دروس عمدة الفقه - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الكتب و المتون العلمية و شروحها ..

قسم الكتب و المتون العلمية و شروحها .. يعنى بجميع المتون من نظم و قصائد و نثر و كذا الكتب و شروحاتها في جميع الفنون على منهج أهل السنة و الجماعة ..

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

دروس عمدة الفقه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2019-10-21, 19:18   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B18 دروس عمدة الفقه

https://benaa.islamacademy.net/files/media/feqh7/01.mp3

https://benaa.islamacademy.net/files/media/feqh7/02.mp3

https://benaa.islamacademy.net/files/media/feqh7/03.mp3

https://benaa.islamacademy.net/files/media/feqh7/04.mp3

https://benaa.islamacademy.net/files/media/feqh7/05.mp3

https://benaa.islamacademy.net/files/media/feqh7/06.mp3

https://benaa.islamacademy.net/files/media/feqh7/07.mp3









 


رد مع اقتباس
قديم 2019-10-21, 20:22   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عمدة الفقه (المستوى السابع)
الدَّرسُ الأول
فضيلة الشيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان


{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وفي مطلع هذه الدروس المباركة أرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكَ الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، وإن شاء الله إطلالة جديدة نسأل الله لنا ولكم التَّوفيق والسَّداد.
{نشرع في هذا الدرس -بإذن الله- من كتاب اللعان من كتاب "عمدة الفقه" للموفق ابن قدامة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ اللِّعَانِ.
إِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، الْبَالِغَةَ اْلعَاقِلَةَ، اْلحُرَّةُ الْمُسْلِمَةُ اْلعَفِيْفَةُ بالزنا، لَزِمَهُ اْلحَدُّ، إِنْ لَمْ يُلاَعِنْ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعدُ؛ فأسألُ الله -جلَّ وَعَلَا- أن يشرح صدورنا بالعلم، وأن يرفعنا به، وأن يجعله بُلغةً لنا في الدنيا، وأجرًا لنا يوم لقاه، وأن يزيدنا وإيَّاكم من الخير والهدى والبر والتقوى.
في إطلالة هذه اللقاءات المباركة وبداية هذا الفصل الدراسي الجديد الذي نرجوا من الله -جلَّ وَعَلَا- أن يكون لنا مُعينًا، وأن نكون فيه من المخلصين، وأن نكون من عباد الله الموفَّقين، ما أحسن أن نتذاكر وأن نتراجع ما يجب أن يكون مستصحبًا معنا في مثل هذه المجالس وفي مثل هذا الميدان، وهذا الطَّريق الذي هو طريق العلم بتجديد النيَّة، واصطحاب القصد لوجه الله -جلَّ وَعَلَا-، فإنَّ الإنسان أسرعُ ما يتغيَّر عن حُسنِ القصدِ، وسلامة النية، وطلب رضا الله -جلَّ وَعَلَا-، فيتزيَّنُ بالعلمِ، ويتكثَّرُ بهِ، ويُريد به البروز على أقرانه والظهور على إخوانه، وأن يُصدَّر في المجالس، أو أن يُرجَع إليه في الأقاويل، فما أكثر ما يستغل ذلك الشيطان ليصرف الإنسان عن النية الصالحة.
لذلك وجبَ عليَّ وعليكَ وعلى كلِّ مَن حضر هذا المجلس المبارك من المشاهدين والمشاهدات أن يُجدِّدَ العزمَ، ويُصلحَ القصدَ، وأن يطلبَ رضا الله -جلَّ وَعَلَا- وأن يستشعرَ قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي رِيحَهَا» ، يعني: لم يجد ريحها، فهذا أعظم ما يكون من التَّحذير، وأبلغ ما يكون من التَّخويف في البعد عن سوء القصد، وتغيُّر التَّوجُّه إلى الله -جلَّ وَعَلَا.
لمَّا كان الأمر كذلك؛ فإنَّه مما ينبغي التَّنبيه عليه أنَّ التَّوفيق إلى العلم مِنَّةٌ ربَّانيَّة، ورحمةٌ إلهيَّة، يمنُّ الله -جلَّ وَعَلَا- بها على عباده، فإذا ما رأيتَ مَن حولكَ وإذا ما التفتَّ إلى مَن سواكَ ورأيت كثيرًا من الناس ينشغلون بدنياهم، ويُشغَلون بشهواتهم، ويملؤون أوقاتهم -في أحسنِ أحوالهم- بالمباحات؛ إن لم تكن المكروهات والمحرمات؛ فإنَّ ذلك منَّةُ الله عليكَ، فإنَّ: لم تُحصِّل ذلك بقوَّتك وقدرتك، واختيارك لنفسك، وإنَّما هو اختيار الله -جلَّ وَعَلَا- لعباده، وتيسير الله -جل وعلا- لأوليائه؛ فاحمد اللهَ على هذه النِّعمَة، وأدِّ حقَّها، وتذكَّر الحديث الذي به تُستفتح هذه اللقاءات وتُختم، وفي إطلالة كلِّ موعدٍ من مواعيدها، وهو قول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الذي في الصحيح: «مَنْ يُرِدِ اللّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» ، جاء في بعض الروايات كعند الطبراني وغيره: «ومن لم يَتَفَقَّهْ في الدِّينِ لم يُبَالِ اللهُ بهِ» ، فأعظم ما تكون به طمأنينة القلب لمَن كان عالمًا ويعبد الله على بصيرة، فإنَّه يعلم صحَّة وضوئه وتمام صلاته، وكمال عبادته، وصحَّة معاملته، وإتيانه لما أُمرَ به ممَّا يصح به كل أعماله وأفعاله وأقواله، ويُبعد عن نفسه الوقوع في الممنوع، أو تعاطي الحرام، أو التَّعرض للعقوبة، أو الوعيد في الدنيا أو الآخرة، ولا يتأتَّى ذلك إلا لمن عرفَ الأحكام وتعلَّم السُّننَ، واهتدى بهدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلأجل ذلك فإنَّ في هذا خير كثيرٌ ومنَّةٌ عظيمة، وإذا كان كذلك من حيث الأصل الذي هو العلم -ميراث النبوة- فإنه أحوج ما نكون إليه في مثل هذه الأوقات المتأخرة والأزمنة المتباعدة التي كثر فيها انصراف الناس عن العلم وابتعادهم عنه.
ثم أيضًا لمَّا كان العلم بركةً للإنسانِ في نفسه، فإنَّه عاصمًا للإنسان من الوقوع في الفتن وتعاطي المحرمات، والانجرار إلى الموبقات والمهلكات، وربما يقول قائل: نحن ربما ندرس تفصيل مسائل لا علاقة لها بكثير من الوقائع، كباب الظِّهار وباب اللِّعان أو الحضانات وغيرها!
نقول: هذا إن كان كذلك من حيث التَّفريعات إلا أنَّه من حيث الأصل فإنَّ للعلم بركة، ومَن شغلَ نفسَه بالعلم والهدى والقرآن والسُّنة وقولِ الله -جلَّ وَعَلَا- وقول رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنَّ الله يجعل له في أحلك الظروف وأشدِّ الأحوال ما يكون له سلامةً من البلايا وخلاصًا وفكاكًا له من النار والعذاب وشدَّة البلاء في الدنيا والآخرة، فإن الله -جلَّ وَعَلَا- بيده مقاليد الأمور وتصريف الأحوال وحفظ العباد، ومن حفظ الله حفظه الله، ومن حفظ كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن الله يكون معه، كما جاء ذلك في الحديث المشهور الذي تحفظونه في وصية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لابن عباس: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظُكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ» ، وليس شيء أعظم من التَّعرُّف إلى الله -جلَّ وَعَلَا- بالصلاة والعبادة والعلم والهداية وطلب العلم والتفقه في الكتاب وفي سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولذلك أُوصي الإخوة والأخوات جميعًا أن يتواصوا على هذا الخير وأن يُقيموا عليه، وأن يثبتوا في الاستمساك بحبله، وعدم الضعف أو التَّكاسل أو التَّواني أو التَّسويف عن البقاء في ميدانه والحرص عليه؛ هذه منَّةُ الهم عليكم، وإنكم ستلقون أحوج ما تكونوا إليه يومَ أن تلقوا ربكم، وأن تخلص هذه الدنيا، وتفتح الصحائف، ويُحاسب العباد على الأعمال؛ فإنَّه لن يجد الإنسان أعظم من صالح عمله، واهتدائه بسنَّة نبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتعلمه للأحكام، والبعد عن سيء الأعمال، وهذه فضيلة تفضل الله -جلَّ وَعَلَا- بها علينا.
هذا من جهة على سبيل العموم والاستهلال والبداية، وإذا أردنا أن نكمل ما توقفنا عنده فإنَّ الإخوة جميعًا يذكرون أننا بحثنا في الفصل الماضي ما يتعلق بالطلاق والإيلاء والظهار، ثم ها نحن نبتدئ أحكام اللعان.
والفقهاء -رحمهم الله- يذكرون في هذه الأبواب مجمل ما تحصل بها الفرقة، أو يؤول إليها، سواء كانت فرقة صحيحة كفُرَقِ الطلاق ونحوها، وإن كان في ذلك تفاصيل قد مرَّ بيان أحكامها، متى يجب ومتى يُكرَه ومتى يُباح ومتى يُسن، إلى غير ذلك من التفاصيل.
ثم تكلَّم الفقهاء على الظِّهار، الذي هو طلاق أهل الشرك قبل الإسلام، وما فيه من الحرمة، وما فيه عن الوعيد من الله -جلَّ وَعَلَا- وعن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكذلك اللعان يؤول إلى الفرقة -كما سيأتي بإذن الله جل وعلا- وهو دراسة لحالٍ خاصَّةٍ تكون بين الزَّوجين، على ما سيأتي بيانه -بإذن الله جل وعلا.
واللعان: من اللعن، وهو الطَّردُ والإبعادُ عن رحمةِ الله -جلَّ وَعَلَا.
وتسمية هذا الكتاب بــ"اللعان" ذلك أنَّ الزَّوجين يتلاعنان، فإذا حصلَ أن قذف الزوج زوجته ولم يأتِ ببينة وطالبت الزَّوجة بالقذف؛ فإنَّه يُدرأ عنه الحد بملاعنته لزوجته.
فهذا هو أصل مشروعيَّة اللعان، وفيه قصة مشهورة، في قصة عويمر العجلاني وهلال بن أمية، لما ذكر للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: "إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ"، فلما ذكر للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما وقف عليه من حال زوجه، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ» ، ثم دعا بهما فأمر بما أمر الله به من التلاعن، فأنزل الله: ï´؟وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَï´¾ [النور: 6،7]، فمن هذا أُخذ تسمية هذا الكتاب وصار أصلًا في هذا الباب.
إذن هذه الآية هي دلالة الكتاب عليه، ودلالة السُّنة حديث عويمر وحديث هلال بن أمية، ويُجمع أهل العلم على أنَّ الزوج إذا قذف زوجته واكتملت الشُّروط؛ فإنَّ له أن يُلاعنها مُسقِطًا للحدِّ عليه، ومفرِّقًا بين الزَّوجين إذا اكتمل اللعان بينهما، ونافيًا للولد إذا نفياه بقولهما تصريحًا أو ضمنًا. هذا من حيث الأصل.
وهنا بين يدي ما يتعلَّق باللعان لابدَّ من التَّنبيه على مسألةٍ، وهي أنَّ حقيقة اللعان أنَّ الزَّوج يقذف زوجته، يعني: بالزنا فيقول: هذه زانية.
وينبغي أن يُعلم -أيها الإخوة- أنَّ اللعان لا يُبنى على الشُّكوك، وأنَّ الزَّوج لمجرد أن يرى بعض سلوكيات زوجه في سوء تعاملها أو في تبذُّلها وتركها للحجاب، أو بعض ما يكون منها من محادثةٍ للرجال أو نحو ذلك؛ أن يحكم بزناها! لا، فإنَّ هذا من الشُّكوك ومن تلاعب الشيطان ومن الوساوس، وعلى الزوج أن يؤدِّبَ زوجته، وأن يربيها، وأن يمنعها من هذه الأفعال السيئة، وأن يحفظها، ولكن لا يجوز له أن يتجرأ بقذفها بالزنا، وإنما ذلك فيمَن رآه عيانًا بيانًا ووقف عليه وتيقَّن حصوله، ولا يلتفت حتى إلى الأخبار، فإنَّ من الناس من يكون شامتًا ومَن يريد بذلك الوقيعة بين الزَّوجين، ومَن يظن وهو جاهل، ومَن يحمل الأمور على غير وجهها، وقد يتبدَّى له ما لا ليس على وجهه؛ فبناءً على ذلك لا ينبغي أن يُدخل في هذا الباب لأدنى شبهةٍ، أو لأقلِّ وسوسةٍ يوسوس بها شيطانُ إنسٍ أو جنٍّ، فيَلَغَ الإنسانُ في الأمرِ العظيمِ.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ)، أي: قذفها بالزنا بخصوصه، فيقول: وقعَت في الزنا في قُبُلها أو دبرها، أما لو قذفها في غير الزنا كأكلها للحرام أو ببعض السِّباب والشِّتام؛ فهذا مما يكون به تعزير ولا يصل إلى أمر اللعان، ولكن إذا حصل القذف في مثل هذه الحال وهو مبني على أمر مشهود معلوم؛ وإلا تبوأ الإنسان بالعذاب الأليم، ولذلك فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قصَّة المتلاعنين لَمَّا لاعن الرجل زوجته، فجاء في الرابعة وقال: "أشهد بالله أنَّها زنت" وقالها أربعًا؛ فأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يُمسك على فمه ويقول: "إنها الموجبة، واتقِ الله، ولعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة".
فقال أمية: "كَذَبْتُ عَلَيْهَا يا رَسولَ اللَّهِ إنْ أمْسَكْتُهَا" ، أو كما جاء في الحديث.
وهذا يدلُّ على أنَّ اللعان إنما يكون بين زوجين، ولذلك لو قذف الرجل أجنبيَّةً أو في وطءٍ بشبهةٍ أو أمة؛ فإنَّه لا لعان بينهما، إذن هذا مخصوص في أمر الزَّوجين، لأنَّ من حيث الأصل أن الأعراض مصونة في الإسلام، لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا» ، فمن تجرَّأ على الأعراض فإنَّه يُحدُّ حدَّ القذف، وهذا أمر مقطوع به، لكن لمَّا كان للزَّوج من الغيرةِ على بيتهِ والحفاظ على أهله وعدم التَّعرض لهم بسوء وما يلحقه من العار فيما لو حصل ذلك؛ يعني: أن الزوج لا يحمله على أن يقذف زوجته إلا الوقوع، وإلا فإنَّه لا يُتصوَّر أن زوجًا يتشفَّى في امراته أو يُظهر عليها عارًا ليس فيها؛ فلما كان الأمر كذلك استثناه الله -جلَّ وَعَلَا- من حدِّ القذف إذا لاعن زوجته، وهذا ليس على الإطلاق أن يقذف الأزواج زوجاتهم، ولكن إذا قذفها فيُمكن أن ندرأ عنه حد القذف إذا لاعن، فمعنى ذلك أنه لن يُلاعن زوجته بعد تجرئه على قذفها إلا أن يكون متيقنًا مما جرى وحصل.
وبناء عليه؛ لو أنَّ رجلًا قذف زوجته فقال لها: يا زانية، يا عاهرة.
نقول: في مثل هذه الحال: لو تبيَّن للزَّوج أنَّه مخطئ في ذلك فلا يجوز له أن يُقدم على اللعان، وعليه أن يرضى إن طالبت هي بالعقوبة وبحد القذف، ويلحق به من التَّطهير ما يلحق، ولكن لا يدخل بابًا لا يجوز له دخوله ويدعو على نفسه باللَّعن والطَّردِ والإبعاد عن رحمة الله، ويُعرِّض المرأة لهذا التَّشهير والابتلاء العظيم، ويُفضي به أيضًا إلى انقطاع الزَّوجيَّة بينهما، وما يلحق ذلك من معرةٍ على الأولاد وتصدُّع البيت وغير ذلك.
قال: (الْبَالِغَةَ اْلعَاقِلَةَ)، لابدَّ أن تكون بالغةً عاقلة، وكونها بالغة لأنَّها ستشهد وتدعو على نفسها بالغضب، وهذا لا يكون من الصَّغير ولا يتصوَّر منه، فالشهادات والأيمان لا تُقبَل إلا من البالغ، فالصغيرة لا يكون منها لعان.
أما لو قذف الصغيرة؛ فليس أمامه إلا أمرين:
الأول: إما أن يأتي بالبيِّنة على أنَّها فعلت المنكر، فيرتفع عنه الحد.
الثاني: يُعزَّر وما عليه حدّ؛ لأنَّ الحدَّ في القذف إنما يكون على المحصنة، والمحصنة هي أن تكون مسلمة حرة عاقلة عفيفة، وأن تكون ممن يُجامع مثلها؛ فإذا توفَّرت هذه الشروط فبناء على ذلك يكون عليه حد القذف.
وأمَّا غير العاقلة كالمجنونة ونحوها فلا يكون لها لعان؛ لأنَّه لا يتصوَّر منها الشهادة والدُّعاء على نفسها بالطرد والإبعاد عن رحمة الله -جلَّ وَعَلَا.
قوله: (اْلحُرَّةُ)، يُخرج غيرها.
والكلام هنا في المرأة التي يحصل بها الحد إذا قذفها، فهذا بيان لما يحصل به إحصان المرأة، أن تكون بالغة عاقلة حرة عفيفة مسلمة، ولكن من حيث اللعان فإنَّه يكون بين الزَّوجين سواء كانا مسلمين أو كانا كتابيين، فاسقين، أو غيرهما، حرين أو عبدين؛ لأن الله -جلَّ وَعَلَا- قال: ï´؟وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْï´¾، ولكن أراد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ من قذف الزوجة التي هذه أوصافها فإنَّ عليها الحد، والحد إنما يُدرأ باللعان.
فهذه المرأة البالغة العاقلة الحرَّة العفيفة التي لا تُعرَف بالفواحش، أما المرأة التي عُرفَت بأنها بغي، أو ظهر في الناس فسقها وفجورها وتعرِّيها وتعرضها للمنكرات؛ فإنَّ مَن قذفها لا يحد، ولكن لا يعني ذلك جواز قذفها، لكنه يُعزَّر، ويُدرأ عنه الحد لعدم عفَّتها ويجب عليه التعزير لئلا يتطاول الناس على النساء والأعراض، ويبتلوا الناس في أنفسهم.
وأما قذف غير المسلمة فلا حدَّ فيه، وستأتي الإشارة إليه في باب الحدود.
قوله: (بالزنا)، يعني بالزنا الصَّريح بأن يكون في قُبُل أو دبر، فلو قال: قبَّلها فلانٌ أو ضمَّها فلان؛ فهذا نوعٌ من القذف لكنه ليس قذف بالزنا، فليس فيه حدُّ القذف وإنما فيه التعزير.
قوله: (لَزِمَهُ اْلحَدُّ إِنْ لَمْ يُلاَعِنْ)، إذن يُقابل لزوم الحد اللعانُ، فإذا لاعن انتفى عنه الحد لما جاء في هذه الآيات ودلالة الأحاديث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً أَوْ أَمَةً، فَعَلَيْهِ التَّعْزِيْرُ)}.
إذا كانت الزَّوجة ذميَّة -كتابيَّة- نصرانيَّة أو يهوديَّة؛ فلا حدَّ على مَن قذفها، ولكنه يُعزَّر مثلما قلنا لئلا يتطاول الناس على النساء بأدنى الشكوك أو بالظلم والعدوان.
وقوله: (أَوْ أَمَةً)، لو كانت أمةً عنده فإنَّه لا يجب عليه الحد بقذفها، ولكنَّه يُعزَّر في قوله كونها زانية.
قوله: (فَعَلَيْهِ التَّعْزِيْرُ إِنْ لَمْ يُلاَعِنْ)، الكلام هنا في الزوجة سواء ذميَّة أو أمة، فإذا لاعنها فإنه يُدرأ عنه الحد والتعزير.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يُعَرَّضُ لَهُ حَتَّى تُطَالِبُهُ)}.
يعني: لو قذفها لا يُحدُّ ولا يُجلد إلا لو طالبت المرأة، فنستكمل الأمور ونقول: عليك حد القذف أو التَّعزير في الحال التي يجب فيها التَّعزير، فإذا طلب اللعان فله أن يُلاعن من زوجته في تلك الحال بالشروط المعتبرة عند الفقهاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَاللِّعَانُ أَنْ يَقُوْلَ بِحَضْرَةِ اْلحَاكِمِ أَوْ نَائِبِهِ، أَشْهَدُ بِاللهِ إِنِّيْ لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ، فِيْمَا رَمَيْتُ بِهِ امْرَأَتِيْ هَذِهِ مِنَ الزِّنَى، وَيُشِيْرُ إِلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً سَمَّاهَا وَنَسَبَهَا، ثُمَّ يُوْقَفُ عِنْدَ اْلخَامِسَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: اتَّقِ اللهَ فَإِنَّهَا اْلمُوْجِبَةُ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ اْلآخِرَةِ، فَإِنْ أَبَى إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ فَلْيَقُلْ: وَإِنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ اْلكَاذِبِيْنَ فِيْمَا رَمَيْتُ بِهِ امْرَأَتِيْ هَذِهِ مِنَ الزِّنَى)}.
قوله: (وَاللِّعَانُ أَنْ يَقُوْلَ بِحَضْرَةِ اْلحَاكِمِ أَوْ نَائِبِهِ)، هذه صفة اللعان وصيغته.
فشرطه: أن يكون قذف الرجل امرأته، وأن يكون القذف بالزنا، وألا يُحد حد القذف.
فإذا دُعيَ إلى اللعان وكان بحضرة الحاكم أو نائبة، حضرة الحاكم هو القاضي، أو بحضرة مُحكِّمٌ؛ لأنه سيأتينا أن المُحكِّم يقوم مقام القاضي، فإذا لم يوجد في بعض البلدان حاكم وتداعيا إلى القذف واللعان فقالوا نُحكِّمُ فلانًا فإنَّه يكون بمثابة الحاكم، فله أن يُمضي هذه الأحكام إذا كان عارفًا بها وقادرًا على العلم بتفاصيلها وإمضائها على ما أمر الله -جلَّ وَعَلَا- به وأمر به رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (وَاللِّعَانُ أَنْ يَقُوْلَ بِحَضْرَةِ اْلحَاكِمِ أَوْ نَائِبِهِ: أَشْهَدُ بِاللهِ إِنِّيْ لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ، فِيْمَا رَمَيْتُ بِهِ امْرَأَتِيْ هَذِهِ مِنَ الزِّنَى)، فلابدَّ من الإشارة إليها؛ لأنه قد يكون له أكثر من امرأة، فحتى ينتفي الاشتباه، وهذا من المواطن العظيمة التي لا يُقبَل فيها التَّلكؤ أو التَّردُّد أو يُحمل على أكثر من وجه؛ فلابدَّ من القطع، وليس قطعٌ أعظمَ من التَّعيين، وأعلى درجات التَّعين هي الإشارة ثم التَّسمية.
قوله: (وَيُشِيْرُ إِلَيْهَا)، فإذا أشار إليها فيكفي ذلك.
قال: (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً سَمَّاهَا وَنَسَبَهَا)، كيف لا تكون حاضرة؟!
يقولون: في اللعان لابدَّ أن يكون في حالٍ معظمة في مكان وزمان، كأن يكون بين الأذان والإقامة، أو بعد العصر، أو يكون في المسجد، فلو كانت المرأة حائضًا فإنَّه في مثل هذه الحال يكون الرجل في المسجد وهي ليست في المسجد فلا تكون حاضرة، فيقول: امرأتي فلانة بنت فلان الفلاني...، وهكذا.
قال: (ثُمَّ يُوْقَفُ عِنْدَ اْلخَامِسَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: اتَّقِ اللهَ فَإِنَّهَا اْلمُوْجِبَةُ).
هذا من الوعظ، ووعظ المتلاعنين سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما ذكرنا قبل قليل في حديث هلال؛ ولأن مثل هذا الأمر -وهو شهادة الإنسان على غيره بالزنا الذي هو من الموبقات- ودعاء الإنسان على نفسه باللَّعن والطَّرد عن رحمة الله من أعظم ما يكون، فلما كان الأمر بهذه المثابة، وما يلحق الإنسان في التَّلكؤ أو التَّراجع من العار وحد القذف وما يلحقه من نقيصة الناس وكلامهم؛ فاحتيج في هذا إلى وعظِه وأن يُذكَّر، فحتى ولو لحقك ما لحقك من البلاء فلعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فما يلحقك من قذف أو نقيصة الناس أو ما يلحقك من بعض العار أهون من أن تمضي اللعان وأنت تعلم كذب نفسك وجرمك على زوجك، وفعلك الفعل المشين برميها بهذا الأمر العظيم، ولأجل هذا قال: (فَإِنَّهَا اْلمُوْجِبَةُ)، وهذا يدل على أنَّ اللعان من الأمور العظائم، وهو موجب للعذاب والنكال الشديد عند الله -جلَّ وَعَلَا.
قال: (وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ اْلآخِرَةِ، فَإِنْ أَبَى إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ فَلْيَقُلْ: وَإِنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ اْلكَاذِبِيْنَ فِيْمَا رَمَيْتُ بِهِ امْرَأَتِيْ هَذِهِ مِنَ الزِّنَى)، فهذه هي الخامسة التي هي تمام لعانه، وكمال قوله ولفظه على ما جاء في الآية ï´؟وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَï´¾ [النور: 7]، نعوذ بالله -جلَّ وَعَلَا- من ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا اْلعَذَابَ: أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِيْنَ فِيْمَا رَمَانِيْ بِهِ مِنَ الزِّناَ، ثُمَّ تُوْقَفُ عِنْدَ اْلخَامِسَةِ وَتُخَوَّفُ، كَمَا خُوِّفَ الرَّجُلُ، فَإِنْ أَبَتْ إِلاَّ أَنْ تُتِمَّ، فَلْتَقُلْ: وَإِنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِيْنَ فِيْمَا رَمَانِيْ بِهِ زَوْجِيْ هَذَا مِنَ الزِّناَ)}.
قوله: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا اْلعَذَابَ)، يعني: إذا لاعن الزَّوج فقد أدَّى ما عليه، ففي هذه الحال يندفع عنه الحد، أو التَّعزير -إن كان الواجب عليه التعزير- لكون زوجته ذمِّيَّة أو أَمَة أو نحو ذلك، فبمجرد أن يُلاعن فإنه يرتفع عنه العذاب في أصح القولين عن أهل العلم.
ثم تؤمر المرأة باللعان، ولا يخلو:
- إمَّا أن تُقر: فإذا أقرَّت فإن عليها عقوبة الزنا -نسأل الله العافية- ويلحقها ما يلحق حد الزنا من الأحكام والأحوال، بحسب حالها وبحسب دخول زوجها بها ونحو ذلك، وهذا له تفاصيل ستأتي.
- أن تُقدم على اللعان: وسيأتي تفاصيل كلام الفقهاء في الألفاظ التي يقول على نحو ما ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
- أما لو تلكَّأت: فلا هي التي أقدمت ولا هي التي اعترفت؛ فيقول أهل العلم: إن تلكُّؤها يدل على أنها يُمكن أنها فعلت، ولكن هذا ليس مقطوع به، وبناء على ذلك لا يكون تلكُّؤها ووقوفها بموجبٍ للحد عليها.
ويقول أهل العلم: يجب في مثل هذه الحال أن تُحبَس وتُعزَّر حتى تقر بالزنا أو تُمضي الملاعنة.
لماذا لا يُقال عليها الحد بمجرد تلكُّؤها؟
يقولون: لأنَّ من المتقرر عند أهل العلم أنَّ المرأة لو أقرَّت فقالت: "زنيتُ" ثم رجعت عن إقرارها فإنَّها لا تُحدُّ حدَّ الزنا؛ لأنَّ الحدود تُدرأ بالشُّبهات، فلما كان حال المقر إذا رجع أن يؤخَذ بذلك ويُدفَع عنه الحد، فمن باب أولى ألا يؤاخذ المتلكِّئ السَّاكت بذلك، ولما كان الأمر هنا لا يحتمل أمرًا ثالثًا؛ فلا يُمكن أن نطْلِقَها، فنحبسها قد تقر أو تلاعن حتى ينفَّذ فيها الحكم الذي يلائهما ويليق بها.
يقول المؤلف: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا اْلعَذَابَ) وهو الحد، أو التعزير إذا كان لا يجب عليها حد في هذه الحال.
والحدُّ إمَّا أن يكون بالجلد أو الرَّجم، فيجب عليها الجلد إذا كانت زوجة غير مدخول بها، وبناء على ذلك لا تكون ممن أحصنت فجومِعَ مثلها، لأنَّها لابدَّ أن تكون ممن يُجامع مثلها حتى يجب عليها الرجم.
قوله: (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِيْنَ)، تقول: أشهد بالله أنَّ زوجي فلان من الكاذبين فيما رماني به من الزنا، ثم تُوقَف عند الخامسة فتُذكَّر بالله وتُوعَظ وتُخوَّف؛ لأنَّ ما يلحقها من العار لو اعترفت أخف مما يلحقها من عذاب الآخرة، ولعظم ما فعلت من إفساد الزوجية.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَتُخَوَّفُ، كَمَا خُوِّفَ الرَّجُلُ) على ما جاء في الحديث الذي تقدَّم معنا.
قال: (فَإِنْ أَبَتْ إِلاَّ أَنْ تُتِمَّ)، أي: تُتم الخامسة، واللفظ الخامس لفظ مختصٌّ كما نصَّت على ذلك الآية، وكما جاء بذلك قول الله -جلَّ وَعَلَا: ï´؟وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَï´¾ [النور: 9]، فتقول: أشهد بالله أنَّه كاذبٌ فيما رماني به، وأنَّ غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
والفقهاء يجعلون الضمير في قوله: "عليها" للغائب؛ لأنَّه لا يحسب بالإنسان حتى ولو كان على سبيل الحكاية أن ينسب إلى نفسه أمرًا مشينًا، فالأصل أن تكون: "أنَّ الغضب عليَّ" بياء المتكلِّم، وهذا لا يحسن ولا يليق بالإنسان حتى ولو كان على سبيل الحكاية، وذلك جرت عادتهم أن يجعلونه على ضمير الغائب، ولكن أحيانًا يعسُرُ فهمه على بعض الناس ممن هو جديد في العلم والتَّعلُّم، فما تستقيم عنده العبارات، فيحتاج إلى توضيح ذلك، وإلَّا فهذا هو الأصل.
وكما أنَّه لا يحسُن أن ينسب الإنسان الأمر المشين إلى المخاطب، فتقول: لو أنَّكَ ضربتَ فلانًا أو قتلته! هذا ليس بجيد، أما لو كان أمرًا جيدًا كأن تقول: لو تصدَّقتَ بكذا وكذا لكتب لك كذا...، أما لو جئت في الأمر المشين تقول: لو أنَّ فلانًا سبَّ، أو لو أنَّ رجلًا قتل؛ فتجعله في أمرٍ مجهولٍ، لأنه لا يحسن نسبة الشر إلى متكلم ولا مخاطب، وهذا من رفيع اللفظ وجميل الأخلاق وطيِّبِ الأقوال.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ يَقُوْلُ اْلحَاكِمُ: قَدْ فَرَّقْتُ بَيْنَكُمَا، فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيْمًا مُؤَبَّدًا)}.
إذا تلاعن الزَّوجان فلا نكاح بينهما، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أتمَّ اللعان: «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا».
هل يحتاج في ذلك إلى حكم حاكمٍ أم هو بمجرد حصول اللعان؟
كأنَّ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لما قال: (ثُمَّ يَقُوْلُ اْلحَاكِمُ: قَدْ فَرَّقْتُ بَيْنَكُمَا) أنَّه لابدَّ من حكمه، والظاهر في هذا أنَّه قصد الخروج من خلاف مَن يقول أنَّه لابدَّ من الحكم، وإن كان الأصل أنَّ اللعان بمجرد حصوله تحصل بينهما الفُرقة الأبديَّة، فقد قضى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المتلاعنين ألا يجتمعان أبدًا، ومع ذلك يقوله الحاكم حتى يزيد الأمر قطعًا، وحتى يُخرَج من خلاف مَن يقول أنَّه لابدَّ أن يُفرِّق بينهما الحاكم، فلأجل ذلك قال المؤلف: (قَدْ فَرَّقْتُ بَيْنَكُمَا) لزيادة التأكيد ونفي الخلاف لمن خالف في ذلك وقال لابدَّ من تفريق الحاكم.
قال: (فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيْمًا مُؤَبَّدًا)، يعني لا يُمكن أن يتزوَّجها بعدَ ذلك لا بعقدٍ جديد، ولو تزوَّجت زوجًا أو زوجين أو ثلاثة أو مائة؛ حتى قال بعض أهل العلم: حتى لو أكذبَ نفسه، فلو جاء بعدما تلاعنا وقال أنا كنتُ كاذب عليها؛ فإنَّه لا سبيل له عليها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَنَفَاهُ انْتَفَى عَنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ حَمْلاً أَوْ مَوْلُوْدًا مَا لَمْ يَكُنْ أَقَر َّبِهِ، أَوْ وَجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلى اْلإِقْرَارِ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً لاَعَنَ امْرَأَتَهُ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ اْلوَلَدَ بِاْلأُمِّ)}.
قول المؤلف: (وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَنَفَاهُ انْتَفَى عَنْهُ)، هذا ممَّا يترتب على اللعان وأثره، وهو إذا تلاعَن الزَّوجان فلا يخلو:
إمَّا أن يكون فيها حمل من أثر الزَّنا -المُدَّعى به- فهل يلحقها انتفاء الولد بمجرد اللعان أو لا؟
يقول الفقهاء في المشهور عنهم: إنَّه لابدَّ أن ينفيه حتى ولو كانت حاملًا، فإذ لم ينفِه فالأصل بقاء النَّسب، والشَّرعُ متلهِّفٌ إلى حفظ أنساب الناس وعدم الاستعجال في نفيها، فإذا رأى أنَّ هذا الولد قد نشأ من غير مائه ودخل عليه من ماء هذه الفعلة الشَّنيعة التي حصل بزناها من ذلك الرَّجل الأجنبي؛ فينتفي من الولد، أمَّا إذا لم ينتفِ فإنَّه لا يُعتبَر ذلك، ولذا قال المؤلف: (وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَنَفَاهُ انْتَفَى عَنْهُ)، فيُفهَم منه أنَّه إذا لم ينفِه فإنَّه يبقى الولد على ما هو عليه.
وقوله (وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ)، دلَّ على أنَّه لو كان بينهما حملٌ ولو نفاه فإنَّه لا يكفي حتى يُولَد ثم ينفيه، لأنَّه لمَّا كانَ حملًا يُمكن أن يكون حملًا صحيحًا ويُمكن ألَّا يكون، فما الحاجة إلى أن ينفيه في تلك الحال، ويقع النَّفي على شيءٍ غير واضح، وبناء على ذلك قالوا أنَّ النَّفي يكون بعدَ الولادة.
وهذا محل خلاف شديد بين الحنابلة أنفسهم وبين الفقهاء على سبيل الإطلاق، فقال من قال من أهل العلم -وله اعتبار: أنَّه إذا تُيُقِّنَ الحمل خاصَّة في مثل هذه الأزمنة التي تُعرَف بالفحوصات المستجدَّة والحديثة التي يُقطَع معها بوجود الحمل؛ فيُمكن نفي الولد؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا لاعنَ هلال وزوجته فإنَّه نُفيَ عنه ولدها، ولم يُذكر أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بملاعنتهما مرة ثانية بعد الولادة؛ فدلَّ على أنَّ اللعان الأول ما دام أنه قد اشتمل اللفظ على انتفاء الولد كافٍ في ذلك، وهذا محتملٌ، ولكن لابدَّ من التَّصريح وأن يقول: هذا ليس بولدي، أو أن يكون ذلك ضمنًا كأن يقول: وما في بطنها ليس ولدي أو نحوه.
المهم أنهم يقولون أنَّ نفي الولد لابدَّ أن يكون بالتَّصريح أو ضمنًا.
قوله: (وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ سَوَاءٌ كَانَ حَمْلاً أَوْ مَوْلُوْدًا)، المؤلف هنا ذهب إلى القول الآخر، وأنَّ الاكتفاء بالانتفاء يكون مطلقًا حتى للحمل، خلافًا لمشهور المذهب وقول بعض الفقهاء من أنَّه لابدَّ أن يُولَد حتى يُنتفَى منه.
هنا ذكر قيدًا وشرطًا مهمًّا للانتفاء، فقال: (مَا لَمْ يَكُنْ أَقَر َّبِهِ، أَوْ وَجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلى اْلإِقْرَارِ بِهِ)، يعني ما يُمكن أن يأتي الإنسان إلى ولده وقد كتب اسمه أنَّه فلان بن فلان الفلاني، ثم يقول هذا ليس بولدي!
فبمجرد أن تحمل فيعرف أن هذا الحمل نشأ من زنا فيقول: هذا بولدي. أو إذا وُلِدَ له فبارك الناس له؛ فنقول له: قل ولا تسكت، ولذلك قيل: إذا هنَّأه الناس فسكت فهذا إقرار على أنَّه ولده، فلا يجوز له أن ينفيه.
إذن؛ لابدَّ ألَّا يسبق نفي الولد إقرار به، سواء كان إقرارًا صحيحًا أو إقرارًا ضمنيًّا، أمَّا إذا حصل منه إقرار فليس له أن ينفيه بعدَ ذلك.
واستثنى بعض أهل العلم من ذلك ما لو كان عامِّيًّا ولا يدري أنَّ له انتفاؤه للولد؛ فقد يُقبل منه في تلك الحال، وهذا له وجه، فقد يُقبل منه في الحال الذي يُقطَع فيه أنَّ هذا الشَّخص لا يدري أنَّ له الانتفاء من الولد، كما لو كان من الجُهَّال أو ممَّن نشأ في القُرَى بعيدًا عن أماكن العلم والتَّعلُّم، وهذا ممكنٌ ومحتملٌ لِمَا ذكرناه.
قوله: (فَفَرَّقَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ اْلوَلَدَ بِاْلأُمِّ)، فيُقال: هذا فلان بن فلانة، وذكر بعض العلم أنَّه لا يجوز بعدَ ذلك أن يُقذف الولد فيُقال له أنت ابن زنا، فهو إنَّما انتفى نسبه لوالده بسبب اللعان لا بسبب قطعنا أنَّها زانية وأنَّها فاعلة للمحرم، ولا يجوز أن يُقال للمرأة هذه زانية، فانتفاء الولد ونسبته إلى أمِّه لا يعني ذلك صحَّة القذف وأنَّه ابن زنا ونحو ذلك؛ بل لا يجوز أن يُفعل هذا، ومَن قذف هذا الولد أو قذف أمَّه فإنَّه يؤاخذ بذلك ويكون عليه العقاب، ويؤخذ بذلك عند القاضي ويُحاسَب عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ فِيْ لُحُوْقِ النَّسَبِ
وَمَنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ الَّتِيْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا وَلَدًا يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ، لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اْلوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ اْلحَجَرُ»)}.
هذا الفصل في لِحَاق النَّسب، فالأصل أنَّ مَن تزوَّج امرأةً وأمكن لقاؤه بها ودخوله عليها؛ فإنَّ الولد ولده، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اْلوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ اْلحَجَرُ».
وبناء على ذلك؛ لو زنا رجل بامرأة، وقال هذا الولد ولدي -وهو عاهر وهي لها زوج- فلا يُمكن أن نقول إنَّ هذا الولد الذي في بطنها هو ولد هذا العاهر، حتى ولو أقام مائة دليلٍ على أنَّه نشأ من زناه أو حصل من فعلته المشينة؛ لأنَّ الولد للفراش، والفراش هو فراش الزَّوجيَّة، وكل ما يتعلق بالزَّوجيَّة يُنسَب إلى زوجها الذي دخل بها أو عقدَ عليها.
ومَبنى الأحكام في هذا الباب عند الفقهاء على الأمور الظَّاهرة؛ لأنَّ الحكم بأنَّ هذا الذي واقعها أمرٌ لا يُتصوَّر، فنرجع إلى الأصل أنَّها زوجة فلان والأصل أنَّ المرأة تنام مع زوجها، فلما كان هذا هو الظَّاهر كان المصير إلى الحكم به، وهذا هو أصل قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اْلوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ اْلحَجَرُ»؛ لأنَّ أمور الجماع والمعاشرة وما ينتج عنها أمور خفيَّة، حتى لو افترضنا أنَّ هذا جامع وهذا جامع؛ فأيُّهما الذي نشأ منه الحمل؟! لا ندري! وبناء على ذلك فإنَّنا لا نعطي هذه الأشياء المتوهَّمة اعتبارًا؛ بل الاعتبار بالأصل وهو أنَّ الولد للفراش.
ولو علم الزَّوج أنَّه ليس ولد له فقذف المرأة فنعود إلى أصل اللعان، ولكن من حيث الأصل فلا يُمكن لأحدٍ أن يدخل على امرأةٍ ويقول: هذا ولدي ويُنازع أبًا في ابنه، وإلا لأفضى ذلك إلى ضياعٍ وإفسادٍ لبيوتات النَّاس وتشكيكهم في ولدهم، فالولد للفراش والزَّوجيَّة قاضية، والحكم بهذا هو حكم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (وَمَنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ الَّتِيْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا وَلَدًا يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ)
معنى قوله: (يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ)، يعني: أن يكون مثله ممن يطأ عادةً، والذي يطأ عادة عند الفقهاء هو ابن عشر سنين، فقالوا هنا ما قالوه في المسألة السابقة، فلم يقولوا هو البالغ؛ لأن البلوغ يحصل بأشياء خفيَّة أحيانًا مثل: الاحتلام، فلا ندري هل احتلم أو لا، حتى ولو وجدنا ماءً مثلًا فلا ندري.
وبناء على ذلك قالوا: إن الغالب أنَّ ابن عشر سنين يُمكن أن يبلغ، فلمَّا كان هذا مقطوع به فإذا ادَّعاه فإنَّه يُمكن أن يكون منه ويُمكن أن يُصدَّق؛ لأنَّ ابن عشر سنين يُمكن أن يطأ وأن يُنزل، وبناء على ذلك نحكم بأنَّ ابن عشر سنين يلحق به الولد، ويُفهم منه أنَّه لو كان دون عشر سنين فإنَّه لا يُمكن أن يُقبَل منه ادِّعاء الولد، لأنَّ مثله عادة لا ينزل لو وطأ، فهو يُمكن أن يطأ ويُنعِظ لكنه لا يُمكن أن يُنزِل، وبناء على ذلك يقول الفقهاء (يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ لَحِقَهُ نَسَبُهُ)، يعني سواء في الزَّوجة التي تزوجها أو الأمة التي وطئها، لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اْلوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ اْلحَجَرُ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يَنْتَفِيْ وَلَدُ الْمَرْأَةِ إِلاَّ بِاللِّعَانِ، وَلاَ وَلَدُ اْلأَمَةِ إِلاَّ بِدَعْوَى اسْتِبْرَائِهَا)}.
لا ينتفي ولد المرأة إلا باللعان، فما دام أنَّ هذا الولد ولدُ فراشٍ فلا يُمكن أن يأتي إنسان ويقول: هذا ليس بولدي، وأنا أتبرَّأ منه، وأنت ولد فاسد، أو أنَّ أمك كذا وكذا..!
نقول: هذا لا يُقبَل، وحتى لو اشتهر إنسان بينَ أهل قريته أو بلده أو في الدنيا كلها أو أعلن ذلك في الجرائد وقال هذا ليس بولدي؛ فلا يعتبر ذلك، والأبوَّة باقية، والأحكامُ مستمرَّة من لزوم النَّفقة والتَّوارث، ووجوب البرِّ على الولد، حتى لو كان أبوه سيئًا مفسدًا ينفيه عن نفسه ويُلحق به الأوصاف السَّيئة، فلا يمنع ذلك من أنَّ الولد يُحسن إلى أبيه.
متى نقول إنَّ هذا ليس ولد فلان وقد وُلد على فراشه؟
في حال واحدة: إذا حصل اللعان بشروطه المعتبرة، فيكون قد قذف الزَّوجة في القبل أو الدُّبر، وتمَّ اللعان بينهما وحصل التَّفريق بينهما وكان فيه انتفاء للولد.
قال: (وَلاَ وَلَدُ اْلأَمَةِ إِلاَّ بِدَعْوَى اسْتِبْرَائِهَا)، لابدَّ من استبراء الأمة، وبناء على ذلك لو أن شخصًا كانت عنده أمة فقال: أنا لم أبعها حتى حاضت عندي حيضة، وإذا حاضت المرأة عُلمت بأنها ليست بحامل، ولذلك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً» .
وهذا في الإماء ليُعلم براءة رحمها وأنه لا حمل لها، فإذا قال: أنا استبرأتها، ثم جاءت وقالت: لا، هذا الحمل من فلان! فإذا ادَّعى الاستبراء فيُقبل ذلك منه إذا تمَّ عند الحاكم وقضى به بالبيِّنة أو يمينه على ما ذكره الفقهاء -رحمهم الله تعالى.
أظن أنَّ الوقت انتهى، لعلنا نقف ونكمل -بإذن الله جل وعلا- ما يتعلق بباقي هذا الباب في لقاء قادم.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسَّداد، وجزاك الله خيرًا وجزى الله القائمين على هذه المؤسسة وهذا البناء العلمي خير الجزاء، وجعلهم موفَّقين في أحسن حال، وأن يزيدهم الله من الهدى والتَّوفيق والإعانة والتَّسديد، وأن يتمَّ عملهم، وأن يُجريَ أجرهم، وأن يُبقيَ بناءهم بناءً قويًّا سديدًا، وأن ينفع بهم العباد والبلاد، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الله بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}










رد مع اقتباس
قديم 2019-10-21, 20:23   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عمدة الفقه (7)
الدرس الثاني (2)
فضيلة الشيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وفي مطلعِ هذه الدُّروس المباركة أرحبُ بفضيلة الشَّيخ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا وحيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة جميعًا، أسأل الله لكم دوام التوفيق والسَّداد.
{نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَوْنُهُ مِنْهُ، مِثْلَ أَنْ تَلِدَ أَمَتُهُ لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ وَطْئِهَا، أَوِ امْرَأَتُهُ لأَقَلَّ مِنْ ذ?لِكَ مُنْذُ أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُمَا، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ لاَ يُوْلَدُ لِمِثْلِهِ، كَمَنْ لَهُ دُوْنَ عَشْرِ سِنِيْنَ، أَوِ اْلخَصِيِّ أَوِ الْمَجْبُوْبِ، لَمْ يَلْحَقْهُ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعدُ؛ فأسألُ الله لي ولكم دوامَ التَّوفيقِ والسَّدادِ، والإعانة على الخير والرَّشاد، وأن يُجنِّبنا الشَّر والبغيَ والظُّلمَ والضَّلالَ والفسادَ، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريمٌ.
لا يزال الحديثُ موصولًا فيما كنَّا قد ابتدأناه في آخرِ المجلس الماضي، وهو الفصل الذي عقده المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في لحاقِ النَّسبِ، وبينَ يدي الكلامِ على هذه المسألة فإنَّا نقول: إنَّ الشَّرع متشوفٌ إلى ثباتِ الأنسابِ وبقائها، ولذلك مرَّ بنا في اللقيط -وأشرنا إلى ذلك- أنَّه لو جاء شخصٌ فقال: هذا ابني؛ فإنَّه يُنسَب إليه بشرطِهِ -كما مرَّ ذلك فيما مضى- لِعظَم مصلحة بقاءِ الأنساب، حتى ولو كانَ المدَّعي لهذا النَّسبِ كافرًا، لكنَّه لا يوافَق أو يُقرُّ على دين الكافر حتى يُقيم البيِّنة أنَّه ولده، ولكن من حيثُ الأصل لو قال "هذا ولدي" فنكتب مثلًا "محمد بن جون"، لأن كونه "محمد بن جون" أحسن من كونه "محمدًا" بلا شيء.
والكلام ليس فيمن يُولَد على الفراشِ، وإنَّما الكلام فيمَن يُلقى في العراءِ ولا يُعرَف نسبه ولا أحد يعرفه، فإذا قال شخص "هذا ولدي" فنقبله، حتى ولو لم يكن بينهما شبهٌ أو ظهور ما يدل على القرابة ونحوها والأبوَّة والبنوَّة لعظم ما يتعلق بهذه المصلحة.
ومرَّ بنا أنَّ الولد للفراش على الإطلاق، متى ما كانت هذه فراشًا لهذا وأمكنَ كونه منه فيُنسَب إليه الولد، ولذلك فإنَّ ابن عشر سنين حتى ولو لم يكن بالغًا فإنَّه يُنسَب إليه الولد اعتبارًا بالحكم الظَّاهر، وتشوفًا من الشَّارع إلى حفظ الأنساب، ولكن مع ذلك إذا لم يُمكن كونه منه فلا فائدة، ولا يُمكن أن نجعل شخصًا لآخر يُنسَب إليه ونحن نقطع بعدمه.
ولأجل ذلك قال المؤلف: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَوْنُهُ مِنْهُ، مِثْلَ أَنْ تَلِدَ أَمَتُهُ لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ وَطْئِهَا).
كأن تقول: وطئني في رمضان، ثمَّ ولدته في ذي الحجَّة وعاشَ الولدُ؛ فقطعًا يُعلَم أنَّ هذا الولد لم ينشأ من ذلك الجماع والوطء، وإنَّما من جماعٍ سابقٍ؛ لأنَّه لا يُمكن أن يعيشَ الولد في أقل من ستَّة أشهر، وبناءً على ذلك يُحكم بمثل هذا.
يقول المؤلف: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَوْنُهُ مِنْهُ، مِثْلَ أَنْ تَلِدَ أَمَتُهُ لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ وَطْئِهَا، أَوِ امْرَأَتُهُ لأَقَلَّ مِنْ ذلِكَ مُنْذُ أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُمَا)، وهذا متصوَّر كثيرًا في الأزمنةِ القديمةِ، فيقولون: لابدَّ أن يُتصوَّر الاجتماع، فلو كانَ شخصٌ معروفٌ أنَّه في أقصى شرق الأرض -كما لو كان في استراليا- وزوُّج بالوكالةِ في الرياض أو في مكَّة، ثم بعدَ ذلك ولدت المرأة بعدَ ثمانية أشهر، فكونها ولدت بعد العقد بثمانية أشهر يصح أن يكونَ منه لو كان يُمكن أن يُتصوَّر أنَّه اجتمع بها، ولكن فيما مضى لا يُمكن أن يُتصوَّر أنَّ شخصًا يأتي من استراليا إلى مكة في مدَّة قصيرة، بل لربما احتاج إلى ستَّة أشهرٍ أو سبعة أو أكثر من ذلك، فعند هذا يقولون أن إمكان الاجتماع، وهذا من القيود التي جرى فيها كلام كثير.
وفي مثل هذه الأوقات أيسر ما يكون الاجتماع، ويحصل خفيةً ونحو ذلك في ساعةٍ قليلةٍ، فيُمكنُ عدم الاعتبار بهذا لإمكانِ الاجتماع بأيِّ حالٍ من الأحوالِ ولسهولةِ التَّنقُّلات ولتجدُّد الطَّائرات ونحوها ممَّا يُسرَع به في الانتقال، ويُتغيَّر به في الحال.
فبناءً على هذا نقول: إذا أمكنَ كونه منه وكانَ لستة أشهرٍ فالحمد لله، أما إذا كان لأقل من ستَّة أشهر أو كانَ لأكثر مِن ستَّة أشهر لكن ما كان بينهما اجتماع؛ فبناء على ذلك لا نحكم في مثل هذه الحال بأنَّ هذا الولد ولد فلان؛ لأنَّها وإن ولدته لأكثر من ستَّة أشهر إلَّا أنَّه يُقطَع ويُتيَقَّن أنَّ فلانًا لم يُجامَع زوجته لكونه مسجونًا، أو لكونه في مكانٍ بعيدٍ لم يخرج منه بحالٍ من الأحوال.
قال: (أَوْ كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ لاَ يُوْلَدُ لِمِثْلِهِ، كَمَنْ لَهُ دُوْنَ عَشْرِ سِنِيْنَ)، يعني لو كان الزَّوج دون العشر سنين وادَّعى أنَّ هذا الولد ولده فلا يُقبَل ذلك ولا يُمكن أن يُنسب إليه، أو ادَّعت المرأة أنَّ هذا أبًا للمولود، فلا يُقبل لأنَّه لا يُتصوَّر أنَّ مَن دون العشر سنين يحصل منه الإنزال الذي تتكون منه النُّطفة التي يكون منها الولد.
قال: (أَوِ اْلخَصِيِّ والْمَجْبُوْبِ، لَمْ يَلْحَقْهُ)، إذا كان خصيًّا ومجبوبًا، أما إذا كان مجبوبًا وليس بخصيٍّ -أي مقطوع الذَّكر- فإنَّه يُمكن أن تتحرك شهوته فتَقذف خصيتيه بالماء، لكن لو كان الأمران جميعًا بأن يكون خصيًّا ومجبوبًا فلا يُتصوَّر في هذه الحال أن يكون قد أنزل، وبناء على ذلك لا يُحكَم بأنَّ هذا الولد ولده.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ فِيْ ثُبُوْتِ النَّسَبِ بِقَوْلِ اْلقَائِفِ
وَإِذَا وَطِئَ رَجُلاَنِ امْرَأَةً فِيْ طُهْرٍ وَاحِدٍ بِشُبْهَةٍ، أَوْ وَطِئَ الشَّرِيْكَانِ أَمَتَهَمَا فِيْ طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، أَوِ ادَّعَى نَسَبَ مَجْهُوْلِ النَّسَبِ رَجُلاَنِ، وَإِنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ، أَوْ تَعَارَضَ قَوْلُ اْلقَافَةِ، أَوْ لَمْ يُوْجَدْ قَافَةٌ، تُرِكَ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيُلْحَقَ بِمَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ مِنْهُمَا)}.
لو رأيتم تدرج الفقهاء -رحمهم الله- فهو تدرج بديع!
أولًا: ذكروا مسائل اللِّعان التي يُقطَع فيها بنفي النَّسب بالحالِ الخاصَّة وبالشُّروط المعتبرة من تمام اللعان ونحو ذلك، إلى ما ذكرنا.
ثانيًا: ذكروا الأحكام التي يُحكَم فيها بالنَّسبِ وهو الفراش، وإن كان كونه منه بأن يولَد لأكثر مِن ستَّة أشهر وأقل من أربع سنين، وأن يكونَ هو ممَّن يُولَد لمثلهِ بأن يكونَ ابن عشر سنين، وليسَ فيه مانعٌ حسيٌّ يمنع ذلك كأن يكون مجبوبًا وخصيًّا.
ثالثًا: انتقلَ إلى الأحوالِ التي يتردَّدُ فيها لحاقُ النَّسبِ بين جهتين، وهذه الأحوال ليست مثل الحال الأولى التي فيها قذف وزنا ونحوه؛ ولكنها أحوال فيها إعذارٌ، ومع ذلك يتوارد على المحلِّ جهتان مختلفتان في النَّسبِ.
قال المؤلف: (وَإِذَا وَطِئَ رَجُلاَنِ امْرَأَةً فِيْ طُهْرٍ وَاحِدٍ بِشُبْهَةٍ)، إذا وطء رجلان امرأة واحدةً ظنَّ كل واحد أنَّها زوجته، كأن يتزوَّج واحدٌ امرأةً ويُقال له هي في هذه الغرفة، فدخل فوجد هذه المرأة فوطئها وهو لم يعرف أنَّها زوجته أو ليست بزوجته؛ لأنَّه لم يَرَهَا قبل ذلك.
ووطء الشُّبهةِ ليس فيه حدٌّ، ويُلحق فيه بالنَّسب ويجبُ عليها لأجله العدَّة.
والأصل لو أنَّ شخصًا وطء امرأةً بشبهةٍ فيكون الولد ولده، مثلًا: إذا جاء شخص من سفر إلى بيته، ووجد امرأةً على فراشه في ظلمةِ الليل، فظنَّ أنَّ هذه امرأته، فقام وجامعها وهي لم تشعر حتى جُومِعَت، فهذا الوطء وطء شبهة، وبناء على ذلك يلحق فيها النَّسب ولا إشكال.
أمَّا لو وطئها اثنان كلاهما بشبهة، فلا ندري أولد هذا أم ولد ذاك؟!
فيقول المؤلف في هذه الحال: يكون المردُّ إلى القافة وهم الذين يحكمون، وسيأتي بيان الأصل في الحكم بالقافة، ومعناه وما يترتَّب على ذلك.
قال: المؤلف: (أَوْ وَطِئَ الشَّرِيْكَانِ أَمَتَهَمَا فِيْ طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ).
إذا ملكَ الإنسان أمةً فإن له أن يطأها ويكون ولده منها ولدٌ له، لكن لو أنَّ شخصين امتلكا أمةً واحدةً، فالأصل في هذا أنَّه لا يجوز لواحد منهما أن يستمتع بها حتى لو قال أحدهما للآخر "استمتع بها وأنا لا حاجة لي فيها"، فنقول: لم يتمحَّض مِلكُ أحدِهما عليها حتى يجوز له الاستمتاع بها، ولا يجوز لهما جميعًا أن يستمتعا بها لأجل ذلك، وهذا محل إجماع واتِّفاق بين أهل العلم.
ولكن لو افترضنا أنَّهما فيهما شيءٌ من الجهالة، يظنُّان أنَّ مُجرَّد المِلك يجوز لهما الاستمتاع، فوطء هذا ووطء هذا ثم حملت، فلم ندرِ ولد مَن منهما!
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: يُعرض على القافة.
ويذكر أهل العلم أنَّ الشُّبهة:
- إما أن تكون في العقد: كأن ظنَّه عقدًا وهو ليس بعقد.
- أو شبهة في العين: كأن يُقال له: "هذه زوجتك" فدخل على أنها زوجته، ثم تبيَّن أنَّها ليست زوجته، وهو يعلم هذه المرأة التي دخل عليها ولكنه لم يظن أنَّها ليست زوجة له، ويُذكر أن زوجين أخوين تزوَّجا أختين، فدخل كل واحد منهما على زوجة أخيه ووطئها، ولم يدرِ أحد! فهي شبهة في عينها لكن ليس في الحال.
- أو شُبهة في الحال: كأن يدخل على امرأة يظنها زوجته فيُجامعها.
وهذا له كلام طويل قد يُشكل على الإخوة.
إذن؛ الحال الثانية: أن يطأ رجلان أمةً ملكاها يظنَّان أنَّ لكلِّ واحدٍ منهما أن يطأها.
قال: المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَوِ ادَّعَى نَسَبَ مَجْهُوْلِ النَّسَبِ رَجُلاَنِ).
قلنا قبل قليل أنَّه لو طلبه شخصٌ واحدٌ وقال "هذا ولدي" وأمكن كونه منه وهو مجهول النَّسب ولم يكن له معارض فيُقبَل، أمَّا لو كان أكثر من واحد فلا، ولذلك يذكر الفقهاء مسألة لطيفة هنا، يقولون: حتى لو كان هذا الولد ميِّت وقال "هذا ولدي" وهو يقصد أن ينتفع به من إرثه، فالمصلحة لهذا الميت في أن يُحفَظ نسبه أكثر من المصلحة التي يحصل بها هذا الشخص على إرثه، وإن كانت هذه المسألة فيها خلاف.
قول المؤلف: (أَوِ ادَّعَى نَسَبَ مَجْهُوْلِ النَّسَبِ رَجُلاَنِ)، أي: إذا ادَّعاه رجلان وانطبقت عليه الشُّروط، ولم يكن أحد منهما غير ممكنٍ كونه منه، وهذا مجهول النَّسب؛ فيُقال: أُرِيَ القافة.
القافة: هم قومٌ يعرفون الأنساب بالشَّبهِ، فإذا رأوا هذا الشَّخص قالوا "هذا ابن فلان"، وبعضهم يعرفها مِن النَّظر إلى قدمه حتى ولو لم يرى وجهه، فيقول "هذه قدمٌ هي قدمٌ لذاك"، ولذلك لمَّا كان النَّاس يتحدَّثون في أسامة بن زيد ووالده زيد بن حارثة لاختلاف لونهما، فجاء مجزَّز المدلجي وهما مغطَّيان وجههما ورأى أرجلهما وهي متباينة، فقال: "إن هذه الأرجل لمن بعض"، فاستبشر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودخل على عائشة متهلل أسارير وجهه، وقال: «فَقَالَ أَلَمْ تَرَيْ إِلَى مُجَزِّزٍ» ، فهذا يدفع الشُّبهةَ التي تؤذي أسامة بن زيد وهو حبُّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وابن حبِّه.
إذن هؤلاء القافة يعرفون؛ بل بعضهم يعرف حتى بأثرِ الخُطوات في الأرضِ، فيقول: هذه الخطوة من آل فلان، أو لفلان بن فلان؛ لشدَّة حذقهم ومعرفتهم، وهذه من علوم الفَراسة التي تكلَّم عنها ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وتكلَّم عنها غيره، وهي معروفةٌ وموجودةٌ إلى الآن، تتنوَّع أحوالها في أحوال الناس، لكنَّها موجودة معلومة، وليست في عائلة محدَّدة كقول بعضهم أنَّهم من بني مُرَّةٍ أو غيره؛ بل تكون فيهم وتكون في غيرهم، وهذا أمر معلوم.
ويقول العلماء: إذا أراد أن يُعرَض على القافة فيُختبَر القافة، فيؤتى أوَّل شيء بهذا الولد وأحد ممَّن لا يدَّعيه، فإن ألحقوه بواحدٍ منهم دلَّ على أنَّهم لا يعرفون، وإذا لم يُلحقوه بواحدٍ منهم أُتيَ بمجموعةٍ وفيهم مَن ادَّعاه -إذا كان المدَّعين اثنان أو أكثر- فيلحق بمن ألحقوه به.
قالوا: أُرِيَ القافة معهما أو مع أقاربهما.
قال المؤلف: (فَيُلْحَقَ بِمَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ مِنْهُمَا)، وهذا راجعٌ إلى ما ذكرناه سابقًا، وهي أنَّ الأمر دائرٌ بين أمرين:
- إمَّا ضياع النَّسب.
- وإمَّا الحكم بهذا الظَّن، فهو ظنٌّ صحيحٌ وليس بقاطعٍ، ومع ذلك لمَّا كان هذا الظَّن راجحًا وجُرِّبَت عليهم الإصابة، وعلم منهم الحذق، ولا يُتَّهمون في ينهم؛ فيُحفظ النسب بناء على ذلك الظَّن خيرٌ من أن يضيع نسبهم ويبقوا بلا نسبٍ في النَّاس.
يقول الفقهاء: (وَلاَ يُقْبَلُ قَوْلُ اْلقَائِفِ إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ عَدْلًا، ذَكَرًا، مُجَرَّبًا فِي اْلإِصَابَةِ)؛ فإذا كان الأمر كذلك فإنَّه يُحكَم بقوله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وإنْ أَلْحَقُوهُ بِهِمَا لَحِقَ بِهِمَا)}.
يعني: ألحقوه بأكثر من واحد، فيُلحق بهم، فقد جاء في عهد الصَّحابة وحكموا بذلك، لما ألحلق القافة في عهد عمر شخصًا مجهول النسب برجلين لحق بهما، فيقولون: هذا ابن فلانٍ وفلانٍ، لِمَا ذكرنا أنَّه من أن يُنسَب إلى شخصين خيرٌ من أن يضيعَ نسبه، وهذا مأخوذ من قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» ، فيقولون: إنَّ هذا الحديث يدلُّ على أنَّ الماءين يُمكن أن يحدث منهما نطفةٌ واحدة، فلمَّا كان كذلك يُمكن إثبات اللحاق بهما على هذه الحال، وهذه لأهل العلم فيها كلام.
إذا ألحق القافةُ مجهولَ النَّسبِ برجلين فيُلحَق بهما معًا.
وهذه المسألة تجرُّ إلى مسألة نازلة: وهي مسألة (dna) أو الحمض النَّووي، أو الفحوصات الحديثة سواء من هذه أو غيرها، ولا شكَّ أنَّ هذه الفحوصات ممَّا يُستهدَى بها، وهي قرينة للحكمِ بذلك، فإذا دلَّت مثل هذه الأمور على أنَّه لفلانٍ أو لفلانٍ؛ فتكون قرينة للحكم بذلك؛ لأنَّ الإصابة فيها كالإصابة في القافةِ وأظهر.
وهم في العلم الحديث يقولون: إنَّ هذه الفحوصات لا يُمكن أن تُخطئ!
وثبوت عدم خطئها إنَّما هو قولٌ، فيُمكن في وقتٍ لاحقٍ يثبت في ذلك خطأ، وحتى مع غض النَّظر عن كونهم يُخطؤون أو لا يُخطؤون؛ ولكن ما دام أنَّ الإصابةَ فيها ظاهرة فلا أقلَّ مِن أن يحكَم بها كالحكم بالقافةِ ويُعتبر ذلك، ولأجلِ هذا لازال القضاة ونحوهم يستعينون بها ويعتبرونها، ويُحيلون مواطن إلى مثل هذه الفحوصات ليستهدوا بإشارتها إلى مَن يكون أبًا لذلك المجهول للنسب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ، أَوْ تَعَارَضَ قَوْلُ اْلقَافَةِ، أَوْ لَمْ يُوْجَدْ قَافَةٌ، تُرِكَ حَتَّى يَبْلُغَ، فَيُلْحَقَ بِمَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ مِنْهُمَا)}.
إن قال القافة "لا نعرفه"، وعُرض على قائف واثنين وثلاثة، ففي مثل هذه الحال لا يُمكن أن يُنسَب إلى شخصٍ بعينه.
أو تعارض القافة، كأن يقول واحد هذا، وواحد يقول هذا.
ففي الأمر الأوَّل: اثنان من القافة كلٌّ قال هذا ابن فلان وفلان؛ فهذ حكم مرَّ بنا.
أمَّا الأمر الثاني: تعارض القافة، هذا يقول هو ابن زيد، والآخر يقول هو ابن علي؛ فلا يُمكن أن نحكم لواحد منهما، لأنَّ قول كل واحدٍ منهما يُكذِّب الآخر.
قال: (أَوْ لَمْ يُوْجَدْ قَافَةٌ)، كما هو كثير في بعض البلدان، حتى ولو كان عندهم من قد يعرف الأشباه والأنساب، لكنه لا يستطيع أن يحذق في هذا وتكثر إصابته ويقل خطأه؛ فبناء على ذلك نقول: ما دام أنَّه لم يأتِ قائف يُلحقه بشخص والمدَّعون لنسبه أكثر من واحد؛ فلا يُمكن أن نعتبر قول أحدهما ونُلغي الآخر، ولا يُمكن أن نلحقه بهما جميعًا، فقولهما متعارض من حيث الأصل.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يُقْبَلُ قَوْلُ اْلقَائِفِ إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ عَدْلًا، ذَكَرًا، مُجَرَّبًا فِي اْلإِصَابَةِ)}.
أن يكون عدلًا: هذا ظاهر؛ لأن الفاسق لا يُؤمَن في خبره، ويُمكن أن لبَّسَ، ويُمكن أن يكون قد دُفِعَ له مال حتى يقول هو ابن فلان، ويُمكن أن يكون أراد أن يتشفَّى من شخصٍ ويمنعه ولده فيقول: هو ابن فلان الآخر، فغيرُ العدل لا يُمكن أن يوثَق به، وبناء على ذلك لابدَّ أن يكون القائف عدلًا.
أن يكون مجرَّبًا في الإصابة: لأنَّ غير المجرَّب في الإصابة فلا يُمكن أن يُعتبر بقوله خاصَّةً أنَّ هذه مِن الأمور الخفيَّة جدًّا، فإذا لم تُعرف إجادته ولم وحذقه وإصابته فلا يعتبر.
أن يكون ذكرًا: لأنَّه نوعُ حكمٍ، والحكمُ للذكور؛ لأنَّ هذا هو الذي جاء به النَّص، والأصل هو البقاء على مورد النَّص حتى يدل دليل على العموم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ اْلحَضَانَةِ)}.
باب الحضانة من أهمِّ الأبواب وأعظمها، لأنَّ الشَّريعة جاءت بحفظِ الأُسَرِ والصِّغار والبيوتات وقيامها، والإحسان إلى الصَّغير، والقيام بالمعتوه، والعناية بالجواري، وعدم التَّضييع لهم، ولذلك جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ» ، فلأجل ذلك كان هذا الباب.
ودلَّت على هذا الباب أدلَّة، وكثُرَت فيه النُّصوص في اعتباره وتعظيمه، وعِظَم ما يتعلَّق به، «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» .
فالحضانة من أعظم ما يجب على الأولياء، ولذلك جاء في الحديث أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قيل له: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِى‏؟‏: قَالَ‏:‏ «‏‏أُمُّكَ»‏، قَالَ‏:‏ ثُمَّ مَنْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ «‏ثُمَّ أُمُّكَ‏»‏، قَالَ‏:‏ ثُمَّ مَنْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ «‏‏ثُمَّ أُمُّكَ»‏، قَالَ‏:‏ ثُمَّ مَنْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏«‏ثُمَّ أَبُوكَ» قَالَ‏:‏ ثُمَّ مَنْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏‏‏«ثم أدناك أدناك» ، فوجود الوشيجة والقرابة والتَّعلُّق والقيام بالحقوق من الابن لأبيه ومن القريب لقريبه هذا أمرٌ جاءت به الشَّريعة ودلَّت عليه النُّصوص، وقامت على ذلك كثير من الأحكام، كالعصبة وما يتعلَّق بها، والولاية وغيرها.
وكلُّ هذا يدلُّ على هذا الأصل، وهذا مما تميَّزَت به الشَّريعة، وعظُمَ بين الشَّرائع منزلتها وأثرها، والعلة معروفة النَّاس وما لهم وما عليهم فيها؛ فكان ذلك من أعظم ما يدلُّ على شمول هذه الشَّريعة وخصوصيتها ومزيَّتها على ما سواها.
ولمَّا كانَ هذا الصَّغير أو هذا المعتوه أو هذه الجارية التي لا تحسن القيام على نفسها، ويُمكن أن يلحق الصَّغير في تلك الحالِ من الضَّررِ في بدنِهِ وفي أمورهِ وفي خُلُقهِ وأدبهِ؛ استدعى أن تكون الحضانة مِن أعظم الواجبات التي يجب القيام بها وأداء حقها.
والحضانة من حيث هي: واجبة، ولا يجوز لمن له الحضانة أن يضيعها، وثَـمَّ ترتيبٌ في الأحقِّ بها، فبناء على ذلك إذا وُجدَ مَن يقومُ على المحضون مِن قريبٍ أو بعيدٍ تحصَّل المقصود والحمد لله، لكن لو آل الأمر إلى أنَّ هذا المحضون لا أحدَ يقوم عليه؛ فهنا يكون عليهم الإثم كل بحسبه، والأقرب فالأقرب.
ومِن جهة أخرى: لو تزاحم الناس في الحضانة كلٌّ يريدها فـثَمَّ تقديمٌ وتأخيرٌ، فالأقرب أحق، والأبعد متأخِّرٌ عن ذلك أو محقوق، وبناء على ذلك جاء اعتبار الحضانة من حيث الأصل وجاء اعتبار الأحق بها في هذا الباب.
وتدلُّ الأدلَّة على الحضانة، قال تعالى: ï´؟فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ غ– وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍï´¾، فأمر ببذل المال لهذا الرَّضيع، لأنَّ هذا نوعٌ من الحضانة والقيام عليه، وفي ذلك أدلَّةٌ كثيرةٌ.
ومن السُّنَّة: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنتَ أَحَقُّ بِهِ مَا لم تَنْكِحِي» ، وقضاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لتلك المرأة التي تداعت مع زوجها في الولد المحضون، لما قالت: "إنَّ بطني كان له وعاء، وثدي كان له سقاء، وحجري كان له حواء"، إلى أن قال لها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنتَ أَحَقُّ بِهِ مَا لم تَنْكِحِي»، وقضى بالحضانة لها.
والحضانة -والحمد لله- هي مستقرَّة ومستمرَّة في الزَّوجين إذا قامَ بيتُ الزَّوجيَّة واستقام؛ لكن أكثر ما يكون تجاذبًا إذا حصل الطَّلاق ووقع الفراق، أو قاربَ ذلك بأن حصلَ انفصالٌ وتباعدٌ بينهما فيتجاذبان الأولاد، وليس الأمر في تجاذبهما للأولاد وطلب كل واحدٍ منهما الحضانة، ولكن الأشدَّ في ذلك أن يكون طلب الحضانة لا للقيام عليها أو لأداء حقِّها، وإنَّما التَّشفِّي في الآخر في إبعاد ولده عنه، فالمرأة تُطالب بالأولاد ليس لأنَّها حريصةٌ على القيامِ بهم، وإنَّما حتى تؤلم قلبَ زوجها في بُعد ولدِه عنه، والعكسُ بالعكسِ -وهو الغالب- أنَّ بعض الآباء إذا كره الزوجة سواء طلَّقها أو باعدَها؛ فإنَّه لا يزال يأخذ الولاد ويُبعدهم عن أمِّهم حتى يقطعَ قلبها حسرةً وألمًا، خاصَّة إذا كانت قد طلبت الفراق، أو دعت إلى الخلع أو نحو ذلك.
وحتى بعد الحكم بالحضانة لواحدٍ مِن الزَّوجين؛ فإنَّ هذا الحكم لا يمنع حقَّ الآخر في ولده، وأن يُحال بينه وبينه، أو أن تُدعَى إلى سوء المعاشرة، وسوء البر، فتقول: أبوك فيه كذا وكذا...، حتى تبعده، أو تمنعه من الزيارة.
وكذلك لو حصل هذا من الأب لابنه أو بنته؛ فإنَّ هذا أعظم ما يكون به الإثم والعدوان والأذية للأولاد والإفك والظُّلم، ويوشك مَن فعل ذلك أن يلحقه وبالٌ شديدٌ في الدنيا والآخرة، وهو داخل في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ»، وقوله: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
أي شيءٍ أعظم من أن يمنع الوالد ولده من أمِّه! أو تمنع الوالدة الولد من أبيه!
إذن؛ نحن حينما نتكلَّم عن الأولى بالحضانة والأحق بالقيام بالمحضون والعنايةِ به والرِّعاية له وتأديبهِ وتأهيلهِ حتى يكبرَ وينكحَ ويعملَ، وتُنكَح المرأة وتستقر ويصلح حالها وتكتفي بنفسها، وليسَ المقصودُ بذلك أن يكون مَيدانًا للصِّراعِ أو حَلبةً للتَّشفِّي والانتقامِ، فإنَّ هذا مِن أعظم ما يكون.
وأمور الحضانة لا تخلو مِن إشكالٍ في الأحقِّ بها، ولذلك فإنَّ القضاة يحكمون بعلاماتٍ ودلالاتٍ ظاهرةٍ ولكنَّها ليست قاطعة، فلابدَّ أن يجتهد كلُّ واحدٍ من الأبوين في دعوى الحضانة إليه ما دامَ له وجهٌ في الاستحقاقِ، فإذا فاتت عليه فينبغي له أن يُعينَ الحاضِنَ على حضانته وأن يقومَ معه، وأن يؤدِّيَ ما يستطيع أن يؤدِّيَه عن بُعدٍ، وأن يُكمِّلَ له ذلك، وأن إذا وفدَ إليه ألَّا يحول بينه وبين حضانته أو ألَّا يفسدها عليهم، أو ألَّا يُداخل عليهم بسوءٍ أو بشرٍّ، وأن يرضى بحكمِ الله -عزَّ وجلَّ- وحكمِ رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما تفرَّع عن ذلك من قضاء القاضي بهذا أو ذاك.
وهذه أمورٌ أوليَّة ظاهرةٌ وبيِّنةٌ؛ فيجب علينا أن نرعَاها وأن نخافها، ومَن وليَ من الحضانةِ شيئًا فليعلم أنَّه مسؤول أمام الله -جلَّ وعَلَا- فلا يفرِّط فيها، ولا يتقاصر عن أدائها والقيام بحقِّها.
أيضًا تجاذب الأولياء للمحضونين فيه محل تردُّدٍ، وهي من المسائل التي يكون فيها إشكالٌ كبيرٌ، والقاضي إنَّما يجتهد، فمن المسائل ما هو ظاهرٌ وبيِّنٌ، ومنها ما هو خفيٌّ، فيبذلَ في ذلك وُسعَه، ويستنفذَ في ذلك طاقته، ولذلك لما سُئل الشَّيخ عبد العزيز بن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في بعض تفاصيل مسائل الحضانة توقَّف قليلًا وقال: "تحتاج إلى بحثٍ، أعان الله القضاة، أعان الله القضاة"، وكان ذلك حال القراءة فيما ذكره ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مِن أحكام الحضانة والأولى بها، وقد ذكرَ في هذا تحقيقًا لطيفًا وجميلًا في المجلد الرَّابع من "زاد المعاد" لمن أراد الرُّجوع إليه، وإن كان ما ذكره ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ربَّما يُخالِفُ ما ذكره كثيرٌ مِن الفقهاء، لكن المعنى الذي أخذه واعتمدَ عليه في تقديمِ وتأخيرِ الحاضنِ معنًى دقيقًا وله وجهٌ وجيهٌ، ولذلك ربَّما أخذَ به بعضُ المتأخِّرين كالشَّيخ ابن السَّعدي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وجمع من أهل العلم.
إذن؛ هذه المسائل مسائل اجتهاديَّة، فإذا فاتَ على الإنسان شيءٌ من ذلك فينبغي له أن يرضى بقضاء الله -جل وعلا- وحكم القاضي، وأن يبذل ما يستطيع أن يبذله في حال بعدهم كما لو كان يحرص على البذلِ لهم في حال قربهم، والله -جل وعلا- يوفِّق لذلك مَن شاء من عباده.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَحَقُّ النَّاسِ بِحَضَانَةِ الطِّفْلِ أُمُّهُ، ثُمَّ أُمُّهَاتُهَا وَإِنْ عَلَوْنَ، ثُمَّ اْلأَبُ، ثُمَّ أُمُّهَاتُه)}.
قلنا: إنَّ الحضانة واجبة من حيثُ هي، ثم إنَّ المؤلف أراد أن ينتقل إلى مسألة الأحق فيما لو تنازع الأقارب في الحضانة، فالأولى به أمُّه؛ لأنَّ الأم أكثر شفقةً ورعايةً وحنانًا وبذلًا وتحمُّلًا، وهذا لا أحدَ يشكُّ فيهِ، ولذلك لمَّا تنازعوا في ابنة حمزة، قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ» ، يعني أنَّ الأم أصلٌ في حضانةِ المحضونِ والقيامِ عليه.
قال المؤلف: (أُمُّهُ، ثُمَّ أُمُّهَاتُهَا وَإِنْ عَلَوْنَ)؛ لأنَّ الأمَّهات وإن عَلَوْنَ مِن جهة الأبِ أو من جهة الأم فيهنَّ من الحنوِّ والشَّفقةِ ما فيهنَّ، وبناءً على ذلك يُقدَّمنَ على مَن سواهنَّ.
أيُّهما يُقدَّم؛ أمُّهات الأم أو أمَّهات الأب، القربى من هذه أو البُعدَى من هذه؟
هذه مسألةٌ فيها شيءٌ من الإشكال، يعني لو كانت أمُّ أم الأم، وأم أب، فأم الأب أقرب، لكن أم أم الأم من جهة الأم؛ فهل هذه أشفق فتكون مقدَّمة أو لا؟
فيها كلام -كما قلتُ لكم- وابن القيِّمِ عرضَ لها بنحوِ ما عرضَ، والفقهاءُ يرونَ أنَّ الأمومة أولى، فتُقدَّم حتى وإن بعُدَت، ثم انتقلوا إلى أم الأب.
وعلى كلِّ حالٍ؛ هذه تفاصيل قد لا نأتي على تحقيق القول فيها؛ لأنَّها في الغالب ليست إلينا، وإنَّما إلى القضاة، لكن طالب العلم في مثل هذه المسائل حريٌّ به أن يعرف أصل هذا الباب، أمَّا تفاصيل المسائل إذا احتاج إلى الفصل فيها والبدء يُمكن أن يزداد في ذلك بحثًا، وأن ينظر في ذلك تحقيقًا فيصل إلى المراد.
قال: (ثُمَّ اْلأَبُ، ثُمَّ أُمُّهَاتُه)، فالأب أيضًا له من كمال الشَّفقة، ولذلك لمَّا طالب الأب بولده لم يقل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "لا حضانة لك"، وإنَّما قال: «أنتَ أَحَقُّ بِهِ مَا لم تَنْكِحِي»، فدلَّ على أنَّ للأبِ حقٌّ وحضانة في ولده، وليس غير الأب بأكثر شفقة من الأب، فبناء على ذلك كان مقدَّمًا على مَن سواه.
قال: (ثُمَّ اْلجَدُّ، ثُمَّ أُمُّهَاتُه)، لأنَّ الجدَّ أب، وهذا هو الذي ذكرتُ لك، ولذلك قال: (ثُمَّ أُمُّهَاتُه)، يعني أم الأب وأم الجد لا يُقدَّمن على أمِّهات الأم، لأنَّ أمَّهات الأم وإن كانت بعيدة، فأم أم أم أم مقدَّمة على أمِّ الأبِ، وأمُّ أم الأبِ مقدَّمة على أمِّ الجد، وأم أم أم الأب مقدَّمة على أمِّ الجدِّ، وهكذا..
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ اْلأُخْتُ مِنَ اْلأَبَوَيْنِ، ثُمَّ اْلأُخْتُ مِنَ اْلأَبِ، ثُمَّ اْلأُخْتُ مِنَ اْلأُمِّ).
الأخوات في درجةٍ واحدةٍ، فيُنظَر أيُّهن أقوى، فلمَّا كانت الشَّقيقة مدليةٌ بقرابتين فهي أولى، ثم الأخت لأب، ثم الأخت لأم.
هل تُقدَّم الأخت لأم باعتبار أنَّ الأمومة مقدَّمة؟
هذا قول لبعضهم، ولكن هنا المؤلف مشى على أنَّ الأخت لأب أولى بالعصبة، فهي أولى في الولاية.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ الْخَالَةُ ثُمَّ اْلعَمَّةُ).
الخالة مقدَّمة في المذهب، للحديث «الخالة كالأم».
وجاء في الحاشية: (ثم الخالة ثم العمَّة.
قال الشَّارح: وعلى الرِّواية التي تقول بتقديم أم الأب على أم الأم ينبغي أن تقدَّم العمَّات على الخالات، لأنَّهنَّ يُدلينَ بالأب وهو عصبة، فهنَّ أولى من الخالات، واختار شيخ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- تقديم أم الأب على أم الأم -كما هو في مجموع الفتاوى).
هنا مَن قدَّم أم الأب على أم أم الأم يقول إنَّ العمَّة مقدَّمَةٌ على الخالة، لأنَّهنَّ يجتمعنَ في الأنوثة وهي أقرب في القرابة، ولكن مَن يرى أنَّ الأمومَة مقدَّمةٌ على الأبوَّةِ، فالخالةُ في إدلائها بالأمومة أكثر من إدلاء العامَّة، وبناء على ذلك يحصل الفرق.
والأصلُ في المذهبِ أنَّ الخالةَ مُقدَّمةٌ على العمَّة، وخالفَ ابن تيمية فقال: "العمَّة والخالة كلاهما إناثٌ فيستوين في الشَّفقة، وهذه مدليةٌ بالأبِ، والأبُ أقربُ فتُقدَّم العمَّة على الخالة"، على ما ذكرتُ لكَ ممَّا ذكر ابنُ القيم مفصَّلًا في مأخذهم في هذه المسألة.
قال المؤلف: (ثُمَّ عَصَابَتُهُ اْلأَقْرَبُ فَاْلأَقْرَبُ)، أي: الأقرب من الأقارب، وكلٌّ بحسبِ إدلائه، فمن كان أقربَ فهو مقدَّمٌ على مَن كان أبعد، فمثلًا: العم مقدَّمٌ على ابن العم، وابن الأخ مقدَّمٌ على العم، وهكذا في الولاية والشَّفقة والحضانة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ حَضَانَةَ لِرَقِيْقٍ، وَلاَ فَاسِقٍ، وَلاَ امْرَأَةٍ مُزَوَّجَةٍ لأَجْنَبِيٍّ مِنَ الطِّفْلِ).
قوله: (وَلاَ حَضَانَةَ لِرَقِيْقٍ)، لأنَّ الرقيق مملوك، ومنافعه لسيِّده ومشغولٌ بخدمته، فلا يتأتَّى منه القيام بالحضانة وأداء حقِّها، فلأجل ذلك لا حقَّ له فيها.
قال: (وَلاَ فَاسِقٍ)، فإنَّ المقصود من الحضانة هو القيام على الصَّغير، وقيل هي: حفظُ صغيرٍ ومعتوه، وتأهيله وتأديبه، والقيام عليه بما ينفعه.
والفاسق لا يؤمَن أن يُخلِّي بينهم وبين الشُّرورِ والمنكرات، وربما يتجرَّأ في بعض الأفاعيل أو نحوها، فلا يُوثَق به ولا ولايةَ له.
فلو كانَ أحدُ الأبوين فاسقًا فلا ولايةَ له، حتى لو كانَ أبًا أقرب من غيره، فنسلِّم هذا المحضون إلى عمِّه أو خالتهِ وتُرفَع ولايةُ أبيه لكونه فاسقًا.
قال: (وَلاَ امْرَأَةٍ مُزَوَّجَةٍ لأَجْنَبِيٍّ مِنَ الطِّفْلِ)، إذا كانت المرأة مزوَّجة فهي مشغولةٌ بزوجها، ومحبوسة منافعها لزوجها، وبناء على ذلك لا يُمكن أن تقوم على هذا المحضون، فيفوت حقه في التَّربية والعناية.
قالوا: لو كان غير أجنبي من الطفل، كأن يكون عم الطفل ونحوه فهو له ولاية، فسيجتمع في هذا أنَّهما لهما على هذا الولد ولاية ولهما حقٌّ في الحضانة، فيكون ذلك داعيًا كما قُضيَ لتلك البنت لجعفر لكونه عصبةً لها، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الخالة بمنزلة الأم»، وحكم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للخالة مع كونها مزوَّجة، ولكن كانَ الزَّوجُ عصبةً، فجاز في مثل هذه الحال ألا يكون مانعًا من الحضانة والولاية.
قال: (فَإِنْ زَالَتِ الْمَوَانِعُ مِنْهُمْ، عَادَ حَقُّهُمْ مِنَ الْحَضَانَةِ).
يعني لو أنَّ الرَّقيقَ عتقَ، ثم طالبَ بحقِّهِ في هذا المحضونِ وكانَ مُقدَّمًا على غيره فيَقضِي له القاضي بذاك، لأنَّ المانع الذي حالَ بينه وبينَ الحضانة قد زالَ.
ومثل ذلك الفاسق، فلو أنَّه كان فاسقًا أو عربيدًا أو ضالًّا أو غير ذلك، ثم عرَضَ له بعدَ ذلك من الصَّلاحِ والتَّوبةِ والرُّجوعِ إلى الله -جلَّ وعلا- وظهرَ صلاحُه وقيامه بحق الله -جل وعلا- وطالب بحقِّه في الحضانة ونحوها؛ فيُطلَب في ذلك له الحق ويُقدَّم على غيره.
وإذا طُلِّقَت المرأة المزوَّجة فإنَّ حقها في الولاية قد عادَ، وبناء على ذلك إذا ارتفعت إلى القاضي حكم القاضي بعود الولاية إلى المرأة في الأحوال التي تُقدَّم فيه على الأب.
لعلَّنا نكتفي بهذا القدر -أيُّها الإخوة- أسألُ الله لي ولكم التَّوفيق والسَّداد، وأسألُ الله أن يفتح أبواب العلم لنا، وأن يوفقنا لتحصيله، وأن يجعلنا من أهله، وأن يقضي عنَّا، ويغفر لنا، ويتمَّ علينا النِّعمَةَ، ويُفيضَ علينا مِن الرحمةِ، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريمٌ، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبينا محمد.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج ومنِّي أنا محدِّثكم عبد الله بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-10-21, 20:24   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عمدة الفقه (المستوى السابع)
الدَّرسُ الثالثُ
فضيلة الشيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان


{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله، وحيَّا الله الإخوة، نسأل الله لنا ولكم التَّوفيق والسَّداد.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الموفق ابن قدامة -رحمه الله: (وَإِذَا بَلَغَ اْلغُلاَمُ سَبْعَ سِنِيْنَ خُيِّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ، فَكَانَ عِنْدَ مَنِ اخْتَارَهُ مِنْهُمَا، وَإِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ سَبْعًا، فَأَبُوْهَا أَحَقُّ بِهَا)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يوفِّقنا وإيَّاكم للهُدى والصَّواب، وأن يُلهمنا الحقَّ وحسنَ الجوارِ، وأن يجنِّبنا الشَّرَّ والسُّوءَ والفساد، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريمٌ.
كنَّا في المجلس الماضي ابتدأنَا ما يتعلَّقُ بالكلامِ على بابِ الحضانةِ، وذكرنا في مستهلِّ هذا الباب ما يلحقُ هذا الباب من وعورةٍ في بعض المسائل وكثرةِ الإشكال في تحقيق المقال فيها، والنَّص على ما هو الأتم والأكمل والأكثر تحقيقًا عندَ أهلِ العلم، ولا تنفكُّ مسائل العلم كلها من إشكال، ولابدَّ للطالبِ من مراجعةٍ، ولا يُمكن للطَّالبِ لأوَّلِ وهلةٍ أن يتلقَّى المسألةَ بتمامها وتفاصيلها والانتقال إلى الرَّاجحِ فيها، وإنَّما العلم يأتي قطرات، يأتي أوَّلَ مرةٍ على الأساس، والمرة الأخرى على فكِّ الإشكال، والثالثة على دفعِ المخالفِ، إلى أن يستقرَّ القولُ لدى الطَّالب بما يكون مؤهَّلًا -بإذن الله جل وعلا- إلى التَّحقيق والإفتاء، وإلى حسنِ النَّظر، وإلى الموازنةِ بينَ الأقاويلِ عند العلماء، ومَن طلبَ لأوَّلِ وهلةٍ أن يتنقَّلَ بينَ أقوالِ أهلِ العلم وأن يتخيَّرَ بينها، وأن يردَّ مرجوحًا ويأخذَ براجحٍ؛ فقد رامَ أمرًا عظيمًا، ويوشك أن ينتقل إلى الهوى والتَّلفيق والتَّشهِّي والتَّجنِّي على العلم، ونخشى أن يَدخلَ في قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ï´؟وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَï´¾ [البقرة: 169].
لذا أُوصي الطُّلابَ بالتَّروِّي في العلم والمهلةِ فيه، والتَّأنِّي وعدم الاستعجال؛ فإنَّ ذلك -بإذن الله جلَّ وعلا- أعونَ لهم على الإخلاص، لأنَّ الإنسان إنَّما يجرؤ حتى يُرِيَ النَّاس، وحتى يتفوَّقَ على الأقران، وهذا التَّأنِّي أعون له على تحصيل بركةِ العلم، وأوفقُ له من الله -جَلَّ وَعَلَا- على أن ييسر له المزيد، وأن ينقله إلى ما هو أتم، وأن يجعله في خيرٍ يستقبله، وأن يكون -بإذن الله جل وعلا- في أتمِّ الأحوال وأكملها.
وكما قلنا إنَّ هذا الباب فيه وُعورةٍ يُحتاجُ فيه إلى شيءٍ من النَّظرِ.
وذكرنا مسألةً مهمَّة؛ وهي أنَّ هذه المسائل -وهي مسائل الحضانة- كلامُ الفقهاء فيها إنَّما هو حالَ النِّزاعِ والاختلافِ، وهذه الحال يجبُ ألَّا تكونَ هي الحال المستقرَّة؛ بل الأصل على الآباء والأمَّهات سواء في حالِ رضا أو في حالِ غضب، في حالِ اتِّفاق أو في حالِ فراق، في حالِ زواج أو في حال طلاق؛ ألَّا يُعرِّضوا الأبناء والبنات للبلاء والإشكال، وألَّا يجعلوهم حلبةَ صراعٍ، وميدانًا للنِّزاعِ، وطريقًا للتَّشفِّي، يُريد أن يتشفَّى في هذه الزَّوجة فيؤذيها في أولادها، ويوشك أن تحتال المرأة لتنزع أولاده منه، وليس الأمر كذلك، إن كانوا أولاده فهم أولادكِ، وإن كانوا أولادكِ فهم أولاده، وإن كان من خيرٍ فالخير لهم، وخيرهم خيرٌ لكم، وأنتم مسؤولون عنهم وموقوفون بينَ يدي الله فيهم، فمن فعلَ فعلةً لا يريد بها الخير لهم وإنَّما يُريد التَّشفِّي أو إظهارَ غيظِ النَّفس والانتقام من الآخر فقد رامَ شرًّا، وحصَّلَ سوءًا، ووقف بين يدي الله -جَلَّ وَعَلَا- في حالِ بلاءٍ ومحنةٍ، ويوشك أن يدخل في قولِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» ، ولذلك نصَّ الفقهاء في أبواب الحضانة في غير ما مسألةٍ أنَّه إذا كانَ الأخذُ مُضارَّةً للآخر فإنَّه لا يُوافَق على ذلك، وإذا تبيَّنَ هذا للقاضي فينبغي أن يأخذَه بسوءِ قصده، وأن يعزِّرَه على ما جنحَ إليه، فهذه أمورٌ يجب أن يُتبيَّن الأمر فيها.
إذن؛ الحالُ حالُ اتِّفاق، فإذا تنازعا فإنَّما يتنازعا لقصدِ الأصلح للأولاد لا لقصد الحصول عليهم والحيلولة بينهم وبينَ أبيهم أو بينهم وبينَ أمِّهم، وإنَّما إذا ظنَّ كلُّ واحدٍ منهما أنَّه يكونُ الأصلح لأبنائه وبناته فنقول في مثل هذه الحال: له أن يُطالِبَ بهم وأن يترافع إلى القضاء إن احتاجوا إلى القضاء، وإن لم يحتاجوا إلى القضاء بأن يتَّفقوا فيما بينهم أو يجعلوا بينهم محكِّمًا ويُرسلوا بينهم خبيرًا وشفيقًا عارفًا بالأحكام الشَّرعيَّة وقادرًا على جعلِ الأمورِ في مواضعها؛ فإنَّ ذلك أحسن من أن تُبتلَى النُّفوس وأن يتعرَّض الأبناء للمحاكم ذاهبين آيبين، أو يلحق في نفوسهم شيءٌ من المهانةِ والذِّلةِ وضيقِ الصَّدرِ، ومقارنةِ أنفسهم بغيرهم ممَّن استقرَّت أحوالهم وقامت أسرهم، وفرحوا باجتماع شملهم، فينبغي ألَّا يُكوَى الأبناء والبنات بنارِ المنازعةِ فوق اكتوائهم بنار الفِرَاق والاختلاف والطَّلاق.
هذه مسألةٌ مهمَّةٌ، وأرجو أن تكونَ على مرأى ومسمعٍ من كلِّ أبٍ وأمٍّ احتاج إلى النَّظرِ في مثل هذه المسائل، وأن تكونَ نصبَ عينيه.
أخذنا في الدرس الماضي ما يتعلَّق بأنَّه لا حضانة لرقيقٍ ولا لفاسقٍ ولا لمرأة مزوَّجةٍ بأجنبيٍّ، وذكرنا أنَّ هذه موانع تمنع من الولاية، وأنَّ حقيقتها أنَّها شروط مشترطةٌ في الحاضن، ألَّا يكون فاسقًا، فيكون عدلًا، وألَّا تكون المرأة مزوَّجة.
وذكرنا أنَّ مَن كان فيه مانعٌ فزالَ المانعُ بأن عتقَ العبدُ، أو زالَ الفسقُ، أو طُلِّقَت المرأة؛ فإنَّه يعود لهم من الحقِّ ما كان، ولها أن تُطالب ولو سبق حكمُ القاضي بانتقال الأبناء إلى أبيهم -هذا بالنِّسبة للمرأة- والعكسُ بالعكسِ بالنِّسبةِ للفاسقِ إذا اعتدلَ وسلمَ من الفسق، ومن الرَّقيق إذا عتق.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا بَلَغَ اْلغُلاَمُ سَبْعَ سِنِيْنَ خُيِّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ).
تكلَّمنا في أوَّل البابِ عن الأحق بالحضانة، وذكرنا أنَّ في الحضانة حقٌّ للمحضون فلا يضيعه بحالٍ من الأحوال، لكن لو انتقل من الفاضل إلى المفضول، أو إلى المتأخِّر من المتقدِّم؛ لكن وجد مَن يحضنه فالحمد لله، لكن الكلام إذا لم يوجَد مَن يحضنه؛ فيأثم الأقارب والمسؤولون عن ذلك.
المسألة الثانية: إذا تنازعوا في الحضانة؛ فمن الأولى بها؟
بيَّنَّا المقدَّم فالمقدَّم من حيث الأصل الذي هو بالنسبةِ للصَّغيرِ الذي هو دونَ سبعِ سنين، فهو مستحقٌّ عندَ من تقدَّم في الترتيب المذكور في الدَّرسِ الماضي.
والمسألة هنا في بلوغه سبع سنين، والكلام في الغلام، والغلام: اسمٌ للابن الذي بلغَ السَّبعَ ولم يبلغ.
إذن؛ عندنا الغلام الي بلغَ وهو عاقل رشيد، فليس لأحدٍ ليه ولايةٌ ولا حضانة، والصَّغير الذي هو دونَ سبعٍ تقدَّم الحكم في حقِّه، وهو أنَّه لا يُضيَّع، ثم يكون الأولى به فالأولى، حسب الترتيب الذي ذكره الفقهاء.
إذا بلغ السَّبع -مع وجود قيود سنشير إليها- خُيِّر الغلام، فيُؤتَى به فيُخيَّر بينَ أبويه، فإذا اختار الأب ذهب معه، وإذا اختار الأم ذهب معها، فإنَّ هذا قد حكم به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمَّا ترافعت امرأةٌ إليه وقالت: "إن ابني هذا صار يخدمني ويستعذب لي الماء، أو يسقيني من بئر كذا وكذا...، وإن أباه أراد ان ينتزعه مني"، فأحضرهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأحضر الغلام، ثم عرضَ على الغلام أبويه.
ففي الشَّرع يُراعَى أنَّه مَن كان الطفل إليه أميل؛ فإنَّه يكون له أنفع في استجابته في التربيه وتهذيبه على الأخلاق، وقربه لطيِّبِ الفِعال، بخلاف مَن يأنفُ عنه أو ينفر منه؛ فإنَّه يُوشك ألَّا يتلقَّى منه.
على كلِّ حال؛ فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيَّره فاختار أمَّه، فجعله يذهب معها، وكذا حصل ذلك في عهد عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فالسُّنَّة مستقرَّة، وحكمُ الخلفاءِ جارٍ في هذه المسألة، ولا غضاضة في ذلك ولا إشكال فيه؛ بل هو مستقرٌّ سائرٌ العمل به بعد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذن نقول: إذا اختار أحدهما فهو مع مَن اختار.
وينبغي أن يُعلم أنَّه إذا اختار أحدهما ثم انتقل إلى الآخر، فيُحكَم بعدَ ذلك بمَن انتقل إليه، ويُنزَع ممَّن انتقل منه، وهكذا..
إذن؛ المسألة راجعة إلى اختيار الغلام ورغبته، ومحل الكلام هنا إنَّما هو في الغلام العاقل، يقول الفقهاء: أمَّا الغلام المعتوه والغلام المجنون، ومَن ماثلهم في تلك الأحوال؛ فإنَّه إنَّما يكون عند أمِّه على الإطلاق، وذلك لأنَّ الأم أكمل في الشَّفقةِ، ولأنَّه لا ينفكُّ من أحوالٍ يُحتاج فيها إلى الأمِّ لا إلى الأب، لأنَّ المعتوه أو المجنون لا يستطيع أن يُربَّى، وإنَّما يُشفَقُ عليه، يُحفَظُ من سوءٍ، يُمنَعُ من خرزجٍ، يُحال بينه وبينَ ما يضرُّ ونحو ذلك، يُجرَى عليه الطَّعام الذي يُلائمه ويُناسبه؛ وكلُّ تلك الأمور إنَّما تقومُ بها الأم.
أمَّا العاقل فإنَّ هذه الأمور في حقِّه أقل، فهو يستطيع أن يُخبِرَ عن نفسه بأنَّه يُريد هذا الطَّعام أو أنَّه يتقي هذا الخطر ونحو ذلك، فحاجته إلى الأب أو الأم في التَّربية، ولذا كان المقصود الأعظم هو تحصيل التَّربية وتنشِئته تنشأةً صالحة، فهو مع مَن اختار يكون أطيبَ له وأتمَّ لحاله على ما ذكر الفقهاء، وجرت بذلك السُّنن عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذن؛ للغلام أربعة أحوال:
الحال الأول: أن يكون طفلًا دونَ السَّبع سنوات؛ فالأحق به أمُّه، ثم أمهاتها، ثم الأب، ثم أمهاته، ثم أجداده؛ على ما جاء.
الحال الثاني: إذا بلغَ السَّبع؛ فلا يخلو:
- إما أن يكونَ عاقلًا: فيُخيَّر.
- أو غيرَ عاقل: فهو عندَ أمِّه على الإطلاق لِمَا ذكرنا.
الحال الثالثة: البلوغ، فإذا بلغَ العاقل الرَّشيد فإنَّه لا حضانةَ لأحدٍ عليه، وبناءً على ذلك سواء جلس عندَ أمِّه أو عندَ أبيه، أو احتاجَ إلى الانفراد لكونه في طلبِ معيشةٍ بعيدة أو نحو ذلك.
ولكن يقول الفقهاء: ولا ينبغي للغلام أن ينفرد عن أبويه وهو يقدرُ على ألَّا ينفرد، ليقوم على برِّهم، ولئلَّا يُحرَم هذا الخيرَ الكثير والبرَّ العظيم، الذي هو القيام على الوالدين والإحسان إليهما.
الحال الرابعة: إذا لم يكن عاقلًا بأن كانَ معتوهًا أو مجنونًا فتبقى حضانته لدَى أمِّه لِمَا ذكرنا، لأنَّه لم يختلف حاله من حال الحاجة إلى الشَّفقةِ والاهتمام والعناية في مأكله ومشربه وحفظه عمَّا يضرُّه، ونحو ذلك على ما ذكره الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تعالى.
يأتي الكلام بعدَ ذلك في البنت التي بلغت سبع سنين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ سَبْعًا، فَأَبُوْهَا أَحَقُّ بِهَا)}.
الجارية والغلام فيما دون سبع سنين حكمهما واحد في الأحق بهما، أما ما بعدَ السَّبع فتختلف أحكامهم، ويختص كل واحدٍ بما يُلائمه، ولذلك يقول الفقهاء: الجارية تكون عند أبيها؛ لأنَّها أحوج ما تكون إلى الصَّونِ والحفظِ والعنايةِ، والتَّأهيلِ للتَّزويجِ وما يعقبه، وتلكَ حالٌ لا يقوم عليها إلا الأب، ولا يقوى عليها إلَّا الوالد، فبناء على ذلك تكون عند أبيها لأنَّه أحفظُ لها.
وهذا الكلام في حال الخلاف، أمَّا حال الاتِّفاق فهما على ما اتَّفقا عليه، وينظران في الأصلح لحالهما، وعند الاختلاف كونها عندها أولى من كونها عند أمِّها، وكل الكلام أيضًا في حال كونِ الأبوين -أو المختلفين- مستحقَّانِ للحضانة، أمَّا إذا لم يكونا مستحقَّانِ للحضانتة أو أحدهما ليس بمستحقٍّ للحضانة فلا يُنظَر في طلبه، وإنَّما يُنتقَلُ إلى غيره، فلو كانت أمًّا فاسقةً فاجرة وعمًّا صالحًا؛ فيُمكن أن يُنتقل إلى العم، ويُمكن أن يُنتقل إلى الخالة إذا وُجدت، وهذا بحسب الحال.
ذكروا بعض الأحوال لا نريد التَّفصيل فيها، فكما قلتُ لكم إنَّ هذه أبواب يُراد منها أن يعرف الطالب أصل المسائل، ولكن ما يتعلق بتفاصيلها يحتاج فيه إلى حكم القضاة، وإلى المحاميين والمعنيين بتثقيف الناس من طلبة العلم والخطباء وأئمة المساجد ونحوهم؛ فيأخذون من هذا الباب أصله، ثم تفاصيله عند الحاجة إليها.
وذكر العلماء ما إذا مرضت البنت -أو ما في مثل تلك الحال- فإنَّها تكون عندَ أمِّها، لأنَّها أشفق عليها، وأكثر مراعاةً لها، ولأن المريض يحتاج إلى طولِ عناية وطول مُقامٍ عنده، وتحسُّسٍ فيما يحتاج إليه، ومعالجته فيما يضرُّه أو يؤلمه أو نحو ذلك، فإذا كانَ الحالُ كذلك فيُمكن للبنت أن تنتقل عندَ أمِّها.
وذكروا أيضًا حالَ السَّفر، أو كون أحدهما في بلدٍ والآخر في بلد، ورأى الفقهاء في ذلك ما هو الأصلح، فإذا كان يذهب ويجيء فهو عند المستقر منهما، أمَّا إذا كان ينتقل والانتقال آمنٌ فتكون عند الأب، وهكذا، ولها تفاصيل ليس هذا محلُّ استقصائها وذكرُ جميع ما يتعلق بها.
وإذا كانت الجارية معتوهة فتكون عندَ أمِّها لأنَّها أولى من المريضة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلى اْلأَبِ أَنْ يَسْتَرْضِعَ لِوَلَدِه، إِلاَّ أَنْ تَشَاءَ اْلأُمُّ أَنْ تُرْضِعَهُ بِأَجْرِ مِثْلِهَا، فَتَكُوْنُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ فِيْ حِبَالِ الزَّوْجِ أَوْ مُطَلَّقَةً)}.
قوله: (وَعَلى اْلأَبِ)، "على" هنا للوجوب واللزوم والاستحقاق، فواجبٌ على الأب ولازمٌ له أن يسترضع لولده، أي: يطلب له مَن تُرضعه، فهذا من واجبات الزَّوج لا الزَّوجة، حتى ولو درَّ لبنُ الزَّوجةِ وأمكنها تحصيل ذلك، للآية: ï´؟وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِï´¾ [البقرة: 233]، فدلَّ على أنَّ هذا من واجبات الأب ولزومه، وقال في سورة الطلاق: ï´؟فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّï´¾ [الطلاق: 6]، فدلَّ ذلك على أنَّه مُستحقٌّ على الأب.
قال المؤلف: (إِلاَّ أَنْ تَشَاءَ اْلأُمُّ أَنْ تُرْضِعَهُ)، يعني: أنَّ الأب لا يُجبرها ولا يُلزمها، سواء كانت مطلَّقة أو معه في حِبَالِ زوجيَّته، فلا يلزمها هذا، وليس من واجباتها على الإطلاق، فتكون أحقُّ بها من غيرها إذا طلبت ذلك، لأنَّ كمال شفقتها اعظم، فيحصل له من العناية والتَّمام وحسن الرِّعاية أكثر، فيُقَرُّ بيدِ أمِّه، لكن لو لم تشأ أو رغبت عن ذلك بسببٍ أو بغيرٍ سبب حتى ولو درَّ ضرعها وقالت لا أريد أن أُرضعه؛ فلا نلزمها بذلك.
يقول الفقهاء: "إنَّ اللزوم مختصَّةٌ بحالٍ واحدة، ألَّا يوجَد غيرها"، بمعنى أنَّها حالُ الاضطرار بأن يُخاف على الولد الهلاك، لأنَّ النُّفوسَ محفوظةٌ ومعصومةٌ، ويجبُ حفظها، ولا يجوز إتلافها وإهلاكها، وكفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّعَ مَن يعول، وإذا لم يجُز لنا أن نترك الأجنبي الذي تعرَّضَ للهلكة؛ فمن باب أولى أن يجب على الإنسان حفظُ قريبه وولده ومَن تحتَ يدهِ، وهكذا..
في مثل هذه الأوقات إمَّا أن يُنتقَل من الأم إلى مرضعة أخرى، وهذا لا إشكال فيه، أمَّا إذا انتُقِلَ من الأمِّ إلى حليب صناعي، أو إلى هذه المستحضرات التي تُخَضُّ مع الماء حتى يُسقى بها ذلك الرَّضيع؛ فهل نقول إنَّ الأم تُلزَم في مثل هذه الحال أو لا تُلزَم؟
هذا محل إشكال، ونصَّ أهل العلم على أنَّه اجتناب إرضاع الطِّفل من البهائم ونحوها، لأنَّ هذا يُذهب عنهم الذَّكاء، ويُلحق بهم الغباء، فهل نقول إنَّ هذا يُمكن أن يكون معتمدًا لنا في إلزام الأم من عدمه في هذه الحال؟
الحقيقة هذا محلُّ بحثٍ ونظرٍ وتأمُّلٍ، ولكن إذا نظرنا إلى مثل هذه المستحضرات أو المساحيق التي تؤول إلى سقاءٍ لهذا الطفل وفيها مكوِّناته الأصليَّة، وأثبتت التَّجربة قيام الرُّضَّع بها، وقوَّتهم وسلامتهم في أعضائهم وفي عقولهم؛ فلا يُبعَد أن يُقال أنَّها تقوم مقام الأم وأنَّه لا تُلزَم في مثل هذه الحال.
ويُشكل علينا ما ذكرناه من قول العلماء في الإرضاع بلبن البهائم؛ ونقول: أنَّ ما يذكره أهل الطِّب المعاصرون هو درجة من درجات تمام العناية، ولأجل ذلك فإنَّ هذا من الأمور الشَّائعة والمنتشرة والمشتهرة كثيرًا، وهي محل بحثٍ؛ ولكنِّي طرحتها لا على سبيل التَّقرير والتَّأكيد، وإنَّما على سبيلِ النَّظرِ والتَّروِّي، ولكن فيها من الوجه ما يُمكن أن يكون معتبرًا قويًّا، خاصَّة أنَّ الفقهاء ذكروا أنَّ الرَّيع يُمكن أن يُسلَّم لغير أمِّه، ويفوت عليه من الشَّفقة شيئًا كثيرًا، ومن المعلوم أنَّ المرضعات فيما مضى كان يجتمع لديهنَّ الرُّضَّع الكُثُر، فربما كان منها ضعفٌ في كمال الرِّعاية لكثرة مَن عندها، فهذا ممَّا يقوى ما يؤول إلى إعطائهم من هذه المستحضرات الحديثة التي تُستخلَص من حليب الأبقار والجواميس ما فيه قيامٌ بالقدرِ المطلوبِ، أو يتحقَّقُ به الواجب، والله تعالى أعلم.
{أحسن الله إليكم..
لو جرت العادة أنَّ المرأة هي التي تتولَّى الإرضاع، فهل يكون فيه إلزام؟}.
أنت تقول: "لو جرت العادة"، وهنا يكون تحكيم للعادة، وتحكيم العادة مُعتبرٌ في الشَّرع إذا لم يُوجَد نصٌ، إمَّا إذا وُجد نصٌّ فالنَّصُّ حاكمٌ وقاضٍ، والله -جَلَّ وَعَلَا- قد حكم بذلك في كتابه، قال تعالى: ï´؟فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّï´¾ [الطلاق: 6]، يعني أنَّ الأمرَ ليسَ بمتحتِّم عليهنَّ ولا بلازمٍ، ثم لو أنهنَّ أرضعنَ استحققنَ الأجرة، فدلَّ ذلك على عدمِ لزومه، فلا يُمكن أن يُقال أنَّ ما رفعَ القرآن والشَّرعُ لزومه أن نأتي فنُلزمَ به ونوجبه، وبناءً على ذلك تُهادِي أم الطفل، فإن أرضعت فحيَّ هلا، وإن أبت وامتنعت فلا، خاصَّةً أنَّ بعض النِّساء ربما تمتنع لأسبابٍ تعلَّقُ بها؛ لأنَّ المرأة إذا أرضعت تترهَّل ويَبينُ فيها الكبرُ ويكثُرُ فيها الضَّعف، وهي تعلم أنَّ الأمر إذا كان كذلك فإنَّ الزَّوج ربَّما رغبَ عنها، أو التفتَ إلى غيرها ونحو ذلك، فيكون امتناعها أو إعراضها مع وُجودِ ما يُمكن أن يقوم مقام إرضاعها وجهٌ وجيهٌ بالنِّسبةِ للمرأة، فكيف وأصل الشَّرعِ قد جاء ساندًا لحالها، فلو لم يكن في ذلك شيءٌ من هذه المسوغات لكفى بالشَّرعِ حاكمًا وقاضيًا.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ وَلاَ مَالٌ، فَعَلى وَرَثَتِهِ أَجْرُ رَضَاعِهِ، عَلى قَدْرِ مِيْرَاثِهِمْ مِنْهُ)}.
هذا إن لم يكن له أبٌّ ولا مال، أمَّا لو كان له مالٌ فيُنفَقُ عليه من ماله كسائر نفقاته؛ ولأنَّ أولى ما يُنفق فيه مالُ المرء هو فيما تقومُ به حياته وتُحفَظُ به مادَّةُ روحه، وألَّا يكون سببًا لتلفه وهلاكه ونحو ذلك، وكذلك إن لم يكن له أبٌ، لأنَّ الأب هو الذي وجبَ عليه ذلك في بأصل الشَّرع كما في الآية المتقدِّمةِ معنا.
إذا لم يكن له واحدٌ من هذين؛ فهل يُضيَّع الطِّفلُ ويُترَك؟ وهل تكون حياته وموته سواء؟
لا، وهذا مستقرٌّ عندَ الفقهاء أجمع لا يختلفون في ذلك، فإنَّه يجب القيام عليه، ونصَّ المؤلف هنا على أنَّه يجب على ورثته، وهذا مبنيٌّ على ما سيأتينا بعدَ قليل في باب النَّفقات، وأنَّ النَّفقات تجبُ على الورثة، لأنَّ الغُنمَ بالغُرمِ، قال المؤلف: (فَعَلى وَرَثَتِهِ أَجْرُ رَضَاعِهِ)، فيُبحَث له عن مرضع وتُعطَى أجرتها، إن تبرَّع أحد الأقارب أو أحد النَّاس أو أحد المنفقين ممَّن تلزم النَّفقة فالحمد لله، أمَّا إذا لم يتبرَّع أحد فيكون على جميع الورثة القادرين على النَّفقة، الذين عندهم ما يُمكن أن ينفقوه، أمَّا إذا لم يكن فنفسه ومن وجبت عليه نفقته أولى، ولكن الكلام هنا في الوارث القادر على النَّفقة، فيجب عليه.
وبناءً على ذلك؛ لو كان له أخوين فيتناصفان أجرَ الرَّضاعة، كما أنَّه لو مات يتناصفان إرثه لو كان له إرث، وسيأتينا ما يتعلَّق بهذه القاعدة فيما قرَّره الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تعالى.
وكلام الفقهاء في الرَّضاعِ هنا إنَّما هو للحولين، ولأجل ذلك يقول أهل العلم: لو أرادوا أن يُستَرضَع للطفل بعدَ بلوغه السَّنتين فلا يجب على أبٍ أن يدفع، ولا على قريبٍ أن يُنفق؛ بل إن تبرَّع فالحمد، وإن لم يتبرَّع فإنَّه ما بعدَ الحولين لا يحتاج حاجةً مُلحِّةً إلى الرَّضاع، لأنَّ الرَّاع إنما يكون في الحولين.
والعكس بالعكس؛ يقول الفقهاء: لو أرادَ فطامه قبلَ السَّنتين فليسَ للأب ذلك، إلَّا أن يتراضى الأبوان بذلك؛ فإذا تراضيا فالحمد لله، لكن مدَّةُ السَّنتين لازمة للأبِ بكلِّ حالٍ، وعلى سائر الورثة الذين تلزمهم النَّفقات عليه سواء بالرَّضاع أو غيره، ما بعد السَّنتين فليس بلازمٍ إلَّا أن يتبرَّع. وهذا من مكمِّلاتِ هذا الباب، وهي من المسائل المهمَّة المتعلِّقةِ به، لأنَّ كثيرًا من الصِّغار ربَّما يجوزون السَّنتين ولا يزال يطلب اللبن ونحوه، فنقول إنَّ هذا على سبيل التَّبرُّع لا اللزوم وعلى سبيل الاستحباب لا الوجوب.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ نَفَقَةِ اْلأَقَارِبِ وَالْمَمَالِيْكِ).
تعرفون أنَّ المؤلف له ترتيب في الكتاب ليس على ما جرى عليه متوسطو الحنابلة ومتأخريهم في أن تُجعل نفقة الأزواج والأقارب في بابٍ واحدٍ، ولمَّا درسنا عشرة الزَّوجين أدخل المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- ما يتعلَّق بنفقة الأزواجِ، ولأجل ذلك لم يقل هنا "كتاب النفقة"، وإنما قال (باَبُ نَفَقَةِ اْلأَقَارِبِ وَالْمَمَالِيْكِ).
وبعض المتأخرين يجمعونها، فيقولون "كتاب النفقة" ويبدؤون بنفقة الأزواج، ثم نفقة المماليك، ثم نفقة الأقارب، ثم نفقة البهائم.
وهنا خصَّ المؤلفُ الأقارب والمماليك باعتبار أنَّ نفقة الأزواج قد مرَّت فيما يتعلَّق بباب عِشرَة الزَّوجين، وهو نوع ترتيب والأمر فيه واسع.
لِمَ احتجنا إلى مثل هذا الكلام؟
لأنَّ الطالب ربَّما يأتي في بعض الأحوال فيبحث في الكتب فلا يجد نفقة الأزواج، فقد تُذكَر في باب "عشرة الزوجين"، أو يذهب إلى "باب عشرة الأزواج" فلا يجد النفقة؛ فتكون في كتاب "النفقة"، فبعضهم يجمعها هنا، وبعضهم يفرقها بين الموضعين، والأكثر على جمعها في كتابٍ واحدٍ يعنونون له بــ "كتاب النَّفقات".
ومرَّ بنا ما يتعلَّق بنفقةِ الأزواجِ، وأنَّها مقدَّمةٌ، لأنَّ بابها باب المعاوضة، وذكرنا كيفيَّة الحكم بالنَّفقة هل هي معتبرةٌ بالزَّوج أو معتبرةٌ بالزَّوجة أو هي معتبرة بحالهما -كما هو مذهب الحنابلة رحمهم الله تعالى- وذكرنا الأدلَّة المتعلِّقة بلذك فيما مضى، ولا نحتاج إلى إعادة وتَكرار لضيق الوقت وحاجتنا إلى التَّكميل والاستمرار.
وهذا أوان البحث في نفقة الأقارب، وذكرنا أنَّ النَّفقة: هي الشَّيء الذي يُنفَق ويذهب، من نَفَقَ الشَّيء إذا بذله، لأنَّ هذه النَّفقات تُعطَى وتذهَب وتتجدَّدُ غيرها.
مَن المقصود بالأقارب هنا؟
الأقارب هنا هم قرابته الذين يرثونه بالفرض أو التَّعصيب، أو نقول: هم الأصول والفروع ومن يرثه من الأقارب، فهؤلاء هم الذين يدخلون في أحكام النَّفقة، ومَن سواهم فلا، لأنَّ الفقهاء لهم مسالك متباينة في النَّفقات، والكلام فيها كالكلام في الحضانة في الخلاف والإشكال، وإن كان الأمر فيها أظهر من الحضانات، فالحضانات متفرِّعة تفرُّعًا لا يكاد يستقرُّ في مسلكٍ أو منهجٍ واحد، أمَّا النَّفقات فيها شيءٌ من التَّبايُن، والفقهاء لهم منهجان معلومان ستأتينا الإشارةُ إليهما.
ونفقة المماليك واجبة، وهم ممَّن يعولُ الإنسان، وتضيعهم تضييعٌ، وتركهم حرام، وسيأتي في نهاية الباب ما يتعلق بالكلام عليه.
ندخل إذن في باب النَّفقة، فبعد أن عرفنا أنَّ نفقة الأقارب والمماليك هي محل البحث هنا، وأنَّ أصلها في الشرع في قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ï´؟وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروفï´¾ [البقرة: 233]، فهذا دليل على وجوب النفقة على مَن يُولد له، وقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ» ، وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» ، وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ» ، وهذا لالآباء، وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» ؛ فكل هذه الأحاديث دالَّةٌ على استحقاق الآباء والأقارب، وهذه تتوجَّه إلى الآباء والأبناء.
وهناك دليل آخر، قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الاستحقاق: «أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» ، وهو حديث حسن، حسَّنه غير واحد، وصحَّحه الحاكم وغيره، ونقله الفقهاء محتجِّينَ به معتبرين له.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلى اْلإِنْسَانِ نَفَقَةُ وَالِدَيْهِ وَإِنْ عَلَوْا، وَأَوْلاَدِهِ وَإِنْ سَفَلُوْا وَمَنْ يَرِثُهُ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيْبٍ، إِذَا كَانُوْا فُقَرَاءَ، وَلَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ)}.
قوله: (وَعَلى اْلإِنْسَانِ)، يفيدُ أنَّ المسألةَ متعلِّقةٌ بالوجوبِ مثلما قلنا قبل قليل في قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلَى الأبِ أَنْ يَستَرْضِعَ لِوَلَدهِ)، فهذا واجبٌ لازمُ لِمَا ذكرنا من دلائل النُّصوص من قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ»، وجعل ذلك أخذًا قاطعًا، ولم يجعل الأمرَ خيارًا له ولا باستئذانه، وإنَّما هو حكمٌ قاطعٌ فيمَن تخلَّفَ أو تأخَّرَ أو توانى عن النَّفقةِ على مَن تحته من زوجٍ وولدٍ وقريبٍ، والأحاديث الأخرى أيضًا دالَّةٌ على ذلك دلالةً ظاهرة.
قال: (وَعَلى اْلإِنْسَانِ نَفَقَةُ وَالِدَيْهِ)، والِدَا الإنسان هما من أولى الناس بك، فأمر الله -جَلَّ وَعَلَا- بررهما، قال تعالى: ï´؟وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًاï´¾ [الإسراء: 23]، وأعظم الإحسان وأوجبه ما يتعلَّق به حفظهما وحفظ أبدانهما، وحفظ أرواحهما، ومنعهما ممَّا يضرُّهما أو يذلهما أو يُلحق بهما المهانةِ من التَّعرُّضِ للسُّؤال والصَّدقةِ والزَّكاةِ وغيرها، فهذا من حيث العموم.
وكما قلنا في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»، دلالة على استحقاق الوالدين.
قوله: (وَإِنْ عَلَوْا)، يدخل في ذلك أم الأم، وأم الأب، وأم أم الأب، وأبو أم الأم، وهكذا من جميع الأمهات، ولعلَّك تلحظ أنَّه لمَّا علَّقَ النَّفقةَ للوالدين أطلق بالعلوِّ، ليدخل في ذلك كلُّ الآباء والأمهات، سواءٌ ورثوا أو لم يرثوا، كانوا من الورثةِ أو من ذوي الأرحام، وقد تقدَّمَ بنا متى يكون وارثًا ومتى لا يكون وارثًا، والقاعدة في الجد: أنَّ كل جدٍّ أدلى بأنثى بين ذكرين فإنَّه غيرُ وارثٍ، وتقدَّم ما يتعلق بالأمِّ غير الوارثة وهي من أدلت بأنثى بعد ذكر، مثل أم أب الأم؛ فهذه غيرُ وارثةٍ.
هذا ما يتعلَّق بالوالدين وإن علو، أنَّهم آباء وأمهات، والآباء والأمهات لهم حق البرِّ والإحسان، وهم داخلون في عموم هذه الدَّلائل والآيات، لأنَّ -جَلَّ وَعَلَا- قال: ï´؟مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَï´¾ [الحج: 78]، فسمَّاه أبًا، فدلَّ ذلك عند أهل العلم على أنَّه يلحقه ما يلحق الأبَ من البرِّ ووجوب النَّفقةِ.
ثَمَّ مسائل ربَّما اختلف فيها الجد عن الأب، لكنَّها على سبيل الاستثناء والخصوص، ونقلها الفقهاء باعتبارات معيَّنة، وجاءت فيها النُّصوصُ دالَّة على التَّخصيصِ فيها.
وبناءً على ذلك نقول: إنَّ الآباء والأمَّهات مستحقون للنَّفقةِ على سبيل الإطلاق.
قال: (وَأَوْلاَدِهِ وَإِنْ سَفَلُوْا)، يعني وإن نزلوا، فابنك وبنتك وابن ابنك وابن بنتك وابن ابن بنت بنتك؛ كلهم داخلون فيما يجب عليك الإنفاق عليهم متى ما احتاجوا وقدرتَ على ذلك، وسيأتي بيان قيود وشروط هذا.
ولا يتقيَّد ذلك بقيدٍ، ولا يخصُّ ذلك بحالٍ؛ بل كلُّ الأولاد داخلون فيه لِمَا ذكرنا من دلالة الآيات والنُّصوص.
مسألة استحقاق الوالدين وإن علو والأولاد وإن سفلوا هو قولُ الحنابلة وجماهير الفقهاء، لا يجري في ذلك خلافٌ معتبرٌ.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ يَرِثُهُ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيْبٍ).
كلُّ أقارب الإنسان الذين يرثونه لو ماتَ؛ تجب النَّفقة لهم لو احتاجوا، وهذا هو مشهور مذهب الحنابلة وهو من مفرداتهم، والجمهور على خلافه، وأصل ذلك عندَ الحنابلة هو دليلُ النَّقلِ وما يؤيِّده من النَّظر،.
أمَّا النقل فيقولون: إنَّ الوارث في قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ï´؟وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَï´¾ [البقرة: 233] معطوف على لزوم النَّفقة على الأب، يعني غير الآباء والأمَّهات، فدلَّ ذلك على أنَّ كلَّ شخصٍ يرث الإنسان لو ماتَ تجب عليه النَّفقة له لو احتاج.
ويقولون: إنَّ القاعدة المتقرِّرة عند أهل العلم "الغنم بالغُرم"، فكما أنَّك تغنمه لو مات فترثه إذا كان ذا مالٍ؛ فإنَّه يجب عليك النَّفقة عليه إذا احتاج.
قال المؤلف: (إِذَا كَانُوْا فُقَرَاءَ).
أوَّل قيدٍ في هذه القيود التي يُعتبر فيها الإنفاق على القريب: أن يكونَ فقيرًا، أمَّا لو كان غنيًّا ويأتي إلى قريبه ويقول له أعطني! نقول: لا حقَّ لك، حتى ولو كان هذا عنده مالٌ لا يكاد يُحدُّ بطرفٍ؛ فماله له ونفقته لنفسه، ولا يجب لك شيء، لأنَّكَ غير محتاج، والنَّفقة إنَّما تكون حال الاحتياج.
وكونه فقيرًا بأن يكون ضعيفًا أو مريضًا، وألا يكون له كسب، أو ليست له حرفة، بمعنى أنَّه لو كان شخصٌ له كسبٌ ثم هو مهمل فلا نفقة له، أو كان يستطيع الصَّنعة ولا يريد أن يصنع ويريد أن ينام، فإنه لا يستحق شيئًا!
لكن لو افترضنا أنَّه مريض أو كبير أو امرأة ونحو ذلك، ولا يستطيع العمل؛ فإنَّ ذلك يستحق، أو كان قويًّا ولا يجد صنعة ولا يُحسنُ شيئًا، ذهب ينْجُرُ فلم يُحسن النجارة، وذهب يسوق فلم يُحسن القيادة، وغير ذلك، فمثل هذا مَن قلَّبَ على الأشغال فلم يجد، ومن بحث على الوظائف فلم يحصل، وهذا إذا لم يكن متعنِّتًا بان يريد وظيفةً بعينها أو شيئًا يختصُّ به، وإلا فلا، فإن كان قد بحث عمَّا يقوم بسداد عيشه فلم يجد؛ فإنَّه مستحقٌّ للنفقة، ويجب على قريبه القيام عليه.
قال المؤلف: (وَلَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ).
إذن المنفِق لابدَّ أن يكونَ له مالٌ يستطيع به النَّفقة عليهم، أمنَّا إذا كان ما عنده مال فلا تجب عليه النَّفقة على غيره، أو عنده مال لكنه لا يزيد على كفايته وكفاية ولده فلا تجب عليه، أو كان له مال لكنَّه رأسُ مالٍ، يعني هذا الشَّخص عنده مثلًا خمسمائة ألف ريال، ولكن هذه الخمسمائة ريال هي التي يديرها فيُخرج منها قدرَ كفايته وبيته، فلو أعطى من هذه الخمسمائة ألف لهذا القريب فإنَّه سيفضي ذلك إلى أن تنقص عليه نفقته، أو كانَ عنده آلة نجارة تساوي مليون ريال، لكن لو باعَ هذه الآلة ليُنفق على هذا لتعطَّلت عليه صنعته؛ فبناءً على ذلك نقول: لا تلزمهم النَّفقة.
إذن؛ لابدَّ أن يكون ذا مال يستطيع النَّفقة على قريبه.
بقيَ شرطٌ ثالث لعلَّنا نجعله بعدَ أن نستذكر ما أخذناه الآن في مستهلِّ المجلس القادم، أسأل الله لي ولكم التَّوفيق والسَّداد، جزاك الله خيرًا، وجزى الله الإخوة القائمين على هذا الصَّرح، وجعله الله مباركًا، ويسَّر له الأسباب في تخريج الطلاب وفي الوصول إليهم وفي نفعهم، وفي بقاء هذه المجالس وزيادتها وانتشارها، وحصول الخير والنَّفع بها، إن ربنا جوادٌ كريمٌ.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الله بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}










رد مع اقتباس
قديم 2019-10-21, 20:25   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عمدة الفقه (7)
الدَّرسُ الرَّابع (4)
فضيلة الشيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
هلا وسهلًا، حيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، أدامَ الله عليكم الخيرات، وجعلنا وإيَّاكم في أحسنِ الأحوال.
{قال الموفَّق بن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلى اْلإِنْسَانِ نَفَقَةُ وَالِدَيْهِ وَإِنْ عَلَوْا، وَأَوْلاَدِهِ وَإِنْ سَفَلُوْا، وَمَنْ يَرِثُهُ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيْبٍ، إِذَا كَانُوْا فُقَرَاءَ، وَلَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعدُ؛ فأسألُ الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يُتمَّ علينا وعليكم نعمَه، وأن يفيض علينا وعليكم من الخير، وأن يرحمنا ووالدينا وأزواجنا وذريَّاتنا وأحبابنا والمسلمين، وأن يحفظ البلاد والعباد من اللأواء والبلاء والمحنِ وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
كنَّا في المجلس الماضي ابتدأنا واستهلَلنا أوَّلَ الكلام على بابِ النَّفَقات، ونفقات الأقارب والمماليك، ومن المعلوم أيضًا أنَّ المختصر مبنيٌّ على رؤوس المسائل في الأبواب، فليس فيه كثير تفصيل، وسنلتزم ما التزمَه المؤلف بالوقوف على أمِّهات الباب من المسائل وترك التَّفاصيل، إلَّا أن يُحتاج إلى ذلك في مسألةٍ بخصوصها، حفظًا للوقت، ومنعًا من التَّشعُّب الذي ربَّما يفوِّتنا التَّمام للكتاب والإنهاء لهذا المتن العظيم، أسأل الله أن يتم علينا وعليكم نعمته.
كنَّا ذكرنا ما يتعلَّق بالنَّفقة، وقلنا: إنَّ النَّفَقة نفقة على الأزواج، ونفقة على الأقارب، وتقدم الكلام على نفقة الأزواج فيما مضى، ولها بابها ومسائلها وتفصيل الكلام فيها.
وذكرنا أصل نفقة الأقارب، ثم تقسيم الأقارب إلى أُصول وفروع، وهؤلاء تجب لهم النَّفَقة بكل حالٍ متى ما كان الإنسانُ قادرًا على ذلك بعدَ نفقتِه ونفقةِ زوجهِ وعبده؛ فإنَّه يُنفق عليهم، وإذا تشاحَّت النَّفَقات، فيجب عليه الأقرب فالأقرب. فهذا ما يتعلَّق بنفقة الأقارب، وستأتي الإشارة إلى نفقة المماليك والبهائم، ولن نطيل الكلام فيها.
وتكميلًا لما كنا ابتدأناه، فقد وقفنا عند الشروط، فذكرنا أنَّ النَّفَقة على الأصول والفروع، ويقابلها النَّفَقة على سائر الورثة، فالمشهور من المذهب عند الحنابلة وجوب النَّفَقة عليهم؛ لأنَّ الغنم بالغرم، وللآية: ï´؟وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَï´¾ [البقرة: 233].
أمَّا جمهور أهل العلم فيقصرون النَّفَقة على الأصول والفروع.
هذا ما يتعلَّق بمَن يدخلون في النَّفقةِ اللازمة الواجبة، أمَّا النَّفَقةُ المستحبة والإحسان إلى الأقارب فهذا باب لا حدَّ له؛ بل هو أصلٌ من الأصول العظيمة التي ينبغي أن نستشعرها، أنَّ النَّفَقةَ على الأقارب مِن أعظم ما تكون من النَّفَقات، وأنها مِن أعظم أبوابِ البرِّ والإحسان والطَّاعات، فلو لم تكن نفقةٌ واجبةٌ لم يكن شيءٌ لازم؛ لكان الدخول في هذا الباب من أعظم الأبواب، ولأجل ذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث المشهور لما سأله الصحابي، فقال: «وَالصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ ثِنْتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» ، ففيها الصدقة وحصول الواجب وفيها الصِّلة.
ولما ذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للرجل الذي عنده دنانير، فقال: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجِكَ. قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ. قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ. قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ. قَالَ أَنْتَ أَبْصَرُ» ، فجعل الإنفاق فيما سوى ذلك بعدَ النَّفَقةِ على الأقارب والأزواج.
وقول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْته عَلَى أَهْلِك» ، يدلُّ على أن النَّفَقة على الأهلِ أعظم ما تكون، فلا ينبغي للإنسان أن يتوانى أو يتأخرَ أو يدَّخرَ أو يبخلَ، احمد الله أن الله -جَلَّ وَعَلَا- جعل لك باب الإنفاق والإحسان إلى أهلك، وأن الله جعل يدك عليا تنفق وتعطي، ولستَ بآخذٍ ولا مستجدٍ، فهذا من أعظم ما ينبغي أن يستشعره الإنسان، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ» .
وذكر الفقهاء أنَّ أعظم ما يكون من الوقف هو الوقف على الأقارب، وتكلموا في أبواب الوقف على الوقف على القبلة والأقارب والأولاد والبنات وأولاد البنات ونحوهم؛ كل هذا يدل على عظم هذا الأمر، وأنه ينبغي التواصي عليه.
فمحل الكلام هنا إنَّما هو في الأشياء اللازمة إذا تعذَّرَ مَن يقوم بها، وما أكثر الذي يُقصِّرون في هذا الباب ويتوانون عنه! فهناك ناسٌ يبخلون على أولادهم، وفيه أناس يقصِّرون عن أزواجهم، وخاصَّة إذا كان له أكثر من زوجة، فيلتفت عن هذه إلى هذه، أو إذا رأى شيئًا من النقص أو الضعف أو اختلاف الحال أو الكبر أو غيره أعرضَ والتفت إلى حاله، وزاد هنا ونقص هناك؛ فينبغي للإنسان ان يتقيَ الله -جَلَّ وَعَلَا.
وبعضُ النَّاس يكون عنده مِن الأموال والسَّعةِ وأفاضَ الله عليه من الخيرِ والدَّعةِ وأخوه الذي هو أقرب الناس إليه ابنُ أمِّه وأبيهِ يتقلَّبُ في الفقرِ والفَاقة، ويلحقه من نكدِ الدُّنيا ومشقَّتها ما لا يتحرَّك معه قلبه أن ينفق ولو بقليل، أو أن يُواسي حاجته، أو يسد عثرته، أو يقوم به، أو يمنعه مما حلَّ له! كل ذلك من الأمور التي ينبغي أن تُعلَم.
وأعظمُ من هذا أنَّ كثيرًا من الناس ربَّما أنفقَ على زوجه وزاد في النَّفَقة على ولده، وربَّما دخلَ في نفقاتٍ محرَّمةٍ من سفرٍ محرَّمٍ وبذلٍ فيما ما لا يجوز، إلى غيرِ ذلك من بذل المال في غيرِ حلِّهِ في اللهو والغناء وأنواع المحرَّمات وغيرها، حتى إذا جاءت النَّفَقة الواجبة لأمِّه وأبيه تململَ وأعرضَ وتباعدَ، يجلسُ مع أمه حتى إذا جاءَ أمر يتعلَّق بالإنفاقِ أو بالحاجةِ أو بعض ما يُصلح في البيت أعرضَ وقامَ وكأن الشَّيءَ لا يعنيه! أو وعدَ فأخلف! وأشدُّ من ذلك من لا يعبأ بطلبِ أمِّه ولا بحاجتها، وهذا شيءٌ كثيرٌ مشاهد!
وكثيرٌ من الناس أيضًا يتوسَّع حتى لا يبقى له شيءٌ من النَّفقة فيقول: أنا لستُ بقادرٍ على النَّفَقة على أمي! فما الذي حملك على التَّوسُّع؟! كلما ظهر هاتف جوال جديد اشتراه، وكلما مَرَّ عليه سنةٌ استبدل السَّيَّارة، أو أنفق في البيت نفقات زائدة أو غير ذلك!
حسبك أن تقتصد على ما يلزمكَ وما يجب، وما تقوم به حياتك، وأن تدَّخرَ شيئًا لما يحتاج إليه أبوك أو أمك أو غير ذلك.
وتذكروا قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما جاء ذاك الرجل يشتكي أباه فقال: يا رسول الله، إنَّ أبي أخَذ مالي فقال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- للرَّجُلِ: «اذهَبْ فأتِني بأبيكَ)) فنزَل جِبْريلُ على النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فقال: "إنَّ اللهَ يُقرِئُكَ السَّلامَ ويقولُ إذا جاءكَ الشَّيخُ فسَلْه عن شيءٍ قاله في نَفْسِه ما سمِعَتْه أُذناه". فلمَّا جاء الشَّيخُ قال له النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما زال ابنُكَ يشكوكَ أنَّكَ تأخُذُ مالَه» قال: سَلْه يا رسولَ اللهِ هل أُنفِقُه إلَّا على إحدى عَمَّاتِه أو خالاتِه أو على نَفْسي. فقال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إيهٍ دَعْنا مِن هذا». يعني: من كونك تأخذ من ولدك أو لا تأخذ، ثم قال: «أخبِرْني عن شيءٍ قُلْتَه في نَفْسِكَ ما سمِعَتْه أُذناكَ»، فقال الرجل -الأب: "ما يزالُ اللهُ يَزيدُنا بكَ يقينًا قُلْتُ في نَفْسي شيئًا ما سمِعَتْه أُذُناي"، يعني كيف عرفتَ أنِّي قلتُ شيئًا في نفسي؟!
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ وأنا أسمَعُ». فقال الرجل:
غَذَوْتُكَ مولودًا وَعْلتُكَ يافعًا * تُعَلُّ بما أُدْنِي إليك وتَنْهَلُ
إذا ليلةٌ نابَتْكَ بالشَّكْوِ لم أَبِتْ * لشَكْواكَ إِلا ساهرًا أَتَمَلْمَلُ
كأني أنا المطروقُ دوَنكَ بالذي * طُرِقْتَ به دوني وعينيَ تَهْملُ
فليتكَ إذ لم تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتي * فَعَلْتَ كما الجارُ المجاوِرُ يفعلُ
أبيات مبكية! فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المقالة المشهورة: «أنتَ ومالُكَ لِأبيكَ» ، فقضَى على الولد بذلك، ثم قالَ الرجلُ للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسولَ الله سلْهُ: هل أنفقه إلَّا على زوجي وولدي؟
إذن؛ هذا بمثابة التَّنبيه والتَّذكير بأمرٍ يحصل فيه التَّفريطُ كثيرًا.
وممَّا يُلحَظ فيما يُقابل ذلك -وإن كنَّا أطلنا في هذا المقام ولكن المسألة يُحتاج إليها- أنَّك ترى أناسًا أقلَّ في أنفسهم وأضيق في عيشهم، وربَّما تغرَّبوا عن أوطانهم وحرموا أنفسهم عمَّا يحتاجون إليه من مسكنٍ أو نكاحٍ أو غيره، حتى إذا اجتمعت لهم قليل من الرِّيالات أو الدَّراهم أو الأموال اليسيرة؛ أرسلَ لأمِّهِ أو لأختهِ أو لأخيهِ، تفقَّدهم في بعضِ أحوالهم، إذا نزلَت بهم نازلة أو تغيَّر بهم حال ما أسرع ما يقوم بهم، وهذا مِن أعظم ما يكون، ويُرجَى أن تكون بركةً له في عمره ونفسه ودينه ودنياه، وأن يجعله الله -جَلَّ وَعَلَا- في خير حال، فينبغي لنا أن نقارن بينَ هذين الحالين الذين هما أبعدَ ما يكونُ في الحال، فهذا لديه مال وعنده سعة ويُمسك عمَّا يجب عليه، وهذا في ضيقٍ وتعبٍ ونكدٍ وتغرُّب وبلاء حتى إذا اجتمعت له قليل من الريالات آثر بها أهله وحرم نفسه مع تكبُّده للمشاقِّ والمصاعبِ وما يلحقه من الذُّلِّ والمهانة بالسَّفرِ والبُعد عن البلاد والأهل والأحبَّة، وفي ذلك أشياء كثيرة، ومع ذلك لا يزيد إلَّا بذلًا وإحسانًا.
هذه ربَّما تكون إطلالة في مستهلِّ هذا المجلس، وإن كنَّا أطلنا فيها، لكن المقام يُحتاج فيه إلى شيءٍ من ذلك.
ذكرنا في المجلس الماضي أنَّ النَّفقة على الوارث الذي هو قريب غير أبٍ ولا ولدٍ تجب بثلاثة شروط:
أولًا: أن يكونَ فقيرًا لا مال له ولا كسب، أما لو كان له مال أو قدر على الكسب فلم يتكسَّب فلا تجب له نفقة.
الثَّاني: أن يكون الْمُنفِق له مال يزيد عن حاجته وحاجة من يعول من أهله، فينفق بما زاد على سبيل الوجوب، أمَّا لو آثر هؤلاء عن أهله أو نفسه فهذا شيءٌ إليه، لكن الذي يجب عليه هو ما زاد، وإن كان الذي يزيد قليلًا فجيب عليه بقدر ما يزيد حتى ولو لم تحصل بذلك كفايتهم.
الثَّالث: أن يكون وارثًا لنصِّ الآية ï´؟وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَï´¾ [البقرة: 233]، ولأنَّ محل نظر الشَّرع أن الغُنمَ بالغرمِ، فكما أنَّ هذا يغنَم لو ماتَ قريبه وله مالٌ فهو يرثه، فكذلك إذا احتاج فإنَّه يُنفق عليه على سبيل المقابلة والمساواة والحكم بالمماثل، وهذا ظاهرٌ في الشَّرع في أمثلةٍ كثيرة.
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- لم يذكر ما تحصل به النَّفقة ولم يعرض له، وقدر النَّفَقة محلُّه العرف والعادة، والنَّاس في ذلك يتفاوتون تفاوتًا كثيرًا، فما كانَ في أزمنةٍ مضت فإنَّ الناس يكفيهم في قِوَام العيش شيء من الشَّعير أو البُّرِّ أو التَّمرِ أو الأقط أو غيرها، وفي بعض البلدان شيء من الأرز أو الأشياء التي عُهدَت عندهم، المهم أنَّ الناس كانوا في حالٍ قليلة من اللباس والكسوة التي تحصل بها ستر عوراتهم ونحوها.
يقول أهل العلم: إنَّ العبرة في هذا بالعادة، فإذا اختلفت عادات الناس فما يأتي شخص الآن ويقول: أنا أعطيك ثيابًا بخمسة ريالات! فهذه لا تليق به، وليست عادة أن يلبس مثله شيئًا منه، فيلبس ما يليق به، أو أتى إليه بلبس أهل باكستان ليلبسه من يعيش هنا!
فنقول: هذه ليست بكسوة مُعتادة له، كما أنَّه لو كان واحد هناك وأعطي لباسنا لم يكن ذلك بمحصِّلٍ للمطلوب، فكذلك هنا.
إذن؛ لابدَّ أن يُعرَف أنَّ مردَّ النَّفَقة إلى المعتاد.
والمعتاد هنا شيء واضح جلي، من النَّفَقات التي تقوم بها الكفاية من السُّكنَى والكسوة، ثم تأتي المكملات وما يتوسَّع الناس فيه، فتكون أبعد.
هل يلزم في ذلك التَّزويج؟
نعم، إذا احتاج مَن تحتَ يدك ممن تُنفق عليهم إلى النكاح فيجب عليك وأنت قادرٌ على ذلك؛ لأنَّ النَّفَقة في الطعام والشراب وقضاء الشهوة، وهذا ربَّما كان في بعض الأحوال ألزم عليه من بعض شرابه وطعامه لِمَا قد يترتَّب عليه من إعفاف نفسه وحفظ دينه وعدم وقوعه فيما حرَّمَ الله عليه، وفيما يلحق به العار في الدنيا والنَّكال في الدنيا والآخرة.
إذن؛ تجب عليه النَّفَقة إن كان يقدر على أن يُنكِحَه ويُزوِّجه، حتَّى نصَّ الفقهاء وقالوا: ولا يُزوِّجه بقبيحة حتى تكون أقل في المهر ونحوه؛ بل يُزوجه بمن تليق به.
هل يلزمه أن ينفق عليه بما يعلمه به أو لا؟
هذا من الإشكالات، ونصَّ الفقهاء على أن يجعل له مُعلمًا ونحو ذلك، ولكن كان فيما مضى لا يُحتاج إلى كثيرٍ من النَّفقات في مثل هذه الأمور، أمَّا الآن فالنَّفقات في التَّعليم وما يتبعها ربَّما كانت نفقات طائلة، وتتفاوت حتى تبلغ مبالغ كبيرة، وربَّما يُقال أنَّه بها قوامه، فهي محل بحثٍ في دخولها في النَّفَقة، ولا يبعُدُ القول من أنَّها داخلة فيما يلزم ويتحتَّم على الإنسان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ كَانَ لِلْفَقِيْرِ وَارِثَانِ فَأَكْثَرَ، فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ عَلى قَدْرِ مِيْرَاثِهِمْ، إِلاَّ مَنْ لَهُ أَبٌ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ عَلى أَبِيْهِ خَاصَّة)}.
تقسيم النَّفَقة:
- إن كانت النَّفَقة على الأب، فتكون لازمةٌ له بكلِّ حالٍ، وهذا هو الأصل في الشَّرع ولا يُختَلف فيه.
- مَن سوى الأب، هو قائمٌ مقام الأب لَمَّا تعذَّر إنفاق الأب على ابنه.
فالأب إمَّا أن ينفردَ أو يشتركَ مع غيره، فإن انفردَ لزمته النَّفَقة كاملة إن استطاع تمامها أو ما يستطع منها بحسبِ ما يزيدُ من نفقته.
وإذا وُجدَ أكثر من شخص من الورثة فنقول: يجب عليهم بقدر إرثهم منه وانتفاعهم به؛ لأننا ذكرنا الأصل أنَّ الإرثَ يقابله النَّفَقة، وأن الغُنمَ يُقابله الغُرمُ؛ فينبغي أن يكون غُنمُه بقدرِ غُرمِه، وعطاؤه بقدر أخذه.
على سبيل المثال: لو كانَ شخص له أم وجد، لو مات هو عنهم فإنَّ الأم ستأخذ الثلث والجد سيأخذ الباقي، وبناءً على ذلك لو كان فقيرًا ووجدت أم مُوسرة وَجَدٌّ مُوسر؛ فتجب ثلث النَّفَقة على الأم، والثلثان على الجد، فإذا كان تكفيه من النَّفَقة ثلاثة آلاف كل شهر، فعلى الأم ألف وعلى الجد ألفان.
وهكذا لو كثروا، فلو افترضنا أنَّ له عشرة من الإخوة؛ فعلى كل واحد منهم عُشرُ نفقته، وإذا كان عشرة من الإخوة مع الأم، فالأم ترث السدس مع الإخوة فيكون عليها سُدُس النَّفَقة وعلى الإخوة البقيَّة بينهم على سواء، وتفاصيل ذلك معلومة، وذكر الفقهاء لها ترتيبات، وأيضًا مَن وليَ هذا من أهل القضاء أو مَن ترافع إليه فإنَّه يفصل فيها ويُبيِّنُ ما يتعلق بذلك على وجه التَّحديد.
يقول المؤلف: (فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ عَلى قَدْرِ مِيْرَاثِهِمْ، إِلاَّ مَنْ لَهُ أَبٌ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ عَلى أَبِيْهِ خَاصَّة)، مثل ما قلنا، وقد بيَّنَّا حدودَ النَّفَقات والإشارة إليها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلى مُلاَكِ الْمَمْلُوْكِيْنَ اْلإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ،وَمَا يَحْتَاجُوْنَ إِلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةٍ وَكِسْوَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوْا، أُجْبِرُوْا عَلى بَيْعِهِمْ، إِذَا طَلَبُوْا ذلِكَ)}.
انتقل المؤلف إلى النَّفَقة على المماليك، وهذه مسألةٌ مُهمَّةٌ أشرنا إليها في مُناسبةٍ قديمةٍ، ونشير إليها الآن، وهي أنَّ هذا الشَّرع لم يترك شيئًا إلَّا أتَى عليه، ولذلك قال أبو ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لقد توفي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علمًا"، وجاء يهودي إلى سلمان فقال له: علمكم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كل شيء. قال: "أجل، علمنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كل شيء حتى إذا أتينا الخراءة"، فحتى إلقاء الفضلة لم يترك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التعليم بها، فقال سلمان: "فأمرنا ألَّا نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار"، وهذا لكمال النَّظافة والنَّزاهة، قال: "وألا نستنجي بروث أو رجيع"، لتعلُّق حق الغير به من الجن.
وهذا فيه دلالة على عِظَم هذه الشَّريعة وكمالها، ثم إن الشَّرع منع إطلاق الأيدي على استرقاق الأحرار، ثم ما كان من العبيد الذين مُلكوا بوجهٍ صحيحٍ في الحرب من السَّبايا ونحوهم رغَّبَ في إعتاقهم، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ» ، إلى غير ذلك، وجعل العتق في كل الكفارات.
وفي حال مُلكِهم فإنَّه يجب القيام بحقِّهم، والحقوق مضمونةٌ على وجه التَّمام، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في آخر وصية له: «الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» ، يعني: العبيد والأرقاء والجواري، ويقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ» ، ففي هذا من المراعاة والعناية والاهتمام، وهذا هو الذي قرَّره الفقهاء على سبيل التدقيق والتَّحقيق؛ بل إنَّ نفقة المملوك في الشرع وعند الفقهاء مُقدَّمةٌ على نفقة الولد؛ لأنَّ المملوك من الإنسان نفسه لأنَّه هو الذي يقوم على خدمته، فتجب عليه نفقته وأن يكسوه، وأن يشتري له ساعة وجوالًا إذا احتاج، وهذا بحسب الحال وبحسب العادة؛ بل قال الفقهاء إنه يُزوَّج، ويجب الإنفاق على المملوك في هذه الأحوال حتى ولو لم يكن خادمًا، حتى لو ما فيه فائدة أو نفع، أو كان ضعيفًا أو مريضًا؛ فتجب نفقته.
وإذا لم يستطع الإنفاق عليه وجب عليه إعتاقه أو بيعه لمن يُنفق عليه ويقوم به، ولذلك قال: (وَعَلى مُلاَكِ الْمَمْلُوْكِيْنَ اْلإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ،وَمَا يَحْتَاجُوْنَ إِلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةٍ وَكِسْوَةٍ).
المسألة الأولى: النَّفَقة على الْمَمْلُوْكِيْنَ واجبة في كل حال، ومَن ضيَّعَ مملوكًا فقد ضيَّع مَن يعول، وهو آثمٌ في ذلك وتلحقه الملامَة عندَ الله -جَلَّ وَعَلَا- ثم أنَّه إذا ارتفعَ إلى القاضي أو وصلَ الأمر إلى مَن له ولاية فإنَّه لا يُقرُّه على ذلك، فإمَّا أن يُلزمه بالنَّفَقةِ وإمَّا أن ينقل ملكه، ولذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلى مُلاَكِ الْمَمْلُوْكِيْنَ اْلإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ).
المسألة الثَّانية: هذه النَّفَقة تكون بالمعروف، ولذلك قال المؤلف: (مِنْ مُؤْنَةٍ وَكِسْوَةٍ)، فيُعطَون مما اعتاد الإنفاق به من مالٍ وطعام وشرابٍ إلى غير ذلك من الأشياء.
قال المؤلف: (فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوْا، أُجْبِرُوْا عَلى بَيْعِهِمْ، إِذَا طَلَبُوْا ذلِكَ)، إذا لم يفعلوا ذلك سواء كان امتناعًا من النَّفَقة الواجبة عليهم أو كان ذلك لعدمِ قدرتهم، فربما يكون السَّيدُ ليس عنده من المال ما يستطيع به النَّفَقة على هذا العبد أو هذه الجارية؛ فأيًّا كان العذرُ في تركِ الإنفاق فإنَّه يُجبَرُ على البيع إذا طلبوا ذلك.
أما إذا قالوا نصبر؛ فالحق لهم وقد أسقطوه عن أنفسهم فيسقط، أما لو طالبوا فإنَّهم يُجابون إلى ذلك.
بهذا نكون قد أنهينا ما يتعلَّق بنفقةِ الأقارب والمماليك، وهنا يُكمل الفقهاء ما هو أوسع من هذا المختصر، فيذكرون نفقة البهائم، وأنَّه يجب النَّفَقة عليها والقيام بها، ويحرم حتَّى لعنها، فذكروا أنَّ ذلك محرَّم، وكذلك الإساءة إليها ووسمها بما يؤلهما ونحو ذلك، وذكروا مسائل كثيرة وتفريعات عظيمة.
وتكلموا أيضًا فيما هو أوسع، كالقيام على النَّباتات وغيرها، هل يلزم أو لا؛ باعتبار أن لا روحَ فيها، فلا يكون لازمًا على الإنسان الإبقاء على سقيها ونحو ذلك، ولهم في هذا تفاصيل، ولكن أشير إلى دقَّةِ الفقهاء واستجماعهم لما جاء في الشَّرع، وإتيانهم على ما دلَّت عليه دلائل النُّصوص، وكمال هذه الشَّريعة التي لا تكاد تجد شيئًا يُقاربها ولا يماثلها، وحتى لو وُجدَ شيء من الأحكام فلن يأتي إلا على نسقِ العدل والاتِّزان، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه من غيرِ ما وكسٍ ولا شططٍ ولا ظلمٍ ولا عدوانٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ اْلوَلِيْمَةِ.
وَهِيَ:دَعْوَةُ اْلعُرْسِ)}.
هذا من الأبواب التي يذكرها بعض الفقهاء في آخر الكتب، ويجعلها في مواطن يعتادونَ جمع فيها ما لا ينتظم تحت بابٍ، وبعضهم -وهم الأكثر- يذكرونها في كتاب النِّكاح، باعتبار أنَّ الوليمة وليمةَ نكاح، فيذكرونها بعدَ الصَّداق، وبينَ يدي الكلام عن العِشرَة بينَ الزَّوجين، ومنهم من يذكرها هنا باعتبار أنَّ فيها إنفاق وبذل، فيجعلونها مكمِّلة في هذا، والأمر في هذا يسير، ووجودها هناك أنسب من وجودها هنا، والأمر في ذلك على سبيل الأتمِّ والأكمل.
الوليمة من حيثُ الأصل: من الوَلْمُ وهو الاجتماع، وفي الوليمة من اجتماع الزَّوجين والاجتماع في دعوته ما هو ظاهرٌ بيِّنٌ، ولأجل ذلك اختصَّت الوليمة بهذا الإسم.
قال المؤلف: (دَعْوَةُ اْلعُرْسِ)، فهذه هي التي تسمَّى الوليمة، أما مَا سواها فثَمَّ اسم عام للدَّعوات وهو "مأدبة"، فإذا دعاكَ أحدٌ فتقول: دعاني إلى مأدبةٍ عندَه. ويُقال: مأدبته عامرة؛ لمن كانت دعوته فيها أصنافٌ من الطَّاعم وحسنِ القيام على الضَّيف وغيره.
وثَمَّ تسميات خاصَّة لبعض الدَّعوات التي اشتهرت عند الفقهاء، ولها أحكام يذكرونها على سبيل التَّكميل في حواشي هذا الباب، ونحن لن نقف عندها ولكن نشير إليها، مثلًا:
- دعوةُ الخُرْسِ: للولادة، إذا وُلِدَ له ولد فدعا الناس، وكان هذا مشهورٌ عند الناس، وهو لازال موجودًا في بعض المجتمعات.
- دعوةٌ العَذِيرَة: للختان، فَعَذَرَه بمعنى خَتَنَه.
وإذا قيل "هل عَذَرَك فلانٌ":
* قد يُفهم على أنَّه عَذَرَه في أمرٍ قد اعتذَرَ فيه أو أبدى فيه عذرًا عن تقصيره في أمر أو عدم إجابةٍ لدعوةٍ أو غير ذلك، وقد تكون بمعنى
* وقد يُفهَم بمعنى: هل خَتَنَكَ فلان.
- دعوة الوَكِيرَة: لمن نزلَ منزلًا جديدًا فدعا النَّاس.
- دعوة النَّقيعة: لقدوم الغائب.
- دعوة الحِذَاق: للطِّفل إذا أتقنَ حفظَ القرآن أو غيره، فيفرحون بذلك ويتداعون إليه.
ولها تفاصيل، وبعضهم عدَّ فيها عشر دعوات، وبعضهم عدَّ إلى ما هو أكثر من ستَّة عشر دعوة، والأمر فيه سَعة.
ولمَّا كانت وليمة النِّكاح هي التي جاء فيها أحكام بخصوصها، ورغَّب فيها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمر بها؛ فلأجل ذلك هي التي بحثها الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِيْنَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ: «بَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»)}.
الكلام على إنشاء الوليمة وإقامتها، فيقول المؤلف: هي مُستحبة.
ولذلك لم يقل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعبد الرحمن أنه لم يصح نكاحك أو لم يتم؛ ولكن تكون الوليمة بحسب ما يتيسَّر فيها، ولذلك لما دخلَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بصفيَّة ما كان فيه شيء، دعا بنطع -الجلد- وفرشه، وأمرَ الصَّحابة أن يأتون بشيء، فكان بعضهم يأتي بأقط وبعضهم يأتي ببُرِّ، فحصلَ في ذلك من إقامة الوليمة ما حصل من الخير، وباركَ الله في ذلك النَّطع وما جلب فيه من الطَّعام، وكان فيه خيرٌ كثير.
فكلما كانت دعوة النِّكاح أيسر كانت بركتها اعظم، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً» .
ولما آل أمرُ الناس إلى المفاخرة وإلى التَّكلِّفِ والمبالغة في الوليمة كان سببًا لحصول الإشكالات وتراكم الديون، وأحيانًا لذهاب التَّوفيق، وما يتبع ذلك من الشَّر والفساد، وما دخل في ذلك من السُّوء والتَّداعي إلى الحرام بالإسراف، أو اختلاط الرِّجال بالنساء، وانتشار آلاتِ اللهو، وفعل ما لا يجوز من لبسِ الرِّجال للحرير، وتفسُّق النِّساء باللباس حتى تُرَى منهنَّ العورات، أبوابٌ كثيرة جُلبَت لنا من الكفار ومن ضعَفَةِ الإيمان من أهلِ الإسلام، حتى صارت شيئًا شائعًا، وحتى لحق الناس من السوء ما لا يعلمه إلا الله -جَلَّ وَعَلَا.
فينبغي للنَّاس أن يتداعوا إلى الخيرِ، وأن يحملوا أنفسَهم عليه، وأن يحفظوا هذه الشِّرعة على ما أمر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من القيام بها استحبابًا واستنانًا، ومن الاقتصاد فيها تخفُّفًا وطلبًا للبركةِ كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال المؤلف: (وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ)، فالكلام عليها من حيثُ الأصل؛ لأنه توجد دعوات كثيرة في النكاح، فالدعوة المستحبَّة هي الأولى، والثانية أيضًا تستحب، وأما إذا زادت على ذلك فيُنهى عنها، ولذلك قال بعض الصَّحابة: إنَّها رياء وسُمعة، أن يجعلوا وليمةً بعدَ وليمة للنَّكاح، ثلاث أو أربع أو خمس ولائم، وجاء عن بعض السَّلف أنَّه حصبَ الدَّاعي -يعني ألقى عليه الحصى- كأنَّه يُنكر عليه أن تتكرر وليمة النِّكاح أكثر من مرَّة.
فينبغي أن يُتنبَّه لذلك، فالدَّعوة الأولى مستحبَّة، وتَردادها وتَكرارها ربَّما يدخل في المحظور ويصل إلى الممنوعِ كما ذكرنا عمَّن جاء عنهم من السَّلف الكلام فيها.
قال: (لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِيْنَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ:«بَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»).
سواء كانت شاة أو شاتين أو بثلاث؛ فما دام أنَّ الناس كثير ويأكلون ذلك ولا يُرمى ولا يكون فيه بذخ، ولا يكون سببًا للمفاخرة؛ فالأمر فيه سَعة، المهم أنَّه يكون مقتصدًا بما يحتاج إليه الناس، وبما لا تًهانُ فيه النِّعمة ويكون فيه الابتذال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاْلإِجَابَةُ إِلَيْهَا وَاجِبَةٌ؛ لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ لَمْ يَجِبْ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُوْلَهُ»، وَمَنْ لَمْ يُحِبَّ أَنْ يَطْعَمَ، دَعَا وَانْصَرَفَ)}.
الإجابة إلى وليمة النِّكاح واجبة، وجاء في حديث ابن عمر وغيره عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ، فَلْيُجِبْ» ، وأثر أبي هريرة: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، محل الشاهد قوله «وَمَنْ لَمْ يَجِبْ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُوْلَهُ»، فهذا هو محل الحديث، أن عدم الإجابة عصيان، بمعنى أنَّه ممنوع ومحرَّم، ولذلك قال المؤلف: (وَاْلإِجَابَةُ إِلَيْهَا وَاجِبَةٌ)، يعني: أن تركَ الإجابة ممنوعٌ ومحرَّمٌ.
ما معنى قول: "شرُّ الطَّعامِ طَعَامُ والوليمةِ"؟
نقول:
أولًا: إنَّ هذا قول أبي هريرة وليس قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثانيًا: أبو هريرة انتقدَ حالًا مِن أحوال بعض الناس، وهي حالٌ قد تكون مشهورة أو ظاهرة، وهي أنهم يختصون بها الأغنياء والوجهاء الذين لا يفرحون بهذه الولائم ولا يسرعون الإجابة فيها، ويمنعون منها الفقراء، فكأن هذا الكلام وصيَّة من أبي هريرة أن يتلمَّس النَّاس الفقراء في هذه الدعوات -وهي دعوات مشروعة ومسنونة كما جاء في أول الباب- وأن يتلمَّسوا فيها ضعفاء المسلمين، فإن لهم حاجة إلى الطعام، وتُرجَى بركتهم -بإذن الله جل وعلا.
فليس في هذا الحديث ما يُعكِّرُ ما ذكرنا في أول الكلام من أنَّ دعوة العرس سنَّة، والإجابة إليها واجبة.
وقول المؤلف: (وَاْلإِجَابَةُ إِلَيْهَا وَاجِبَةٌ)، هذا باعتبار الأصل، وليس في كل الأحوال، فإذا كانت دعوى الجفلى بأن يدعو الناس كلهم بدون أن يخص أحدًا؛ فهذه لا تجب فيها الإجابة.
ثم أيضًا إذا لم يكن فيها منكر، أما إذا كان فيها منكر من إظهار للفسق والفجور، أو الرَّقص والمجون، وآلات اللهو وغيرها، أو كان فيها بعض المظاهر السيئة، أو الاختلاط كذلك؛ فالإجابة فيها غير واجبة، أو إذا كانوا يتأخَّرون بحيث تفوت عليهم صلاة الفجر ويُعرضون عن الخير والهُدَى؛ فهنا الإجابة ليست واجبة. إذن الإجابة واجبة من حيث الأصل.
هل تجب على مَن كان في البلد؟
فيما مضى لم يكن الفقهاء يتصوَّرون أنَّ الوليمة يُدعَى إليها مَن كان خارج البلد، والذي يظهر أنَّ مَن كانَ مسافرًا أو كانَ بينه وبينهم سفرٌ وتلحقه المشقَّة فإنَّه لا يتعلَّق به حكم الوجوب، لأنَّ المسافر يُرخَّص له في الواجبات، ويُرخَّص له في الصَّلوات ونحوها في القَصرِ وفي الجمع، والمسح على الخفين، وفي الفطر في السفر، وترك الجماعة؛ إلى غير ذلك من الرُّخص التي أذن الله بها، وبناءً عليه لا يظهر أنَّ مَن كان مسافرًا أنَّ عليه الإجابة.
مثال: مَن يُدعَى وهو في جدة أو مكة ويأتي للرياض، فإن كان ذلك يسيرًا فهو من تمام المحبَّةِ، وممَّا تحصل به الألفة بينَ الناس، ويُجبَر به خاطر الدَّاعي، ولا مشقَّة عليه ولا يلحقه به كُلفةٌ في النَّفقةِ ونحوها؛ فإن أجاب فحسن، وإلَّا فإنَّ ذلك ليس بلازمٍ، وأمَّا إن كان عليه كُلفة، فينبغي للإنسان ألَّا يُكلِّفَ نفسَه، وألَّا يحملها على عنتٍ وبلاء، سواء كان عنت مشقَّة جسديَّة ونحوها، أو كان في بذل مالٍ لا يستطيعه، أو بذل مالٍ يحتاج إليه في نفقته اللازمة.
قال: (وَمَنْ لَمْ يُحِبَّ أَنْ يَطْعَمَ، دَعَا وَانْصَرَفَ).
هنا إشارة إلى مسألة مهمَّة، وهي أنَّ الإجابة تتأتَّى بالإتيان والدُّعاء، فليس من لازمها الأكل، فبمجرَّد أنَّك تحضر فإنَّ هذا يحصل به الإجابة ويسقط عنك الوجوب، وتمام ذلك بأن تطعم، لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ وَتَكَلَّفَ لَكُمْ» ، وأمرهم بأن يطعموا، ولكن إذا كان يقع في قلبه شيء، أو لم يستطع هذا الآتي أن يطعَمَ لكونه صائمًا أو مريضًا يحتاج إلى طعامٍ خاص، لكونه ليس من عادته أن يطعَمَ في هذا الوقت الذي فيه الدعوة والوليمة، المهم أنه لا يلزمه ولا يتعلق وجوب الإجابة بالدُّخول في الطَّعام، لكنه هو الأولى في كل حال، حتى جاء في بعض الأحوال أن الفطر للصائم أولى منه، ولأهل العلم في هذا تفصيل، فإن كان يجد في خاطره فالأولى للإنسان أن يفطر، وإذا كان لا يجد في نفسه ويعذره في صيامه فيبقى على صيامه ويدعو لصاحبه.
مسألة مهمَّة: الطَّعام في وليمة النِّكاح أو في غيرها من الضِّيافات تسمَّى عند الفقهاء إباحة وليست تمليكًا، يعني: أُبيحَ لك أن تطعم، تأكل قليلًا أو كثيرًا، فهذا مباحٌ لك، ولكن ليس تمليكًا، فلا يأتي شخص ويحمل الطَّعام ويضعه في جيبه، أو يأخذ صحنًا ويطعمه أناسًا خارجين، فليس له ذلك ولا يجوز له، فالطعام أبيح لك وليس لك أن تحمله أو تتملَّكه، فإذا أكلتَ فالحمد لله، وما سوى ذلك فلا، فهذا هو الفرق بين الإباحة والتَّمليك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالنِّثَارُ وَاْلتِقَاطُهُ مُبَاحٌ مَعَ اْلكَرَاهَةِ، وَإِنْ قُسِّمَ عَلى اْلحَاضِرِيْنَ، كَانَ أَوْلى)}.
النثار: هو ما ينثرونه من حلوى أو أموال، ويختلف باختلاف الناس، وهو مباح، لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذبح مرة ذبيحةً وقال: (من شاء اقتطع»، فكأنَّه نثرها بينهم وجعل الأمر إليهم.
قال: (وَاْلتِقَاطُهُ مُبَاحٌ مَعَ اْلكَرَاهَةِ)، أخذُ النِّثار مباح مع الكراهة لأنَّه تتزاحم عليه النُّفوس ويتدافع فيه النَّاس، ويُكره للإنسان أن يدخل في الشيء الذي يحصل فيه تدافع، لكن لو وقع في ثوبه ونحوه فأخذه فلا بأس، لكن التَّدافع فيه مكروه لأنَّ النُّفوسَ تطلَّعت إليه، فهذا تعلَّقت به نفسه وهذا تعلَّقت به نفسه، ويسبق آخر فيأخذه، فيبقى في نفسه أنه تمنى لو أنه أخذه أو كذا؛ فلأجل ذلك قالوا إنَّه مكروه.
قال: (وَإِنْ قُسِّمَ عَلى اْلحَاضِرِيْنَ، كَانَ أَوْلى)، قسمه على الحاضرين أولى من جهتين:
أولًا: لأنَّه أطيبُ للنفوس، فلا يقال هذا أخذ كثير وهذا ما أخذ، هذا سبق، هذا أخذ شيئًا وضعت يدي عليه ونحوه.
ثانيًا: لا يحمل النَّاس على أمرٍ مكروهٍ، فيحفظ للناس مقامهم، فمع الحاجة قد يتدافعون وقد يعوزهم ذلك إلى أن تتشوَّف نفوسهم إلى هذا، فإذا حفظتَ لهم مقامهم ووزَّعتَ عليهم فلا هو الذي جاء في نفوسهم من كون فلان أخذ وفلان لم يأخذ، وأيضًا قضيتَ ما تتشوَّف إليه نفوسهم وأرضيتهم بما وصل إليهم.
أسأل الله أن ينفعنا بالعلم، وأن يرفعنا به، وأن يوفقنا لتحصيله، وأن يجعله حجَّةً لنا وذخرًا يوم لقاء ربنا، إنَّ ربنا جوادٌ كريمٌ، نسأل الله أن يُلقيَ الصواب على ألسنتنا، وأن يحفظنا من الخطأ ومجانبة الحق، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريم.
شكر الله لكم أيها الطُّلاب والطالبات، وشكر الله لأخينا وللقائمين على هذا البناء، وجعل الله ذلك في موازين حسناتهم، وأبقى عملهم، وأجرى بناءهم، وعظَّمَ آثارهم وثمارهم، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريم، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-10-21, 20:26   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عمدة الفقه (7)
الدَّرسُ الخامس (5)
فضيلة الشيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله، وحيَّا الله الإخوة.
{قال الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابه عمدة الفقه: (كِتاَبُ اْلأَطْعِمَةِ.
وَهِيَ نَوْعَانِ: حَيَوَانٌ وَغَيْرُهُ).
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا غلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فبعد أن أنهينا مسائل كثيرة مُتعلقة بأحكام الأسرة كان تمامها وكمالها بالحديث عن أحكام الوليمة، وقبلها ما يتعلق بالنَّفقات والحضانات، وفيها مسائل كما عُرض على مسامعكم من الأهميَّة بمكان؛ استهلَّ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- وجهًا آخر ومسائلَ مُهمَّة ولكنَّ منبتَّةً -أو منفصلة- عمَّا سبقها.
عادة الفقهاء في كتاب الأطعمة وما يتعلق بها أن يذكروها بعدَ الحدود والجنايات في الجملة عند الحنابلة، وبعضهم يذكرها في كتاب جامعٍ في نهاية كتاب الفقه، ولعلَّ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- سبكها من جهةِ أنَّ الوليمة فيها طعام، وذكر الشيء عند مناسبته، فكان ذلك كالتوطئة والتَّهيئة للحديث عن الأطعمة والكلام فيها.
الأطعمة: هي كلُّ ما يُطعَم، ولا يختص بشيءٍ بعينه من نباتٍ أو مصنوعٍ منه، أو كان ذلك من حيوانٍ، وكل ما يطعمه الإنسان، ولا يختصُّ بطعامٍ دونَ طعامٍ، بمعنى أنَّ الطعام يغلب على البُرِّ عند بعض أهل العلم وفي بعض الأحاديث، لكنَّه من جهةِ أنَّه من أطيب الطَّعام أو من أهمِّه، فأُطلق على البعض لغلبته وأهميَّته، ولكن محل كلام الفقهاء هنا الأطعمة على سبيل العموم والإطلاق، ولذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهِيَ نَوْعَانِ:حَيَوَانٌ وَغَيْرُهُ).
والحيوان: هو الذي تدبُّ فيه الحياة، أو ما فيه روح.
وقولنا: "ما فيه روح" أتم؛ لأنَّ النبات فيه حياة من جهة أنَّه ينبت وينمو، لكن جرت العادة على أنَّهم يجعلون الحيوان هو كل ما فيه روح.
فهذا هو كلام المؤلف سواء فيما يتعلق بهذه الحيوانات والنباتات في طُعمٍ وأكلٍ ونحوه، وأيضًا ما يتعلَّق بالمشروبات، وإن كان المؤلف لم يتحدَّث عن المشروبات إلَّا إشارة عابرة ستأتي في ثنايا كلامه بعدَ مسألةٍ أو مسألتين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَأَمَّا غَيْرُ اْلحَيَوَانِ، فَكُلُّهُ مُبَاحٌ، إِلاَّ مَا كَانَ نَجِسًا أَوْ مُضِرًا، كَالسُّمُوْمِ).
بدأ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- بما سوى الحيوانات؛ لأنَّ تفاصيل الكلام فيها أقل، ولأنَّ الحكم فيها يكاد يكون مجملًا، فالأصل إباحة ذلك وحلُّه، لأنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- خلق لكم ما في الأرض جميعًا، فكان على أصل الحلِّ والجواز والإباحة.
وبناء على ذلك؛ كلُّ طعامٍ مأخوذٍ من نباتٍ فهو حلال، سواء كان ذلك من التَّمر أو الفواكه، أو كان مما عرفناه وعهدناه عندنا، أو كان مما لا نعرفه مما عهده أهل الهند، أو أهل أفريقيا، أو غابات الأمازون؛ بمعنى أنَّ النباتات لا حدَّ لها ولا لأطعمتها ولا لطريقة تعاطي الناس لها، فكيفما تعاطاها الناس وكيفما أكلوا وكيفما انتفعوا أو صنعوا لهم شرابًا وطعامًا؛ فهو جائزٌ ومباح.
قال المؤلف: ( إِلاَّ مَا كَانَ نَجِسًا)، فما كان نجسًا فإنَّه ممنوع ومحرَّمٌ؛ لأنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- نهى عن النَّجَسِ، وأمرَ بالتَّنزُّه منه، فإذا كان لا يجوز للإنسانِ أن يتركَ النَّجاسةَ على بدنه؛ فكيف به أن يأكلها أو أن يطعهما! وهذا محلُّ إجماعٍ بين أهل العلم؛ ولأنَّ النجاسة مُحرَّمةٌ، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا» ؛ ولأنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ï´؟وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَï´¾ [الأعراف: 157]، والنَّجاسات هي أوَّلُ ما يدخل في الخبائث، فليس للإنسان أن يأكل فضلةَ حيوانٍ نجس، وليس للإنسان أن يتعاطى شيئًا من هذه النَّجاسات لأنها مستقذرةٌ خبيثةٌ، والله -جَلَّ وَعَلَا- حرَّم ذلك علينا.
قال: (أَوْ مُضِرًا، كَالسُّمُوْمِ)، ما فيه مضرَّةٌ كالسُّموم؛ لأنَّها تقتل الإنسان وتفتك به، أو تضعفه وتُمرضه وتُلحق به السَّقم.
وهذا مأخوذ من عمومات النُّصوص في حفظ الإنسان لنفسه، والنَّهي عن إلقائها للتَّهلكة، أو فعل ما يضر بها ويتلفها، ويُمكن أن يؤخذ ذلك من الآية ï´؟وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَï´¾، فإنَّ المضرَّ خبيثٌ ومفسدٌ للبدن.
ما حدُّ ذلك؟
حدُّ ذلك: ما تُيُقِّنَ فيه الضَّرر أو غلبَ ذلك عليه، ولأجل هذا تجدون حتى الأطعمة الطِّيبة لو أنَّ الإنسان أكثرَ منها لأضرَّت به، ومع ذلك لا نقول من أنَّها ممنوعة أو محرمة، لكن لو غلب فيها الضَّرر فإنَّنا نجعل هذا الطَّعام كلَّه محرَّم.
أمَّا ما يكون ضرره ليس من أصله وإنَّما من طريقةِ تعاطيه، كأكله على حالٍ مختصَّة كحال خواء البدن فيضر؛ فإنه قد يُمنَع إذا تُيُقِّنَ ضرره في تلك الحال، لكن لا يُنسَب المنع إلى الطعام نفسه، وإنَّما إلى أمرٍ خارجٍ عنه، وهو ما احتفَّ به من زيادةٍ في الأكل، أو حالٍ لا يحسن بالإنسان أن يأكل عليها.
على سبيل المثال: لو أُعطيَ الصَّغيرُ الذي دونَ السَّنتين سمنًا، فالسَّمن فيه من الثِّقل والضَّرر البالغ عليه، فهنا نقول: لا يجوز لأنَّه يُضَرُّ به، ولكن لا يعني ذلك أنَّ السَّمن ممنوع أو أنَّه ليس بطعام حلال؛ لأنَّ الضرر ليس في السَّمن من حيث هو، وإنَّما في تعاطي مَن في مثل هذه الحال.
ومثل ذلك المريض الذي يُمنَع من بعض الأطعمة ونحوها، وقد تكون هذه الأطعمة طيِّبَة، فلا يُمكن أن نقول أنَّها تضر بالمريض فهي ممنوعة، ولكن هي ممنوعة عليه في حال مختصَّةٍ لأمرٍ خارجٍ عن حقيقتها، فكان الحكم متعلق بتلك الحال لا بذلك الطعام.
وإذا غلب الضَّر فإنه يُحكم به، وهذا بابٌ لا حدَّ للكلام عليه، ولو جئنا إلى كثيرٍ من مصنوعات الأطعمةِ والأشربة لرأينا أنَّه يكثر فيها الكلام من كونهها فيها ضرر، ويتداعى الناس إلى الحديث عن هذه الأشياء.
على سبيل المثال: المشروبات الغازيَّة، التي فيها لون أسود أو ألوان أخرى؛ أو الأطعمة المصبَّرة التي فيها مواد حافظة، فالأطباء يقولون إنَّ فيها مضرَّة، ومع ذلك لم يقل أحدٌ من أهل العلم بحرمتها على سبيل العموم والإطلاق؛ لأنَّها من حيث الأصل هذه مواد ضارَّة، ولكن هذا الضرر ليس غالبًا، ولذلك نرى أنَّ مَن يتعاطى مثل هذه المشروبات الغازيَّة سنوات كثيرة قد تؤثِّر عليه، وما من شيءٍ إلا وله أثر إيجابي، ولكنَّ الأثر السيء ليس غالبًا.
وبناء على ذلك لم يُقل في مثل هذه الحال بحرمة هذه المشروبات أو المطعومات، ولكن إذا تُيُقِّنَ الضَّررُ فإنَّه يُحكَم بحرمتها، أو كان ذلك غالبًا راجعًا إلى الطَّعام نفسه لا إلى حالةٍ مختصَّةٍ بشاربٍ أو خلافها.
إذن؛ السُّموم إذا أضرَّت بالبدن فإنَّ الإنسان يُمنَع من تعاطيها، ولكن بعض السُّموم قد تكون مُضادة لبعض الأمراض، ويعلم الأطباء أنَّ لا ضرر على الإنسان فيها ظاهر، وبناء على ذلك إذا تعاطاها وهي مضادَّةٌ لهذا المرض ومواجهة له ومقلِّصة لآثاره لم يُمنَع الإنسان من تعاطيها.
وهذا إذا كانت السُّموم من السُّموم النباتية لأنَّها لا تكون نجسة، أمَّا سموم مثل الثُّعبان والعقرب ونحوها فهذه نجسة، والنَّجسة محرَّمةٌ بكلِّ، فلا يُمكن تعاطيها بوجهٍ من الوجوه حتى في العلاج، فبعض الناس يتعاطون بعض هذه السُّموم مثل سمَّ الثعبان والعقرب وبعض هذه الحشرات، ويقولون إن ترياقه نافعٌ؛ فنقول: إنَّ هذه نجاسة، والنَّجاسة محرَّمة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا»، فلا يجوز تعاطي ذلك طعامًا أو شرابًا، لكن إذا جُعِلَ على الجلد فلا بأس؛ لأنَّ هذا ليس تعاطٍ له، وهذا متأرجح عند بعض أهل العلم في أنَّ الأصل فيه الإباحة، لأنَّه ليس أكلًا ولا شُربَا، ولا يتعلق به حرمة، وبعضهم يقول إنَّ تركه أولى وأسلم.
إذن؛ لا يجوز أن يُتعاطى أكلًا أو شُربًا، أمَّا ما سواها فالأمر فيه محتملٌ، وهكذا فيما كان من النَّجاسات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاْلأَشْرِبَةُ كُلُّهَا مُبَاحٌ،إِلاَّ مَا أَسْكَرَ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ كَثِيْرُهُ وَقَلِيْلُهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ اْلفَرَقُ مِنْهُ، فَمِلْءُ اْلكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ» )}.
اْلفَرَقُ: نوع من المكاييل، يُوضَع فيه الشَّراب ونحوه.
قول المؤلف: (وَاْلأَشْرِبَةُ كُلُّهَا مُبَاحٌ)، سواء كانت عصيرًا أو مرقًا أو لبنًا؛ فكلها مباحة إلَّا أن تكون نجسة، فلا يجوز حليب السِّباع أو الحمير لكونها نجسة.
وسيأتي المؤلف على بيان كونها محرَّمة ونجسة، وبناءً على ذلك لم يُحتَج التَّنبيه عليها، ولكن من حيث الأشربة التي تُصنَع من الفواكه ونحوها فالأصل حلُّها وإباحتها، ومثل ذلك ما جدَّ من المصنوعات الآن مثل المشروبات الغازيَّة ونحوها تُباح حتى تصل إلى درجةٍ يغلب فيها الضَّر، فعند ذلك يُمكن القول بحرمتها.
على سبيل المثال: الأشربة التي يسميها الناس "شراب الطاقة" فهذه لمَّا كان الضَّررُ فيها غالبًا ربَّما تأكَّدَ عندَ بعض أهل العلم القول بالمنع منها، أو أنَّ في تعاطيها شبهة تعاطي المحرَّم لظهور الضَّرر فيها.
والحقيقة لا يُمكن القول بالمنع منها مُطلقًا أو الحل؛ لأنَّها تتفاوت في درجاتها وتركيزها وآثارها على الأشخاص، ولكن في الجملة هي انتقال ممَّا يظهر فيه الإباحة إلى محلٍّ يتأرجح فيه الأمر ولا يبعُدُ القول بحرمتها أو حُرمة بعضها لظهور الضَّررِ فيها.
والأشربة كلها مباحة حتى ما يُصنَع من الشَّعير أو غيره، ما يُسمَّى عند الناس بــ "الفُقَّاع" إلَّا أن يصل إلى حدِّ الإسكار، وذلك بأن يُترَك ويُنبَذ حتى يقذف بالزَّبد ويكون فيه أثر على الدِّماغ، فيذهب عنه تمام نظره وعقله، وقد يكون ذلك قليلًا وقد يكون كثيرًا، وهذا يتفاوات بتفاوت الناس وبتفاوت شدَّةِ هذا الشَّراب من عدمه، وبإلفة الإنسان له من سواه، ولكنَّه ما دام يحصل به إسكار ولو في بعض الناس أو في بعض الأحوال؛ فإنَّه محرَّمٌ، لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» ، وقال: «ما أَسكرَ الفرقُ منه فملْءُ الكفّ منهُ حرامٌ» ، وقال: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» ، والله -جَلَّ وَعَلَا- حرَّم ذلك في كتابه فقال: ï´؟أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُï´¾ [المائدة: 90].
قول المؤلف: (إِلاَّ مَا أَسْكَرَ) ضابط مُهم ينبغي التَّنبُّه له، وهو مناط الحكم هنا، يعني ما دام أنَّ هذا الشَّراب يحصل به إسكار فهو حرام، ويستوي الحكم في حرمته سواء كان قليلًا أو كثيرًا، بمعنى أنه لو شرب الإنسان من هذا الشراب لترًا سَكِرَ وإذا شرب منه نصف لتر -أو ربع لتر أو شربة واحدة- لا يؤثر؛ فنقول: ما دام أن كثيره يُسكِر فقليله يُسكر. وهذا هو الضَّابط الشَّرعي.
والمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- يُشير هنا إلى أنَّ ما أسكَرَ فإنَّه يحرم قليله وكثيره من أي شيء كان، سواء كان من العنب أو من الشَّعير، أو من أي شيء من الفواكه والثِّمار، وهذا يُشير إلى مخالفة بعض الفقهاء الذين يقولون إنَّما يحرُم شراب العنب إذا كان مُسكرًا، وما سواه فلا يحرم منه إلَّا الشُّرب بقدر الإسكار، فجماهير أهل العلم على مُنافاة ذلك القول وعدم اعتباره، وأنَّ الأدلَّة دالَّةٌ على إطلاق القول في ذلك، وكما قال عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وغيره من الصَّحابة: نزلت آية تحريم الخمر، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»، وكان شراب الناس يومئذٍ -يعني من الخمر- من العنب ومن الشعير ومن التَّمر، وغيره؛ فدل ذلك على أنَّ هذا الحكم عامٌّ وشاملٌ لجميعِ أنواع المشروبات إذا كان كثيرها مسكرًا.
هنا مسألة مهمَّة!
في العصر الحديث يوجد على الأشربة بطاقات فيها نسب ما يحتويه هذا الشراب من أملاح وما سواها، ومن ذلك أنَّه يُكتب نسبة الكحول -مادة الإسكار- فكيف نتعامل مع ذلك؟
يجب أن نعرف أنَّ الحكم ليس في وجود هذه المادة من عدمها، وإنَّما الحكم فيما قاله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فما دام أنَّ كثيره يُسكر لو شرب منه، فمعنى ذلك أنَّه محرَّمٌ حتى لو كانت هذه النسبة 1 % أو 0.5% أو حتى لو لم يذكروا فيها شيئًا من هذه المادة التي تذهب العقل أو تضعفه، والعكس بالعكس، فلو كان فيه نسبة ولكن شُرب كثيره لا يُسكر، فنقول: إنَّه ليس بمؤثر.
مثلًا: مادة الكافيين من المواد المسكرة، وهي موجودة في بعض المشروبات الغازيَّة، ومع ذلك لم يقل العُلماء بحرمة هذه المشروبات؛ لأنَّ الإنسان لو شرب منها كوبًا أو كوبين أو ثلاثة أو عشرة أو عشرين لم يسكر، فدلَّ ذلك على أنَّ هذه المادة ليست مُؤثرة، وليس في هذا الشَّراب محل للإسكار.
فيُتنبَّه لذلك؛ لأنَّ هذا فيه طريقٌ لبعض الناس ممَّن يأتون إلى بعض المشروبات التي لا يوجد فيها علامة أن ليس فيها نسبة كحول أو النسبة فيها قليلة ويتساهل في شرب هذه المشروبات، مما يُسمَّى شراب الشعير -البيرة- وغيرها، ويقول: إنَّها نسبٌ قليلة لا تصل إلى الإسكار!
نقول: ليس هذا هو المناط؛ إنَّما لو ضممت إلى هذا الكوب كوبًا آخر وثالث ورابع وخامس؛ هل يُسكر أو لا؟
فلو كان يُسكر ولو بالكثير فمعنى هذا أنَّ ما يدخل إلى جوفك من نقطة منه فهو حرام لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وليس بمعتبرٍ ما يُذكر من تفاصيل بيانات مركَّب هذا الشَّراب، والعكس بالعكس، فلو عُلم يقينًا أنَّ هذا لا يُفضي إلى إسكارٍ فلا يعتبر ذلك مُسكرًا.
{أحسن الله إليكم شيخنا، ما الحكم لو استُخدمت الخمر في الطبخ؟}.
استخدام الخمر في الطَّبخ محرَّم.
{هل يُعدُّ مسكرًا بحيث إنَّه لا يجوز الأكل منه؟}.
والله هذه المسألة مُشكِلَة! فهو من حيث الوضع لا يجوز؛ لأنَّ الخمر نجس، ولكن إذا جُعل على الشِّواء مثلًا كما يفعلونه في الغرب، فيستخدمونه لتليين اللحم ونحوه ويكون أكثرُ طراوةً وحلاوةً في الطعم، فنقول: إنه من صبِّ النَّجاسة.
وهل يُمكن أن نقول إن النَّجاسة تطايرت ولم يبقَ منها شيء ونحو ذلك؟
بعيدٌ هذا! لأنَّ القاعدة عند الحنابلة وجمع من الفقهاء أنَّ ما يتنجَّسُ من سوى الماء لا ترتفع نجاسته لا بتطهيرٍ ولا بغيره حتى ولو صُبَّ عليه ماءٌ بعدَ ذلك، فمن باب أولى أن يُقال: "إلَّا أن تزول عينُ النَّجاسة"، وهنا لا يظهر زوالها، فلو لم يُقَل من ظهور الحُرمَة فلا أقل من أنَّها محل شبهة، والقطع بالحُرمَةِ أو بقاء الأمرِ على المنع هو الظَّاهر -والله أعلم- وهذا الكلام منِّي إنَّما هو على سبيل التَّفقُّه لا على سبيل التَّقرير، فلا يؤخَذ منِّي فتوى في ذلك؛ لأنَّ المسألة تحتاج إلى مزيد بحث، ولعلَّنا -بإذن الله جل وعلا- في لقاء قادمٍ أن نعرض لها، وأن نأتي بأقوال أهل العلم فيما يتعلق بهذه المسألة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ تَخَلَّلَتِ اْلخَمْرُ، طَهُرَتْ وَحَلَّتْ، وَإِنْ خُلِّلَتْ، لَمْ تَطْهُرْ)}.
طريقة اتِّخاذِ الخمرِ والخلِّ متقاربةٌ جدًّا، ولا يفصل بينها إلَّا أشياء يسيرة يعرفها مَن يتعاطون هذه الصَّنعَة؛ لأنَّ الخلَّ إنَّما يتخلَّل بالتَّربُّص والانتظار على هذه الثِّمار، والخمر أيضًا نحوًا من ذلك، لكن لهم طريقة في صنعها، فإذا كادت أن تقذف بالزَّبدِ فتتخمَّر فيُعالجونها ببعض المعالجات فيمنعها من التَّخمُّر وينقلها إلى التَّخليل، وفي بعض الأحوال قد يفوت على الخلَّال -الذي يتَّخذ الخلَّ- هذا الأمر، أو ينسى أو يسبق هذه الثمار؛ فتقذف بالزَّبد فتتخمَّر، فإذا تخمَّرَت في مثل هذه الحال قد يُفضي ذلك إلى فوات ماله أو الإضرار به وإلحاق الضَّرر به؛ فنقول: يقول الفقهاء (وَإِنْ تَخَلَّلَتِ اْلخَمْرُ، طَهُرَتْ وَحَلَّتْ)، وإلَّا فلا.
والمعنى: أنَّ الأصل أنَّه لا يجوز للإنسان أن يُخلِّلَ الخمر، لأنَّ الخمر إذا تخلَّلت وقذفت بالزَّبد كانت نجسة، ووجب إراقتها وإتلافها، ولم يجُز إمساكها وإبقاؤها، وهذا الذي يُخلِّلُها كأنَّه تعاطى النَّجس وأبقى ما أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- بإراقته.
وأصل ذلك: أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئُل على الخمر تُتَّخذُ خلًّا؟ فقال: «لا»، وهذا قطعًا لدابر إبقاء الخمور بدعوى التَّخليل والإفادة منها، ولكن لو حصل ذلك بدون قصد وبغير إرادة فتخلَّلَت الخمر فتحل؛ لأنَّه لم يكن له منه فعل، ولم يكن منه تهوينٌ أو تساهل فيما أمر الله، لأنَّه لم يأتِ إلى الخمر فيُخلِّلها ولم يُرقها.
ولذلك قال أهل العلم: لمَّا سئُل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الخمر تُتَّخَذ، و"تُتَّخَذ" فعلٌ للاتِّخاذ، وهو فعلٌ للمكلَّفِ؛ فنهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهذا يدلُّ على أنَّ الأمر إذا كان من الخمر نفسها أو من الثمار التي جُعلت لتخليل فتخمَّرت ثم تخلَّلَت؛ فإذا هذا ليس اتِّخاذًا وليس فعل مكلَّفٍ فلم يكن فيه محرَّم، وهذا الشَّراب آلَ إلى شرابٍ مُباحٍ وهو خل، وبناء على ذلك لا حُرمَة فيه ولا منعَ منه، والله تعالى أعلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ فِيْمَا يُبَاحُ أَكْلُهُ وَمَا لاَ يُبَاحُ.
وَاْلحَيَوَانِ قِسْمَانِ بَحْرِيٌّ وَبَرِّيٌّ، فَأَمَّا اْلبَحْرِيُّ فَكُلُّهُ حَلاَلٌ إِلاَّ اْلحَيَّةَ وَالضِّفْدَعَ وَالتِّمْسَاحَ)}.
ذكر المؤلف ما يحل أكله في الحيوان وغير الحيوان، فأمَّا غير الحيوان فقد أشارَ إليه في جملةٍ واحدة، وذكرنا سبب ذلك أنَّ قاعدتها مطَّردة، وأنَّ الأصل إباحتها إلَّا ما اشتمل على أحد القيدين: أن يكونَ نجسًا أو أن يكون مضرًّا، لِمَا تقدَّم من النَّظرِ والدليل.
ثم ذكر الأشربة على سبيل التَّكملة، والأشربة يذكرونها هنا، ويذكرونها في كتاب الخمر، لأنَّها كثيرًا ما تتعلَّق بأحكامه، وبعضهم يجعل لها كتاب الأشربة ويعرض لأحكام الخمر وما يتعلَّق بها.
ولما انتهى المؤلف من غير الحيوان انتقل إلى الحيوان، فقال: ( بَحْرِيٌّ وَبَرِّيٌّ).
البحري: هو ما يعيش في الماء، وليس المقصود أن يعيش في خصوص البحر، فيدخل في ذلك ما يعيش في البحر، ما يعيش في الأنهار، ما يعيش في مستنقعات الماء كالبحيرات الكبيرة والصغير على حدٍّ سواء، فما دام أنَّه يعيش في الماء فهو حلال.
قال المؤلف: ( فَأَمَّا اْلبَحْرِيُّ فَكُلُّهُ حَلاَلٌ)، الأصل هو حلُّ البحري كلِّه، ولا يحرُم إلَّا في حالٍ واحدة، وهو أن يوجد في الحرم.
كيف يوجد في الحرم؟
نقول: لو وُجدت بحيرات أو مستنقعات كبيرة، أو مياه راكدة؛ فعاشت فيها بعض الأسماك أو غيرها؛ فالأصل أنَّ طعام البحر حلال، ولكنَّه حرُمَ هنا لوجوده في الحرم.
قال تعالى: ï´؟أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًاï´¾ [المائدة: 96]، فيحرم على المحرم طعام البر، وأحل له صيد البحر في غير الحرم، أما إذا كان في غير الحرم فهو حلالٌ له وليس بمحرَّم.
إذن؛ الأصل أن طعام البحر كله حلال ومباح.
والحيوان البحري: هو ما يعيش في الماء، فلو كان لا يعيش إلَّا في الماء وإذا خرج منه يموت فهذا محل اتِّفاق بين أهل العلم في جواز أكله، سوى ما سيأتي الكلام عليه مما يُستثنى.
يأتي الكلام على ما ينتقل بينَ البرِّ والبحر، وهي ما تسمى بالبرمائيَّة، فتُنسب إلى الماء والبر على حدٍّ سواء، وهذه من المسائل التي يتجاذبها أصلان:
- أصل الكلام على طعام البر.
- أصل الكلام على طعام البحر.
فطعام البحر حلٌّ لقول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث أبي هريرة لما سئل عن ماء البحر فقال: «هُوَ اَلطُّهُورُ مَاؤُهُ، اَلْحِلُّ مَيْتَتُهُ» ، فكل ما في البحر حلال، وهذا محل اتِّفاق عندَ أهل العلم سوى ما استثني مما جرى فيه الخلاف.
بعضهم يقول: العبرة بأكثر وقته، فإذا كان يعيش في البر فهو بريٌّ ويأخذ حكمه، وإذا كان يعيش في البحر فهو بحري.
وبعضهم يقول: العبرة بأي شيءٍ يأويه، فإذا كان مأواه إلى البحر فحكمه حكم حيوان البحر، وإذا كان مأواه إلى البر فحكمه حكم حيوان البر.
والمأوى: أي المكان الذي يسكن إليه، ويتوالد فيه ويتكاثر فيه.
والحقيقة أنَّ القول بالمناط محتمل للقولين جميعًا، بأن يكون مكان توالده وإيوائه، أو كثرة وجوده في البر أو البحر.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَأَمَّا اْلبَحْرِيُّ فَكُلُّهُ حَلاَلٌ إِلاَّ اْلحَيَّةَ وَالضِّفْدَعَ وَالتِّمْسَاحَ).
يعني ما سوى الحيَّة والضفدع والتِّمساح حلال، سواء كان من الأسماك -وهذا لا إشكال فيه- أو الحوت لأنَّه داخل في اسم الأسماك، والصَّحابة -رضي الله عنهم- لمَّا وجدوا ذلك السَّمك الكبير الذي هو العنبر أكلوا منه وحملوا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأكل منه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وما يكون من الطُّيور التي في البحر التي لها جناحان، أو كلب البحر، أو خنزير البحر، أو الأخطبوط، والسُّلحفاة، سرطان البحر؛ إلى غير ذلك، ما دام أنَّها تعيش في البحر فالأصل هو حلُّها.
بعض أهل العلم جعل كل ما في البحر حلال باعتبار إطلاق الكلام في الأحاديث والآثار.
وبعضهم استثنى، ومنهم مَن ضيَّق هذا الاستثناء، ومنهم مَن وسَّعَ فيه، والمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- كما هو مشهور مذهب الحنابلة استثنى ثلاثة أشياء "الحيَّة والضفدع والتِّمساح".
أمَّا الحيَّة لأنَّها مستقذرةٌ، والحقيقة أنَّ هذا فيه شيءٌ من الإشكال، فعموم حلِّ حيوان البحر قد يُعكِّرُ هذا الكلام ويُمنَع منه، والاستقذار قد يكون في حيَّة البر ولا يكون في حيَّة البحر، وبينهما فرق.
فربما قالوا إنَّ حيَّة البحر لا تختلف عن حيَّة البر، بخلاف الأشياء الأخرى، كخنزير البحر فإنه يختلف عن خنير البر خِلقَةً وحقيقةً؛ فهذا سبب الاستثناء.
ومع ذلك نقول: حتى وإن اشتبهت في الأسماء، ولكن هذا صنفٌ له حالٌ وحكمٌ وحياة، وهذا مختلفٌ تمامًا، فلو قيل بعدم الاستثناء لم يكن ذلك بعيدًا.
أمَّا الضُّفدع، فأصل في كلام الفقهاء عليه أنَّه نُهيَ عن قتله؛ لأنَّه يُسبِّح الله، فلما سأل الطيبُ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّهم يتداوون به، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا»، ونهى عن قتله.
وعند الفقهاء قاعدتان:
الأولى: أنَّ ما نُهيَ عن قتله لا يُباح، مثل الهدهد، الضفدع، الصُّرَد، فما دام منهي عنه فلا يحل.
الثانية: أنَّ ما أُمرَ بقتله لا يحل، مثل العقرب والفواسق كالفأرة وغيرها.
أمَّا التِّمساح ففيه تجاذب بين أهل العلم، فمن حيث الأصل فهو من حيوان البحر، وهو داخل في حديث «الحل ميتته»، وحلُّه على سبيل الإطلاق.
لِمَ قال الحنابلة بالمنع من أكل التِّمساح؟
قالوا: لأنَّه ذا نابٍ، ويأكل بنابه، فهو كالسِّباع تأكل بنابها.
فإذا قلنا: إنَّه ذا نابٍ فهذا ظاهرٌ لا إشكال فيه، ولكن هل هو من سباع البرِّ التي جاءت في الحديث؟ أم أنَّه داخل في أحكام البحر فيشملها الأمر بالحل؟
هذا محلُّ كلام؛ والحنابلة على الإبقاء عليها، خلافًا للشافعية وبعض الفقهاء، وإن كان كثير من علمائنا ومشايخنا يُفتون بأنَّ التِّمساح داخل في حيوان البحر، وبناء على ذلك يحل أكله، ويقولون إنَّ النَّاب لا حكم له بدليل أنَّه يوجد من الأسماك ما له ناب، مثل سمك القرش وكلب البحر، فيُمكن أن يُقال إنَّ هذا ليس بمؤثِّرٍ باعتبار أنَّه ليس في صنفها ولا هو منها، وبناء على ذلك يحل أكله، وهذا عند فقهاء الشافعيَّة وجمع من أهل العلم.
وإذا قلنا بإباحته فيُحتاج التَّنبيه هنا إلى أنَّه من أكثر ما يستعمل، ويعتبر جلد التِّمساح من الأشياء الفارهة الغاليَّة، فلو قلنا إنَّ جلد التِّمساح من حيوانٍ غير مأكول -لا يجوز أكله- فمعنى ذلك أنَّه نجس، وبناء عليه لا يجوز استعماله عند من يقول إنَّ جلد الميتة أو جلد غير مأكول اللحم لا يطهر بالدِّباغ، كما هو عند الحنابلة.
وبناء على ذلك، فلا يصح تعاطي الجلد، كما في بعض المحافظ أو أسورة السَّاعات -لأنَّه يكون مضادًّا للماء ولا يتأثَّرُ به-، ولا يجوز الصَّلاة فيه، ولا يجوز شراءه.
وأما على القول بإباحته فلا يأتي عليه شيءٌ من هذه الإشكالات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا اْلبَرِّيُّ فَيَحْرُمُ مِنْهُ كُلُّ ذِيْ نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلُّ ذِيْ مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَاْلحُمُرُ اْلأَهْلِيَّةُ، وَاْلبِغَالُ)}.
الأصل هو حل الحيوان البري، والمحرَّم مُستثنى وهو ما تَّصف بأحد صفتين:
- إن كانَ من السِّباع.
- أو كانَ ذا مخلبٍ من الطَّيرِ.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (كُلُّ ذِيْ نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ)، مثل: الذِّئب، الأسد، النَّمر، الفهد، الكلب، إلى أشياء كثيرة تدخل في ذلك؛ فهذه محرَّمة؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن كل ذي نابٍ من السِّباع.
يُستثنى من ذلك الضَّبع، فالضَّبع له ناب وهو من السِّباع التي تفترس، ولكن جاء الدَّليل بحلِّه، وسيأتي في نهاية هذا الفصل.
أمَّا الثَّعلب فقد جرى فيه شيء من الاختلاف، فبعضهم يجعله ممَّا له نابٌ فيفترسُ، فيمنع منه، وبعضهم يُجيزه، والأحوط تركه والبُعد عنه.
إذن؛ هذا ما يتعلَّق بما كان ذا نابٍ من السِّباع.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُلُّ ذِيْ مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ).
المخلب: هو الظُّفر.
يقول الفقهاء: المقصود بـ "ذِيْ مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ" هو الذي يأكل بمخلبه، أو يرتزق بمخلبه، أو يعلف نفسه بمخلبه، فبعض الحيوانات لها مخلب ولكنَّها تأكل بمنقارها، مثل الحمام ونحوه؛ فهذه ليست محل الكلام.
إذن؛ المحرَّم هو ما كان ذي مخلبٍ يأكل بمخلبه، ويرتزق بمخلبه ويعلف نفسه بمخلبه، كالنُّسور والصُّقور ونحو ذلك؛ فهي محرَّمة.
ومثل ذلك الرَّخَم: وهي نوع من الطُّيور تتغذَّى على الحيف، ومع كونها من ذوات المخالب فهي مما يتغذَّى على المستقذرات والمحرَّمات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُلُّ ذِيْ مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَاْلحُمُرُ اْلأَهْلِيَّةُ، وَاْلبِغَالُ، وَمَا يَأْكُلُ اْلجِيَفَ مِنَ الطَّيْرِ، كَالنُّسُوْرِ وَالرَّخَمِ، وَغُرَابِ اْلبَيْنِ وَاْلأَبْقَعِ)}.
إذن؛ الرَّخم وغراب البَينِ والأبقع؛ جعلها المؤلف من ذوات المخالب، وقد جاء النهي عنها، ولكن هل هي ذوات مخالب -تفرس ونحوه- أو الغالب عليها أكل الجيف والمحرَّمات؟
الظَّاهر أنَّ الأصل في النهي عنها هو استقذارها وأكلها للجيف؛ ولأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْغُرَابُ الأبقع، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» .
الغربان كثيرة وذوات أنواع، فهل المستثنى منها الأبقع فقط وما سواه حلال؟ أو العكس؟
الذي لا يُختَلفُ فيه أنَّ غراب الزَّرع يؤكل في أكثر أهل العلم، وهو غراب صغير أسود، ومنقاره أسود كالحمامة وفيه لمعان، فهذا لا إشكال في أنَّه يؤكل ولا يدخل في النهي.
هل لما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المستثنيات: «وغراب البين الأبقع» وفي بعضها «الغراب»؛ هل يُحمَل المُطلَق على المقيَّد؟ أو أنَّ كلها داخلة في الممنوع؟
نقول: الأبقع وما ماثله من الغربان تتغذَّى على المستقذرات ونحوها، فيُمنَع منها، إلَّا غراب الزَّرع، فهذا ينبغي أن يُتنبَّه له، وهو محل للبحث والنَّظر.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاْلحُمُرُ اْلأَهْلِيَّةُ، وَاْلبِغَالُ).
الحُمُر الأهليَّة جاء النَّصُّ بها، فلما كان الصَّحابة في إحدى الغزوات ولحق بهم شيء من الجوع ونحوه أوقدوا القدور على الحُمر؛ أمرَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالقدور أن تُكفأ، فهي محرَّمةٌ، وهذا محلُّ اتِّفاق بين أهل العلم.
وأمَّا البغال فحقيقتها أنَّها متولِّدة بين ما يحل وما لا يحل، فهي متولِّدة من نزوِّ الفحلِ من الخيل على الأتان، أو نزوِّ الحُمُر على أنثَى الفرس؛ فما يتولَّد منهما يُسمَّى بغلًا، وهذا البغل محرَّم، لأنَّه لمَّا تولَّدَ من حلالٍ وحرامٍ فإنَّه يُغلَّبُ فيه جانب الحرام، وبناء على ذلك يكون محرمًا ولا يجوز أكله.
يقول المؤلف: ( وَمَا يَأْكُلُ اْلجِيَفَ مِنَ الطَّيْرِ)، مثل: الحدأة والرَّخم وما ماثلها، فهي -كما قلنا- مستقذرة، وتتعاطى الخبائث، فيتورَّع منها الإنسان.
يقول بعض الفقهاء أنَّ ما يترفَّع عنه ذوو اليسار من العرب وغيرهم، لأنَّهم يستنكفون ويترفَّعونَ عن الأشياء القذرة، بخلاف ذوي الفاقة.
وعلى كلِّ حالٍ؛ فما دام أنَّه يأكل الجيَف ويتعاطاها فيُنهى عنه، ويدخل في قوله: ï´؟وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَï´¾ [الأعراف: 157].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَا يَسْتَخْبِثُ مِنَ اْلحَشَرَاتِ كَاْلفَأْرِ وَنَحْوِهَا)}.
ما يُستخبَث من الحشرات، كالفأة والصراصير وما ماثل ذلك فكلها محرَّمةٌ، لأنَّ النُّفوس تعافها وتأنَف عنها، وهي مما تُستقذر، فداخلة في الخبائث ï´؟وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَï´¾.
فتبيَّنَ معنا ما يتعلَّق بالأطعمة مِن الحيوان وغير الحيوان، من النَّبات ونحوه، وما يتعلَّق بالأشربة وما فيها من محلَّل ومحرَّم، تخليل الخمر أو تخلُّلها، والحكم في كل واحدٍ منها، والكلام على الحيوان البحري سواء كان حيوانًا بحريًا لا يعيش إلَّا في الماء، أو يعيش في الماء وفي غيره، ومتى يُحكَم بهذا وبذاك، ومتى يحرُم الحيوان البحري، وأنَّه إذا كان في الحرم، وحقيقة البحري، وما استثني من الحيوانات البحرية وهو الضفدع والحية والتمساح على الخلاف المشتهر فيها من اقوال أهل العلم.
ثم انتقلنا إلى الحيوات البريَّة، وأصلها الحل إلَّا كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلبٍ من الطير، وما يُستخبَث من الطيور والحشرات على ما تقدَّم بيانه.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسَّداد، ولعلنا نلتقيَ في الدرس القادم، وأسأل الله أن يتم علينا وعليكم نعمه، وأن يبلغنا طاعته، وأن يغفر لنا ولوالدينا، ولأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريم.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}










رد مع اقتباس
قديم 2019-10-21, 20:27   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عمدة الفقه (7)
الدَّرسُ السادس(6)

فضيلة الشيخ/د. عبد الحكيم بن محمد العجلان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
وأنا أرحبُ بك، وأرحب بالإخوة المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله أن يزيدنا وإياكم من الخير والهُدى.
{قال الموفق ابن قدامة-رَحِمَهُ اللهُ- في كتابه عمدة الفقه: (وَمَا يَسْتَخْبِثُ مِنَ اْلحَشَرَاتِ كَاْلفَأْرِ وَنَحْوِهَا، إِلاَّ اْليَرْبُوْعَ وَالضَّبَّ وَمَا عَدَا هَذَا مُبَاح، وَيُبَاحُ أَكْلُ اْلخَيْلِ وَالضَبُعِ؛ لِأَنَّه أُكِلَ على مائدة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو ينظر، فقيل: يا رسول الله أحرام هو؟! قال:«لا»)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا غلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يزيدنا وإيَّاكم من العلم والهُدى والبرِّ والتُّقى، وأن يجعلنا في خيرٍ وصلاحٍ وسلامةٍ وعافيةٍ، وأن يجنِّبنا الفتن ما ظهرَ منها وما بطنَ، وأن يحفظ الله العباد وبلاد المسلمين، وألَّا يُحدث علينا سواء، وألَّا يُدخل علينا شر، وألَّا تعظم فينا الفُرقة، وألَّا يحدثَ في أهل الإسلام بليَّة، وألَّا تشتدَّ عليهم رزيَّة، وألَّا يتوالى عليهم سوء، أو تعظُمَ فيهم نكبةٌ ومصيبة، وأن يدفعَ البلايا والرزايا، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريم.
أتينا في الدرس الماضي على الأطعمة وما يتعلق بما يحل منها وما يحرُم، وانتهينا في الكلام عن الحيونات البريَّة، وذكرنا ما يدخل في كل ذي النَّاب من السِّباع وذي المخلب من الطير، وما يُستقبَح ويُستقذَر، وكل ذلك قد مرَّ على شيءٍ من التَّوضيح والإسراع، وإن لم يكن بشيءٍ من التَّفصيل والتَّوقُّف.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (إِلاَّ اْليَرْبُوْعَ وَالضَّبَّ).
اليربوع: دويبةٌ صغيرةٌ، يُمكن أن تُشمَل بالكلام على ما ذُكِر من الفأرة وما شابهها، لتساويهما في الخلقة وتقاربهما في بعض الصفات، إلى غير ذلك من الأحوال، لكن مع ذلك استثنيَت من المحرَّم وجُعلَت حلالًا، وذلك لأنَّها من الصيد عند أهل العلم، والدليل على ذلك أنَّ الصحابة قد حكموا فيمن قتل يربوعًا من المُحرمين أنَّ عليه جفرة، فدلَّ ذلك على أنَّها من الصيد المباح، وإلَّا فإنَّه لا يكون في غير الصيد المباح فديةٌ، فلا يُطلب لها فداء ومقابل إلَّا ما كان من الصيد، فدلَّ على أنَّه حلال، وهذا قول أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الضَّب، وإن كان في شكلها دويبةٌ فيها شيءٌ مما تنفر منه الطِّباع ولا تستلطفه عادات النَّاس، لكنَّه مألوفٌ عندَ أهله، فدلَّ الدليل على إباحته، ولذلك جيء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بضبٍّ فلم يأكل منه، فقال له الصحابة: أحرامٌ هو؟ فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» .
إذن؛ دلَّ هذا الحديث على أنَّ الضبَّ حلال وليس بحرام، ولكن قد تعافه بعض النفوس، وقد تترفع منه نفوس من لم يألفه، فلا غضاضة عليه في ذلك، لكن ليس في هذا دليلًا على أنَّه ممنوع أو محرَّم، وأنَّه مما لا يجوز تعاطيه؛، لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقرَّ أصحابه على ذلك، ونفى أن يكون محرَّمًا كما في الحديث الذي في الصَّحيحين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَا عَدَا هَذَا مُبَاح)}.
الأصل هو إباحة الطيور كالحمام بأنواعه، والعصافير ما كبر منها وما صغر، والببغاء، كل هذا الأصل فيه أنه مُباح، ومثل هذا الحيونات من الغزلان وحُمُر الوحش؛لأنَّها ليست حُمر أهليَّة، فهناك قيَّدها بالحُمُر الأهليَّة، فيبقى أنَّ الحُمُر الوحشي حلال، وهي تشابهها في الجُرم، لكنها تختلف عنها في التَّخطيط وغيره، فليست بحرام، وجاء الدَّليل في حديث الصعب ابن جثَّامة وغيره الأكل منها وتعاطيها.
كذلك ما يكون من الوعل والمها والجواميس البريَّة وغيرها؛ فكل ذلك حلال.
وثَمَّ بعض ما يكون فيه محلًّا للكلام، مثلما قلنا في الثَّعلب، أو النيص، فبعضها جرى فيه شيءٌ من الخلاف، لكن ما دام أن الكلام يصعب أن يؤتى فيه بالتفاصيل في كل المسائل، لكن حسبُ طالب العلم أن يعرف أمهات المسائل في هذا الباب وما يحتاج الناس إلى تعاطيه كثيرًا، فيكون الحكم فيه واضح والتَّأصيل فيه بيِّن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُبَاحُ أَكْلُ اْلخَيْلِ وَالضَبُعِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَذِنَ فِيْ لُحُوْمِ اْلخَيْلِ، وَسَمَّى الضَّبُعَ صَيْدًا)}.
إباحة أكل الخيل جاءت في حديث أسماء لمَّا قالت: "نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ï·؛ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ" ، فهذا دالٌّ على أنَّ الخيل ممَّا يجوز أكل لحمها وشربُ لبنها، وكل شيءٍ من أجزائها.
وجاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه أذن في أكل الضَّبع، كما قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ:إنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمَّاه صيدًا، وأهل العلم يجعلون فيمَن صادَ ضبعًا جزاءً، فدلَّ على أنَّه صيدٌ حلال، وكما قلنا: إنَّه من حيث الواقع فيه مُشابهة لذي النَّابِ من السِّباع لكونه ذا نابٍ ويفرِس الحيونات ونحوها، لكنَّه ممَّا استُثني بنصِّ حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونحن أمَّة الاتِّباع والاهتداء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ الذَّكاَةِ.
يُبَاحُ كَلُّ مَا فِيْ اْلبَحْرِ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ؛ لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيْ اْلبَحْرِ:«اْلحِلُّ مَيْتَتُهُ»)}.
الذَّكاة والتَّذكيَّة: هو ما يكون من ذبح الحيوان وإراقة دمه وإزهاق روحه.
فهذا الباب في الذَّكاة التي يحصل بها حلُّ الحيوانِ وجوازه، وكون الحيوان حلال لا يعني أنه كيفما مات فإنه يجوز تعاطيه، ولكن ذلك مقيَّدٌ بقيود أن يُذكَّى.
بدأ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- بما لا تشترط فيه الذَّكاة، بمعنى أنَّه يُباح كيفما مات، فهذا مخصوص بالحيوان البحري، فإنَّه يُباح بغير ذكاة؛لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اْلحِلُّ مَيْتَتُهُ»، فحكم بأنها ميتة، والميِّت ما مات حتف أنفه بأي وجهٍ كان، سواء قذفه البحر أو طفى عليه أو غير ذلك، فكله داخلٌ في ميتة البحر فيكون جائزًا، ويدلُّ لذلك قصَّة الصحابة في حوت العنبر الذي أكلوا منه وأطعموا منه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وما كان من حيوانات البحر التي تسكن في البر، أو تنتقل بين البحر والبر وهي مما يحل، مثل: السلحفاة؛ فهل تشترط فيها الذَّكاة أو لا؟
هذا راجع إلى مسألة تنازعهما على أصلين، فلا إشكال في كونه حلالًا، لكن هل تشترط فيه الذَّكاة؟
ما دام أنَّه يُنسب إلى البر كما يُنسَب إلى البحر، وحيوان البر يُشترط فيه الذكاة، والمخصوص مُقدَّمٌ على غير، وهذا من باب الاحتياط، فنقول: تشترط فيه الذكاة، فلابدَّ من تذكية السلحفاة كلب البحر ونحو ذلك، لإمكان هذا، ولأنه يعيش في البر والبحر.
أمَّا سرطان البحر يجوز بغير تذكية؛لأنه من حيوان البحر، ولأنه لا يُمكن تذكيته، لأن حقيقة التذكية إخراج الدم، وهذا الدم المسفوح يكون فيه إزهاق للروج وخروج فساده الذي قد يضر بالبدن، لكن سرطان البحر لا دم فيه سائل، فلأجل ذلك لما سُئل أحمد عن ذلك وسُئل غيره من أهل العلم؛ قالوا: إنَّه من حيوان البحر، ولا يُحتاج فيه إلى تذكية.
فهذا ما يتعلق بحيوان البحر، وأنَّه لا تذكية فيه سوى ما يكون من حيوان البحر الذي يأوي إلى البرِّ فيبعض أحواله فيكون فيه التذكية مثلما قلنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (إِلاَّ مَا يَعِيْشُ فِيْ اْلبَرِّ، فَلاَ يُبَاحُ حَتَّى يُذَكَّى، إِلاَّ السَّرَطَانَ وَنَحْوَهُ)}.
تشترط التذكية في حيوان البحر الذي يعيش في البر مثلما قلنا، اعتبارًا بأنها ممكنة وعلى سبيل الاحتياط.
عرفنا السَّرطان وحكمه، ما معنى قول المؤلف (وَنَحْوَهُ)؟
يعني ما شابهه في الخلقة مما لا نفس له سائلة، فيكون حكمه حكم سرطان البحر في أنه لا يلزم فيه تذكية، وإن كان مما يعيش في البر والبحر على حالٍ سواء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ يُبَاحُ شَيْءٌ مِنَ اْلبَرِّيِّ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ، إِلاَّ اْلجَرَادَ وَشِبْهَهُ)}.
الحيوان البرِّي كلُّه لا يُباح إلَّا بالتَّذكيَّة، وستأتي كيفية التذكية وما يشترط فيها وتفاصيل الكلام عليها، فلابدَّ من ذبحه وتذكيته، وإلَّا لا يجوز ولا يحل أكله، فلو مات حيوانٌ برِّي، كأن وجدنا خيلًا ميتًا أو غزالًا قد ذهبت روحها أو شاة افتُللت نفسها؛ فلا تحل، لأنَّه وإن كان من حيوان البر، وإن كان في أصله حلال؛ إلَّا أنَّه لمَّا مات بدون ما تذكية فإنَّه لا يحل ولا يجوز، وهذا محل اتفاق وإجماع بينَ أهل العلم.
قال: (إِلاَّ اْلجَرَادَ وَشِبْهَهُ).
جاء في الحديث: «أحلَّت لَكُم ميتتانِ ودَمانِ، فأمَّا الميتَتانِ، فالحوتُ والجرادُ، وأمَّا الدَّمانِ، فالكبِدُ والطِّحالُ» ، فدلَّ ذلك على أنَّ الجراد لا تلزم فيه التذكية، سواء مات بسببٍ أو بغير سبب، فإذا مات بسببٍ كأن يدركه الإنسان فيجمعه، فهنا قصد موته فيكونكالذَّكاة له، أمَّا لو وجدنا جرادًا ميتًا، فبعضهم يقول بحرمته.
وإطلاق المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- كما هو قول جمهور أهل العلم أنه يجوز أكل الجراد سواء كان موته بسبب أو بغير سبب، ما دام أنَّه جرادٌ وقد مات، فميتته حلال بأي وجهٍ كان.
ومثل الجراد: الطوائر الصَّغيرة التي تشابهه وتدخل في حكمه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالذَّكَاةُ تَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ:نَحْرٍ، وَذَبْحٍ، وَعَقْرٍ)}.
حقيقة الذَّكاة: إراقةُ الدَّم، ويكون ذلك بثلاثة طرق:
• إما نحرٌ.
• وإما ذبحٌ.
• وإمَّا عقرٌ.
الذبح: هو أن تُمرَّ السِّكين على رقبةِ الذبيحة حتى تقطع الحلقوم والمريء والدجين، وستأتي تفاصيل ما يحصل به الذبح الشرعي.
النَّحر: هو أن تُغرِس السِّكين وما شابهها ثم تُحرَّك حتى يُنهَر الدم وتُقطَع الأوداج والحلقوم والمريء، فتحصل الذَّكاة.
والعقر: يكون فيما تعذَّر ذبحه ونحره من الصيد، أو ما شابه الصيد بما ندَّ من بهيمة الأنعام ونحوه، فإنَّه إذا عُقر كيفما أُنهِرَ الدَّم فيه بسهمٍ في بطنه أو في صدره أو في رأسه أو في رقبته فخرج دمٌ منه؛ فإنَّه يكون حلالًا. وسيأتي الكلام على ذلك.

والنحر في الغالب يكون للإبل، والذبح يكون للبقر والدجاج والأرانب وأكثر الحيونات، ويُمكن نحرُ ما يُذبَح وذبحُ ما يُنحر، فلو أنَّه ذبح الإبل، فمرَّ السِّكين على رقبتها بدون أن يغرسها فيه لكان ذلك جائزًا، ولا شكَّ أنَّ النَّحر للإبل أسهل بكثير، وللنَّاحر إذا كان مُجيدًا ومُعتادًا أن ينحر ثلاثسن وعشرين في عشر دقائق، وجاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه لمَّا أهدى مائة من الإبل نحر ثلاثًا وستين بيده، فبعض الناس يتعجب كيف ينحر ثلاثًا وستين!
نقول: المتمرِّس يسهل عليه ذلك، ويُمكن ألَّا تأخذ خمسة عشر دقيقة، فبمجرد أن يغرس السكين في أصل عنقها فوق الوهدة وتحت العُنُق يتحقق النحر.
الوهدة: شحمةٌ متدليةٌ في أسفل رقبة البعير.
إذن؛ هذا هو النَّحر، وهذا هو الذبح، وهذا هو العقر، وسيأتي الكلام على تفاصيل ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُسْتَحَبُّ نَحْرُ اْلإِبِلِ، وَذَبْحُ مَا سِوَاهَا)}.
هذا فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذبح كبشين أقرنين، ونحر الإبل، فدلَّ على أنَّ النحر في الإبلِ مُستحبٌّ، وأنَّ الذبح فيما سواه مُستحب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ نَحَرَ مَا يُذْبَحُ أَوْ ذُبِحَ مَا يُنْحَرُ، فَجَائِزٌ)}.
يعني: إن نحرَ شاةً أو بقرةً، أو ذبح بعيرًا ونحو ذلك؛ فكلُّه جائزٌ؛لأنَّه يحصل به الذَّكاة التي هي قطع المريء والحلقوم والأوداج على ما سيأتي تفاصيله في اعتبار الأربعة أو دونها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُشْتَرَطُ لِلذَّكَاةِ كُلِّهَا ثَلاَثَةُ شُرُوْطٍ)}.
الزَّكاة لها شروط، فليست الذَكاة كيفما حصلت أجزأت؛ بل لابدَّ أن تكون هذه الشروط متوافرة، سواء كان في الآلة أو كان ذلك في الذَّابح والمذكي، أو من ذكر اسم الله -جَلَّ وَعَلَا- وسيأتي تفاصيل ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَحَدُهَا: أَهْلِيَّةُ الْمُذَكِّيْ، وَهُوَ أَنْ يَكُوْنَ عَاقِلًا، قَادِرًا عَلى الذَّبْحِ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا)}.
يعني: أن يكون المذكي أهلًا للتذكية، بأن يكون عاقلًا مُسلمًا أو كتابيًّا، فلو كان غير عاقل بأن يكون مجنونًا أو دون التَّمييز فلا تصح ذبيحته؛لأنَّه لابدَّ في الذبح والتذكية من قصدٍ، وغير الأهلٍ لا قصدَ له، ولا تصح منهم القصود، كالمجانين ومَن في حكمهم، ومَن دون سنِّ التَّمييز، أمَّا لو كان غيرَ بالغٍ لكنَّه مميز يعقل معنى الذَّبح ويقصده ويتوجَّه إليه ويُسمِّي فتصح.
ومثل ذلك: لو كانت امرأة فيصح منها التذكية؛لأنها أهل للتذكية، أمَّا الصغير غير العاقل أو المجنون ونحوه فإنه لا يكون منهم قصدٌ، فلذلك لو أنَّ مجنونًاأتى على شاة من الشياه في حظيرة أهلها فقطعَ رأسها فلا يحل أكلها؛لأنَّ التذكية هذه ليست من أهلٍ لها، وبناء على ذلك تعتبر كأنَّها ميتة، كما لو ذكر غير الكتابي كالوثني والمجوسي، فتذكيتهم ليست معتبرة.
قال: (قَادِرًا عَلى الذَّبْحِ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا).
تصح تذكية الكتابي وذبيحته، كما قال الله -جَلَّ وَعَلَا- في كتابه:ï´؟وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْï´¾[المائدة: 5]، فهذا محل إجماع واتِّفاقٍ بينَ أهل العلم، وسواء علمنا أنَّه ذكر اسم الله أو لم نعلم شيئًا، فلمَّا سألت عائشة وقالت للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا" فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ» ، فما دام أنَّه كتابي فتحل ذبيحته.
ولا إشكال في ذبيحة الكتابي من حيث الأصل، ولكن فيها إشكال كبيرٌ من حيثُ الواقع، والإشكال فيها من حيث الواقع له جهتان، إحداهما أخفُّ من الأخرى، وهما:
أولًا: أن يُقال إنَّ أكثر أهل الكتاب الآن ليسوا بكتابيين ولا مُتمسكين بكتابهم.
فنقول: إنَّ الله لم يأمرنا بهذا، ولمَّا نزل حلُّ ذبائح أهل الكتاب كان أهل الكتاب قد بدَّلوا فجعلوا الله ثالث ثلاثة، وحكاها الله عنهم في كتابه، ومع ذلك أجاز ذبيحتهم، فلا نحكم بأنَّهم لم يتمسَّكوا أو لم يؤدُّوا حقائق دينهم، أو تديَّنوا أو لم يتديَّنوا أو زادوا أو نقصوا.
لكن إذا قيل إنَّهم إذا انتقلوا من الكتابيَّة إلى ملَّةٍ أخرى.
نقول: الأصل أنهم كتابيون، وإذا كانوا يقولون إنهم نصارى أو أهل كتاب؛ فلا نبحث عن اعتقاداتهم، إلَّا أن يأتينا شخصٌ فيقول: إنَّه لا يؤمن لا بإلهٍ ولا برسالة، فهذا لا تجوز ذبيحته، وأمَّا ما دام أن هذه بلدهم، وأنهم أهل كتاب، وكلهم ينتسبون إلى ذلك، ويعظمون الصليب ونحوه؛ فهم أهل كتاب. فهذا الأمر أخف.
ثانيًا: ما يتعلق بحصول التذكية منهم، يعني تجدَّدت عندهم طرائق سواء كان مبدؤها بعض النَّظريات أو كان التساهل والصنعة في كونهم لا يذبحون، وإنَّما يتَّخذون الطَّرائق الحديثة بالصعق الكهربائي، أو الضَّرب على الرأس ونحوه؛ فهذا في الحقيقة مُشكل، خاصَّة أنه شائع عندهم كثير.
الصعق الكهربائي أيسر من الضَّرب على الرأس؛لأن الغالب أنَّ الصعق الكهربائي لا يقتل، وإنَّما حقيقته أنَّه يُخدِّر ويُذهب حركتها فيكون أسهل في قطع رأسها، قد يموت بعضها لكن نسبتها قليلة لا تتجاوز (4 % أو 5 %) في بعض الأحوال، ولا نستطيع أن نقطع بذلك؛لأنها مصانع كثيرة، فحتى لو وقفنا على مصنع تكون هذه حاله، فلا نستطيع أن نحكم على المصنع الثاني، لأن درجة الصعق وطريقته لا تُعرَف.
فيعود الأمر أنَّه مترددٌ بينَ الأصل في كونهم أهل كتاب وحل ذبائحهم، وبين الغالب أنَّهم يصنعون بها غير الذبح أو التذكية؛ فيتعارض هذا الأصلانِ.
وهذه مسألة يُصبح عليها ويُمسي كثيرٌ من الناس، خاصَّة من الذين تعرَّضوا للإقامة في بلدانهم، أو الذهاب إليهم ولو في بعض الأوقات، فمن أهل العلم مَن شدَّدَ في ذلك، ومن أهل تلك البلاد مَن تتبَّع مثل هذه الأحوال فقطعَ بأنَّهم لا يذبحون وأنَّ ذبائحهم لا تحل، وأنَّ عندهم قوانين في الرفق بالحيوان تحملهم على شيءٍ من التأكيد على الصَّعق وما يتعلَّق به.
ومنهم مَن يقول: إنَّ الأمر باقٍ على ما كان، وإنَّ الأصل هو حلُّ ذبائحهم، وبناء على ذلك لا يسعنا أن نُضيِّق في هذا الأمر، وهذا محتمل، فمن كان له تورُّعٌ وتحفُّظٌ ؟أو توقِّي لِمَا قد يحصل به شُبهة أو نحوه، أو ظهر عنه بخصوصه أمرٍ معيَّنٍ أنَّه لا يحصل تذكية؛ فعند ذلك نقطع، ولكن ما سوى ذلك فقول مَن قال بالمنع له وجاهة، وقول مَن قال باعتبار الأصلِ ظاهرٌ وسابقٌ ومستصحب للأصل القوي المتين.
والحقيقة لو طُلبَ ممَّن يعيش هناك أن يتوقُّون فهو جيد، وهذا موجود، ولكن المشكلة أنَّ مثل هذه المسائل آلت إلى كونها صارت تجارة، وليست توسعةً على أهل الإسلام، فصار هؤلاء يقولون: إنَّ هؤلاء يذبحون وهؤلاء لا يذبحون؛ وكلُّ هذا مقصده أن يُشتَرَى من هذا ولا يُشتَرى من هذا، وأن يُنفَع هذا ولا يُنفع هذا، وقد يتبع ذلك من التَّربُّص بأشخاص، أو إرادة نفع أشخاص، إلى أشياء كثيرة ينبغي لأهل الإسلام أن يتوقوا ذلك، وأن يرجعوا إلى ما يكون فيه سَعةٌ لهم ولإخوانهم، وألَّا يتربَّصوا بهم.
ونسأل الله أن لا يُدخل علينا حرامًا، وألَّا يؤكلنا شيئًا مشبوهًا.
وهذا ما يتعلق بالذبائح، والكلام فيه كما قلتُ.
ولو رجعنا قليلًا إلى ما ذكرنا في الأطعمة؛ أيضًا وُجدَ الآن كثير من الأطعمة التي يُداخلها شيءٌ من الممنوع أو الحرام، فثَمَّ جهود مشكورة من بعض الجهات الرَّسميَّة وغير الرَّسميَّة من الجهات الدَّاعمة ونحوها في تتبُّع مثل هذه الأشياء وتبينها للناس، فعلى كل حال ينبغي للإنسان أن يتوقى لنفسه، وأن يتتبع مَا يكون به سلامة دينه، وألَّا يواقع أمرًا محرَّمًا، وألَّا يتعاطى شيئًا ممنوع منه شرعًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَأَمَّا الطِّفْلُ وَالْمَجْنُوْنُ وَالسَّكْرَانُ وَاْلكَافِرُ الَّذِيْ لَيْسَ بِكِتَابِيٍّ فَلاَ تَحِلُّ ذَبِيْحَتُهُ)}.
الطفل مَن دون سن التمييز، وعبر المؤلف بـ "الطفل" لإرادة الإشارة إلى ذلك، ومثل هذا المجنون، والسَّكران لو ذبح حال سُكرِه قبل إفاقته فلا قصد له، ومَن لا قصدَ له فلا تصح تذكيته.
والكافر الذي ليس بكتابي سواء كان وثنيًّا أو مجوسيًّا أو غيره.
مَن كان من أمٍّ كتابيَّة أو أبٍ وثني أو العكس:
- منهم من يقول: إنه يُغلَّبُ فيه، فلا تحلُّ ذبيحته.
- ومنهم من يُفصِّلُ في ذلك، فيقول: إذا كان أبوه كتابه فيختلفون فيه، دون مَن كانت أمه كتابيَّة.
وفي هذا تفصيل، وينبغي أن يُتوقَّى مَن لا يكن كتابيَّ الأبوين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّانِيْ: أَنْ يَذْكُرَ اللهِ عِنْدَ الذَّبْحِ، أَوْ إِرْسَالِ اْلآلَةِ فِيْ الصَّيْدِ، إِنْ كَانَ نَاطِقًا أَوْ إِرْسَالِ اْلآلَةِ فِيْ الصَّيْدِ، إِنْ كَانَ نَاطِقًا، وَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ، أَشَارَ إِلى السَّمَاءِ)}.
الشرط الثاني: أن يذكر اسم الله عليه، قال تعالى:ï´؟فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَاï´¾[الحج: 36].
وهذا شرطٌ معتبرٌ، فلا يجوز أن يؤكَل شيءٌ لم يُذكر اسم الله-جَلَّ وَعَلَا- عليه، لما جاء في الدَّلائل، ودلَّت عليه النُّصوص من الكتاب ومن السُّنَّة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ، فَكُلْ» ، فأُمر بذكر اسم الله -جَلَّ وَعَلَا- على الذبائح؛لأنها محالٌّ للتَّعبُّد والتَّعظيم لله -جَلَّ وَعَلَا- وكان أهل الكفر والإشراكِ يريقون الدَّم تقرُّبًا إلى معبوداتهم من الأصنام وغيرها، فلما كان أهل الإسلام يتديَّنونَ لله ويعبدون الله ويستعينون بالله ويتقرَّبون إلى الله، فإنَّهم لا يذبحون ولا ينحرون إلَّا مظهرين العبادة لله، والتَّوجُّه له -سبحانه وتعالى- ولذلك قالوا: إنَّ ذكر اسم الله على الذبح واجب، وهذا هو المشهور عند الحنابلة وقول جمع من الفقهاء، وهو أنَّ قصد الله -جَلَّ وَعَلَا- ومنع التَّعبُّدات الشِّركيَّة من أصل أهل الإسلام، وأنَّ ذكر اسم الله مقصودٌ وواجبٌ، فبعض فقهاء الشَّافيَّة يقولون إنَّ التسمية مستحبَّة، لأنَّ الممنوع فقط هو أن يُقصَد غير وجه الله -جَلَّ وَعَلَا- ويحملون الآية على ذلك.
ونقول: إنَّ الأولى والأحوط أن يُعتَبر الأمران جميعًا، أنَّ التَّقرُّبَ إلى الله، وأنَّ التَّوجُّه إلى الله-جَلَّ وَعَلَا-، وأنَّه لا تكون ذبيحة إلا بذكر اسم الله -سبحانه وتعالى.
وسيكون الكلام في ترك التسمية سهوًا ونسيانًا في المسألة التي بعدها.
قوله -رَحِمَهُ اللهُ: (عِنْدَ الذَّبْحِ)، يعني: إرادة الذَّبح، فإذا قال: "بسم الله" فكأنَّه يستعينُ باسم الله أو يستصحب ذكر اسم الله -جَلَّ وَعَلَا- على هذه الذَّبيحة التي ذبحها وأراق دمها لله -جَلَّ وَعَلَا.
قال: (أَوْ إِرْسَالِ اْلآلَةِ فِيْ الصَّيْدِ إِنْ كَانَ نَاطِقًا).
متى يكون وقت التَّسمية؟
في الذبح ظاهر باعتبار أنَّ الذبح يكاد أن يُقارن التَّسمية ويتَّفقان، ولكن بالنِّسبةِ للصَّيد ثَمَّ وقتٌ طويلٌ بينَ الإرسال وبينَ الإصابة، فإذا أرسل سهمًا، وأصعب منه إذا أرسل كلبًا؛ فقد يرسله ويبقى ساعة أو ساعتين يطارده ويُلاحقه حتى يُرديه، فمحل التَّسمية هنا عندَ الإرسال، فلو أرسلَه ثمَّ سمَّى لم يُجدِ ذلك عليه؛لأنَّ فعل الإنسان هو الإرسال، والإرسال هنا كالذَّبح، فلابدَّ عند إمرار السِّكين أن يكون الإنسان قد سمَّى، فكذلك عند إرسال الكلب لابدَّ من الذِّكر، ولذلك جاء في الحديث: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ» ، فجعل إناطة التَّسمية عند الإرسال لا عند الإصابة.
ومن دقَّة الفقهاء -وهذا ليس تكلُّفًا، فهم يريدون أن يُبينوا ويُحقِّقوا أن تفهم حقيقة هذه المسألة وأن تُحسن التَّصرُّف فيها- يقولون: لو أنَّه سمَّى حين إرسال الكلب ثم ارتدَّ فأصاب الكلبُ الصيدَ فالصيد صيدُ مسلمٍ، وبناء عليه يكون حلالًا؛لأنَّه سمَّى عند الإرسال وهو أهلٌ للتسمية، وردَّته بعدَ ذلك ردَّة بعد أن صيدَ الصَّيد.
قال: (وَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ، أَشَارَ إِلى السَّمَاءِ)، يعني: أنَّ إشارة الأخرس تقوم مقام نطقه، فإشارة إلى السَّماء إشارة إلى ذكر اسم الله-جَلَّ وَعَلَا.
لماذا يقولون بالإشارة إلى السَّماء؟
هذا بالنِّسبة للحكم لنا؛لأننا لا نُمايزُ بينَ إشاراته إلَّا إشارة ظاهرة التي نعرف بها أنَّه قصدَ وجه الله، وقصده لوجه الله بأن يقصد السَّماء، فدلَّ هذا على أنَّ تسمية الأخرس تكون بالإشارة إلى السّماء، لأنَّه هي الإشارة المتمحِّضة بالنسبة لذكر اسم الله -جَلَّ وَعَلَا.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَّةَ عَلى الذَّبِيْحَةِ عَامِدًا لَمْ تَحِلَّ، وَإِنْ تَرَكَهَا سَاهِيًا حَلَّتْ)}.
هذا إشارة إلى حكم التَّسمية، وكما قلنا: إنَّ المشهور من المذهب عندَ الحنابلة وهو قول جمهور العلماء على أنَّ التَّسمية واجبة، وهذا لدلائل الآيات -كما قلنا قبل قليل- ونصَّ على ذلك النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدلَّ على اعتبار التسمية وأنها واجبة.
ولو أنَّه تركها عامدًا لم تحل ذبيحته؛لأنَّ مَن تعمَّدَ ترك الواجب فكأنَّما قصدَ المحرَّمَ فلم تحل الذَّبيحة في مثل هذه الحال.
قال: (وَإِنْ تَرَكَهَا سَاهِيًا حَلَّتْ)، لعموم رفع الحرج عن الناسي والساهي، قال تعالى:ï´؟ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأناï´¾[البقرة: 286]، فهذا من رفع المؤاخذة.
وكما قال النَّاظم -رَحِمَهُ اللهُ:
والخطأ والإكراه والنسيان ** أسقطه معبونا الرحمن
وهذا القول وسطٌ بينَ قولين، فمن أهل العلم مَن يعتبر التَّسمية مستحبة على الإطلاق، فلو تعمَّد التَّركَ حلَّت، ومنهم مَن يجعلها معتبرة وشرط، فلا تحلُّ مع السَّهوِ، فمَن سها لم تحل ذبيحته، والحنابلة وسطٌ بين هذين القولين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ تَرَكَهَا عَلى الصَّيْدِ، لَمْ يَحِلَّ، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا)}.
إذا كان قد تركها عمدًا فلا تحل، وهذا لا إشكال فيه؛لأنَّ تارك التَّسمية عمدًا تقصَّدَ ترك الواجب، فيكون قد فعل ما لا يحل له.
لِمَ فَرَق ابن قدامة وغيره من فقهاء الحنابلة بين الصيد وبين غيره؟
قالوا: إنَّ الصيد على خلاف الأصل، فالأصل أنَّ الذبيحة تحل بالذبح والتذكية، وهذا لم يُذبَح، فجاز بقيدٍ وهو الإرسال بالآلة ونحوها -على ما سيأتي من الشُّروط الستَّة- وكذلك التسمية، والقاعدة عند الفقهاء: ما جاء مُستثنًى فإنَّه يُعتبَر بقيوده، ولا يُتساهل فيها، وبناء عليه قالوا: لو سها في الصيد فلا يحل صيده. وهذا هو مشهور المذهب، وإن كان بعضهم يقول: إنَّ الحكم في الصيد كالحكم في الذبيحة، أنَّه إذا سها في التَّسمية حلَّت، وهذا محتملٌ وفيه رفعٌ للحرج، خاصَّة أنَّ كثيرًا ممَّن يتتبَّعون الصيد ينشغلون إبَّانَ الصَّيدِ بتتبُّعه، ويغفلون في غالب الأحوال عن التسمية عند إرسال الكلب أو غيره مما يصيدون به.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّالِثُ: أَنْ يَذَكِّيَ بِمُحَدَّدٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَدِيْدٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ غَيْرِهِ، إِلاَّ السِّنَّ وَالظُفْرَ، لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ»)}.
الشرط الثالث من شروط التذكية: أن يذكي بمحدَّدٍ.
وضدُّ المُحدَّد: المثقَّل، وهو الذي يضربُ الشيءَ بثقله، مثل الحجر.
أمَّا المُحدَّدُ: فهو الذي ينفُذُ فيقطع الجلد ويخرق اللحم ويُخرج الدم.
ولابدَّ أن تكون التذكية بمحدَّدٍ، وقول المؤلف (بِمُحَدَّدٍ)، يعني لا حدَّ لذلك من جهةِ ما يحصل به، سواء سكِّين أو سيف، أو خنجر، أو حديدة، أو حجرًا فيه حافَّة محدَّدة تشقُّ الجلد وتُخرج الدَّم، أو قَصَب؛ فما دام أنها لم تضرب الشَّيءَ بالثِّقَل فيحل استخدامها، فلو أنَّ شخصًا أتى بحديدةٍ فضرب الشَّاةَ في رقبتها فلم يخرج من ذلك دمٌ، وإن كان المذكي أهلًا وذكر اسم الله -جَلَّ وَعَلَا- فلا تحل، لأنَّه ضربها بالثِّقَل ولم يُنهر الدم، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ»، ولا يحصل إنهارُ الدَّمِ إلَّا بالمحدَّدِ الذي له نفاذ ومورٌ في البدنِ، ولذلك قال المؤلف (أَنْ يَذَكِّيَ بِمُحَدَّدٍ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَدِيْدٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ غَيْرِهِ).
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (إِلاَّ السِّنَّ وَالظُفْرَ).
السِّنُّ جاء استثناؤه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي بعض الروايات «لَيْسَ العَظم وَالظُّفْرَ»، هل العظم هو من العام الذي قُصد به الخصوص؟ أو ذكر "السن" ذكر الشيء وإرادةُ بعض أجزاء ألفاظه؟
الظاهر عند افلقهاء أنَّ المقصود هو السِّن، وبناء على ذلك فما سوى هذا من العظام ونحوها لو كان محدَّدًا فقطع به فانهر الدَّم فإنَّه يكون جائزًا.
أمَّا الظُّفر فإنَّه منهيٌّ عنه لِمَا جاء في الحديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلا تكون به تذكيةٌ لو ذكَّى به شخصٌ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُعْتَبَرُ فِيْ الصَّيْدِ أَنْ يَصِيْدَ بِمُحَدَّدٍ أَوْ يُرْسِلَ جَارِحًا يَجْرَحُ الصَّيْدَ)}.
انتقل المؤلف الآن إلى النوع الثالث وهو العقر، فقد ذكر الذبح والنحر وذكر شروطهما، ثم انتقل إلى بعد ذلك إلى الصيد الذي يُصادُ بالعقر.
العقر: هو الشيء الذي ذهب فيُعقَر فيُمسَك.
يقول المؤلف: (وَيُعْتَبَرُ فِيْ الصَّيْدِ أَنْ يَصِيْدَ بِمُحَدَّدٍ)، فلو أنَّه صاده بشيءٍ سوى المحدَّدِ كمثقَّلٍ وغيره فلا، ومثل ذلك لو أنه جعل له مصيدة كحفرةٍ ونحوها، فسقط الصيد ومات، فليس بصيدٍ جائز، لأنَّ التذكية ليست بمتحققةٍ في هذا، ولابدَّ في الصيدِ أن يكون معقورًا بأن يُضرَب في جزءٍ من أجزاء بدنه حتى يُنهر الدم، وسيأتي في الفصل الآخر الفرق بين العقر والذبح، وفي شروط الذبح والنحر.
إذن نقول: لو أنَّه صادَه بوقوعه في حفرةٍ أو نجوها فمات فلا، ومثل ذلك لو أنَّه صاده في حفرةٍ ثم بقي مدَّةً طويلة حتى مات عطشًا أو جوعًا فليس بمصيدٍ مأكول، ولا يجوز تعاطيه، ويُعتبر مما مات حتف أنفه، والله -جَلَّ وَعَلَا- يقول:ï´؟حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُï´¾[المائدة: 3]، فهو داخلٌ فيها فيكون من المحرم.
قال: (أَوْ يُرْسِلَ جَارِحًا يَجْرَحُ الصَّيْدَ)، سواء كان كلبًا أو نمرًا أو فهدًا أو صقرًا، أو ممَّا يُصادُ به، وهذا لا إشكال في حلِّ الصيد به.
إذن؛ الشروط:
الأول: أن يكون بمحدَّدٍ، مثل أن يُرسلَ سهمًا، أو يخطف بينَ يديه فيضربه بسيفٍ، فإذا ضربه بهذا السيف أو طعنه فأنهر الدم فإذنه يحصل به المقصود.
الثاني: أو يُرسل جارحًا.
ما حكم الصيد بالرَّصاص أو البنادق؟
لمَّا وُجدت هذه الآلات اختلف الفقهاء فيها:
• فبعضهم يقول: إنه يأخذ حكم المحدد باعتبار أنه ينفذ في البدن.
• وبعضهم يقول: يختلف، فإن كان ممَّا له حد في رأسه ونحوه؛ فيكون من المحدد الذي يجوز الصيد به، وإلَّا فلا.
فينبغي توقيًا وتكميلًا لمن يصيد بمثل هذه البنادق أن يتَّخذ ما يكون فيه رأسٌ محدَّدٌ يُنهر الدم ويُسيله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ قَتَلَ الصَّيْدَ بِحَجَرٍ، أَوْ بُنْدُقٍ أَوْ شَبَكَة، أَوْ قَتَلَ اْلجَارِحُ الصَّيْدَ بِصَدْمَتِهِ أَوْ خَنْقِهِ أَوْ رَوْعَتِهِ، لَمْ يَحِلَّ)}.
قوله (فَإِنْ قَتَلَ الصَّيْدَ بِحَجَرٍ)، كأن يرمي عليه حجر فتدهد فمات، فإذا لم يخرج منه نقطة دمٍ، أو بزغ جلده لكن لم يكن نفاذ في بدنه؛ فلا تحل في مثل هذه الحال.
قال: (أَوْ بُنْدُقٍ)، مثلما قلنا، إن كانت تنفذ في البدن فلا إشكال إذا أراقت الدم، وتكون مما يحل، ولكن لو أنَّ هذه البندق تصيب الشيءَ بقوَّتها مثل بعض المدافع أو نحوها، أو مثل ما يصيد به الناس أحيانًا من الآلات التي يصنعونها من المطَّاط ويجعلون فيها حجرًا فتضرب العصفور فتسقطه دون أن يجرحه أو يخرج منه دم؛ فلا تحل.
قال: (أَوْ شَبَكَة)، فلو جعلوا شباكًا ثم اصطادت ومات الصيدُ كما يحصل كثيرًا؛ فهذه لا تحل، لكن لو أنَّهم أدركوها حيَّةً ثم ذبحوها فلا إشكال.
كما أنَّه يجبُ أن يُتنبَّه إلى أنَّ الصيدَ إذا صيد وفيه حياةٌ فلابدَّ أن يُذبَح ويُذكَّى، فإذا لم يُذكَّى فإنَّه يكون ميتة.
إذن الصيد إنَّما هو تذكيةٌ على سبيل البدل إذا تعذَّر الأصل، فالأصل هو النَّحر والذَّبح، فإذ تعذَّر جاز العقرُ، فلو أنَّه عقره فبقيت فيه حياة فلابدَّ من التذكية في مثل تلك الحال.
قال: (أَوْ قَتَلَ اْلجَارِحُ الصَّيْدَ بِصَدْمَتِهِ أَوْ خَنْقِهِ أَوْ رَوْعَتِهِ، لَمْ يَحِلَّ)، يعني لو أنَّ هذا الجارح الذي أرسله -كالصَّقر ونحو- وصل إلى الحمامة -مثلًا- فضربها بقوَّة حتى اصطدمت بجبل أو بحجر فماتت؛ فإنَّ هذا لم يُصَد صيدًا يُحلُّ أكله، ولم تتأتَّى فيه التَّذكية التي هي العقرُ عند الفقهاء.
إمَّا إذا غرس مخلبه فيها فإنَّها صيد صحيح جائزٌ مشروعٌ.
وقولهأَوْ رَوْعَتِهِ)، بعض الجوارح تُريعُ الفريسة فتموت جزعًا، فلو حصل على هذا النَّحو فإنَّ ذلك ليس بحلال، لأنَّه لم يكن منه عقرٌ، والعقر هو ما ينفذُ في البدن فيكون منه إزهاقٌ لرُّوح وخروجٍ للدَّم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ صَادَ بِالْمِعْرَاضِ، أَكَلَ مَا قُتِلَ بِحَدِّهِ دُوْنَ مَا قُتِلَ بِعَرْضِهِ)}.
قوله: (وَإِنْ صَادَ بِالْمِعْرَاضِ)، كأن يُضرَب بعرضها، فإذا ضُرب بعرضها فحينئذٍ لم ينفذ في البدن، ولم يكن إزهاقٌ للروح وإخراجٌ للدم، فبناء على ذلك لا تحل.
أمَّا لو أنَّ هذا المعراض أصابَ برأسه فرأسه محدَّدٌ، فبناء على ذلك ما دام أنَّه أزهق الدَّم وخرج، فيحل، فكأن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أرادَ أن يحرر هذه المسألة، فيبين أنَّ المقصود ليس حقيقة هذه الآلة، ولكن كيفية الإصابة، ولذلك فإنَّ المعراض الذي من عادته أن يُصيب بالثِّقل لو أنَّه أصاب بالحدِّ فجرحَ فإنَّه يحل، بخلاف ما إذا كان قد أصابه بعرضه -الذي هو بثقله- فلم يخرج منه دم، وبناءً على ذلك فإنَّه لا يحل.
نقف عند هذا ونجعل بقية المسألة في مستهل اللقاء القادم، ويكون هذا كالتَّكير بما مرَّ بيانه.
أسأل الله لي ولكم التَّوفيق، وأسأل الله أن يجزي الإخوة القائمين على هذا البناء خيرًا، ومَن أسَّسوه ورعوه وعهدوه وعملوا فيه حتى أظهروره، وقرَّبوا العلم ونفعوا الخلق وزادوا في الخير؛ فأسأل الله أن يزيدهم من الخير والهُدَى، وأن يجزيكم العلم والعمل، وأن يزيدنا وإيَّاكم البرَّ والتُّقى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-10-21, 20:28   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عمدة الفقه (7)
الدرس السابع (7)
د. عبد الحكيم بن محمد العجلان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، وحيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، أسأل اللهلي ولكم التَّوفيقَ والسَّداد.
{اللهم آمين.
سنشرعُ في هذه الحلقةِ -بإذنِ الله- فيما تبقَّى من كتابِ الذَّكاة.
قال الموفَّق ابن قدامة-رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ صَادَ بِالْمِعْرَاضِ أَكَلَ مَا قُتِلَ بِحَدِّهِ دُوْنَ مَا قُتِلَ بِعَرْضِهِ، وَإِنْ نَصَبَ الْمَنَاجِلَ لِلصَّيْدِ وَسَمَّى فَعَقَرَتِ الصَّيْدَ أَوْ قَتَلَتْهُ؛ حَلَّ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ؛ فأسألُ الله -جَلَّ وَعَلَا- لي ولكم الإخلاصَ في القولِ والعملِ، وأن يرزقنا العلم والهُدَى، وأن يُبلغنا البرَّ والتُّقَى، وأن يجعلنا وإيَّاكم هُداةً مُهتدين، غيرَ ضالِّينَ ولا مُضلِّينَ.
ما أسرع الأيَّام! وما أسرع هذه المجالس! وما أسرع ما يُعانُالإنسان على مثل هذا العلم والهُدَى!
كم استمرَّت هذه المنارة العلميَّة والبناء من مُددٍ طويلةٍ! لا تُعدُّ بدرسٍ ولا بدرسين ولا بعشرةٍ ولا بثلاثين؛ بل تجاوزَت المئات وتجاوزت السِّنين والأمد الطَّويل، ولولا فضل الله -تعالى- عليكم لَمَا بلغتُم الذي بلغتموه، ولا أُعنتم الذي أُعنتم عليه، ولا يسَّر الله -جَلَّ وَعَلَا- لكم الثَّبات، فأسأل الله أنْ كما يسَّر ما مضَى أن يُثِّبتَكم فيما بقي، وأن يزيدكم من الخيرِ والهُدَى، وهذا فضل الله على عباده، إذا أُعطِيَ النَّاسُ الدُّنيا وإذا فُتِحَ في الشَّهوات؛ فأَن يُفتَح للإنسان الخيرُ والعلمُ والبِرُّ والتُّقَى فتلك مِنَّةٌ عظيمةٌ مِن الله -جَلَّ وَعَلَا-؛ لأنَّ الإنسان يُحال بينه وبين شياطينه، ويُحال بينَه وبينَ رغباته ونفسِه الأمَّارة بالسُّوء، ويُسدَّد حتى يكون ذلك مِلئَ قلبه ومِلئَ وقته ومِلئَ حياته، على ذلك يقومُ، وعلى ذلك يقعدُ، وعلى ذلك يُرتِّبُ، تراه إذا قامَ في الصَّباحِ يقول متى درس اليوم؟ وإذا ذهب يقول متى أرجع لئلَّا يفوتني الدَّرس؟ وهكذا...
فكل ذلك هو تيسيرٌ من الله، وكلُّ ذلك هو أجرٌ من الله -جَلَّ وَعَلَا- لك ما دمتَ تستعينُ بالله في الجدِّ والمثابرةِ والمصَابرَة على هذه المجالس والبقاء فيها، ولِمَن قام على هذا البناء وأقام بناءَه وأحسَنَ العمل فيه وأتمَّ مجالسه، وباشَر ذلك لكِّ صنوفِ المباشرةِ والإعانةِ والتَّسديدِ سواء كان ذلك في التَّنسيقِ، أو كان ذلك في التَّقديمِ، أو كانَ ذلك في التَّصويرِ، أو كان ذلك في هذا كلِّه وغيره؛ فإنَّه أيضًا فضل الله -جَلَّ وَعَلَا- علينا، فنسأل الله أن كما بلَّغنا هذا الأمرَ أن يُبلغنا الإخلاصَ فيه، وألَّا يُزيغَ قلوبنا، وألَّا يصرفنا عن الخيرِ والهُدَى.
كما رأيتم -أيُّها الإخوة- في المجلسِ الماضي أخذنا "كتاب الأطعمة" ودخلنا في مسائلَ كثيرةٍ مُهمَّةٍ نافعةٍ، وذكرتُ لكم الإشكالَ في بعضِ الأطعمةِ الحديثة وما يدخل فيها من مُستحضرات هي محلٌّ للبحثِ، وفيها مِن النَّوازل ما فيها، لكن قد يتعذَّرُ علينا الإتيان على جُملةِ هذه الأشياء والتَّفاصيل فيها مع هذه المجالس المختصرة.
ثُمَّ دخلنا فيما يتعلَّق بالذَّكاةِ وتذكيةِ بهيمة الأنعام، وما يجب فيه الذَّكاة وما لا يجب، وما يتعلَّق به حكمها وما لا يتعلَّق، إلى أن وقفَ الحديث عند ما يُقتَل به الصَّيدُ من معراض، وذكرنا أنَّ المعراض هو: الشَّيء الذي يضربُ بقوَّته وبحجمِه لا بحدِّهِومَخْرِقِه، كالحجرة الكبيرة التي تقع على البهيمة فتُرديها بدون أن يخرج منه قطرةُ دمٍ؛ فهذا مِعراضٌ لا يحصل به تذكية.
إذن؛ التَّذكية لابدَّ فيها من إنهارِ الدَّمِ، سواء كان ذلك من الودجين والحلقوم والمريء، أو كان ذلك عندَ تعذُّره من سائر الجسد كما قررنا ذلك في الصيد.
فلذلك أراد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أن يُبيِّن أنَّ العلَّة في المعراض ليس كونه معراضًا، ولكن كونه يصيدُ بدونِ إنهارٍ للدَّمِ، ولذلك قال: (وَإِنْ صَادَ بِالْمِعْرَاضِ أَكَلَ مَا قُتِلَ بِحَدِّهِ)، يعني: لو افترضنا أنَّ لهذا المعراض حدٌّ في بعضِ جهاته فكانَ القتلُ بهذا الحدِّ لا بالعرضِ والثِّقَل؛ فإنَّه يأخذ حكم ما قُتل من المُحدَّد وما أُنهِرَ فيه الدَّم، فيكون حِلًّا حَلالًا، ويكون طيِّبًا مُباركًا، ولا غضاضة على الإنسان في تعاطيه وأكله إذا اكتملت الشُّروط الأخرى.
فهذا هو مقصود المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-، وهذا عندالفقهاء تحريرٌ للمعنى المراد بهذه المسائل، فالعلَّة ليست كونه معراضًا كما ذكرنا في السِّنِّ والظُّفر أنَّ العلَّة في ذاتها، لكن هنا العلَّة في المعراض في كونه لا يُنهر الدَّم، فلذلك لو افترضنا أنَّه أنهرَ الدَّمَ فإنَّه يتأتَّى به المقصود.
والعكسُ بالعكسِ؛ فلو أنَّ المُحدَّدَ الذي عادةً ما يصيدُ بحدِّه صادَ بعرضه، كساطور مثلًا أو سكينٍ كبيرٍ ثقيل سقطت على أرنبٍ ونحوه فقتلته بدون إنهارٍ للدَّمِ فإنَّه لا يحل.
إذن؛ محلُّ الكلام هو حصول إنهار الدَّم بالمُحدَّدِ أو بما يؤول إلى إنهار الدَّم، كالمعراض إذا صِيدَ بحدِّه.
ثم قال: (وَإِنْ نَصَبَ الْمَنَاجِلَ لِلصَّيْدِ).
المناجل: هي قطع حديد توضع، حتى إذا مرَّ عليها الصَّيد قتلته، كما لو تحجرُه في جهةٍ ضيِّقةٍ، ثمَّ تُجعَل هذه الحدائدُ -التي هي حادَّةٌ- حتى إذا أراد الصَّيدُ أن يدخلَ من خلالها قطعت أحشاءه وخرج الدم، فهذا يُعتَبرُ مما صِيدَ بالحدِّ، فيدخل في الصيد ما دام أنه ذكر اسم الله -جَلَّ وَعَلَا.
لقائل أن يقول: هذه المناجيل توضع لمدة يومين أو ثلاثة أو خمسةَ أيَّام وما مرَّ عليها الصيد!
نقول: هذا ليس علَّةً في الحلِّ والإباحة؛ بل ما أرسلتَ من كلبٍ أو آلةَ صيدٍ فذكرتَ اسم الله فصادَ فإنَّه حلال، ولم يأتِ في الشَّرع اشتراط حصول الصَّيد مُباشرٌ لحصولِ الإرسالِأو الإطلاق.
وحتى الكلَّب، فلو افترضنا أنَّه سمَّى على الكلبِ وأطلقه، ولم يزل هذا الكلب يدور ويلحق بهذا الصَّيد حتى ذهبت ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات، حتى صاد آخر النَّهار فيحل صيده، طالما تيَّقنَّا أنَّه ذُكر اسمُ الله عليه، فيحصل بذلك المقصود.
إذن؛ الصَّيدُ بالمناجل هو صيدٌ حصل فيه إنهارٌ للدَّمِ وحصلت فيه التَّسمية، وحصلَ فيه القصد؛ وتوفَّرت فيه الشُّروط المتقدِّمة واللاحقة فيكون فيها الإحلال والجواز، فلأجل ذلك قال: (وَإِنْ نَصَبَ الْمَنَاجِلَ لِلصَّيْدِ وَسَمَّى)، هنا اشتراط التَّسمية. قال: (فَعَقَرَتِ الصَّيْدَ أَوْ قَتَلَتْهُ)، يعني: قطعته. قال: (حَلَّ).
وهذا هو نهاية هذه المسائل في هذا الباب.
{أحسن الله إليكم يا شيخ.
ما يُسمَّى بالفخاخ اليوم -وهو قريبٌ من المناجل- فهذه الفخاخ أحيانًا تقتُل واحيانًا لا تقتل، فهل هذا مما يصيد بعرضه أو بحدِّه؟}.
نقول: الفخاخُ مثل الشَّبكة، يجعلون شبكة ثم تأتي الطيور، حتى إذا دخلت في هذه الشَّبكة لا تستطع الخلاص؛ فهذه الشَّبكة ليست مُنهِرة للدَّم، وبناءً على ذلك لو افترضنا أنَّ شخصًا نصبَ هذه الشِّباك ثم وجدَ فيها طيورًا فنقول: لا تخلو إمَّا أن تكون هذه الطيور حيَّة أو ميتة، فما مات فهو ميتة لم يُذكَّى ولم يحل أكله ولا تعاطيه، وأمَّا ما بقيَ حيًّا فذُبِحَ وأُنهِرَ دمه تعلَّقَت به أحكام الذَّكاة من التَّسمية وأهليَّة المذكِّي ونحوه، فيكون حلالًا.
وعلى سبيل المثال: الحُفَر، فلو أنَّه حفرَ حفرةً حتى إذا جاء الصيدُ يلتقطُ حبًّا سقطَ في هذه الحفرة؛ فنقول: هذه فخاخ، ولو مات الصَّيدُ بهذه الطَّريقة فلا يكون حلالًا، لأنَّه ليس فيه الشَّرط المذكور وهو حصول إنهار الدَّم.
ولا حدَّ للآلات أو للطَّرائق التي يُصادُ بها، فهذه الصُّيود لا تخلو من حالين:
- إمَّا بآلةٍ: سواء كانت كلاب أو طيور ونحوها -بشرطها كما سيأتي-، فإذا قتلت وأنهرَت الدَّم فالحمد لله، سواء كانت بالكلاب ومثله الفهود ونحوها.
- أو بالسِّهام.
ومثل ذلك ما ذكرنا في الرَّصاص، فقلنا: إنَّ الرَّصاص هو من الأشياء الحادثة، واختلف فيها مُتقدمو الفقهاء:
- بعضهم يقول: إنه ممَّا ينفُذُ إلى الجوف فهو مُحدَّدٌ، وبناء على ذلك يحل -وهذا ظاهر.
- ومنهم من قال: بعضها لا يكون محدَّد.
ونقول: حتى غير المحدَّدِ يكون له نفاذ في الجسدِ لقوَّةِ الرَّمي والإطلاقِ، وبناءً على ذلك يكون في حُكمِ المحدَّدِ في كونه له نفاذٌ ومورٌ في البدنِ وإنهارٌ للدَّم، فيحصل به المقصود ويتعلَّق به الحُكم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ فِيْ شُرُوْطِ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ وَاْلعَقْرِ.
وَيُشْتَرَطُ فِيْ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ خَاصَّةً شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُوْنَ فِيْ اْلحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، فَيَقْطَعُ اْلحُلْقُوْمَ وَالْمَرِيْءَ،وَمَا لاَ تَبْقَى اْلحَيَاةُ مَعَ قَطْعِهِ)}.
المؤلِّف-رَحِمَهُ اللهُ- لمَّا قرَّر ما يدخل فيه الذَّكاة ولا ما لا تدخل فيه الذَّكاة؛ انتقل إلى ما تتأتَّى به الذَّكاة، أو ما يُحكم من أنَّه ذُكِّيَ أو لمْ يُذكَّ.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَيُشْتَرَطُ فِيْ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ خَاصَّةً شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُوْنَ فِيْ اْلحَلْقِ وَاللَّبَّةِ)، فلو أنَّه قطعَه مِن قدمه أو نصَفَه نصفين من بطنه فهذا فيه إنهارٌ للدَّمِ ونحوه، ولكن لا يحصل به إباحةٌ لأنَّه لم يكن في الحلقِ أو اللُّبَّة.
وذكرنا أنَّ الحلق: هو ما امتدَّ بين أصلِ البدنِ والرأسِ -التي هي الرَّقبة.
اللُّبَّة: شيءٌ يكون أسفل عنق البعير، بينها وبين الصَّدر.
فإذا كان الذَّبح في ههذ المواطن فإنَّه يتأتَّى به المقصود.
ما يتأتَّى به التَّذكية:
- الحلقوم والمرئي، الحلقوم هو مجرى الطَّعام والشَّراب، والمريء هو مجرى النَّفَس.
- الودجان: هما عرقان يمرَّان من خلال الرَّقبة.
لماذا كانت الرَّقبة هي محل التَّذكية؟
لأنَّها محمَع العروق، فإذا ذُبِحَت الرَّقبة فكل الدم الذي في البدن يخرُج، وبناء على ذلك تعلَّق بها الحكم.
متى نقول بكمال التَّذكية إذا ذبح من الرَّقبة؟
- مشهور المذهب عند الحنابلة: إذا كان الذبح من الحلقوم والمريء، وهذا هو قولُ الشَّافعيَّة وقولُ جمهور أهل العلم؛ لأنَّه إذا قُطع الحلقوم والمريء -اللذان هما مجرى الطعام والنَّفس- لا تبقى حياةٌ بحالٍ من الأحوال، فتعلق الحكم بذلك.وهذا القول لا شكَّ أنَّه هو الأتم والأحوط.
- ومنهم من يقول: كيفما حصلَ إنهارُ الدَّمِ بإمرارِ السِّكينِ ونحوها ومن المحدّدات على الرَّقبة حصلت التَّذكية، يعني: بقطع الودجين، أو بقطعِ ودجٍ والحلقومِ والمريء.
ويتأتَّى لنا من هذا أنَّه:
- إذا قُطعت الأربعة؛ فهذا جائز بالإجماع.
- وإذا قُطِعَ الحلقوم والمريء وأحدُ الودجين فهذا أيضًا في قولِ عامَّة أهل العلم.
- أما لو قُطِعَ الحلقوم والمريء فهذا في قول جماهير أهل العلم.
- ولو كان القطع لأحدِ الودجين وللحلقوم -أو المريء- فهذا الخلاف فيه أشد.
- إذا لم يتأتَّى إلى قطعِ أحدِ الودجين فالجماهيرُ على عدمِ صحَّة التَّذكية في تلك الحال، خلافًا لشيخ الإسلام وبعض الفقهاء الذين يقولون: إنَّ عموم الأحاديث دالَّةٌ على الإنهار «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ ، فَكُلْ» ، فجعلوا ذلك محلٌّ للإطلاق يتأتَّى بما حصل به المقصود في هذا. والله أعلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّانِيْ: أَنْ يَكُوْنَ فِيْ الْمَذْبُوْحِ حَيَاةٌ يُذْهِبُهَا الذَّبْحُ)}.
هذا شرطٌ مهمٌّ! إذا وردت التَّذكية على محلِّها في الحي؛ أمَّا لو كان ميتًا فقطُعَت رأسه فهذا ما فيه فائدة، فلو وجدَ واحدٌ غنمة عنده في حظيرته ميتة، فقام وقطع رقبتها -حتى ولو كانت ميِّتة قبل دقيقة- ورأى دمًا يخرج؛ فهذا لا ينفع فيها لأنَّها ميتة، وقال تعالى:ï´؟حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُï´¾[المائدة: 3]، والتَّكية لا تكون إلا لما فيه حياة.
ومثل ذلك لو كانت التَّذكية فيما هو مُلحَقٌ بالأموات، فعلَى سبيل المثال: لو أنَّ حيوانًا قد حصلَ له ما جعله في حكم الميِّت بأن بقِيَت فيه حركة لا تنفعه، ولا يُمكن أن تدبَّ فيه الحياة بوجهٍ من الوجوهِ بعد ذلك لكونِه قد تحتَّم موتُه؛ فيُعتبر في حكم الميِّتِ، فلو قطع الحلقوم والمريء والودجين فلا ينفع ذلك.
إذن؛ لابدَّ أن تكون فيه حياةٌ مُستقرَّة.
لو قُطِعَ الحيُّ ممَّا فيه مرضٌ أو علَّة أو جُرح لكن لازالت حياته مُستقرَّة، يتنفَّس ويتحرَّك ونحو ذلك؛ فهنا تنفع فيه التَّذكية، أمَّا ما آلَ إلى أن يكونَ في حُكمِ الميِّت وهو الذي فيه حركةُ المذبوح فقط ولا يُمكن أن تدبَّ فيه الحياة بحالٍ؛ فلا تنفع فيه التَّذكية.
والعكسُ بالعكس؛ لو أنَّه كان حيًّا حياةً مُستقرَّة أو حيًّا وهو مجروح لكن لا يزال يُمكن أن تكون فيه حياة فذبَحَه فلا بأس، ولذلك ذُكر للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ جاريةً كانت ترعى غنمًا لأهلها، فوجدت شاةً ترفُسُ -أو فيها ما يدلُّ على احتضارها- فأخذت حجرًا فكسرته ثم ذبحتها، فسُئِلَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك فأذن بأكلها، لأنَّها ذُبحَت وفيها حياةٌ مستقرَّة.
ولأجل ذلك قرَّرَ الفقهاء أنَّ التَّذكية إنَّما تكونُ بما فيه حياةٌ مستقرَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيْهِ إِلاَّ كَحَيَاةِ اْلمَذْبُوْحِ، وَمَا أُبِيْنَتْ حَشْوَتُهُ، لَمْ يَحِلَّ بِالذَّبْحِ وَلاَ النَّحْرِ)}.
إذا لم يكن فيه إلا كحياة المذبوح مثل أن ترفس رجله؛ فهذا لا يحل.
قال: (وَمَا أُبِيْنَتْ حَشْوَتُهُ)، يعني ما خرجَت أمعاؤه، فإذا خرجت الأمعاء فالغالب أنَّه ما هي إلَّا ثوانٍ يسيرة ثم تُفتَلتُ روحه، فكلُّ هذا في حكم الميِّت، فلو أنَّ شخصًا ذكَّى ما خرجت أمعاؤه فلا، أمَّا إذا أدركه وفيه حياةٌ مستقرَّة حتى ولو كان يُظن أنَّه يموت لكن حياته لازالت مستقرَّة؛ فذُبِحَ فإنَّه يحل.
إذن الفرق بينهما يسرٌ جدًّا من جهة التَّصوُّر، لكن من جهة الأثر متقابلين:
- يعني إمَّا أن يكون فيه جرحٌ أو مرضٌ ويُظنُّ أنَّه يموت لكن لازالت حياته مُستقرَّة وموجودة فيه؛ فإذا ذُكِّيَ حلَّ.
- ويُقابله ما فيه حركة، لكنها كهيئة المذبوح، أو عُلِمَيقينًا انَّه قد ذهبت حياته ولم يبقَ فيه إلَّا هذه الحركة اليسيرة فالتَّذكية لا تنفع فيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذلِكَ حَلَّ، لِمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَتْ لَنَا غَنَمٌ تَرْعَى بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتاً، فَكَسَرَتْ حَجَراً، فَذَبَحَتْهَا بِهِ،فَسُئِلَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذلِكَ، فَأَمَرَ بِأَكْلِهَا)}.
قوله (فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتاً)، يعني: أنَّها ستموت، فأدركت ذلك حتى تحل فذكَّتها، فنفعت التَّذكية، فكانت ليست بميتة وصارت ممَّا طابَ أكلها وحلَّ تعاطيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَمَّا اْلعَقْرُ، فَهُوَ: اْلقَتْلُ بِجُرْحٍ فِيْ غَيْرِ اْلحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَيُشْرَعُ فِيْ كُلِّ حَيَوَانٍ مَعْجُوْزٍ عَنْهُ مِنَ الصَّيْدِ وَاْلأَنْعَامِ، لِمَا رَوَى رَافِعٌ أَنَّ بَعِيْرًا نَدَّ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِنَّ لِهَذِهِ اْلبَهَائِمِ أَوَابِدُ كَأَوَابِدِ اْلوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا، فَاصْنَعُوْا بِهِ هَكَذَا»)}.
قلنا إنَّ التَّذكية تحصلُ بثلاثة أشياء:
- إمَّا الذَّبح أو النَّحر، وقد تقدَّم الكلام عليهما وما ييُعتَبر فيهما.
- العقر: وهو طريقة تحصل به التَّذكية، وهو مختصٌّ بالصَّيد وما في حكمه.
كل هذا الكلام فيما تجبُ فيه التَّذكية، أمَّا صيدُ البحر فلا يحتاج فيه إلى تذكيه، وبخاصَّة ممَّا لا يعيش إلا في البحر.
نرجع إلى المثال السَّابق: لو جاء شخصٌ بشبكةٍ وضعها في البحر فصادت سمكًا، فرفعها حتى جمعها، فإذا فيها ميِّتٌ وحيٌّ؛ فنقول: كله حلال، لأنَّ صيدَ البحر لا يحتاج إلى تذكية، فموته ذكاته. إذن محلُّ الكلام هو فيما يُحتَاجُ فيه إلى تذكية.
ثمذكرَ المؤلف حال ثالثة وهي حال مختص بالصَّيد وما في حُكمه، وهو الذي يكون به العقر، فيقول: ( اْلقَتْلُ بِجُرْحٍ فِيْ غَيْرِ اْلحَلْقِ وَاللَّبَّةِ)، فأصلُ التَّذكية أنها تكون في الحلق واللُّبَّة، ولكن في بعضِ الأحوال يجوز أن تكون التَّذكية في غير الحلق واللُّبَّة، وهو في الصَّيد الذي لا يُتمكَّنُ من قطع رقبته أو حلقومه ومرِّيئه، فإذا صيد بسهمٍ ونحوه فأنهرَ الدَّمَ -على ما ذكرنا من المعتبرات- فيتأتَّى بذلك المقصود، وهذا في الصيد مثل ما يكون من الغزلانأو المهى أو تيس الجبل أو الجواميس البريَّة أو حُمُر الوحش، أو الضبع -باعتبار أنه صيد يحل أكله- إلى غيرِ ذلك من الأشياء، وكذلك الطيور والحمام والبطِّ والأوز، إلى غير ذلك، وأظن أنَّ هذا واضحٌ بالمرَّة، وكلُّ هذا في حال عدم القدرةِ عليه.
والعكسُ بالعكسِ؛ فمتى قُدرَ عليه لم يُجزئ فيه إلَّا النَّحر، فلو افترضنا مثلًا أنَّ شخصًا أدركَ غزالًا قد أصابها سهمه فإذا هي حيَّةٌ فحملها ووضعها في السَّيارة ثم ذهبَ، حتى إذا وصلَ إلى محلِّه الذي يمكثُ فيه وجدها ميِّتة، نقول إنَّ هذا ليس بصيدٍ، لأنَّه صاده حيًّا وأمكنه تذكيته ولم يُذكِّيه، فإذن لا ينفع العقر إلا في المعجوز عنه، أمَّا ما تُمكِّنَ منه فأمكن ذبحه فلم يُذبَح فلا، ومثل ذلك إذا صادَ طيرًا ثم أمسكه وهو حيٌّ وجلس يتحدَّث ثم مات هذا الطير فلا يأكله، لأنَّه كان حلالًا لو نحرته أو مات قبل أن تمسكه، أمَّا وقد أمسكته وهو فيه حياةٌ مستقرَّة فلا يجوزُ لكَ أن تتعاطاه وتنتفعَ به إلَّا أن تذبحه وتذكيه.
وهذه مسألة مهمَّةٌ للغاية، وكثيرٌ ما يحصل عند أهل الصَّيد التَّغاضي عن هذا الأمر، يصيدون بآلاتهم من بنادق أو سهام أو بالكلاب والفهود ونحوها، فيُمسكوه حيًّا ثم بعد ذلك لا يذكُّوه فيموت بينَ أيديهم فيأكلوه، فهذا من الميتة التي حرمها الله -جَلَّ وَعَلَا.
إذن؛ العقرُ والصَّيدُ إنَّما يحلُّ إذا ماتَ بالعقرِ، أمَّا إذا حييَ وحصلَ بيدك فإنَّه لا يحل إلَّا بالتَّذكية، وهذا في الصُّيود، فإنَّها تحلُّ بالعقرِ إلَّا أن تُمسَكَ ويُقدَر عليها.
والعكسُ بالعكس؛ فبهيمةُ الأنعام وما ماثلها مما هو بيد الآدمي مما لا يحل إلا بذبح كالحمام؛ فلو أنَّه ذهبَ وندَّ وهربَ ولم يُستطَع إمساكه فإنَّه ينتقل من الحكم الأصلي -أنَّه لا يحل إلَّا بالتَّذكية في الحلقِ أو اللُّبَّة- إلى أن يكون معجوزًا عنه، فتحصل تذكيته بالعقر -وهو الصَّيدِ بمحدَّدٍ في أي جزءٍ من أجزاء بدنه- ما دام قد أنهرَ الدَّم وتمَّت الشُّروط التي سيأتي ذكرها وتمامها.
وهذا يحصل كثيرًا للنَّاس خاصَّةً في أثناء الذَّبح، فبعضُ البهائمِ إذا رأت السِّكين أو ذُبِحَ أمامها أختها ندَّت واستعصَى على صاحبها إمساكها؛ ففي هذه الحال نقول: لا عليك لو أطلقت عليها سهمًا، أو أصبتها ببندق أو نحوه.
لو أنَّهم كانوا في بريَّة وكان معهم ذبيحة -شاة أو نحوها- فأرادوا أن يذبحوها فهربت، فلحقوها بالسيارة فأصابوها فماتت، هل تكون حلالًا أو لا؟
الغالبُ أنَّ السَّيَّارة تصيد بثقلها، فتكون كالصَّيد بالمعراض فلا تحل، فإذا ضربها بالسَّيَّارة فسقطت فماتت فلا تحل، لكن لو أنَّه ضربه بالسَّيَّارة فقعدَ فلم يستطع المشي فأمسكه فذبحه فلا بأس، أو لو كان في مقدِّمَة السَّيَّارة شيءٌ محدَّد فضربه حتى دخل في بطنه فأنهرَ الدَّم فمات، فهذا عقرٌ صحيح، ولكن الغالب أنَّ الصيد بالسَّيَّارة يكون مثل الصيد بالمعراض الذي هو يصيد بالثِّقَل، وبناء على ذلك لا يحل.
ومثل هذه المسائل تحتاج إلى تأمُّلٍ ودُربة، وهذا الذي يفوت عليك يفوت عليَّ ويفوت عل كثيرٍ، ولكن إذا استجمَع الإنسان الباب وراجع تبيَّن له المراد في هذا.
إذن؛ كونه معجوزًا عنه فتحصل تذكيته بما تحصل به تذكية الصَّيد وهو العقر، والعقر: هو القتل بما يُنهر الدَّم، سواء كان ذلك في رقبته ورأسه، أو كان في بطنه وأحشائه، أو كان في فخذيه ومؤخرته، فكيفما حصل إنهار الدَّم وعقره جازَ لِمَا جاء في الحديث لمَّا ندَّ بعير، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِهَذِهِ اْلبَهَائِمِ أَوَابِدُ كَأَوَابِدِ اْلوَحْشِ»، يعني: كاصُّيود المتوحِّشَة ولا تُصادُ إلَّا بالعقر. قال: «فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا، فَاصْنَعُوْا بِهِ هَكَذَا»، يعني ينتقل حكمه إلى حكم الصَّيد، فتحصل التَّذكية بقتله بالعقر على ما ذكر المؤلف وجاء في هذا الحديث وتقرر معنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَوْ تَرَدَّى بَعِيْرٌ فِيْ بِئْرٍ فَتَعَذَّرَ نَحْرُهُ، فَجُرِحَ فِيْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ جَسَدِهِ، فَمَاتَ بِهِ، حَلَّ أَكْلُهُ)}.
القيد الأول: التَّردِّي، قال (وَلَوْ تَرَدَّى بَعِيْرٌ فِيْ بِئْرٍ).
القيد الثاني: تعذُّر النَّحر، قال: ( فَتَعَذَّرَ نَحْرُهُ).
فلو كان من السهولة أن يُنزلَ له في البئرِ فيُذبَح أو يُنحَر، فلا يجوز إلا ذلك، ولكنَّ لو تردَّى في البئر ولم يُستَطع نحره، ويُخشى إن جلسنا حتى يُنزَل له أن يموت؛ فهنا نعتبرها في حكم الوحش الذي ندَّإذا أطلق عليه سهم أو رُميَ ببندقٍ فنهر دمه، فإنَّها تكون حلالًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باب الصيد.
كل ما أمكن ذبحه من الصيد لم يُبَح إلا بذبحه)}.
كتاب الصَّيد من الكتب المهمَّة.
الصيد في أصله حلالٌ، قال تعالى:ï´؟أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِï´¾[المائدة: 96]، وأذن الله -جَلَّ وَعَلَا- بتعليم الكلاب وأكل ما صادت كما جاء ذلك في سورة المائدة، ودلَّت عليه السُّنن.
ويُكرَه الصيدُ إذا كان فيه إلهاءٌ للإنسانِ وتضييع لوقته، وجاء في بعض الأحاديث «وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ» ، والله المستعان! فالناس الآن في غفلةٍ قبل أن يصيدوا، فهم في غفلاتٍ يتقلَّبونَ، عسى الله أن يوقظنا من الغفلات، وأن يُعيننا لِمَا يكون فيه الصَّلاحُ والخيرات.
وقد يحرُم الصَّيد، كأن يصيد الإنسان وهو مُحرمٌ، أو في حرمٍ، أو يصيد ما لا يحل له صيده، كأن يُمنَع الصَّيد لمصلحةٍ تتعلَّق بعموم النَّاس، أو في محلٍّ يُحمَى من الصَّيد حتى تكثر هذه البهائم وينتفع النَّاس منها بعدَ ذلك وحتى لا تنقطع؛ فيتعذَّر على النَّاس ما يصيدونه وينتفعون به، ففي هذه الحالة نقول: إذا كان فيه نحو من ذلك فإنه لا يجوز الصيد، ولكن من حيث الأصل فالصَّيدُ جائزٌ، وجاء الشرعُ بحلِّه والإذنِ فيهِ، وهو من الأكل الحلال والطَّيب الزُّلال الذي لا غضاضةَ على الإنسانِ فيه.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (كل ما أمكن ذبحه من الصيد لم يُبَح إلا بذبحه)، هذه المسألة أشرنا إليها قبلُ حتَّى يكتمل المعنى فيما مضَى، فأيُّ صيدٍ صِيدَ وبقيت فيه حياةٌ مستقرَّة فإنَّه ينتقل من كونه صيدًا يحلُّ بالعقرِ إلى كونه لا يحل إلَّا بالتَّذكية -التي هي الذَّبح في الحلقوم والمريء والودجين- على ما ذكرنا من تفصيل ذلك.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (لم يُبَح إلا بذبحه)، فلو مات بعد ذلك دون أن يُذبَح فلم يحل، ويخرج من هذا أنَّه لو لم يكن فيه حياةٌ مستقرَّة، فبمجرَّد أن صِيدَ وأمسكناه بدأت تذهب روحه شيئًا فشيئًا ثم مات؛ فهنا لم يكن منهم تقصير ولم يكن منها حياةٌ مستقرَّةٌ يُوجب تذكيتها؛ فتحل بذلك الذَّبح.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَا تَعَذَّرَ ذَبْحُهُ فَمَاتَ بِعَقْرِهِ،حَلَّ بِشُرُوْطٍ سِتَّةٍ)}.
قوله: (وَمَا تَعَذَّرَ ذَبْحُهُ)، يعني لو أنَّه ضرب بسهمه غزالًا فتدهدهت في جبلٍ، فوقعت بينَ جبلين في مكانٍ وعرٍ، ويرونها حيَّة تتحرَّك، حتى إذا وصلوا إليها وجدوها قد ماتت، فهذا صيدٌ تعذَّرَ ذبحه فمات يعقره فكان حلالًا. ومثله في الطُّيور ونحوها، ويدخل فيه ما ذكرنا من بهيمة الأنعام التي ندَّت فعُقِرَت فماتت فتحلُّ بذلك العقر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (حَلَّ بِشُرُوْطٍ سِتَّةٍ، ذَكَرْنَا مِنْهَا ثَلاَثَةٌ فِيْ الذَّكَاةِ)}.
الشُّروط الثلاثة التي ذُكرت قبل قليل هي:
- أهليَّة المذكِّي.
- أن يكونَ بمحدَّدٍ.
- أن يذكرَ اسمَ الله-جَلَّ وَعَلَا.
وهنا ذكر المؤلِّف تتمَّة الشُّروط التي تعتبر للصَّيدِ، فهي مكمِّلةٌ لِمَا مضى، فثمَّ شروطٌ ثلاثةٌ معتبرةٌ في كل شيء -فيما يُذكَّى وفيما يصادُ- وثمَّ شروطٌ ثلاثةٌ زائدةٌ خاصَّة بالصَّيدِ، فتُضمُّ إلى الأولى فتكون ستةٌ.
إذن لدينا حالين:
الأوَّل: ما يُكتفَى فيه بشروطٍ ثلاثةٍ، وهو في المُذكَّى.
الثَّاني: ما يحتاج إلى شروطٍ ستَّةٍ، هي شروط الذَّكاة ويُضاف إليها ثلاثة شروط أخرى سيذكرها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- هنا تباعًا.
{قال -جَلَّ وَعَلَا: (وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُوْنَ اْلجَارِحُ الصَّائِدُ مُعَلَّمًا، وَهُوَ: مَا يَسْتَرْسِلُ إِذَا أُرْسِلَ، وَيُجِيْبُ إِذَا دُعِيَ، وَيُعْتَبَرُ فِيْ اْلكَلْبِ وَاْلفَهْدِ خَاصَّةً، أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ لَمْ يَأْكُلْ، وَلاَ يُعْتَبَرُ ذظ°لِكَ فِيْ الطَّائِرِ)}.
يذكر المؤلف الشَّرط الرَّابع بعد الثَّلاثة الأولى التي هي: أهلية المذكي، والتسمية، وأن يكون بمحدَّدٍ؛ فيقول: (أَنْ يَكُوْنَ اْلجَارِحُ الصَّائِدُ مُعَلَّمًا)، التَّعليم شرطٌ في إباحةِ الأكلِ، وذلك لقول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ أَوْ كِلَابِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ فَخَشِيتَ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مَعَهُ وَقَدْ قَتَلَهُ فَلَا تَأْكُلْ»؛ لأنك لا تدري أصاد كلبك أم الكلب الآخر، وإذا كان كلبًا غيرَ مُعلَّمٍ فلا تدري أصادَ لنفسه أو صادَ لك، بخلاف المعلَّم فإنَّه إذا أُسِلَ فإنَّما يصيد لصاحبه، فتكون التَّسمية لها أثر، والقصد له أثر؛ فيكون هذا المعلَّم قد صادَ لصاحبه، فيُعتَبرُ كالآلة التي يُذبَح بها، وكالسِّكين التي يُقتَلُ بها؛ فلأجل ذلك لابدَّ أن يكون الجارح الصائد معلمًا.
ولو أنَّ شخصًا -مثلًا- كان بين يديه كلبٌ، ثم رأى صيدًا فأراه للكلب فذهب فصاده، فأدركَ هذا الكلبَ وأبعدَه وأخذَ الصَّيدَ؛ فلا يحل، لأنَّه وإن ذكرَ اسم الله، وإن أرسلَ الكلب، إلَّا أنَّ الكلبَ ليس بمعلَّمٍ، فلا يدري هل صادَ الكلبُ له أو صادَ لنفسِه، فلأجلِ ذلك افترقَ ما يتعلَّق بالمعلَّمِ من غيرِ المعلَّمِ.
كيفَ نقول هذا كلبٌ معلَّم أو هذا كلبٌ غير معلَّم؟
لعلَّ هذا أن يكون -بإذن الله جلَّ وعلا- في ابتداء الدَّرس القادمِ؛ لأنَّ الوقت انتهى، ولو ذكرناه يُمكن أن لا نستيطع إكماله، فيكون مُستهلُّ الدرس القادم -بإذن الله- وما يحصل به تعليم الصَّائدُ الجارحُ من الكلابِ والطُّيورِ والفرق بينهما.
أسألُ الله لي ولكم التَّوفيقَ والسَّدادَ، وشكرَ الله للجميع، وتقبَّل الله منَّا ومنكم صالحَ الأعمال، وأجرى الخيرَ على أيدينا، والصَّواب في علومنا وفهومنا، ونسألُ الله -جَلَّ وَعَلَا- ألَّا يجعلنا ممَّن يفوِّتونَ الحقَّ، ولا يضيِّعوه، ولايتقوَّلون على الله، ولا يُخلُّون بسنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنَّه جوادٌ كريمٌ، وبالإجابةِ جديرٌ، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمد.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختامِ هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}










رد مع اقتباس
قديم 2019-10-25, 17:16   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
Zoubir03
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك اخي الفاضل

و جزاك الله عنا كل خير










رد مع اقتباس
قديم 2019-10-25, 20:26   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة zoubir03 مشاهدة المشاركة
بارك الله فيك اخي الفاضل

و جزاك الله عنا كل خير

وفيك بارك الله أخي









رد مع اقتباس
قديم 2019-10-27, 21:34   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

https://benaa.islamacademy.net/files/media/feqh7/08.mp3










رد مع اقتباس
قديم 2019-10-27, 21:39   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الدرس الثامن



عُمدة الفقه (7)
الدَّرسُ الثَّامِنُ (8)
فضيلة الشيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، وحيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، وطلاب العلم والطَّالبات، أسأل الله أن يعليَهم في العلم، وأن يُظهرهم فيه، وأن يزيدهم منه، وأن يجعلهم في الخير دائمًا وأبدًا إلى يوم الدين.
{نشرع في هذه الحلقة من عند ما توقفنا عنه في الحلقة الماضية.
قال الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُوْنَ اْلجَارِحُ الصَّائِدُ مُعَلَّمًا، وَهُوَ: مَا يَسْتَرْسِلُ إِذَا أُرْسِلَ، وَيُجِيْبُ إِذَا دُعِيَ، وَيُعْتَبَرُ فِيْ اْلكَلْبِ وَاْلفَهْدِ خَاصَّةً، أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ لَمْ يَأْكُلْ، وَلاَ يُعْتَبَرُ ذ?لِكَ فِيْ الطَّائِرِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعدُ؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإيَّاكم من أهلِ الخيرِ والبرِّ والرَّشادِ، وأن يُعيذنا من طرقِ الغيِّ والبلاءِ والشرِّ والشَّيطانِ والفسادِ، وأن يحفظنا ويحفظَ العبادَ والبلادَ، وأن يُعقبنا الخير في الدِّين والدنيا، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريمٌ.
أيُّها الإخوة -طلبة العلم المتابعون لنا في هذا البرنامج المبارك بإذن الله جلَّ وعلا- كنَّا في المجلس الماضي استهللنا ما يتعلَّق بالكلام على أوَّلِ كتابِ الصَّيدِ، وهو مُتعلقٌ برمَّته وجملته بالبابِ الذي قبله -باب التَّذكية- وإنَّما ذكر المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ- في كتاب الصِّيد المسائل التي يختصُّ بها دونَ ما تقدَّم من تذكيةِ بهيمةِ الأنعام وما تجبُ له التَّذكية.
ذكرنا أنَّ من شروط الصَّيد المعتبرة: أن يكونَ الجارحُ الصَّائدُ مُعلَّمًا، وهذا التَّعليمُ قد جاء في دلالة الكتاب والسُّنَّةِ كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ» ، فوصفه بالتَّعليم، فدلَّ على أنَّه إنَّما يحلُّ بذلك الوصف وتلك الخصيصة، قال تعالى: ï´؟وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْï´¾ [المائدة: 4]، فاشترط في الكلاب والفهود والأسود أن تكون معلَّمةً.
ما هو ضابط التَّعليم؟
ضابط التَّعليم كما قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (مَا يَسْتَرْسِلُ إِذَا أُرْسِلَ)، فإذا أطلقته انطلق وما يعصي، وأن يرجِعَ إذا زُجِرَ، فإذا أوقِفَ وقفَ، وهذا يعرفه أهل هذه الجوارح بأصوات مخصوصة أو بأشياء محدَّدة، وأحيانًا ببعضِ العلامات إذا رأى صاحبه قد تعاطاها وقفَ، وسواء كان هذا في الطيور أو كان في الفهود والكلاب والأسود، فإذا أرسلَتْ استرسلَ وذهبَ، وإذا زُجِرتْ انزجرت.
قال أهل العلم: إنَّ التَّعليم يتأتَّى بشيئين يشترك فيهما جميعُ الجوارح الصَّائدة التي تقبل التَّعليم، وهما:
- إذا استُرسل استرسل.
- وإذا زُجر انزجر.
قال المؤلف: (وَيُعْتَبَرُ فِيْ اْلكَلْبِ وَاْلفَهْدِ خَاصَّةً، أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ لَمْ يَأْكُلْ)، يعني: أنَّ الفهودَ والأسودَ والكلابَ كلَّها تُوصف بأنها كلاب لأنَّها مكلَّبة، وبناءً على ذلك يقولون: إنَّه لابدَّ أن تكون ممَّا لا يأكل إذا صادَ، ويُفهَم من هذا أنَّه لو كان هذا الكلب يُزجَرُ فينزجر، ويُرسَل فيسترسل لكنَّه إذا صادَ أكلَ فلا يكون كَلبًا مُعلَّمًا، ولا يكون صيده مُباحًا، ولا يجوز تعاطي ذلك الصيد.
لِمَ فَرَقَ أهلُ العلم بيَن الكِلابِ والفهودِ وبينَ الطُّيورِ كالصقورِ والجوارح كالبازيِّ ونحوه في هذا الأمر؟
يقولون: إنَّ الطُّيورَ لا تقبل التَّعليم في مثل هذا، فلابدَّ أن تأكلَ، فلمَّا كانَ كذلك كانَ تعليمها بأن تسترسل إذا أُرسلت وتنزجر إذا زُجرت، ولكن الكلابَ والفهود والأسود إذا عُلمَت ألا تأكل من الطَّريدة والمصيدة فإنَّها لا تأكل، وهذا غالبٌ معلومٌ معروفٌ عندَ مَن يتعَاطى ذلك من البدو وأهلِ الصَّيدِ ونحوهم، وهم يَعرفون خصائص كثيرة تتعلق بذلك، ولأجل هذا قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الذي ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: «فَإِنَّ أَخْذَ اْلكَلْبِ لَهُ ذَكَاةٌ، فَإِنْ أَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ، فَإِنِّيْ أَخَافُ أَنْ يَكُوْنَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلى نَفْسِهِ»، فهذا هو المعتمَد والمعتبَر وهذا هو حديث عدي بن حاتم الذي في الصحيحين.
وجاء في بعض الأحاديث أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنْ كَانَ لَكَ كِلَابٌ مُكَلَّبَةٌ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ قَالَ ذَكِيًّا أَوْ غَيْرَ ذَكِيٍّ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ قَالَ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ» ، ولكن تُكُلِّمَ في هذه الزِّيادة، ولذلك كان القول المشتهر والمعتبر وهو مذهب الحنابلة وهو قول جمع من أهل التَّحقيق أنَّه يشترط ألَّا يأكل مِن ذبيحته، لأنَّ هذا هو حديث عدي، ولأنَّ هذا له حظٌّ من المعنى، ولأنَّ ما يُعارضه محل كلامٍ، وهذا هو الأحوط والأورع، فلذلك كان المصير إليه والقول به.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (اْلخَامِسُ: أَنْ يُرْسَلَ الصَّائِدُ لِلصَّيْدِ، فَإِنِ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ، لَمْ يُبَحْ صَيْدُهُ)}.
يُرسَل الصَّائدُ للمصيد، أمَّا إذا استرسل بنفسه فلا يكون صيدًا؛ لأنَّ في مثل هذه الصُّور لا تدري أكان استرسل لنفسِه أو صادَ لك، فلمَّا كان الأمر في هذه الصورة دائرٌ بين أن يكون صادَ لنفسه أو صادَ لغيره فتكون كالصُّورة الأولى ما إذا أكلَ؛ فإنَّ الصَّيد لا يحل، وإنَّا لا ندري هل صادَ لنفسِه أو لا، وبناءً على ذلك لم يكن مِن الصَّيد المتحقِّق ولم يكن ممَّا يحل، ولم تنطبق فيه الشُّروط، فبناءً على ذلك لا يصح، ولأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إذَا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ»، فتعلُّق الحكم بحصول الإرسال.
ففي بعضِ الأحوال يصيد ويذهب ويجيء، حتَّى إذا بقي إمَّا أن يرتاح ويشرب الماء فقد يرى الكلب طريدةً فيفزعُ إليها مباشرَة؛ فنقول: في مثل هذه الصُّورة لا يصح، حتى لو رأيته يسترسل وسمَّيتَ فلا يصح؛ فلابدَّ أن تزجره فينزجر ثم تُعيد الإرسال وتسمي، ويتعلق الحكم في مثل هذه الصُّورَة.
أما لو استرسل بنفسه ولم تشعر إلَّا وقد قارب صيدها أو طرحها سواء كان صقرًا أو بازيًّا أو كان كلبًا؛ فنقول
في مثل هذه الحال: هذا استرسل بنفسه ولم يسترسل بك، فلم تدرِ هل صاد لك أو أو صاد لنفسه، فلا يكون المصيد مباحٌ في مثل هذه الحال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (السَّادِسُ: أَنْ يَقْصِدَ الصَّيْدَ، فَإِنْ أَرْسَلَ سَهْمَهُ، لِيُصِيْبَ بِهِ غَرَضًا أَوْ كَلْبَهُ وَلاَ يَرَى صَيْدًا، فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يُبَحْ)}.
لابدَّ أن يكون الصَّائدُ قد قصدَ الصَّيدَ؛ لأنَّ التَّذكية بين يديك هي مقصودة لا محالة، ولا يحصل في ذلك اشتباه، لكن إرسال الجوارح ونحوها يشتبه، فأحيانًا يكون للتَّعليم، فيرسله ويعود، فأرسله مرَّة فإذا أمامه صيدًا، فاسترسل الصَّيد وترك الغرض الذي يُعلم عليه؛ ففي مثل هذه الحال نقول: لم يحل الصَّيد لو صَاده في مثل هذه الصُّورة، وذلك لاختلال شرطٍ من الشُّروطِ وهو قصدُ الصَّائد، فلم يحصل قصدٌ من الصَّائد فلا يحصل صحَّة للصَّيد، لأنَّ من الشُّروط أن يكون صادَ لك، أي تقصِدَ إرساله، لأنه هو سيسترسل إذا أرسلته، وإرسالك له بقصدِ الصَّيد؛ فإذا لم يكن منك قصدٌ فإنَّه لا يكون منه صيدٌ لك، وإنَّما يكون كأنه صادَ لنفسه.
إذن يظهر معنا قوله (أَنْ يَقْصِدَ الصَّيْدَ)، وسيأتي في الحديث «وَإِنْ خَالَطَهَا كِلاَبٌ مِنْ غَيْرِهَا، فَلاَ تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلى غَيْرِهِ»، مع أنَّك قد حصلَ منك قصد، لكن لا تدري أكلبُّكَ المعلَّم هو الذي صادَ أو لا.
قال المؤلف: (فَإِنْ أَرْسَلَ سَهْمَهُ، لِيُصِيْبَ بِهِ غَرَضًا أَوْ كَلْبَهُ وَلاَ يَرَى صَيْدًا، فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يُبَحْ).
كما قلنا في مسألة التَّعليمِ: إذا انطلقَ فصادَ صيدًا أو رجعَ بحمامةٍ، أو أصابَ أرنبًا أو غزالًا؛ فلا نقولُ من أنها حلالٌ لأنَّك لم تقصِد الصَّيد في مثل تلك الصورة، حتى ولو سمَّيتَ لأنَّك قصدتَّ التَّسمية على الغرضِ أو الكلبِ، وإنما الكلام أن يكون لك قصدٌ لهذا الطَّير أو هذا الغزال.
في بعض الأحوال يقصد الإنسان الطَّير، ويرسل كلبَه ويُسمِّي، لكن إذا رأيتَ غزالًا واحدًا، فلما أرسلته نفَجَت ثم برَزَت غزالٌ أخرى. فما الحكم؟
يقولون: إذ قصدتَّ الصَّيدَ وسمَّيتَ على الجارحِ فلا إشكالَ فيحل، لأن هذا مما يُبتلى به كثيرًا، فليس بالضَّرورة ذات الغزال، لكن بالضَّرورة أن تكون قاصدًا وأن تسمي، وأن يكون كلبك الذي أرسلته عليه.
{المقصود هو قصد الصيد أو قصد المصيد؟}.
قصدُ الصَّيد لا قصدُ المصيدِ، فلو قصدتَّ أن يُصيب هذا الغزال فأصاب وَعِلًا أو أصاب جَاموسًا بعدَه؛ فنقول: أنتَ قد أرسلته للصَّيد وسمَّيت، فأيُّها صادَ حلَّ ذلك ولا شيء فيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَتَى شَارَكَ فِيْ الصَّيْدِ مَا لاَ يُبَاحُ قَتْلُهُ، مِثْلَ أَنْ يُشَارِكَ كَلْبَهُ أَوْ سَهْمَهُ كَلْبٌ أَوْ سَهْمٌ لاَ يَعْلَمُ مُرْسِلَهُ، أَوْ لاَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سُمِّيَ عَلَيْهِ، أَوْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ مَسْمُوْمٍ يُعِيْنُ عَلى قَتْلِهِ، أَوْ غَرِقَ فِيْ الْمَاءِ، أَوْ وَجَدَ بِهِ أَثَرًا غَيْرَ أَثَرِ السَّهْمِ أَوِ اْلكَلْبِ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِهِ، لَمْ يَحِلَّ، لِمَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَأَمْسَكَ عَلَيْكَ، فَأَدْرَكْتَهُ حَياًّ فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، فَإِنَّ أَخْذَ اْلكَلْبِ لَهُ ذَكَاةٌ، فَإِنْ أَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ، فَإِنِّيْ أَخَافُ أَنْ يَكُوْنَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كِلاَبٌ مِنْ غَيْرِهَا، فَلاَ تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلى غَيْرِهِ، وَإِذاَ أَرْسَلْتَ سَهْمَكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ وَلَمْ تَجِدْ فِيْهِ إِلاَّ أَثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْهُ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيْقًا فِيْ الْمَاءِ، فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِيْ الْمَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكَ»)}.
هذه صورٌ بعدَ الصُّور الأولى، والمؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ- قرَّر الأصل وهو الشَّرط السَّادس ( أَنْ يَقْصِدَ الصَّيْدَ)، ثم ذكر صورة أخرى، وهي ألا يقصد صيدًا البتَّة، بمعنى أنَّه قصد تعليمه أو إصابة غرض فأصاب صيدًا؛ فلا يحل في هذه الصورة.
وهنا ذكر المؤلِّف صُورة فيها تجاذبٌ؛ وهي متى شاركَ في الصيد ما لا يُباح قتله، مثل أن يُشارك كلبه كلبًا آخر، فهنا وُجد سببٌ صحيحٌ وقصدٌ صحيحٌ ووُجد سببٌ غيرُ صحيحٍ ولا قصد؛ لأنَّ الكلب الآخر لم يقصد عليه، وبناءً على ذلك فإنَّ هذا تجاذبه أمران:
الأوَّل: أن يكون ماتَ بآلِتكَ التي ذكرتَ اسم الله عليها.
الثَّاني: أن يكون ماتَ بسببٍ آخر.
فلمَّا كان الأمر مُترددًا بينَ ذلك فإنَّه لا يحل، وهذه صورها كثيره، منها:
أن يشارك كلبَكَ كلبٌ آخر، فلا تدري هذه العضَّة مِن كلبكَ أو من كلبٍ آخر، لأنَّه ليس في كلِّ الأحوالِ أن تبقى مطاردة الصَّيد أمام ناظريكَ، أو ألَّا يغيبَ عنك، فأحيانًا يُظلِم عليها ليلٌ، وفي بعض الأحوال تختفي وراء شجرٍ أو جبلٍ صغيرٍ أو أَكَمٍ وحَجَرٍ، أو يعرضُ لك ما يعرضُ، أو تكون في منخفضٍ من الأرضِ فلا تراها، وجرت العادةُ أيضًا أنَّه إذا استرسل كلبٌ أنَّ ما جاوره من كلبٍ ونحوه يدخل معه إما معينًا أو منافسًا، وهذا مما اعتادت عليه البهائم، فبناء على ذلك هذا ليس بقليل؛ بل هو كثيرٌ، حتى في السِّهام والرَّمي والبنادق، وهذا يعرفه الذين يحرصون على الصَّيدِ ويتبعونه، أنَّهم ربما بقوا في مكانٍ متقاربين لا يرى أحدهم الآخر، فيرمي هذا ويرمي هذا ولا يدري الذي أصاب المرمي، فهنا يحل أو لا يحل؟
قال المؤلف: (أَنْ يُشَارِكَ كَلْبَهُ أَوْ سَهْمَهُ كَلْبٌ أَوْ سَهْمٌ لاَ يَعْلَمُ مُرْسِلَهُ)، فبناءً على ذلك لا تدري أصابَ سهمُكَ أو أصابَ سهمُهُ، فلا يحلُّ لك، لأنَّك لا تدري أذكر اسم الله أو لم يذكر اسم الله -جَلَّ وَعَلَا- وشدَّدَ الحنابلة في باب الصُّيود على التَّسمية، فلا يُعذَرُ فيها بالنِّسيان، فلابدَّ أن تتيقَّنَ أنَّكَ ذكرتَ اسم الله -جَلَّ وَعَلَا-، وحتى ولو كان قد سمَّى الله عليه فيكون حقٌّ لصاحب السَّهم.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: ( أَوْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ مَسْمُوْمٍ يُعِيْنُ عَلى قَتْلِهِ)، فإذا أصابه بسهمٍ مسمومٍ فإنَّ هذا الصَّيد قُتِل، ولكن هل قُتل بدخولِ السَّهم ِفي البدنِ أم بامتزاجِ الدَّم والبدن بهذا السُّم؟
الموتُ بالسُّمِّ هو موتٌ بسببٍ غير محِلٍّ للصَّيدِ، فلو تركتَ سُمًّا فأكلَ منه صيدٌ -غزال ونحوه- لم يجُزْ لكَ أن تأكلَه، فبناء على ذلك لا نقطعُ في هذه الحالِ أنَّ هذا السَّهم هو الذي حصل به القتل بدخوله في بدنِ هذا الصَّيد، فقد يكون الذي قتله هو السُّم؛ فكان الحُكْمُ متأرجحٌ بينَ مُبيحٍ وبين حاظرٍ، بين حلالٍ وبينَ حرامٍ؛ فغُلِّبَ جانب الحرام وأُخذَ جانبُ الحيطِ.
قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيْقًا»، يعني إن ضربته بالسَّهم ثم سقط في الماء، فإنَّك لا تدري أموته كان بالماء أو كان بالسَّهم الذي ذكرتَ اسم الله عليه، فبناء على ذلك أيضًا لا يحل الصَّيد في مثل هذه الصُّورة.
ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- حديث عدي بن حاتم، وقصدَ أن يأتيَ بأجمع ما في هذا الباب من أحاديث، فكان حديث عدي بن حاتم هذا الذي في الصَّحيحين، وهو من تمام التَّوضيح والاستدلال، وفيه إشارةٌ إلى صورِ هذه المسائل كلها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ الْمُضْطَرِّ
وَمَنِ اضْطُرَّ فِيْ مَخْمَصَةٍ، فَلَمْ يَجِدْ إِلاَّ مُحَرَّمًا، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ)}.
لمَّا قرَّرَ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- الأطعمة المباحة والمحرَّمة؛ وذكر ما يتعلَّق به حكم التَّذكية وما لا تنفع فيه ذكاة، فَثَمَّ أشياءٌ حلالٌ وثَمَّ أشياءٌ حرامٌ، وأيضًا ذكر في الصَّيد شروطًا، منها ما تكتمل فيه الشُّروط فيصيرُ حلالًا، ومنها ما لا تكتملُ فيكونُ حرامًا؛ فهذا المحرَّم لا يجوز للإنسان تعاطيه إلَّا في حالٍ واحدة وهي حال المضطر.
وذكر الفقهاء بعض القيود في الصَّيد، منها:
- ألَّا يكون الصَّائدُ مُحرِمًا.
- ألَّا يكونَ في حرمٍ، لأنَّ صيدَ الحرمِ لا يجوز ولا يحل.
ولمَّا بيَّن الشَّارع ما يكون حلالًا وما يكون حرامًا من هذه الأطعِمَةِ، وما يحلُّ بالتَّذكية وما لا تنفع فيه التَّذكية فيكون حرامًا، وبيَّن الصُّيود المحرَّمة؛ أرادَ أن يُبيِّنَ متى تحلُّ للإنسان، فإنَّها لا تحلُّ للإنسان بحالٍ من الأحوال، فمَن تعاطها فهو آثمٌ، ومَن أكلَها فقد أكلَ حرامًا وغذَّى نفسه بالحرام ودخل في الوعيد عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تعاطي هذه الآثام.
ويُستثنَى من ذلك حالٌ واحدة وهي حال المضطر، قال تعالى: ï´؟ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِï´¾ [البقرة: 173]، فدلَّ ذلك على أنَّ المضطر مرفوعٌ عنه الحرج، وهذا كما أنَّه مأخوذٌ من هذا الدَّليل بخصوصه فإنَّه مأخوذٌ من عمومات الشَّريعة في أنَّ الضَّرورة تُبيحُ المحظور، وإجماعُ أهلِ العلم مُنعقدٌ على ذلك؛ ولأنَّ هذا راجعٌ إلى قاعدةٍ شرعيةٍ شريفةٍ وهي أنَّ حفظَ النُّفوسِ مُقدَّمٌ على الوقوعِ في الحرام، فالأنفس المعصومة واستنقاذها وحفظها وعدمِ إهلاكها وتخليتها للهلاك هذا مِن أعظم ما يجب على الإنسان، ولذلك لم يَجُزْ للإنسان أن يقتلَ نفسَه، فقاتل نفسه في النَّار، ومَن قتلَ مسلمًا فهو متوَعَّدٌ بالوعيدِ العظيمِ؛ فكذلك أيضًا الذي يجوع فيجدُ حرامًا فإنَّ تعاطيه لهذا الحرام أخفُّ من إتلافِ نفسه والتَّخلية بينه وبين الموت والهلاك. وهذا محلُّ إجماعٍ.
وإذا تقرَّرَ هذا الإجماع فنأتي إلى تفاصيل هذه المسائل، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنِ اضْطُرَّ فِيْ مَخْمَصَةٍ).
المخمصة هي المجاعة، سواء كانت هذه المجاعة للشخص في خصوصه كأن يسير في أرضٍ فلاةٍ فلا يجدُ شيئًا حتى يُشفِيَ على الهلاكِ، وهذا كثيرٌ في بُلداننا لأنَّها صحراءٌ وقاحلةٌ ولا يجد فيها شيء، بخلاف كثيرٍ من بلدانِ المسلمين التي يوجد فيها الغابات ولا ينقطع الإنسان عن أن يجدَ شيئًا يأكلَه، لكنَّه قد يتأتَّى في هذه الحال بكثرةِ في مثل هذه البقاع وقد يتأتَّى في غيرها في بعض الأحوال؛ سواء كانت هذه المجاعة خاصَّةٌ بالإنسانِ أو كانت عامَّة، وذلك أن تنزلَ بالمسلمين مجاعة في هذا البلد، أو يحلَّ بهم الفقرُ والفاقةُ؛ وهذا أمرٌ مرَّ على العصورِ كثيرًا، واليوم مع كثرة النِّعم ومع ما أوتيه النَّاس من الخيرات وأُغدقَ عليهم من الرَّحمات يجب ألَّا يتناسوا ما كانوا عليه وما جرى على غيرنا وما مرَّ على أسلافنا الأقربين والأقدمين،.
وعلى سبيل المثال: كانت الفاقةُ في بلداننا ظاهرةً، وكان الفقرُ فيها مُدقعًا، وكان النَّاس يُشرفون على الهلكَةِ، وكانوا يقتتلونَ على التَّمرةِ، وكان الأمرُ شديدًا والبلاءُ في ذلك عريضًا، وكان الإنسان يتغرَّبُ عن وطنهِ لا يدري أيرجع إليه أم لا يرجع، ويبقى السَّنوات الطِّوال لا يلوي إلا على ما يملأ به جوعته ويسدُّ به رمقه، ويترك ضوعةً أهلًا وعيالًا لا يدري ما الله فاعلٌ فيهم؛ فهذا أمرٌ موجود، وإذا تذكَّره الإنسان تذكَّر فضلَ الله عليه بما انقلبَ إليه حالُ النَّاس وبما آلَ إليه أمرهم، وهذه نعمةُ الله علينا يجبُ أن نراعاه، قال تعالى: ï´؟وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌï´¾ [إبراهيم: 7]، والله -جَلَّ وَعَلَا- يقول في كتابه: ï´؟فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَï´¾ [الأنعام: 44] ؛ فأحيانًا يكون انفتاح النَّعم نوعٌ من الاستدراج، فنخشَى أن نكونَ ممَّن انطبقَت عليهم هذه الآية! نسيانٌ للذِّكر والخيرِ والهُدَى، وعدمُ الحرصِ على الطَّاعاِت والمحافظةِ على الواجباتِ، وانفتاحٌ للشَّهوات؛ فنخشَى أن يتحقَّقَ الوعيد وأن يلحقنا البلاء، نسأل الله أن يحفظنا ويحفظ المسلمين.
وكلٌّ في بلاده يعرفُ مِن أحوالهم السَّالفةِ أو بعضَ ما يحتفُّ بهم مِن الأمورِ المعاصرة ما يعرف فيه حالِ الجوعةِ والمجاعةِ والمخمصةِ وغيرها، وقد ذُكر في التَّاريخ أشياء عظيمة تهول لها العقول، حتى ذكَرَ بعضهم أنَّه ربَّما في الوقتِ الواحد على أكثر من ثلاثمائة جنازة، وحتى عطبت المدن كبغداد وغيرها من كثرةِ الموتَى فيها، وهذا ذكره كثيرٌ مِن المؤرِّخين، مع أنَّ بلاد العراق وبغداد من أكثر البلاد خصوبةً وماءً وعمارةً وحضارةً وخيرًا على مرِّ التأريخ، وهذه بلادُ أفريقيا وهي معروفةٌ بكثرةِ خيراتها وبهائمها ونعمها وصيدِها ومائها وخضرتها، ومع ذلك تحلُّ فيها الآن المجاعة، والذي حلَّ هنا وهنا يُمكن أن يحل في بلاد غيرها، ويُمكن أن يحلَّ علينا؛ فيجب أن نحفظ ذلك.
والفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تعالى- نبَّهوا على المسائل كلِّها، حتى ما لا يحصل إلَّا في أحوالٍ خاصَّة، فلذلك قال المؤلف (وَمَنِ اضْطُرَّ فِيْ مَخْمَصَةٍ، فَلَمْ يَجِدْ إِلاَّ مُحَرَّمًا، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ)؛ إذن أكل المحرَّم جائزٌ في حالِ المخمصةِ للآية ï´؟فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِï´¾ [البقرة: 173]، وهنا القيد في قوله ï´؟غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍï´¾، ولأهل العلم فيه كلام كثير:
- منهم مَن يقول: هو الخروج على السُّلطان، فالبغاة الذين خرجوا حتى احتاجوا واشتدَّت بهم الفاقة؛ فلا يجوز لهم أكل المحرم.
- ومنهم من يقول: هم مَن كانَ فيهم عدوانٌ وظلمٌ كقطَّاع الطَّريق وغيرهم.
- ومن من يقول: أنَّ قوله: ï´؟غَيْرَ بَاغٍï´¾ يعني: لهذه المحرَّمات، وقوله: ï´؟وَلَا عَادٍï´¾، يعني: بالزِّيادة في أكلها؛ وكلُّ هذه المعاني صحيحة وجرى عليها كثيرٌ من أهل التَّحقيق في التفسير.
إذن؛ إذا حلَّ له أن يأكل، فما القدر الذي يحل له؟
الفقهاء كلامهم في ذلك دقيقٌ؛ هل إذا حلَّ له أكلُ الميتة فهل له حدٌّ لذلك أو لا؟
يقولون: عندنا أمران فيهما الإجماع، وأمرٌ محلُّ تردُّدٍ.
- أكلُ ما يسدُّ رمقَه ويدفعُ عنه الهلكَة: هذا جائزٌ بالإجماعِ ولا يجوز له أن يترك نفسه ويخلِّها حتى تهلك.
- ما زادَ عن الشِّبعِ: لا إشكالَ أنَّه محرَّم، لأنَّ مَا زادَ عن الشِّبع في الحلال يُمنَع منه لأنَّه يضر بالإنسان؛ فكيف بما يكون محرَّمًا.
إذا أكلَ وسدَّ رمقَه؛ فهل له أن يأكلَ حتى يشبع َأو لا؟
فهذا هو محل التَّردُّدِ والكلام؛ فالحنابلة يقولون: لا يأكل إلَّا ما يسدُّ رمَقَه؛ لأنَّ هذا هو ما يندفع به الاضطرار، وما زاد على ذلك فلا، فيعود الأمر إلى ما كان من أنَّ هذا أكلٌ محرَّمٌ، وهذا هو قولُ جمعٍ من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد جاء عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال في قوله ï´؟غَيْرَ بَاغٍï´¾ يعني: غير آكلٍ حتى الشِّبَع، فاستدل بهذا الحنابلة؛ ولأنَّ هذا القول أحوط.
فإن قال قائل: الذي حلَّ به من الاضطرار الآن يُمكن أن يحل به في آخر النَّهار أو من الغد!
نقول: يُمكن أن يحمل معه تحسُّبًا لدفعِ هلكتِه أو ما قد يجدُّ له.
وإذا تحقَّقَ أنَّه لا يجد شيئًا فإنَّ هذا يدخل فيما يسدُّ الرَّمَق وما يحفظُه من الهلكة فيكون مباحٌ؛ لكنَّ الأصل أنَّه لا يأكل إلَّا ما يسدُّ رمَقَه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ وَجَدَ مُتَّفَقًا عَلى تَحْرِيْمِهِ وُمُخْتَلَفًا فِيْهِ، أَكَلَ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيْهِ)}.
هذا من باب ارتكاب أدنى المفسدتين لاجتناب أعلاهما.
قوله: (وَإِنْ وَجَدَ مُتَّفَقًا عَلى تَحْرِيْمِهِ وُمُخْتَلَفًا فِيْهِ) على سبيل المثال: التِّمساح، فعند الحنابلة أنَّه محرَّم، وعند الشَّافعيَّة وجمعٌ من الفقهاء مُباح؛ فأن تأكل هذا التِّمساح خيرٌ من أن تأكل جيفة ميتة، وهي التي بإجماع أهل العلم محرَّمة، قال تعالى: ï´؟إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِï´¾ [البقرة: 173] .
وعلى سبيلِ المثال: أن يأكل نيصًا -وهو حيوان فيه قبحٌ ويأكل الأشجار ونحوها- فبعضهم أحلَّه، أو يأكل ثعلبًا، ومرَّ بنا أنَّ الحنابلة يختلفون في أكل الثَّعلب؛ فأن يأكل نيصًا أو ثعلبًا خيرٌ من أن يأكل خنزيرًا.
إذن؛ ما هو مختلفٌ فيه خيرٌ مما هو متفقٌ على تحريمه، وبناء على ذلك فما قويَ فيه الخلافُ من القول بإباحته أكثر ممَّا قلَّ فيه الخلاف، فهذا فرعٌ عن هذه القاعدة ومندرجٌ في معناها ومشتملٌ عليه كلام المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
والتَّفاوت في المتفق عليه والمختلف فيه ظاهرٌ؛ لكن درجات الاختلاف إنَّما يعرفها خاصَّة النَّاس من الفقهاء وممَّن يُدقِّقون هذه المسائل؛ فلأجلِ ذلك قد تفوت على عوامِّ النَّاس ودهمائهم، ومن تأتَّى له العلم بذلك تعلَّق به الحكم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ طَعَامًا لِغَيْرِهِ، بِهِ مِثْلُ ضَرُوْرَتِهِ لَمْ يُبَحْ لَهُ أَخْذُهُ)}.
إذا لم يجد هذا المضطر إلَّا طعام الغير؛ وهذا في الغالب في المجاعة العامَّة أو فيمن كانا مصطحبين بعضًا في طريقٍ أحدهما معه متاعه والآخر ضاعَ متاعه أو فنيَ؛ فهل له أن يأخذ طعام غيره؟
يقول المؤلف: (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ طَعَامًا لِغَيْرِهِ، بِهِ مِثْلُ ضَرُوْرَتِهِ)، إذن هذا الذي معه في هذه المجاعة -سواء كانت المجاعة عامَّة أو كانا صاحبين في فلاة- فننظر إلى هذا الذي معه طعام؛ إن كان مثل حالته فليس هذا بأولى مِن نفسه، فما معه مِن طعامٍ هو أحق به، وحفظه لنفسِهِ أولى مِن حفظه لغيره، ولم يجُزْ لهذا الغيرِ أن يتسلَّطَ عليه فيأخذه منه؛ لأنَّه إن كان يأخذ لأجل الضَّرورةِ فما بهذا من الضَّرورةِ مثل ما بك، وإن كان ذلك للملكِ فهو مالكٌ وأنتَ لستَ بمالكٍ، فكان المالكُ أحقُّ.
والحال التي يُقابلها وهي المفهومة من كلام المؤلف: أنَّه إذا لم تكن به مثل تلك الضَّرورة، كأن يكون هو قد أكلَ عن قُربٍ، أو هذا فيه قوَّة وشباب وذاك فيه ضعفٌ وشيبة، فسرعة حاجته وقُرب هلكته أسرع؛ فنقول يجب أن يأخذ منه في هذه الحال، ويجب على هذا أن يُعطي، ولا يجوز له أن يتركه، وستأتي المسألة التي يذكرها المؤلف بعدها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ، أَخَذَهُ مِنْهُ بِثَمَنِهِ، فَإِنْ مَنَعَهُ مِنْهُ أَخَذَهُ قَهْرًا، وَضَمِنَهُ لَهُ مَتَى قَدِرَ)}.
هذه حالٌ مقابلةٌ للحالِ الأولى التي بدأنا فيها، وهي إذا كان مستغنيًا عنه، فيأخذه ولا شك ولكن يدفعه مقابله، فإن كانَ هذا المقابل معه بذلِه، وإن لم يكن معه لزم ذمَّته، فمتى ما قدرتَ على ردِّ هذا الأمر أو ما يُقابله من ثمنٍ فإنَّه يلزمكَ، لأنَّكَ أخذتَّ حقَّه بغيرِ رضًى منه لخصوصِ الاضطرار، فإذا أخذته فحقُّه لم يذهب إذا ذهبَ الاضطرار، فحيثما وجدتَّ مالًا أو وجدتَّ ما تردُّ به ما يُقابل ما أخذت فإنه واجبٌ عليه.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ مَنَعَهُ مِنْهُ أَخَذَهُ قَهْرًا، وَضَمِنَهُ لَهُ مَتَى قَدِرَ)، يعني إذا قال له لا أبيعك، ولا أعطيك!
فنقول في مثل هذه الحال: الأمرُ دائرٌ بينَ أن يأخذَ هذا المالَ مِن صاحبه وبينَ أن يتركَ نفسَه حتى تهلكَ، وحفظُ النَّفسِ أوجبَ وأولى مِن الاستيلاء على مالِ الغير، وهذا المالك يجب عليه أن يُعينَ غيره وأن يُنقذَ المعصوم، فكانَت مغالبته على هذا الطَّعام صحيحة، ولذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ مَنَعَهُ مِنْهُ أَخَذَهُ قَهْرًا)، حتى ولو أفضى ذلك إلى المغالبة والممانعة، ولكن حقُّه في العوض ثابتٌ، فمتى ما قدر عليه أعطاه إيَّاه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ قُتِلَ الْمَضْطَرُّ، فَهُوَ شَهِيْدٌ، وَعَلى قَاتِلِهِ ضَمَانُهُ)}.
يعني لمَّا منعه قلنا يأخذه قهرًا، فصار بينهما حراكٌ وحرابٌ ومقالتةٌ ومدافعةٌ، والغالب أنَّ مَن كانت هذه حاله أن يكون في حال ضعفٍ، فأسرع ما تسرع إليهم الهلكةُ والموتُ؛ فلو قُتل هذا المضطر فهو شهيد، لأنَّه قُتل دون نفسه، فهو صدق عليه قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ نَفْسِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» .
قال المؤلف: (وَعَلى قَاتِلِهِ ضَمَانُهُ)، هذا الذي تسبَّبَ في قتله لحقه ضمان ذلك.
والعكسُ بالعكسِ؛ وهو مفهومٌ من كلام المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- وهو: (وَإِنْ قُتِلَ الْمَانِعُ، فَلاَ ضَمَانَ فِيْهِ)، المانع الذي منع الطَّعام أن يبذله لو قُتِلَ لا ضمان فيه، لأنَّه فعلَ ما لا يسوغ له فعله، والقتال في مثل هذه الحالة مثل دفع الصَّائل، فإنَّ الصَّائلَ -المجرام أو الحرامي- لو اندفعَ إليكَ فدفعته حتَّى مات فلا شيءَ عليك، فكذلك مدافعة هذا المانع مدافعةٌ صحيحةٌ لأنَّه مخطئٌ، وبناء عليه لو آلَ أمره إلى جناية فسببُ الجنايةِ صحيحٌ ومباحٌ؛ فلا تكون الجناية مضمومنةً ولا على الجاني شيء في ذلك.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ يُبَاحُ التَّدَاوِيْ بِمُحَرَّمٍ، وَلاَ شُرْبُ اْلخَمْرِ مِنْ عَطَشٍ)}.
التَّداوي له أنحاءُ يذكرها الفقهاء في كتاب الجنائز، فيذكرون أحكام المريض ومقدمات الموت، ويذكرون منها أحكام التَّداوي ويُطيلون في ذلك، هذا من حيث أصل التَّداوي ومشروعيَّته واستحبابه، وهل يجب أو لا يجب؛ فلهم في هذا كلام:
- فمنهم مَن يجعله على الإباحةِ وقد ينتقلُ إلى الاستحبابِ.
- ومنهم مَن يجعله أصالةً على الاستحبابِ.
والكلام هنا في التَّداوي بالمحرَّم هل يجوز أو لا يجوز؟
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ يُبَاحُ التَّدَاوِيْ بِمُحَرَّمٍ)، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتَدَاوَوْا وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ» ، ويقول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا» .
فإن قال قائل: قد يُجرَّب الشِّفاء ويُعرَف الأثر، ونرى في ذلك مثلًا إذا تعاطَى هذه السُّموم فيُشفَى.
فنقول: سواءٌ كان المنفيُّ هنا أنه الشِّفاء الشَّرعي الصَّحيح، أو ظهرَ أنَّه شفاء؛ فإنَّه داءٌ وإنَّه بلاءٌ.
وعلى كلِّ حالٍ في كلا الحالين لا يجوز للإنسان أن يتعَاطى حرامًا في التَّداوي، وكل ما كان من التَّداوي بالمحرَّمات ليس بجائز.
أمثلة:
- الذين يتداووا بسموم الحيَّات ونحوها لا يجوز لهم ذلك؛ لأنَّها حرام باعتبارِ أنَّ هذه السُّموم نجسة -كما تقدَّم معنا.
- ممَّا يحصل في هذه الأوقات من التَّداوي بشحومِ الميتاتِ أو الخنزيرِ ونحوه؛ فهذا تداوٍ بحرام، ولا يكون جائز في مثل هذا الحال.
والكلامُ في شيءٍ واحدٍ وهو أن يشربَه أو يطعمَه، لكن لو انكسرَت رجلَه -مثلًا- فربطها بجلدٍ نجسٍ فلا شيء فيه، لكن محلَّ الكلامِ في التَّداوي الذي هو طعامٌ أو شرابٌ.
وينبغي التَّنبُّه لذلك، ويوجَد مِن الأخلاط المعاصرِة والترَّكيبات مَا أصلها محرَّمٌ؛ فينبغي أن يُتنبَّه لذلك، وأن يحفظ الإنسان نفسِه من تَعاطي التَّداوي بالحرام لِمَا سمعناه من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولِمَا قرَّره الفُقهاء مِن منع ذلك وبيانِ حرمته.
والكلام في مثل هذا يطول، وفيه تفاصيل وتشعُّبات، وفيه عسرٌ، وتدخل فيه مسائل كثيرة يتعاطاها النَّاس اليوم، ولكن هذا ليس محل الكلام، فهذا الدَّرس هو درسٌ تأصيليٌّ، ودرسٌ يُبينُ لك عن أصول المسائل، وتفاريع هذه المسائل تنبني على فهمك للأصل، فإذا تقرَّرَ عندكَ الأصل فمع الزَّمان وإعادة هذا الكتاب وما هو أوسع منه والدُّخول في التَّفاصيل فيكون مناسبًا على مَن أصَّلَ الأصلَ الأوَّل، وفهم مبنى الأسئلة، فيتعلَّقُ بذلك ظهور هذه المسائل ووضوحها.
{أحسن الله إليكم يا شيخ.
مِن المسائل التي قد تكون مُنتشرة ولها علاقة بالتَّداوي بمحرَّم: حلِّ السِّحر بالسِّحر. هل فيه إشكال؟}.
حلُّ السِّحر بالسِّحرِ له جانبان:
ïƒک الجانب الأوَّل: الحكم مِن حيثُ الشَّرع.
ïƒک الجانب الثَّاني: النَّفع مِن حيثُ الوقوع والحال.
فمن حيث الشَّرع: فقد جاء الشَّرع بمنع ذلك، ومنعُ ذلك جاء في الأحاديث التي ذكرناها «فَتَدَاوَوْا وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»، والسِّحرُ أشدُّ الحرام، فإنَّه شِركٌ بالله -جَلَّ وَعَلَا- قال تعالى: ï´؟وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْï´¾ [البقرة: 102]، فدلَّ ذلك على حرمته.
وقول السَّلف: "لا يحلُّ السِّحرَ إلَّا ساحرٌ"، يعني أنَّ فعل هذا السِّحر غيرُ جائزٍ ولا مشروعٍ، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، وهؤلاء السَّحرة لا يتأتَّى لهم السِّحر والوصول لهذه المنزلة إلَّا بفعل أشياء مُكفِّرة؛ فإتيانهم على هذه الحال هو إقرارٌ لهم على ذلك، ناهيك أنَّهم يأمرونهم أيضًا بما هو محرَّمٌ وبما هو شركٌ، وبما هو ضلالٌ وبلاءٌ.
ولأجل ذلك قال جماهيرُ أهلِ العلم، وهو القول المعتبَر وعليه التَّحقيق: أنَّ ذلك ليس بجائزٍ ولا صحيح.
حتى وإن نُقلَ عن بعض الحنابلة، ولكن في هذه المسألة من الاستدراك والقول ما هو مُستقرٌّ عندهم في محلِّه، وقول أهل التَّحقيقِ عندهم فيه.
أمَّا من جهة الواقع: أنَّ السَّحرةَ لا يزيدون النَّاسَ إلَّا بلاءً، ولا يُفتَح عليهم إلَّا باب الوهم، ولا يُخلِّصوهم إلَّا من الخير، ولا يزيدوهم إلَّا من الشَّرِّ.
وينبغي أن يُعلَم أنَّ إصابة الإنسان بالسِّحرِ هو كإصابته بأي مرضٍ من الأمراضِ، فهذه الأمراض منها ما هو يسيرٌ ومنها ما هو عظيمٌ، والسِّحر كذلك، فكون الإنسان مصابٌ بمرضٍ يبقَى معه طيلة حياته كأنَّه مصابٌ بالسُّكري، أو مصابٌ بالسَّرطان، وليس إصابة الإنسان بالسَّرطان بأقل من إصابته بالسِّحر، فإصابةُ السَّرطانِ أعظم في كثيرٍ من الأحوالِ، فكما أنَّ الناس يصبرون على مثل هذه الأمراضِ، ويتداووا بأسبابٍ قد تمنع المرض وترفعه، وقد تؤجِّله، وقد تجعله على حالٍ يبقَى لا يزيد ولا ينقُص، فكذلك العلالجات التي يُدفَع بها السِّحر من الرُّقَى ونحوها قد تدفع وترفع، وقد تمنع زيادته، وقد لا تُجدي عليه.
وكثيرٌ ممَّن ذهبوا إلى هؤلاء لا يزدهم إلا بلاء ووهمًا، فلا ناحية الشَّرع تُجدي على ذلك، وجهة الواقع تفيد في ذلك.
تبقى مسألة: في بعض أحوال المسحورين تصلُ بهم إلى أمورٍ معيَّنةٍ، فهل يُمكن أن يأخذوا بقولِ مَن قال بصحَّة حلِّ السِّحر بالسِّحر ونحوه؟
نقول:
أولًا: يجب أن يُعلَم أنَّ الدُّخول في هذه المسائل هو قولٌ وإفتاءٌ في العلمِ، وأنَّ هذه المسائل من أعظمِ المسائل مِن جهةِ أنَّها شركٌ وإيمان؛ لأنَّ أصلَ السِّحر لا يتأتَّى إلَّا بالشِّركِ بالله -جَلَّ وَعَلَا.
ثانيًا: القول في هذه المسائل هو افتياتٌ على أهل العلم وعلى قول الله وقول رسوله، قال تعالى: ï´؟وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَï´¾ [البقرة: 169].
ثالثًا: القول في هذه المسائل هو تغريرٌ بالنَّاس، ربَّما يتيحُ له أن يدخل على هذه الكهوف المظلمة التي تزيد الإنسان في التَّخبُّط والأوهام والجهالات ونحوها.
فلو افترضنا شيئًا من ذلك فهذه مسائل خاصَّة يُرجَع فيها إلى أهل العلم الرَّاسخين، وقد يروا فيها بخصوصِهَا ما يليق بها مِن ذا أو ذاك، فلا يجوزُ تداول القول بجواز حلِّ السِّحر بالسِّحر، أو التَّسهيل فيه والتَّهوين منه، فالذين قالوا به على وجهٍ ولهم في ذلك تفسيرات، وفيه إشكالات وعليه إيرادات، فلا ينبغي الاسترسال والتَّسويغ لمثل هذه الأمور، وما أكثر انجراف النَّاس إلى الشُّرور وإسراعهم إليه، وما أقل مَن يحفظ دينه ويخاف على نفسه، ويصبر على بلائه، ويرجو رحمة ربِّه.
لعلَّ الحديث ينتهي عند هذا، وإن كان الحديث في مثل هذا يطول، ولكن في هذه الإشارة ما يُغني عن كثيرٍ من العبارة، أسأل الله لي ولكم دوام التَّوفيق والسَّداد، وللحديث بقيَّة وإن كانت مسألة يسيرة، لكن لا نريد أن نزيد على الوقت المسموح لنا، أسأل الله لي ولكم التوفيق والسَّداد.
شكر الله لكم أيُّها الإخوة والأخوات من طلاب والطَّالبات، وشكر الله لهذه المؤسسة العامرة البناء العلمي، أسأل الله أن يجزيهم خيرًا، وأن يجزيهم جزاء ما أتاحوا لنا من اللقاء بالطَّلبةِ والإفضاء إليهم، وهي بمثابة المدارسةِ والمشاركة، وإن كنتُ لستُ من أهل العلم المحققين، ولا من أهل العلم المفتين، وإنَّما هي مراجعة، أسأل الله أن يجنِّبنا الخلل، وأن يُعيننا على الحق والصَّواب، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريمٌ، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.










رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 10:38

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2023 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc