجزاكَ الله خيرًا، وأسألُ الله -جلَّ وعلا- للمشاهدين الكرام أن يُوفَّقوا، وأن يُعانُوا على الخير، وأن يَسعدوا في دنياهم وآخرتهم، وأن يُصلح الله ذَراريهم، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-25, 13:55   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الْمُحَرَّرُ فِي الْحَديِثِ (4)
الدَّرسُ الثَّامن (8)
معالي الشَّيخ/ سعد بن ناصر الشثري
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور: سعد بن ناصر الشَّثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
باركَ الله فيكَ، أهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بأحبَّتي المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يستعملنا وإيَّاهم في طاعته، وأن يبارك لنا ولهم في جميع أمورنا وشؤوننا.
{نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- كتاب "الرَّضاع" من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ».
وعَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ منَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَعَنْها: أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالماً مَوْلَى أَبي حُذَيْفَةَ مَعَنَا فِي بَيتِنا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ؟ قَالَ: «أَرْضِعِيْهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ». أَخْرَجَهَا مُسْلمٌ.
وَعَنْها قَالَتْ: دَخَلَ عَليَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ؟ قَالَتْ: فَقَالَ: «انْظُرْنَ إِخْوَتَكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ».
وَعَنْها: أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبي القُعَيسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، وَهُوَ عَمُّها مِنَ الرَّضَاعَةِ، بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَ الْحِجَابُ، قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَليَّ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرِيدَ عَلَى ابْنةِ حَمْزَةَ، فَقَالَ: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِيْ، إِنَّهَا ابْنةُ أَخِيْ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّحِمِ»، وَفِي لفظٍ: «مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ.
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ-، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ أَوَّلَهُ.
وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: لمْ يُسْنِدْهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ غَيرُ الْهَيْثَمِ بنِ جَميلٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ حَافظٌ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: غَيْرُ الْهَيْثَمِ يُوقِفُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قُلْتُ: وَهُوَ الصَّوَابُ)}.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعدُ:
قول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابُ الرَّضَاعِ).
المراد بالرَّضاع: رضْعُ حليب الآدميَّة، أمَّا إذا رضعَ من الحيوان فإنَّه لا ينتشر به تحريم.
وقد جاءت الشَّريعة بإثبات أثر الرَّضاع على التَّحريم، كما في قوله تعالى في عداد المحرمات: ï´؟وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِï´¾ [النساء: 23]، فهذا دلَّ على أن الرَّضاعة لها أثرٌ في التَّحريمِ.
والرَّضاعة ينتشر بها ما ينتشر بالقَرابة والمصاهرة من جهةِ التَّحريم، لذلك فإنَّ عددَ المحرمات بواسطةِ الرَّضاعة أحد عشر امرأة.
وإذا تقرَّرَ هذا فإنَّ الجماهير لا يشترطون أن يكون الحليب في الرَّضاع قد ثابَ عن حملٍ؛ً لأنَّ النُّصوص بإثبات المحرميَّة بالرَّضاع عامَّة.
والإمام أحمد يشترط أن يكونَ اللبن قد ثاب عن حملٍ.
وبعض النِّساء قد يُدرُّ لبنها مع أنَّها كبيرة أو صغيرة وليس لها أولاد، وذلك نتيجة للحنين الذي تجده عندها في صدرها تجاه هؤلاء الأطفال، وفي وقتنا الحاضر قد يوجد مَن يُعطي أدويةً تُدرُّ المرأة بها، فمثل هذا هل ينتشر به الرَّضاع أو لا؟
قال الحنابلة: لا ينتشر؛ لأنَّ الرَّضاع المعهود هو الرضاع الذي يعود على لبن ثاب من حمل.
والجمهور يقولون: يثبت به الرَّضاع.
وقول الجمهور أقوى من قول الحنابلة في هذه المسألة.
أورد المؤلف عددًا من الأحاديث؛ أولها فيما يتعلق بعددِ الرَّضاعات، كم مقدار الرَّضاعة المحرِّمَة، فقد ورد عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ».
مفهوم هذا أنَّ الثَّلاث رضعات تُحرِّم.
ثم أورد من حديثها -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أنَّها قالت: (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ منَ الْقُرْآنِ: ï´؟عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَï´¾، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ).
هناك ثلاثة أقوال في عدد الرَّضعات المحرِّمات:
- ذهب مالك وأبو حنفية -رحمهما الله تعالى: أنَّ المُحرِّم وجود رضاع ولو كان رضعة واحدة، قالوا: والنصوص التي وردت بالتَّحريم مُطلقة، فلا يصح أن نقيدها بأخبار الآحاد هذه.
- وذهب الإمام أحمد والشَّافعي إلى أنَّ المحرِّم هو خمس رضعاتٍ كما هو حديث عائشة (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ منَ الْقُرْآنِ: ï´؟عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَï´¾، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ).
وقولها -رَضِيَ اللهُ عَنْها: (وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ)، يعني أنَّ هذا من القراءة الشَّاذَّة التي روتها عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- والصَّحيح أنَّ القراءة الشَّاذَّة يُؤخذ منها حُكم، ولكن ليست من القرآن.
- والظَّاهريَّة يقولون: المُحرِّم ثلاث، لحديث عائشة: «لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ»، فيفهم منه أنَّ الثَّلاث محرمات.
ولكن عندنا تصريح في الحديث الآخر بأنَّ المحرِّم خمسٌ، وعندنا مفهوم؛ فالمنطوق أقوى من المفهوم، ولذلك فإنَّ الأظهر هو القول بأنَّ المُحرِّم خمس رضعات، وهذه الخمس رضعات قد تكون في مجلسٍ واحدٍ، وقد تكون في مجالس مُتعدِّدَة.
وقوله: «لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ»، فيه إشارة إلى اسم الواحد أو المفرد، وبالتَّالي إذا أخذَ الصَّبيُّ الثَّديَ فلَقِمَهُ فرضعَ، ثم تركَهُ لالتفات ونحوه؛ فحينئذٍ تُعدُّ رضعة تامَّة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْها: أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالماً مَوْلَى أَبي حُذَيْفَةَ مَعَنَا فِي بَيتِنا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ؟ قَالَ: «أَرْضِعِيْهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ». أَخْرَجَهَا مُسْلمٌ)}.
قوله: (أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو) زوجها أبو حذيفة.
قوله: (جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالماً مَوْلَى أَبي حُذَيْفَةَ)، يعني: يدخل معهم في البيت ويخرج وكان صغيرًا.
قالت: (مَعَنَا فِي بَيتِنا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ؟)، فكان النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لهنَّ بوجوب أن يحتجبوا من الغلام، وفيه دلالة على أنَّ كون الرَّجل يُشاهد المرأة، أو شاهدها قبل التَّوبة، أو قبل الإسلام، أو لكونه كان زوجًا سابقًا لها؛ فهذا لا يعني أنَّها لا تحتجب منه، فلا تقول: إنه كان سابقًا يُشاهدني وسبق أن رآني وحفظ شكلي!
نقول: لا، هذا حكمٌ شرعيٌّ قد جاء في شريعة الله -جلَّ وعَلا.
قولها: (وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ)، أي: وصل سنَّ البلوغ.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْضِعِيْهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ».
مسألة الرَّضاعة للكبير: هل ينتشر بها التَّحريم أو لا؟
لا يُتصوَّر أنَّ الكبير يلتقم الثَّديَّ مُباشرة، وهذا فيه دلالة على أنَّ الحليبَ قد وُضِعَ في إناء فشربَه، وفيه دلالة على أنَّه لا يُشترط في الرَّضاعة المحرِّمَة أن تكون الرَّضاعة مُباشرة.
وفي قوله: «أَرْضِعِيْهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ» دلالة لمذهبِ مَن يرى الاقتصار بإثبات التَّحريم بالرضعة الواحدة، ولكنَّ الصَّواب أنَّ ليسَ فيه دليل.
وقد استدلَّ بعضهم بالحديث على أنَّ الرَّضاعة لا يُشترط أن تكون من حليبٍ ثابَ عن حملٍ؛ فالظَّاهر أنَّ سهلة بنت سهيل لم تكن حاملًا ولم تضع مولودًا قريبًا، وبالتالي فإنَّ المحرمية تنتشر بالرَّضاعة ولو لم يكن هناك رضاعة مباشرة، ولو لم يكن هناك حليب ثابَ عن حملٍ.
يقول الجمهور: إنَّ الرَّضاع للكبير غيرُ مُؤثِّر، ولا تنتشر به المحرميَّة. واستدلوا على ذلك بعددٍ من الأدلة، ومنها قوله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِï´¾ [البقرة: 233]، معناه: أنَّ بعدَ الحوليْنِ لا يثبت به حكم للرَّضاعة، وقوله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًاï´¾ [الأحقاف: 15].
الفصال هو: الرَّضاعة.
وقوله: ï´؟ثَلَاثُونَ شَهْرًاï´¾؛ لأنَّ أقل مدَّة الحمل ستَّةَ أشهرٍ، فلمَّا نحذفها يبقى أربعة وعشرون شهرًا، هي مدَّة الرضاع.
وبعض العلماء قال: إنَّ هذا الحديث خاصٌّ لسالم مولى أبي حذيفة.
وبعضهم قال: إنَّ هذا في أوَّل الإسلام، ثمَّ نُسِخَ، بدلالة الأحاديث الآتية.
متى يتوقَّف حدُّ الرَّضاعة المحرِّمَة؟
قال أحمد والشَّافعي: لسنتين، فاليوم الذي تنتهي فيه السَّنتان لم يعُد للرَّضاعة محرميَّة، فإذا رضَعَ بعد ذلك فلا تثبت المحرميَّة.
وقال الإمام مالك: يُتجاوز عن المدَّة اليسيرة كالشهر والشَّهرين.
وقال الإمام أبو حنيفة: له إلى السنتين وستَّة أشهر.
والأوَّلون يستدلُّون بحديث: «لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ»، من حديث ابن عباس، ولكنَّ هذا الحديث قد تُكُلِّمَ فيه، وكثير من أهل العلم قال: إنَّ الصواب أنَّه موقوفٌ على ابن عباس، وليس مرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويدل لمذهب الجمهور: الأحاديث التي ذكرها المؤلف هنا، من مثل قوله: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ»، فهذا فيه دليل لمذهب الجمهور في ذلك.
وبالتَّالي يظهر رجحان مَن يقول: إنَّ رضاع الكبير لا ينتشر به التَّحريم.
وأورد المؤلف حديثًا آخرَ عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: (دَخَلَ عَليَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ)، فيه تحريم ذلك عليه، وفيه تحريم دخول الرجال على النساء الأجانب، ولذلك اشتدَّ عليها.
قالت: (وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ؟)، فيه إثبات المحرميَّة بطريق الأخوَّة إذا كان في الرَّضاعة.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرْنَ إِخْوَتَكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ»، أي: تأكَّدنَ من ذلك.
قال: «فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ»، فيه دليل على أنَّ الرضاعة لا يثبت حكمها إلا للصَّغير، أمَّا الكبير فإنَّه لا يثبت حكمها.
وفي هذا أإيضًا: أنَّ المرأة تُصدَّق في دعوى الرَّضاعة متى كانت معروفة بالأمَانةِ والثِّقَةِ.
وعن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها: (أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبي القُعَيسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا)، يعني: يستأذن على عائشة.
قوله: (وَهُوَ عَمُّها مِنَ الرَّضَاعَةِ، بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَ الْحِجَابُ، قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ)، يعني رفضتُّ وامتنعتُ خشيةَ أن يكونَ أجنبيًّا.
قالت: (فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ)، يعني: من منع أخي أبي القعيس، قالت: (فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَليَّ).
وفي الحديث:
- الاستئذان في الدُّخول حتى ولو على القرابة.
- وفيه هذا أنَّ الرضاعة تتعلق بلبنِ الفحلِ. وبالتَّالي ينتشر التحريم من قِبَل الزَّوج، كما ينتشر من قبلِ الزَّوجةِ.
وفي هذا أيضًا أنَّ الحجاب أمر مشروعٌ قد أمرَ الله -عزَّ وَجلَّ- به، وأنَّه في أوَّلِ الإسلامِ لم يكن هناك حجاب، ورُفع حكم ذلك.
قالت عائشة: (فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ)، فيه احتياط الإنسان في أمرِ عبادته لله -عزَّ وَجلَّ- ومن ذلك ما يتعلق بأمور المحارم.
قالت: (فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ)، يعني من منع أخي أبي القعيس.
قالت: (فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَليَّ)، فيه تسمية الفتوى أمرًا، وفيه رجوع المرأة إلى زوجها فيمَن يدخل عليها.
ثم أوردَ من حديثِ ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرِيدَ عَلَى ابْنةِ حَمْزَةَ)، أي: طُلِبَ منه أن يتزوَّج من ابنة حمزة بن عبد المطلب عم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِيْ»، يعني: لا يجوز لي أن أتزوجَ بها.
قال: «إِنَّهَا ابْنةُ أَخِيْ مِنَ الرَّضَاعَةِ»؛ لأنَّه كان هناك رضاعة بين حمزة وبين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالتَّالي امتنع من الزَّواج بها.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّحِمِ»، وَفِي لفظٍ: «مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»؛ فيه إثبات التَّحريم بناء على الرَّضاعة في الأصناف السَّبعة: "أمهاتكم، وبناتكم، وأخواتكم، وعماتكم، وخالاتكم، وبنات الأخ، وبنات الأخت".
هل يشمل هذا الأربع المحرمات في المصاهرة وهنَّ: "زوجة الأب، وزوجة الابنِ، وبنتُ الزَّوجة، وأم الزَّوجة"؟
نقول: الصَّواب أنَّه ينتشر التَّحريم في الرَّضاعة فيهنَّ، ويدلُّ على بعض النُّصوص الأخرى الواردة في هذا الباب. وفي هذا إثبات تحريم النِّكاح بناءً على الرَّضاعة.
وقوله «إِنَّهَا ابْنةُ أَخِيْ مِنَ الرَّضَاعَةِ»، فيه انتشار المحرميَّة بالرَّضاعة لابنة الأخ، وفي هذا أيضًا تقديم الشَّورى والرَّأي للإنسان من أجل أن يتزوَّج بالمرأة التي يرونَ أنَّها مُناسبة له.
ثم أوردَ حديث أم سلمة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ»، وهذا في مسألة سنِّ الرَّضيع.
وذكرتُ لك أنَّ الرَّضاعة ثلاثة أنواع:
- قد تكون الرَّضاعة من قِبَلِ أمِّ الأوَّلِ.
- وقد تكونُ من قِبَلِ أمِّ الثَّاني.
- وقد تكونُ من أجنبيَّة.
فإذا كانت الرَّضاعة من أمِّ الأوَّلِ؛ فحينئذٍ هذا الأوَّل أجنبٌّي بالنِّسبة لبقيَّةِ إخوة الرَّاضع، والرَّاضع يكونُ أخًا لمن رضعَ معه وأخًا لإخوانه، وعمًّا لأبناء أخيه، وابنُ أخٍ لأعمامه.
وإذا كانت أجنبيَّة؛ فحينئذٍ لا ينتشر حكم التَّحريم إلا بينهما، وبقيَّة عائلتهم وأسرهم -أمه وأبوه وإخوانه- لا علاقة لهم بالتَّحريم، إنَّما التَّحريم في الرَّاضع وأبنائه.
وإذا كانت الرَّضاعة من أمِّ أحدهما؛ فحينئذٍ الرَّاضع من غيرِ أمِّه يكونُ قريبًا لقرابةِ تلك المراة المرضِعَة، ولكن قرابة الرَّاضع لا عَلاقة لهم بالحكم إلَّا في أبنائه.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ»، وهذا لا يكون إلا للصغار. قال: «وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ».
وفي حديث ابن عباس: «لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ»، وفيه الحكم الماضي فيما يتعلق بوقت الرَّضاعة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابُ النَّفَقَاتِ وَالحَضَانَةِ
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْـبَةَ امْرَأَةُ أَبي سُفْيَانَ، عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيْحٌ لَا يُعْطِيْنِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَليَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيْكِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ)}.
قوله: (كِتَابُ النَّفَقَاتِ).
المراد بالنَّفقات: التَّكفُّل بما يلزم الشَّخص من أمورٍ ماليَّة، سواء في ملبسه، أو في طعامه، أو في سُكناهُ، أو نحو ذلك من حوائجه.
والحضانة: هي ضمُّ الصَّغير والعناية به.
أوردَ المؤلف حديث عائشة في نفقات الزَّوجات والأبناء، قَالَتْ: (دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْـبَةَ امْرَأَةُ أَبي سُفْيَانَ، عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ)، فيه استفتاء المرأة للمفتي، وأخذ الأحكام منه.
قالت: (إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيْحٌ)، هذه غِيبة، ولكن لَمَّا كانت في الاستفتاء الذي سيُبنَى عليه حكمٌ كان هذا مُستثنًى.
قالت: (لَا يُعْطِيْنِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ)، في هذا دلالة على أنَّ نفقة الزَّوجة بقدرِ كفايتها.
قالت: (إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ)، في هذا أخذ المرأة نفقتها ونفقة أبنائها من زوجها، إن علمَ فهو أولى، وإن لم يعلم أخذته ولو لم يعلم.
قالت: (فَهَلْ عَليَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟)، أي: إثم
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذِي مِنْ مَالِهِ»، يعني: من مال زوجها أبي سفيان.
قال: «بِالْمَعْرُوفِ»، أي: بحسبِ ما يتعارَف النَّاس على إنفاقه على الزَّوجات والأبناء.
وفي هذا الرُّجوع إلى العُرف لتحديد ما لم يرد تحديده وتقييده في الشَّرع ولا في اللُّغةِ.
قوله: «مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيْكِ»، في هذا دلالة على أنَّه إذا دفعَ الإنسان ما يكفي الأبناء أجزأ وكفاه ذلك.
وفي قوله: «خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ» ارتباط النَّفقة بالكفاية، وفيه دلالة على أنَّ النَّفقة لا يشترط فيها التَّساوي، فالهبةُ والعطيَّةُ من الوالد لأولاده لابدَّ فيها من التَّساوي، ولكن بالنِّسبة لبابِ النَّفقات فإنَّه لا يُشترط فيه التَّساوي بينَ الأبناء؛ لأنَّ النَّفقة مبناها على الكفاية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ طَارقٍ الـمُحَارِبيِّ قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَإِذا برَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمٌ عَلَى الـمِنْبَرِ يخْطُبُ النَّاسَ، وهُوَ يَقُولُ: «يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: طَارِقٌ لَهُ حَدِيثَانِ رَوَى أَحَدَهُمَا رِبعيٌّ عَنْهُ، وَالْآخَرَ جَامِعُ بنُ شَدَّادٍ، وَكِلَاهُمَا مِنْ شَرْطِهِمَا، وَهَذَا الحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ جَامِعٍ عَنْهُ)}.
في الحديث الأول: نوعين من النفقات:
النَّوع الأوَّل: نفقات الزَّوجات؛ خاصِّيتُها أنَّها تجبُ ولو كان الزَّوجُ فقيرًا، وتجبُ ولو كانت المرأة غنيَّةً، فلا يشترط فيه فقر الزَّوجة، والنَّفقة فيها من جانب واحد، وهو من جانب الزَّوج على الزَّوجة.
النَّوع الثَّاني: نفقة الأصول والفروع -الأولاد والآباء- وهذه تجب مع وجود الحاجة، وتكون من الغني ِّ إلى الفقير المحتاج.
قال: (قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَإِذا برَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمٌ عَلَى الـمِنْبَرِ يخْطُبُ النَّاسَ)، فيه مشروعيَّة وضع المنابر في المساجد وللخطبة، وفيه خطبة النَّاس ولو لم يكن يوم جمعةٍ.
وهُوَ يَقُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا»، فيه التَّرغيب في العطيَّة، وبيان أنَّ صاحبَها صاحب المقام الأعلى.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ»، أي: بمن يجب عليكَ أن تنفق عليهم ممَّن يعودون إليكَ، وتقوم بحوائجهم.
ثم قال: «أُمَّكَ وَأَبَاكَ»، فيه وجوب النَّفقة على الأقارب، الأصول والفروع وبقيَّة الأقارب.
متى تجب النَّفقة للأقارب؟
إذا قُدِّرَ أنَّ هذا القريب إذا مات سيعود ورثه عليك، ولذا قال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ غ– لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ غڑ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ غڑ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا غڑ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ غڑ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَظ°لِكَï´¾ [البقرة: 233]، إذن نفقة القريب في غير الأصول والفروع لا تجب إلا إذا كنتَ ستَرِث مَن تُنفق عليه إذا مات، ويترتَّب عليه أنَّه إذا وجبت نفقتكَ له لم يجُزْ أن تعطيَه من زكاة مالك.
أضربُ لذلك مثلًا: هل يجب عليكَ أن تنفق على أخيك؟
نقول: فيه تفصيل؛ إن كان هذا الأخ إن ماتَ ورِثْتَهُ وجبَ عليكَ أن تنفق عليه، وإذا ما مات لا تَرِثْه فلا يجب عليك نفقته، ويجوز أن تعطيه من زكاة مالك.
ما هي الأحوال التي لا ترثه فيها؟
إذا كان هناك أبٌ أو كان له أبناء ذكور.
ولذا قال: «وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ»، يجب عليك النَّفقة عليهم إذا قُدِّرَ أنَّك سترثهم إذا ماتوا.
قال: «ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ»، يعني الأقرب إليك فالأقرب.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيْقُ»)}.
هذا هو الصِّنف الرَّابع.
• الصِّنف الأوَّل: نفقات الزَّوجات.
• الصِّنف الثَّاني: نفقات الأصول والفروع.
• الصِّنف الثَّالث: نفقات القرابة من غير الأصول والفروع.
• الصِّنف الرابع: نفقات المماليك، فيجب على الإنسان أن يُنفق على مماليكه في أكلهم وفي لباسهم.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيْقُ».
تبقى هناك نفقات البهائم التي يملكها الإنسان، فإمَّا أن يُنفق عليها، وإمَّا أن يُطلقها، وإمَّا أن يبيعها لمَن يُنفق عليها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْني هَذَا كَانَ بَطْني لَهُ وعَاءً، وثَدْيِي لَهُ سِقاءً، وحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ منِّي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ)}.
قوله: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ)، هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، فلما يقول عمرو بن شعيب: "عن أبي عن جدي" أبيه هو شعيب، وجده يحتمل أنَّه محمد، فيكون الخبر مُرسلًا، ويحتمل أنَّه جد شعيب -وليس جد عمرو- وبالتَّالي يكون المراد هو عبد الله بن عمرو، ولذلك ضعَّف بعض أهل العلم هذه السلسلة، ولكن الرِّواية التي عندنا تثبت أن شعيبًا روى عن جده هو -عبد الله بن عمرو بن العاص- وبالتَّالي تكون الأحاديث متَّصلة.
قال: (أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ)، فيه تقدُّم النِّساء للرجال في موضوع التَّقاضي والحضانة، وفيه أنَّ الحضانة تؤخذ بالأحكام الشَّرعيَّة، فمن جاءنا وقال: إنَّ أمور النساء تحكم فيها النساء وتقضي فيها النساء! قلنا: لم يكن هذا من شأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقالت المرأة: (إِنَّ ابْني هَذَا)، يعني: الذي أمامهم.
قولها: (كَانَ بَطْني لَهُ وعَاءً)، يعني: وقت الحمل.
قالت: (وثَدْيِي لَهُ سِقاءً)، يعني: أنَّه كان يشرب من ثديها لَمَّا كان صغيرًا في الرَّضاع.
قالت: (وحِجْرِي لَهُ حِوَاءً)، يعني: إذا جاء أجلسته في حجرها.
قالت: (وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي)، يعني: والد هذا الغلام.
قالت: (وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ منِّي)، كأنَّها تريد أن يبقى عندي، وهذه الخصومة والنِّزاع في الحضانة.
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي».
قال بعض أهل العلم: هذا على سبيل الفتوى.
وبعضهم قال: على سبيل القضاء، ولكن هناك شيء لم يُذكر، وهو أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استدعى والد الغلام فجاء إليهم فسأله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي»، فيه أنَّ الأم أحق بحضانة الولد.
وهناك من الصِّغار إلى التَّمييز، ومن التَّمييز إلى البلوغ، وعندنا شيء للذكور، وشيء للإناث.
نبدأ بالذُّكور:
- إلى السابعة: يكونُ الحق للأم في الحضانة.
- ما بين السابعة والبلوغ: ورد فيه أحاديث أنَّه يُخيَّر الصَّبيُّ فيها، وسيأتي في الحديث الذي يليه.
- بعد البلوغ: أصبحَ رجلًا، وبالتَّالي يجلس حيثُ يشاء، هنا أو هناك.
وهذا التَّقسيم ما لم يكن هناك مصلحة للغلام تخالف ذلك.
أمَّا بالنسبة للفتيات:
- ما دون السَّبع: تكون الحضانة عند الأم، فهي أعرف بها.
- ما بين سنِّ التمييز إلى سن البلوغ:
• قال بعضهم: تكون الحضانة للأب، لأنَّه أرعى لها.
• وبعضهم يقول: تكون الحضانة للأم.
• وبعضهم يقول: تُخيَّر كالغلام.
- ما بعدَ البلوغ: يكون حق الحضانة للأبِ.
قوله: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي»، فيه دلالة على أنَّ حقَّ الأمِّ في الحضانة يُنزَع منها متى تزوَّجت.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي مَيْمُونَةَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ أَبي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: فِدَاكَ أَبي وَأُمِّي، إِنَّ زَوجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْني وَقَدْ نَفَعَنِي وَسَقَاني مِنْ بِئْرِ أَبي عِنَبَةَ، فجَاءَ زَوجُهَا وَقَالَ: مَنْ يُخَاصِمُني فِي ابْنِي؟ فَقَالَ: «يَا غُلَامُ هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ» فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَهَذَا لَفظُهُ، وَابْنُ ماجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَراً وَصَحَّحَهُ، وأَبُو مَيْمُونَةَ اسْمُهُ سُلَيمٌ، وَقِيْلَ: سَلْمَانٌ، وَهُوَ ثِقَةٌ)}.
قوله: (وَعَنْ أَبي مَيْمُونَةَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ أَبي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه التَّقاضي عند النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَتْ له: (فِدَاكَ أَبي وَأُمِّي، إِنَّ زَوجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْني وَقَدْ نَفَعَنِي وَسَقَاني مِنْ بِئْرِ أَبي عِنَبَةَ)، هذه البئر معروفة بالمدينة جهة بدر.
وقولها: (وَقَدْ نَفَعَنِي)، أي: أصبح يقوم ببعض حوائجي.
قوله: (فجَاءَ زَوجُهَا)، يعني استُدعيَ الزَّوج وطُلبَ منه أن يأتي.
وَقَالَ الرجل: (مَنْ يُخَاصِمُني فِي ابْنِي؟)، يعني هذا ولدي، وأبغى ولدي يكون عندي.
فَخيَّر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الغلام بين أبيه وأمِّه فقَالَ: «يَا غُلَامُ هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ»، فأخذ بيد أمِّه فانطلقَت به.
لماذا خيَّرَ هذا الولد؟
بعض العلماء يقول: لأنَّه غلامٌ ناضج، ويفهم الأمور.
وبعضهم يقول: هذا التَّخيير من سنِّ التَّمييز إلى سنِّ البلوغ، ولعل هذا القول هو الأظهر.
وفي الحديث: المخاصمة بينَ الزَّوجين فيما يتعلق بأمور الحضانة.
إذن؛ هذه أحكام من أحكام الحضانة، وبيَّنَّا أقوال أهل العلم في المسائل الفقهيَّة التي تتضمَّنها هذه الأحاديث.
ولعلنا نُرجئ كتاب الجنايات ليومٍ آخر، فهو موضوع مستقل، ولا يُناسب أن نضعه مع الأبواب المتعلقة النَّكاح وتوابعه.
أسأل الله -جلَّ وعلا- أن يوقفنا وإيَّاكَ لكلِّ خيرٍ، وأن يجعلنا وإيَّاك من الهداة المهتدين، كما أسأله سبحانه أن يرضَى عنَّا جميعًا رضًى لا يسخط بعده أبدًا، وأسأله -جلَّ وعَلا- صلاحًا لأحوال المسلمين، واستقامةً لأمورهم، وألفةً بينَ قلوبهم، وجمعًا لكلمتهم، وتعاونًا فيما بينهم، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-25, 13:56   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

المحرَّر في الحديث (4)
الدَّرسُ التَّاسع (9)
معالي الشيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بمعالي الشَّيخ: الدكتور سعد بن ناصر. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
الله يحييك، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- بكتاب الجنايات من كتاب المحرَّر لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابُ الْجِنَايَاتِ
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ».
وَعَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا)}.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعدُ:
فالجنايات: جمعُ جناية، مأخوذ من الفعل "جَنَى" يعني: التقطَ الشَّيءَ وأخذَه.
والمراد هنا: الاعتداء على الدِّماء.
والأصل في الاعتداء أنَّه محرَّم، قال تعالى: ï´؟وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَï´¾ [البقرة:190].
والجنايات تنقسم إلى:
• جناية على النَّفسِ.
• جناية على ما دون النَّفسِ، إمَّا يقطع عضوٍ أو بجرحٍ أو نحوه.
والأصل في الجنايات أنها محرَّمة، وأنَّها من كبائر الذنوب، وعظائم الآثام، وأشدُّ ذلك القتل، وقد قال الله تعالى: ï´؟وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًاï´¾ [النساء: 93]، وقال سبحانه: ï´؟وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًاï´¾ [الفرقان 68، 69]، الآية.
وجاء في الحديث: أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا» ، وقد عدَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جريمة القتل من الموبقات.
والقتل فيه ثلاثة حقوق:
• حقٌّ لأولياء الدَّم: يُستوفَى بالقصاص.
• حقٌّ لله -عزَّ وجلَّ: يُمكن للعبد أن يتخلَّصَ منه بالتَّوبةِ الصَّادقةِ النَّصوح.
• وحقٌّ للميِّتِ: يستوفيه يوم القيامَة.
والجناية في الدِّماء قد أكَّد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على التَّحرُّزَ منها في مواطن عديدة، ففي يوم عرفة وفي أيام مِنَى كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول لأصحابه: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ» .
والجناية بالقتلِ يجب فيها القِصَاص، والعلماء لهم قولان مشهوران في موجَبِ الجناية بالقتل:
• فهناكَ مَن يرى أنَّ الموجب هو القِصَاص عينًا.
• وهناك مَن يرى أنَّ موجَب الجناية إمَّا القِصَاص وإمَّا الدِّية.
ويترتب على ذلك: هل يُلزَم القاتل بالدِّية إذا رغب أولياء الدَّم بذلك أو لا يُلزَم به؟
قد أورد المؤلف هنا حديثين متفق عليهما من حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ»، فيه دلالة على أنَّ الأصل في الدِّماء هو التَّحريم والتَّشديد في ذلك، وأنَّه يُطلَب الرُّخصة في استباحة الدِّماء، وإلَّا فإنَّ الأصل أنَّها على التحريم.
وقوله: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ»، قد يُطلَق الدَّم هنا على ما يكون في النَّفس، وقد يُطلق على ما يكون أقل منه، وإن كان ظاهر هذا الخبر أنَّ المراد به القتل لا ما دونه.
وقوله: «امْرِئٍ مُسْلِمٍ»، لا يختصُّ بالذَّكرِ؛ بل يشمل المرأة؛ لأنَّها تُماثل الرَّجل، والأصل في أحكام الشَّريعة مُساواة الرَّجل بالمرأة.
وقوله: «يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ»، فيه أنَّ دخول الإسلام يكون بهاتين الشَّهادتينِ.
ثم ذكرَ أسباب استباحة الدَّمِ، فذكر أولها فقال: «إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي».
المراد بالثَّيب: مَن سبق له الزَّواج الذي جامع فيه.
والمراد هنا: أنَّ المحصَن الزَّاني يجب رجمه كما وردَ في النُّصوص.
وفي هذا دلالة على ثبوت حكم الرَّجم -كما سيأتي إن شاء الله.
السَّبب الثَّاني الذي يُستباح به الدَّم: القِصَاص، في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ»، وقد قال الله -جلَّ وعَلا: ï´؟يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَىï´¾ [البقرة: 178].
السَّبب الثَّالث الذي يُستباح به الدم: ما جاء في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ».
والمراد بذلك: المرتدّ عن دين الإسلام الذي فارق جماعة المسلمين ولو أتى بالشَّاهدتين؛ فإنَّه يثبت له حكم القتل حدًّا.
وأمَّا الحديث الآخر: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ»، وهذا يشمل الجنايات التي تكون على النَّفسِ، والجناية على ما كان دون النَّفس.
وظاهر هذا الخبر: الاهتمام بقضايا الجنايات والدِّماء في يوم القيامة، حيثُ تُقدَّمُ على غيرها، وذلك أنَّ ما يتعلَّق بالجنايات هو من حقوق النَّاس التي لا يدخلها العفو، ويُستوفَى الحق فيها يوم القيامَة.
وهذا يدلُّكَ على أنَّ قضايا الدِّماء أهمُّ من قضايا الأعراض والأموال، مع أهميَّةِ الجميع.
{أحسنَ الله إليكم يا شيخ..
في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ»، لو أتى بأحد هذين الوصفين هل يستحق القتل، أو لابدَّ أن تكون مرتبطة؟}.
تركُ الدِّينِ مفارقةٌ للجماعة، فلا يوجَد انفكاك بينَ الوصفين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بنِ عَبدِ اللهِ السَّوَائِي، قَالَ: قُلْتُ لِعَليٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الـْحَـبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمَاً يُعْطِيهِ اللهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ: قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
في هذا الحديث قال أبو جحيفة لعلي: (هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لَا)، فيه دلالة على أنَّ أهلَ البيتِ لا يختصُّونَ بعلمٍ لم يصل إلى غيرهم، وأنَّه ليس عندهم شيء إلا ما بلَّغه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعموم النَّاس.
وفي هذا الحديث:
• القَسَم من علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لتقرير هذا الكلام الذي قرَّره هنا، مع أنَّه لم يُطلَب منه القَسَم.
• دلالة على تمايُز النَّاس، واختلاف منازلهم باختلاف فهمهم للقرآن.
• أنَّ القرآن فيه كنوزٌ من العلم، وينبغي بالنَّاس أن يُراجعوه.
• دلالة على جواز كتابة العلم وكتابة الأحاديث، لقوله: (وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ)، ثم ذكر ما فيها.
• - مشروعيَّة الأخذ بالدِّيَة، فإنَّ (العَقْل) يُراد به هنا: الدِّيَة؛ لأنَّ الإبل كانت تُعقَل -أي تُربَط- وتُسلَّم لأولياء الدَّم.
وقوله: (وفِكَاكُ الْأَسِيرِ)، فيه التَّرغيب في فكاك الأسير من المسلمين، الذي يأسره العدو.
وفي الحديث: دلالة على أنَّ المسلم لا يُقتَل بالكافر على جهة القصاص، وبذلك قال جمهور أهل العلم خلافًا لكثيرٍ من الحنفية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَليٍّ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُم، وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ)}.
قوله: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ»، أي: أنَّهم يتساوون فيما يتعلق بالقصاص، وفيما يتعلق بالدِّيَة.
وقوله: «وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُم»، أي: يجبُ عليهم أن يتعَاونوا فيما بينهم على الخير والهُدَى والبرِّ والتَّقوَى، كأنَّه جعلهم من اجتماعهم وتآلفهم يدًا واحدة.
وقوله: «وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم»، أي: أنَّ الأمان من أحدهم مقبولٌ، ويجب على البقيَّة أن يلتزموه، ويحرم عليهم أن يخفروه.
ثم قال: «أَلَا لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ»، فيه دلالة على أنَّ المسلم لا يُقتَل بغير المسلم على جهة القِصاص، ولكن قد يُقتَل تعزيرًا إذا رأى وليُّ الأمر أنه يكون محققًا للخير والمصلحة.
وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم، وهو أنَّ المؤمن لا يُقتَل بالكافر مُطلقًا، سواء كان الكافر حربيًّا أو كان معاهدًا أو كان ذمِّيًا أو مستأمنًا، سواء كان كتابيًّا أو مشركًا؛ وهذا مذهب جماهير أهل العلم.
وهكذا في قوله: «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ»، أي: لا يجوز أن يُقتَل المعاهد حالَ استمرار العهد معه.
وهذا مذهب جماهير أهل العلم، وهو مذهب مالك والشَّافعي وأحمد، أنَّ المؤمن لا يُقتل بالكافر.
وأمَّا عند الحنفيَّة فإنَّهم قالوا: قوله «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ»، أي: الكافر الحربي، ويدل عليه أنَّه قال: «وَلَا ذُو عَهْدٍ»، أي: لا يُقتَل ذو عهدٍ بكافرٍ -أي حربي.
فكأنَّهم هنا فسَّروا كلمة "الكافر" في الأوَّل أنَّ المراد بها: الكافر الحربي، بناء على قوله: «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عهْدِهِ»، أي: وَلَا ذُو عَهْدٍ في عهده بكافر.
وتفسير الجمهور لهذا الخبر أولى؛ لأنَّه على تفسيرهم لا يحتاج الكلام إلى تقديرٍ وإضمارٍ.
أمَّا على مذهب الحنفيَّة فإنَّ يحتاج، كأنَّه قال: (لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ)، فيحصل في تأويل الحنفيَّة تقديم الكلام وتأخير.
وأمَّا على مذهب الجمهور فإنَّه لا يحتاج إلى تقديمٍ وتأخيرٍ في تفسير اللفظِ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ ماجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ-, وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِلَى الْحَسَنِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي سَمَاعِهِ مِنْ سَمُرَةَ، وَلأبي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ: «وَمَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ»)}.
هذا الحديث منقطع؛ لأنَّ الحسن لم يسمع من سمُرَة هذا الحديث، ولهذا لم يأخذ به جماهير أهل العلم.
قوله: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ»، ظاهره ثبوت القصاص بينَ الحرِّ والمملوك.
والعلماء لهم ثلاثة أقوال في هذه المسألة:
• القول الأول: ذهب الحنفية إلى أنَّ الحرَّ يُقتل بالعبد المملوك.
• والقول الثاني: أنَّ الحُرَّ لا يُقتَل بعبدِهِ إذا قتَلَه، ولكنَّه يُقتل بعبدِ غيره إذا قتله.
• القول الثَّالث هو قول الجمهور: أنَّ الحرَّ لا يُقتل بالعبد، سواء كانَ عبدًا له، أو عبدًا لغيره.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ï´؟يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِï´¾ [البقرة: 178]، فدلَّ هذا على أنَّ الحرَّ لا يُقتَل بالعبدِ.
والحنفيَّة يقولون: إنَّ هذا استدال بمفهوم المخالفَة، وهم لا يرونَ حُجيَّتَه.
وقوله: «وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ».
الجَدْعُ: هو قطعُ الأنفِ، وذلك أنَّ الأنفَ ينتهي إلى مفصلٍ، فمن قطع الأنف فإننا نثبت في حَقِّه القصاص.
وقوله في الرواية الأخرى: «وَمَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ»، فيه إثبات القصاص في قطع الخصية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ الـْحَجَّاجِ بنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عُمَرَ بنِ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْنُ ماجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ, وَقَالَ: "وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ مُرْسَلاً، وَهَذَا حَدِيثٌ فِيهِ اضْطِرَابٌ", وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانٍ، عَنْ عَمْرٍو، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ)}.
الحجَّاج بن أرطاة مختلف فيه، وهو مُدلِّس وقد عنعنَ هنا، فحديثه من قبيل الحديث المنقطع حُكمًا.
ثم وقع اختلاف في هذا الخبر، فإنَّه مرَّةً رُويَ عن عمرو بن شعيب مُرسلًا، ومرَّة عن عمرو بن شعيب عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ومرَّة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عمر، ومرَّة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه عن عمر؛ ولذا حكمَ كثيرٌ من أهل العلم لى هذا الخبر بالاضطراب.
وقوله: «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ»، أي: بان يُقتص، فإذا قتل الوالد ولده فإنَّه لا يثبت القصاص حينئذٍ.
وجماهير أهل العلم على هذا الحكم؛ لأنَّ الأب سبب في وجود الولد، فلا يكون الولد سببًا في إعدام أبيه. والقول بعدمِ ثبوت ذلك هو مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة أبو حنيفة والشَّافعي وأحمد.
وقال الإمام مالك: إنَّ الوالد يُقادُ بولدهِ فيما إذا أضجعه، وأخذ السِّكينَ ونحره كما ينحر الشَّاة، فإنَّه يثبت القصاص حينئذٍ، لتمحُّض العمديَّة في ذلك، وأمَّا إذا قتله بغير هذه الطَّريقة فإنَّه لا يُقادُ به كما قال الجمهور.
وكثير من أهل العلم استدل في ذلك أيضًا بآثارٍ واردةٍ عن الصَّحابة بأنَّه لا يُقاد الوالد بولده.
{أحسن الله إليكم..
هل يقصد الإمام مالك هذه الطريقة بعينها، أو العمد بصفة عامَّة؟}.
يقصد هذه الطَّريقة بعينها، إذا أضجعه ونحره؛ وجب القِصَاص، وأمَّا إِذَا قَتَلَه بغير ذلك حتى ولو كانَ عَمْدًا فإنَّه لا قِصَاص فيه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَنَسِ بنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَينَ حَجَرَينِ فَسَأَلُوهَا مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكِ؟ فلَانٌ؟ فلَانٌ؟، حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيَّاً فأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرَّ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ.
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: اقْتَـتَـلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُنَّ الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ: عَبْدٌ أَوْ وَلِيْدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِها، وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ، فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيفَ أَغْرَمُ منْ لَا شرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ؟ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هَذَا مِنَ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ». مِنْ أَجْلِ سَجَعِهِ الَّذِي سَجَعَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله: (أَنَّ جَارِيَةً)، المراد بالجارية: صغيرة السِّنِّ، وفيه دلالة على أنَّه لا يُشترَط التَّساوي في السِّنِّ بينَ القاتل والمقتول لإثبات القصاص، وأنَّ المكلَّف البالغ إذا قتلَ غيرَ البالغ ثبتَ به القصاص.
وفي هذا دلالة على أنَّ القصاص يثبت بينَ الرِّجالِ والنِّساء، وأنَّه متى قتلَ رجلٌ امرأةً ثبتَ القصاص.
قوله: (وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَينَ حَجَرَينِ)، فيه تفتيش صاحب الولاية على مَن وقعت عليهم شيء من الجرائم، والبحث في أسبابها لإلحاق العقوبة بمَن فعل ذلك.
قوله: (فَسَأَلُوهَا)، يعني سألوها قبل وفاتها، وهي في سياق الموت.
قوله: (مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكِ؟ فلَانٌ؟ فلَانٌ؟)، بدؤوا يقرِّرونها بقولهم: (فلَانٌ؟ فلَانٌ؟)
قوله: (حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيَّاً فأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا)، يعني: نعم، وفيه اعتبار الإشارة، وإجراء التَّحقيق لمعرفة مَن هو صاحب الجناية، ولكنَّ كلامها لا يُعَدُّ شهادةً، وإنَّما هو قرينة تُستعمَل من أجل أخذِ الإقرار، ولذا أُخذَ اليهودي فأقرَّ.
قوله: (فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرَّ)، فيه حبسُ المتَّهم متى قامت عليه القرائن.
وقوله: (فَأَقَرَّ)، أي: اعترف بأنَّه هو القاتل. وفيه إثبات القصاص عندما يقتل الكتابيُّ مسلمًا، وفيه أنَّ الإقرار مُعتبرٌ ويُرتَّبُ عليه أحكام القصاص.
وقوله: (فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ)، فيه دلالة على أنَّ القاتل يُقتَل بمثل ما قتل به، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم.
وآخرون رأوا أنَّه يُقتَل القاتل بالسَّيفِ عينًا، ولا يُعدُّ إلى غيره، وقد وردَ في الخبر أنَّه «لا يُقاد إلا بالسَّيفِ»، وفي ذلك أمنٌ من الحيفِ، وفيه راحةٌ للنُّفوسِ، ورهبة لنفوس مَن يُريد الاعتداء على دماء الآخرين.
ثم أورد المؤلف حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: (اقْتَـتَـلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ)، أي: حصلت بينهما مخاصَمةٌ ومشاجرةٌ ومدافعةٌ واقتتالٌ.
قال: (فَرَمَتْ إِحْدَاهُنَّ الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا)، أي: أنَّها ماتت من ذلك الحجر، وهنا المرأة قصدت الجناية ولكنها استعملت آلة لا تقتل غالبًا، فجمهور أهل العلم يُسمون هذا قتل شبه العمد، ويرونَ أنَّ الدِّيَةَ فيه مُغلَّظَة.
قوله: (فاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يعني: أولياء المرأتين اختصموا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: (فَقَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ: عَبْدٌ أَوْ وَلِيْدَةٌ)، أي: غرَّة الجنين عبدٌ أو أمة، ويقولون: إنَّه يُماثل عُشرَ الدِّيَة.
قال: (وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِها)، يعني: أوجبَ على عاقلة المرأة القاتلة دفع الدية لأولياء المرأة المقتولة، وفي هذا دلالة على أنَّ القتل الخطأ يجب على العاقلة أن تتحمَّل الدِّيَة فيه.
والمراد بالعاقلة: قرابة القاتل، وبعضهم يحصره بالذُّكور، وبعضهم يُعمِّمه.
والصَّواب: أنَّ العاقلة خاصَّة بالذُّكور كما في باب الميراث -على ما تقدَّم.
مَن الذي يرثُها؟
قال: (وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ)، يعني: ولد المرأة وقرابتها الذين يرثون.
قوله: (فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ)، يعني: قال على جهة الاستفسار لا على جهة الاعتراض.
قال حملُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، كَيفَ أَغْرَمُ منْ لَا شرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ؟)، يعني: كيف أدفع دية من لم يصرخ ولم يبكِ عندماخرج من بطنِ أمِّه؟!
قوله: (فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟)، أي: يُهدَر ولا يُوضَع له ديةٌ ولا قيمة.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هَذَا مِنَ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ»، يعني: هذا السَّجع من طريقة أهل الكهانة فيما يتكلَّمونَ به.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ غُلَامَاً لِأُنَاسٍ فُقَرَاءَ قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لِأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ شَيْئاً. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مُخَرَّجٌ لَهُمْ فِي الصَّحِيْحِ)}.
هذا الحديث قد تكلَّمَ فيه كثيرٌ من أهل العلم، حيثُ تفرَّدَ به معاذ بن هشام، ومثله يغلَط ويقع منه أخطاء، ولذلك فإنَّ بعض أهل العلم ضعَّفَ هذا الخبر، وقال بعضهم بتحسينه.
قوله هنا: (أَنَّ غُلَامَاً لِأُنَاسٍ فُقَرَاءَ)، قد يُراد بالغلام الصَّغير، وقد يُراد به المملوك.
قوله: (قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لِأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ شَيْئاً)، ظاهره أنَّ هذا القطع لم يكن على جهةِ العمدِ، وإنَّما كان على جهةِ الخطأ، وإنَّما لم يجعل لهم شيئًا ظاهره أنَّه أنَّه قد وداه من عند نفسِهِ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَجُلاً طَعَنَ رَجُلاً بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَقِدْنِي، فقالَ: «حَتَّى تَبْرَأَ»، ثمَّ جَاءَ إِلَيهِ، فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَأَقَادَهُ. ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنِّي عَرَجْتُ, فَقَالَ: «قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي، فَأَبْعَدَكَ اللهُ وَبَطَلَ عَرَجُكَ»، ثمَّ نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ. رَوَاهُ أَحْمدُ عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: "وَذَكَرَ عَمْرو"، فَكَأَنَّهُ لمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بنِ حِمْرَانَ، وَهُوَ صَالحُ الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ جريجٍ، عَنْ عَمْرٍو)}.
قوله هنا: (قال: "وَذَكَرَ عَمْرو")، يعني: أنَّ ابن إسحاق لم يروِ هذا الخبر متَّصلًا، وإنما قال ابن إسحاق: (ذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده...) وساقَ الحديث، ولذلك رأى كثير من أهل العلم أن الخبر منقطع، وابن إسحاق مدلِّس ولم يُصرِّح فيه بالسَّماع.
قوله: (أَنَّ رَجُلاً طَعَنَ رَجُلاً بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَقِدْنِي، فقالَ: «حَتَّى تَبْرَأَ»)، فيه أنَّ القصاص فيما دون النَّفس لا يستوفى حتى يبرأ الجرح، خشية من أن يسريَ الجُرح فيأخذ أكثر ممَّا حصلت الجناية عليه.
قوله: (ثمَّ جَاءَ إِلَيهِ، فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَأَقَادَهُ)، يعني طلب من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القصاص ضدّ هذا الشَّخص الذي جنى عليه، فأقام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القصاص على صاحبه.
ثم بعد مُدَّةٍ جاء صاحب الدَّم إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: (يَا رَسُولَ اللهِ, إِنِّي عَرَجْتُ)، يعني: أنَّ الجناية تجاوزت مكانها، ولم تقف عند مكانها الأوَّل.
فنقول: إذا سرَت الجناية فهل يكون القصاص حتى فيما سرَت إليه الجناية؟
ننظر:
• إن كان قد استُوفيَ القصاص قبل ذلك فإنَّنا لا نلتفت إلى سراية الجُرح.
• وأمَّا إذا كان لم يُتقص منه: فإنه حينئذٍ يكون جرحًا واحدًا.
• وفي هذا الحديث:
• ينبغي للإنسان أن يستشير أهل العقل والفضل.
• وأنَّه لا يجوز أن يُقتصُّ من شخصٍ في جرحٍ حتى يبرأ صاحبه ويتيقَّن من حاله.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ الرُّبَيِّعَ، عَمَّتَهُ، كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلبُوا إِلَيْهَا الْعَفوَ فَأَبَوا، فَعَرَضُوا الْأَرْشَ فَأَبَوْا، فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَبَوا إِلَّا الْقِصَاصَ, فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْقِصاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللهِ, أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ, لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللهِ الْقِصَاصُ» فَرَضِيَ الْقَوْمُ فَعَفَوا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
في هذا الحديث أنَّ الأسنان يثبت فيها القصاص، وفيه أنَّه يُقتصُّ للصغير من الكبير، فهذه الجارية صغيرة السِّن، ومع ذلك لمَّا جَنَت عليها الرُّبيع وهي كبيرة السِّن؛ ثبتَ القصاص بذلك.
قال: (فَطَلبُوا إِلَيْهَا الْعَفوَ فَأَبَوا)، يعني: طلبوا إلى الجارية وإلى أوليائها العفو فَرفضوا.
قوله: (فَعَرَضُوا الْأَرْشَ فَأَبَوْا)، أي: عرضوا قيمَة النَّقص الحاصل عليها، فرفضوا ذلك، وأبوا إلى القصاص.
قوله: (فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْقِصاصِ)، فيه إثبات مشروعيَّة القصاص في الأسنان.
قوله: (فَقَالَ أَنَسُ بنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللهِ, أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ), الثَّنيَّة: الأسنان التي تكونُ في زاوية الفم، وفيه دلالة على أنَّ القصاص في الأسنان إنَّما يكونُ بأخذِ سنٍّ يُماثل السِّن الذي حصلَت عليه الجناية.
قوله: (لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا), فيه الحلف بالله -جلَّ وعَلا- وفيه أنَّ الاعتراض على الأحكام الشَّرعيَّة لا يُلتفت إليه، ولو كان من تأسيسٍ شرعيٍّ أو علةٍ وشُبهةٍ شرعيَّة.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللهِ الْقِصَاصُ»، أي: هذا أمرٌ نافذٌ، وأمرٌ حتميٌّ، وبالتَّالي لا تدخل فيه شَفَاعات، ولا يدخل فيه شيءٌ ممَّا يُراد به إبطال القِصَاص.
قوله: (فَرَضِيَ الْقَوْمُ فَعَفَوا)؛ لأنَّ القصاص يسقط بالعفو ويسقط بأخذ ديته، وفيه جواز العفو.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ»، أي: يوجد من عباد الله.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ»، ذلك أنَّ أنس بن مالك أقسَم لمَّا قال: (لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا).
ولا ينبغي للإنسان أن يُقسِمَ على الله -جلَّ وعَلا- لأنَّه قد لا يُستجاب له، وبالتَّالي تجب عليه ديةٌ وكفَّارة.
وهذا خلاصَة ما في هذا الباب من أحكام.
بارك الله فيك، ووفقكَ الله للخير، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-25, 13:56   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

المحرَّر في الحديث (4)
الدَّرسُ العاشر (10)
معالي الشيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بمعالي الشَّيخ: الدكتور سعد بن ناصر. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، وأرحبُ بك، وأُرحبُ بمَن يُشاهدنا، بارك الله فيهم.
{نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- كتاب الدِّيات من كتاب المُحرَّر لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ» -يَعْنِي الْخِنْصَرَ والإِبْهَامَ- رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْأَصَابِعُ سَوَاءٌ، وَالأَسْنَانُ سَوَاءٌ: الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ، هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ وَصَحَّحَهُ- وَابْنُ حِبَّانَ: «فِي دِيَةِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءٌ، عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ لِكُلِّ أُصْبَعٍ»)}.
قول المؤلف: (كِتَابُ الدِّيَاتِ).
المراد بالدِّيات: العوض الذي يُدفَع عند وجود الجنايات.
وذلك أنَّ القتل والجناية على ما دون النَّفس قد تكون عًمدًا، وقد تكونُ خطأ، فالخطأ يجبُ فيه الدِّيَة، والأصل في العمدُ وجوب القِصاص بشروطٍ مُعيَّنة، فإذا انتفى القِصاص لتخلُّفِ شرطٍ، أو لعفوِ الأولياء؛ فحينئذٍ تجبُ الدِّيَة.
وفي مرَّات قد لا يعفوا الأولياء مجَّانًا، وإنَّما يعفونَ إلى الدِّيَة، وفي مرَّاتٍ يُطالبونَ بما هو أكثر من الدِّيَة، وهذا يُسمَّى الصُّلح عن القتل الخطأ، وهذا الصُّلحُ لابدَّ فيه من تراضي الطَّرفين -أولياء المقتول والقاتل.
والدِّيَة قد تكون في النَّفس: وتكون حينئذٍ بمائةٍ من الإبل.
وقد تكونُ فيما دون النَّفس من الأعضاء: وبالتَّالي تكون فيها ديةٌ محدَّدةٌ، مثل: الأصابع، واليد، والرِّجل.
وقد تكون الدِّيَةُ غير محدَّدَة: وهذا يسمُّونَه حكومة، فما لم يرد فيه نصٌّ بتحديد الدِّيَة فيه؛ فحينئذٍ نجعل فيه حُكُومَة.
والمراد بالحُكُومَة: أن نُقدِّر قيمةَ الشَّخص كأنَّه مملوك، مرَّةً فيه الجناية ومرَّة ليست فيه الجناية، فنأخذُ نسبَة ذلك من كمالِ قيمتهِ، فنُثبتُ ونُوجِبُ تلك النِّسبَة من الدِّيَةِ.
أورد المؤلف حديث ابن عباس، وفيه أنَّ الأصابع مُتساوية في الدِّيَة، وبذلك قال الجماهير، وكان عمر يرى أنَّها مُتفاوتة بحسبِ أهمِّيتها وما تُؤدِّيه من عملٍ، فلمَّا نُقلَت إليه الأخبار الواردة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتي وردت بالتَّسوية بينَ الأصابع؛ تركَ رأيَه واجتهاده بتفاضل الأصابع في الدِّيَةِ، وقال بمقتضى هذه الأحاديث.
إذن يجب في كل أُصبع عَشرٌ من الإبل، وذلك أنَّ أصابع اليدين فيها دِيةٌ كاملة، والأصابع عَشرة، ففي كل أصبع عُشر الدِّيَة -عَشرٌ مِن الإبل- ومثله في أصابع الرجلين.
وأمَّا بالنِّسبَةِ للأسنان: فجميعُ الأسنان يجب فيها دية واحدة، فإذا كسر سنًّا واحدًا؛ فحينئذٍ نوجب فيه من الدية بحسبِ عدد ما كسره من الأسنان، والأسنان مُتساوية، وبالتالي نُقسِّم الدِّيَة كاملة على عدد الأسنان، ومن ثَمَّ نعرف مقدار ما لكلِّ سنٍّ، ولا نُفرِّق بين سنٍّ وسنٍّ بحسب أهمِّيته أو بحسبِ ما يؤدِّيه من الأعمال.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ سُلَيْمَانَ بنِ دَاوُدَ قالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ فِيهِ الفَرَائِضُ وَالسُنَنُ وَالدِّيَاتُ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ, فَقُرِئَتْ عَلَى أَهْلِ اليَمَنِ، وَهَذِهِ نُسْخَتُها: «مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِي إِلَى شُرَحْبِيلَ بنِ عَبْدِ كُلَالٍ، والْحَارِثِ بنِ عَبدِ كُلَالٍ وَنُعيْمِ بْنِ كُلالٍ قِيلَ -بْنِ رُعَين- ومُعَافِرَ وهَمْدَانَ أَمَّا بَعْدُ...» وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: «أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ قَوَدٌ إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ: مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْأَنْفِ إِذا أُوْعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي البَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَينَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي المَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي المُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ منَ الْإِبِلِ، وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ, وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَالنَّسَائِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتيُّ، وَقَدْ أُعِلَّ, قَالَ النَّسَائِيُّ: وَقَدْ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ يُونُسُ بنُ يَزِيدَ مُرْسَلًا)}.
سليمان بن داود مُختَلفٌ فيه، تردَّدَ العلماء فيه بينَ رجلٍ متروك يُقال له: سليمان بن داود بن أرقم، وبين رجلٍ ثقةٍ يُقال له: سليمان بن داود الخولاني، والقاعدة: إذا تردَّدَ اسمُ راوٍ بين راويين أحدهما ضعيف؛ فإنَّه تُضعَّفُ تلك الرواية حتى يثبت خلاف ذلك.
قال: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ)، فيه مَشروعيَّة كَتْب الأنظِمَة، وفيه أيضًا كتْبُ العلم، وإرسال مسائل العلم إلى النَّاس.
قال: (بِكِتَابٍ فِيهِ الفَرَائِضُ)، يعني: الأمور الواجبة.
قال: (وَالسُنَنُ)، يعني: الأمور المقرَّرَة، سواء كانت واجبةً أو مُستحبَّةً مِن أُمورِ الشَّريعة.
قال: (وَالدِّيَاتُ)، أي: ما يُدفَعُ عوضًا في جنايات الخطأ.
قال: (وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ, فَقُرِئَتْ عَلَى أَهْلِ اليَمَنِ, وَهَذِهِ نُسْخَتُها: «مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِي إِلَى شُرَحْبِيلَ بنِ عَبْدِ كُلَالٍ، والْحَارِثِ بنِ عَبدِ كُلَالٍ وَنُعيْمِ بْنِ كُلالٍ»)، هما إخوة.
قوله: «قِيلَ -بْنِ رُعَين- ومُعَافِرَ وهَمْدَانَ»، هذه قبائل من قبائل اليَمن.
قال: («أَمَّا بَعْدُ...» وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: «أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا»)، أي: قتَلَ المؤمن بدونِ أن يكون منه سببٌ لقتله، فلا توجد منه جناية ولا جريمة.
قوله: «عَنْ بَيِّنَةٍ»، يعني: مع وضوح الأمرِ.
قال: «فَإِنَّهُ قَوَدٌ»، أي: يجب فيه القصاص.
قوله: «إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ»، أي: يعفون عنه، وهذا استدلَّ به مالك وأبو حنيفة أنَّ مُوجَب القتل العمد العدوان هو القصاص عينًا.
وعند أحمد والشَّافعي: أنَّ مُوجَب القتل العمد العدوان هو أحد أمرين:
إمَّا القِصَاص أو الدِّيَة، واستدلوا على ذلك بما ورد من حديث أبي هريرة وأبي شُريح أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا يُودَى وَإِمَّا يُقَادُ».
قال: «وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ: مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ»، فيه بيان مِقدار الدِّيَة في القتل، وهو مائة من الإبل.
هل ذِكْر الإبل هنا لتعيُّنِهَا كما قال طائفة؟ أو لأنَّها وَجه من أوجه الدِّيات؟
هناك مَن يقول: إنَّ الدِّيَة لها أصلٌ واحدٌ وهو الإبل.
وهناك من يقول: هناك أصولٌ مُتعدِّدَة، فالإبل أصلٌ، والذَّهب أصلٌ، والفضَّةُ أصلٌ، والبقر أصلٌ، إلى آخر الأموال.
قال: «وَفِي الْأَنْفِ إِذا أُوْعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ»، يعني: إذا قُطع كاملًا فلم يبقَ منهُ شيءٌ.
القاعدة في هذا:
• أنَّ ما كان في البدنِ منه شيء واحدٌ ففيه ديةٌ كاملةٌ.
• وما في البدن منه شيئان: وجب نصف الدِّيَة في كلِّ واحدٍ منهما.
• وما كان في البدن منه ثلاثة: تجب الدِّيَة في الثلاثة، وفي الواحد ثُلث الدِّيَة.
• وما كان في البدنِ منه أربعة: ففي الواحد ربُع الدِّيَة.
قال: «وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ»، لكن لو قطعَ إحدى الشَّفتين دون الأخرى وَجَبَ نصفُ الدِّيَة.
قال: «وَفِي البَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ»، البيضتان اللتان عند الخصيتين، فيهما ديةٌ كاملة.
قال: «وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ»؛ لأنَّه لا يوجد في البدن منه إلا شيءٌ واحد.
قال: «وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ»، يعني: الظَّهر.
قال: «وَفِي الْعَينَيْنِ الدِّيَةُ»، فيكون في العين الواحدة نصف الدية.
قال: «وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ»؛ لأنَّ في البدنِ منها ثنتان.
قال: «وَفِي المَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ»، المأمومة جُرحٌ في الرأسِ يصل إلى أمِّ الدِّماغ، وفيه ثلث الدِّيَة.
قال: «وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ»، الجائفة: جُرحٌ في البدن يصل إلى الجوفِ، فأوجبَ فيه ثُلُثُ الدِّيَة.
قال: «وَفِي المُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ منَ الْإِبِلِ»، المُنقِّلَة: شجَّةٌ بالرأسِ تُصيبُ العظم، فتنقله عن مكانه إلى داخل بدنه، فهذه فيها خمس عشرة من الإبل.
قال: «وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ»، الموضحة: شجَّةٌ في الرأسِ تُوضِحُ العَظم.
قال: «وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ»، فيه إثبات مَشروعيَّة القصاص عند قتل الرَّجل للمرأة.
قال: «وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ»، يعني: بدل المائة ناقة يكون عليهم ألف دينار.
والمقصود بالذَّهب هنا: الدَّنانير.
وهنا إشارة إلى مسألة، وهي: هل الدِّيَة لها أصلٌ واحدٌ وهو الإبل؟ أو لها أصول متعدِّدَة؟
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فِي المَواضِحِ خَمْسٌ، خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ ماجه وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَاللَّفْظُ لِأَحْمَدَ وَابْنِ ماجَهْ، زَادَ أَحْمدُ: «وَالأَصَابِعُ سَوَاءٌ كُلُّهُنَّ عَشْرٌ، عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ»)}.
المواضح: شِجاجٌ في الرأسِ توضِحُ العظم وتُبيِّنه.
وقوله: «خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ»، فيه مقدار الدِّيَة في الموضحة.
وزاد: «وَالأَصَابِعُ سَوَاءٌ كُلُّهُنَّ عَشْرٌ، عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ»، وتقدَّم شرحه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا، دُفِعَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ شَاؤُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاؤُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ، وَهِي: ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً، وَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُم» وَذَلِكَ لِتَشْدِيدِ العَقْلِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ ماجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسْنٌ غَرِيْبٌ)}.
قوله هنا: «مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا»؛ لأنَّ القِصَاص لا يثبت إلا حالَ قتل العمد، أمَّا قتل الخطأ فلا قصاص فيه.
قال: «دُفِعَ»، يعني: دُفِعَ ذلك القاتل.
قوله: «إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ»، يعني: قرابة المقتول.
قوله: «فَإِنْ شَاؤُوا»، يعني: أولياء المقتول.
قوله: «قَتَلُوا»، على جهةِ القصاص.
قوله: «وَإِنْ شَاؤُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ»، وفيه دلالة لمذهب الشَّافعيِّ وأحمد في أنَّ مُوجب القتل العمد العدوان هو القصاص أو الدِّيَة، خلافًا لمالك وأبي حنيفة الذين يقولون: إنَّ موجبه هو القصاص فقط.
ثم قال: «وَهِي: ثَلَاثُونَ حِقَّةً»، الحِقَّة: هي التي تمَّت أربع سنين ودخلت في الخامسَة، فالدِّيَة تجب ثلاثون من هذا النوع.
قال: «وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً»، الجذعة هي التي أكبر من الحِقَّة، وهي التي دخلت في الخامسة.
قال: «وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً»، يعني: حامل.
قال: «وَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُم»، يعني: يجوز لهم أن يصطلحوا على ما شاؤوا، وذلك لتشديدِ القتل، أي: التأكيد عليه وبيان حرمته.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «عَقْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفُ عَقْلِ المُسْلِمِيْنَ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى» رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْنُ ماجَهْ وَالنَّسَائِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ- وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ، وَلأَبي دَاوُدَ: «دِيَةُ المُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الحُرِّ»)}.
في هذا إثبانُ الدِّيَة لقتلِ أهلِ الذِّمَّة، وظاهره أنَّها على النِّصف، وبذلك قال أحمد ومالك.
وقال الإمام أبو حنيفة: لهم الدِّيَة تامَّة.
وقال طائفة: ليس لهم إلَّا ثُلث الدِّيَة فقط.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولِلنَّسَائِيِّ: «عَقْلُ المَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثُ مِنْ دِيَتِهَا» رَوَاهُ منْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بنِ عَيَّاشٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرٍو، وَقَالَ: إِسْمَاعِيلُ ضَعِيفٌ كَثِيرُ الْخَطَأ)}.
إذا روى إسماعيل بن عيَّاش عن أهل الشَّام قُبِلَت روايته، وإذا روى عن غيرهم لم تُقبَل، وابن جريج من أهل الحجاز، فروايته هنا عن غير أهل الشام، ولذلك ضَعَّف كثيرٌ من أهل العلم هذا الخبر، ولكنَّه قد دلَّ على معناه عددٌ من الآثار.
قوله: «عَقْلُ المَرْأَةِ»، أي: ديةُ المرأة.
قوله: «مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ»، أي: تساويه في المقدار.
قوله: «حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثُ مِنْ دِيَتِهَا»، يعني: إذا بلغ الثلث فحينئذٍ يجب في عقل المرأة نصف عقل الرَّجل.
إذن؛ المرأة تُماثل الرجل حتى تبلغ الدية الثُّلث، فإذا زادت فحينئذٍ تناصفه في الدِّيَة، وقال الجمهور بهذا ومنهم: مالك والشافعي وأحمد، لورود هذا الخبر.
وعند طائفة أخرى: أنَّ المرأة تُماثل الرجل مُطلقًا.
وهذا الخبر مخالف للقياس، فإنَّه يوجب في الإصبع عشر، والأصبعين عشر، والثلاثة عشر، والأربعة يُوجب فيها النصف وهي عشرون، فالثلاثة فيها ثلاثون، والأربعة فيها عشرون من دية المرأة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «عَقْلُ شِبْهِ العَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ عَقْلِ العَمْدِ، وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ، وَذَلِكَ أَنْ يَنْزُوَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ النَّاسِ فَتَكُونَ دِمَاءٌ فِي غَيْرِ ضَغِيْنَةٍ وَلَا حَمْلِ سِلَاحٍ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ)}.
قوله في هذا الخبر: «عَقْلُ»، أي: دية.
قوله: «شِبْهِ العَمْدِ»، وهو القتل الذي يكون بآلة لا تقتل غالبًا.
قوله: «مُغَلَّظٌ»، أي: يكون أشد من دية قتل الخطأ.
وفي هذا إثبات القتل شبه العمد، وبه قال الجمهور خلافًا للمالكيَّة.
قوله: «مِثْلُ عَقْلِ العَمْدِ»، أي: تجب فيه ديةٌ وافيةٌ تامَّةٌ، ولا يُخفَّفُ فيها.
قوله: «وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ»، إذن شبه العمد والعمد يتماثلون في الدِّيَة، ولكنَّهم يختلفون في كون العمد يوجبُ القصاص بخلاف شبه العمد.
ثم قال في تفسير شبه العمد: «وَذَلِكَ أَنْ يَنْزُوَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ النَّاسِ فَتَكُونَ دِمَاءٌ فِي غَيْرِ ضَغِيْنَةٍ»، يعني: بغضاء. «وَلَا حَمْلِ سِلَاحٍ».
وفي هذا دلالةٌ على أنَّ ديَة شبه العمد مُغلَّظَة، وفيه دلالةٌ على أنَّه يُوجَد من أنواع القتل قتل شبه العمد.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «قَتِيلُ الْخَطَأِ شِبْهِ العَمْدِ: قَتِيلُ السَّوْطِ وَالعَصَا، فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ ماجه وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ.
وَعَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ زَيدِ بنِ جُبَيرٍ، عَنْ خِشْفِ بنَ مَالكٍ، قال: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرينَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرينَ ابْنَ مَخَاضٍ ذُكُورًا، وَعِشْرينَ بِنْتَ لَبُوْنٍ، وَعِشْرِيْنَ جَذَعَةً، وَعِشْرِيْنَ حِقَّةً. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ -وَقَالَ: الْحَجَّاجُ بنُ أَرْطَاةَ ضَعِيفٌ لَا يحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ بَالغَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي تَضْعِيفِ هَذَا الحَدِيثِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ)}.
هذه الأحاديث فيها بيان الفرق في مِقدار الدِّية بين القتل الخطأ، والقتل شبه العمد، والقتل العمد، وقد ذكر أنَّ قتيل الخطأ شبه العمد هو الذي يَستعمل آلةً لا تقتلُ غالبًا، فهو يُريد الجنايةَ ولكنَّه لا يُريد القتل، ولذلك لم يستعمل آلة فيها القتل؛ فإذا نتج عَن فِعله الموت فوجبَ على صاحبه حينئذٍ القصاص.
قال: «قَتِيلُ الْخَطَأِ شِبْهِ العَمْدِ: قَتِيلُ السَّوْطِ وَالعَصَا»، يعني: يقتله ولا يُريد قتلَه، ولكنَّهُ يُريدُ الجِنَايةَ عليهِ.
قال: «فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا»، أي: أنَّها تحمل أجنَّتها في بطونها.
والحديث الآخر في إسناده الْحَجَّاجُ بنُ أَرْطَاةَ، وقد تقدَّم معنا أنَّه مُدلِّسٌ وقد عنعن هنا، وأيضًا خِشْفُ بن مالك مُتكلَّمٌ فيه عند كثيرٍ من العلماء.
قال: (سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دِيَةِ الْخَطَأِ) أي أن تقسم خمسة أقسام كالتالي:
(عِشْرينَ بِنْتَ مَخَاضٍ)، بنت المخاض: هي التي لها سنة.
قال: (وَعِشْرينَ ابْنَ مَخَاضٍ ذُكُورًا)، وهي الذكور ولها سنة واحدة.
قال: (وَعِشْرينَ بِنْتَ لَبُوْنٍ)، أي: لها سنتان.
قال: (وَعِشْرِيْنَ جَذَعَةً)، أي: لها ثلاث سنوات.
قال: (وَعِشْرِيْنَ حِقَّةً)، أي: لها أربعُ سنوات، فهذا بيان الواجب في دية الخطأ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دِيَتَهُ اثْنَي عَشَرَ أَلْفًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ï´؟وَمَا نَقَمُوْا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ مِنْ فَضْلِهِï´¾ [التوبة:74]، فِي أَخْذِهِمُ الدِّيَةَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ -وَهَذَا لَفْظُهُ وَقَالَ: الصَّوَابُ مُرْسَلٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ بَعْدَ أَنْ رَوَاهُ مُرْسَلًا: الْمُرْسَلُ أَصَحُّ)}.
أوردَ المؤلف هنا حديث عكرمة عن ابن عباس، مرَّةً يرويه عكرمة عن ابن عباس، ومرَّةً يقول عكرمة: (قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ...)، فيكون مُرسلًا؛ ولذلك تكلَّمَ فيه أهل العلم. ومحمد بن مسلم الذي فعل ذلك مختلَفٌ فيه.
قوله: (قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه أنَّه قد يوجد جرائم كبيرة في عهد النُّبوَّة، وكونُ الله عصمَ نبيَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يعني عصمَة أهل زمانه.
قال: (فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دِيَتَهُ اثْنَي عَشَرَ أَلْفًا)، ظاهره أنَّه من الدَّراهم من الفضَّة. وفي هذا دلالة لمن يقول: إنَّ المذكورات في الدِّية أصول مُتعدِّدَة وليست أصلًا واحدًا.
قال: (وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ï´؟وَمَا نَقَمُوْا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ مِنْ فَضْلِهِï´¾ [التوبة:74]، فِي أَخْذِهِمُ الدِّيَة).
ثم أوردَ المؤلف مَن روى هذا الخبر، وهم: أبو داود والترمذي وابن ماجة والنَّسائي، وتقدَّم معنا وجه الاعتراض على هذا الخبر.
وفي الحديث دلالة على جواز صرف الدِّيَة من الأموال الأخرى.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله لكلِّ خيرٍ، وجعلك الله موفَّقًا، وجعل الله مَن يقف معكَ كذلك موفَّقًا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-30, 07:59   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ الْحَادِي عَشَر (11)
معالي الشيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
بارك الله فيك، وأسأل الله -جلَّ وعَلَا- أن يستعملنا وإيَّاكم في طاعته، كما أرحبُ بك، وأرحب بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلَا- للجميعِ نيَّةً خالصةً، وعملًا نافعًا صالحًا، كما أسأله -جلَّ وعَلَا- صلاحًا لأحوالِ الأمَّة، واسقامة لأمورها، وتآلفًا بين قلوبها.
{نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- من باب "القَسَامَة" من كتاب المحرَّرِ لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ سَهْلِ بنِ أَبي حَثْمَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ: أَنَّ عَبدَ اللهِ بنَ سَهْلٍ ومُحيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُم، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عبدَ اللهِ بنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وطُرِحَ فِي عَينٍ أَو فَقِيرٍ فَأَتَى يَهُودَ، فَقَالَ: أَنْتُم وَاللهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى قَوْمَهِ فَذَكَرَ لَهُم ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ -وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ- وَعَبدُ الرَّحْمَنِ بنُ سَهلٍ، فَذَهَبَ مـُحَـيِّصَةُ ليَتَكَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لـمُحَيِّصَةَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ» -يُرِيدُ السِّنَّ- فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثمَّ تَكَلَّمَ مُـحَـيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ» فَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لـحُوَيِّصَةَ ومُحَيِّصَةَ وَعبدِ الرَّحْمَنِ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُوْدُ؟» قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَقَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَعِندَ البُخَارِيِّ: عَنْ سَهلِ بنِ أَبي حَثْمَةَ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ، وَعِنْدَهُ: وَعبدُ الرَّحْمَنِ بنُ سَهلٍ، فَذَهَبَ ليَتَكَلَّم وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ)}.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أما بعدُ؛ فالمراد بالقَسَامة: أيمانُ أولياءِ الدَّمِ أنَّ قريبَهم قد قتله فلانٌ، ويكون ذلك حال وجودِ اللَّوثِ والشُّبهةِ، والخصومةِ السَّابقة، وبالتَّالي تثبت هذه الجريمة على مَن حلفوا عليه.
والجمهور على أنَّ القَسَامَة مُوصلة لاستحقاق الدَّم، بحيث يُقتل مَن حُلف عليه.
وهناك طائفة قالوا: إنَّ محصّلة القَسَامة في الدِّية، والقسامة طريق لإنهاء الخصومات التي تكون بين القبائل وبين أهل المحالِّ المختلفة.
وجرت السُّنَّة الكونيَّة في أنَّ مَن حلفَ القسَامة ثم لم يكونوا صادقين في حلفهم أن يُستأصلوا، وقد ذكر المؤلف عددًا من الأحاديث، فقال: (عن سَهْلِ بنِ أَبي حَثْمَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ)، سهلٌ من الأنصار، وهو يروي عن كثيرٍ من الصَّحابة، فالظَّاهر أنَّ هؤلاء الرِّجال من الصَّحابة، وبالتَّالي لا يضر عدم تسميتهم، وقد أشار المؤلف إلى أنَّه في إحدى روايات الخبر (عَنْ سَهلِ بنِ أَبي حَثْمَةَ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ).
قال: (أَنَّ عَبدَ اللهِ بنَ سَهْلٍ ومُحيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ)، خيبر كانت تسكنها في ذلك الوقت اليهود، وكان مُرادهم بهذا الخروج أن يعملوا عند أهل خيبر من أجل أن يكون ذلك من أسباب الاكتساب، ولذا قال: (مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُم)، أي: من شدَّةٍ وفقرٍ وحاجةٍ، فأرادوا أن يعملوا ويأخذوا أُجرةً على عملهم.
قال: (فَأَتَى مُحَيِّصَةُ)، أي: جاء رجل إلى محيِّصة ليُخبره.
قال: (فَأَخْبَرَ أَنَّ عبدَ اللهِ بنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ)، وهو ابن عمِّه.
قال: (وطُرِحَ فِي عَينٍ)، العين: مورد الماء الذي ينبع من الأرض.
قال: (أَو فَقِيرٍ)، المراد به: البئر قريبة القعر وليست مُتعمِّقة، وفي الغالب يكون فمها واسعًا، ويكون حولها شيءٌ من النَّخل.
فلمَّا أُخبر محيصة بخبر مقتل عبد الله بن سعد أتى لليهود، فَقَالَ: (أَنْتُم وَاللهِ قَتَلْتُمُوهُ)، قُتل في ديارهم وبينَ نخيلهم ومساكنهم، ولا يُوجد عندهم أحدٌ إلا باطلاعهم وإشرافهم، ولذا اتَّهمهم بقتله.
قَالُوا: (وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى قَوْمَهِ)، يعني: رجع إلى قومه من الأنصار.
قال: (فَذَكَرَ لَهُم ذَلِكَ)، يعني: وفاة عبد الله بن سهل في خيبر.
ثم جاؤوا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ -وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ- وَعَبدُ الرَّحْمَنِ بنُ سَهلٍ)، عبد الرحمن أخو المقتول، وفي بعض الألفاظ أنَّ عبد الرحمن أراد أن يتكلَّم؛ لأنَّه هو وليُّ الدَّم، وفي بعض الألفاظ أنَّ الذي كان يُريد أن يتكلَّم هو محيِّصة؛ لأنَّه قد قرُبَ من الحادثة وعنده شيءٌ مباشر.
قال: (فَذَهَبَ مـُحَـيِّصَةُ ليَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ)، يعني: ابتدأ بالكلام.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لـمُحَيِّصَةَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ»، يعني: ليتكلَّم مَن هو أكبر سنًّا منكَ، وفيه تقديم الكبير في السِّنِّ سواء في الكلام أو في الدَّعوة أو في المجلس ونحوه.
قال: (فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثمَّ تَكَلَّمَ مُـحَـيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ»)، أي: أنَّ اليهود يُخيَّرون بين اثنتين:
• إمَّا أن يدفعوا الدِّية، فقوله: «يَدُوا صَاحِبَكُمْ»، أي: يدفعوا ديته.
• أو يُقاتلهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكونهم قد قتلوا هذا الرجل، وذلك قوله: «وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ».
وكأنَّ المراد: إن كان كلامكم يا محيِّصة وحويِّصة صحيحًا فأحد هذين الخيارين: إمَّا أن يَدُوا بدفعِ الدِّيَة، وإمَّا أن يُعلَموا بأنَّهم قد نقضوا العهد، وبالتَّالي نُقاتلهم.
قال: (فَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ)، يعني: إلى اليهود، وفيه مشروعيَّة الكتابة، خصوصًا في إثبات الحقوق، وفيه أنَّ صاحب الولاية والقضاء قد يكتب الكتاب من أجل أن يُعرَّف بحقيقة الحال.
وفيه نسبة الفعل لمَن أمرَ به وإن لم يكن مُباشرًا، فإنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن يكتُب، وإنَّما الذي كتبَ أحد الصَّحابة بأمره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فردَّ اليهود بكتابٍ فقالوا: (إِنَّا وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لـحُوَيِّصَةَ ومُحَيِّصَةَ وَعبدِ الرَّحْمَنِ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟»)، أي: أتحلفون على شخصٍ بعينه أنَّه هو الذي قتل عبد الله بن سهل، وتستحقون دمَ صاحبكم؟ وهذه هي القسامة.
ولفظ: «وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟» استدلَّ به الجمهور على أنَّ القسَامة يترتب عليها إثبات القصاص.
قَالُوا: (لَا)؛ لأنَّهم لم يشاهدوا مقتل صاحبهم، ولا يعلمون به، وإنَّما عندهم غالب ظنون واحتمالات، ولا يوجد عندهم يقين، ولذا امتنعوا من اليمين.
الشاهد هنا في قوله: «أَتحلِفُونَ؟»، يعني: أيمان القسامة.
وقوله: «وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟»، يعني: يثبت القصاص فيمَن عيَّنتموه، وذكرتم أنَّه هو قاتل عبد الله بن سهل.
فقالو: (لَا)، يعني: كيف نحلف ونحن لم نُشاهد؟!
قَالَ: «فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُوْدُ؟»؛ لأنَّ اليهود هنا هُم المُدَّعى عليهم.
قَال عبد الرحمن وحويصة ومحيصة: (لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ)، وبالتَّالي لن يتورّعوا من اليمين والحلف الكاذب.
فما كان من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا أن سعَى للإصلاح، فقدَّمَ ديةً لهم من عنده، قال: (فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عِنْدِهِ).
يقول سهل: (فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِائَةَ نَاقَةٍ)، وهذا مقدار الدِّية.
قال: (حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ)، فيه أنَّ مَن وجبَت عليه الدِّيَة يقوم بتسليم الدِّية لأولياء الدَّم.
فَقَالَ سَهْلٌ: (فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ)، أي: أنَّها قامت بضربه برجلها.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي سَلَمَةَ بنِ عَبدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زوجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقَرَّ القَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَينَ نَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى اليَهُودِ. رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
هذا الخبر صحيح الإسناد، أخرجه مسلم.
قوله: (عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، لا يضر عدم تسمية الرجل؛ لأنَّ الصَّحابة كلهم عدول.
قال: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقَرَّ القَسَامَةَ)، يعني: أنَّ القسامة كانت موجودة فيما قبل الإسلام، ويظهر أنَّها منقولَة عن الأنبياء السَّابقين.
قال: (عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ)، يعني: على أحكامها الظَّاهرة.
قال: (وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يدلُّ على استمرار حكم القَسَامة.
قوله: (وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَينَ نَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى اليَهُودِ)، ولعلَّها قصَّة سهل بن أبي حثمةَ التي رواها من طريقِ رجالٍ من كبراء قومه، وفيه أنَّ عبد الله بن سهل هو الذي مات في ذلك اليوم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ صَوْلِ الفَحْلِ وَجِنَايَةِ البَهَائِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ أُرِيْدَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَاتَلَ دُوْنَهُ فَقُتِلَ، فَهُوَ شَهِيدٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ)}.
قوله: (بَابُ صَوْلِ الفَحْلِ)، يعني: إذا صالَ عليكَ شخصٌ أو حيوانٌ يُريد قتلك، فإذا لم تستطع أن تتفاداه إلا بقتله فلا حرج عليكَ في ذلك.
وقوله: (وَجِنَايَةِ البَهَائِمِ)، يعني: أفعال البهائم التي ترتب عليها جناية وإتلاف لشيءٍ من المعصوم.
أوردَ في هذا الباب حديث عبد الله بن عمرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»، في هذا جواز مُقاتلة مَن أرادَ مالك، وإن كان الجمهور لا يُوجبون ذلك، ولكن يقولون: لو قُدِّرَ أنَّ الذي قاتل دونَ ماله مات فإنَّ له أحكام الشَّهادة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَاتَلَ يَعْلَى بنُ مُنْـيَةَ -أَو أُمَيَّةَ- رَجُلًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَانْتَزَعَ يَدَهَ مِنْ فَمِهِ، فَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ -وَفِي لَفظٍ: ثنيَّـتَـيْهِ- فاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَيَعَضُّ أَحَدُكُمْ كَمَا يَعَضُّ الفَحْلُ، لَا دِيَةَ لَهُ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله: (قَاتَلَ)، أي: نازَعَ وخاصمَ خصومةً كانَ فيها اشتباكٌ بينَ الأيدي.
ويَعْلَى بنُ مُنْـيَةَ صحابي، مرَّةً يُنسب إلى أمٍّ له يُقال لها: "منيَّة" ومرَّةً يُنسَب إلى أبيه فيُقال: "ابن أمية".
قال: (قَاتَلَ رَجُلًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَانْتَزَعَ يَدَهَ مِنْ فَمِهِ)، أي: سحبها بقوَّة، فأدَّى ذلك إلى نزع ثَنِيَّتَهُ -وَفِي لَفظٍ: ثنيَّـتَـيْهِ- وهما: الأسنان التي في زاوية الفم.
قال: (فاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يعني: هل في ذلك دية أو لا؟
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَعَضُّ أَحَدُكُمْ كَمَا يَعَضُّ الفَحْلُ»، يعني: هذه طريقة الفحل، وليست طريقة بني آدم، أنت المتسبِّب في كونه خلعَ سنَّكَ، فهل تريد أن تبقى يده عندكَ وأنت تُؤلمها وتحزها بأسنانك وصاحبها لا يقوم برفعها؟!
ثم قال: «لَا دِيَةَ لَهُ»؛ لأنَّ هذا الذي عضَّ صائل.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَو أَنَّ امْرَءًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ، وَفِي لفظٍ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَأَبُي حَاتِمٍ البُسْتِيِّ: «مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَفَقَأُوا عَيْنَهُ، فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ»)}.
ذكر المؤلف قال: (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أبو القاسم هو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: «لَو أَنَّ امْرَءًا »، يشمل أيضًا المرأة؛ لأنَّ الحكم واحد.
قوله: «اطَّلَعَ عَلَيْكَ»، أي: تجسَّسَ على بيتِكَ ومحلِّكَ.
قوله: «بِغَيْرِ إِذْنٍ»، أي: لم يكن عنده إذنٌ سابقٌ.
قال: «فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ»، أي: رميتها عليه.
قال: «فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ»، أي: لا يكون عليك إثم بسبب ذلك.
ثم روى اللفظ الآخر: «مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَفَقَأُوا عَيْنَهُ، فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ»، لا دية ولا قصاص؛ لأنَّه تجاوز في الاطلاع على حال أهل البيت.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ حَرَامِ بنِ مُـحَـيِّصَةَ الْأنْصَارِيِّ، عَنِ الْبَراءِ بنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيةٌ فَدَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَكُلِّمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا، فَقَضَى أَنَّ حِفْظَ الحَوائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَحِفْظَ الماشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الماشِيَةِ مَا أَصَابَتْ ماشِيَتُهُم بِاللَّيْلِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الطَّحَاوِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ مَشْهُورٌ حدَّثَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الثِّقَات)}.
وجه الإشكال في هذا الحديث: أنَّه من رواية حرام بن محيِّصة عن البراء بن عازب، وهو لم يلقَه ولم يروِ عنه، ولذلك تكلم بعض أهل العلم في إسناد هذا الخبر ورموه بالضَّعف.
وقوله: (كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيةٌ)، أي: تعتدي وتتجاوز إلى حقوق الآخرين، وذلك أنَّ بعضَ الإبلِ يأتيهم في زمانٍ شيءٌ يجعلهم يعتَدون على الآخرين، وفيه جواز تملُّك النُّوق واستعمالها.
قال: (فَدَخَلَتْ حَائِطًا)، يعني: دخلت بستانًا ونخلًا.
قال: (فَأَفْسَدَتْ فِيهِ)، أي: دخلت حائطًا لغير مالكها فأفسدت الأشجار والثِّمار والزُّروع.
قال: (فَكُلِّمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا)، يعني: في هذه النَّاقة؛ لأنَّ هذا نوع من الاعتداء والظُّلم على الآخرين.
قال: (فَقَضَى أَنَّ حِفْظَ الحَوائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا)؛ لأنَّه وقت عملهم ونشاطهم، وبالتالي يتمكنون من حفظ هذه الحوائط.
قال: (وَحِفْظَ الماشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا)، يعني: على أهل الماشية، وذلك أنَّ الليل محل سكونٍ واضطجاع، وبالتَّالي أسنده إلى أصحاب البهائم.
قال: (وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الماشِيَةِ مَا أَصَابَتْ ماشِيَتُهُم بِاللَّيْلِ)، يعني: ما أصابت بالليل يلزم أصحاب الماشية.
هذا الحديث ظاهره الصحَّة وفي إسناده اختلاف، ولكن لا يؤثِّر ذلك الاختلاف عليهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ، فَهُوَ ضَامِنٌ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ -وَتوقَّفَ فِي صِحَّتِهِ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَـمْ يسْنِدْهُ عَنِ ابْنِ جريجٍ غَيْرُ الْوَلِيدِ بنِ مُسْلمٍ، وَغَيْرُهُ يَرْويهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ مُرْسَلًا، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
هذا الحديث -كما ذكر المؤلف- رواه الوليد بن مسلم، والوليد بن مسلم ثقة من رواة الصحيح، ولكنَّه يُدلِّس، ولذلك لا يقبلون من حديثه إلا ما صرَّح فيه بالسَّماع، وهذا الحديث لم يُصرِّح فيه بالسَّماع ورواه بالعنعنة.
وبعض أهل العلم يقول: إنَّ صحَّة هذا الخبر إنَّما هي عن ابن جريج من كلامه وليس مرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والإمام أبو داود توقَّفَ في صحَّته، وكثير من أهل العلم كالنسائي وابن ماجه وغيرهم رأوا التَّوقُّف.
والويد بن مسلم مدلِّس، ويدلس تدليس التَّسوية، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: (وَغَيْرُهُ يَرْويهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ مُرْسَلًا)، فهو من حديث عمرو بن شعيب مرسلًا وليس مَرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَطَبَّبَ»، أي: مَن دخلَ في باب الطِّبِّ وأصبحَ يُعالج النَّاس.
قال: «وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ»، أي: ليس عنده شهادة طبيَّة؛ فحينئذٍ يكون ضامنًا متى تلفت السِّلعَة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابٌ فِي البُغَاةِ وَالخَوَارِجِ وَحُكْمُ المُرْتَدِّ
عَنْ عَرْفَجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيْعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ». رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قوله: (بَابٌ فِي البُغَاةِ وَالخَوَارِجِ وَحُكْمُ المُرْتَدِّ).
البغاة: قومٌ لهم منعة يخرجون على صاحب الولاية من أجل أمور دنيا، فهؤلاء يُقال لهم: بغاة.
لماذا سُمُّوا بُغاة؟
لأنَّ الله تعالى قال: ï´؟فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِï´¾ [الحجرات:9].
وأمَّا الخوارج: فهؤلاء أصحاب عقيدة، وملخَّصها ومؤدَّاها أنَّهم يقولون بجواز الخروج على صاحب الولاية.
وأمَّا المرتد: فهو التَّارك لدينه المفارق للجماعة.
ثم أوردَ المؤلِّف هنا حديث عرفجة، قال: سمعتُ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيْعٌ»، يعني: وأنتم مجتمعون ما عندكم اختلافات.
قال: «عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ»، يعني: قد ولَّيتموه.
قوله: «يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ»، هذا الرَّجل من البُغاة، وقد يكون من الخوارج ويُريد أن يشق صف المسلمين، ويفرق كلمتهم، وقد أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقتله.
وفي هذا بيان حكم مَن خرج على صاحب الولاية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَليٍّ قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيْتُمُوْهُمْ فَاقْتُلُوْهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا -لِمَنْ قَتَلَهُمْ- عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. وَقَالَ البُخَارِيُّ: «فَأَيْنَمَا لَقِيْتُمُوْهُمْ فَاقْتُلُوْهُمْ»، وَقَالَ: «وَلَا يُجَاوِزُ إِيْمَانُهُمْ حَنَاجِرَهَمْ» وَلم يَقُلْ: «يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ»)}.
أورد المؤلف هنا حديث علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: «سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ»، يعني: أسنانهم صغيرة.
قال: «سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ»، يعني: ليس لهم عقول تُمكِّنهم من معرفة عواقب الأمور.
قال: «يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ»، أي: يستندون إلى أحاديث منسوبة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد يشمل هذا أيضًا القرآن.
قال: «يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، أي: يخرجون من طاعة الإمام. «كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»
قوله: «فَإِذَا لَقِيْتُمُوْهُمْ»، أي: وجدتموهم وقابلتموهم.
قوله: «فَاقْتُلُوْهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا -لِمَنْ قَتَلَهُمْ- عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»، هذا فيه دلالة على أنَّ الإنسان يجب عليه مُقاتلة الخوارج مع صاحب الإمامة.
والجمهور على أنَّ هذا الوجوب من فُروض الكفايات، ولكن إذا حضر العدو أو القريب؛ فحينئذٍ يُشرَع العمل بما ورد في الخبر.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أُتِـيَ عَلِيٌّ بزَنادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَو كُنْتُ أَنَا لمْ أُحَرِّقْهُمْ لِنَهْيِّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللهِ»، ولَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَزَادَ البَيْهَقِيُّ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: وَيْحَ ابْنَ أُمِّ الفَضْلِ، إِنَّهُ لَغَوَّاصٌ عَلَى الهَنَاتِ)}.
قوله: (وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أُتِـيَ عَلِيٌّ بزَنادِقَةٍ)، الزَّنادقة لا يُوقنون ويقطعون بأصل الدين، وقد يكون عندهم خلاف ما ورد به شرع الله.
قال: (فَأَحْرَقَهُمْ)، وقيل: إنَّ هؤلاء الزَّنادقة هم الذين ألَّهوا عليًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال: (فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَو كُنْتُ أَنَا لمْ أُحَرِّقْهُمْ لِنَهْيِّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللهِ»، ولَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ»)، في هذا بيان حكم المرتد.
قال: (فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: وَيْحَ ابْنَ أُمِّ الفَضْلِ، إِنَّهُ لَغَوَّاصٌ عَلَى الهَنَاتِ).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي مُوسَى فِي حَدِيثٍ لَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ إِلَى اليَمَنِ»، ثُمَّ اتَّبَعَهُ معَاذُ بنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً، وَقَالَ: انْزِلْ، فَإِذا رَجُلٌ عِنْدَه مُوْثَقٌ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، قَالَ: اجْلِسْ، قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتَلَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبي مُوسَى، قَالَ: قَدِمَ عَلَيَّ مُعَاذٌ، قَالَ: لَا أَنْزِلُ عَنْ دَابَّتِي حَتَّى يُقْتَلَ فَقُتِلَ، وَكَانَ قَدِ اسْتُـتِـيـبَ قَبْلَ ذَلِكَ)}.
قوله: (وَعَنْ أَبي مُوسَى فِي حَدِيثٍ لَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ إِلَى اليَمَنِ»)، فإنَّ أبا موسى جاء طالبًا لللاية، فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ إِلَى اليَمَنِ»
قوله: (ثُمَّ اتَّبَعَهُ معَاذُ بنُ جَبَلٍ)، الصَّحابي المعروف ليكون إمامًا.
قال: (فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً، وَقَالَ: انْزِلْ) من باب الاحتفاء به.
قال: (فَإِذا رَجُلٌ عِنْدَه مُوْثَقٌ)، أي: مربوط بالحبال الوثيقة.
قال: (قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ)، فحينئذٍ ارتدَّ عن دينه وترك دين الإسلام.
قال أبو موسى لمعاذ: (اجْلِسْ)، أي: نتشاور في أمره.
فقال معاذ: (لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ)، قالها ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، حتى أَمَرَ بِهِ فَقُتَلَ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: حَدَّثَـنَـا ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَشْتُمُهُ، فَأَخَذَ المِغْوَلَ، فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا، فَوَقَعَ بَيـنَ رِجْلَيْهَا طِفْلٌ فَلَطَّخَتْ مَا هُنَاكَ بِالدَّمِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَمَعَ النَّاسَ، فَقَالَ: «أَنْشُدُ اللهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ، لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ» فَقَامَ الْأَعْمَى يَتَخَطَّى النَّاسَ، وَهُوَ يَتَزَلْزَلُ حَتَّى قَعَدَ بَينَ يَدَيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنا صَاحِبُهَا، كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيْكَ، فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وأَزْجُرُها وَلَا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ: اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً، فَلَمَّا كَانَ البَارِحَةَ، جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَخَذْتُ المِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطنِهَا، وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الإِمَامُ أَحْمدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبدِ اللهِ، وَالمِغْوَلُ بِالـمُعْجَمَةِ: قَالَ الْخطَّابِيُّ: «هُوَ شَبِيْهُ الـمِشْمَلِ وَنَصْلُهُ دَقِيقٌ مَاضٍ»، والـمِشْمَلُ: السَّيْفُ القَصِيْرُ)}.
عكرمة تابعي وقد روى هذا الخبر عن ابن عباس، فقال: (حَدَّثَـنَـا ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَعْمَى)، يعني: أنَّ هناك رجل أعمى.
قوله: (كَانَتْ لَهُ أمُّ وَلَدٍ)، أمُّ الولد هي أمة مملوكة حملت من سيدها، فجاءت منه بولد -ذكرًا كان أو أنثى- فهذه تسمى أم ولد.
وحكمها: أن تبقى في الخِدمَة وفي حيازة سيدها حتى تموت، وتُعتَق بموت سيدها، وهذا الولد يُنسَب لأبيه ويرثه وإن كانت أمُّه أمَةً، وأمَّا أمُّه (الأمة) فما دامت مملوكة فحينئذٍ تبقى على كونها مملوكة.
قال: (كَانَتْ لَهُ أمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَا)، أي: يُكلمها بشدَّة وخطاب قوي فَلَا تَنْزَجِرُ.
قال: (فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَشْتُمُهُ)، على عادتها، وهذا أمرٌ محرَّمٌ وفعلٌ شنيع.
قال: (فَأَخَذَ المِغْوَلَ، فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا)، أي: أنَّه أراد أن يقتلها.
قال: (وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا)، وكانت حاملًا بطفل آخر قال: (فَوَقَعَ بَيـنَ رِجْلَيْهَا طِفْلٌ فَلَطَّخَتْ مَا هُنَاكَ بِالدَّمِ)، أي: لَمَّا ماتت خرج منها دماء كثيرة أثَّرت على جميع الموجودات.
قال: (فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي: ذُكر للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ هذا الرجل قتل أم ولده التي كانت تشتم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (فَجَمَعَ النَّاسَ)، فيه مشروعيَّة الخطبة عند الأمر الجَلَل العام.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْشُدُ اللهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ، لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ»، يعني: مَن هو هذا الرَّجل الذي قتلَ أمَّ ولده؟ فليقُم وليأتي إليَّ.
قوله: (فَقَامَ الْأَعْمَى يَتَخَطَّى النَّاسَ، وَهُوَ يَتَزَلْزَلُ)، يعني: يضطرب.
قال: (حَتَّى قَعَدَ بَينَ يَدَيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنا صَاحِبُهَا)، أي: أنا الذي قتلت أمَّ ولدي.
قال: (كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيْكَ) أي: تسبُّكَ.
قال: (فَأَنْهَاهَا)، أي: أقول لها: اسكتي ولا تتكلمي بمثل ذلك.
قوله: (فَلَا تَنْتَهِي)، بل تستمر.
قوله: (وأَزْجُرُها وَلَا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ)، أي: أنها جاءت بولدين لسيدها، وهؤلاء الأولاد أحرار -كما تقدم- ويرثون، بخلاف أم الولد فإنها تبقى مملكوة ولا تعتق إلا بموت السيد ولا ترث؛ لأنَّ الرِّق والعبودية مانع من موانع الإرث.
قال: (وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً)، أي: أنَّ أم الولد هذه كانت ترأف بي وترفق بي في التَّعامل معي.
قال: (فَلَمَّا كَانَ البَارِحَةَ، جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ)، أي: تسبُّكَ وتقدح فيك؛ فحينئذٍ لم يرضَ ولم يقبل.
قال: (فَأَخَذْتُ المِغْوَلَ)، وهو آلةٌ حديدية فيها جانبٌ حادٌّ.
قال: (فَوَضَعْتُهُ فِي بَطنِهَا، وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا)، يعني: وضع الآلة الحادَّة على بطنها وأدخلها في بطنها حتى ماتت.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ»، أي: لا يجب فيها ديةٌ بسببِ ذلك.
ثم قال المؤلف: (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الإِمَامُ أَحْمدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبدِ اللهِ، وَالمِغْوَلُ بِالـمُعْجَمَةِ: قَالَ الْخطَّابِيُّ: المغول: هُوَ شَبِيْهُ الـمِشْمَلِ وَنَصْلُهُ دَقِيقٌ مَاضٍ، والـمِشْمَلُ: السَّيْفُ القَصِيْرُ).
فهذا بقيَّة ما أردنا أن نشرحه من كتاب دفع الصَّائل.
أسأل الله -جلَّ وعَلَا- أن يوفقنا وإيَّاكم لكلِّ خيرٍ، وأن يجعلنا وإيَّاكم من الهُداة المهتدي، كما أسأله سبحانه صلاحًا لأحوال الأمَّة، وبُعدًا للنِّزاعِ والشِّقاق عنها، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 07:41

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc