رابعا : حكم هذه المسألة :
اختلفت الأقوال فيها على قولين :
القول الأول :
لا يقع شيء من الطلاق ، لا المُنَجَّز (وهو الطلاق الحالي المباشر) ، ولا المعلَّق (وهو طلاق الثلاث) . وهذا اختيار ابن سريج الشافعي ، الذي نسبت إليه المسألة ، وإن كان بعضهم أنكر صدور هذا القول عنه ، وتابعه كثير من فقهاء الشافعية عليها ، بل وعزاه في "فتح القدير" إلى أكثر الحنفية ، ونقله صاحب "
مجمع الأنهر" (1/414) عن "المبسوط" ، وأنكر على من قال بغير ذلك .
دليله :
أنه لو وقع المنجز بقوله :
أنت طالق . لوقع المعلق قبله بحكم التعليق ، ولو وقع المعلق – طلاق الثلاث – لم يقع المنجز ؛ لأنه إذا وقع عليها الثلاث ، فلا يمكن إيقاع الطلقة المنجزة ، لأنها قد بانت ، قالوا : وهذا يسمى " دَوْر " في اصطلاح المناطقة ، يلغي حكم كل طلاق يصدره قائل هذه العبارة بعدها .
القول الثاني :
وقوع الطلاق ، وعدم اعتبار هذا " الدَّوْر " دورا صحيحا ، وهو قول جماهير أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ، على خلاف بينهم في عدد الطلقات الواقعة ، وشدد بعضهم النكير على القول الأول ، وأفتوا بعدم جواز اعتباره والحكم به ، كالعز بن عبد السلام وغيره .
كما في "حاشية رد المحتار" (3/229-230) ، "البحر الرائق" (3/255) ، "شرح مختصر خليل للخرشي" (1/52) ، "تحفة المحتاج" (8/114-115) ، "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع" للشربيني (2/109) ، "المغني" (7/332) ، "كشاف القناع" (5/298) .
قال ابن قدامة في "المغني" (7/332) مستدلا لوقوع الطلاق :
" لأنه طلاق من مكلف مختار , في محل لنكاح صحيح , فيجب أن يقع , كما لو لم يعقد هذه الصفة .
ولأن عمومات النصوص تقتضي وقوع الطلاق , مثل قوله سبحانه : ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) وقوله سبحانه :
( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) ، وكذلك سائر النصوص .
ولأن الله تعالى شرع الطلاق لمصلحة تتعلق به , وما ذكروه يمنعه بالكلية , ويبطل شرعيته , فتفوت مصلحته , فلا يجوز ذلك بمجرد الرأي والتحكم " انتهى .
أما الجواب عن شبهة القول الأول ، فهناك أجوبة كثيرة ومطولة ، أظهرها وأيسرها ما أجاب به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فقال – كما في "الفتاوى الكبرى" (3/137-138) - :
" الدور الذي توهَّموه فيها باطل , فإنهم ظنوا أنه إذا وقع المنجز وقع المعلق , وهو إنما يقع لو كان التعليق صحيحا , والتعليق باطل ; لأنه اشتمل على محال في الشريعة , وهو وقوع طلقة مسبوقة بثلاث , فإن ذلك محال في الشريعة , والتسريج يتضمن لهذا المحال في الشريعة , فيكون باطلا .
وإذا كان قد حلف بالطلاق معتقدا أنه لا يحنث , ثم تبين له فيما بعد أنه لا يجوز فليمسك امرأته , ولا طلاق عليه فيما مضى , ويتوب في المستقبل .
والحاصل أنه لو قال الرجل لامرأته : إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا , فطلقها ، وقع المنجز على الراجح , ولا يقع معه المعلق ; لأنه لو وقع المعلق وهو الطلاق الثلاث لم يقع المنجز ؛ لأنه زائد على عدد الطلاق " انتهى .
وهذا القول هو القول الراجح الذي ينبغي أن يفتى ويعمل به ، ولمن أراد التوسع في شرح هذه المسألة ، وقراءة الردود والمناقشات ، يمكنه مراجعة المصادر الآتية :
"إعلام الموقعين" (1/251-256) ، "فتاوى السبكي" (2/298-303، 313-314) ، "الفتاوى الفقهية الكبرى" (4/180-197) ، "الأشباه والنظائر" (380-381) ، وغيرها .
والله أعلم .