ما طرحه صاحب الموضوع صحيح بشكل عام , و ردود أفعال بعض الأعضاء هو في الحقيقة تجسيد لآلية "الإنكار" و هي أحد آليات الدفاع النفسي , ذلك أنهم يرون في الموضوع اتهاما مباشرا لهم بدل كونه يطرح قضية للنقاش و لذلك تجد ردودهم العنيفة و المستنكرة تعبيرا على رفض للاعتراف بالحقيقة التي تسكنهم ...
و الحقيقة التي لا لبس فيها لكل من تأمل النفس البشرية بعمق سواء عبر الاستبطان أو تأمل سلوك الآخرين هو أن الدوافع الغريزية و حب الذات هما المحركان الأساسيان لسلوك الناس , لذلك فأفعال البشر هي تعبير عن أنانيتهم و لكن ذلك يكون أحيانا بشكل ظاهر و يكون أحيانا أخرى بشكل مستتر ... و الكثير من الناس ينكرون هذا الأمر لكن القرآن يكذبهم و يؤكد هذه الحقيقة الجوهرية عندما يصف لنا الإنسان في أسمى لحظات الحقيقة , حيث نقف جميعنا حفاة عراة يوم الحساب , حينئذ تتعرى شخصياتنا أيضا من الأغلفة و الأقنعة و يظهر الإنسان على حقيقته و فطرته "يوم يفر المرء من أخيه و أمه و أبيه و صاحبته و بنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه" و يصير شعار كل واحد منا "نفسي نفسي" ... هذه الآيات تكشف لنا حقيقتنا التي نرفض الاعتراف بها و التصالح معها ثم التعامل معها بحكمة بدل إنكارها ... فنحن أنانيون و الله عز و جل فطرنا على ذلك ,,, فطرنا على حب الذات و على الميل لإشباع الغرائز و النزوات , "زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث" فهذا الميل الفطري للشهوات و للثروة حقيقة لا يمكن إنكارها , و مما يستتبع ذلك طبع الإنسان على البخل و المنع , "خلق الإنسان هلوعا إذا مسه الشر جزوعا و إذا مسه الخير منوعا" و هذا البعد الجوهري للنفس الإنسانية المطبوعة على الأنانية و البخل و حب الشهوات و حب الظهور عام بكل البشر سواء اعترفوا بذلك أم لم يعترفوا, فتحليل أفعال البشر يؤول دائما إلى نتيجة واحدة و هي أن البشر لا تهمهم سوى مصالحهم و هي التي تملي عليهم أفعالهم سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه ....
هذا التصور حول الأخلاق و النفس البشرية نجده عند الكثير من الفلاسفة القدماء من اليونانيين والمسلمين , لكن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه كان أول من عرى هذه الحقيقة بشكل كامل و فضحها بشكل منهجي (هكذا تكلم زرادشت , ما وراء الخير و الشر , جينيالوجيا الأخلاق , العلم المرح) , ثم جاء من بعده سيغموند فرويد ليشرح لنا أن البشر تحكمهم في الواقع دوافع غريزية كامنة أقوى مما نتصور و أن هدف الحضارة و الثقافة هو التخفيف من غلواء هذه النزعات لحماية المجتمعات من الانهيار (كتاب : وهم مستقبل) ... و هذا التصور المشابه لفكرة توماس هوبز أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان و أنه في غياب السلطة تتحول المجتمعات المنظمة إلى غوغاء تحكمها الغرائز و النزعات العدوانية و الفوضى حيث تظهر النفس على حقيقتها نجد له أثرا في الكثير من الأعمال الأدبية لتيار الواقعية و تيار الحداثة (رواية سيد الذباب لويليام غولدينغ كمثال) و في أعمال الفلاسفة البراغماتيين الأمريكيين كجون ديوي و وليام جيمس , و هو التصور الذي صارت تبنى عليه أقوى استراتيجيات الدعاية و الإشهار للتلاعب بعقول البشر عن طريق مخاطبة غرائزهم و رغباتهم و مخاوفهم الكامنة بدل مخاطبة عقولهم ...
و عودة لجوهر الموضوع , فتحت جلد كل إنسان يكمن وحش كاسر و كائن لاعقلاني تقيده الأعراف و التقاليد و القوانين و الأديان و عندما تتراجع سلطة الأعراف و التقاليد و القوانين و الأديان فإنه سينطلق من مكمنه لعيث فسادا و ليشبع غرائزه و نزواته ... هذه الطبيعة الشريرة و العدوانية و الأنانية جزء لا يتجزأ منا . و الأدلة التي تدعم هذا التصور كثيرة و لو استرسلنا في عرض بعضها و شرحها لتطلب الأمر الكثير من الصفحات و لكن من رحمة الله أنها ليست الجوهر الوحيد للنفس البشرية ... فكما الهم الله النفس البشرية كل أنواع الفجور , كذلك ألهمها التقوى و جعل عقول البشر أداة لترويض النفس و لجمها بتقديم المبادئ و القيم على الغرائز و المصالح الدنيوية الضيقة ... لذلك كان الجهاد الأكبر في قمع هذا الوحش الكاسر و الكائن اللاعقلاني و منعه من الظهور على السطح ... و مشكلة شوبنهاور و نيتشة و ماركس و فرويد و داوكنز و غيرهم ممن يسلطون الضوء على حقيقة الأنانية البشرية هو أنهم يقدمون تشخيصا جيدا للطبيعة البشرية لكنهم يخفقون في تقديم العلاجات و الحلول المناسبة . ذلك أن افتقادهم لأسس موضوعية للأخلاق و لتصور واضح حول الغاية من وجود البشر يدفعهم السقوط في تصور عدمي قاتم و كئيب و خال من المعنى للوجود و للبشر ...
و كما ذكرت في البداية , فهذه الحقيقة التي تؤكدها الدراسات النفسية و السوسيولوجية حول طبيعة البشر و الدوافع التي تحركهم هي حقيقة قرآنية كما تبين ذلك العديد من الآيات لكن في الجانب الآخر تقابلها حقيقة أن البشر يملكون القدرة على التغلب على هذه الطبيعة الشريرة و الفاسدة و الفاجرة و أن الحياة نفسها ليست سوى امتحان الناجح فيه هو من قدم المصلحة الآجلة على المصلحة العاجلة والآخرة على الدنيا ... "من كان يريد الحياة الدنيا و زينتها نوف إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار حبط ما صنعوا فيها و باطل ما كانوا يعملون" ... ... "من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا" ... لذلك إنكار هذه الحقيقة لا يفيد كثيرا , و ما ينفعنا هو التصالح معها و القبول و التسليم بها كجزء جوهري منا لابد من التغلب عليه و هذا هو جوهر الحياة ... "ونفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها , قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها" ...