التحالف السلفي العسكري ولعبة الرهانات الخاسرة
تنطوي علاقة حزب النور والدعوة السلفية بالعسكر على كثير من الإشكالات واللوغاريتمات التي تحتاج إلى فهم وتفكيك، فكيف نفهم هذه العلاقة ؟ ولماذا أصبحت هذه الشريحة من التيار السلفي مؤيدة ومدافعة عن "السيسي" حينما كان داخل المؤسسة العسكرية أو حتى بعد أن خرج منها وأعلن ترشحه للرئاسة ؟ وهل ثم مكاسب سياسية سيجنيها التيار السلفي من هذا التحالف إن جاز التعبير؟ وماذا عن مستقبل علاقة حزب النور بالسيسي والعسكر وإلى أي حد يمكن أن يستمر هذا التحالف ؟.
تقودنا الإجابة على هذه التساؤلات إلى مراجعة مواقف الحزب والدعوة السلفية واختياراته السياسية منذ إعلان الثالث من يوليو 2013 الإطاحة بحكم مرسي وحتى الآن، وبرأيي إن هذه المرحلة كاشفة إلى حد بعيد لكواليس هذا التحالف "السلفي - العسكري" ومستقبله، حيث ظهر التيار السلفي "السكندري بالتحديد" بمظهر المشرع الديني للانقلاب العسكري، ، بجانب عدد من شيوخ مؤسسة الأزهر كالشيخ على جمعة وسعد الدين الهلالي وأحمد كريمة وغيرهم من شيوخ السطلة. وكان للتيار السلفي الفضل في استدعاء أحكام دينية تاريخية ليقوم بإسقاطها على الواقع دون وعي سياسي، مثل قضية الحاكم المتغلب، حيث نظر التيار السلفي إلى وزير الدفاع باعتباره حاكم متغلب، و"من غلبت شوكته وجبت طاعته". رحبت المؤسسة العسكرية بهذا المشرع الفقهي الوافد حديثا إلى السياسة والذي يسهم في إضفاء غطاء ديني على تصرفاتها، حتى جرائم قتل للمتظاهرين.
الترحيب بالمشرع السلفي، من ناحية أخرى، يسهم في خلق حالة من التشتت داخل تيار الإسلام السياسي بين مؤيدي الانقلاب ومعارضيه، وفتح جبهة سلفية ضد تؤيد الانقلاب، من ثم فهذه قضية خلافية وليست قضية إجماع سواء داخل المجتمع أو التيار الإسلامي، وهي خطوة لضرب التيار المعارض للانقلاب العسكري. والمتابع لما يقوله الشيخ ياسر برهامي والشيخ عبد المنعم الشحات وغيرهم من رموز الدعوة السلفية يتأكد من دورهم في خلق رؤية دينية في مواجهة كل من يقف ضد الانقلاب، وتضح أهمية هذا الأمر بالنسبة للعسكر بالنظر إلى تراجع مدرسة الأزهر الدعوية لحساب تيارات الإسلام السياسي.
يخطئ من يظل أن العلاقة بين التيار السلفي والعسكر بدأت بالانقلاب العسكري، فالشيخ ياسر برهامي وفي تسجيل له منشور على "اليوتيوب" يتحدث عن اتفاق ولقاء تم بينه وبين السيسي قبل إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية، حيث كان السيسي يشغل حينها منصب رئيس جهاز المخابرات الحربية وطلب خلال هذا اللقاء أن تضمن الدعوة السلفية الإخوان إذا نجحوا في الوصول للسلطة بأن يقدموا "رسالة تطمين قوية لجميع مؤسسات الدولة، ووفقا للفيديو يقول ياسر برهامي إن الاتفاق نص على أن يقدم الإخوان تعهدات بتوجيه تطمينات قوية لكافة مؤسسات الدولة بكافة أطيافها "الدولة العميقة" تضمن استقلالها إذا فاز مرسي بالرئاسة، إضافة إلى التعهد بعدم المساس بمؤسسات الحكم القديمة مع وضع شروط للعلاقة بين الرئيس والمؤسسة العسكرية "، ورفض برهامي أن يضمن الإخوان في هذا الأمر، وللحقيقة فلم تتوقف لقاءات الشيخ برهامي بقيادات المؤسسة العسكرية طيلة الفترة منذ ما بعد الثورة وحتى الانقلاب، وفي لقاءات تليفزيونية متعددة لم ينكر الشيخ هذه اللقاءات، وقد سمحت هذه اللقاءات لأن يقترب قادة المجلس العسكري من التيار السلفي ومن ثم توظيفه فيما بعد لضرب الإخوان ومن داخل الحالة الإسلامية ذاتها وهذا هو الأهم .
توظيف سياسي
احتضان المؤسسة العسكرية للتيار السلفي ليس حبا في هذا التيار ولا في أفكاره، فرؤية التيار السلفي للدولة وموقفه من الديمقراطية والدولة المدنية والمرأة والآخر القبطي يتناقض تماما مع رؤية المؤسسة العسكرية وأفكارها التي هي أقرب إلى الرؤية العلمانية للدولة المصرية، وإذا قارنا بين أفكار الإخوان والتيار السلفي في هذا الجانب فهناك فجوة شاسعة لصالح الإخوان، هذه العلاقة إذن هي علاقة مصلحية في المقام الأول تقوم على أساس استغلال وتوظيف حزب النور والدعوة السلفية في مرحلة محددة وضمن استراتيجية لا يمكن تجاوز حدودها وفي حال حدث هذا التجاوز فعصا الأمن موجودة، والمعتقلات التي تضم الإخوان يمكن بسهولة أن تتسع لغيرهم.
لكن العلاقة لن تصل لهذه الدرجة من الصراع، وسيظل التيار "السلفي السكندري" وامتداده في الدلتا والقاهرة على علاقة وئام مع العسكر طالما هم في صدارة المشهد السياسي. وللحقيقة فقد كان هناك تياران داخل حزب النور والدعوة السلفية تيار يعلى من قيمة العمل السياسي ولديه رؤية وأفكار تنتمي للدولة الحديثة، ويؤمن بالفصل بين شيوخ الدعوة السلفية وتسلطهم على الحزب السياسي، وتيار آخر ينتمي إلى ما يعرف بسلفية ولاة الأمور وطاعة الحاكم، انفصل التيار الأول بقيادة عماد عبد الغفور في حزب الوطن وبقي التيار الثاني مسيطرا على مفاصل الدعوة السلفية ومغلبا الرؤية والاختيارات السلفية الماضوية في العمل السياسي الحديث، وها نحن نتابع تجلياته في طاعة الحاكم الواجبة وعدم معارضته اتقاء "الفتنة" فحاكم غشوم خير من فتنة تدوم، طبقا للرؤية السلفية، والثورة والمظاهرات والمعارضة هي في جانب منها فتنة، كما أن المفاسد التي تحدث في هذه المظاهرات أكثر من المصالح المرجوة منها ومن ثم فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح .. وهكذا يمكن بسهولة لي عنق الفقه والفتوى الدينية في سبيل المصلحة السياسية، وهذا ما يفعله التيار السلفي في سبيل تأييد العسكر ومرشحه في انتخابات الرئاسة.
في مواجهة الهاشتاج
نحن أمام تحالف عسكري سلفي أو بمعني أوضح "سيسي – سلفي" وهذا التحالف "السيسي – السلفي " ليس مرتبطا فقط بوجود الرجل داخل المؤسسة العسكرية فقط وإنما امتد إلى خارجها أيضا، وقد ظهر موقف حزب النور في تصريحات قادته الأخيرة حيث أعلن بعضهم أنهم سيدعمون السيسي للرئاسة والمبرر الذي قدمه أغلبهم أنه أي السيسي الأقرب للشريعة الإسلامية من المرشحين وسيحافظ على هوية الدولة المصرية الإسلامية، وظهر هذا الموقف واضحا في دفاع الدعوة السلفية عن السيسي في مواجهة "الهاشتاج المسيء" الذي دفع شيوخ في الدعوة إلى إصدار فتاوى تحرم "الهاشتاج"، وبعضهم قال إنه يوجب العقوبة الشرعية. يحدث هذا في وقت لم نر نزعة التحريم في قضايا تتعلق بحرمة الدماء والمذابح التي ارتكبتها الشرطة وقوات الجيش في رابعة والنهضة والحرس الجمهوري وغيرها، أو في حق الناس وحريتهم في التظاهر دون أن تطلق عليهم قوات الأمن الرصاص الحي، ولم نسمع أو نشاهد موقفا يتعلق بمعارضة التيار السلفي للاعتقالات العشوائية وعودة الدولة الأمنية أو غيرها إنما كل الممارسات مباحة ومقبولة لدي التيار السلفي لكن "الهاشتاج" حرام... ويالها من مفارقة.
السيسي، وحتى إن كان خرج من المؤسسة العسكري فإنه يظل مرشح المؤسسة العسكرية، ولا شك في أن المؤسسة وكافة أجهزة الدولة تدعمه وبقوة خلال الانتخابات الرئاسية القادمة والتي هي أقرب إلى عرض مسرحي مبتذل ورخيص، وعلى الرغم من أن اعتلاء "السيسي" للمنصب سيكون بمثابة عودة لدولة الاستبداد والقهر في أقسى صورها، وإعادة ترسيخ لأركان الدولة الأمنية من جديد، فالسلفيين لا يرون غضاضة في ذلك طالما سيحقق الاستقرار المنشود ويمنع حدوث "الفتنة" المجتمعية، ونظرة سريعة للواقع يتأكد لنا أنه لا استقرار تحقق خلال الشهور الماضية والتي كان السيسي فيها الحاكم الفعلي للدولة، ولا حالة الانقسام المجتمعي تم احتواءها، بل إن فجوة الانقسام المجتمعي تزداد اتساعا يوما بعد آخر حتى أصبح الخرق يتسع على الراتق .
ثمة إشكالية أخرى تتعلق باحتمالية أن يكون موقف حزب النور مرتبط بموقف التيار السلفي الوهابي في الخليج وخاصة السعودية، والمتابع للدعوة السلفية وأفكارها يلحظ تأثيرا كبيرا للأفكار السلفية الوهابية في المدرسة السلفية بالإسكندرية، لكن الدعوة السلفية تمكنت منذ نشأتها وخلال العقود الماضية أن تكون لها خصوصية دينية مرتبطة بالمجتمع المصري أكثر من ارتباطها بالخارج، لكن ما حدث مؤخرا هو أن غلبت الدعوة السلفية الاختيارات السياسية السعودية تحديدا بدعم السيسي والانقلاب العسكري، فالموقف السعودي هو أكثر المواقف تطرفا في دعم الانقلاب العسكري، ووصل الأمر في النهاية إلى إعلان السعودية الإخوان جماعة إرهابية بعد أن أعلنت السلطات المصرية ذلك، فلم يكن من المقبول أن يكون للتيار السلفي الأبرز في مصر اختيارات مغايرة عن الرؤية السلفية في الجزيرة العربية التي هي على خلاف تاريخي مع الإخوان وتري في نجاح أي نموذج إخواني في الحكم خطرا مستقبليا علي وجودها، ولهذا يتحتم الوقوف ضد هذا الخطر وضربه بقوة.
يصنعون الاستبداد
نحن إذن أمام تحولات جوهرية في موقف التيار السلفي واختياراته، حالة من النكوص والعودة للوراء فيما يتعلق بالموقف من الحاكم والمظاهرات والثورة والمعارضة والديمقراطية، ويمكن القول أن ما حققه التيار السلفي في العمل السياسي من تغير وتطور في الفكرة السلفية وعلاقتها بالسياسية والعمل الحزبي منذ ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير والتي ضربت رياحها كافة قلاع الدعوة السلفية الثابتة، يتم الرجوع عنه الآن لحساب تغليب رؤية دينية مهادنة للسلطة الحاكمة، وستفضى هذه الرؤية في النهاية إلى خلق تيار سلفي سياسي مؤيد للسلطة على طول الخط، والقاعدة السلفية تنص على "عدم منازعة الأمر أهله, بعد المبايعة على السمع والطاعة, وإن ضربوا الظهر, وأخذوا الأموال. بررة كانوا أم فجرة، وعدم إفشاء عوارهم على الملأ, مما يعني عدم توجيه النقد لهم في العلن, ناهيك عن الخروج عليهم أو التظاهر ضدهم في الشارع".
بهذا المنطق يسهم التيار السلفي في صناعة الاستبداد وعودة الديكتاتورية العسكرية مرة أخرى، بعد أن ظلت في الحكم ما يقرب من ستة عقود وأطاحت بها ثورة 25 يناير، فكافة المؤشرات تؤكد على أن السيسي يؤسس لعودة الاستبداد السياسي، يكفي أن نذكر أن عدد القتلى منذ الانقلاب العسكري وحتى الآن تجاوز الثلاثة آلاف قتيل وأكثر من 6 ألاف جريح وما يقرب من 21 ألف معتقل وهذه الأرقام على عهدة موقع ويكي ثورة، والقوانين المكبلة للحريات تتزايد يوما بعد الآخر من قانون التظاهر إلى الإرهاب والبقية تأتي. ولن يجد السيسي بالطبع له أكثر من رجال الدين ومنهم تيار الدعوة السلفية وحزب النور ليمهدوا له طريق الاستبداد، فقد ساهموا في الحفاظ على استقرار نظام مبارك وحتى عندما قامت ثورة يناير لم يشاركوا فيها بحجة عدم جواز الخروج على الحاكم، ولعلنا في هذا الصدد نستحضر رؤية المفكر الكبير عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد حيث يقول الكواكبي عن دور رجال الدين في صناعة الاستبداد السياسي : "إنه ما من مستبد سياسي إلى الآن إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها من خدمة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله، وأقل ما يعينون به الاستبداد تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضا فتتهاتر قوة الأمة ويذهب ريحها فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ. يعود ويتساءل الكواكبي : "من يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسئولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصبر عليهم إذا ظلموا، وعدّوا كل معارضة لهم بغيا يبيح دماء المعارضين؟!.
ليس من شك في أن رهانات حزب النور والدعوة السلفية على مرشح المؤسسة العسكرية هي رهانات خاسرة فقد تحول الرجل إلى رمز للثورة المضادة ولعسكرة الدولة وعودة رموز نظام مبارك إلى الساحة، سيفوز الرجل بالانتخابات لكنه بالتأكيد خسر معركة المستقبل، ومن الناحية الدعوية فإن الدعوة السلفية خسرت كثيرا من جوانب قوتها بسبب أخطاء رموزها في العمل السياسي، كما أنها فقدت كثير من معاقلها الدعوية والشعبية، وهناك حالة من الهجوم والنقد غير المسبوقة علي مشايخ الدعوة والحزب حتى من داخل السلفية ذاتها، وما تحقق للتيار السلفي خلال الانتخابات البرلمانية الماضية لن يتكرر في أية انتخابات مستقبلية، والمكاسب السياسية التي كان يتوقع حزب النور والدعوة السلفية أن يحصلا عليها جراء تحالفهم مع العسكر تذهب الآن أدراج الرياح . منقول للأمانة