رابعاً:
هذا قارون كان يملك من الكنوز ما يعجز الرجال الأقوياء عن حمل مفاتحه ! وانظر ماذا قال له الناصحون تعلم حقيقة ما نطلب منك مع استمتاعك بالدنيا
فقد نصحه أولئك بخمس نصائح : أن لا يبطر ويطغى بالنعمة
وأن يستعمل تلك النعمة لنيل درجات الآخرة ، وأن يستمتع بما معه في الدنيا بما لا يضر آخرته ، وأن يُحسن إلى الناس كما أحسن الله إليه ، وأن لا يستعمل تلك النعمة في الفساد في الأرض
وهذه – والله – نصائح غالية جامعة مانعة .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله
- : " ( إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ ) ناصحين له محذرين له عن الطغيان ( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) أي : لا تفرح بهذه الدنيا العظيمة وتفتخر بها وتلهيك عن الآخرة ، فإن اللّه لا يحب الفرحين بها المنكبين على محبتها .
( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ) أي : قد حصل عندك من وسائل الآخرة ما ليس عند غيرك من الأموال ، فابتغ بها ما عند اللّه وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات وتحصيل اللذات .
( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) أي : لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعاً ، بل أنفق لآخرتك ، واستمتع بدنياك استمتاعا لا يثلم دينك ولا يضر بآخرتك .
( وَأَحْسِنْ ) إلى عباد اللّه ( كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) بهذه الأموال .
( وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ ) بالتكبر والعمل بمعاصي اللّه والاشتغال بالنعم عن المنعم ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) بل يعاقبهم على ذلك أشد العقوبة . "
انتهى من " تفسير السعدي " ( ص 623 ) .
فنرجو منك مزيد تأمل في تلك النصائح ، وهو المطلوب مِن كل مَن أنعم الله تعالى
وأما بخصوص الصدقات على الفقراء والمحتاجين فاعلم أنه لا يجب عليك في شرعنا المطهر غير زكاة مالك ، وقد يجب عليك الإنفاق على قريب فقير
لكن من حيث المجمل ليس في المال حق سوى الزكاة ، فإذا أديت زكاة الفريضة كما تقول ، فقد أديت ما عليك ، وإذا تصدقت بشيء قليل كما تقول ، فقد أحسنت وتطوعت بنافلة من مالك .
وإن لكن لا يليق بالمسلم أن ينسى أن ما هو فيه من نعمة فإنما هي من الله ، وأن الله تعالى يعطي مُنفقاً خلَفاً ، وأن من أنفق على الناس أنفق الله عليه ، وكل ذلك ثابت بالكتاب والسنَّة الصحيحة
وهو من الشكر العملي لنعمة المال ، ومن الجيد أن تنفق من مالك صدقات على فقراء ومحتاجين ،
فنسأل الله أن يتقبل منك وأن يُخلفك خيراً ؛ لكن إذا قدر أنك أديت الفريضة وفقط ، ولم تتصدق بشيء زائد على ذلك ؛ فليس ذلك من النفاق ، بل ليس ذلك ذبنا تستحق عليه عقوبة أصلا .
خامساً:
المهم في ذلك كله أن تعلم أنه ليس من الدين أن يعرض المسلم عن الدنيا بالكلية ، بل المحذور هو التعلق بالدنيا تعلقّاً كليّاً ، والإعراض عن العمل للدار الآخرة
وعدم العمل لما خُلق من أجله وهو إقامة الدين والعمل بالأوامر والبعد عن المنهيات ، وأما الاستمتاع بمباحات الدنيا وملذاتها الحلال فلا يمنع منها أحد
وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يُخبر عن نفسه إنه قد حُبِّب إليه من دنيا الناس : النساء والطِّيب
وقد أنكر صلى الله عليه وسلم على النفر الذين أراد أحدهم أن يقوم الليل كله ولا يرقد وعلى الثاني الذي أراد أن يصوم فلا يفطر وعلى الثالث الذي أراد ترك التزوج
وأخبر – صلى الله عليه وسلم – أنه يقوم وينام ، ويصوم ويفطر
وأنه يتزوج النساء ، فهذا هديه صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الهدي ، فعلى المسلم أن يكون وسطاً في أمورها كلها ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه ، فلا يتعلق بالدنيا تعلقاً كليّاً ولا يتركها تركاً كليّاً .
وليس الزهد هو الإعراض عن الدنيا ، فقد كان الصحابة الكرام سادة الزهَّاد ولم يمنعهم ذلك من الاستمتاع بما أباحه الله لهم ، بل الصحيح في تعريف الزهد أنه : " ترك ما لا ينفع في الآخرة ".
نسأل الله أن يشرح صدرك للحق وللعمل ه ، وأن يُبعد عنك نزغات الشيطان ، وأن يوفقك لما فيه رضاه .
والله أعلم