تفسير القرآن الكريم - الصفحة 4 - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > القسم الاسلامي العام

القسم الاسلامي العام للمواضيع الإسلامية العامة كالآداب و الأخلاق الاسلامية ...

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

تفسير القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2011-03-26, 17:47   رقم المشاركة : 46
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 سورة طه

سورة طه



إنزال القرآن رحمة وسعادة

قصة موسى عليه السلام وتكليمه ربه بالوادي المقدس:

معجزة العصا وانقلابها إلى حية

معجزة اليد وانقلابها إلى ضوء كضوء الشمس

نعم الله على سيدنا موسى عليه السلام قبل النبوة

توجيهات الله لموسى وهارون في دعوة فرعون

الحوار بين فرعون وموسى عليه السلام حول الربوبية

اتهام موسى بالسحر

جمع فرعون السحرة وتحذير موسى لهم

المبارزة بين موسى والسحرة وإعلان إيمانهم علناً

المسير ببني إسرائيل وإغراق فرعون وجنوده ونعم الله على بني إسرائيل

مفاجأة موسى لربه وفتنة السامري

معاتبة موسى لهارون على تأليه العجل

أخذ العبرة من قصص الماضين وجزاء المعرض عن القرآن

أحوال الجبال والناس يوم القيامة

أنزل الله القرآن عربياً وأمر نبيه بعدم العجلة بقراءته عند تلاوة جبريل

قصة إخراج آدم من الجنة من وراء وسوسة الشيطان

الاعتبار بهلاك الأمم الماضية، والصبر على أذى المشركين وعدم الالتفات إلى متعهم، وأمر الأهل بالصلاة

اقتراح المشركين الإتيان بمعجزة أخرى غير مكتفين بمعجزة القرآن



بَين يَدَي السُّورَة



سورة طه مكية، وغرضُها تركيز أصول الدين "التوحيد، والنبوة، والبعث والنشور".



* في هذه السورة الكريمة تظهر شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، في شدّ أزره، وتقوية روحه، حتى لا يتأثر بما يُلقى إليه من الكيد والعناد، والاستهزاء والتكذيب، ولإِرشاده إلى وظيفته الأساسية، وهي التبليغ والتذكير، والإِنذار والتبشير، وليس عليه أن يجبر الناس على الإِيمان.



* عرضت السورة لقصص الأنبياء، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتطميناً لقلبه الشريف، فذكرت بالتفصيل قصة "موسى وهارون" مع فرعون الطاغية الجبار، ويكاد يكون معظم السورة في الحديث عنها وبالأخص موقف المناجاة بين موسى وربه، وموقف تكليفه بالرسالة، وموقف الجدال بين موسى وفرعون، وموقف المبارزة بينه وبين السحرة، وتتجلى في ثنايا تلك القصة رعايةُ الله لموسى، نبيّه وكليمه، وإِهلاك الله لأعدائه الكفرة المجرمين.



* وعرضت السورة لقصة آدم بشكل سريع خاطف، برزت فيه رحمة الله لآدم بعد الخطيئة، وهدايته لذريته بإِرسال الرسل مبشرين ومنذرين، ثم ترك الخيار لهم لاختيار طريق الخير أو الشر.



* وفي ثنايا السورة الكريمة تبرز بعض مشاهد القيامة، في عبارات يرتجف لها الكون، وتهتز لها القلوب هَلعاً وجزعاً، ويعتري الناس الذهولُ والسكون {وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا}.

* وعرضت السورة ليوم الحشر الأكبر، حيث يتم الحساب العادل، ويعود الطائعون إلى الجنة، ويذهب العصاة إلى النار، تصديقاً لوعد الله الذي لا يتخلف، بإِثابة المؤمنين وعقاب المجرمين.



* وختمت ببعض التوجيهات الربانية للرسول صلى الله عليه وسلم في الصبر وتحمل الأذى في سبيل الله حتى يأتي نصر الله.



التسمَية:

سميت "سورة طه" وهو اسم من أسمائه الشريفة عليه الصلاة والسلام، تطييباً لقلبه، وتسليةً لفؤاده عما يلقاه من صدود وعناد، ولهذا ابتدأت السورة بملاطفته بالنداء {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}.



إنزال القرآن رحمة وسعادة



{ طه(1)مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى(2)إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى(3)تَنزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا(4)الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى(5)لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6)وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى(7)اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى(8)}.



{طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} الحروف المقطعة للتنبيه إلى إعجاز القرآن، وقال ابن عباس: معناها يا رجل، ومعنى الآية: ما أنزلنا عليك يا محمد القرآن لتشقى به إنما أنزلناه رحمة وسعادة، رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه القرآن صلَى هو وأصحابه، فأطال القيام، فقالت قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى، فنزلت هذه الآية {إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} أي ما أنزلناه إِلا عظة وتذكيراً لمن يخشى الله ويخاف عقابه، وهو المؤمنُ المستنير بنور القرآن {تَنزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا} أي أنزله خالقُ الأرض، ومبدعُ الكون، ورافع السماوات الواسعة العالية، والآية إِخبارٌ عن عظمته وجبروته وجلاله، قال أبو حيّان: ووصفُ السماوات بالعُلى دليلٌ على عظمة قدرة من اخترعها إِذ لا يمكن وجود مثلها في علُوِّها من غيره تعالى {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي ذلك الربُّ الموصوف بصفات الكمال والجمال هو الرحمن الذي استوى على عرشه استواءً يليق بجلاله من غير تجسيمٍ، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل كما هو مذهب السلف {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} أي له سبحانه ما في الوجود كلِّه: السماواتُ السبعُ، والأرضون، وما بينهما من المخلوقات، وما تحت التراب من معادن ومكنونات، الكلُّ ملكُه وتحت تصرفه وقهره وسلطانه.

{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي وإِن تجهرْ يا محمد بالقول أو تخفه في نفسك فسواءٌ عند ربك، فإِنه يعلم السرَّ وما هو أخفى منه كالوسوسة والهاجس والخاطر .. والغرضُ من الآية طمأنينة قلبه عليه السلام بأن ربه معه يسمعه، ولن يتركه وحيداً يواجه الكافرين بلا سند فإِذا كان يدعوه جهراً فإِنه يعلم السرَّ وما هو أخفى، والقلب حين يستشعر قرب الله منه، وعلمه بسرِّه ونجواه يطمئن ويرضى ويأنس بهذا القرب الكريم {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أي ربكم هو الله المتفرد بالوحدانية، لا معبود بحق سواه، ذو الأسماء الحسنة التي هي في غاية الحُسن، وفي الحديث (إِن للهِ تسعةً وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة).



قصة موسى عليه السلام وتكليمه ربه بالوادي المقدس



{ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى(9)إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى(10)فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى(11)إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى(12)وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى(13)إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي(14)إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى(15)فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى(16) }.



{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} الاستفهام للتقرير وغرضه التشويق لما يُلقى إِليه أي هل بلغك يا محمد خبر موسى وقصته العجيبة الغريبة؟ {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} أي حين رأى ناراً، فقال لامرأته أقيمي مكانك فإِني أبصرتُ ناراً، قال ابن عباس: هذا حين قضى الأجل وسار بأهله من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق، وكانت ليلة مظلمة شاتية، فجعل يقدح بالزناد فلا يخرج منها شرَرٌ، فبينما هو كذلك إِذْ بصر بنارٍ من بعيد على يسار الطريق، فلما رآها ظُنها ناراً وكانت من نور الله {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} أي لعلي آتيكم بشعلة من النار تستدفئون بها {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} أي أجد هادياً يدلني على الطريق {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} أي فلما أتى النار وجدها ناراً بيضاء تتّقد في شجرة خضراء وناداه ربُّه يا موسى: إِني أنا ربُّك الذي أكلمك فاخلع النعلين من قدميك رعايةً للأدب وأَقْبل {إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} أي فإِنك بالوادي المطهَّر المبارك المسمّى طوى {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} أي اصطفيتك للنبوة فاستمع لما أُوحيه إِليك، قال الرازي: فيه نهايةُ الهيبة والجلالة فكأنه قال: لقد جاءك أمر عظيم هائل فتأهبْ له واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفاً إِليه {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} أي أنا الله المستحق للعبادة لا إِله غيري فأفردني بالعبادة والتوحيد {وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} أي أقم الصلاة لتذكرني فيها، قال مجاهد: إِذا صلّى ذكر ربه لاشتمالها على الأذكار، وقال الصاوي: خصَّ الصلاة بالذكر وإِن كانت داخلةً في جملة العبادات لعظم شأنها، واحتوائها على الذكر، وشغل القلب واللسان والجوارح، فهي أفضل أركان الدين بعد التوحيد {إِنَّ الساعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} أي إِن الساعة قادمة وحاصلةٌ لا محالة أكاد أخفيها عن نفسي فكيف أطلعكم عليها؟ قال المبرِّد: وهذا على عادة العرب فإِنهم يقولون إِذا بالغوا في كتمان الشيء: كتمته حتى من نفسي أي لم أطلع عليه أحداً {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} أي لتنال كلُّ نفسٍ جزاء ما عملت من خير أو شر، قال المفسرون: والحكمة من إِخفائها وإِخفاء وقت الموت أن الله تعالى حكم بعدم قبول التوبة عند قيام الساعة وعند الاحتضار، فلو عرف الناس وقت الساعة أو وقت الموت، لاشتغلوا بالمعاصي ثم تابوا قبل ذلك، فيتخلصون من العقاب، ولكنَّ الله عمَّى الأمر، ليظلَّ الناس على حذر دائم، وعلى استعداد دائم، من أن تبغتهم الساعة أو يفاجئهم الموت {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا} أي لا يصرفنَّك يا موسى عن التأهب للساعة والتصديق بها من لا يوقن بها {وَاتَّبَعَ هوَاهُ} أي مالَ مع الهوى وأقبل على اللذائذ والشهوات ولم يحسب حساباً لآخرته {فَتَرْدَى} أي فتهلك فإِن الغفلة عن الآخرة مستلزمة للهلاك.



معجزة العصا وانقلابها إلى حية



{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى(17)قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى(18)قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى(19)فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى(20)قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى(21) }



{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} أي وما هذه التي بيمينك يا موسى؟ أليست عصا؟ والغرض من الاستفهام التقريرُ والإِيقاظُ والتنبيهُ إِلى ما سيبدو من عجائب صنع الله في الخشبة اليابسة بانقلابها إِلى حية، لتظهر لموسى القدرة الباهرة، والمعجزة القاهرة، قال ابن كثير: إِنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي أمّا هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها؟ فسترى ما نصنع بها الآن؟ {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} أي أعتمد عليها في حال المشي {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} أي أهزُّ بها الشجرة وأضرب بها على الأغصان ليتساقط ورقها فترعاه غنمي {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} أي ولي فيها مصالح ومنافع وحاجات أُخَرى غير ذلك، قال المفسرون: كان يكفي أن يقول هي عصاي ولكنه زاد في الجواب لأن المقام مقام مباسطة وقد كان ربه يكلمه بلا واسطة، فأراد أن يزيد في الجواب ليزداد تلذذاً بالخطاب، وكلام الحبيب مريحٌ للنفس ومُذْهبٌ للعَناء {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى} أي اطرح هذه العصا التي بيدك يا موسى لترى من شأنها ما ترى! {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حيَّةٌ تَسْعَى} أي فلما ألقاها صارت في الحال حية عظيمة تنتقل وتتحرك في غاية السرعة، قال ابن عباس: انقلبت ثعباناً ذكراً يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شيءٍ خافه ونفر منه وولَى هارباً، قال المفسرون: لما رأى هذا الأمر العجيب الهائل، لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف، لا سيما هذا الأمر الذي يذهب بالعقول، وإِنما أظهر له هذه الآية وقت المناجاة تأنيساً له بهذه المعجزة الهائلة حتى لا يفزع إِذا ألقاها عند فرعون لأنه يكون قد تدرَّب وتعوَّد {قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ} أي قال له ربه: خذْها يا موسى ولا تخفْ منها { سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} أي سنعيدها إلى حالتها الأولى كما كانت عصا لا حيَّة، فأمسكها فعادت عصا.



معجزة اليد وانقلابها إلى ضوء كضوء الشمس



{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى(22)لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتِنَا الْكُبْرَى(23)اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(24)قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي(25)وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي(26)وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي(27)يَفْقَهُوا قَوْلِي(28)وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي(29)هَارُونَ أَخِي(30)اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي(31)وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(32)كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا(33)وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا(34)إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا(35)}



{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} أي أدخل يدك تحت إِبطك ثم أخرجها تخرج نيرة مضيئة كضوء الشمس والقمر من غير عيب ولا برص، قال ابن كثير: كان إِذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر من غير برصٍ ولا أذى {آيَةً أُخْرَى} أي معجزة ثانية غير العصا {لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتِنَا الْكُبْرَى} أي لنريك بذلك بعض ءاياتنا العظيمة .. أراه الله معجزتين "العصا، واليد" وهي بعض ما أيَّده الله به من المعجزات الباهرة، ثم أمره أن يتوجه إلى فرعون رأس الكفر والطغيان {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أي اذهب بما معك من الآيات إِلى فرعون إِنه تكبَّر وتجبَّر وجاوز الحدَّ في الطغيان حتى ادَّعى الألوهية {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} أي وسِّعْه ونوِّره بالإِيمان والنُبوّة {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} أي سهّلْ عليَّ القيام بما كلفتني من أعباء الرسالة والدعوة {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} أي حلَّ هذه اللُّكْنة الحاصلة في لساني حتى يفهموا كلامي، قال المفسرون: عاش موسى في بيت فرعون فوضعه فرعون مرة في حِجْرهِ وهو صغير فجرَّ لحية فرعون بيده فهمَّ بقتله، فقالت له آسية: إِنه لا يعقل وسأريك بيان ذلك، قدّمْ إِليه جمرتين ولؤلؤتين، فإِن أخذ اللؤلؤة عرفت أنه يعقل، وإِن أخذ الجمرة عرفت أنه طفل لا يعقل، فقدَّم إِليه فأخذ الجمرة فجعلها في فيه فكان في لسانه حَبْسة {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} أي اجعل لي معيناً يساعدني ويكون من أهلي وهو أخي هارون {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} أي لتقوِّي به يا رب ظهري {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} أي اجعله شريكاً لي في النبوة وتبليغ الرسالة {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} أي كي نتعاون على تنزيهك عما لا يليق بك ونذكرك بالدعاء والثناء عليك {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} أي عالماً بأحوالنا لا يخفى عليك شيء من أفعالنا، طلب موسى من ربه أن يعينه بأخيه يشدُّ به أزره، لما يعلم منه من فصاحة اللسان، وثبات الجنَان، وأن يشركه معه في المهمة لما يعلم من طغيان فرعون وتكبره وجبروته.



نعم الله على سيدنا موسى عليه السلام قبل النبوة



{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى(36)وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى(37)إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى(38)أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي(39)إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى(40)}.



{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} أي أُعطيت ما سألتَ وما طلبتَ، ثم ذكّره تعالى بالمنن العظام عليه {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} أي أنعمنا عليك يا موسى بمنَّة أخرى غير هذه المنة {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} أي ألهمناها ما يُلهم ممّا كان سبباً في نجاتك {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} أي ألهمناها أن أَلْقِ هذا الطفل في الصندوق ثم اطرحيه في نهر النيل، ثم ماذا؟ ومن يتسلمه؟ { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} أي يلقيه النهر على شاطئه ويأخذه فرعون عدوي وعدوُّه قال أبو حيّان: {فَلْيُلْقِهِ} أمرٌ معناه الخبر جاء بصيغة الأمر مبالغة إِذْ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} أي زرعتُ في القلوب محبتك بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك حتى أحبَّك فرعون، قال ابن عباس: أحبَّه الله وحببَّه إِلى خلقه {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي ولتُربّى بعين الله بحفظي ورعايتي {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} أي حين تمشي أختك وتتَّبع أثرك فتقول لآل فرعون حين طلبوا لك المراضع: هل أدلكم على من يضمن لكم حضانته ورضاعته؟ قال المفسرون: لمّا التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة لأن الله حرَّم عليه المراضع، وبقيت أُمه بعد قذفه في اليم مغمومة، فأمرت أخته أن تتَّبع خبره، فلما وصلت إلى بيت فرعون ورأته قالت: هل أدلكم على امرأة أمينة فاضلة تتعهد لكم رضاع هذا الطفل؟ فطلبوا منها إِحضارها، فأتت بأم موسى، فلما أخرجت ثديها التقمه، ففرحت زوجة فرعون فرحاً شديداً، وقالت لها: كوني معي في القصر فقالت: لا أستطيع أن أترك بيتي وأولادي ولكنْ آخذه معي وآتي لك به كل حين فقالت: نعم وأحسنت إِليها غاية الإِحسان فذلك قوله تعالى {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} أي رددناك إِلى أمك لكي تُسرَّ بلقائك، وتطمئن بسلامتك ونجاتك، ولكيلا تحزن على فراقك {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} أي قتلت القبطي حين أصبحت شاباً فنجيناك من غمّ القتل وصرفنا عنك شرَّ فرعون وزبانيته، وفي صحيح مسلم: وكان قتله خطأً {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} أي ابتليناك ابتلاءً عظيماً بأنواعٍ من المِحن {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} أي مكثت سنين عديدة عند شعيب في أرض مدين {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} أي جئت على موعدٍ ووقت مقدر للرسالة والنبوة.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى نعمته على موسى باستجابة دعائه وإِعطائه سُؤْله، ذكر هنا ما خصَّه به من الاصطفاء والاجتباء، وأمره بالذهاب إِلى فرعون مع أخيه هارون لتبليغه دعوة الله، ثم ذكر ما دار من الحوار بين موسى وفرعون وما كان من أمر السحرة وسجودهم لله رب العالمين.



توجيهات الله لموسى وهارون في دعوة فرعون



{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي(41)اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي(42)اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(43) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44)قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى(45)قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(46)فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى(47)إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(48) }



{وَاصْطَنَعْتكَ لِنَفْسِي} أي اخترتك لرسالتي ووحيي {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} أي اذهب مع هارون بحججي وبراهيني ومعجزاتي، قال المفسرون: المراد بالآيات هنا اليد والعصا التي أيّد الله بها موسى {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} أي لا تفترا وتقصِّرا في ذكر الله وتسبيحه، قال ابن كثير: والمراد ألاّ يفترا عن ذكر الله بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون، ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أي تجبَّر وتكبَّر وبلغ النهاية في العتُو والطغيان {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا } أي قولا لفرعون قولاً لطيفاً رفيقاً {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} أي لعله يتذكر عظمة الله أو يخاف عقابه فيرتدع عن طغيانه {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} أي قال موسى وهارون: يا ربنا إِننا نخاف إِن دعوناه إِلى الإِيمان أن يعجِّل علينا العقوبة، أو يجاوز الحدَّ في الإِساءة إِلينا {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} أي لا تخافا من سطوته إِنني معكما بالنصرة والعون أسمع جوابه لكما، وأرى ما يفعل بكما {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} أي إِنا رسولان من عند ربك أرسلنا إِليك، وتخصيصُ الذكر بلفظ {رَبِّكَ} لإِعلامه أنه مربوبٌ وعبدٌ مملوك لله إِذْ كان يدَّعي الربوبية { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} أي أطلقْ سراح بني إِسرائيل ولا تعذبهم بتكليفهم بالأعمال الشاقة {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} أي قد جئناك بمعجزة تدل على صدقنا {وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى} أي والسلامة من عذاب الله لمن اهتدى وآمن بالله، قال المفسرون: لم يقصد به التحية لأنه ليس بابتداء الخطاب وإِنما قصد به السلام من عذاب الله وسخطه {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي قد أخبرنا الله فيما أوحاه إِلينا أن العذاب الأليم على من كذَّب أنبياء الله وأعرض عن الإِيمان.



الحوار بين فرعون وموسى عليه السلام حول الربوبية



{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى(49)قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(50)قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى(51)قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى(52)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى(53)كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى(54)مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى(55)}.



{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} أي قال فرعون: ومنْ هذا الربُّ الذي تدعوني إِليه يا موسى؟ فإِني لا أعرفه؟ ولم يقل: من ربيّ لغاية عتوّه ونهاية طغيانه بل أضافه إِلى موسى وهارون {فَمَنْ رَبُّكُمَا} {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} أي ربُّنا هو الذي أبدع كل شيءٍ خَلقه ثم هداه لمنافعه ومصالحه، وهذا جوابٌ في غاية البلاغة والبيان لاختصاره ودلالته على جميع الموجودات بأسرها، فقد أعطى العين الهيئة التي تطابق الإِبصار، والأُذُن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك اليد والرجل والأنف واللسان، قال الزمخشري: ولله درُّ هذا الجواب ما أخصره وأجمعه وأبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإِنصاف { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} أي ما حال من هلك من القرون الماضية لِم لَمْ يُبعثوا، ولم يُحاسبوا إِن كان ما تقول حقاً؟ قال ابن كثير: لما أخبر موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق، وقدَّر فهدى، شرع فرعون يحتج بالقرون الأولى كأنه يقول: ما بالهم إِذْ كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربَّك بل عبدوا غيره؟ {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} أي قال موسى: علم أحوالها وأعمالها عند ربي مسطرٌ في اللوح المحفوظ {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} أي لا يخطئ ربي ولا يغيب عن علمه شيءٌ منها .. ثم شرع موسى يبينّ له الدلائل على وجود الله وآثار قدرته الباهرة فقال {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا} أي جعل الأرض كالمهد تمتهدونها وتستقرون عليها رحمة بكم {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} أي جعل لكم طُرقاً تسلكونها فيها لقضاء مصالحكم {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي أنزل لكم من السحاب المطرَ عذباً فراتاً {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} أي فأخرج بذلك الماء أنواعاً من النباتات المختلفة الطعم والشكل والرائحة كلُّ صنف منها زوج، وفيه التفاتٌ من الغيبة إِلى المتكلم تنبيهاً على عظمة الله {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} أي كلوا من هذه النباتات والثمار واتركوا أنعامكم تسرح وترعى من الكلأ الذي أخرجه الله، والأمر للإِباحة تذكيراً له بالنِّعم { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} أي إِنَّ فيما ذُكر لعلامات واضحة لأصحاب العقول السليمة على وجود الله ووحدانيته {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أي من الأرض خلقناكم أيها الناس وإليها تعودون بعد مماتكم فتصيرون تراباً {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} أي ومن الأرض نخرجكم مرة أخرى للبعث والحساب.



اتهام موسى بالسحر



{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءاياتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى(56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى(57)فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى(58)قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى(59)}.



ثم أخبر تعالى عن عتوِّ فرعون وعناده فقال {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءاياتِنَا كُلَّهَا} أي والله لقد بصَّرْنا فرعون بالمعجزات الدالة على نبوةّ موسى من العصا، واليد، والطوفان، والجراد، وسائر الآيات التسع {فَكَذَّبَ وَأَبَى} أي كذَّب بها مع وضوحها وزعم أنها سحر، وأبى الإِيمان والطاعة لعتوِّه واستكباره {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} أي قال فرعون: أجئتنا يا موسى بهذا السحر لتخرجنا من أرض مصر؟ {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} أي فلنعارضنَّك بسحرٍ مثل الذي جئت به ليظهر للناس أنك ساحر ولستَ برسول {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} أي عيِّنْ لنا وقت اجتماع {لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} أي لا نخلف ذلك الوعد لا من جهتنا ولا من جهتك ويكون بمكان معيَّن ووقت معيَّن {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} أي قال موسى: موعدنا للاجتماع يوم العيد - يومُ من أيام أعيادهم - وأن يجتمع الناس في ضحى ذلك النهار، قال المفسرون: وإِنما عيَّن ذلك اليوم للمبارزة ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد، ويشيع ذلك في الأقطار بظهور معجزته للناس.



جمع فرعون السحرة وتحذير موسى لهم



{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى(60)قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى(61)فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى(62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى(63)فَأَجْمِعُوا كيدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى(64)}.



{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} أي انصرف فرعون فجمع السَّحرة ثم أتى الموعد ومعه السحرة وأدواتهم وما جمعه من كيد ليطفئ نور الله، قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل ساحر منهم حبال وعصىّ {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} أي قال موسى للسحرة لما جاء بهم فرعون: ويلكم لا تختلقوا على الله الكذب فيهلككم ويستأصلكم بعذاب هائل {وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى} أي خسر وهلك من كذب على الله.. قدَّم لهم النصح والإِنذار لعلَّهم يثوبون إلى الهُدى، ولما سمع السَّحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك ووقعتْ في نفوسهم مهابته ولذلك تنازعوا في أمره {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} أي اختلفوا في أمر موسى فقال بعضهم: ما هذا بقول ساحر وأخفوا ذلك عن الناس وأخذوا يتناجون سرّاً {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} أي قالوا بعد التناظر والتشاور ما هذان إِلاّ ساحران يريدان الاستيلاء على أرض مصر وإِخراجكم منها بهذا السحر {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى} أي غرضُهما إِفسادُ دينكم الذي أنتم عليه والذي هو أفضل المذاهب والأديان، قال الزمخشري: والظاهر أنهم تشاوروا في السرِّ وتجاذبوا أهداب القول ثم قالوا { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفاً من غلبة موسى وهارون لهما وتثبيطاً للناس من اتباعهما {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} أي أحْكموا أمركم واعزموا عليه ولا تتنازعوا وارموا عن قوسٍ واحدة، ثم ائتوا إلى الميدان مصطفين ليكون أهيب في صدور الناظرين {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى} أي فاز اليوم من علا وغلب، قال المفسرون: أرادوا بالفلاح ما وعدهم به فرعون من الإنعامات العظيمة والهدايا الجزيلة مع التقريب والتكريم كما قال تعالى {أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ}.









 


رد مع اقتباس
قديم 2011-03-26, 17:48   رقم المشاركة : 47
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 تابع

المبارزة بين موسى والسحرة وإعلان إيمانهم علناً



{ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى(65)قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى(66)فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى(67)قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى(68)وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(69)فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى(70)قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73)إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا(74)وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا(75)جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أبداً وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى(76)}



{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} أي قال السحرة لموسى: إِمَّا أن تبدأ أنتَ بالإِلقاء أو نبدأ نحنُ؟ خيرَّوه ثقةً منهم بالغلبة لموسى لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ أحداً لا يقاومهم في هذا الميدان {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} أي قال لهم موسى: بل ابدأوا أنتم بالإِلقاء، قال أبو السعود: قال ذلك مقابلةً للأدب بأحسنَ من أدبهم حيث بتَّ القول بإِلقائهم أولاً، وإِظهاراً لعدم المبالاة بسحرهم ليُبرزوا ما معهم، ويستفرغوا أقصى جهدهم وقصارى وسعهم، ثم يُظهر الله سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} في الكلام حذفٌ دلَّ عليه المعنى أي فألقوا فإِذا تلك الحبال والعصيُّ التي ألقوها يتخيلها موسى ويظنُّها - من عظمة السحر - أنها حياتٍ تتحرك وتسعى على بطونها، والتعبيرُ يوحي بعظمة السحر حتى إن موسى فزع منها واضطرب {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} أي أحسَّ موسى الخوف في نفسه بمقتضى الطبيعة البشرية لأنه رأى شيئاً هائلاً {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} أي قلنا لموسى: لا تخفْ ممّا توهمت فإِنك أنت الغالب المنتصر {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} أي أَلقِ عصاك التي بيمينك تبتلعْ بفمها ما صنعوه من السحر { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} أي إِنَّ الذي اخترعوه وافتعلوه هو من باب الشعوذة والسحر {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} أي لا يسعد الساحر حيث كان ولا يفوز بمطلوبه لأنه كاذب مضلِّل {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} أي فألقى موسى عصاه فابتلعت ما صنعوا فخرَّ السحرة حينئذٍ سجداً لله ربّ العالمين لما رأوا من الآية الباهرة، قال ابن كثير: لما ألقى موسى العصا صارت ثعباناً عظيماً هائلاً، ذا قوائم وعُنق ورأس وأضراس، فجعلت تتَّبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق شيئاً إِلا ابتلعته، والناس ينظرون إِلى ذلك عياناً نهاراً، فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه علموا علم اليقين أن هذا ليس من قبيل السحر والحيل وأنه حقٌّ لا مرية فيه، فعند ذلك وقعوا سجداً لله، فقامت المعجزة واتضح البرهان، ووقع الحق وبطل السحر، قال ابن عباس: كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أي قال فرعون للسحرة: آمنتم بموسى وصدقتموه بما جاء به قبل أن أسمح لكم بذلك وقبل أن تستأذنوني؟ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} أي إِنه رئيسكم الذي علَّمكم السحر فاتفقتم معه لتذهبوا بملكي، قال القرطبي: وإِنما أراد فرعون بقوله هذا أن يُلبِّس على الناس حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإِيمانهم، ثم توعَّدهم وهدَّدهم بالقتل والتعذيب، فقال {فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} أي فوالله لأقطعنَّ الأيدي والأرجل منكم مختلفات بقطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى أو بالعكس {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي لأعلقنكم على جذوع النخل وأقتلنكم شرَّ قِتْلة {وَلَتَعْلَمنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} أي ولتعلمُنَّ أيها السحرة من هو أشدُّ منا عذاباً وأدوم، هل أنا أم ربُّ موسى الذي صدقتم به وآمنتم {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} أي قال السحرة: لن نختارك ونفضّلك على الهدى والإِيمان الذي جاءنا من الله على يد موسى ولو كان في ذلك هلاكنا {وَالَّذِي فَطَرَنَا} قسمٌ بالله أي مقسمين بالله الذي خلقنا {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} أي فاصنع ما أنت صانع {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي إِنما ينفذ أمرك في هذه الحياة الدنيا وهي فانية زائلة ورغبتنا في النعيم الخالد، قال عكرمة: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة فلذلك قالوا ما قالوا {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} أي آمنا بالله ليغفر لنا الذنوب التي اقترفناها وما صدر منا من الكفر والمعاصي {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} أي ويغفر لنا السحر الذي عملناه لإِطفاء نور الله { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي والله خيرٌ منك ثواباً وأبقى عذاباً، وهذا جوابُ قوله {ولتعلمُنَّ أيُّنا أشدُّ عذاباً وأبقى} {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} هذا من تتمة كلام السحر عظةً لفرعون أي من يلقى ربه يوم القيامة وهو مجرمٌ باقترافه المعاصي وموته على الكفر، فإِن له نار جهنم {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} أي لا يموت في جهنم فينقضي عذابه، ولا يحيا حياة طيبة هنيئة {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} أي ومن يلقى ربه مؤمناً موحّداً وقد عمل الطاعات وترك المنهيات {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا} أي فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات لهم المنازل الرفيعة عند الله {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بيانٌ للدرجات العُلى أي جناتُ إِقامة ذات الدرجات العاليات، والغُرف الآمنات، والمساكن الطيبات {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي تجري من تحت غرفها وسُرُرها أنهار الجنة من الخمر والعسل، واللَّبن، والماء {خَالِدِينَ فِيهَا أبداً} أي ماكثين في الجنة دوماً لا يخرجون منها أبداً {وَذَلِكَ جزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} أي وذلك ثواب من تطهَّر من دنس الكفر والمعاصي، وفي الحديث (الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة فإِذا سألتم الله فاسألوه الفردوس).



المناسَبَة:

لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن قصة موسى وفرعون، وتشير الآيات هنا إِلى عناية الله تعالى بموسى وقومه، وإِنجائهم وإِهلاك عدوهم، وتذكّرهم بنعم الله العظمى ومننه الكبرى على بني إِسرائيل، وما وصّاهم به من المحافظة على شكرها وتحذيرهم من التعرض لغضب الله بكفرها، ثم تذكر الآيات انتكاس بني إِسرائيل بعبادتهم العجل، وقد طوى هنا ما فصَّل في ءايات أخر.



المسير ببني إسرائيل وإغراق فرعون وجنوده ونعم الله على بني إسرائيل



{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى(77)فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ(78)وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى(79)يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى(80)كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى(81)وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى(82)}



{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أي أوحينا إِلى موسى بعد أن تمادى فرعون في الطغيان أنْ سرْ ببني إِسرائيل ليلاً من أرض مصر {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} أي اضرب البحر بعصاك ليصبح لهم طريقاً يابساً يمرون عليه {لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} أي لا تخاف لحاقاً من فرعون وجنوده، ولا تخشى الغرق في البحر {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} أي فلحقهم فرعون مع جنوده ليقتلهم فأصابهم من البحر ما أصابهم، وغشيهم من الأهوال ما لا يعلم كُنهه إِلا الله، والتعبير يفيد التهويل لما دهاهم عند الغَرق {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} أي أضلهم عن الرشد وما هداهم إِلى خيرٍ ولا نجاة، وفيه تهكم بفرعون في قوله {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} خطابٌ لبني إِسرائيل بعد خروجهم من البحر وإِغراق فرعون وجنوده، والمعنى اذكروا يا بني إِسرائيل نعمتي العظيمة عليكم حين نجيتكم من فرعون وقومه الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ} أي وعدنا موسى للمناجاة وإِنزال التوراة عليه جانب طور سيناء الأيمن، وإنما نسبت المواعدة إِليهم لكون منفعتها راجعة إِليهم إِذْ في نزول التوراة صلاحُ دينهم ودنياهم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} أي رزقناكم وأنتم في أرض التيه بالمنِّ وهو يشبه العسل، والسلوى وهو من أجود الطيور لحماً تفضلاً منا عليكم .. وفي هذا الترتيب غايةُ الحسن حيث بدأ بتذكيرهم بنعمة الإِنجاء، ثم بالنعمة الدينية، ثم بالنعمة الدنيوية {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي وقلنا لكم كلوا من الحلال اللذيذ الذي أنعمتُ به عليكم {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي لا تحملنكم السعة والعافية على العصيان لأمري فينزل بكم عذابي {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} أي ومن ينزل عليه غضبي وعقابي فقد هلك وشقي {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} أي وإِني لعظيم المغفرة لمن تاب من الشرك وحسُن إِيمانه وعمله، ثم استقام على الهدى والإِيمان، وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة العصيان ببيان المخرج كيلا ييأس.



مفاجأة موسى لربه وفتنة السامري



{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى(83)قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى(84)قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ(85)فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي(86)قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ(87)فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ(88)أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا(89)}



{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} أيْ أيُّ شيءٍ عجَّل بك عن قومك يا موسى؟ قال الزمخشري: كان موسى قد مضى مع النقباء الذين اختارهم من قومه إِلى الطور على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقاً إِلى كلام ربه {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} أي قومي قريبون مني لم أتقدمهم إِلا بشيء يسير وهم يأتون بعدي {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} أي وعجلتُ إِلى الموضع الذي أمرتني بالمجيء إِليه لتزداد رضىً عني .. اعتذر موسى أولا،ً ثم بيَّن السبب في إِسراعه قبل قومه وهو الشوق إِلى مناجاة الله ابتغاءً لرضى الله {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} أي ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم {وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ} أي وأوقعهم السامريُّ في الضلالة بسبب تزيينه لهم عبادة العجل، وكان السامري ساحراً منافقاً من قومٍ يعبدون البقر، قال المفسرون: كان موسى حين جاء لمناجاة ربه قد استخلف على بني إِسرائيل أخاه هارون، وأمره أن يتعهدهم بالإِقامة على طاعة الله، وفي أثناء غيبة موسى جمع السامريُّ الحليَّ ثم صنع منها عجلاً ودعاهم إِلى عبادته فعكفوا عليه وكانت تلك الفتنة وقعت لهم بعد خروج موسى من عندهم بعشرين يوماً {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} أي رجع موسى من الطور بعدما استوفى الأربعين وأخذ التوراة غضبان شديد الحزن على ما صنع قومه من عبادة العجل {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} أي ألم يعدْكم بإِنزال التوراة فيها الهدى والنور؟ والاستفهام للتوبيخ {أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} أي هل طال عليكم الزمن حتى نسيتم العهد أم أردتم بصنيعكم هذا أن ينزل عليكم سخط الله وغضبه فأخلفتم وعدي؟ قال أبو حيان: وكانوا وعدوه بأن يتمسكوا بدين الله وسنّة موسى عليه السلام، ولا يخالفوا أمر الله أبداً، فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} أي ما أخلفنا العهد بطاقتنا وإِرادتنا واختيارنا بل كنا مكرهين {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا} أي حملنا أثقالاً وأحمالاً من حُليِّ آل فرعون فطرحناها في النار بأمر السامري، قال مجاهد: أوزاراً: أثقالاً وهي الحلي التي استعاروها من آل فرعون {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} أي كذلك فعل السامري ألقى ما كان معه من حلي القوم في النار، قال المفسرون: كان بنو إِسرائيل قد استعاروا من القبط الحُليّ قبل خروجهم من مصر، فلما أبطأ موسى في العودة إِليهم قال لهم السامري: إِنما احتُبس عليكم لأجل ما عندكم من الحلي فجمعوه ودفعوه إِلى السامري، فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلاً، ثم ألقى عليه قبضةً من أثر فرس جبريل عليه السلام فجعل يخور فذلك، قوله تعالى {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} أي صاغ لهم السامري من تلك الحليّ المذابة عجلاً جسداً بلا روح له خوارٌ وهو صوت البقر {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} أي هذا العجل إِلهكم وإِله موسى فنسي موسى إِلهه هنا وذهب يطلبه في الطور، قال قتادة: نسي موسى ربه عندكم، فعكفوا عليه يعبدونه، قال تعالى رداً عليهم وبياناً لسخافة عقولهم في عبادة العجل {أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي أفلا يعلمون أن العجل الذي زعموا أنه إِلههم لا يردُّ لهم جواباً، ولا يقدر أن يدفع عنهم ضراً أو يجلب لهم نفعاً فكيف يكون إِلهاً؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع.





معاتبة موسى لهارون على تأليه العجل



{ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وإن رَبَّكُمْ الرَّحْمَانُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي(90)قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى(91)قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا(92)أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي(93)قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي(94)قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ(95)قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي(96)قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا(97)إِنَّما إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا(98)}.



{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} أي قال لهم هارون ناصحاً ومذكراً من قبل رجوع موسى إِليهم: إِنما ابْتُليتُم وأُضللتم بهذا العجل { وإن رَبَّكُمْ الرَّحْمَانُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} أي وإِنَّ ربكم المستحقَّ للعبادة هو الرحمن لا العجل، فاقتدوا بي فيما أدعوكم إِليه من عبادة الله، وأطيعوا أمري بترك عبادة العجل {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} أي قالوا: لن نزال مقيمين على عبادة العجل حتى يعود إِلينا موسى فننظر في الأمر {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِي}؟ في الكلام حذفٌ أي فلما رجع موسى ووجدهم عاكفين على عبادة العجل امتلأ غضباً لله وأخذ برأس أخيه هارون يجره إِليه، وقال له: أيُّ شيء منعك حين رأيتهم كفروا بالله أن لا تتبعني في الغضب لله والإِنكار عليهم والزجر لهم عن ذلك الضلال؟ { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} أي أخالفتني وتركت أمري ووصيتي؟ قال المفسرون: وأمرهُ هو ما كان أوصاه به فيما حكاه تعالى عنه {وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} أي قال له هارون استعطافاً وترقيقاً: يا ابن أمي - أي يا أخي - لا تأخذ بلحيتي ولا بشعر رأسي، قال ابن عباس: أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله من شدة غيظه وفرط غضبه لأن الغيرة في الله ملكته {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي إني خفت إن زجرتُهم بالقوة أن يقع قتالٌ بينهم فتلومني على ذلك وتقول لي: لقد أشعلتَ الفتنة بينهم {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} أي لم تنتظرْ أمري فيهم، فمن أجل ذلك رأيتُ ألاّ أفعل شيئاً حتى ترجع إِليهم لتتدارك الأمر بنفسك، قال ابن عباس: وكان هارون هائبا مطيعاً له {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} أي ما شأنك فيما صنعت؟ وما الذي حملك عليه يا سامري؟ {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} أي قال السامريُّ: رأيتُ ما لم يروه وهو أن جبريل جاءك على فرس الحياة فأُلقي في نفسي أن أقبض من أثره قبضة فما ألقيتُه على شيءٍ إِلا دبَّت فيه الحياة {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} أي قبضت شيئاً من أثر فرس جبريل فطرحتها على العجل فكان له خوار {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} أي وكذلك حسَّنتْ وزيَّنَتْ لي نفسي {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} أي قال موسى للسامري: عقوبتك في الدنيا ألاّ تمسَّ أحداً ولا يمسَّك أحد، قال الحسن: جعل الله عقوبة السامري ألا يماسَّ الناسَ ولا يمسّوه عقوبة له فيالدنيا وكأنَّ الله عز وجل شدَّد عليه المحنة {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} أي وإِنَّ لك موعداً للعذاب في الآخرة لن يتخلَّف {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} أي انظر إِلى هذا العجل الذي أقمت ملازماً على عبادته {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} أي لنحرقنَّه بالنار ثم لنطيرنَّه رماداً في البحر لا يبقى منه عين ولا أثر {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي يقول موسى لبني إِسرائيل: إِنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله الذي لا ربَّ سواه {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي وسع علمه كلَّ شيء فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.



أخذ العبرة من قصص الماضين وجزاء المعرض عن القرآن



{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا(99)مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا(100)خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا(101)يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا(102)يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا(103)نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا(104) }



{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} أي كما قصصنا عليك يا محمد خبر موسى مع فرعون وما فيه من الأنباء الغريبة، كذلك نقص عليك أخبار الأمم المتقدمين {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} أي أعطيناك من عندنا قرآناً يتلى منطوياً على المعجزات الباهرة، قال أبو حيّان: امتن تعالى عليه بإِيتائه الذكر المشتمل على القصص والأخبار، الدال على معجزات أُوتيها عليه السلام {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} أي من أعرض عن هذا القرآن فلم يؤمن به ولم يتَّبع ما فيه، فإِنه يحمل يوم القيامة حملاً ثقيلاً، وذنباً عظيماً يثقله في جهنم {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا} أي مقيمين في ذلك العذاب بأوزارهم، وبئس ذلك الحمل الثقيل حملاً لهم، شُبِّه الوزرُ بالحمل لثقله {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} أي يوم ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية، ونحشر المجرمين إلى أرض المحشر زُرق العيون سود الوجوه، قال القرطبي: تُشوه خلقتُهم بزرقة العيون وسواد الوجوه {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا} أي يتهامسون بينهم ويسرُّ بعضهم إِلى بعض قائلين: ما مكثتم في الدنيا إِلا عشر ليال، قال أبو السعود: استقصروا مدة لبثهم فيها لما عاينوا الشدائد والأهوال {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا} أي نحن أعلم بما يتناجون بينهم إِذ يقول أعقلهم وأعدلهم قولاً ما لبثتم إِلا يوماً واحداً.





أحوال الجبال والناس يوم القيامة



{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا(105)فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا(106)لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا(107)يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا(108) يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا(109)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا(110)وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا(111)وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا(112) }.



{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} أي ويسألونك عن حال الجبال يوم القيامة فقل لهم: إِن ربي يفتِّتها كالرمل، ثم يرسل عليها الرياح فيطيرّها {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} أي فيتركها أرضاً ملساء مستوية لا نبات فيها ولا بناء {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} أي لا ترى فيها انخفاضاً ولا ارتفاعاً {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لا عِوَجَ لَهُ} أي في ذلك اليوم العصيب يتَّبع الناس داعي الله الذي يدعوهم لأرض المحشر يأتونه سراعاً لا يزيغون عنه ولا ينحرفون {وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ} أي ذلَّت وسكنت أصوات الخلائق هيبةً من الرحمن جل وعلا {فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} أي لا تسمع إِلا صوتاً خفياً لا يكاد يُسمع، وعن ابن عباس: هو همسُ الأقدام في مشيها نحو المحشر {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا} أي في ذلك اليوم الرهيب لا تنفع الشفاعة أحداً إِلاّ لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، ورضي لأجله شفاعة الشافع، وهو الذي كان في الدنيا من أهل لا إِله إِلا الله، قاله ابن عباس {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي يعلم تعالى أحوال الخلائق فلا تخفى عليه خافية من أمور الدنيا وأمور الآخرة {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} أي لا تحيط علومهم بمعلوماته جل وعلا {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} أي ذلت وخضعتْ وجوه الخلائق للواحد القهار جبار السماوات والأرض الذي لا يموت، قال الزمخشري: المراد بالوجوه وجُوه العصاة، وأنهم إِذا عاينوا يوم القيامة الخيبة والشقوة وسوء الحساب، صارت وجوهُهم عانيةً أي ذليلة خاضعة مثل وجوه العُناة وهم الأسارى كقوله {سيئت وجوه الذين كفروا}، {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} أي خسر من أشرك بالله، ولم ينجح ولا ظفر بمطلوبه {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي من قدَّم الأعمال الصالحة بشرط الإِيمان {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْما} أي فلا يخاف ظلماً بزيادة سيئاته، ولا بخساً ونقصاً لحسناته.





أنزل الله القرآن عربياً وأمر نبيه بعدم العجلة بقراءته عند تلاوة جبريل



{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا(113)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا(114)}.



{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي مثل إِنزال الآيات المشتملة على القصص العجيبة أنزلنا هذا الكتاب عليك يا محمد بلغة العرب ليعرفوا أنه في الفصاحة والبلاغة خارج عن طوق البشر {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} أي كررنا فيه الإِنذار والوعيد {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} أي كي يتقوا الكفر والمعاصي أو يحدث لهم موعظة في القلوب ينشأ عنها امتثال الأوامر واجتناب النواهي {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أي جلَّ الله وتقدَّس الملك الحق الذي قهر سلطانه كل جبار عّما يصفه به المشركون من خلقه {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي إِذا أقرأك جبريل القرآن فلا تتعجل بالقراءة معه، بل استمعْ إِليهِ واصبر حتى يفرغَ من تلاوته وحينئذٍ تقرأه أنت، قال ابن عباس: كان عليه السلام يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصاً على حفظ القرآن ومخافة النسيان فنهاه الله عن ذلك، قال القرطبي: وهذا كقوله تعالى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} أي سلِ الله عز وجل زيادة العلم النافع، قال الطبري: أمره بمسألته من فوائد العلم ما لا يعلم.



قصة إخراج آدم من الجنة من وراء وسوسة الشيطان



{ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا(115)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى(116)فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى(117)إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى(118)وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى(119)فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى(120)فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى(121)ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى(122)قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى(123)وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءاياتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(126)وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى(127)}.



{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة من القديم {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} أي نسي أمرنا ولم نجد له حزماً وصبراً عمّا نهيناه عنه {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى} يذكر تعالى تشريف آدم وتكريمه وما فضّله به على كثير من الخلق، أي واذكر يا محمد حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تحيةٍ وتكريم فامتثلوا الأمر إِلا إِبليس فإِنه أبى السجود وعصى أمر ربه، قال الصاوي: كررت هذه القصة في سبع سور من القرآن تعليماً للعباد امتثال الأوامر، واجتناب النواهي وتذكيراً لهم بعداوة إِبليس لأبيهم آدم {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} أي ونبهنا آدم فقلنا له إِن إِبليس شديد العداوة لك ولحواء {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} أي لا تطيعاه فيكون سبباً لإِخراجكما من الجنة فتشقيان، وإِنما اقتصر على شقائه مراعاةً للفواصل ولاستلزام شقائه لشقائها، قال ابن كثير: المعنى إِيّاك أن تسعى في إِخراجك من الجنة فتتعب وتشقى في طلب رزقك، فإِنك ههنا في عيشٍ رغيد، بلا كلفةٍ ولا مشقة {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} أي إِنَّ لك يا آدم ألاَّ ينالك في الجنة الجوعُ ولا العريُ {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} أي ولك أيضاً ألاّ يصيبك العطش فيها ولا حر الشمس، لأن الجنة دار السرور والحبور، لا تعب فيها ولا نصب، ولا حر ولا ظمأ بخلاف دار الدنيا {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} أي حدَّثه خفيةً بطريق الوسوسة {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} أي قال له إِبليس اللعين: هل أدلك يا آدم على شجرةٍ من أكل منها خُلّد ولم يمت أصلاً، ونال المُلك الدائم الذي لا يزول أبداً؟ وهذه مكيدة ظاهرها النصيحة ومتى كان اللعين ناصحاً؟ {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} أي أكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عنها فظهرت لهما عوراتهما، قال ابن عباس: عريا من النور الذي كان الله تعالى قد ألبسهما إِياه حتى بدت فروجهما {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجنَّةِ} أي شرعاً يأخذان من أوراق الجنة ويغطيان بها عوراتهما ليستترا بها {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} أي خالف آدم أمر ربه بالأكل من الشجرة فضلَّ عن المطلوب الذي هو الخلود في الجنة حيث اغتر بقول العدوّ، قال أبو السعود: وفي وصفه بالعصيان والغِواية - مع صغر زلته - تعظيمٌ لها وزجرٌ بليغ لأولاده عن أمثالها {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} أي ثم اصطفاه ربه فقرَّبه إِليه وقبل توبته وهداه إِلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب الطاعة {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي قال الله لآدم وحواء: إِنزلا من الجنة إِلى الأرض مجتمعين، بعضُ ذريتكما لبعض عدوٌّ بسبب الكسب والمعاش واختلاف الطبائع والرغبات، قال الزمخشري: لما كان آدم وحواء أصلي البشر جُعلا كأنهما البشر في أنفسهما فخوطبا مخاطبتهم {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أي فإِن جاءكم من جهتي الكتب والرسل لهدايتكم {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} أي فمن تمسَّك بشريعتي واتَّبع رسلي فلا يضلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة قال ابن عباس: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألاّ يضلَّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة وتلا الآية {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} أي ومن أعرض عن أمري وما أنزلته على رسلي من الشرائع والأحكام فإِن له في الدنيا معيشةً قاسية شديدة وإِن تنعَّم ظاهره {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} أي ونحشره في الآخرة أعمى البصر، قال ابن كثير: من أعرض عن أمر الله وتناساه فإِن له حياة ضنكاً في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيِّقٌ حرج لضلاله وإِن تنعَّم ظاهره ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإِن قلبه في قلقٍ وحيرة وشك، وقيل: يُضيَّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} أي قال الكافر: يا رب بأي ذنبٍ عاقبتني بالعمى وقد كنت في الدنيا بصيراً؟ {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءاياتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} أي قال الله تعالى له: لقد أتتك ءاياتنا واضحة جلية فتعاميتَ عنها وتركتها، وكذلك تُترك اليوم في العذاب جزاءً وفاقاً {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ} أي ومثل ذلك الجزاء الموافق للخيانة والتكذيب بآيات الله نعاقب من أسرف بالانهماك في الشهوات، ولم يصدّق بكلام ربه وآياته البينات {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} أي عذاب جهنم أشدُّ من عذاب الدنيا لأنَّ عذابها أدوم وأثبت لأنه لا ينقطع ولا ينقضي.





الاعتبار بهلاك الأمم الماضية، والصبر على أذى المشركين وعدم الالتفات إلى متعهم،

وأمر الأهل بالصلاة





{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى(128)وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى(129)فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى(130)وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى(131)وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى(132)}.





{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} أي أفلم يتبيَّن لكفار مكة الذين كذبوك كم أهلكنا قبلهم من الأمم الخالية المكذبين لرسلهم {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} أي يرون مساكن عاد وثمود ويعاينون آثار هلاكهم أفلا يتعظون ويعتبرون؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} أي إِنَّ في آثار هذه الأمم البائدة لدلالات وعِبراً لذوي العقول السليمة {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} أي لولا قضاءُ الله بتأخير العذاب عنهم ووقتٌ مسمَّى لهلاكهم لكان العذاب واقعاً بهم قال الفراء: في الآية تقديم وتأخيرٌ والمعنى ولولا كلمةٌ وأجلٌ مسمَّى لكان لزاماً أي لكان العذاب لازماً لهم، وإِنما أخَّره لتعتدل رؤوس الآي {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي فاصبر يا محمد على ما يقول هؤلاء المكذبون من قومك {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} أي صلّ وأنت حامد لربك قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل غروبها صلاة العصر {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} أي وصلِّ لربك في ساعات الليل وفي أول النهار وآخره {لَعَلَّكَ تَرْضَى} أي لعلَّك تُعطى ما يرضيك، قال القرطبي: أكثر المفسرين أن هذه الآية إشارة إِلى الصلوات الخمس {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} صلاة الصبح {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} صلاة العصر {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} صلاة العشاء {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} صلاة المغرب والظهر، لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول، وغروب الشمس آخر طرف النهار الأخير {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} أي لا تنظر إِلى ما متعنا به أصنافاً من الكفار من نعيم الدنيا وبهرجها الخادع {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} أي زينة الحياة الدنيا {لِنَفْتنَهُمْ فِيهِ} أي لنبتليهم ونختبرهم بهذا النعيم حتى يستوجبوا العذاب بكفرهم {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي ثواب الله خير من هذا النعيم الفاني وأدوم، قال المفسرون: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به أُمته لأنه عليه السلام كان أزهد الناس في الدنيا وأشدَّ رغبة فيما عند الله {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أي وأْمر يا محمد أهلك وأمتك بالصلاة واصبر أنت على أدائها بخشوعها وآدابها { لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} أي لا نكلفك أن ترزق نفسك وأهلك بل نحن نتكفل برزقك وإِياهم {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} أي العاقبة الحميدة لأهل التقوى، قال ابن كثير: أي حسن العاقبة وهي الجنة لمن اتقى الله.



اقتراح المشركين الإتيان بمعجزة أخرى غير مكتفين بمعجزة القرآن





{وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى(133)وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءاياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى(134)قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى(135)}



{وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أي قال المشركون هلاّ يأتينا بمعجزة تدل على صدقه؟ {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} أي أولم يكتفوا بالقرآن المعجزة الكبرى لمحمد عليه السلام المحتوي على أخبار الأمم الماضية؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع، قال أبو حيّان: اقترح المشركون ما يختارون على ديدنهم في التعنت فأجيبوا بأن هذا القرآن الذي سبق التبشير به في الكتب الإِلهية السابقة أعظم الآيات في الإِعجاز وهو الآية الباقية إِلى يوم القيامة {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} أي لو أنا أهلكنا كفار مكة من قبل نزول القرآن وبعثة محمد عليه السلام {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} أي لقالوا يا ربنا هلاّ أرسلت إِلينا رسولاً حتى نؤمن به ونتَّبعه {فَنَتَّبِعَ ءاياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} أي فنتمسك بآياتك من قبل أن نذلّ بالعذاب ونفتضح على رؤوس الأشهاد، قال المفسرون: أراد تعالى أن يبيّن أنه لا حجة لأحد على الله بعد إِرسال الرسل وإِنزال الكتب فلم يترك لهم حجة ولا عذراً {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} أي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين كلٌ مناومنكم منتظر دوائر الزمان ولمن يكون النصر {فَتَرَبَّصُوا} أمر تهديد أي فانتظروا العاقبة والنتيجة {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} أي فستعلمون عن قريب من هم أصحاب الطريق المستقيم هل نحن أم أنتم؟ {وَمَنْ اهْتَدَى} أي اهتدى إِلى الحق وسبيل الرشاد ومن بقي على الضلال، قال القرطبي: وفي هذا ضربٌ من الوعيد والتخويف والتهديد ختمت به السورة الكريمة.










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-26, 17:50   رقم المشاركة : 48
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 سورة الأنبياء

سورة الأنبياء



غفلة الناس عن الحساب يوم القيامة

بشرية الرسل عليهم الصلاة والسلام

تهديد الكفار بالهلاك نتيجة ظلمهم كما فعل بسلفهم

توبيخ المشركين وذمهم وإثبات الوحدانية

الإنكار الشديد على من اتخذ آلهة مع الله

توبيخ آخر للمشركين على عدم تدبرهم ءايات الكون الدالة على وجود الإله الواحد

لم يكتب الخلود لأحد من الخلائق ومجيء القيامة بغتة

حفظ الله للبشر وعدله في حسابهم

إتيان موسى وهارون التوراة وتنزيل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم

إنكار إبراهيم عبادة الأصنام ودعوته إلى التوحيد

نقاش إبراهيم مع قومه حول تكسير الأصنام

نجاة سيدنا إبراهيم عليه السلام من النار

تنجية إبراهيم ولوط إلى الأرض المقدسة - الشام

قصة لوط عليه السلام وإعطاؤه النبوة

قصة نوح عليه السلم

قصة داود وسليمان عليهما السلام

قصة أيوب عليه السلام

قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل عليهم السلام

قصة يونس عليه السلام وابتلاع الحوت له

قصة زكريا ويحيى عليهما السلام مع قصة مريم

وحدة الرسالات السماوية

مصير الكافرين والمؤمنين في الآخرة وطي السماء

محمد صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة



بَين يَدَي السُّورَة



هذه السورة مكية وهي تعالج موضوع العقيدة الإِسلامية في ميادينها الكبيرة "الرسالة، الوحدانية البعث والجزاء" وتتحدث عن الساعة وشدائدها، والقيامة وأهوالها، وعن قصص الأنبياء والمرسلين.



* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن غفلة الناس عن الآخرة، وعن الحساب والجزاء، بينما القيامة تلوح لهم وهم في غفلةٍ عن ذلك اليوم الرهيب، وقد شغلتهم مغريات الحياة عن الحساب المرقوب.



* ثم انتقلت إلى الحديث عن المكذبين، وهم يشهدون مصارع الغابرين، ولكنهم لا يعتبرون ولا يتعظون، حتى إِذا ما فاجأهم العذاب، رفعوا أصواتهم بالتضرع والاستغاثة ولكن هيهات.



* وتناولت السورة دلائل القدرة في الأنفس والآفاق، لتنبه على عظمة الخالق المدبر الحكيم، فيما خلق وأبدع، ولتربط بين وحدة الكون، ووحدة الإِله الكبير.



* وبعد عرض الأدلة والبراهين، الشاهدة على وحدانية رب العالمين، تذكر السورة حال المشركين وهم يتلقون الرسول عليه السلام بالاستهزاء والسخرية والتكذيب، وتعقّب على ذلك بسنة الله الكونية في إِهلاك الطغاة المجرمين.



* ثم تتناول السورة الكريمة قصص بعض الرسل، وتتحدث بالإِسهاب عن قصة إِبراهيم عليه السلام مع قومه الوثنيّين، في أسلوب مشوّق، فيه من نصاعة البيان، وقوة الحجة والبرهان ما يجعل الخصم يقر بالهزيمة في خنوعٍ واستسلام، وفي قصته عبر وعظات.



* وتتابع السورة الحديث عن الرسل الكرام فتتحدث عن "إِسحاق، ويعقوب، ولوط، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، وإِسماعيل، وإِدريس، وذي الكفل، وذي النون، وزكريا، وعيسى" بإِيجاز مع بيان الأهوال والشدائد التي تعرضوا لها، وتختم ببيان رسالة سيد المرسلين محمد بن عبد الله المرسل رحمة للعالمين.

التســـميَــــة:

سميت "سورة الأنبياء" لأن الله تعالى ذكر فيها جملةً من الأنبياء الكرام في استعراضٍ سريع، يطول أحياناً ويقصر أحياناً، وذكر جهادهم وصبرهم وتضحيتهم في سبيل الله، وتفانيهم في تبليغ الدعوة لإِسعاد البشرية.





غفلة الناس عن الحساب يوم القيامة



{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ(1)مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ(2)لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ(3)قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ(5)مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ(6) }.



{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} أي قرب ودنا وقت حساب الناس على أعمالهم { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} أي وهم مستغرقون في الشهوات، غافلون عن ذلك اليوم الرهيب، لا يعملون للآخرة ولا يستعدون لها كقول القائل: الناس في غفلاتهم: ورَحى المنيَّة تطحن، وإِنما وصف الآخرة بالاقتراب لأن كل ما هو آتٍ قرب {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} أي ما يأتيهم شيءُ من الوحي والقرآن من عند الله متجدّد في النزول فيه عظةٌ لهم وتذكير {إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أي إِلاّ استمعوا القرآن مستهزئين قال الحسن: كلما جُدّد لهم الذكرُ استمروا على الجهل {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} أي ساهيةً قلوبهم عن كلام الله، غافلةً عن تدبر معناه {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي تناجى المشركون فيما بينهم سراً { هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي قالوا فيما بينهم خفيةً هل محمد الذي يدّعى الرسالة إِلا شخص مثلكم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ؟ {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أي أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر ؟ قال الألوسي: أرادوا أن ما أتى به محمد عليه السلام من قبيل السحر، وذلك بناءً على ما ارتكز في اعتقادهم أن الرسول لا يكون إِلا ملكاً وأن كل ما جاء به من الخوارق من قبيل السحر وعنوا بالسحر القرآن {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي قال محمد صلى الله عليه وسلم إِنَّ ربي لا يخفى عليه شيء مما يقال في السماء والأرض {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع بأقوالكم، العليم بأحوالكم، وفي هذا تهديدٌ لهم ووعيد {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} هذا إِضرابٌ من جهته تعالى وانتقال إلى ما هو أشنع وأقبح حيث قالوا عن القرآن إِنه أخلاط منامات {بَلْ افْتَرَاهُ} أي اختلقه محمد من تلقاء نفسه {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} أي بل محمد شاعر وما أتى به شعر يخيل للسامع أنه كلام رائع مجيد قال ابن جزي: حكى عنهم هذه الأقوال الكثيرة ليظهر اضطراب أمرهم وبطلان أقوالهم فهم متحيرون لا يستقرون على شيء {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} أي فليأتنا محمدٌ بمعجزةٍ خارقة تدل على صدقه كما أُرسل موسى بالعصا وصالح بالناقة {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} أي ما صدَّق قبل مشركي مكة أهل القرى الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات بل كذبوا فأهلكهم الله أفيصدّق هؤلاء بالآيات لو رأوها ؟ كلا قال أبو حيان: وهذا استبعادٌ وإِنكار أي هؤلاء أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات فلو أعطيناهم ما اقترحوا لكانوا أضلَّ من أولئك واستحقوا عذاب الاستئصال ولكنَّ الله تعالى حكم بإِبقائهم لعلمه أنه سيخرج منهم مؤمنون.



بشرية الرسل عليهم الصلاة والسلام



{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ(7)وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ(8)ثُمَّ صَدَقْنَاهُمْ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ(9)لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ(10) }.



{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} أي وما أرسلنا قبلك يا محمد إِلا رسلاً من البشر لا ملائكة فكيف ينكر هؤلاء المشركون رسالتك ويقولون: ما هذا إِلا بشر مثلكم؟ {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي فاسألوا يا أهل مكة العلماء بالتوراة والإِنجيل هل كان الرسل الذين جاؤوهم بشراً أم ملائكة ؟ إِن كنتم لا تعلمون ذلك {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} أي ما جعلنا الأنبياء أجساداً لا يأكلون ولا يشربون كالملائكة بل هم كسائر البشر يأكلون ويشربون، وينامون ويموتون {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} أي ما كانوا مخلَّدين في الدنيا لا يموتون {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمْ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ} أي ثم صدقنا الأنبياء ما وعدناهم به من نصرهم وإِهلاك مكذبيهم وإِنجائهم مع أتباعهم المؤمنين {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} أي وأهلكنا المكذبين للرسل، المجاوزين الحدَّ في الكفر والضلال، وهذا تخويفٌ لأهل مكة {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} اللام للقسم أي والله لقد أنزلنا إِليكم يا معشر العرب كتاباً عظيماً مجيداً لا يماثله كتاب في شرفُكم وعزُّكم {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تعقلون هذه النعمة فتؤمنون بما جاءكم به محمد عليه السلام ؟



تهديد الكفار بالهلاك نتيجة ظلمهم كما فعل بسلفهم



{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ(11)فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ(12)لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ(13)قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(14)فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ(15)وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ(16)لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ(17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ(18)وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ(19)يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ(20) }.



{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} أي وكثيراً أهلكنا من أهل القرى الذين كفروا بآيات الله وكذبوا رسله { وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} أي وخلقنا أمة أخرى بعدهم {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} أي فلما رأوا عذابنا بحاسة البصر وتيقنوا نزوله إذا هم يهربون فارين منهزمين قال أبو حيان: لما أدركتهم مقدمة العذاب ركبوا دوابّهم يركضونها هاربين منهزمين {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} أي تقول لهم الملائكة استهزاءً: لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إِلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور ولين العيش {وَمَسَاكِنِكُمْ} أي ارجعوا إِلى مساكنكم الطيبة {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي لعلكم تُسألون عما جرى عليكم، وهذا كله من باب الاستهزاء التوبيخ {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي قالوا يا هلاكنا ودمارنا إِنا كنا ظالمين بالإِشراك وتكذيب الرسل، اعترفوا وندموا حين لا ينفعهم الندم {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} أي فما زالت تلك الكلمات التي قالوها يكررونها ويردّدونها {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} أي حتى أهلكناهم بالعذاب وتركناهم مثل الحصيد موتى كالزرع المحصود بالمناجل {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} أي لم نخلق ذلك عبثاً وباطلاً وإِنما خلقناهما دلالةً على قدرتنا ووحدانيتنا ليعتبر الناس ويستدلوا بالخلق على وجود الخالق المدّبر الحكيم {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} قال ابن عباس: هذا ردٌّ على من قال اتخذ الله ولداً والمعنى لو أردنا أن نتخذ ما يُتلهى به من زوجةٍ أو ولد {لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} أي لاتخذناه من عندنا من الحور العين أو الملائكة {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} أي لو أردنا فعل ذلك لاتخذنا من لدنا ولكنه منافٍ للحكمة فلم نفعله {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} أي بل نرمي بالحق المبين على الباطل المتزعزع فيقمعه ويُبطله {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي هالك تالف {وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} أي ولكم يا معشر الكفار العذاب والدمار من وصفكم الله تعالى بما لا يجوز من الزوجة والولد {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي وله جلَّ وعلا جميع المخلوقات ملكاً وخلقاً وتصرفاً فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبدٌ ومخلوق له ؟ {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} أي والملائكة الذين عبدتموهم من دون الله لا يتكبرون عن عبادة مولاهم ولا يَعْيَون ولا يملُّون {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} أي هم في عبادة دائمة ينزّهون الله عما لا يليق به ويصلّون ويذكرون الله ليل نهارّ لا يضعفون ولا يسأمون.



توبيخ المشركين وذمهم وإثبات الوحدانية



{ أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ(21)لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(22)لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(23)أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ(24) }.



{أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} لما ذكر الدلائل على وحدانيته وأن من في السماوات والأرض ملكٌ له وأن الملائكة المقربين في طاعته وخدمته عاد إِلى ما كان عليه من توبيخ المشركين وذمهم وتسفيه أحلامهم، و{أَمْ} منقطعة بمعنى بل والهمزة فيها استفهام معناه التعجب والإِنكار والمعنى هل اتخذ هؤلاء المشركين آلهةً من الأرض قادرين على إِحياء الموتى ؟ كلا بل اتخذوا آلهةً جماداً لا تتصف بالقدرة على شيء فهي ليست بآلهة على الحقيقة لأن من صفة الإله القدرةُ على الإِحياء والإِماتة {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} هذا برهان على وحدانيته تعالى أي لو كان في الوجود آلهة غير الله لفسد نظام الكون كله لما يحدث بين الآلهة من الاختلاف والتنازع في الخلق والتدبير وقصد المغالبة، ألا ترى أنه لا يوجد ملِكان في مدينة واحدة، ولا رئيسان في دائرة واحدة ؟ {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزّه الله الواحد الأحد خالق العرش العظيم عما يصفه به أهل الجهل من الشريك والزوجة والولد {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أي لا يسأل تعالى عمّا يفعل لأنه مالك كل شيء والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، ولأنه حكيم فأفعاله كلُّها جارية على الحكمة، وهم يُسألون عن أعمالهم لأنهم عبيد {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} كرَّر هذا الإِنكار استعظاماً للشرك ومبالغة في التوبيخ أي هل اتخذوا آلهة من دون الله تصلح للعبادة والتعظيم ؟ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } أي قل يا محمد لأولئك المشركين ائتوني بالحجة والبرهان على ما تقولون {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} أي هذا الكتاب الذي معي والكتب التي من قبلي كالتوراة والإِنجيل ليس فيها ما يقتضي الإِشراك بالله، ففي أي كتابٍ نزل هذا ؟ في القرآن أم في الكتب المنزّلة على سائر الأنبياء ؟! فما زعمتموه من وجود الآلهة لا تقوم عليه حجة لا من جهة العقل ولا النقل، بل كتب الله السابقة شاهدة بتنزيهه عن الشركاء والأنداد {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي بل أكثر المشركين لا يعلمون التوحيد فهم معرضون عن النظر والتأمل في دلائل الإِيمان.



المنَــاسَــبَــة:

لما بيَّن تعالى أحوال المشركين وأقام الأدلة والبراهين على وحدانية الله وبطلان تعدد الآلهة، ذكر هنا أن دعوة الرسل جميعاً إِنما جاءت لبيان التوحيد ثم ذكر بقية الأدلة على قدرة الله ووحدانيته في هذا الكون العجيب.

سـبَبَ النّزول :

مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان وأبي جهل وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان : هذا نبيُّ بني عبد مناف !! فغضب أبو سفيان وقال : ما تنكر أن يكون لبني عبد منافٍ نبيٌّ ؟ فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى أبي جهل وقال له : ما أراك منتهياً حتى يصيبك ما أصاب عمَّك الوليد بن المغيرة فنزلت {وإِذا رآك الذين كفروا إِنْ يتخذونك إِلا هُزُواً..} الآية.



الإنكار الشديد على من اتخذ آلهة مع الله



{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26)لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ(27)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ(28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ(29)}



{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ } أي وما بعثنا قبلك يا محمد رسولاً من الرسل { إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} أي إِلا أوحينا إِليه أنه لا ربَّ ولا معبود بحق سوى الله {فَاعْبُدُونِ} أي فاعبدوني وحدي وخصوني بالعبادة ولا تشركون معي أحداً {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا} أي قال المشركون اتخذ الله من الملائكة ولداً قال المفسرون: هم حيٌّ من خزاعة قالوا: الملائكة بنات الله {سُبْحَانَهُ } أي تنزَّه الله وتقدَّس عما يقول الظالمون {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} أي بل هم عبادٌ مبجَّلون اصطفاهم الله فهم مكرمون عنده في منازل عالية، ومقاماتٍ سامية وهم في غاية الطاعة والخضوع {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أي لا يقولون شيئاً حتى يقوله شأنهم شأن العبيد المؤدبين وهم بطاعته وأوامره يعلمون لا يخالفون ربهم في أمرٍ من الأوامر {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي علمه تعالى محيط بهم لا يخفى عليه منهم خافية {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى} أي لا يشفعون يوم القيامة إِلا لمن رضي الله عنه وهم أهل الإِيمان كما قال ابن عباس: هم أهل شهادة لا إِله إِلا الله {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} أي وهم من خوف الله ورهبته خائفون حذرون لأنهم يعرفون عظمة الله قال الحسن: يرتعدون من خشية الله {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} أي ومن يقل من الملائكة إني إلهٌ ومعبودٌ مع الله {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} أي فعقوبته جهنم قال المفسرون: هذا على وجه التهديد وعلى سبيل الفرض والتقدير لأن هذا شرط والشرطُ لا يلزم وقوعه والملائكة معصومون {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أي مثل ذلك الجزاء الشديد نجزي من ظلم وتعدى حدود الله.



توبيخ آخر للمشركين على عدم تدبرهم ءايات الكون الدالة على وجود الإله الواحد



{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ(30)وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(31)وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ ءاياتِهَا مُعْرِضُونَ(32)وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(33)}



{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} استفهام توبيخ لمن ادعى مع الله آلهة وردٌّ على عبدة الأوثان أي أولم يعلم هؤلاء الجاحدون أن السماوات الأرض كانتا شيئاً واحداً ملتصقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إِلى حيث هي وأقرَّ الأرض كما هي ؟ قال الحسن وقتادة : كانت السماوات والأرض ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء وقال ابن عباس: كانت السماوات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تُنبت ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي جعلنا الماء أصل كل الأحياء وسبباً للحياة فلا يعيش بدونه إِنسان ولا حيوان ولا نبات {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} أي أفلا يصدّقون بقدرة الله ؟ {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ } أي جعلنا في الأرض جبالاً ثوابت لئلا تتحرك وتضطرب فلا يستقر لهم عليها قرار {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي وجعلنا في هذه الجبال مسالك وطرقاً واسعة كي يهتدوا إِلى مقاصدهم في الأسفار قال ابن كثير: جعل في الجبال ثُغراً يسلكون فيها طرقاً من قطر إِلى قطر، وإِقليم إِلى إِقليم، كما هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلاً بين هذه البلاد وهذه فيجعل الله فيها فجوةً ليسلك الناس فيها من ههنا إِلى ههنا {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} أي جعلنا السماء كالسقف للأرض محفوظة من الوقوع والسقوط وقال ابن عباس: حفظت بالنجوم من الشياطين {وَهُمْ عَنْ ءاياتِهَا مُعْرِضُونَ} أي والكفار عن الآيات الدالة على وجود الصانع وقدرته من الشمس والقمر والنجوم وسائر الأدلة والعبر معرضون لا يتفكرون فيما أبدعته يد القدرة من الخلق العجيب والتنظيم الفريد الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة قال القرطبي: بيَّن تعالى أن المشركين غفلوا عن النظر في السماوات وآياتها، من ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، وأفلاكها ورياحها، وما فيها من القدرة الباهرة إِذ لو نظروا واعتبروا لعلموا أن لها صانعاً قادراً واحداً يستحيل أن يكون له شريك {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي وهو تعالى بقدرته نوَّع الحياة فجعل فيها ليلاً ونهاراً هذا في ظلامه وسكونه، وهذا بضيائه وأنسه، يطول هذا تارة ثم يقصر أُخرى وبالعكس، وخلق الشمس والقمر آيتين عظيمتين دالتين على وحدانيته {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي كلٌّ من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء.



لم يكتب الخلود لأحد من الخلائق وإتيان القيامة بغتة



{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ(34)كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ(35)وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ(36)خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ ءاياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ(37)وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمْ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ(39)بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ(40)وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(41)}.



{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} أي وما جعلنا لأحدٍ من البشر قبلك يا محمد البقاء الدائم والخلود في الدنيا { أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ} أي فهل إِذا متَّ يا محمد سيخلَّدون بعدك في هذه الحياة ؟ لا لن يكون لهم ذلك بل كلٌّ إِلى الفناء قال المفسرون: هذا ردٌّ لقول المشركين {شاعرٌ نتربص به ريب المنون} فأعلم تعالى بأن الأنبياء قبله ماتوا وتولى الله دينه بالنصر والحياطة، فهكذا نحفظ دينك وشرعك {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أي كل مخلوقٍ إِلى الفناء ولا يدوم إِلا الحيُّ القيوم {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} أي ونختبركم بالمصائب والنِّعم لنرى الشاكر من الكافر، والصابر من القانط قال ابن عباس: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسَّقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال وقال ابن زيد: نختبركم بما تحبون لنرى كيف شكركم، وبما تكرهون لنرى كيف صبركم !! {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي وإِلينا مرجعكم فنجازيكم بأعمالكم {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} أي إِذا رآك كفار قريش كأبي جهل وأشياعه يسخرون منك ويقولون { أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} استفهام فيه إِنكار وتعجيب أي هذا الذي يسب آلهتكم ويُسفّه أحلامكم ؟ {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ} أي وهم كافرون بالله ومع ذلك يستهزئون برسول الله قال القرطبي: كان المشركون يعيبون من جحد إِلهية أصنامهم وهم جاحدون لإِلهية الرحمن، وهذا غاية الجهل {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أي رُكّب الإِنسان على العَجلة فخُلق عجولاً يستعجل كثيراً من الأشياء وإِن كانت مضرَّة قال ابن كثير: والحكمة في ذكر عجلة الإِنسان ههنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلى الله عليه وسلم وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلوا ذلك ولهذا قال {سَأُرِيكُمْ ءاياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} أي سترون انتقامي واقتداري على من عصاني فلا تتعجلوا الأمر قبل أوانه {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي ويقول المشركون على سبيل الاستهزاء والسخرية: متى هذا العذاب الذي يعدنا به محمد إِن كنتم يا معشر المؤمنين صادقين فيما أخبرتمونا به، قال تعالى {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمْ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} أي لو عرف الكافرون فظاعة العذاب حين لا يستطيعون دفع العذاب عن وجوههم وظهورهم لأنه محيط بهم من جميع جهاتهم لما استعجلوا الوعيد قال أبو حيّان: وجواب {لَوْ} محذوف لأنه أبلغ في الوعيد وأهيب وقدَّره الزمخشري بقوله: لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكنَّ جهلهم هو الذي هوَّنه عندهم {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي لا ناصر لهم من عذاب الله {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} أي بل تأتيهم الساعة فجأة فتدهشهم وتحيرهم {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} أي فلا يقدرون على صرفها عنهم ولا يُمهلون ويُؤخرون لتوبةٍ واعتذار {وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزاء المشركين أي والله لقد استهزئ برسلٍ أولي شأن خطير وذوي عدد كثير من قبلك يا محمد {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} أي فنزل وحلَّ بالساخرين من الرسل العذاب الذي كانوا يستهزئون به قال أبو حيان: سلاّه تعالى بأنَّ من تقدَّمه من الرسل وقع من أممهم الاستهزاء بهم، وأن ثمرة استهزائهم جَنَوْها هلاكاً وعقاباً في الدنيا والآخرة فكذلك حال هؤلاء المستهزئين.



حفظ الله للبشر وعدله في حسابهم



{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَانِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ(42)أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ(43)بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ(44)قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ(45)وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(46)وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ(47)}.



{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَانِ} أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين من يحفظكم من بأس الرحمن في أوقاتكم؟ ومن يدفع عنكم عذابه وانتقامه إِن أراد إِنزاله بكم؟ وهو سؤال تقريع وتنبيه كيلا يغْترُّوا بما نالهم من نعم الله {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} أي بل هؤلاء الظالمون معرضون عن كلام الله ومواعظه لا يتفكرون ولا يعتبرون {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} أي ألهم آلهة تمنعهم من العذاب غيرنا ؟ {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ} أي لا يقدرون على نصر أنفسهم، فكيف ينصرون عابديهم ؟{ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} أي وليست هذه الآلهة تستطيع أن تجير نفسها من عذاب الله لأنها في غاية العجز والضعف قال ابن عباس: يُصحبون: يُجارون أي لا يُجيرهم منا أحد لأن المجير صاحب لجاره {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} أي متعنا هؤلاء المشركين وآباءهم من قبلهم بما رزقناهم من حطام الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة وحسبوا أن ذلك يدوم فاغتروا بذلك {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي أفلا ينظرون فيعْتبرون بأننا نأتي أرضهم فننقصها من أطرافها بالفتح على النبي وتسليط المسلمين عليها ؟ {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} استفهام بمعنى التقريع والإِنكار أي أفهم الغالبون والحالة هذه أم المغلوبون؟ بل هم المغلوبون الأخسرون الأرذلون {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} أي قل لهم يا محمد إِنما أخوفكم وأحذركم بوحيٍ من الله لا من تلقاء نفسي، فأنا مبلّغٌ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} أي ولكنكم أيها المشركون لشدة جهلكم وعنادكم كالصُمّ الذين لا يسمعون الكلام والإِنذار فلا يتعظون ولا ينزجرون {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} أي ولئن أصابهم شيء خفيف مما أُنذروا به من عذاب الله ولو كان يسيراً {لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي ليعترفنَّ بجريمتهم ويقولون: يا هلاكنا لقد كنا ظالمين لأنفسنا بتكذيبنا رسل الله {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي ونقيم الموازين العادلة التي توزن بها الأعمال في يوم القيامة {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} أي فلا يُنقص محسنٌ من إِحسانه، ولا يُزاد مسيٌ على إِساءته {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} أي وإِن كان العمل الذي عملته زِنَةُ حبةٍ من خردل جئنا بها وأحضرناها قال أبو السعود: أي وإِن كان في غاية القلة والحقارة، فإِن حبة الخردل مثلٌ في الصغر {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} أي كفى بربك أن يكون محصياً لأعمال العباد مجازياً عليها قال الخازن: والغرضُ منه التحذير فإِن المحاسب إِذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون على أشدّ الخوف منه.



إتيان موسى وهارون التوراة وتنزيل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم



{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ(48)الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ(49)وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(50)}.



{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} أي ولقد أعطينا موسى وهارون التوراة الفارقة بين الحق والباطل والهدى والضلال نوراً وضياءً وتذكيراً للمؤمنين المتقين {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي هم الذين يخافون الله ولم يروه لأنهم عرفوا بالنظر والاستدلال أن لهم رباً عظيماً قادراً يجازي على الأعمال فهم يخشونه وإِن لم يروه {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} أي وهم من أهوال القيامة وشدائدها خائفون وجلون {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} أي وهذا القرآن العظيم كتاب عظيم الشأن فيه ذكرٌ لمَنْ تذكّر، وعظة لمن اتعظ، كثير الخير، أنزلناه عليكم بلغتكم {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي أفأنتم يا معشر العرب منكرون له وهو في غاية الجلاء والظهور ؟ قال الكرخي: الاستفهام للتوبيخ والخطابُ لأهل مكة فإِنهم من أهل اللسان يدركون مزايا الكلام ولطائفه، ويفهمون من بلاغة القرآن ما لا يدركه غيرهم مع أن فيه شرفهم وصيتَهم فلو أنكره غيرهم لكان لهم مناصبته وعداؤه.





إنكار إبراهيم عبادة الأصنام ودعوته إلى التوحيد



{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ(51)إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ(52)قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ(53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(54)قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ(55)قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ(56)وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ(57)فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ(58)}.










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-26, 17:50   رقم المشاركة : 49
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 تابع

المنَــاسَـبَــة:

لمّا ذكر تعالى الدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد أتبع ذلك بذكر قصص الأنبياء، وما نال كثيراً منهم من الابتلاء تسليةً للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ليتأسّى بهم في الصبر واحتمال الأذى في سبيل الله تعالى، وتوطين النفس على مجابهة المشركين أعداء الله.



{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} أي والله لقد أعطينا إِبراهيم هُداه وصلاحه إِلى وجوه الخير في الدين والدنيا {مِنْ قَبْلُ} أي من صغره حيث وفقناه للنظر والاستدلال إِلى وحدانية ذي الجلال {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أي عالمين أنه أهلٌ لما آتيناه من الفضل والنبوة {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} هذا بيانٌ للرشد الذي أُوتيه إِبراهيم من صغره أي حين قال لأبيه آزر وقومه المشركين ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها ؟ وفي قوله { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} تحقيرٌ لها وتصغيرٌ لشأنها وتجاهل بها مع علمه بتعظيمهم لها {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ} أي نعبدها تقليداً لأسلافنا قال ابن كثير: لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال { قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي لقد كنتم وأسلافكم الذين عبدوا هذه الأصنام في خطأٍ بيّن بعبادتكم إِياها إِذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تسمع {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ} أي هل أنت جادُّ فيما تقول أم لاعب ؟ وهل قولك حقٌّ أم مزاح ؟ استعظموا إِنكاره عليهم، واستعبدوا أن يكون ما هم عليه ضلالاً، وجوَّزوا أن ما قاله على سبيل المزاح لا الجد فأضرب عن قولهم وأخبر أنه جادٌّ فيما قال غير لاعب {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} أي ربكم الجدير بالعبادة هو ربَّ السماوات والأرض الذي خلقهنَّ وأبدعهنَّ لا هذه الأصنام المزعومة {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي وأنا شاهد للهِ بالوحدانية بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة كالشاهد الذي تقطع به الدَّعاوى {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} أي وأقسمُ بالله لأمكرنَّ بآلهتكم وأحتالنَّ في وصول الضر إِليها بعد ذهابكم عنها إِلى عيدكم قال المفسرون: كان لهم عيد يخرجون إِليه في كل سنة ويجتمعون فيه فقال آزر لإِبراهيم: لو خرجت معنا إِلى عيدنا أعجبك ديننا!! فخرج معهم إِبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إِلى الأرض وقال إِني سقيم أشتكي رجلي فتركوه ومضوا ثم نادى في آخرهم {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} فسمعها رجلٌ فحفظها {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} أي كسَّر الأصنام حتى جعلها فتاتاً وحُطاماً {إِلا كَبِيرًا لَهُمْ} أي إِلا الصنم الكبير فإِنه لم يكسره قال مجاهد: ترك الصنم الأكبر وعلَّق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه ليحتجَّ به عليهم {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} أي لعلَّهم يرجعون إِلى الصنم فيسألونه عمن كسَّر الأصنام فيتبين لهم عجزه وتقوم الحجة عليهم.



نقاش إبراهيم مع قومه حول تكسير الأصنام



{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ(59)قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ(60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ(61)قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ(62)قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ(63)فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ(64)ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ(65)}.



{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ} في الكلام محذوفٌ تقديره: فلما رجعوا من عيدهم ونظروا إِلى آلهتهم ورأوا ما فُعل بها قالوا على جهة البحث والإِنكار والتشنيع والتوبيخ: إِنَّ من حطَّم هذه الآلهة لشديد الظلم عظيم الجرم لجراءته على الآلهة المستحقة للتعظيم والتوقير {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} أي قال من سمع إِبراهيم يقول {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} سمعنا فتى يذكرهم بالذم ويسبُّهم ويعيبهم يسمى إِبراهيم فلعله هو الذي حطَّم الآلهة ! {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} أي قال نمرود وأشراف قومه أحضروا إِبراهيم بمرأى من الناس حتى يروه، والغرضُ أن تكون محاكمته على رؤوس الأشهاد بحضرة الناس كلهم ليكون عقابه عبرة لمن يعتبر {لعلهم يشهدون} أي لعلهم يحضرون عقابه ويرون ما يصنع به {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} أي هل أنتَ الذي حطَّمت هذه الآلهة يا إِبراهيم ؟ {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} أي قال إِبراهيم بل حطَّمها الصنم الكبير لأنه غضب أن تعبدوا معه هذه الصغار فكسرها، والغرض تبكيتُهم وإِقامة الحجة عليهم ولذا قال {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} أي اسألوا هذه الأصنام من كسرها ؟ إِن كانوا يقدرون على النطق قال القرطبي: والكلام خرج مخرج التعريض وذلك أنهم كانوا يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله كما قال إِبراهيم لأبيه {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} فقال إِبراهيم {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } ليقولوا إِنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون فيقول لهم فلم تعبدونهم ؟ فتقوم عليهم الحجة منهم كما يجوز فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إِلى الحق من نفسه فإِنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ} أي رجعوا إِلى عقولهم وتفكروا بقلوبهم {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ} أي الظالمون في عبادة ما لا ينطق {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} أي انقلبوا من الإِذعان إِلى المكابرة والطغيان {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} أي قالوا في لجاجهم وعنادهم: لقد علمتَ يا إِبراهيم أن هذه الأصنام لا تتكلم ولا تجيب فكيف تأمرنا بسؤالها ؟ وهذا إِقرار منهم بعجز الآلهة، وحينئذٍ توجهت لإِبراهيم الحجة عليهم فأخذ يوبخهم ويعنّفهم.



نجاة سيدناإبراهيم عليه السلام من النار



{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ(66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ(68)قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69)وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ(70)}.



{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ} أي أتعبدون جمادات لا تضر ولا تنفع ؟ {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي قبحاً لكم ونتناً لكم وللأصنام التي عبدتموها من دون الله {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تعقلون قبح صنيعكم ؟ {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ} لمّا لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب عدلوا إِلى البطش والتنكيل فقالوا: احرقوا إِبراهيم بالنار انتقاماً لآلهتكم ونصرةً لها {إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} أي إِن كنتم ناصريها حقاً {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} أي ذات بردٍ وسلامة وجاءت العبارةُ هكذا للمبالغة قال المفسرون: لما أرادوا إِحراق إِبراهيم جمعوا له حطباً مدة شهر حتى كانت المرأة تمرض فتنذر إِن عوفيت أن تحمل حطباً لحرق إِبراهيم، ثم جعلوه في حفرة من الأرض وأضرموها ناراً فكان لها لهب عظيم حتى إِن الطائر ليمرُّ من فوقها فيحترق من شدة وهجها وحرها، ثم أوثقوا إِبراهيم وجعلوه في منجنيق ورموه في النار، فجاء إِليه جبريل فقال: ألك حاجة؟ قال أمّا إِليك فلا، فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال: "حسبي من سؤالي علمه بحالي" فقال الله: يا نار كوني برداً وسلاماً على إِبراهيم، ولم تحرق النار منه سوى وثاقه وقال ابن عباس: لو لم يقل الله {وَسَلامًا} لآذى إِبراهيم بردها {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} أي أرادوا تحريقه بالنار {فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ} أي أخسر الناس وأخسر من كل خاسر حيث كادوا لنبيّ اللهِ فردَّ الله كيدهم في نحورهم.



تنجية إبراهيم ولوط إلى الأرض المقدسة - الشام -



{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ(71)وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ(72)وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ(73) }.



{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} أي ونجينا إِبراهيم مع ابن أخيه لوط حيث هاجرا من العراق إِلى الشام التي بارك الله فيها بالخِصب وكثرة الأنبياء ووفرة الأنهار والأشجار قال ابن الجوزي: وبركتُها أن الله عزَّ وجل بعث أكثر الأنبياء منها وأكثر فيها الخِصب والأنهار {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي أعطينا إِبراهيم -بعدما سأل ربه الولد- إسحاق وأعطيناه كذلك يعقوب نافلةً أي زيادة وفضلاً من غير سؤال قال المفسرون: سأل إِبراهيم ربه ولداً فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة وزيادة على ما سأل لأنَّ ولد الولد كالولد {وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} أي وكلاً من إِبراهيم وإِسحاق ويعقوب جعلناه من أهل الخير والصلاح {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أي جعلناهم قدوةً ورؤساء لغيرهم يرشدون الناس إِلى الدين بأمر الله {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} أي أوحينا إِليهم أن يفعلوا الخيرات ليجمعوا بين العلم والعمل {وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} أي وأمرناهم بطريق الوحي بإِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة، وإِنما خصهما بالذكر لأن الصلاة أفضلُ العبادات البدنية، والزكاة أفضلُ العبادات المالية {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} أي موحدين مخلصين في العبادة.



قصة لوط عليه السلام وإعطاؤه النبوة



{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ(74)وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ(75)}.



{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} أي وأعطينا لوطاً النبوة والعلم والفهم السديد قال ابن كثير: كان لوط قد آمن بإِبراهيم عليه السلام واتَّبعه وهاجر معه كما قال تعالى {فآمن له لوطٌ وقال إِني مهاجرٌ إِلى ربي} فآتاه الله حُكماً وعلماً وأوحى إِليه وجعله نبياً وبعثه إِلى "سدوم" فكذبوه فأهلكهم الله ودمَّر عليهم كما قصّ خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} أي خلَّصناه من أهل قرية سدوم الذين كانوا يعملون الأعمال الخبيثة كاللواط وقطع السبيل وغير ذلك {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} أي كانوا أشراراً خارجين عن طاعة الله {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي أدخلناه في أهل رحمتنا لأنه من عبادنا الصالحين.



قصة نوح عليه السلام



{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(76)وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ(77)}.



{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} أي واذكر قصة نوح حين دعا على قومه من قبل هؤلاء الأنبياء المذكورين، دعا عليهم بالهلاك حين كذبوه بقوله {ربّ لا تذَرْ على الأرض من الكافرين ديَّاراً} {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أي استجبنا دعاءه فأنقذناه ومن معه من المؤمنين - ركاب السفينة - من الطوفان والغرق الذي كان كرباً وغماً شديداً يكاد يأخذ بالأنفاس {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي منعناه من شر قومه المكذبين فنجيناه وأهلكناهم {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} أي كانوا منهمكين في الشرّ فأغرقناهم جميعاً ولم نُبْق منهم أحداً.



قصة داود وسليمان عليهما السلام



{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ(78)فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ(79)وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ(80)وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ(81)وَمِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ(82)}.



{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} أي واذكر قصة داود وسليمان حين يحكمان في شأن الزرع {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} أي وقت رعت فيه غنم القوم ليلاً فأفسدته {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} أي كنا مطَّلعين على حكم كلٍ منهما عالمين به {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي علمنا وألهمنا سليمان الحكم في القضية {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} أي وكلاً من داود وسليمان أعطيناه الحكمة والعلم الواسع مع النبوة قال المفسرون: تخاصم إِلى داود رجلان دخلت غنم أحدهما على زرع الآخر بالليل فأفسدته فلم تُبق منه شيئاً، فقضى بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم، فخرج الرجلان على سليمان وهو بالباب فأخبراه بما حكم به أبوه فدخل عليه فقال: يا نبيَّ الله لو حكمتَ بغير هذا كان أرفق للجميع ؟ قال: وما هو ؟ قال: يأخذ صاحب الغنم الأرض فيصلحها ويبذرها حتى تعود زرعها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها، فإِذا خرج الزرع رُدَّت الغنم إِلى صاحبها والأرض إِلى ربها فقال له داود: وُفّقت يا بُنيَّ وقضى بينهما بذلك فذلك قوله تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} أي جعلنا الجبال والطير تسبّح مع داود إِذا سبّح قال ابن كثير: وذلك لطيب صوته بتلاوة الزبور فكان إِذا ترنّم بها تقف الطير في الهواء فتجاوبه وتردُّ عليه الجبال تأويباً وإِنما قدَّم ذكر الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأغرب وأدخل في الإِعجاز لأنها جماد {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} أي وكنا قادرين على فعل ذلك {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} أي علمنا داود صنع الدروع بإلانة الحديد له قال قتادة: أول من صنع الدروع داود وكانت صفائح فهو أول من سردها وحلَّقها {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} أي لتقيكم في القتال شرَّ الأعداء {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} استفهامٌ يراد به الأمر أي اشكروا الله على ما أنعم به عليكم، ولما ذكر تعالى ما خصَّ به نبيه داود عليه السلام ذكر ما خصَّ به ابنه سليمان فقال {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفةً أي شديدة الهبوب {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} أي تسير بمشيئته وإِرادته إِلى أرض الشام المباركة بكثرة الأشجار والأنهار والثمار، وكانت مسكنه ومقر ملكه {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} أي وكنا عالمين بجميع الأمور فما أعطيناه تلك المكانة إِلا لما نعلمه من الحكمة {وَمِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} أي وسخرنا لسليمان بعض الشياطين يغوصون في الماء ويدخلون أعماق البحار ليستخرجوا له الجواهر واللآلئ {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} أي ويعملون أعمالاً أخرى سوى الغوص كبناء المدن والقصور الشاهقة والأمور التي يعجز عنها البشر {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أي نحفظهم عن الزيغ عن أمره أو الخروج عن طاعته.









قصة أيوب عليه السلام



{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(83)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ(84) }.



المنَــاسـَبـَـة:

لما ذكر تعالى جملةً من الأنبياء "إبراهيم، نوح، لوط، داود، سليمان" وما نال كثيراً منهم من الابتلاء، ذكر هنا قصة أيوب وابتلاء الله له بأنواع المحن ثم أعقبها بذكر محنة يونس وزكريا وعيسى وكلُّ ذلك بقصد التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ليتأسى بهم.



سَبَبُ النزّول:

عن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى {إِنكم وما تعبدون من دون الله حصبُ جهنم} شقَّ ذلك على كفار قريش وقالوا: شتم آلهتنا وأتوا ابن الزَّبعري وأخبروه فقال: لو حضرتُه لرردتُ عليه قالوا: وما كنت تقول له ؟ قال أقول له: هذا المسيح تعبده النصارى، وهذا عزيز تعبده اليهود، أفهما من حصب جهنم ؟ فعجبت قريش من مقالته ورأوا أنَّ محمداً قد خصم فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}.

{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أي واذكر قصة نبيّ الله أيوب حين دعا ربَّه بتضرع وخشوع {أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ} أي نالني البلاء والكرب والشدة قال المفسرون: كان أيوب نبياً من الروم، وكان له أولاد ومال كثير، فأذهب الله ماله فصبر، ثم أهلك الأولاد فصبر، ثم سلَّط البلاء والمرض على جسمه فصبر فمر عليه ملأ من قومه فقالوا: ما أصابه هذا إِلا بذنب عظيم فعند ذلك تضرَّع إِلى الله فكشف عنه ضره {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أي أكثرهم رحمة فارحمني، ولم يصرّح بالدعاء ولكنه وصف نفسه بالعجز والضعف، ووصف ربه بغاية الرحمة ليرحمه، فكان فيه من حسن التلطف ما ليس في التصريح بالطلب {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي أجبنا دعاءه وتضرعه { فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} أي أزلنا ما أصابه من ضر وبلاء {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} قال ابن مسعود: مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة من الإِناث فلما عوفي أُحيوا له وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات. والمعنى أعطيناه أهله في الدنيا ورزقناه من زوجته مثل ما كان له من الأولاد والأتباع {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي من أجل رحمتنا إِيّاه {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} أي وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر قال القرطبي: أي وتذكيراً للعُبَّاد لأنهم إِذا ذكروا بلاء أيوب ومحنته وصبره وطّنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا مثل ما فعل أيوب وهو أفضل أهل زمانه، يُروى أنَّ أيوب مكث في البلاء ثمان عشرة سنة فقالت له امرأته يوماً: لو دعوتَ الله عز وجل فقال لها: كم لبثنا في الرخاء ؟ فقالت: ثمانين سنة فقال: إِني أستحيي من الله أن أدعوه وما مكثت في بلائي المدة التي مكثتها في رخائي.





قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل عليهم السلام:



{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ(85)وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ(86)}.



{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ} واذكر لقومك قصة إِسماعيل بن إِبراهيم وإِدريس بن شيث وذا الكفل {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} أي كل هؤلاء الأنبياء من أهل الإِحسان والصبر، جاهدوا في الله وصبروا على ما نالهم من الأذى {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا} أي أدخلناهم بصبرهم وصلاحهم الجنة دار الرحمة والنعيم { إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي لأنهم من أهل الفضل والصلاح.



قصة يونس عليه السلام وابتلاع الحوت له



{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(87)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) }



{وَذَا النُّونِ} أي واذكر لقومك قصة يونس الذي ابتلعه الحوت، والنونُ هو الحوتُ نُسب إِليه لأنه التقمه {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} أي حين خرج من بلده مغاضباً لقومه إِذ كان يدعوهم إِلى الإِيمان فيكفرون حتى أصابه ضجر منهم فخرج عنهم ولذلك قال الله تعالى {ولا تكن كصاحب الحوت} ولا يصح قول من قال: مغضباً لربه قال أبو حيان: وقولُ من قال مغاضباً لربه يجب طرحه إِذ لا يناسب منصب النبوة وقال الرازي: لا يجوز صرف المغاضبة إِلى الله تعالى لأن ذلك صفة من يجهل كون الله مالكاً للأمر والنهي، والجاهلُ بالله لا يكون مؤمناً فضلاً عن أن يكون نبياً، ومغاضبتُه لقومه كانت غضباً لله، وأنفةً لدينه، وبغضاً للكفر وأهله {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي ظنَّ يونس أنْ لن نضيّق عليه بالعقوبة كقوله {ومن قُدر عليه رزقُه} أي ضُيّق عليه فيه فهو من القدر لا من القُدرة قال الإِمام الفخر الرازي: من ظنَّ عجز الله فهو كافر، ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إِلى آحاد المؤمنين فكيف إِلى الأنبياء عليهم السلام ! روي أنه دخل ابن عباس على معاوية فقال له معاوية: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقتُ فيها فلم أجدْ لي خلاصاً إِلا بك، فقال: وما هي ؟ قال: يظنُّ نبيُّ الله يونس أن لن يقدر الله عليه ؟ فقال ابن عباس: هذا من القدْر لا من القُدرة {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} أي نادى ربه في ظلمة الليل وهو في بطن الحوت قال ابن عباس: جمعت الظلمات لأنها ظلمة الليل، وظلمةُ البحر، وظلمةُ بطن الحوت {أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ} أي نادى بأن لا إِله إِلا أنت يا رب {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} أي تنزَّهت يا ربّ عن النقص والظلم، وقد كنتُ من الظالمين لنفسي وأنا الآن من التائبين النادمين فاكشفْ عني المحنة وفي الحديث (ما من مكروبٍ يدعو بهذا الدعاء إِلا استجيب له) {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } أي استجبنا لتضرعه واستغاثته ونجيناه من الضيق والكرب الذي ناله حين التقمه الحوت {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي كما نجينا يونس من تلك المحنة ننجي المؤمنين من الشدائد والأهوال إِذا استغاثوا بنا.



قصة زكريا ويحيى عليهما السلام مع قصة مريم



{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ(89)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ(90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ(91)}.



{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} أي واذكر يا محمد خبر رسولنا زكريا حين دعا ربه دعاء مخلص منيب قائلاً: ربّ لا تتركني وحيداً بلا ولد ولا وارث قال ابن عباس: كان من سنُّه مائة وسنُّ زوجته تسعاً وتسعين {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} أي وأنت يا رب خير من يبقى بعد كل من يموت قال الألوسي: وفيه مدحٌ له تعالى بالبقاء، وإشارة إلى فناء من سواه من الأحياء، واستمطارٌ لسحائب لطفه عز وجل {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي أجبنا دعاءه {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} أي رزقناه ولداً اسمه يحيى على شيخوخته {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي جعلناها ولوداً بعد أن كانت عاقراً وقال ابن عباس: كانت سيئة الخُلُق طويلة اللسان فأصلحها الله تعالى فجعلها حسنة الخُلُق {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي إِنما استجبنا دعاء من ذُكر من الأنبياء لأنهم كانوا صالحين يجدّون في طاعة الله ويتسابقون في فعل الطاعات وعمل الصالحات {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} أي طمعاً ورجاءً في رحمتنا وخوفاً وفزعاً من عذابنا {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} أي كانوا متذللين خاضعين لله يخافونه في السر والعلن {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي واذكر مريم البتول التي أعفت نفسها عن الفاحشة وعن الحلال والحرام كقوله {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُنْ بَغِيًّا} قال ابن كثير: ذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى لأن تلك مربوطة بهذه فإِنها إِيجاد ولدٍ من شيخ كبير قد طعن في السن وامرأة عجوز لم تكن تلد في حال شبابها، وهذه أعجب فإِنها إِيجاد ولدٍ من أنثى بلا ذكر ولذلك ذكر قصة مريم بعدها {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} أي أمرنا جبريل فنفخ في فتحة درعها - قميصها - فدخلت النفخة إِلى جوفها فحملت بعيسى، وأضاف الروح إِليه تعالى على جهة التشريف {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} أي وجعلنا مريم مع ولدها عيسى علامةً وأعجوبة للخلق تدل على قدرتنا الباهرة ليعتبر بها الناس.



وحدة الرسالات السماوية



{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ(92)وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ(93)فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ(94)وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ(95)حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ(96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ(97) }.





{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي دينكم وملتكم التي يجب أن تكونوا عليها أيها الناس ملةٌ واحدة غير مختلفة وهي ملة الإِسلام، والأنبياء كلهم جاؤوا برسالة التوحيد قال ابن عباس: معناه دينكم دينٌ واحد {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} أي وأنا إِلهكم لا ربَّ سواي فأفردوني بالعبادة {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي اختلفوا في الدين وأصبحوا فيه شيعاً وأحزاباً فمن موحّد، ومن يهودي، ونصراني ومجوسّي {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} أي رجوعهم إِلينا وحسابهم علينا قال الرازي: معنى الآية جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قِطعاً كما تتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه تمثيلاً لاختلافهم في الدين وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي من يعمل شيئاً من الطاعات وأعمال البرّ والخير بشرط الإِيمان {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي لا بُطلان لثواب عمله ولا يضيع شيء من جزائه {وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَ} أي نكتب عمله في صحيفته والمراد أمر الملائكة بكتابة أعمال الخلق {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} قال ابن عباس: أي ممتنعٌ على أهل قرية أهلكناهم أن يرجعوا بعد الهلاك إِلى الدنيا مرة ثانية وفي رواية عنه {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي لا يتوبون قال ابن كثير: والأول أظهر وقال أبو حيّان: المعنى وممتنع على أهل قرية قدرنا إِهلاكهم لكفرهم رجوعهم في الدنيا إِلى الإِيمان إِلى أن تقوم الساعة فحينئذٍ يرجعون {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} أي حتى إِذا فتح سدُّ يأجوج ومأجوج {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} أي وهم لكثرتهم من كل مرتفع من الأرض ومن كل أكمة وناحية يسرعون النزول والمرادُ أن يأجوج ومأجوج لكثرتهم يخرجون من كل طريق للفساد في الأرض {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} أي اقترب وقت القيامة قال المفسرون: جعل الله خروج يأجوج ومأجوج علماً على قرب الساعة. قال ابن مسعود: الساعة من الناس بعد يأجوج ومأجوج كالحامل المتمّم لا يدري أهلُها متى تفْجؤهم بولدها ليلاً أو نهاراً {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الضمير للقصة والشأن أي فإِذا شأن الكافرين أنَّ أبصارهم شاخصة من هول ذلك اليوم لا تكاد تطرف من الحيرة وشدة الفزع { يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} أي ويقولون يا ويلنا أي يا حسرتنا وهلاكنا قد كنا في الدنيا في غفلةٍ تامة عن هذا المصير المشؤوم واليوم الرهيب {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} أضربوا عن القول السابق وأخبروا بالحقيقة المؤلمة والمعنى لم نكن في غفلةٍ حيث ذكَّرتنا الرسلُ ونبَّهتنا الآيات بل كنا ظالمين لأنفسنا بالتكذيب وعدم الإِيمان.



مصير الكافرين والمؤمنين في الآخرة وطيّ السماء



{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ(98)لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ(99)لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ(100)إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ(102) لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(103)يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ(104)وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ(105)إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ(106)}.



{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي إِنكم أيها المشركون وما تعبدونه من الأوثان والأصنام{حَصَبُ جَهَنَّمَ} أي حطب جهنم ووقودها قال أبو حيان: الحَصب ما يحصب به أي يُرمى به في نار جهنم، وقبل أن يُرمى به لا يُطلق عليه حصبٌ إِلا مجازاً {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} أي أنتم داخلوها مع الأصنام، وإِنما جمع الله الكفار مع معبوداتهم في النار لزيادة غمّهم وحسرتهم برؤيتهم الآلهة التي عبدوها معهم في عذاب الجحيم {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} أي لو كانت هذه الأصنام التي عبدتموها آلهةً ما دخلوا جهنم {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} أي العابدون والمعبدون كلهم في جهنم مخلَّدون {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} أي لهؤلاء الكفرة في النار زفير وهو صوت النَّفس الذي يخرج من قلب المغموم وهو يشبه أنين المحزون والمكلوم {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} أي لا يسمعون في جهنم شيئاً لأنهم يُحشرون صُماً كما قال تعالى {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عُمياً وبُكماً وصُماً} قال القرطبي: وسماعُ الأشياء فيها روح وأُنس، فمنع الله الكفار ذلك في النار وقال ابن مسعود: إِذا بقي من يُخلَّد في نار جهنم جعلوا في توابيت من نار، فيها مسامير من نار فلا يسمعون شيئاً، ولا يرى أحد منهم أنه يُعذَّب في النار غيره ثم تلا الآية {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} أي سبقت لهم السعادة {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} أي هم عن النار مبعدون لا يصلون حرَّها ولا يذوقون عذابها قال ابن عباس: أولئك أولياء الله يمرون على الصراط مرّاً أسرع من البرق ويبقى الكفار فيها جثياً {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أي لا يسمعون حسَّ النار ولا حركة لهبها وصوتها {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} أي وهم في الجنة دائمون، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين {لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} أي لا تصيبهم أهوال يوم القيامة والبعث لأنهم في مأمنٍ منها {وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ} أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم قائلين {هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي هذا يوم الكرامة والنعيم الذي وعدكم الله به فأبشروا بالهناء والسرور {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} أي اذكر يوم نطوي السماء طياً مثل طيّ الصحيفة على ما كتب فيها قال ابن عباس: كطيّ الصحيفة على ما فيها، فاللام بمعنى " على" { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} أي نحشرهم حفاةً عُراة غُرْلاً على الصورة التي بدأنا خلقهم فيها وفي الحديث (إِنكم محشورون إِلى الله حفاةً عُراةً غُرلاً ألاَ وإِنَّ أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إِبراهيم عليه السلام .. ) الحديث {وَعْدًا عَلَيْنَا} أي وعداً مؤكداً لا يُخلف ولا يبدّل لازم علينا إِنجازه والوفاء به {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أي قادرين على ما نشاء، وهو تأكيد لوقوع البعث {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} أي سجلنا وسطرنا في الزبور المنزل على داود {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} أي من بعد ما سطرنا على اللوح المحفوظ أزلاً {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} أي أن الجنة يرثها المؤمنون الصالحون قال ابن كثير: أخبر سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويُدخلهم الجنة وهم الصالحون وقال القرطبي: أحسن ما قيل فيها أن يراد بها أرض الجنة لأن الأرض في الدنيا قد ورثها الصالحون وغيرهم وهو قول ابن عباس ومجاهد ويدل عليه قوله تعالى {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعْده وأورثنا الأرض} وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد: الزبور: الكتب المنزلة، والذكرُ أمُّ الكتاب عند الله {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} أي إِنَّ في هذا المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة لكفايةً لقوم خاضعين متذللين لله جل وعلا، المؤثرين لطاعة الله على طاعة الشيطان.



محمد صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة



{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(107)قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ(109)إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ(110)وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(111)قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(112)}.





{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} أي وما أرسلناك يا محمد إِلا رحمة للخلق أجمعين وفي الحديث (إِنما أنا رحمةٌ مهداة) فمن قَبِلَ هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إِنما أوحى إِليَّ ربي أنَّ إِلهكم المستحق للعبادة إِله واحد أحد فرد صمد {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} استفهام ومعناه الأمر أي فأسلموا له وانقادوا لحكمه وأمره {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي فإِن أعرضوا عن الإِسلام {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} أي فقل لهم أعلمتكم بالحق على استواءٍ في الإِعلام لم أخصَّ أحداً دون أحد {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} أي وما أدري متى يكون ذلك العذاب ؟ ولا متى يكون أجل الساعة ؟ فهو واقع لا محالة ولكنْ لا علم لي بقربه ولا ببعده {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} أي اللهُ هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء، يعلم الظواهر والضمائر، ويعلم السرَّ وأخفى، وسيجازي كلاً بعمله {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} أي وما أدري لعل هذا الإِمهال وتأخير عقوبتكم امتحانٌ لكم لنرى كيف صنيعكم {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي ولعلَّ هذا التأخير لتستمعوا إِلى زمنٍ معين ثم يأتيكم عذاب الله الأليم {قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ} أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وافصل بيننا بالحق {وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أي أستعين بالله على الصبر على ما تصفونه من الكفر والتكذيب .. ختم السورة الكريمة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض الأمر إِليه وتوقع الفرج من عنده، فهو نعم الناصر ونعم المعين










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-26, 17:51   رقم المشاركة : 50
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 سورة الحج

سورة الحج



التســميَـــة

أمر الله الناس بالتقوى

الاستدلال بخلق الإنسان والنبات على البعث

المجادلة بالباطل وأضطراب الإيمان وجزاء الصالحين

ظن الكفار أن الله لن ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم

يوم القيامة يفصل الله تعالى بين الأمم

جزاء الكفرة والمؤمنين

المنع عن المسجد الحرام

تعيين مكان البيت الحرام والمناداة بالحج إليه

تعظيم حرمات الله وشعائره

التسمية عند ذبح البدن والأكل والإطعام منها

الدفاع عن المؤمنين والإذن بالقتال

الاعتبار بآثار الأمم البائدة

كون النبي صلى الله عليه وسلم منذراً للناس

قصة الغرانيق

مجازاة من هاجر في سبيل الله

بعضٌ من دلائل قدرته تعالى

لكل أمة من الأمم شريعة يتعبدون بها

بعض أباطيل المشركين وتحديهم بخلق ذبابة

أوامر الله للمؤمنين





بَين يَديَ السُّورَة



* سورة الحج مدنية وهي تتناول جوانب التشريع، شأنها شأن سائر السور المدنية التي تُعنى بأمور التشريع، ومع أن السورة مدنية إِلا أنه يغلب عليها جو السور المكية، فموضوع الإِيمان، والتوحيد، والإِنذار والتخويف، وموضوع البعث والجزاء، ومشاهد القيامة وأهوالها، هو البارز في السورة الكريمة، حتى ليكاد يُخيل للقارئ أنها من السور المكية، هذا إلى جانب الموضوعات التشريعية من الإِذن بالقتال، وأحكام الحج والهَدي، والأمر بالجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من المواضيع التي هي من خصائص السور المدنية، حتى لقد عدَّها بعض العلماء من السور المشتركة بين المدني والمكي.



* ابتدأت السورة الكريمة بمطلع عنيف ومخيف، ترتجف له القلوبُ، وتطيش لهوله العقول، ذلكم هو الزلزال العنيف الذي يكون بين يدي الساعة، ويزيد في الهول على خيال الإِنسان، لأنه لا يدك الدور والقصور فحسب، بل يصل هولُه إلى المرضعات الذاهلات عن أطفالهن، والحوامل المسقطات حملهن، والناس الذين يترنحون كأنهم سكرى من الخمر، وما بهم شيء من السكر والشراب، ولكنه الموقف المرهوب، الذي تتزلزل له القلوب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ..} الآيات.



* ومن أهوال الساعة إلى أدلة البعث والنشور، تنتقل السورة لتقيم الأدلة والبراهين على البعث بعد الفناء، ثم الانتقال إلى دار الجزاء، لينال الإِنسان جزاءه إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.



* وتحدثت السورة عن بعض مشاهد القيامة، حيث يكون الأبرار في دار النعيم، والفجار في دار الجحيم.

* ثم انتقلت للحديث عن الحكمة من الإِذن بقتال الكفار، وتناولت الحديث عن القرى المدمرة بسبب ظلمها وطغيانها، وذلك لبيان سنة الله في الدعوات، وتطميناً للمسلمين بالعاقبة التي تنتظر الصابرين.



* وفي ختام السورة ضربت مثلاً لعبادة المشركين للأصنام، وبيَّنت أن هذه المعبودات أعجز وأحقر من أن تخلق ذبابة فضلاً عن أن تخلق إنساناً سميعاً بصيراً، ودعت إلى اتباع ملة الخليل إبراهيم كهف الإِيمان، وركن التوحيد.



التســميَـــة:

سميت "سورة الحج" تخليداً لدعوة الخليل إبراهيم عليه السلام،حين انتهى من بناء البيت العتيق ونادى الناس لحج بيت الله الحرام، فتواضعت الجبال حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع نداؤه في الأصلاب والأرحام وأجابوا النداء "لبيك اللهم لبيك".

أمر الله الناس بالتقوى



{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1)يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2)وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ(3)كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(4) }



{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكمْ } خطاب لجميع البشر أي خافوا عذاب الله وأطيعوه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وجماع القول في التقوى هو: طاعةُ الله واجتناب محارمه ولهذا قال بعض العلماء: التقوى أن لا يراك حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} تعليلٌ للأمر بالتقوى أي إن الزلزال الذي يكون بين يدي الساعة أمر عظيم وخطب جسيم لا يكاد يتصور لهوله {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} أي في ذلك اليوم العصيب الذي تشاهدونه فيه تلك الزلزلة وترون هول مطلعها {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي تغفل وتذهل - مع الدهشة وشدة الفزع - كل أنثى مرضعة عن رضيعها، إذ تنزع ثديها من فم طفلها وتنشغل - لهول ما ترى - عن أحب الناس إليها وهو طفلها الرضيع {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} أي تراهم كأنهم سكارى يترنحون ترنح السكران من هول ما يدركهم من الخوف والفزع {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} أي وما هم على الحقيقة بسكارى من الخمر {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} استدراك لما دهاهم أي ليسوا بسكارى ولكن أهوال الساعة وشدائدها أطارت عقولهم وسلبت أفكارهم فهم من خوف عذاب الله مشفقون {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي وبعضٌ من الناس من يخاصم وينازع في قدرة الله وصفاته بغير دليل ولا برهان ويقول ما لا خير فيه من الأباطيل قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث وكان جدلاً يقول الملائكة بناتُ الله، والقرآن أساطير الأولين، ولا بعث بعد الموت قال أبو السعود: والآية عامة له ولأضرابه من العُتاة المتمردين {وَيَتَّبعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} أي يطيع ويقتدي بكل عاتٍ متمرد كرؤساء الكفر الصادّين عن الحق {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ} أي حكم الله وقضى أنه من تولى الشيطان واتخذه ولياً {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} أي فأن الشيطان يغويه ويسوقه إلى عذاب جهنم المستعرة، وعبر بلفظ {وَيَهْدِيهِ} على سبيل التهكم.



الاستدلال بخلق الإنسان والنبات على البعث



{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(6)وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ(7)}



ولما ذكر تعالى المجادلين في قدرة الله، المنكرين للبعث والنشور ذكر دليلين واضحين على إمكان البعث أحدهما في الإِنسان، والثاني في النبات فقال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي إِن شككتم في قدرتنا على إحيائكم بعد موتكم فانظروا في أصل خلقكم ليزول ريبكم فقد خلقنا أصلكم “آدم” من التراب، ومن قدر على خلقكم أول مرة قادر على أن يعيدكم ثاني مرة، والذي قدر على إخراج النبات من الأرض، بعد موتها قادر على أن يخرجكم من قبوركم {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أي ثم جعلنا نسله من المني الذي ينطف من صلب الرجل قال القرطبي: والنطف: القطر سمي نطفة لقلته: {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} وهو الدم الجامد الذي يشبه العلقة التي تظهر حول الأحواض والمياه {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} أي من قطعة من لحم مقدار ما يمضغ {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أي مستبينة الخلق مصورة وغير مصورة قال ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، وغير مخلقة التي لم يخلق فيها شيء {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} أي خلقناكم على هذا النموذج البديع لنبين لكم أسرار قدرتنا وحكمتنا قال الزمخشري: أي لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً، ثم من نطفة ثانياً، ولا تناسب بين التراب والماء، وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاماً، قادر على إعادة ما بدأه، بل هذا أدخل في القدرة وأهون في القياس {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} أي ونثبت من الحمل في أرحام الأمهات من أردنا أن نُقرَّه فيها حتى يتكامل خلقه {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي إلى زمن معين هو وقت الوضع {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي ثم نخرج هذا الجنين طفلاً ضعيفاً في بدنه وسمعه وبصره وحواسه، ثم نعطيه القوة شيئاً فشيئاً {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} أي كمال قوتكم وعقلكم {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} أي ومنكم من يموت في ريعان شبابه {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أي ومنكم من يعمر حتى يصل إلى الشيخوخة والهرم وضعف القوة والخرف {لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} أي ليعود إلى ما كان عليه في أوان الطفولة من ضعف البينة، وسخافة العقل، وقلة الفهم، فينسى ما علمه وينكر ما عرفه ويعجز عما قدر عليه كما قال تعالى {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} هذه هي الحجة الثانية على إمكان البعث أي وترى أيها المخاطب أو أيها المجادل الأرض يابسةً ميتة لا نبات فيها {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي فإذا أنزلنا عليها المطر تحركت بالنبات وانتفخت وزادت وحييت بعد موتها {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي وأخرجت من كل صنفٍ عجيب ما يسر الناظر ببهائه ورونقه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي ذلك المذكور من خلق الإِنسان والنبات لتعلموا أن الله هو الخالق المدبر وأن ما في الكون من آثار قدرته شاهد بأن الله هو الحق {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} أي وبأنه القادر على إحياء الموتى كما أحيا الأرض الميتة بالنبات {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وبأنه قادر على ما أراد { وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} أي وليعلموا أن الساعة كائنة لا شك فيها ولا مرية {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي يحيي الأموات ويعيدهم بعدما صاروا رميماً، ويبعثهم أحياء إلى موقف الحساب.



المجادلة بالباطل واضطراب الإيمان وجزاء الصالحين



{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ(8)ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ(9)ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ(10)وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(11)يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ(12)يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ(13)إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ(14) }.



{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أي يجادل في شأنه تعالى من غير تمسك بعلمٍ صحيح يهدي إلى المعرفة ولا كتابٍ نير بيّن الحجة بل بمجرد الرأي والهوى قال ابن عطية: كرر هذه على وجه التوبيخ فكأنه يقول: هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان ومن الناس مع ذلك من يجادل في الله بغير دليل ولا برهان {ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي معرضاً عن الحق لاوياً عنقه كفراً قال ابن عباس: مستكبراً عن الحق إذا دُعي إليه قال الزمخشري: وثنيُ العطف عبارة عن الكِبر والخيلاء فهو كتصعير الخد {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي ليصُدَّ الناس عن دين الله وشرعه {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي له هوان وذل في الحياة الدنيا {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي ونذيقه في الآخرة النار المحرقة {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أي ذلك الخزي والعذاب بسبب ما اقترفته من الكفر والضلال {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} أي وأن الله عادل لا يظلم أحداً من خلقه {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أي ومن الناس من يعبد الله على جانب وطرفٍ من الدين، وهذا تمثيل للمذبذبين الذين لا يعبدون الله عن ثقة ويقين بل عن قلق واضطراب كالذي يكون على طرف من الجيش فان أحسَّ بظفر أو غنيمة استقر وإلا فرّ قال الحسن: هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه وقال ابن عباس: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً وأنتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} أي فإن ناله خير في حياته من صحةٍ ورخاء أقام على دينه {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} أي وإن ناله شيء يفتتن به من مكروه وبلاء ارتد فرجع إلى ما كان عليه من الكفر {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} أي أضاع دنياه وآخرته فشقي الشقاوة الأبدية {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أي ذلك هو الخسران الواضح الذي لا خسران مثله {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} أي يعبد الصنم الذي لا ينفع ولا يضر {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} أي ذلك هو نهاية الضلال الذي لا ضلال بعده، شبه حالهم بحال من أبعد في التيه ضالاً عن الطريق {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} أي يعبد وثناً أو صنماً ضره في الدنيا بالخزي والذل أسرع من نفعه الذي يتوقعه بعبادته وهو الشفاعة له يوم القيامة، وقيل: الآية على الفرض والتقدير: أي لو سلمنا نفعه أو ضره لكان ضره أكثر من نفعه، والآية سيقت تسفيهاً وتجهيلاً لمن يعتقد أنه ينتفع بعبادة غير الله حين يستشفع بها {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أي بئس الناصر وبئس القريب والصاحب {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} لما ذكر حال المشركين وحال المنافقين المذبذبين ذكر حال المؤمنين في الآخرة والمعنى إن الله يدخل المؤمنين الصادقين جنات تجري من تحت قصورها وغرفها أنهار اللبن والخمر والعسل وهم في روضات الجنات يحبرون {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} أي يثيب من يشاء ويعذب من يشاء لا معقب لحكمه، فللمؤمنين الجنة بفضله، وللكافرين النار بعدله. فيتلقى جزاءه عدلاً، ولا ظلم في الحساب.



ظن الكفار أن الله لن ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم



{ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ(15)وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ ءاياتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ(16)}.



{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي من كان يظن أن لن ينصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ} أي فليمدد بحبل إلى السقف ثم ليقطع عنقه وليختنق به {فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} أي فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيظ؟ قال ابن كثير: وهذا القول قول ابن عباس وهو أظهر في المعنى وأبلغ في التهكم فإن المعنى: من كان يظنُّ أنَّ الله ليس بناصر محمداً وكتابه ودينه فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظة فإن الله ناصره لا محالة {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ ءاياتٍ بَيِّنَاتٍ} أي ومثل ذلك الإِنزال البديع المنطوي على الحكم البالغة أنزلنا القرآن الكريم كله ءايات واضحات الدلالة على معانيها الرائقة {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} أي وأن الله هو الهادي لا هادي سواه يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.



يوم القيامة يفصل الله تعالى بين الأمم



{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(17)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ(18) }.



{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي صدقوا الله ورسوله وهم أتباع محمد عليه السلام {وَالَّذِينَ هَادُوا} أي اليهود وهم المنتسبون إلى موسى عليه السلام {وَالصَّابِئِينَ} هم قوم يعبدون النجوم {وَالنَّصَارَى} هم المنتسبون إلى موسى عليه السلام {وَالْمَجُوسَ} هم عبدة النيران {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} هم العرب عبدة الأوثان { إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يقضي بين المؤمنين وبين الفرق الخمسة الضالة فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي شاهد على أعمال خلقه عالم بكل ما يعملون {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} أي يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً، الملائكة في أقطار السماوات، والإِنس والجن وسائر المخلوقات في العالم الأرضي {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} أي وهذه الأجرام العظمى مع سائر الجبال والأشجار والحيوانات تسجد لعظمته سجود انقياد وخضوع، قال ابن كثير: وخص الشمس والقمر والنجوم بالذكر لأنها قد عبدت من دون الله، فبيّن أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخرة. والغرض من الآية: بيان عظمته تعالى وانفراده بألوهيته وربوبيته بانقياد هذه العوالم العظمى له وجريها على وفق أمره وتدبيره {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} أي وكثير من الناس وجب له العذاب بكفره واستعصائه {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} أي من أهانه الله بالشقاء والكفر فلا يقدر أحد على دفع الهوان عنه {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} أي يعذب ويرحم، ويعز ويذل، ويُغني ويُفقِر، ولا اعتراض لأحد عليه.







جزاء الكفرة والمؤمنين



{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ(19)يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ(20)وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ(21)كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(22)إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(23)وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ(24) }.










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-26, 17:52   رقم المشاركة : 51
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 تابع

المنَـــاسَبــَة:

لما ذكر تعالى أهل السعادة وأهل الشقاوة، ذكر هنا ما دار بينهم من الخصومة في دينه وعبادته، ثم ذكر عظم حرمة البيت العتيق وبناء الخليل له، وعظم كفر هؤلاء المشركين الذين يصدون الناس عن سبيل الله والمسجد الحرام.



{هَذَانِ خَصْمَانِ} أي هذان فريقان مختصمان فريق المؤمنين المتقين، وفريق الكفرة المجرمين {اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} أي اختلفوا وتنازعوا من أجل الله ودينه قال مجاهد: هم المؤمنون والكافرون، فالمؤمنون يريدون نصرة دين الله، والكافرون يريدون إطفاء نور الله {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} أي فصلت لهم ثيابٌ من نار على قدر أجسادهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار قال القرطبي: شبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب ومعنى {قُطِّعَتْ} خيطت وسويت، وذكر بلفظ الماضي لأن الموعود منه كالواقع المحقق {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ} أي يصب على رؤوسهم الماء الحار المغلي بنار جهنم {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} أي يذاب به ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء مع الجلود قال ابن عباس: لو سقطت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها وفي الحديث (إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان) قال الإِمام الفخر الرازي: والغرض أن الحميم إذا صب على رؤوسهم كان تأثيره في الباطن مثل تأثيره في الظاهر، فيذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} أي ولهم مطارق وسياط من الحديد يضربون بها ويدفعون وفي الحديث (لو وُضِعَت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها). {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} أي كلما أراد أهل النار الخروج من النار من شدة غمها ردوا إلى أماكنهم فيها قال الحسن: إن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي يقال لهم: ذوقوا عذاب جهنم المحرق الذي كنتم به تكذبون، ولما ذكر تعالى ما أعد للكفار من العذاب والدمار، ذكر ما أعده للمؤمنين من الثواب والنعيم فقال {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي يدخل المؤمنين الصالحين في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار العظيمة المتنوعة {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} أي تلبسهم الملائكة في الجنة الأساور الذهبية كحلية وزينة يتزينون بها {وَلُؤْلُؤًا} أي ويحلون باللؤلؤ كذلك إكراماً من الله لهم {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أي ولباسهم في الجنة الحرير، ولكنه أعلى وأرفع مما في الدنيا بكثير {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أي أرشدوا إلى الكلام الطيب والقول النافع إذ ليس في الجنة لغوٌ ولا كذب {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي إلى صراط الله وهو الجنة دار المتقين.



المنع عن المسجد الحرام



{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(25) }



ثم عدد تعالى بعض جرائم المشركين فقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي جحدوا بما جاء به محمد عليه السلام ويمنعون المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام لأداء المناسك فيه قال القرطبي: وذلك حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية، وإنما قال {وَيَصُدُّونَ} بصيغة المضارع ليدل على الاستمرار فكأن المعنى: إن الذين كفروا من شأنهم الصد عن سبيل الله ونظيره قوله {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} أي الذي جعلناه منسكاً ومتعبداً للناس جميعاً سواء فيه المقيم الحاضر، والذي يأتيه من خارج البلاد {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} أي ومن يرد فيه سوءاً أو ميلاً عن القصد أو يهم فيه بمعصية {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي نذقه أشد أنواع العذاب الموجع قال ابن مسعود: لو أن رجلاً بِعدَنَ همَّ بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله عذاباً أليماً وقال مجاهد: تُضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات.



تعيين مكان البيت الحرام والمناداة بالحج إليه



{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(26)وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27)لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ(28)ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ(29)}.



{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أي واذكر حين أرشدنا إبراهيم وألهمناه مكان البيت {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} أي أمرناه ببناء البيت العتيق خالصاً لله قال ابن كثير: أي ابنه على اسمي وحدي {وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي طهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يعبد الله فيه بالطواف والصلاة قال القرطبي: والقائمون هم المصلون، ذكر تعالى من أركان الصلاة وأعظمها وهو القيام والركوع والسجود {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أي ونادِ في الناس داعياً لهم لحج بيت الله العتيق قال ابن عباس: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: أذن في الناس بالحج، قال يا رب: وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي الإِبلاغ فصعد إبراهيم على جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس إنّ الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة، ويجيركم من عذاب النار فحجوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال، وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي يأتوك مشاة على أقدامهم أو ركباناً على كل جمل هزيل قد أتعبه وأنهكه بعد المسافة {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي تأتي الإِبل الضامرة من كل طريق بعيد قال القرطبي: ورد الضمير إلى الإِبل {يَأْتِينَ} تكرمةً لها لقصدها الحج مع أربابها كما قال {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} في خيل الجهاد تكرمةً لها حين سعت في سبيل الله {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} أي ليحضروا منافع لهم كثيرة دينية ودنيوية قال الفجر الرازي: وإنما نكَّر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} أي ويذكروا عند ذبح الهدايا والضحايا اسم الله في أيام النحر شكراً لله على نعمائه وعلى ما رزقهم وملكهم من الأنعام وهي: الإِبل والبقر والغنم والمعز قال الرازي: وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي ذكر اسمه تعالى عند الذبح وأن يخالف المشركين في ذلك فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان {فَكُلُوا مِنْهَا} أي كلوا من لحوم الأضاحي {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} أي أطعموا منها البائس الذي أصابه بؤس وشدة، والفقير الذي أضعفه الإِعسار قال ابن عباس: البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون كذلك، ثيابه نقية ووجهه وجه غني {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} أي ثم بعد الذبح ليزيلوا وسخهم الذي أصابهم بالإِحرام وذلك بالحلق والتقصير وإزالة الشعث وقص الشارب والأظافر {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أي ما أوجبوه على أنفسهم بالنذر طاعةً لله {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي ليطوفوا حول البيت العتيق طواف الإِفاضة وهو طواف الزيارة الذي به تمام التحلل، والعتيق: القديم الذي سمي به لأنه بيت وضع للناس.



تعظيم حرمات الله وشعائره



{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ(30)حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ(31)ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ(32)لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ(33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ(34)الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(35)}.



{ذَلِكَ} أي الأمر والشأن ذلك قال الزمخشري: كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا وقد كان كذا {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} أي من يعظم ما شرعه الله من أحكام الدين ويجتنب المعاصي والمحارم {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي ذلك التعظيم خير له ثواباً في الآخرة {وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي أحللنا لكم جميع الأنعام إلا ما استثني في الكتاب المجيد كالميتة والمنخنقة وما ذبح لغير الله وغير ذلك {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس، وهو غاية المبالغة في النهي عن عبادتها وتعظيمها {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} أي اجتنبوا شهادة الزور {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} أي مائلين إلى الحق مسلمين لله غير مشركين به أحداً {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} تمثيل للمشرك في ضلاله وهلاكه أي ومن أشرك بالله فكأنما سقط من السماء فتخطفه الطير وتمزقه كل ممزق {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} أي ذلك ما وضحه الله لكم من الأحكام والأمثال ومن يعظم أمور الدين ومنها أعمالُ الحج والأضاحي والهدايا { فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} أي فإن تعظيمها من أفعال المتقين لله قال القرطبي: أضاف التقوى إلى القلوب لأن حقيقة التقوى في القلب وفي الحديث (التقوى ههنا) وأشار إلى صدره {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي لكم في الهدايا منافع كثيرة من الدر والنسل والركوب إلى وقت نحرها {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي ثم مكان ذبحها في الحرم بمكة أو منى، وخص البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم كقوله تعالى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} أي شرعنا لكل أُمة من الأمم السابقة من عهد إبراهيم مكاناً للذبح تقرباً لله قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} أي أمرناهم عند الذبح أن يذكروا اسم الله وأن يذبحوا لوجهه تعالى {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} أي شكراً لله على ما أنعم به عليهم من بهيمة الأنعام من الإِبل والبقر والغنم، بين تعالى أنه يجب أن يكون الذبح لوجهه تعالى وعلى اسمه لأنه هو الخالق الرازق لا كما كان المشركون يذبحون للأوثان {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي فربكم أيها الناس ومعبودكم إله واحد لا شريك له {فَلَهُ أَسْلِمُوا} أي فأخلصوا له العبادة واستسلموا لحكمه وطاعته {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} أي بشر المطيعين المتواضعين الخاشعين بجنات النعيم، ثم وصف تعالى المخبتين بأربع صفات فقال {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي إذا ذكر الله خافت وارتعشت لذكره قلوبهم لإِشراق أشعة جلاله عليهم فكأنهم بين يديه واقفون، ولجلاله وعظمته مشاهدون {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} أي يصبرون في السراء والضراء على الأمراض والمصائب والمحن وسائر المكاره {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} أي الذين يؤدونها في أوقاتها مستقيمةً كاملة مع الخشوع والخضوع {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي ومن بعض الذي رزقناهم من فضلنا ينفقون في وجوه الخيرات.



التسمية عند ذبح البدن والأكل والإطعام منها



{ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(36)لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ(37)}.



{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أي والإِبل السمينة - سميت بدناً لبدانتها وضخامة أجسامها - جعلناها من أعلام الشريعة التي شرعها الله لعباده قال ابن كثير: وكونها من شعائر الدين أنها تُهدى إلى بيته الحرام بل هي أفضل ما يهدى {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} قال ابن عباس: نفعٌ في الدنيا وأجرٌ في الآخرة {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} أي اذكروا عند ذبحها اسم الله الجليل عليها حال كونها صواف أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي فإذا سقطت على الأرض بعد نحرها، وهو كنايةُ عن الموت {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} أي كلوا من هذه الهدايا وأطعموا القانع أي المتعفف والمعتر أي السائل قاله ابن عباس، وقال الرازي: الأقرب أن القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح، والمعتر هو الذي يتعرض ويطلب ويعتريهم حالاً بعد حال {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي مثل ذلك التسخير البديع جعلناها منقادة لكم مع ضخامة أجسامها لكي تشكروا الله على إنعامه {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} أي لن يصل إليه تعالى شيء من لحومها ولا دمائها {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} أي ولكن يصل إليه التقوى منكم بامتثالكم أوامره وطلبكم رضوانه {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي كرره للتأكيد أي كذلك ذللها لكم وجعلها منقادة لرغبتكم لتكبروا الله على ما أرشدكم إليه من أحكام دينه {وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ} أي بشر المحسنين في أعمالهم بالسعادة والفوز بدار النعيم.





الدفاع عن المؤمنين والإذن بالقتال



{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ(38)أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39)الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ(41)}.



المنَـــاسَبــَة:

لما بيَّن تعالى مناسك الحج وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، وذكر أن الكفار صدوا المؤمنين عن دين الله وعن دخول مكة، بيَّن هنا أنه يدافع عن المؤمنين وذكر الحكمة من مشروعية القتال ومنها الدفاع عن المقدسات، وحماية المستضعفين، وتمكين المؤمنين من عبادة الله تعالى.



{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي ينصر المؤمنين ويدفع عنهم بأس المشركين، وهذه بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار وكفِّ كيدهم عنهم {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} أي إنه تعالى يبغض كل خائنٍ للأمانة جاحدٍ نعمة الله {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} فيه محذوف تقديره: أُذن لهم في القتال بسبب أنهم ظُلموا قال ابن عباس: هذه أول آيةٍ نزلت في الجهاد قال المفسرون: هم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديداً وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أؤمر بقتالهم حتى هاجروا فأُنزلت هذه الآية وهي أول آيةٍ أُذن فيها بالقتال بعدما نهي عنه في أكثر من سبعين آية {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} أي هو تعالى قادر على نصر عباده من غير قتال ولكنه يريد منهم أن يبذلوا جهدهم في طاعته لينالوا أجر الشهداء {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} أي أُخرجوا من أوطانهم ظلماً وعدواناً بغير سبب موجب للإِخراج قال ابن عباس: يعني محمداً وأصحابه أُخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق {إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} أي ما كان لهم إساءة ولا ذنب إلا أنهم وحدوا الله ولم يشركوا به أحداً {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي لولا ما شرعه الله من الجهاد وقتال الأعداء لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وتعطلت الشعائر ولكنه تعالى دفع شرهم بأن أمر بقتالهم {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} أي لتهدمت معابد الرهبان وكنائس النصارى {وَصَلَوَاتٌ} أي كنائس اليهود { وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} أي ومساجد المسلمين التي يعبد فيها الله بكرة وأصيلاً، ومعنى الآية أنه لولا كفُّه تعالى المشركين بالمسلمين، وإذنه بمجاهدة المسلمين للكافرين لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمانهم فهدموا موضع عباداتهم، ولم يتركوا للنصارى بيعاً، ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود كنائس، ولا للمسلمين مساجد، ولغلب المشركون أهل الأديان، وإنما خص المساجد بهذا الوصف { يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} تعظيماً لها وتشريفاً لأنها أماكن العبادة الحقة { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ } قسمٌ أي والله سينصر الله من ينصر دينه ورسوله {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي أنه تعالى قادر لا يعجزه شيء، عزيزٌ لا يُقهر ولا يغلب قال ابن كثير: وصف نفسه بالقوة والعزة، فبقوته خلق كل شيء، وبعزته لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ} قال ابن عباس: هم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان، والمعنى: هؤلاء الذين يستحقون نصرة الله هم الذين إن جعلنا لهم سلطاناً في الأرض وتملكاً واستعلاء عبدوا الله وحافظوا على الصلاة وأداء الزكاة {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} أي دعوا إلى الخير ونهوا عن الشر {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} أي مرجع الأمور إلى حكمه تعالى وتقديره.



الاعتبار بآثار الأممالبائدة



{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ(42)وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ(43)وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(44)فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ(45)أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ(46)وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ(47)وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ(48)}.



{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ} تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ووعيد للمشركين أي إن كذبك أهل مكة فاعلم أنك لست أول رسول يكذبه قومه فقد كان قبلك أنبياء كُذبوا فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين، فاقتد بهم واصبر {وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ } أي وكذب كذلك قوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب {وَكُذِّبَ مُوسَى} أي وكذب موسى أيضاً مع وضوح ءاياته، وعظم معجزاته فما ظنك بغيره؟ {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي أمهلتهم ثم أخذتهم بالعقوبة {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} استفهام تقريري أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب ألم يكن أليماً؟ ألم أبدلهم بالنعمة نقمة، وبالكثرة قلة، وبالعمارة خراباً ؟ فكذلك أفعل بالمكذبين من أهل مكة {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي كم من قرية أهلكنا أهلها بالعذاب الشامل {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي وهي مشركة كافرة {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي خرت سقوفها على الأرض ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف فهي مخربة مهدمة {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} أي وكم من بئر عطلت فتركت لا يستقى منها لهلاك أهلها {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} أي وكم من قصر مرفوع البنيان أصبح خالياً بلا ساكن، أليس في ذلك عبرة للمعتبر؟ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} أي أفلم يسافر أهل مكة ليشاهدوا مصارع الكفار فيعتبروا بما حل بهم من النكال والدمار!! وهلاّ عقلوا ما يجب أن يُعقل من الإيمان والتوحيد! {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي أو تكون لهم آذانٌ يسمعون بها المواعظ والزواجر {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أي ليس العمى على الحقيقة عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة فمن كان أعمى القلب لا يعتبر ولا يتدبر، وذِكرُ الصدور للتأكيد ونفي توهم المجاز {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي ويستعجلك يا محمد هؤلاء المشركون بالعذاب استهزاءً، وإن ذلك واقع لا محالة، لكن لوقوعه أجل لا يتعداه لأنه تعالى لا يخلف الميعاد {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} أي هو تعالى حليم لا يعجل فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حلمه فلِم إذاً يستبعدونه ويستعجلون العذاب؟ ولهذا قال بعد ذلك {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي وكثير من أهل قرية أخرت إهلاكهم وأمهلتهم مع استمرارهم على الظلم فاغتروا بذلك التأخير {ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} أي ثم أخذتهم بالعذاب بعد طول الإمهال وإليَّ المرجع والمآب قال أبو حيّان: لما كان تعالى قد أمهل قريشاً حتى استعجلت بالعذاب ذكر الآية تنبيهاً على أن السابقين أُمهلوا ثم أُهلكوا وأن قريشاً وإن أملى تعالى لهم وأمهلهم فإنه لا بد من عذابهم فلا يفرحوا بتأخير العذاب عنهم.



كون النبي صلى الله عليه وسلم منذراً للناس



{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ(49)فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(50)وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي ءاياتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(51)}.



{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي قل يا محمد لهؤلاء المستعجلين للعذاب إنما أنا منذر لكم أخوفكم عذاب الله وأنذركم إنذاراً بيناً من غير أن يكون لي دخلٌ في تعجيل العذاب أو تأخيره {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي فالمؤمنون الصادقون الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح لهم عند ربهم مغفرة ورزق كريم في جنان النعيم قال الرازي: بين سبحانه أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم وقال القرطبي: إذا سمعت الله تعالى يقول {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فاعلم أنه الجنة {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي ءاياتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي كذبوا بآياتنا وسعوا في إبطالها مغالبين مشاقين يريدون إطفاء نور الله {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي فأولئك هم أصحاب النار الحارة الموجعة، الشديد عذابها ونكالها، شبههم من حيث الدوام بالصاحب قال الرازي: فإن قيل: إنه عليه السلام بشر المؤمنين أولاً، وأنذر الكافرين ثانياً في هذه الآية فكان القياس أن يقال {إنما أنا لكم بشير ونذير} والجواب أن الكلام مسوق إلى المشركين وهم الذين استعجلوا العذاب و{أَيُّهَا النَّاسُ } نداءً لهم، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة لغيظهم وإيذائهم.



قصة الغرانيق



{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءاياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(52)لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(53)وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(54)وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ(55)الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(56)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(57)}.



{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} أي وما أرسلنا قبلك يا محمداً رسولاً ولا نبياً {إِلا إِذَا تَمَنَّى} أي إلا إذا أحبَّ شيئاً وهوته نفسه {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي ألقى الشيطان فيما يشتهيه ويتمناه بعض الوساوس التي توجب اشتغاله بالدنيا كما قال عليه السلام (إنه ليُغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة ) قال الفراء: تمنى إذا حدَّث نفسه وفي البخاري: قال ابن عباس: "إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته" إلا إذا حدَّث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله ءاياته، ويقال: أمنيته: قراءته قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأجله، ومعنى الآية: وما أرسلنا رسولاً ولا نبياً فحدث نفسه بشيء وتمنى لأمته الهداية والإيمان إلا ألقى الشيطان الوسواس والعقبات في طريقه بتزيين الكفر لقومه وإلقائه في نفوسهم مخالفةً لأمر الرسول وكأنَّ الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم تقول له: لا تحزن يا محمد على معاداة قومك لك فهذه سنة المرسلين. هذا أصح ما قيل في تفسير الآية وهو اختيار المحققين من المفسرين. وأما قصة الغرانيق التي أولع بذكرها بعض المفسرين فهي باطلة مردودة، وهي أن الرسول عليه السلام قرأ سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} بمحضر من المشركين والمسلمين فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمْ اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} ألقى الشيطان على لسانه "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" ففرح بذلك المشركون ولما انتهى من السورة سجد وسجد معه المشركون إلخ قال ابن العربي: إن جميع ما ورد في هذه القصة باطل لا أصل له وقال ابن إسحاق: هي من وضع الزنادقة وقال البيهقي: رواتها مطعون فيهم وقال ابن كثير: ذكر كثير من المفسرين قصة الغرانيق وهي روايات مرسلات ومنقطعات لا تصح وقال القاضي عياض: هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه أحد بسند متصل سليم، وإنما أُولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون، المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. أقول: مما يدل على بطلان القصة قوله تعالى في نفس السورة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} فكيف نطق المعصوم بمثل هذا الذي يزعمونه! سبحانك هذا بهتان عظيم وانظر الرد القاطع في تفسير الفخر الرازي.

{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي يزيل ويبطل الله ما يلقيه الشيطان من الوساوس والأوهام {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءاياتِهِ} أي يثبت في نفس الرسول ءاياته الدالة على الوحدانية والرسالة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}أي مبالغٌ في العلم حكيم يضع الأشياء في مواضعها قال أبو السعود: وفي الآية دلالة على جواز السهو من الأنبياء عليهم السلام، وتطرق الوسوسة إليهم {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي ليجعل تلك الشبه والوساوس التي يلقيها الشيطان {فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي فتنة للمنافقين الذين في قلوبهم شك وارتياب {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} أي وفتنةً للكافرين الذين لا تلين قلوبهم لذكر الله، وهم خواص من الكفار عتاةٌ كأبي جهل، والنضر، وعتبة {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي وإن هؤلاء المذكورين من المنافقين والمشركين لفي عداوة شديدة لله ولرسوله، ووصف الشقاق بلفظ {بَعِيدٍ} لأنه في غاية الضلال والبعدِ عن الخير {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي وليعلم أهل العلم أن القرآن هو الحق النازل من عند الله تعالى {فَيُؤْمنُوا بِهِ} أي يؤمنوا بهذا القرآن {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي تخشع وتسكن له قلوبهم بخلاف مَنْ في قلبه مرض{وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي مرشد المؤمنين إلى الصراط المستقيم ومنقذهم من الضلالة والغواية {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} أي ولا يزال هؤلاء المشركون في شك وريب من هذا القرآن {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} أي حتى تأتيهم الساعة فجأة دون أن يشعروا قال قتادة: ما أخذ الله قوماً قطُّ إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم فلا تغتروا بالله إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} أي أو يأتيهم عذاب يوم القيامة وسمي عقيماً لأنه لا يوم بعده قال أبو السعود: كأنَّ كل يوم يلد ما بعده من الأيام، فما لا يوم بعده يكون عقيماً، والمراد به الساعة أيضاً كأنه قيل: أو يأتيهم عذابها، ووضع ذلك موضع الضمير لمزيد التهويل {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} أي الملك يوم القيامة لله وحده لا منازع له فيه ولا مدافع {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي يفصل بين عباده بالعدل، فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار ولهذا قال {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي فالذين صدقوا الله ورسوله وفعلوا صالح الأعمال لهم النعيم المقيم في جنات الخلد {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي والذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسله لهم العذاب المخزي مع الإِهانة والتحقير في دار الجحيم.



مجازاة من هاجر في سبيل الله



{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(58)لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ(59)ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ(60)}.



{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي تركوا الأوطان والديار ابتغاء مرضاة الله وجاهدوا لإِعلاء كلمة الله {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} أي قتلوا في الجهاد أو ماتوا على فرشهم {لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} أي ليعطينهم نعيماً خالداً لا ينقطع أبداً وهو نعيم الجنة {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي هو تعالى خير من أعطى فإنه يرزق بغير حساب {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} أي ليدخلنهم مكاناً يرضونه وهو الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} أي عليم بدرجات العاملين حليم عن عقابهم {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} أي جازى الظالم بمثل ما ظلمه {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} أي ثم اعتدى الظالم عليه ثانياً لينصرن الله ذلك المظلوم {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي مبالغ في العفو والغفران، وفيه تعريض بالحث على العفو والصفح، فإنه تعالى مع كمال قدرته على الانتقام يعفو ويغفر فغيره أولى بذلك.



بعضٌ من دلائل قدرته تعالى



{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(61)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(62)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(63)لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(64)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(65)وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ(66) }.

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي ذلك النصر بسبب أن الله قادر، ومن ءايات قدرته إيلاج الليل في النهار أي أنه يدخل كلاً منهما في الآخر. بأن ينقص من الليل فيزيد في النهار وبالعكس وهذا مشاهد ملموس في الصيف والشتاء {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي سميع لأقوال عباده بصير بأحوالهم لا تخفى عليه خافية {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي ذلك بأن الله هو الإِله الحق {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} أي وأن الذي يدعوه المشركون من الأصنام والأوثان هو الباطل الذي لا يقدر على شيء {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أي هو العالي على كل شيء ذو العظمة والكبرياء فلا أعلى منه ولا أكبر.



المنَـــاسَبــَة:

لمّا ذكر تعالى ما دّل على قدرته الباهرة من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل ونبه به على نعمه، أتبعه هنا بأنواع أخر من الدلائل على قدرته وحكمته، وجعلها كالمقدمة لإِثبات البعث والمعاد، وختم السورة بدعوة المؤمنين إلى عبادة الله الواحد الأحد.



{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} استفهام تقريري أي ألم تعلم أيها السامع أن الله بقدرته أنزل من السحاب المطر؟ {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} أي فأصبحت الأرض منتعشة خضراء بعد يبسها ومحولها، وجاء بصيغة المضارع {فتصبح} لاستحضار الصورة وإفادة بقائها كذلك مدة من الزمن { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} قال ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط، والغرض من الآية إقامة الدليل على كمال قدرته وعلى البعث والنشور فمن قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت ولهذا قال {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي جميع ما في الكون ملكه جل وعلا، خلقاً وملكاً وتصرفاً، والكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي هو تعالى غني عن الأشياء كلها لا يحتاج لأحد، وهو المحمود في كل حال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ} تذكير بنعمة أخرى أي ألم تر أيها العاقل أن الله سخر لعباده جميع ما يحتاجون إليه من الحيوانات والأشجار والأنهار والمعادن {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} أي وسخر السفن العظيمة المثقلة بالأحمال والرجال تسير في البحر لمصالحكم بقدرته ومشيئته {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ} أي ويمسك بقدرته السماء كي لا تقع على الأرض فيهلك من فيها {إِلا بِإِذْنِهِ} أي إذا شاء وذلك عند قيام الساعة {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي وذلك من لطفه بكم ورحمته لكم حيث هيأ لكم أسباب المعاش فاشكروا آلاءه {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} أي أحياكم بعد أن كنتم عدماً { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} أي يميتكم عند انتهاء آجالكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أي بعد موتك للحساب والثواب والعقاب {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} أي مبالغ في الجحود لنعم الله قال ابن عباس: المراد بالإِنسان الكافر والغرض من الآيات توبيخ المشركين كأنه يقول: كيف تجعلون لله أنداداً وتعبدون معه غيره وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف!!





لكل أمة من الأمم شريعة يتعبدون بها



{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ(67)وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ(68)اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(69)أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(70)}.



{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} أي لكل نبي من الأنبياء وأمةٍ من الأمم السابقين وضعنا لهم شريعة ومتعبداً ومنهاجاً كقوله {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} {هُمْ نَاسِكُوهُ} أي هم عاملون به أي بذلك الشرع {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ} أي لا ينازعك أحدٌ من المشركين فيما شرعتُ لك ولأمتك فقد كانت الشرائع في كل عصر وزمان، وهو نهيٌ يراد به النفي أي لا ينبغي منازعةُ النبي صلى الله عليه وسلم لأن الحق قد ظهر بحيث لا يسع النزاع فيه {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} أي أدعُ الناس إلى عبادة ربك وإلى شريعته السمحة المطهرة {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} أي فإِنك على طريق واضحٍ مستقيم، موصل إلى جنات النعيم {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي وإِن خاصموك بعد ظهور الحق وقيام الحجة عليهم فقل لهم: الله أعلم بأعمالكم القبيحة وبما تستحقون عليها من الجزاء، وهذا وعيد وإِنذار {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي الله يفصل في الآخرة بين المؤمنين والكافرين فيما كانوا فيه يختلفون في أمر الدين، فيعرفون حينئذٍ الحق من الباطل {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} الاستفهام تقريري أي لقد علمت يا محمد أنَّ الله أحاط علمه بما في السماء والأرض فلا تخفى عليه أعمالهم {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} أي إن ذلك كله مسطر في اللوح المحفوظ {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي إن حصر المخلوقات تحت علمه وإِحاطته سهلُ عليه يسيرٌ لديه.



بعض أباطيل المشركين وتحديهم بخلق ذبابة



{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(71)وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءاياتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(72)يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ(73)مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(74)اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(75)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(76)}.



ثم بيَّن سبحانه ما يقدم عليه الكفار مع عظيم نعمه، ووضوح دلائله فقال {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ويعبد كفار قريش غير الله تعالى أصناماً لا تنفع ولا تسمع {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} أي ما لم يرد به حجة ولا برهان من جهة الوحي والشرع {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي وما ليس عندهم به علم من جهة العقل وإنما هو مجرد التقليد الأعمى للآباء {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} أي ليس لهم ناصر يدفع عنهم عذاب الله {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءاياتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإذا تليت على هؤلاء المشركين ءايات القرآن الواضحة الساطعة وما فيها من الحجج القاطعة على وحدانية الله {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} أي ترى في وجوه الكفار الإِنكار بالعبوس و الكراهة {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتِنَا} أي يكادون يبطشون بالمؤمنين الذين يتلون عليهم القرآن {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ النَّارُ} أي قل لهم: هل أخبركم بما هو أسوأ أو أشنع من تخويفكم للمؤمنين وبطشكم بهم؟ إنه نار جهنم وعذابها ونكالها {وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وعدها الله للكافرين المكذبين بآياته {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئس الموضع الذي يصيرون إليه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} أي يا معشر المشركين ضرب الله مثلاً لما يعبد من دون الله من الأوثان والأصنام فتدبروه حق التدبر واعقلوا ما يقال لكم {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ} أي إنَّ هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله لن تقدر على خلق ذبابة على ضعفها وإن اجتمعت على ذلك، فكيف يليق بالعاقل جعلها آلهة وعبادتها من دون الله! قال القرطبي: وخص الذباب لأربعة أمور: لمهانته، وضعفه، ولاستقذاره، وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوهم من دون الله على خلق مثله ودفع أذيته، فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين، وأرباباً مطاعين؟ وهذا من أقوى الحجة وأوضح البرهان {وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} أي لو اختطف الذباب وسلب شيئاً من الطيب الذي كانوا يضمخون به الأصنام لما استطاعت تلك الآلهة استرجاعه منه رغم ضعفه وحقارته {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} أي ضعف العابد الذي يطلب الخير من الصنم، والمطلوب الذي هو الصنم، فكل منهما حقير ضعيف {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه حق تعظيمه حيث جعلوا الأصنام - على حقارتها - شركاء للقوي العزيز ولهذا قال {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي هو تعالى قادر لا يعجزه شيء، غالب لا يغلب، فكيف يسوون بين القوي العزيز والعاجز الحقير؟! {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ} أي الله يختار رسلاً من الملائكة ليكونوا وسطاء لتبليغ الوحي إلى أنبيائه، ويختار رسلاً من البشر لتبليغ شرائع الدين لعباده، والآية ردٌّ على من أنكر أن يكون الرسول من البشر {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي يسمع ما يقولون ويرى ما يفعلون {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي يعلم ما قدموا وما أخَّروا من الأفعال والأقوال والأعمال { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمورُ} أي إليه وحده جل وعلا ترد أمور العباد فيجازيهم عليها.



أوامر الله للمؤمنين



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(77)وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(78)}.



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} أي صلوا لربكم خاشعين، وإِنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لأنهما أشرف أركان الصلاة {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} أي أفردوه بالعبادة ولا تعبدوا غيره {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} أي افعلوا ما يقربكم من الله من أنواع الخيرات والمبرات كصلة الأرحام، ومواساة الأيتام، والصلاة بالليل والناس نيام { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لتفوزوا وتظفروا بنعيم الآخرة {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} أي جاهدوا بأموالكم وأنفسكم لإِعلاء كلمة الله حقَّ الجهاد باستفراغ الوسع والطاقة {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} أي هو اختاركم من بين الأمم لنصرة دينه، وخصكم بأكمل شرع وأكرم رسول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أي وما جعل عليكم في هذا الدين من ضيق ولا مشقة، ولا كلفكم ما لا تطيقون بل هي الحنيفية السمحة ولهذا قال {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} أي دينكم الذي لا حرج فيه هو دين إبراهيم فالزموه لأنه الدين القيم كقوله {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} أي الله سماكم المسلمين في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن، ورضي لكم الإِسلام ديناً قال الإِمام الفخر الرازي: المعنى أنه سبحانه في سائر الكتب المتقدمة على القرآن، وفي القرآن أيضاً بيَّن فضلكم على الأمم وسمَّاكم بهذا الاسم الأكرم، لأجل الشهادة المذكورة، فلما خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أي ليشهد عليكم الرسول بتبليغه الرسالة لكم وتشهدوا أنتم على الخلائق أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي وإذْ قد اختاركم الله لهذه المرتبة الجليلة فاشكروا الله على نعمته بأداء الصلاة ودفع الزكاة {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} أي استمسكوا بحبله المتين وثقوا واستعينوا بالله في جميع أموركم {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} أي فتمام الفضل والمنّة أن يكون الله تعالى معيناً لكم وناصركم في جميع أموركم.










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-26, 17:53   رقم المشاركة : 52
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 سورة المؤمنون

سورة المؤمنون



فوز المؤمنين المتحلين بصفات الطاعة

مراحل خلق الإنسان

خلق السماوات وإنزال الأمطار وتسخير الأنعام

قصة نوح عليه السلام

قصة هود عليه السلام

قصص صالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام

قصة موسى وهارون عليهما السلام

قصة عيسى وأمه مريم عليهما السلام

أوامر ربانية عامة

صفات المسارعين بالخيرات

إنكار أعمال الكفار ومشركي قريش وأسبابها

بعضٌ من نعمه تعالى على عباده

إنكار المشركين البعث وإثبات حدوثه بالأدلة القاطعة

نفي الولد والشريك لله تعالى

توجيهات إلى النبي صلى الله عليه وسلم

تمنى الإنسان العودة إلى الدنيا إذا حضره الموت

النفخ في الصور والحساب في الآخرة

قصر مدة البقاء في الدنيا، وخلق الخلائق ليس لعباً







بَين يَدَي السُّورَة



* سورة "المؤمنون" من السور المكية التي تعالج أصول الدين من "التوحيد والرسالة، والبعث" سميت بهذا الاسم الجليل "المؤمنون" تخليداً لهم وإِشادةً بمآثرهم وفضائلهم الكريمة التي استحقوا بها ميراث الفردوس الأعلى في جنات النعيم.





* عرضت السورة الكريمة لدلائل القدرة والوحدانية مصورة في هذا الكون العجيب، في الإِنسان، والحيوان، والنبات، ثم في خلق السماوات البديعة ذات الطرائق، وفي الآيات الكونية المنبثة فيما يشاهده الناس في العالم المنظور من أنواع النخيل والأعناب، والزيتون والرمان، والفواكه والثمار، والسفن الكبيرة التي تمخر عباب البحار، وغير ذلك من الآيات الكونية الدالة على وجود الله جل وعلا.



* وقد عرضت السورة لقصص بعض الأنبياء تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمّا يلقاه من أذى المشركين، فذكرت قصة نوح، ثم قصة هود، ثم قصة موسى، ثم قصة مريم البتول وولدها عيسى، ثم عرضت لكفار مكة وعنادهم ومكابرتهم للحق بعدما سطع سطوع الشمس في رابعة النهار، وأقامت الحجج والبراهين على البعث والنشور، وهو المحور الذي تدور عليه السورة، وأهم ما يجادل فيه المبطلون، فقصمت ببيانها الساطع ظهر الباطل.



*وتحدثت السورة عن الأهوال والشدائد التي يلقاها الكفار وقت الاحتضار وهم في سكرات الموت، وقد تمنوا العودة إلى الدنيا ليتداركو ما فاتهم من صالح العمل، ولكن هيهات فقد انتهى الأجل، وضاع الأمل. وختمت السورة بالحديث عن يوم القيامة حيث ينقسم الناس إلى فريقين: سعداء، وأشقياء، وينقطع الحسب والنسب فلا ينفع إِلا الإيمان والعمل الصالح، وسجلت المحاورة بين الملك الجبار وبين أهل النار وهم يصطرخون فيها فلا يغاثون ولا يجابون !!.



فوز المؤمنين المتحلين بصفات الطاعة



{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3)وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4)وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5)إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ(7)وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9)أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ(10)الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(11)}.



{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} أي فاز وسعد وحصل على البغية والمطلوب المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة، و{قَدْ} للتأكيد والتحقيق فكأنه يقول لقد تحقَّق ظفرهم ونجاحهم بسبب الإِيمان والعمل الصالح، ثم عدَّد تعالى مناقبهم فقال {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال ابن عباس: خاشعون: خائفون ساكنون أي هم خائفون متذللون في صلاتهم لجلال الله وعظمته لاستيلاء الهيبة على قلوبهم {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} أي عن الكذب والشتم والهزل قال ابن كثير: اللغو: الباطل وهو يشمل الشرك، والمعاصي، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} أي يؤدون زكاة أموالهم للفقراء والمساكين، طيبة بها نفوسهم طلباً لرضى الله {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} هذا هو الوصف الرابع أي عفَّوا عن الحرام وصانوا فروجهم عمَّا لا يحل من الزنا واللواط وكشف العورات {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي هم حافظون لفروجهم في جميع الأحوال إِلا من زوجاتهم وإِمائهم المملوكات {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} أي فإِنهم غير مؤاخذين {فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} أي فمن طلب غير الزوجات والمملوكات { فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} أي هم المعتدون المجاوزون الحدَّ في البغي والفساد {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أي قائمون عليها بحفظها وإِصلاحها، لا يخونون إِذا ائتمنوا، ولا ينقضون عهدهم إِذا عاهدوا قال أبو حيان: والظاهر عموم الأمانات فيدخل فيها ما ائتمن الله تعالى عليه العبد من قولٍ وفعلٍ واعتقاد، وما ائتمنه الإِنسان من الودائع والأمانات {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} هذا هو الوصف السادس أي يواظبون على الصلوات الخمس ويؤدونها في أوقاتها قال ابن جزي : فإِن قيل كيف كرّر ذكر الصلوات أولاً وآخراً ؟ فالجواب أنه ليس بتكرار، لأنه قد ذكر أولاً الخشوع فيها، وذكر هنا المحافظة عليها فهما مختلفان {أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ} أي أولئك الجامعون لهذه الأوصاف الجليلة هم الجديرون بوراثة جنة النعيم {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} أي الذين يرثون أعالي الجنة التي تتفجر منها أنهار الجنة وفي الحديث (إذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإِنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة) {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم دائمون فيها لا يخرجون منها أبداً، ولا يبغون عنها حولاً.



مراحل خلق الإنسان



{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12)ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13)ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(14)ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ(15)ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ(16)}.



ثم ذكر الله تعالى الأدلة والبراهين على قدرته ووحدانيته فقال {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} اللام جواب قسم أي والله لقد خلقنا جنس الإِنسان من صفوة وخلاصة استلت من الطين قال ابن عباس: هو آدم لأنه انسلَّ من الطين {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} أي ثم جعلنا ذرية آدم وبنيه منيّاً ينطف من أصلاب الرجال {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} أي في مستقرٍ متمكن هو الرحم {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} أي ثم صيرَّنا هذه النطفة - وهي الماء الدافق - دماً جامداً يشبه العلقة {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} أي جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم لا شكل فيها ولا تخطيط {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} أي صيَّرنا قطعة اللحم عظاماً صلبة لتكون عموداً للبدن { فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} أي سترنا العظام باللحم وجعلناه كالكسوة لها {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} أي ثم بعد تلك الأطوار نفخنا فيه الروح فصيرناه خلقاً آخر في أحسن تقويم قال الرازي: أي جعلناه خلقاً مبايناً للخلق الأول حيث صار إِنساناً وكان جماداً، وناطقاً وكان أبكم، وسميعاً وكان أصم، وبصيراً وكان أكمه، وأودع كل عضو من أعضائه عجائب فطرة، وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أي فتعالى الله في قدرته وحكمته أحسن الصانعين صنعاً {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} أي ثم إِنكم أيها الناس بعد تلك النشأة والحياة لصائرون إلى الموت {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} أي تبعثون من قبوركم للحساب والمجازاة.



خلق السماوات وإنزال الأمطار وتسخير الأنعام



{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ(17)وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ(18)فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(19)وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ(20)وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ(22) }.



ولما ذكر تعالى الأطوار في خلق الإِنسان وبدايته ونهايته ذكر خلق السماوات والأرض وكلها أدلة ساطعة على وجود الله فقال {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} أي والله لقد خلقنا فوقكم سبع سموات، سميت طرائق لأن بعضها فوق بعض {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} أي وما كنا مهملين أمر الخلق بل نحفظهم وندبر أمرهم {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أي أنزلنا من السحاب القطر والمطر بحسب الحاجة، لا كثيراً فيفسد الأرض، ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} أي جعلناه ثابتاً مستقراً في الأرض لتنتفعوا به وقت الحاجة {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} وعيدٌ وتهديدٌ أي ونحن قادرون على إِذهابه بالتغوير في الأرض فتهلكون عطشاً أنتم ومواشيكم قال ابن كثير: لو شئنا لجعلناه إِذا نزل يغور في الأرض إِلى مدى لا تصلون إِليه ولا تنتفعون به لفعلنا، ولكن بلطفه تعالى ورحمته ينزل عليكم المطر من السحاب عذباً فراتاً، فيسكنه في الأرض، ويسلكه ينابيع فيها فيفتح العيون والأنهار، ويسقى الزروع والثمار، فتشربون منه أنتم ودوابكم وأنعامكم {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي فأخرجنا لكم بذلك الماء حدائق وبساتين فيها النخيل والأعناب { لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} أي لكم في هذه البساتين أنواع الفواكه والثمار تتفكهون بها {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي ومن ثمر الجنات تأكلون صيفاً وشتاءً كالرطب والعنب والتمر والزبيب، وإِنما خصَّ النخيل والأعناب بالذكر لكثرة منافعهما فإِنهما يقومان مقام الطعام، ومقام الإِدام، ومقام الفواكه رطباً ويابساً وهما أكثر فواكه العرب {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} أي وممَّا أنشأنا لكم بالماء أيضاً شجرة الزيتون التي تخرج حول جبل الطور وهو الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} أي تُنبت الدهن أي الزيت الذي فيه منافع عظيمة {وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} أي وإِدام للآكلين سمي صبغاً لأنه يلون الخبز إذا غُمس فيه، جمع الله في هذه الشجرة بين الأُدم والدهن، وفي الحديث (كلوا الزيت وادهنوا به فإِنه من شجرةٍ مباركة) {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} أي وإِن لكم أيها الناس فيما خلق لكم ربكم من الأنعام وهي "الإِبل والبقر والغنم" لعظةً بالغةً تعتبرون بها {نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} أي نسقيكم من بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين { وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} أي ولكم في هذه الأنعام منافع عديدة: تشربون من ألبانها، وتلبسون من أصوافها وتركبون ظهورها، وتحملون عليها الأحمال الثقال {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي وتأكلون لحومها كذلك {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} أي وتحملون الإِبل في البر كما تحملون على السُّفن أبو حيّان ، فإِنَّ الإِبل سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر.





قصة نوح عليه السلام



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ(23)فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ(24)إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ(25)قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ(26)فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ(27)فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(28)وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ(29)إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ(30)}.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى دلائل التوحيد في خلق الإِنسان، والحيوان، والنبات، وفي خلق السماوات والأرض، وعدّد نعمه على عباده، ذكر هنا أمثالاً لكفار مكة من المكذبين من الأمم السابقة وما نالهم من العذاب، فابتدأ بقصة نوح، ثم بقصة هود، ثم بقصة موسى وفرعون، ثم بقصة عيسى بن مريم، كلُّها عبر وعظات للمكذبين بالرسل والآيات.



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} أي والله لقد أرسلنا رسولنا نوحاً إلى قومه داعياً لهم إلى الله قال المفسرون: هذه تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر هذا الرسول، ليتأسى به في صبره، وليعلم أنَّ الرسل قبله قد كُذبوا {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي اعبدوه وحده فليس لكم ربٌّ سواه {أَفَلا تَتَّقُونَ} زجرٌ ووعيد أي أفلا تخافون عقوبته بعبادتكم غيره ؟ {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} أي فقال أشراف قومه ورؤساؤهم الممعنون في الكفر والضلال {مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي ما هذا الذي يزعم أنه رسول إلا رجلٌ من البشر يريد أن يطلب الرياسة والشرف عليكم بدعواه النبوة لتكونوا له أتباعاً .. واعجبْ بضلال هؤلاء استبعدوا أن تكون النبوة لبشر، وأثبتوا الربوبية لحجر {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزَلَ مَلائِكَةً} أي لو أراد الله أن يبعث رسولاً لبعث ملكاً ولم يكن بشراً {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام في الأمم الماضية، والدهور الخالية {إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي ما هو إلا رجلٌ به جنون {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} أي انتظروا واصبروا عليه مدة حتى يموت {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} أي قال نوح بعد ما يئس من إيمانهم: ربِّ انصرني عليهم بإهلاكهم عامةً بسبب تكذيبهم إياي {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} أي فأوحينا إليه عند ذلك أن اصنع السفينة بمرأى منا وحفظنا {وَوَحْيِنَا} أي بأمرنا وتعليمنا {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} أي فإذا جاء أمرنا بإنزال العذاب {وَفَارَ التَّنُّورُ} أي فار الماء في التنور الذي يخبز فيه قال المفسرون: جعل الله ذلك علامة لنوح على هلاك قومه {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي فأدخل في السفينة من كل صنفٍ من الحيوان زوجين"ذكر وأنثى" لئلا ينقطع نسل ذلك الحيوان {وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} أي واحمل أهلك أيضاً إلا من سبق عليه القول بالهلاك ممن لم يؤمن كزوجته وابنه {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أي ولا تسألني الشفاعة للظالمين عند مشاهدة هلاكهم فقد قضيت أنهم مغرقون محكوم عليهم بالغرق {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} أي فإذا علوت أنت ومن معك من المؤمنين على السفينة {فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي احمدوا الله على تخليصه إياكم من الغرق وإنما قال {فَقُلْ} ولم يقل فقولوا لأن نوحاً كان نبياً لهم وإماماً فخطابه خطابٌ لهم {وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا} أي أنزلني إنزالاً مباركاً يحفظني من كل سوء وشر قال ابن عباس: هذا حين خرج من السفينة {وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} أي أنت يا رب خير المنزلين لأوليائك والحافظين لعبادك {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أي إنَّ فيما جرى على أمة نوح لدلائل وعبر يستدل بها أولوا الأبصار {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أي وإنَّ الحال والشأن كنا مختبرين للعباد بإرسال المرسلين.



قصة هود عليه السلام



{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ(31)فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ(32)وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ(33)وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ(34)أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ(35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ(36)إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(37)إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ(38)قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ(39)قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ(40)فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(41)}



{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} أي ثم أوجدنا من بعد قوم نوح قوماً آخرين يخلفونهم وهم قوم عاد {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ} أي أرسلنا إليهم رسولاً من عشيرتهم هو هود عليه السلام {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به أحداً لأنه ليس لكم ربٌّ سواه {أَفَلا تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون عذابه وانتقامه إن كفرتم؟ {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ} أي قال أشراف قومه الكفرة المكذبون بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي وسَّعنا عليهم نعم الدنيا حتى بطروا نعمهم في هذه الحياة {مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي قالوا لأتباعهم مضلين لهم: ما هذا الذي يزعم أنه رسول إِلا إِنسان مثلكم {يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} أي يأكل مثلكم ويشرب مثلكم فلا فضل له عليكم لأنه محتاج إِلى الطعام والشراب {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} أي ولئن أطعتموه وصدقتموه فإِنكم لخاسرون حقاً حيث أذللتم أنفسكم باتّباعه قال أبو السعود: انظر كيف جعلوا اتباع الرسول الحق الذي يوصلهم إلى سعادة الدارين خسراناً دون عبادة الأصنام التي لا خسران وراءها ؟ قاتلهم الله أنَّى يؤفكون {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا} استفهام على وجه الاستهزاء والاستبعاد أي أيعدكم بالحياة بعد الموت بعد أن تصبحوا رفاتاً وعظاماً بالية؟ {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} أي أنكم ستخرجون أحياء من قبوركم وكرَّر لفظ {أَنَّكُمْ} تأكيداً لأنه لمّا طال الكلام حسن التكرار {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} أي بَعُدَ بَعُدَ هذا الذي توعدونه من الإِخراج من القبور، وغرضهم بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبداً {إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} أي لا حياة إِلا هذه الحياة الدنيا {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي يموتُ بعضنا ويُولد بعضنا إِلى انقراض الدهر {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} أي لا بعث ولا نشور {إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي ما هو إِلا رجل كاذب يكذب على الله فيما جاءكم به من الرسالة، والإِخبار بالمعاد {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} أي ولسنا بمصدقين فيما يقوله {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} لما يئس نبيُّهم من إِيمانهم ورأى إِصرارهم على الكفر دعا عليهم بالهلاك والمعنى ربّ انصرني عليهم بسبب تكذيبهم إِياي {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} أي عن قريب من الزمان سيصيرون نادمين على كفرهم {فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ} أي أخذتهم صيحة العذاب المدمر عدلاً من الله لا ظلماً {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} أي هلكى كغثاء السيل قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة رجفت لها الأرض من تحتهم فصاروا لشدتها غثاءً كغثاء السيل وهو الشيء التافه الحقير الذي لا ينتفع منه بشيء {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي فسحقاً وهلاكاً لهم بكفرهم وظلمهم، وهي جملة دعائية كأنه قال: بعداً لهم من رحمة الله وهلاكاً ودماراً لهم.



قصص صالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام



{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ(42)مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ(43)ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ(44)}.



{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ} أي أوجدنا من بعد هلاك هؤلاء أمماً وخلائق آخرين كقوم صالح وإِبراهيم وقوم لوط وشعيب قال ابن عباس: هم بنو إِسرائيل، وفي الكلام حذفٌ تقديره: فكذبوا أنبياءهم فأهلكناهم دلَّ عليه قوله {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} أي ما تتقدم أمةٌ من الأمم المهلكة عن الوقت الذي عُيّن لهلاكهم ولا تتأخر عنه {ثُمَّ أَرْسَلنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} أي بعثنا الرسل متتالين واحداً بعد واحد قال ابن عباس: يتبع بعضهم بعضاً {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} تشنيع عليهم بكمال ضلالهم أي أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من سبقهم من الضالين المكذبين ولهذا قال {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} أي ألحقنا بعضهم في إِثر بعض بالهلاك والدمار {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي أخباراً تُروى وأحاديث تُذكر، يتحدث الناس بما جرى عليهم تعجباً وتسلية {فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} أي فهلاكاً ودماراً لقومٍ لا يصدّقون الله ورسله.










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-26, 17:55   رقم المشاركة : 53
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 تابع

قصة موسى وهارون عليهما السلام



{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ(45)إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ(46)فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ(47)فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ(48)وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(49)}.



{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا} أي أرسلناهما بآياتنا البينات قال ابن عباس: هي الآيات التسع "العصا، اليد، الجراد" إلخ {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي وحجة واضحة ملزمة للخصم {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي أرسلناهما إِلى فرعون الطاغية وأشراف قومه المتكبرين {فَاسْتَكْبَرُوا} أي عن الإِيمان بالله وعبادته {وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} أي متكبرين متمردين، قاهرين لغيرهم بالظلم {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} أي أنصدق رجلين مثلنا ونتَّبعهما؟ {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} أي والحال أن قوم موسى وهارون منقادون لنا كالخدم والعبيد؟ {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} أي فكذبوا رسولينا فكانوا من المغرقين أبو حيّان {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي أعطينا موسى التوراة بعد غرق فرعون وملائه ليهتدي بها بنو إِسرائيل.



قصة عيسى وأمه مريم عليهما السلام



{وَجَعلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ(50)}.



{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} أي وجعلنا قصة مريم وابنها عيسى معجزةً عظيمة تدل على كمال قدرتنا {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} أي وجعلنا منزلهما ومأواهما إِلى مكانٍ مرتفع من أرض بيت المقدس قال ابن عباس: الربوة المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون فيه النبات {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} أي مستوية يستقر عليها وماءٍ جارٍ ظاهر للعيون قال الرازي: القرار: المستقر كل أرض مستوية مبسوطة، والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض، وعن قتادة: ذات ثمارٍ وماء، يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها.



أوامر ربانية عامة



{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(51)وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ(52)فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ(53)فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ(54)أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ(55)نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ(56)}.



{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} أي قلنا يا أيها الرسل كلوا من الحلال وتقربوا إِلى الله بالأعمال الصالحة، والنداء لكل رسولٍ في زمانه وصّى به كل رسول إِرشاداً لأمته كما تقول تخاطب تاجراً: يا تجار اتقوا الربا { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وعيدٌ وتحذير أي إِني عالم بما تعملون لا يخفى علىَّ شيء من أمركم، قال القرطبي: شمل الكل في الوعيد وإِذا كان هذا مع الرسل والأنبياء، فما ظنُّ كل الناس بأنفسهم؟ {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد، وملتكم ملة واحدة وهي دين الإِسلام {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} أي وأنا ربكم لا شريك لي فخافوا عذابي وعقابي.

{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} أي تفرقت الأمم في أمر دينهم فرقاً عديدة وأدياناً مختلفة هذا مجوسي، وهذا يهودي، وهذا نصراني بعدما أُمروا بالاجتماع {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه ديناً لنفسه معجب به، يرى أنه المحقُّ الرابح، وأنَّ غيره المبطل الخاسر {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والضمير لكفار مكة أي فاترك يا محمد هؤلاء المشركين في غفلتهم وجهلهم وضلالهم {حَتَّى حِينٍ} أي إِلى حين موتهم، وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيدٌ للمشركين {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} أي أيظن هؤلاء الكفار أنَّ الذي نعطيهم في الدنيا من الأموال والأولاد {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} أي هو تعجيل ومسارعة لهم في الإِحسان؟ كلاَّ ليس الأمر كما يظنون بل هو استدراجٌ لهم، واستجرارٌ إلى زيادة الإِثم ولهذا قال {بَل لا يَشْعُرُونَ} أي بل هم أشباه البهائم، لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا في الأمر، أهو استدراج أم مسارعة في الخير؟ والآية ردٌّ على المشركين في زعمهم أن أموالهم وأولادهم دليلُ رضى الله عنهم كما حكى الله عنهم {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} وفي الحديث (إن الله يعطي الدنيا لمن يحُبُّ ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إِلا لمن أحبَّ).



صفات المسارعين بالخيرات



{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ(57)وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(58)وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ(59)وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ(60)أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ(61)وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(62)}.



ولمّا ذمَّ المشركين وتوعَّدهم عقَّب ذلك بمدح المؤمنين وذكرهم بأبلغ صفاتهم فقال {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} أي هم من جلال الله وعظمته خائفون، ومن خوف عذابه حذرون {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} أي يصدِّقون بآيات الله القرآنية، وآياته الكونية وهي الدلائل والبراهين الدالة على وجوده سبحانه

وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنه واحد

{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} أي لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويخلصون العمل لوجهه قال الإِمام الفخر الرازي: وليس المراد منه الإِيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله فإِن ذلك داخل في الآية السابقة، بل المراد منه نفيُ الشرك الخفي وذلك بأن يخلص في العبادة لوجه اللهوطلباً لرضوانه {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} هذه هي الصفة الرابعة من أوصاف المؤمنين أي يعطون العطاء من زكاةٍ وصدقة، ويتقربون بأنواع القربات من أفعال الخير والبر وهم يخافون أن لا تقبل منهم أعمالهم قال الحسن: إِن المؤمن جمع إِحساناً وشفقة، وإِن المنافق جمع إِساءةً وأمناً {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أي لخوفهم أن يكونوا قد قصَّروا في القيام بشروط الطاعات والأعمال الصالحة ولاعتقادهم أنهم سيرجعون إِلى ربهم للحساب، روي أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآية الكريمة فقالت {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر وهو يخاف الله عزَّ وجل؟ فقال لها: (لا يا بنت الصِّديق! ولكنه الذي يصلي، ويصوم، ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله عزَّ وجل) {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة هم الذين يسابقون في الطاعات لنيل أعلى الدرجات لا أولئك الكفرة المجرمون {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أي هم الجديرون بها والسابقون إِليها قال الإِمام الفخر الرازي: واعلم أن ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن، فالصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد، الموجب للاحتراز عما ينبغي، والثانية: دلت على التصديق بوحدانية الله، والثالثة: دلت على ترك الرياء في الطاعات، والرابعة: دلت على أن المستجمع لتلك الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير، وذلك هو نهاية مقامات الصدّيقين رزقنا الله الوصول إِليها{وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي لا نكلّف أحداً من العباد ما لا يطيق تفضلاً منّا ولطفاً. أتى بهذه الآية عقب أوصاف المؤمنين إِشارةً إِلى أن أولئك المخلصين لم يُكلفوا بما ليس في قدرتهم وأن جميع التكاليف في طاقة الإِنسان {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ} أي وعندنا صحائف أعمال العباد التي سطر فيها ما عملوا من خير أو شر نجازيهم في الآخرة عليها ولهذا قال {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا يظلمون من أعمالهم شيئاً بنقص الثواب أو زيادة العقاب قال القرطبي: والآية تهديد وتأمين من الحيف والظلم.





إنكار أعمال الكفار ومشركي قريش وأسبابها



{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ(63)حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ(64)لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ(65)قَدْ كَانَتْ ءاياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ(66)مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ(67)أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمْ الأَوَّلِينَ(68)أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(69)أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ(70)وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ(71)أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(72)وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(73)وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ(74)وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ(76)حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ(77)}.



سَبَبُ النّزول:

عن ابن عباس قال: نزلت في قصة "ثمامة بن أُثال" لما أسرته السرية وأسلم وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيله، حال بين مكة وبين الميرة وقال: والله لا يأتيكم من اليمامة حبَّة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ اللهُ قريشاً بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز قيل وما العلهز؟ قال كانوا يأخذون الصوف والوبر فيبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه فقال أبو سفيان: أنشدك الله والرَّحم، أليس تزعم أنَّ الله بعثك رحمة للعالمين؟ قال: بلى، قال فوالله ما أراك إِلا قتلت الآباء بالسيف، وقتلت الأبناء بالجوع فنزل قوله تعالى {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الآيات.



{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا } بل قلوب الكفرة المجرمين في غطاءٍ وغفلةٍ وعماية عن هذا القرآن {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} أي ولهم أعمال سيئة كثيرة غير الكفر والإِشراك {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} أي سيعملونها في المستقبل لتحقَّ عليهم الشقاوة فقد جمعوا بين الكفر وسوء الأعمال فحقت عليهم كلمة العذاب {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} أي حتى إِذا أخذنا أغنياءهم وكبراءهم المتنعمين في هذه الحياة بالعذاب العاجل كالجوع والقتل والأسر { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} أي إذا هم يصيحون ويرفعون أصواتهم بالاستغاثة قال ابن عباس: هو الجوع الذي عذبوا به سبع سنين {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} أي لا تستغيثوا اليوم من العذاب { إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ} أي لا تمنعون من عذابنا فلا ينفعكم صراخ ولا استغاثة {قَدْ كَانَتْ ءاياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي لقد كنتم تسمعون ءايات القرآن تقرأ عليكم {فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} أي كنتم تنفرون عن تلك الآيات كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إِلى ورائه، وهذا تمثيلٌ لإِعراضهم عن الحق بالراجع إلى الخلف {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أي مستكبرين بسبب القرآن عن الإِيمان قال ابن كثير: الضمير للقرآن كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهُجْر من الكلام يقولون إِنه سحر، شعر، كهانة إِلى غير ذلك من الأقوال الباطلة وقال ابن الجوزي: الضمير عائد إلى البيت الحرام وهي كناية عن غير مذكور لشهرة الأمر والمعنى: إِنكم تستكبرون وتفتخرون بالبيت والحرم لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في مواطنهم، تقولون: نحن أهل الحرم فلا نخاف أحداً، ونحن أهل بيت الله وولاته، هذا مذهب ابن عباس وغيره {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} أي متحدثين ليلاً، تقولون في سمركم الهجر وهو القول الفاحش من الطعن في القرآن وسبّ النبي عليه السلام {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} أي أفلم يتدبروا هذا القرآن العظيم ليعرفوا بما فيه من إِعجاز النظم أنه كلام الله فيصدقوا به؟ {أَمْ جَاءهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمْ الأَوَّلِينَ} أي أم جاءهم من الله تعالى بشيء مبتدع لم يأت مثله في آبائهم السابقين؟ قال أبو السعود: يعني أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل سنة قديمة لا يكاد يتسنى إنكاره، وأن مجيء القرآن على طريقته فمن أين ينكرونه؟ {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} توبيخ آخر لهم أي أم لم يعرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق؟ وبَّخهم أوّلاً بترك الانتفاع بالقرآن، وثانياً بأن ما جاءهم قد جاء مثله لآبائهم الأولين، وثالثاً بأنهم يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته ورابعاً اتهامهم له بالجنون وقد علموا أنه عليه السلام أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً ولهذا قال بعده {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} أي أم يقولون إِن محمداً مجنون، وهذا توبيخ آخر وتعجيبٌ من تفننهم في العناد، وتلونهم في الجحود {بَلْ جَاءهُمْ بِالْحَقِّ} {بَلْ} للإِضراب أي ليس الأمر كما زعموا بل جاءهم محمد بالحقِّ الساطع الذي لا مدخل فيه للباطل بوجه من الوجوه، وبالقرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإِسلام {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} أي ومع وضوح الدعوة فإِنَّ أكثر المشركين يكرهون الحقَّ لما في قلوبهم من الزيغ والانحراف {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ} أي لو كان ما كرهوه من الحقّ - الذي هو التوحيد والعدل - موافقاً لأهوائهم الفاسدة، ومتمشياً مع رغباتهم الزائغة {لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} أي لفسد نظام العالم أجمع علويُّه وسفليُّه، وفسد من فيه من المخلوقات لفساد أهوائهم واختلافهم قال ابن كثير: وفي هذا كله تبيين عجز العباد، واختلاف آرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وتدبيره لخلقه {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} أي بل أتيناهم بما فيه فخرهم وشرفهم، وهو هذا القرآن العظيم الذي أكرمهم الله تعالى به {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} أ ي فهم معرضون عن هذا القرآن وكان اللائق بهم الانقياد له وتعظيمه لأنه شرفهم وعزُّهم، وأعاد لفظ " الذكر" تعظيماً للقرآن {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا} أي أم تسألهم يا محمد أجراً على تبليغ الرسالة فلأجل ذلك لا يؤمنون، وفي هذا تشنيعٌ عليهم لعدم الإِيمان فمحمد لا يطلب منهم أجراً فلماذا إِذاً يكذبونه ويعادونه؟ {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} أي رزق الله وعطاؤه خيرٌ لك يا محمد {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي هو تعالى أفضلُ من أعطى ورزق لأنه يعطي لا لحاجة، وغيره يعطي لحاجة {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي وإِنك يا محمد لتدعوهم إِلى الطريق المستقيم وهو الإِسلام الموصل إلى جنات النعيم {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} أي وإِنَّ الذين لا يصدقون بالبعث والثواب والعقاب لعادلون عن الطريق المستقيم منحرفون عنه.



{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} أي لو رحمنا هؤلاء المشركين الذين كذبوك وعاندوك ورفعنا عنهم ما أصابهم من قحطٍ وجدب وكشفنا عنهم البلاء {لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي لاستمروا وتمادوا في ضلالتهم وتجاوزهم الحدَّ يتردَّدون ويتخبطون حيارى {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد، وبالقحط والجوع {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} أي ما خضعوا لله ولا تواضعوا لجلاله {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أي وما دعوا ربهم لكشف البلاء بل استمروا على العتوّ والاستكبار، والغرضُ أنه لم يحصل منهم تواضع ورجوع إِلى الله في الماضي، ولا التجاءٌ إِلى الله في المستقبل لشدة جبروتهم وطغيانهم {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} أي حتى إِذا جاءتهم أهوال الآخرة وأتاهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي إِذا هم آيسون من كل خير قال أبو السعود: المراد بالعذاب عذاب الآخرة كما ينبئ عنه التهويل والوصف بالشدة والمعنى أنا محناهم بكل محنة من القتل، والأسر، والجوع وغير ذلك فما رئيَ منهم لين ولا توجهٌ إِلى الإِسلام إلى أن يروا عذاب الآخرة فحينئذٍ يبلسون وتخضع رقابهم.



بعضٌ من نعمه تعالى على عباده



{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ(78)وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(79)وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(80)}.



ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه ودلائل وحدانيته فقال {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} أي خلق لكم هذه الحواس لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا، وفيه توبيخٌ للمشركين حيث لم يصرفوا النعم في مصارفها، لأن السمع خلق ليسمع به ما يرشده، والبصر ليشاهد به الآيات على كمال أوصاف الله، والعقل ليتأمل به في مصنوعات الله وباهر قدرته فمن لم يصرف تلك النعم في مصارفها فهو بمنزلة عادمها كما قال تعالى {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} وخصَّ هذه الثلاثة بالذكر لعظم المنافع التي فيها {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} أي قليلاً تشكرون ربكم، و{مَا} لتأكيد القلة أي ما أقل شكركم لله على كثرة إِفضاله وإِنعامه عليكم؟ {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ} أي خلقكم وبثكم في الأرض بطريق التناسل {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وإِليه وحده تجمعون للجزاء والحساب {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ} أي يُحيي الرِّمم ويميت الخلائق والأمم {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي إِن اختلاف الليل والنهار بالزيادة والنقصان بفعله سبحانه وحده ليقيم الدليل على وجوده وقدرته {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفليس لكم عقول تدركون بها دلائل قدرته، وآثار قهره، فتعلمون أن من قدر على ذلك ابتداءً، قادرٌ على إِعادة الخلق بعد الفناء؟.



إنكار المشركين البعث وإثبات حدوثه بالأدلة القاطعة



{بلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ(81)قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(82)لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(83)قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(85)قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ(87)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ(89)بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(90)}.



{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ} {بَلْ} للإِضراب أي ليس لهم عقل ولا نظر في هذه الآيات والعِبر، بل قال هؤلاء المشركون - من كفار مكة - مثل ما قال الأمم المتقدمون {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}؟ أي أئذا بلينا وصرنا ذراتٍ ناعمة، وعظاماً نخرة أئنا لمخلوقون ثانية؟ هذا لا يتصور ولا يكون أبداً {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} أي لقد وعدنا بهذا نحن ومن سبقنا فلم نر له حقيقة {إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي ما هذا إِلا أكاذيب وأباطيل المتقدمين ولما أنكروا البعث والنشور أمر تعالى رسوله أن يفحمهم بالحجة الدامغة التي تقصم ظهر الباطل فقال {قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا}؟ أي قل يا محمد جواباً لهم عما قالوه: لمن الأرض ومن فيها من المخلوقات؟ ومن مالكها والمتصرف فيها بالإِيجاد والإِفناء؟ {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إِن كان عندكم علمٌ فأخبروني بذلك، وفيه استهانةٌ بهم وتقريرٌ لجهلهم قال القرطبي: يخبر تعالى في الآية بربوبيته ووحدانيته، وملكه الذي لا يزول، وقدرته التي لا تحول، ودلت هذه الآيات - وما بعدها - على جواز جدال الكفار وإِقامة الحجة عليهم، ونبَّهت على أنَّ من ابتدأ بالخلق والإِيجاد، والإِبداع، هو المستحقُّ للألوهية والعبادة { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي فسيقولون الله خالقها وموجدها ولا بدَّ لهم من الاعتراف بذلك {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}؟ أي أفلا تعتبرون فتعلمون أن من ابتدأ ذلك قادر على إِعادته؟ {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}؟ أي من هو خالق السماوات الطباق بما فيها الشموس، والكواكب والأقمار، ومن هو خالق العرش الكبير الذي تحمله الملائكة الأطهار؟ {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي سيقولون: اللهُ خالقه وهو لله {قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون من عذابه فتوحّدونه وتتركون عبادة غيره من الأوثان والأصنام {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} الملكُوت من صفات المبالغة أي من بيده الملك الواسع التام؟ ومن بيده خزائن كل شيء؟ ومن هو المتصرف في هذه الأكوان بالخلق والإِيجاد والتدبير؟ {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} أي يحمي من استجار به والتجأ إِليه، ولا يغيث أحدٌ منه أحداً {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إِن كنتم تعلمون فأخبروني عن ذلك {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي سيقولون: الملك كله والتدبيرُ لله جلَّ وعلا {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي قل لهم: فكيف تُخدعون وتُصرفون عن طاعته وتوحيده مع اعترافكم وعلمكم بأنه وحده المتصرف المالك؟ قال أبو حيان: والسحر هنا مستعار وهو تشبيه لما يقع منهم من التخليط، ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها بما يقع للمسحور من التخبط والتخليط رتَّب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج فقال أولاً {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}؟ ثم قال ثانياً {أَفَلا تَتَّقُونَ}؟ وذلك أبلغ لأن فيه زيادة تخويف، ثم قال ثالثاً {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} أي بل جئناهم بالقول الصدق في أمر التوحيد والبعث والجزاء {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي كاذبون فيما ينسبون لله من الشركاء والأولاد. لمَّا بالغ في الحِجاج عليهم بالآيات السابقة أعقبها بهذه الآية كالوعيد والتهديد.



نفي الولد والشريك لله تعالى





{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ(91)عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(92)}.



ثم بيَّن بطلان الشريك والولد بالبرهان القاطع فقال {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} أي ما اتخذ الله ولداً مطلقاً لا من الملائكة ولا من البشر {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} أي وليس معه من يشاركه في الألوهية والربوبية {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} أي لو كان معه إِله - كما زعم عبدة الأوثان - لانفرد كل إِلهٍ بخلقه الذي خلق واستبدَّ به، وتميَّز ملك كلِّ واحد عن ملك الآخر {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي ولغلب بعضهم على بعض كحال ملوك الدنيا قال ابن كثير: المعنى لو قدر تعدُّد الآلهة لأنفرد كلٌ منهم بما خلق، ثم لكان كلٌ منهم يطلب قهر الآخر وخلافه فيعلو بعضهم على بعض وما كان ينتظم الوجود، والمشاهد أن الوجود منتظمٌ متَّسقٌ غاية الكمال فدل على تنزه الله عن الولد والشريك ولهذا قال {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزّه الله وتقدَّس عما يصفه به الظالمون {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي هو تعالى العالم بما غاب عن الأنظار، وبما تدركه الأبصار، لا تخفى عليه خافية من شؤون الخلق {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تقدَّس وتنزَّه عن الشريك والولد.



توجيهات إلى النبي صلى الله عليه وسلم



{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ(93)رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(94)وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ(95)ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ(96)وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ(97)وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ(98)}.



{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} أي قل يا ربِّ إِن كان ولا بدَّ من أن تُريَني ما تعدهم من العذاب في الدنيا {رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} هذا جواب الشرط {إِمَّا} وكرَّر قوله {رَبِّ} مبالغةً في الدعاء والتضرع أي ربّ فلا تجعلني في جملة الظالمين فأهلك بهلاكهم قال أبو حيان: ومعلوم أنه عليه السلام معصومٌ مما يكون سبباً لجعله مع الظالمين ولكنه أُمر أن يدعو بذلك إِظهاراً للعبودية وتواضعاً لله {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} أي ونحن قادرون على أن نريك العذاب الذي وعدناهم به ولكن نؤخره لحكمه {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أي ادفع إِساءتهم بالصفح عنهم وتجمَّل بمكارم الأخلاق قال ابن كثير: أرشده إلى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإِحسان إلى من يسيء إِليه ليستجلب خاطره، فتعود عدواته صداقةً، وبغضه محبة {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي نحن أعلم بحالهم وبما يكون منهم من التكذيب والاستهزاء وسنجازيهم عليه {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} أي أعتصم بك من نزعات الشياطين ووساوسهم المغرية على الباطل والمعاصي {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} أي وأعتصم وأحتمي بك يا رب من أن يصيبوني بسوء أو يكونوا معي في أموري، كرَّر ذلك للمبالغة والاعتناء بشأن الاستعاذة.



تمنى الإنسان العودة إلى الدنيا إذا حضره الموت



{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(99)لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(100)}.



{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ} عاد الكلام عن المشركين أي حتى إِذا حضر الموتُ أحدهم وعاين أهواله وشدائده {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} أي قال تحسراً على ما فرط منه: ربِّ ردَّني إلى الدنيا، وصيغة الجمع للتعظيم {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } أي لكي أعمل صالحاً فيما ضيَّعت من عمري {كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} {كَلا} كلمةُ ردع وزجر أي لا رجوع إِلى الدنيا فليرتدع عن ذلك فإِن طلبه للرجعة كلام لا فائدة فيه ولا جدوى منه وهو ذاهبٌ أدراج الرياح {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي وأمامهم حاجزٌ يمنعهم عن الرجوع إِلى الدنيا - هو عالم البرزخ - الذي يحول بينهم وبين الرجعة يلبثون فيه إِلى يوم القيامة قال مجاهد: البرزخُ: الحاجز ما بين الدنيا والآخرة.



النفخ في الصور والحساب في الآخرة



{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ(101)فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(102)وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ(103)تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ(104)أَلَمْ تَكُنْ ءاياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(105)قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ(106)رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ(107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ(108)إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(109)فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ(110)إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ(111)}.



{فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} أي فلا قرابة ولا نسب ينفعهم يوم القيامة لزوال التراحم والتعاطف من شدة الهول والدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأُمه وأبيه وصاحبته وبنيه {وَلا يَتَسَاءَلُونَ} أي لا يسأل بعضهم بعضاً عن شأنه لاشتغال كل واحد بنفسه، ولا تنافي بينها وبين قوله {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} لأن يوم القيامة طويل وفيه مواقف ومواطن، ففي بعضها يتكلمون وفي بعضها لا ينطقون {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أ ي فمن رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} أي فهم السعداء الذين فازوا فنجوا من النار وأُدخلوا الجنة {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي زادت سيئاته على حسناته {فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} أي فهم الأشقياء الذين خسروا سعادتهم الأبدية بتضييع أنفسهم وتدنيسها بالكفر والمعاصي {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} أي هم مقيمون في جهنم لا يخرجون منها أبداً {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ} أي تحرقها بشدة حرِّها، وتخصيص الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} أي وهم في جهنم عابسون مشوَّهو المنظر قال ابن مسعود: قد بدتْ أسنانهم وتقلَّصت شفاههم كالرأس المُشيَّط بالنار، وفي الحديث (تشويه النارُ فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سُرَّته) {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي يقال لهم تعنيفاً وتوبيخاً: ألم تكن ءايات القرآن الساطع تقرأ عليكم في الدنيا؟ {فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي فكنتم لا تصدّقون بها مع وضوحها {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أي غلبت علينا شقاوتنا {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} أي وكنَّا ضالين عن الهدى بسبب اتباعنا للملذّات والأهواء {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} أي أخرجنا من النار ورُدَّنا إلى الدنيا {فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} أي فإِن رجعنا إلى الكفر والمعاصي بعد ذلك نكون قد تجاوزنا الحدَّ في الظلم والعدوان. أقروا أولاً بالإِجرام ثم تدرجوا من الإِقرار إلى الرغبة والتضرع فجاء الجواب بالتيئيس والزجر {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} أي ذلوا في النار وانزجروا كما تُزجر الكلاب ولا تكلموني في رفع العذاب قال ابن جزي : اخسئوا: كلمة تستعمل في زجر الكلاب ففيها إِهانةٌ وإِبعاد {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} قال مجاهد: هم بلال، وخباب، وصهيب وغيرهم من ضعفاء المسلمين كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} أي فسخرتم منهم واستهزأتم بهم {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي حتى نسيتم بتشاغلكم بهم واستهزائكم عليهم عن طاعتي وعبادتي {وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} أي وكنتم تضحكون عليهم في الدنيا {إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} أي جزيتهم بسبب صبرهم على أذاكم أحسن الجزاء {أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ} أي أنهم هم الفائزون بالنعيم المقيم.



قصر مدة البقاء في الدنيا، وخلق الخلائق ليس لعباً



{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ(112)قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ(113)قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(114)أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ(115)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ(116)وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(117)وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(118)}.



{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} أي قال تعالى للكفار على سبيل التبكيت والتوبيخ: كم مكثتم في الدنيا وعمرَّتم فيها من السنين؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } أي مكثنا يوماً أو أقل من يوم {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} أي الحاسبين المتمكنين من العدِّ قال ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب المدة التي لبثوها {قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} أي ما أقمتم حقاً في الدنيا إِلا قليلاً قال الرازي: كأنه قيل لهم: صدقتم ما لبثتم فيها إِلا قليلاً فقد انقضت ومضت، والغرضُ تعريفهم قلة أيام الدنيا في مقابلة أيام الآخرة { لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لو كان لكم علمٌ وفهم لعرفتم حقارة الدنيا ومتاعها الزائل {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} أي أظننتم - أيها الناس - أنما خلقناكم باطلاً وهملاً بلا ثواب ولا عقاب كما خلقت البهائم {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} أي وأنه لا رجوع لكم إِلينا للجزاء؟ لا ليس الأمر كما تظنون وإِنما خلقناكم للتكليف والعبادة ثم الرجوع إِلى دار الجزاء {فَتَعَالَى اللَّهُ} أي فتنزَّه وتقدَّس الله الكبير الجليل {الْمَلِكُ الْحَقُّ} أي صاحب السلطان، المتصرف في ملكه بالإِيجاد والإعدام، والإِحياء والإِفناء، تنزَّه عن العبث والنقائص وعن أن يخلق شيئاً سفهاً لأنه حكيم {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا ربَّ سواه ولا خالق غيره {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} أي خالق العرش العظيم، وصفه بالكريم لأن الرحمة والخير والبركة تنزل منه، ولنسبته إلى أكرم الأكرمين {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي ومن يجعل لله شريكاً ويعبد معه سواه {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} أي لا حجة له به ولا دليل {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي جزاؤه وعقابه عند الله {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} أي لا يفوز ولا ينجح من جحد وكذب بالله ورسله، افتتح السورة بقوله {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وختمها بقوله {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ليظهر التفاوت بين الفريقين فشتان ما بين البدء والختام. {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} أمر رسوله بالاستغفار والاسترحام تعليماً للأمة طريق الثناء والدعاء، اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، يا أرحم الراحمين، اللهم آمين










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-26, 17:56   رقم المشاركة : 54
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 سورة النور

سورة النور



حد الزنى وحكم الزناة

حد القذف

حد اللعان

قصة الإفك

الجزاء الأخروي للقاذف

آية غض البصر والحجاب

التزوج بالأحرار، مكاتبة الأرقاء، والإكراه على الزنى

نور الله يملأ السماوات والأرض

المؤمنون المهتدون بنور الله تعالى

أعمال الكفار في الدنيا لا تنفعهم في الآخرة

التفكر في مخلوقات الله يدل على وجوده

ادعاء المنافقين الإيمان

الطاعة والامتثال من دأب المؤمنين

وعد الله المؤمنين بالاستخلاف في الأرض

حالات الاستئذان داخل البيت، وتخفيف الثياب الظاهرة عن العجائز

إباحة الأكل في بيوت معينة دون إذن أهلها

الاستئذان عند الخروج، وأدب مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من مخالطة آمره



بَين يَدَي السُّورَة



* سورة النور من السور المدنية، التي تتناول الأحكام التشريعية، وتُعنى بأمور التشريع والتوجيه والأخلاق، وتهتم بالقضايا العامة والخاصة التي ينبغي أن يُربى عليها المسلمون أفراداً وجماعات، وقد اشتملت هذه السورة على أحكام هامة وتوجيهات عامة تتعلق بالأسرة، التي هي النواة الأولى لبناء المجتمع الأكبر.



*وضحَّت السورة الآداب الاجتماعية التي يجب أن يتمسك بها المؤمنون في حياتهم الخاصة والعامة، كالاستئذان عند دخول البيوت، وغض الأبصار، وحفظ الفروج، وحرمة اختلاط الرجال بالنساء الأجنبيات، وما ينبغي أن تكون عليه الأسرة المسلمة و"البيت المسلم" من العَفاف والستر، والنزاهة والطهر، والاستقامة على شريعة الله، صيانةً لحرمتها، وحفاظاً عليها من عوامل التفكك الداخلي، والانهيار الخلقي، الذي يهدم الأمم والشعوب.



* وقد ذكرت في هذه السورة الكريمة بعض الحدود الشرعية التي فرضها الله كحد الزنى، وحد القذف، وحد اللعان، وكل هذه الحدود إنما شرعت تطهيراً للمجتمع من الفساد والفوضى، واختلاط الأنساب، والانحلال الخلقي، وحفظاً للأمة من عوامل التردي في بؤرة الإِباحية والفساد، التي تُسبب ضياع الأنساب، وذهاب العرض والشرف.



*وباختصار فإن هذه السورة الكريمة عالجت ناحية من أخطر النواحي الاجتماعية هي "مسألة الأسرة" وما يحفها من مخاطر، وما يعترض طريقها من عقبات ومشاكل، تودي بها إلى الانهيار ثم الدمار، عما فيها من آداب سامية، وحكم عالية، وتوجيهات رشيدة، إلى أسس الحياة الفاضلة الكريمة، ولهذا كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة يقول لهم : علّموا نساءكم سورة النور.



التسمَية:

سُميت سورة النور لما فيها من إشعاعات النور الرباني، بتشريع الأحكام والآداب، والفضائل الإنسانية التي هي قبسٌ من نور الله على عباده، وفيضٌ من فيوضات رحمته وجوده {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} اللهم نور قلوبنا بنور كتابك المبين يا رب العالمين.



حد الزنى وحكم الزناة



{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءاياتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1)الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(2)الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(3)}



{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} أي هذه سورة عظيمة الشأن من جوامع سور القرآن أوحينا بها إليك يا محمد {وَفَرَضْنَاهَا} أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجاباً قطعياً {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي أنزلنا فيها ءاياتٍ تشريعية، واضحات الدلالة على أحكامها، لتكون لكم -أيها المؤمنون- قبساً ونبراساً، وتكريرُ لفظ الإِنزال لإِبراز كمال العناية بشأنها فكأنه يقول: ما أنزلتها عليكم لمجرد التلاوة وإنما أنزلتها للعمل والتطبيق {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لكي تعتبروا وتتعظوا بهذه الأحكام وتعملوا بموجبها، ثم شرع تعالى بذكر الأحكام وبدأ بحد الزنى فقال {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} أي فيما شرعت لكم وفرضت عليكم أن تجلدوا كل واحدٍ من الزانيين- غير المحصنين- مائة ضربة بالسوط عقوبة لهما على هذه الجريمة الشنيعة {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي لا تأخذكم بهما رقة ورحمة في حكم الله تعالى فتخففوا الضرب أو تنقصوا العدد بل أوجعوهما ضرباً قال مجاهد: لا تعطلوا حدود الله ولا تتركوا إقامتها شفقة ورحمة {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} هذا من باب الإلهاب والتهييج أي إن كنتم مؤمنون حقاً تصدقون بالله وباليوم الآخر، فلا تعطلوا الحدود ولا تأخذكم شفقة بالزناة، فإن جريمة الزنى أكبر من أن تستدر العطف أو تدفع إلى الرحمة { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} أي وليحضر عقوبة الزانيين جماعةً من المؤمنين، ليكون أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، فإنَّ الفضيحة قد تنكل أكثر مما ينكل التعذيب {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} أي الزاني لا يليق به أن يتزوج العفيفة الشريفة، إنما ينكح مثله أو أخسَّ منه كالبغيّ الفاجر، أو المشركة الوثنية {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} أي والزانية لا يليق أن يتزوج بها المؤمن العفيف، إنما يتزوجها من هو مثلها أو أخسَّ منها، كالزاني الخبيث أو المشرك الكافر، فإن النفوس الطاهرة تأبى الزواج بالفواجر الفاسقات، قال الإمام الفخر الرازي: "من أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية: أنَّ الفاسقَ الخبيث- الذي من شأنه الزنى والفِسق -لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في فاسقةٍ خبيثةٍ مثله أو مشركة، والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة والمشركين، وهذا على الأعم الأغلب كما يقال: لا يفعل الخير إلا الرجل التقي، وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقيٍّ فكذا هنا" {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي وحرم الزنى على المؤمنين لشناعته وقبحه، أو حرم نكاح الزواني على المؤمنين لما فيه من الأضرار الجسيمة.



حد القذف



{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(4)إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5)}.



ثم شرع تعالى في بيان حد القذف فقال {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أي يقذفون بالزنى العفيفات الشريفات {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي ثم لم يأتوا على دعواهم بأربعة شهود عدول يشهدون عليهن بما نسبوا إليهن من الفاحشة {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } أي اضربوا كل واحدٍ من الرامين ثمانين ضربةً بالسوط ونحوه، لأنهم كذبة يتهمون البريئات، ويخوضون في أعراض الناس {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أي وزيدوا لهم في العقوبة بإهدار كرامتهم الإِنسانية فلا تقبلوا شهادة أي واحدٍ منهم ما دام مصراً على كذبه وبهتانه {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} أي هم الخارجون عن طاعة الله عز وجل لإِتيانهم بالذنب الكبير، والجرم الشنيع قال ابن كثير: أوجب تعالى على القاذف إذا لم يُقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام: أحدها أن يجلد ثمانين جلدة والثاني: أن ترد شهادته أبداً الثالث: أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس.

{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي إلا الذين تابوا وأنابوا وندموا على ما فعلوا من بعد ما اقترفوا ذلك الذنب العظيم {وَأَصْلَحُوا} أي أصلحوا أعمالهم فلم يعودوا إلى قذف المحصنات قال ابن عباس: أي أظهروا التوبة { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فاعفوا عنهم واصفحوا وردُّوا إِليهم اعتبارهم بقبول شهادتهم، فإن الله غفور رحيم يقبل توبة عبده إذا تاب وأناب واصلح سيرته وحاله.

حد اللعان



{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ(6)وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(7)وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ(8)وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ(9)وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ(10)}.



ثم ذكر تعالى حكم من قذف زوجته وهو المعروف باللعان فقال {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} أي يقذفون زوجاتهم بالزنى {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ } أي وليس لهم شهود يشهدون بما رموهنَّ به من الزنى سوى شهادة أنفسهم {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حدَّ القذف أربع شهادات بالله تقوم مقام الشهداء الأربعة {إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ} أي إنه صادقٌ فيما رمى به زوجته من الزنى {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي وعليه أيضاً أن يحلف في المرة الخامسة بأن لعنة الله عليه {إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ} أي إن كان كاذباً في قذفه لها بالزنى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} أي ويدفع عن الزوجة المقذوفة حدَّ الزنى الذي ثبت بشهادة الزوج {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ} أي أن تحلف أربع مرات إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنى {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي وتحلف في المرة الخامسة بأنَّ غضب الله وسخطه عليها إن كان زوجها صادقاً في اتهامه بالزنى {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم بالستر في ذلك، وجوابُ {وَلَوْلا} محذوف لتهويل الأمر تقديره: لهلكتم أو لفضحكم أو عاجلكم بالعقوبة، ورب مسكوتٍ عنه أبلغ من المنطوق {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} أي وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة، حكيم في ما شرع من الأحكام ومن جملتها حكم اللعان قال أبو السعود: وجواب لولا محذوف لتهويله كأنه قيل: ولولا تفضله تعالى عليكم ورحمته بكم لكان ما كان ممّا لا يحيط به نطاق البيان، ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك لوجب على الزوج حدُّ القذف مع أن الظاهر صدقه لاشتراكه في الفضيحة، ولو جعل شهاداته موجبةً لحد الزنى عليها لفات النظر لها، ولو جعل شهاداتها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له، فسبحان ما أعظم شأنه، وأوسع رحمته، وأدقَّ حكمته.



قصة الإفك



{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11)لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ(12)لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ(13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(14)إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ(15)وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ(16)يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(17)وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(19)وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(20)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21) وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(22)}.



ثم بيَّن تعالى "قصة الإِفك" التي اتهمت فيها العفيفة البريئة الطاهرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالكذب والبهتان فقال {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} أي جاءوا بأسوء الكذب وأشنع صور البهتان وهو قذف عائشة بالفاحشة قال الإِمام الفخر الرازي: الإِفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وقد أجمع المسلمون على أن المراد ما أُفك به على عائشة وهي زوجة الرسول المعصوم {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أي جماعة منكم أيها المؤمنون وعلى رأسهم "ابن سلول" رأس النفاق {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} أي لا تظنوا هذا القذف والاتهام شراً لكم يا آل أبي بكر {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لما فيه من الشرف العظيم بنزول الوحي ببراءة أم المؤمنين، وهذا غاية الشرف والفضل قال المفسرون: والخير في ذلك من خمسة أوجه: تبرئة أم المؤمنين، وكرامة الله لها بإنزال الوحي في شأنها، والأجر الجزيل لها في الفِرية عليها، وموعظة المؤمنين، والانتقام من المفترين {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ} أي لكل فردٍ من العُصبة الكاذبة جزاء ما اجترح من الذنب على قدر خوضه فيه {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} أي والذي تولى معظمه وأشاع هذا البهتان وهو "ابن سلول" رأس النفاق {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي له في الآخرة عذاب شديد في نار جهنم {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أي هلاً حين سمعتم يا معشر المؤمنين هذا الافتراء وقذف الصديقة عائشة {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} أي هلاّ ظنوا الخير ولم يسرعوا إلى التهمة فيمن عرفوا فيها النزاهة والطهارة؟ فإن مقتضى الإِيمان ألاّ يصدق مؤمنٌ على أخيه قولة عائب ولا طاعن قال ابن كثير: هذا تأديبٌ من الله تعالى للمؤمنين في قصة عائشة حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السُّوء، وهلا قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم فإن كان لا يليق بهم فأمُ المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى، روي أن امرأة "أبي أيوب" قالت له: أما تسمع ما يقول الناسُ في عائشة! قال: نعم وذلك الكذب، أكنت فاعلةً ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله قال فعائشة والله خير منك. {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} أي قالوا في ذلك الحين هذا كذبٌ ظاهر مبين {لَوْلا جَاءوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي هلاّ جاء أولئك المفترون بأربعة شهود يشهدون على ما قالوا {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} أي فإن عجزوا ولم يأتوا على دعواهم بالشهود {فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي فأولئك هم المفسدون الكاذبون في حكم الله وشرعه، وفيه توبيحٌ وتعنيف للذين سمعوا الإِفك ولم ينكروه أول وهلة {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي لولا فضله تعالى عليكم - أيها الخائضون في شأن عائشة - ورحمته بكم في الدنيا والآخرة حيث أمهلكم ولم يعاجلكم بالعقوبة {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} أي لأصابكم ونالكم بسبب ما خضتم فيه من حديث الإِفك {عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي عذاب شديد هائل يُستحقر دونه الجلد والتعنيف قال القرطبي: هذا عتابٌ من الله بليغٌ لمن خاضوا في الإِفك، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا، ويرحم في الآخرة من أتاه تائباً {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } أي وذلك حين تتلقونه ويأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه قال مجاهد: أي يرويه بعضُكم عن بعض، يقول هذا سمعته من فلان، وقال فلانٌ كذا {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْم} أي تقولون ما ليس له حقيقة في الواقع، وإنما هو محض كذبٍ وبهتان {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} أي وتظنونه ذنباً صغيراً لا يلحقكم فيه إثم {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} أي والحال أنه عند الله من أعظم الموبقات والجرائم لأنه وقوع في أعراض المسلمين قال في التسهيل: عاتبهم تعالى على ثلاثة أشياء: الأول: تلقيه بالألسنة أي السؤال عنه والثاني: التكلم به والثالث: استصغاره حيث حسبوه هيناً وهو عند الله عظيم، وفائدة قوله بألسنتكم وبأفواهكم الإِشارة إلى أنَّ ذلك الحديث كان باللسان دون القلب لأنهم لم يعلموا حقيقته بقلوبهم {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} عتابٌ لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه أول سماعكم له وتقولوا لا ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أي سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسول الله الطاهرة البريئة فإن هذا الافتراء كذبٌ واضح، عظيم الجرم قال الزمخشري: هو بمعنى التعجب من عظيم الأمر والاستبعاد له، والأصل في ذلك أن يُسبَّح الله عند رؤية العجائب {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} أي يذكركم الله ويعظكم بالمواعظ الشافية لكي لا تعودوا إلى مثل هذا العمل أبداً {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم حقاً مؤمنين فإن الإِيمان وازع عن مثل هذا البهتان، وفيه حثٌ لهم على الاتعاظ وتهييج {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} أي ويوضح لكم الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب، لتتعظوا وتتأدبوا بها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالم بما يصلح العباد، حكيم في تدبيره وتشريعه { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ} أي يريدون أن ينتشر الفعل القبيح المفرط في القبح كإشاعة الرذيلة والزنى وغير ذلك من المنكرات {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} أي في المؤمنين الأطهار {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي لهم عذاب موجع مؤلم في الدنيا بإقامة الحدِّ، وفي الآخرة بعذاب جهنم قال الحسن: عنى بهذا الوعيد واللعن المنافقين فإنهم أحبوا وقصدوا إذاية الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك كفرٌ وملعون صاحبه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي هو تعالى عالمٌ بالخفايا والنوايا وأنتم لا تعلمون ذلك قال الإمام الفخر الرازي: وهذه الجملة فيها حسنُ الموقع بهذا الموضع، لأن محبة القلب كامنةٌ ونحن لا نعلمها إلاّ بالأمارات أما الله سبحانه فهولا يخفى عليه شيء، فصار هذا الذكر نهايةً في الزجر لأن من أحبَّ إشاعة الفاحشة وإن بالغَ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله تعالى يعلمذلك منه ويعلم قدر الجزاء عليه {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} جواب {وَلَوْلا} محذوف لتهويل الأمر أي لولا فضله تعالى على عباده ورحمته بهم لأهلكهم وعذَّبهم، وكان ما كان مما لا يكاد يتصوره الإِنسان لأنه فوق الوصف والبيان.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى حادثة الإِفك، أتبعها بالتحذير من سلوك طريق الشيطان المتربص بالإِنسان الذي يدعو إلى السوء والشر والفساد، ثم ذكر تعالى آداب الاستئذان والزيارة لأن أهل الإِفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة فصارت طريقاً للتهمة، فأوجب تعالى ألا يدخل إنسان بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام، ثم أتبعها بآيات غضِّ البصر.



سَبَبُ النّزول:

أ- كان أبو بكر الصدّيق ينفق على "مسطح بن أُثاثة" لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الإِفك وقال فيه مسطحٌ ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعةٍ أبداً فأنزل الله {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ..} الآية فقال أبو بكر: واللهِ إني لأحبُ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.

ب- عن علي كرم الله وجهه قال: مرَّ رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقٍ من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأةٍ ونظرت إِليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جانب حائط ينظر إليها إذ استقبله الحائط "أي صدمه الحائط" فشقَّ أنفه فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُعلمه أمري، فأتاه فقصَّ عليه قصته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا عقوبة ذنبك فأنزل الله {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ..} الآيات.



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي يا من صدَّقتم بالله ورسوله لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه بإِشاعة الفاحشة، والإصغاء إِلى الإِفك والقول به {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي ومن يتبع سيرة الشيطان وطريقته {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} أي فإِن الشيطان يضل الإِنسان ويغويه لأنه يأمر بالفحشاء وهي ما أفرط قبحه، والمنكر وهو ما ينكره الشرع وتنفر منه العقول السليمة {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي لولا فضل الله عليكم أيها المؤمنون بالتوفيق للتوبة الماحية للذنوب، وبشرع الحدود المكفرة للخطايا {مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} أي ما تطهر أحدٌ منكم من الأوزار أبد الدهر { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} أي ولكن الله بفضله ورحمته يطهر من يشاء بتوفيقه للتوبة النصوح وقبولها منه قال القرطبي: والغرض أن تزكيته لكم، وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} أي لا يحلف أهل الفضل في الدين وأصحاب الغنى واليسار {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي أن لا يؤتوا أقاربهم من الفقراء والمهاجرين ما كانوا يعطونهم إيَّاه من الإِحسان لذنب فعلوه {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} أي وليعفوا عمّا كان منهم من جرم، وليصفحوا عما بدر منهم من إساءة، وليعودوا إلى ما كانوا عليه من الإِنعام والإِحسان {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} أي ألا تحبون أيها المؤمنون أن يغفر الله لكم على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم؟ روي أن أبا بكر لما سمع الآية قال: بل أحب أن يغفر الله لي وأعاد النفقة إلى مسطح وكفَّر عن يمينه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً!! قال المفسرون: والآية دالة على فضل أبي بكر فإن الله تعالى امتدحه بقوله {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ} وكفى به دليلاً على فضل الصدّيق رضي الله عنه وأرضاه {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته على العقاب.





الجزاء الأخروي للقاذف



{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23)يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ(25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(26)}.



سبب النزول:

أخرج الطبراني عن الضحَّاك بن مزاحم قال: نزلت هذه الآية في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عائشة خاصة.

وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: رُميتُ بما رُميتُ به، وأنا غافلة، فبلغني بعد ذلك، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي إذ أُوحي إليه، ثم استوى جالساً، فمسح وجهه وقال: يا عائشة، أبشري، فقلت: بحمد الله، لا بحمدك، فقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} حتى بَلَغ {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ}.

وأخرج الطبراني عن الحكم بن عتيبة قال: لما خاض الناس في أمر عائشة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة، فقال: يا عائشة، ما يقول الناس، فقالت: لا أعتذر بشيء حتى ينزل عذري من السماء، فأنزل الله فيها خمس عشرة آية من سورة النور، ثم قرأ حتى بلغ {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} الآية، وهو مرسل صحيح الإِسناد.



ثم توعَّد تعالى الذين يرمون العفائف الطاهرات فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} أي يقذفون بالزنى العفيفات، السليمات الصدور، النقيات القلوب عن كل سوء وفاحشة {الْمُؤْمِنَاتِ} أي المتصفات بالإِيمان مع طهارة القلب {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي طردوا وابعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة قال ابن عباس: هذا اللعن فيمن قذف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إذْ ليس له توبة، ومن قذف مؤمنة جعل الله له توبة وقال أبو حمزة: نزلت في مشركي مكة، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا خرجت لتفجر {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولهم مع اللعنة عذاب هائل لا يكاد يوصف بسبب ما ارتكبوا من إثم وجريمة {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي وذلك العذاب الشديد في ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - حين تشهد على الإِنسان جوارحه فتنطق الألسنة والأيدي والأرجل بما اقترف من سيء الأعمال {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ} أي يوم القيامة ينالهم حسابهم وجزاؤهم العادل من أحكم الحاكمين {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} أي ويعلمون حينئذٍ أن الله هو العادل الذي لا يظلم أحداً، الظاهر عدله في تشريعه وحكمه ... ثم ذكر تعالى بالدليل القاطع، والبرهان الساطع براءة عائشة ونزاهتها، فهي زوجة رسول الله الطيب الطاهر وقد جرت سنة الله أن يسوق الجنس إلى جنسه، فلو لم تكن عائشة طيبة لما كانت زوجة لأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم ولهذا قال {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وكذلك الطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، وهذا كالدليل على براءة عائشة لأنها زوجة أشرف رسول وأكرم مخلوق على الله، وما كان الله ليجعلها زوجة لأحبِّ عباده لو لم تكن عفيفة طاهرة شريفة { أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} أي أولئك الفضلاء منزهون ممَّا تقوَّله أهل الإِفك في حقهم من الكذب والبهتان {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي لهم على ما نالهم من الأذى مغفرة لذنوبهم، ورزقٌ كريم في جنات النعيم قال ابن كثير: وفيه وعدٌ بأن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة.





الاستئذان لدخول البيوت



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(27)فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(28)لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(29)}.



سبب النزول:

نزول الآية (27):

أخرج الفريابي وابن جرير عن عدي بن ثابت قال: جاءت امرأة من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } الآية.



نزول الآية (29):

أخْرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت آية الاستئذان في البيوت، قال أبو بكر: يا رسول الله، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام، ولهم بيوت معلومة على الطريق، فكيف يستأذنون ويسلمون، وليس فيها سكان؟ فنزل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ }الآية.



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} لما حذَّر تعالى من قذف المحصنات وشدد العقاب فيه، وكان طريق هذا الاتهام مخالطة الرجال للنساء، ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات أرشد تعالى إلى الآداب الشرعية في دخول البيوت فأمر بالاستئذان قبل الدخول وبالتسليم بعده {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} أي لا تدخلوا بيوت الغير حتى تستأذنوا وتسلموا على أهل المنزل {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} أي ذلك الإستئذان والتسليم خير لكم من الدخول بغتة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لتتعظوا وتعملوا بموجب هذه الآداب الرشيدة قال القرطبي: المعنى إن الاستئذان والتسليم خير لكم من الهجوم بغير إذن ومن الدخول على الناس بغتة أو من تحية الجاهلية فقد كان الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته قال: حُيّيتم صباحاً، وحُييتم مساءً ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحافٍ، وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي؟ قال نعم، قال ليس لها خادمٌ غيري، أأستأذن عليها كلما دخلتُ؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا، قال: فاستأذن عليها {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} أي فإن لم تجدوا في البيوت أحداً يأذن لكم بالدخول إليها { فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ } أي فاصبروا ولا تدخلوها حتى يسمح لكم بالدخول، لأن للبيوت حرمة ولا يحل دخولها إلا بإذن أصحابها {وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} أي وإن لم يؤذن لكم وطلب منكم الرجوع فارجعوا ولا تلحُّوا {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أي الرجوع أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والانتظار على الأبواب {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي هو تعالى عالم بالخفايا والنوايا وبجميع أعمالكم فيجازيكم عليها قال القرطبي: وفيه توعدٌ لأهل التجسس على البيوت، ثم إنه تعالى لما ذكر حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور غير المسكونة فقال {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي ليس عليكم إثمٌ وحرج { أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } أي أن تدخلوا بغير استئذان بيوتاً لا تختص بسكنى أحد كالرباطات والفنادق والخانات قال مجاهد: هي الفنادق التي في طرق السابلة لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} أي فيها منفعة لكم أو حاجة من الحاجات كالاستظلال من الحر، وإيواء الأمتعة والرحال {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} أي يعلم ما تظهرون وما تُسرون في نفوسكم فيجازيكم عليه قال أبو السعود: وهذا وعيدٌ لمن يدخل مدخلاً لفسادٍ أو اطلاع على عورات.





آية غض البصر والحجاب

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31)}



سبب النزول:

أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: بلغنا عن جابر بن عبد الله، حدّث أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها، فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات، فيبدو ما في أرجلهن، تعني الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا! فأنزل الله في ذلك: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}. وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه أن رجلاً مرَّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذا استقبله الحائط فشق أنفه، فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أمري، فأتاه فقص عليه قصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا عقوبة ذنبك" وأنزل الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية.

وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت بُرَتَين من فضة، واتخذت جَزْعاً (سلسلة خرز) فمرت على قوم، فضربت برجلها، فوقع الخلخال على الْجَزْع، فصوَّت، فأنزل الله {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} الآية.



ثم أرشد تعالى إلى الآداب الرفيعة من غض البصر، وحفظ الفروج فقال {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} أي قل يا محمد لأتباعك المؤمنين يكفوا أبصارهم عن النظر إلى الأجنبيات من غير المحارم، فإن النظرة تزرع في القلب الشهوة، ورُبَّ شهوة أورثت حزناً طويلاً

كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر

{وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} أي يصونوا فروجهم عن الزنى وعن الإِبداء والكشف {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} أي ذلك الغضُّ والحفظ أطهرُ للقلوب، وأتقى للدين، وأحفظ من الوقوع في الفجور {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي هو تعالى رقيبٌ عليهم، مطلعٌ على أعمالهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم، فعليهم أن يتقوا الله في السر والعلن قال الإمام الفخر الرازي: فإن قيل فلم قدم غضَّ الأبصار على حفظ الفروج؟ قلنا: لأن النظر بريد الزنى، ورائد الفجور، والبلوى فيه أشدُّ وأكثر، ولا يكاد يُحترس منه {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} أي وقل أيضاً للمؤمنات يكففن أبصارهن عن النظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه، ويحفظن فروجهن عن الزنى وعن كشف العورات، قال المفسرون: أكد تعالى الأمر للمؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج، وزادهن في التكليف على الرجل بالنهي عن إبداء الزينة إلا للمحارم والأقرباء فقال {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي ولا يكشفن زينتهن للأجانب إلا ما ظهر منها بدون قصدٍ ولا نية سيئة قال ابن كثير: أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه، كما قال ابن مسعود: الزينة زينتان: فزينةٌ لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار، وزينةٌ يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب، وقيل: المراد به الوجه والكفان فإنهما ليسا بعورة قال البيضاوي: والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أي وليلقين الخمار وهو غطاء الرأس على صدورهن لئلا يبدو شيء من النحر والصدر، وفي لفظ الضرب مبالغة في الصيانة والتستر، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن لها قال المفسرون: كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة - تمر بين الرجال مكشوفة الصدر، بادية النحر، حاسرة الذراعين، وربما أظهرت مفاتن جسمها وذوائب شعرها لتغري الرجال، وكنَّ يسدلن الخُمُر من ورائهن فتبقى صدروهن مكشوفة عارية، فأمرت المؤمنات بأن يلقينها من قدامهن حتى يغطينها ويدفعن عنهن شر الأشرار {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} أي ولا يظهرن زينتهن الخفية التي حرم الله كشفها إلا لأزواجهن أو آبائهن أو آباء أزواجهن وهو أبو الزوج فإنهما من المحارم، فإن الأب يصون عرض ابنته، ووالد الزوج يحفظ على ابنه ما يسوءه، ثم عدد بقية المحارم فقال {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} فذكر تعالى الأبناء، وأبناء الأزواج، والإِخوة، وأبناء الأخوات وكلهم من المحارم الذين يحرم الزواج بهم لما جبل الله في الطباع من النفرة من مماسة القريبات ونكاحهن {أَوْ نِسَائِهِنَّ} أي المسلمات وخرج بذلك النساء الكافرات قال مجاهد: المراد نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس يحل للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة وقال ابن عباس: هن المسلمات ولا تبدي زينتها أمام يهودية أو نصرانية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أي من الإِماء المشركات قال ابن جرير: يعني من نساء المشركين فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة لأنها أمتها {أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ} أي الخدام غير أولي الميل والشهوة والحاجة إلى النساء كالبُلْهِ والحمقى والمغفلين الذين لا يدركون من أمور الجنس شيئاً قال مجاهد: هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء ولا يهمه إلا بطنه {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} أي الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا حدَّ الشهوة، ولا يعرفون أمور الجماع لصغرهم فلا حرج أن تظهر المرأة زينتها أمامهم {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} أي ولا يضربن بأرجلهن الأرض لئلا يسمع الرجال صوت الخلخال فيطمع الذي في قلبه مرض قال ابن عباس: كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجلها ليسمع صوت خلخالها، فنهى الله تعالى عن ذلك لأنه من عمل الشيطان {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى ربكم بامتثال الطاعات، والكفّ عن الشهوات، لتنالوا رضاه وتفوزوا بسعادة الدارين.










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-26, 17:57   رقم المشاركة : 55
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 تابع

التزوج بالأحرار، مكاتبة الأرقاء، والإكراه على الزنى



{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(32)وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ(33)وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءاياتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(34)}.



سبب النزول:

نزول الآية (33):

{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ}: أخرج ابن السكن أنها نزلت في غلام لحُوَيْطب بن عبد العُزّى يقال له: صبيح، سأله مولاه (عبده) أن يكاتبه، فأبى عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وكاتبه حويطب على مائة دينار، ووهب له منها عشرين ديناراً فأداها، وقتل يوم حُنَيْن في الحرب.



نزول آية: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ }:

أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه أنه كان لعبد الله بن أبي جاريتان: مُسَيْكة وأُميمة، فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } الآية.

وقال مقاتل: كانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن، وكان لعبد الله بن أبي رأس النفاق ست جوار: معاذة، ومُسَيْكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقُتَيْلة، يكرههن على البغاء، وضرب عليهن ضرائب، فجاءت إحداهن ذات يوم بدينار، وجاءت أخرى بدونه، فقال لهما: ارجعا فازنيا، فقالتا: والله لا نفعل، قد جاءنا الله بالإسلام وحرَّم الزنى، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكيتا إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.



{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} أي زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من الرجال والنساء من أحرار رجالكم ونسائكم قال الطبري: الأيامي جمع أَيِّم، يوصف به الذكر والأنثى يقال: رجل أَيِّم وامرأة أَيمِّة إذا لم يكن لها زوج {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } أي وأنكحوا كذلك أهل التقوى والصلاح من عبيدكم وجواريكم قال البيضاوي: وتخصيص الصالحين لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهمُّ، وفيه إشارة إلى مكانة التقى والصلاح في الإِنسان {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي إن يكن هؤلاء الذين تزوجونهم أهل فاقةٍ وفقر فلا يمنعكم فقرهم من إنكاحهم، ففي فضل الله ما يغنيهم {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الفضل، جواد كريم، يعطي الرزق من يشاء وهو عليم بمصالح العباد قال القرطبي: وهذا وعدٌ بالغنى للمتزوجين طلباً لرضى الله، واعتصاماً من معاصيه وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح وتلا هذه الآية وفي الحديث (ثلاثة حقٌّ على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله) {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي وليجتهد في العفة وقمع الشهوة الذين لا تتيسر لهم سبل الزواج لأسباب مادية {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي حتى يوسع الله عليهم ويسهل لهم أمر الزواج، فإن العبد إذا اتقى الله جعل له من أمره فرجاً ومخرجاً {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} أي والذين يريدون أن يتحرروا من رقِّ العبودية بمكاتبة أسيادهم من العبيد والأرقاء {فَكَاتِبُوهمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} أي فكاتبوهم على قدر من المال إن عرفتم منهم الأمانة والرشد ليصيروا أحراراً {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ }أي أعطوهم مما أعطاكم الله من الرزق ليكون لهم عوناً على فكاك أنفسهم {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} ولا تكرهوا أي لا تجبروا إماءكم على الزنى {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} أي إن أردن التعفف عن مقارفة الفاحشة، وليس هذا للقيد أو الشرط وإنما هو لبيان فظاعة الأمر وشناعته، فالأصل في المملوكة أن يُحصنها سيدها أمّا أن يأمرها بالزنى وتمتنع وتريد العفة فذلك منتهى الخسة والدناءة منه قال المفسرون: نزلت في "عبد الله بن سلول" المنافق كان له جاريتان إحداهما تسمى "مُسَيْكة" والثانية تسمى "أميمة" فكان يأمرهما بالزنى للكسب ويضربهما على ذلك فشكتا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لأجل أن تنالوا حطام هذه الحياة الزائل، وتحصلوا على المال بطريق الفاحشة والرذيلة {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي ومن يجبرهن على الزنى فإن الله غفور لهن رحيم بهن لا يؤاخذهن بالزنى لأنهن أُكرهن عليه وسينتقم ممن أكرههن شر انتقام {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} أي والله لقد أنزلنا إليكم أيها المؤمنون آيات واضحات وأحكاماً مفصلات {وَمَثَلا مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} وضربنا لكم الأمثال بمن سبقكم من الأمم لتتعظوا وتعتبروا {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي وعظة وذكرى للمتقين.



المنَاسَبَة:

لما وصف تعالى نفسه بأنه أنزل آياتٍ مبينات، وأقام دلائل واضحات على وحدانيته، واختصاصه بتشريع الأحكام التي بها سعادة المجتمع، عقَّبه بذكر مثلين: أحدهما في بيان أنَّ دلائل الوحدانية والإِيمان في غاية الظهور والثاني: في بيان أن أديان الكفرة في نهاية الظلمة والخفاء، وبالمقارنة بين المثلين يتضح الصبح لذي عينين.



نور الله تعالى يملأ السماوات والأرض



{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(35)}



{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي الله جلَّ وعلا منور السماوات والأرض، أنار السماواتِ بالكواكب المضيئة، والأرض بالشرائع والأحكام وبعثة الرسل الكرام قال الطبري: أي هادي أهل السماوات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون وقال القرطبي: النور عند العرب: الضوء المدرك بالبصر واستعمل مجازاً في المعاني فيقال كلامٌ له نور قال الشاعر:

نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا

وقال جرير "وأنتَ لنا نورٌ وغيثٌ وعصمة" يقولون: فلانٌ نور البلد، وشمسُ العصر وقمره، فيجوز أن يقال: نور على جهة المدح لأن جميع الأشياء منه ابتداؤها، وعنه صدورها، وبقدرته استقامت أمورها، وقال ابن عطاء الله: "الكون كله ظلمة أناره ظهور الحق فيه، إذ لولا وجود الله ما وجد شيء من العالم" وفي الحديث (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن" وقال ابن مسعود: "ليس عند ربكم ليلٌ أو نهار، نور السماوات والأرض نور وجهه" وقال ابن القيم: سمَّى الله سبحانه نفسه نوراً، وجعل كتابه نوراً، ورسوله نوراً، واحتجب عن خلقه بالنور، وقد فسرت الآية بأنه منور السماوات والأرض، وهادي أهل السماوات والأرض، وأما من فسرها بأنه منور السماوات والأرض فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود {مَثَلُ نُورِهِ} أي مثل نور الله سبحانه في قلب عبده المؤمن {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } أي ككوة في الحائط لا منفذ لها ليكون أجمع للضوء وضع فيها سراج ثاقب ساطع قال ابن جزي: المعنى صفةُ نور الله في وضوحه كصفة مشكاةٍ فيها مصباح على أعظم ما يتصوره البشر من الإِضاءة والإِنارة، وإنما شبه بالمشكاة - وإن كان نورُ الله أعظم - لأن ذلك هو ما يدركه الناس من الأنوار ضرب لهم به المثل{الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} أي في قنديل من الزجاج الصافي {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي تشبه الكواكب الدري في صفائها وحسنها {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} أي يشعل ذلك المصباح من زيت شجرة مباركة {زَيْتُونِةٍ} أي هي من شجرة الزيتون الذي خصه الله بمنافع عديدة {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي ليس في جهة الشرق ولا في جهة الغرب، وإنما هي في صحراء منكشفة تصيبها الشمس طول النهار لتكون ثمرتها أنضج، وزيتُها أصفى قال ابن عباس: هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر، ولا جبلٌ، ولا كهف، ولا يواريها شيء وهو أجود لزيتها {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} مبالغة في وصف صفاء الزيت وحسنه وجودته أي يكاد زيتُ هذه الزيتونة يضيء من صفاته وحسن ضيائه ولو لم تمسَّه نار، فكيف إذا مسته النار؟ {نُورٌ عَلَى نُورٍ} أي نور فوق نور فقد اجتمع نور السراج، وحسن الزجاجة، وصفاء الزيت، فاكتمل النور الممثل به {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي يوفق الله لاتباع نوره - وهو القرآن - من يشاء من عباده {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} أيّ يبين لهم الأمثال لأفهامهم ليعتبروا ويتعظوا بما فيها من الأسرار والحكم {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو سبحانه واسع العلم لا يخفى عليه شيء من أمر الخلق، وفيه وعدٌ ووعيد قال الطبري: ذلك مثلٌ ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإِيمان به فقال: مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد مثل كوة في الحائط لا منفذ لها فيها مصباح أي سراج، وجعل السراج مثلاً لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات البينات ثم قال {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} وذلك مثلٌ للقرآن في قلب المؤمن الذي أنار الله صدره فخلص من الكفر والشك، ثم قال {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي كأن الزجاجة في صفائها وضيائها كوكب يشبه الدر في الصفاء والضياء والحسن {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي تَوقَدَّ هذا المصباح من دهن شجرة مباركة هي شجرة الزيتون، ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالعشي دون الغداة، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب فيكون زيتها أجود وأصفى وأضوأ {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أي يكاد زيت هذه الزيتونة يضيء من صفائه وحسن ضيائه وعنى بها أن حجج الله على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر لو لم يزدها الله بياناً ووضوحاً بنزول هذا القرآن، فكيف وقد نبههم به وذكرهم بآياته فزادهم به حجة! وذلك بيانٌ من الله ونور على البيان.



المؤمنون المهتدون بنور الله تعالى



{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ(36)رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ(37)لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(38)}.



ثم لما ذكر تعالى هدايته لمن يشاء من عباده، ذكر مواطن هذه العبادة وهي المساجد أحبُّ البقاع إلى الله فقال {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} أي أمر تعالى أن تبنى وتشاد على اسمه خاصة، وان تعظَّم ويرفع شأنها لتكون مناراتٍ للهدى ومراكز للإِشعاع الروحي قال ابن عباس: المساجد بيوتُ الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أي يعبد فيها الله بتوحيده، وذكره، وتلاوة آياته {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} أي يصلي لله تعالى في هذه المساجد في الصباح والمساء المؤمنون قال ابن عباس: كلُ تسبيح في القرآن فهو صلاة {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي لا تشغلهم الدنيا وزخرفتها وزينتها عن ذكر ربهم، ولا يلهيهم البيع والشراء عن طاعة الله قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق من الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا إذا سمعوا النداء تركوا كل شغل وبادروا لطاعة الله {وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} أي ولا تشغلهم الدنيا عن إقامة الصلاة في أوقاتها، ودفع الزكاة للفقراء والمستحقين بحدودها وشروطها {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} أي يخافون يوماً رهيباً تضطرب من شدة هوله وفزعه قلوب الناس وأبصارهم {لِيَجْزِيَهُمْ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} أي ليكافئهم على أعمالهم في الدنيا بأحسن الجزاء، ويجزيهم على الإِحسان إحساناً، وعلى الإِساءة عفواً وغفراناً {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي يتفضل عليهم فوق ذلك الجزاء بما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي يعطي من شاء من خلقه عطاءً واسعاً بدون حدٍّ ولا عدٍّ يقال فلان ينفق بغير حساب أي يوسع كأنه لا يحسب ما ينفقه قال الإِمام الفخر الرازي: نبه به على كمال قدرته، وكمال جوده، وسعة إحسانه، فإنه سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم، ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم.





أعمال الكفار في الدنيا لا تنفعهم في الآخرة



{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(39)أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ(40)}.



سبب النزول:

نزول الآية (39):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا}: روي أنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، قد كان تعبَّد في الجاهلية، ولبس المسوح، والتمس الدِّين، فلما جاء الإسلام كفر. وقيل: في شيبة بن ربيعة. وكلاهما مات كافراً.



ولما ذكر تعالى حال المؤمن وسعادته، ذكر حال الكافر وخسارته، وضرب لذلك مثلين: الأول لعمله والثاني لاعتقاده وتخبطه في الظلمات فقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} أي إن أعمال الكفار التي عملوها في الدنيا وظنوها أعمالاً صالحة نافعة لهم في الآخرة كالسراب الذي يرى في القيعان وهو ما يرى في الفَلوات من ضوء الشمس في الهجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجري على وجه الأرض {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} أي يظنه العطشان من بعيد ماءً جارياً {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ} أي حتى إذا وصل إليه {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} أي لم ير ماءً ولا شراباً، وإنما رأى سراباً فعظمت حسرته {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} أي وجدَ الله له بالمرصاد فوفّاه جزاء عمله، فكذلك الكافر يحسب أن عمله ينفعه حتى إذا مات وقدم على ربه لم يجد شيئاً من الأعمال لأنها ذهبت هباءً منثوراً {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي يعجل الحساب لأنه لا يشغله محاسبة واحد عن آخر {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} هذا المثل الثاني لضلال الكفار والمعنى أو مثلهم كظلماتٍ متكاثفة في بحرٍ عميقٍ لا يدرك قعره {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي يغطي ذلك البحر ويعلوه موجٌ متلاطمٌ بعضه فوق بعض {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} أي من فوق ذلك الموج الثاني سحاب كثيف {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} أي هم ظلمات متكاثفة متراكمة بعضها فوق بعض قال قتادة: الكافر يتقلب في خمسٍ من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} هذا من تتمة التمثيل أي إذا أخرج ذلك الإِنسان الواقع في هذه الظلمات يده لم يقارب رؤيتها فإن ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب قد تكاثفت حتى حجبت عنه رؤية أقرب شيء إليه من شدة الظلمة فكذلك شأن الكافر يتخبط في ظلمات الكفر والضلال {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} أي ومن لم يهده الله للإيمان وينور قلبه بنور الإِسلام لم يهتد أبد الدهر، ذكر تعالى لعمل الكافر مثالين: الأول لعمله الصالح ومثَّل له بالسراب الخادع، والثاني لاعتقاده السيء ومثَّل له بالظلمات المتراكم بعضُها فوق بعض ثم ختم الآية الكريمة ذلك الختام الرائع {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} مقابل قوله في المؤمن {نُورٌ عَلَى نُورٍ} فكان هذا التمثيل والبيان في غاية الحسن والجمال، فلله ما أروع تعبير القرآن!!



التفكر في مخلوقات الله يدل على وجوده



{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(41)وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(42)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ(43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ(44)وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(45)لَقَدْ أَنزَلْنَا ءاياتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(46)}.



ولما وصف سبحانه أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ألم تعلم يا محمد علماً يقيناً أنَّ الله العظيم الكبير يسبح له كل من في الكون من ملك، وإنس، وجن، ينزهه ويقدسه ساكنوه؟ {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} أي والطير باسطاتٍ أجنحتهن حال الطيران تسبح ربها وتعبده كذلك بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه تعالى {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي كلٌّ من الملائكة والإِنس والجن والطير قد أرشد وهدي إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله، وما كلف به من الصلاة والتسبيح {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي لا تخفى عليه طاعتهم ولا تسبيحهم {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو المالك والمتصرف في الكون، وجميعُ المخلوقات تحت ملكه يتصرف فيهم تصرف القاهر الغالب {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي وإليه مرجع الخلائق فيجازيهم على أعمالهم وهو تذكير يتضمن الوعيد، ثم أشار تعالى إلى ظاهرة كونية تدل على قدرته ووحدانيته فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} أي يسوق بقدرته السحاب إلى حيث يشاء {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي يجمعه بعد تفرقه {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} أي يجعله كثيفاً متراكماً بعضه فوق بعض {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} أي فترى المطر يخرج من بينالسحاب الكثيف {وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} أي وينزل من السحاب الذي هو كأمثال الجبال برداً {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي فيصيب بذلك البرد من شاء من العباد فيضره في زرعه وثمرته وماشيته {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} أي ويدفعه عمن يشاء فلا يضره قال الصاوي: كما ينزل المطر من السماء وهو نفعٌ للعباد كذلك ينزل منها البرد وهو ضرر للعباد، فسبحان من جعل السماء منشأً للخير والشر {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي يقرب ضوء برق السحاب {يَذْهَبُ بالأَبْصَارِ} أي يخطف أبصار الناظرين من شدة إضاءته وقوة لمعانه { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي يتصرف فيهما بالطول والقصر، والظلمة والنور، والحر والبرد { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} أي إن فيما تقدم ذكره لدلالة واضحة، وعظة بليغة على وجود الصانع المبدع {لأُوْلِي الأَبْصَارِ} أي لذوي البصائر المستنيرة، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون حيث يتأملون فيجدون الماء والبرد، والظلمة والنور تخرج من شيء واحد، فسبحان القادر على كل شيء {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} استدل على وحدانيته بتسبيح أهل السماء والأرض، ثم بتصريف السحاب وإنزال المطر، ثم بأحوال الحيوانات قال ابن كثير: يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} أي فمنهم من يزحف على بطنه كالحية والزواحف {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} كالإِنسان والطير {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كالأنعام وسائر الدواب قال أبو حيان: قدم ما هو أظهر في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة من رجل وقوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} أي يخلق تعالى بقدرته ما يشاء من المخلوقات { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي هو قادر على ما يشاء لا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع قال الفخر الرازي: واعلم أنَّ العقول قاصرة عن الإِحاطة بأحوال أصغر الحيوانات على الكمال، والاستدلال بها على الصانع ظاهرٌ، لأنه لو كان الأمر بتركيب الطبائع الأربع لكان في الكل على السويّة، فاختصاص كل واحدٍ من هذه الحيوانات بأعضائها وأعمارها ومقادير أبدانها لا بدَّ وأن يكون بتدبير قاهرٍ حكيم، سبحانه وتعالى عما يقول الجاحدون {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} أي لقد أنزلنا إليكم أيها الناس آياتٍ واضحاتٍ، دالات على طريق الحق والرشاد {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي يرشد من خلقه إلى الدين الحق وهو الإِسلام.





ادعاء المنافقين الإيمان



{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(47)وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48)وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(50)}.



سبب النزول:

قال المفسرون: هذه الآيات نزلت في بِشْر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض، فجعل اليهودي يجرّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجرّه إلى كعب بن الأشرف، ويقول: إن محمداً يحيف علينا. وقد سبق بيان قصتهما في سورة النساء.

وأخرج ابن أبي حاتم من مرسل الحسن البصري قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محق أذعن، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق، وإذا أراد أن يَظْلم، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض، فقال: انطلق إلى فلان، فأنزل الله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } الآية.

وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في بِشْر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي، لأنه صاحب الحق، فلم يرض المنافق بقضائه صلى الله عليه وسلم. وقال: نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي: قضى لي النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: بلى، فقال: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته، وخرج بسيفه، فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.



ولما ذكر دلائل التوحيد حذَّر من النفاق والمنافقين فقال {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} أي يقول المنافقون صدقنا بالله وبالرسول وأطعنا الله ورسوله {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} أي ثم يعرض جماعة منهم عن قبول حكمه {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعدما صدر منهم ما صدر من دعوى الإِيمان {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي وليس أولئك الذي يدعون الإِيمان والطاعة بمؤمنين على الحقيقة قال الحسن: نزلت هذه الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإِيمان ويسرون الكفر {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي وإذا دعوا إلى حكم الله أو حكم رسوله { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} أي استنكفوا وأعرضوا عن الحضور إلى مجلس الرسول {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي وإن كان الحقُّ بجانبهم جاؤوا إلى رسول الله طائعين منقادين لعلمهم أنه عليه السلام يحكم بالحقِّ قال الفخر الرازي: نبّه تعالى على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا أن الحقَّ لغيرهم، أما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإِعراض وأذعنوا ببذل الرضا {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا} أي هل في قلوبهم نفاقٌ؟ أم شكوا في نبوته عليه السلام؟ {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} أي أم يخافون أن يظلمهم رسول الله في الحكم، والاستفهام للمبالغة في التوبيخ والذم كقول الشاعر:

ألستَ من القوم الذين تعاهدوا على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر

{بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} أي بل هم الكاملون في الظلم والعناد لإِعراضهم عن حكم رسول الله.



الطاعة والامتثال من دأب المؤمنين



{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(51)وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(52)وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(53)قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(54)}.



{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي كان الواجب عليهم عندما يُدعون إلى رسول الله للفصل بينهم وبين خصومهم أن يسرعوا ويقولوا سمعاً وطاعة، فلو كان هؤلاء مؤمنين لفعلوا ذلك قال الطبري: ولم يقصد به الخبر ولكنه تأنيبٌ من الله للمنافقين وتأديب منه لآخرين {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} أي وأولئك المسارعون إلى مرضاة الله هم الفائزون بسعادة الدارين {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي ومن يطع أمر الله وأمر رسوله في كل فعلٍ وعمل {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} أي ويخاف الله تعالى لما فرط منه من الذنوب، ويمتثل أوامره ويجتنب زواجره {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} أي هم السعداء الناجون من عذاب الله الفائزون برضوانه .. ذكر أن بعض بطارقة الروم سمع هذه الآية فأسلم وقال: إنها جمعت كل ما في التوراة والإِنجيل.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى المنافقين وما هم عليه من صفاتٍ قبيحة، أعقبه بذكر ما انطوت عليه نفوسهم من المكر والاحتيال والحلف الكاذب بأغلظ الأيمان، وختم السورة الكريمة بالتحذير من سلوك طريق المنافقين.



سبب النزول:

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاماً من الأنصار يقال له: مُدْلج إلى عمر ابن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فوجده نائما، فدقَّ عليه الغلام الباب ودخل، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء فقال: وددت أنَّ الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الآية قد أنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.. } فخرَّ ساجداً شكراً لله تعالى.



{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي حلف المنافقون بغاية الأيمان المغلَّظة {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} أي لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن معك قال مقاتل: لما بيَّن الله إعراض المنافقين وامتناعهم عن قبول حكمه عليه السلام أتوه فقالوا: لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد لجاهدنا فنزلت {قُلْ لا تُقْسِمُوا} أي لا تحلفوا فإن أيمانكم كاذبة {طَاعَةٌ مَعْرُوفةٌ} أي طاعتُكم لله ورسوله معروفة فإنها باللسان دون القلب، وبالقول دون العمل {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي بصير لا يخفى عليه شيء من خفاياكم ونواياكم {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أي أطيعوا الله بإخلاص النية وترك النفاق، وأطيعوا الرسول بالاستجابة لأمره والتمسّك بهديه {فَإِنْ تَوَلَّوا} أي فإن تتولَّوْا وتعرضوا عن طاعته {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} أي على الرسول ما كلف به من تبليغ الرسالة {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} أي وعليكم ما كلفتم به من السمع والطاعة واتباع أمره عليه السلام {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} أي وإن أطعتم أمره فقد اهتديتم إلى طريق السعادة والفلاح {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي ليس عليه إلا التبليغ الواضح للأمة، ولا ضرر عليه إن خالفتم وعصيتم فإنه قد بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة.



وعد الله المؤمنين بالاستخلاف في الأرض



{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(55)وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(56)لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ(57)}.



{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي وعد الله المؤمنين المخلصين الذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي وعدهم بميراث الأرض وأن يجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم، كما استخلف المؤمنين قبلهم فملكهم ديار الكفار قال المفسرون: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة رمتهم العرب عن قوسٍ واحدة، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلاّ في لأَمتهم - أي سلاحهم - فقالوا أترون أنّا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله عز وجل!! فنزلت الآية، وهذا وعدٌ ظهر صدقُه بفتح مشارق الأرض ومغاربها لهذه الأمة وفي الحديث بشارة كذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها) {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} أي وليجعلنَّ دينهم - الإِسلام - الذي ارتضاه لهم عزيزاً مكيناً عالياً على كل الأديان {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} أي وليغيرن حالهم التي كانوا عليها من الخوف والفزع إلى الأمن والاستقرار كقوله {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} استئنافٌ بطريق الثناء عليهم كالتعليل للاستخلاف في الأرض أي يوحدونني ويخلصون لي العبادة، لا يعبدون إلهاً غيري {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} أي فمن جحد شكر هذه النعم {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} هم الخارجون عن طاعة الله، العاصون أمر الله قال أبو العالية: أي من كفر بهذه النعمة وليس يعني الكفرَ بالله قال الطبري: وهو أشبه بتأويل الآية لأن اللهَ وعد الإِنعام على هذه الأمة بما أخبر في هذه الآية بأنه منعم به عليهم ثم قال {وَمَنْ كَفَرَ} أي كفر هذه النعمة {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} أي أقيموا أيها المؤمنون الصلاة وأدوا الزكاة على الوجه الأكمل الذي يُرضي الله {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي أطيعوا الرسول في سائر ما أمركم به رجاء الرحمة {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم ووعدٌ له بالنُّصرة أي لا تظننَّ يا محمد الكافرين الذين عاندوك وكذبوك معجزين لله في هذه الحياة بل الله قادرٌ عليهم في كل حين {وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ} أي مرجعهم نار جهنم {وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئس المرجع والمال الذي يصيرون إليه.





حالات الاستئذان داخل البيت، وتخفيف الثياب الظاهرة عن العجائز



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(58)وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءاياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(59)وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(60) }.



سبب النزول:

قال ابن عباس: وجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً من الأنصار يقال له: مُدْلج ابن عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فقال: يا رسول الله وَدِدْت لو أن الله تعالى أمرنا ونهانا في حال الاستئذان، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.. }.



وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت أبي مَرْثَد كان لها غلام كبير، فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية.

وفي رواية: ثم انطلق - أي عمر - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد هذه الآية قد أنزلت، فخرَّ ساجداً، شكراً لله. وهذه إحدى موافقات رأي عمر للوحي.

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي أنه قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبهم أن يباشروا نساءهم في هذه الساعات، فيغتسلوا، ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية.

فإذا صح أن سبب النزول قصة أسماء المتقدمة، كان قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاباً للرجال والنساء بطريق التغليب، لأن دخول سبب النزول في الحكم قطعي، كما هو الراجح في الأصول.



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي يا أيها المؤمنون الذين صدَّقوا الله ورسوله وأيقنوا بشريعة الإِسلام نظاماً وحكماً ليستأذنكم في الدخول عليكم العبيدُ والإِماء الذين تملكونهم ملك اليمين {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} أي والأطفال الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال الأحرار ليستأذنوا أيضاً {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} أي في ثلاثة أوقات {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} أي في الليل وقت نومكم وخلودكم إلى الراحة {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ} أي وقت الظهر حين تخلعون ثيابكم للقيلولة {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} أي ووقت إرادتكم النوم واستعدادكم له {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} أي هي ثلاثة أوقات يختل فيها تستركم، العوراتُ فيها بادية والتكشف فيها غالب، فعلِّموا عبيدكم وخدمكم وصبيانكم ألاّ يدخلوا عليكم في هذه الأوقات إلا بعد الاستئذان {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَليْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي ليس عليكم ولا على المماليك والصبيان حرجٌ في الدخول عليكم بغير استئذان بعد هذه الأوقات الثلاثة {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي لأنهم خدمكم يطوفون عليكم للخدمة وغير ذلك قال أبو حيان: أي يمضون ويجيثون ويدخلون عليكم في المنازل غدوةً وعشية بغير إذن إلا في تلك الأوقات {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ} أي مثل ذلك التوضيح والبيان يبيّن الله لكم الأحكام الشرعية لتتأدبوا بها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالمٌ بأمور خلقه، حكيمٌ في تدبيره لهم {وَإِذَا بَلَغَ الأَطفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} أي وإذا بلغ هؤلاء الأطفال الصغار مبلغ الرجال وأصبحوا في سنّ التكليف {فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي فعلموهم الأدب السامي أن يستأذنوا في كل الأوقات كما يستأذن الرجال البالغون {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أي يفصّل لكم أمور الشريعة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بخلقه حكيم في تشريعه قال البيضاوي: كرره تأكيداً ومبالغة في الأمر بالاستئذان {وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ} أي والنساء العجائز اللواتي قعدن عن التصرف وطلب الزواج لكبر سنهن {اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} أي لا يطمعن في الزواج ولا يرغبن فيه لانعدام دوافع الشهوة فيهن {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} أي لا حرج ولا إثم عليهنَّ في أن تخفّف في ملابسها {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي غير متظاهرات بالزينة لينظر إليهن قال أبو حيان: وحقيقة التبرج إظهار ما يجب إخفاؤُه، وربَّ عجوزٍ شمطاء يبدو منها الحرصُ على أن يظهر بها جمال {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} أي وأن يستترن بارتداء الجلباب ولبس الثياب كما تلبسه الشابات من النساء، مبالغةً في التستر والتعفف خيرٌ لهنَّ وأكرم، وأزكى عند الله وأطهر {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي يعلم خفايا النفوس ويجازي كل إنسان بعمله، وفيه وعدٌ وتحذير.



إباحة الأكل في بيوت معينة دون إذن أهلها



{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(61) }.



{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} أي ليس على أهل الأعذار "الأعمى، والأعرج، والمريض" حرج ولا إثم في القعود عن الغزو لضعفهم وعجزهم {وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } أي وليس عليكم أيها الناس إثم أن تأكلوا من بيوت أزواجكم وعيالكم قال البيضاوي: فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته لقوله عليه السلام: إن أطيبَ ما يأكل المرءُ من كسبه، وإنَّ ولده من كسبه {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ} أي لا حرج في الأكل من بيوت هؤلاء الأقارب قال الرازي: والظاهر أن إباحة الأكل لا تتوقف على الاستئذان لأن العادة أن هؤلاء القوم تطيب أنفسهم بأكل الأقارب {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} أي البيوت التي توكّلون عليها وتملكون مفاتيحها في غياب أهلها قالت عائشة: كان المسلمون يذهبون مع رسول الله في الغزو ويدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم ويقولون: قد أحللنا لكم الأكل منها فكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا أن نأكل، إنهم أذنوا لنا من غير طيب أنفسهم وإنما نحن أمناء فأنزل الله {أَوْ مَا مَلكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} {أَوْ صَدِيقِكُمْ} أي أو بيوت أصدقائكم وأصحابكم قال قتادة: إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} أي ليس عليكم إثم أو حرج أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين قال المفسرون: نزلت في حيٍ من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده، يمكث يومه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً: وربما كانت معه الإِبل الحُفَّل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فأخبرهم تعالى بأن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّموا عَلَى أَنفُسِكُمْ} أي إذا دخلتم بيوتاً مسكونة فسلموا على من فيها من الناس {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} أي حيُّوهم بتحية الإِسلام "السلام عليكم" وهي التحية المباركة الطيبة التي شرعها الله لعباده المؤمنين قال القرطبي: وصفها بالبركة لأن فيها الدعاء واستجلاب المودة، ووصفها بالطيب لأن سامعها يستطيبها {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قال ابن كثير: لما ذكر تعالى في هذه السورة الكريمة من الأحكام المحكمة، والشرائع المُبْرمة، نبَّه عباده على أنه يبين لهم الآيات بياناً شافياً ليتدبروها لعلهم يعقلون.





الاستئذان عند الخروج، وأدب مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من مخالطة آمره



{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(62) لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(63)أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(64)}.



سبب النزول:

أخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن عروة ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما قالوا: لما أقبلت قريش عام الأحزاب، نزلوا بمجمع الأسيال من رومة - بئر بالمدينة - قائدها أبو سفيان، وأقبلت غَطَفان، حتى نزلوا بنعمى إلى جانب أُحُد، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه، وعمل المسلمون فيه، وأبطأ رجال من المنافقين، وجعلوا يأتون بالضعيف من العمل، فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بدّ منها، يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستأذنه في اللحوق لحاجته، فيأذن له، وإذا قضى حاجته رجع، فأنزل الله في أولئك المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} إلى قوله: {والله بكل شيء عليم}.



وقال الكلبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرّض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم، فينظر المنافقون يميناً وشمالاً، فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفاً، فنزلت هذه الآية، فكان بعد نزول هذه الآية لا يخرج المؤمن لحاجته ، حتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المنافقون يخرجون بغير إذن.



نزول الآية (63):

{لا تَجْعَلُوا} الآية: أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فأنزل الله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} فقالوا: يا نبي الله، يا رسول الله.



{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إنما المؤمنون الكاملون في الإِيمان الذين صدقوا الله ورسوله تصديقاً جازماً لا يخالجه شك {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} أي وإذا كانوا مع الرسول في أمرٍ هام فيه مصلحة للمسلمين {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} أي لم يتركوا مجلسه حتى يستأذنوه فيأذن لهم قال المفسرون: نزلت هذه الآية في وقت حفر الخندق، فإن بعض المؤمنين كانوا يستأذنون في الانصراف لضرورة، وكان المنافقون يذهبون بغير استئذان فنزلت تمدح المؤمنين الخالصين، وتُعرِّض بذم المنافقين {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} هذا توكيدٌ لما تقدم ذكره تفخيماً وتعظيماً لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم أي إن الذين يستأذنونك يا محمد أولئك هم المؤمنون حقاً قال البيضاوي: أعاده مؤكداً على أسلوب أبلغ فإِن جعل المستأذنين هم المؤمنين عكس الأسلوب الأول وفيه تأكيد للأول بذكر لفظ الله ورسوله فيكون مصدقاً ودليلاً على صحة الإِيمان {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أي فإِذا استأذنك هؤلاء المؤمنون لبعض شئونهم ومهامهم {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} أي فاسمح لمن أحببت بالانصراف إن كان فيه حكمة ومصلحة {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ} أي وادع الله لهم بالعفو والمغفرة فإِن الاستئذان ولو لعذرٍ قصورٌ لأنه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم العفو واسع الرحمة {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} أي لا تنادوا الرسول باسمه كما ينادي بعضكم بعضاً باسمه بل قولوا : يا نبيَّ الله ويا رسول الله تفخيماً لمقامه وتعظيماً لشأنه قال أبو حيان: لمّا كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة أُمروا بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائه بأحسن ما يدعى به نحو يا رسول الله، يا نبيَّ الله، ألا ترى إِلى بعض جفاةِ من أسلم كان يقول يا محمد فنهوا عن ذلك قال قتادة: أمرهم تعالى أن يفخموه ويشرّفوه {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} أي قد علم الله الذين ينسلُّون قليلاً قليلاً ويخرجون من الجماعة في خفية يستتر بعضهم ببعض قال الطبري: واللواذ هو أن يلوذ القوم بعضُهم ببعض، يستتر هذا بهذا وهذا بهذا {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي فليخف الذين يخالفون أمر الرسول ويتركون سبيله ومنهجه وسنته {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي تنزل بهم محنة عظيمة في الدنيا أو ينالهم عذاب شديد في الآخرة {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي له جل وعلا ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أي قد علم ما في نفوسكم من الإِيمان أو النفاق، والإِخلاص أو الرياء {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} أي ويوم القيامة يرجعون إِليه فيخبرهم بما فعلوا في الدنيا من صغيرٍ وكبيرٍ، وجليل وحقير ويجازي كلا بعمله {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي لا تخفى عليه خافية لأن الكل خلقه وملكه.










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-26, 17:58   رقم المشاركة : 56
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 سورة الفرقان

سورة الفرقان



تنزيل القرآن وإثبات وحدانية الله:

مزاعم المشركين في القرآن:

تساءل المشركين وطعنهم في الرسول صلى الله عليه وسلم :

تكذيب المشركين باليوم الآخر والمقارنة بينهم وبين أهل الجنة:

أحوال الكفار والمعبودين من دون الله يوم القيامة:

إثبات بشرية الرسل:

طلب المشركين إنزال الملائكةُ عليهم أو رؤية الله والإخبار بإحباط أعمالهم:

هول يوم القيامة ورهبته:

هجر الكفار للقرآن ومطالبتهم بإنزاله دفعة واحدة:

قصص بعض الأنبياء وجزاء المكذب بهم:

استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم ورمي دعوته بالضلال:

دلائل وجود الله وتوحيده:

عبادة المشركين الأوثان وعبادة المؤمنين الرحمن:

صفات عباد الرحمن:



بَين يَدَي السُّورَة



* سورة الفرقان مكية وهي تعنى بشؤون العقيدة، وتعالج شبهات المشركين حول رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وحول القرآن العظيم، ومحور السورة يدور حول إِثبات صدق القرآن، وصحة الرسالة المحمدية، وحول عقيدة الإِيمان بالبعث والجزاء، وفيها بعض القصص للعظة والاعتبار.





* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن الذي تفنَّن المشركون بالطعن فيه، والتكذيب بآياته، فتارة زعموا أنه أساطير الأولين، وأُخرى زعموا أنه من اختلاق محمد أعانه عليه بعض أهل الكتاب، وثالثه زعموا أنه سحرٌ مبين، فردَّ الله تعالى عليهم هذه المزاعم الكاذبة، والأوهام الباطلة، وأقام الأدلة والبراهين على أنه تنزيل رب العالمين، ثم تحدثت عن موضوع الرسالة التي طالما خاض فيها المشركون المعاندون، واقترحوا أن يكون الرسول ملكاً لا بشراً، وأن تكون الرسالة - على فرض تسليم الرسول من البشر - خاصة بذوي الجاه والثراء، فتكون لإِنسان غني عظيم، لا لفقير يتيم، وقد ردَّ الله تعالى شبهتهم بالبرهان القاطع، والحجة الدامغة، التي تقصم ظهر الباطل.





* ثم ذكرت الآيات فريقاً من المشركين عرفوا الحقَّ وأقرّوا به، ثم انتكسوا إِلى جحيم الضلال، وذكرت منهم "عقبة بن أبي معيط" الذي أسلم ثم ارتد عن الدين بسبب صديقه الشقي "أُبي بن خلف" وقد سماه القرآن الكريم بالظالم {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} الآية وسمَّى صديقه بالشيطان.





* وفي ثنايا السورة الكريمة جاء ذكر بعض الأنبياء إِجمالاً وجاء الحديث عن أقوامهم المكذبين، وما حلَّ بهم من النكال والدمار نتيجة لطغيانهم وتكذيبهم لرسل الله كقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب الرسّ وقوم لوط، وغيرهم من الكافرين الجاحدين، كما تحدثت السورة عن دلائل قدرة الله ووحدانيته، وعن عجائب صنعه وآثار خلقه في هذا الكون البديع، الذي هو أثر من آثار قدرة الله، وشاهد من شواهد العظمة والجلال.



* وختمت السورة ببيان صفات عباد الرحمن، وما أكرمهم الله به من الأخلاق الحميدة التي استحقوا بها الأجر العظيم في جنات النعيم.



التسمَية:

سميت السورة الكريمة "سورة الفرقان" لأن الله تعالى ذكر فيها هذا الكتاب المجيد الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وكان النعمة الكبرى على الإِنسانية لأنه النور الساطع والضياء المبين، الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والنور والظلام، والكفر والإِيمان، ولهذا كان جديراً بأن يسمى الفرقان.



تنزيل القرآن وإثبات وحدانية الله



{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا(1)الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا(2)وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا(3)}.



{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} أي تمجَّد وتعظَّم وتكاثر خير الله الذي نزَّل القرآن العظيم الفارق بين الحق والباطل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} أي ليكون محمد نبياً للخلق أجمعين مخوفاً لهم من عذاب الله {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو تعالى المالك لجميع ما في السماوات والأرض خلقاً وملكاً وعبيداً { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} أي وليس له ولدٌ كما زعم اليهود والنصارى { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} أي وليس معه إِله كما قال عبدة الأوثان {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} أي أوجد كل شيء بقدرته مع الإِتقان والإِحكام. قال ابن جزي: الخلق عبارة عن الإِيجاد بعد العدم، والتقدير عبارةٌ عن إتقان الصنعة وتخصيص كل مخلوقٍ بمقداره وصنعته، وزمانه ومكانه، ومصلحته وأجله وغير ذلك وقال الرازي: وصف سبحانه ذاته بأربع أنواع من صفات الكبرياء: الأول: أنه المالك للسماوات والأرض وهذا كالتنبيه على وجوده والثاني: أنه هو المعبود أبداً والثالث: أنه المنفرد بالألوهية والرابع: أنه الخالق لجميع الأشياء مع الحكمة والتدبير {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} أي عبد المشركون غير الله من الأوثان والأصنام {لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي لا يقدرون على خلق شيء أصلاً بل هم مصنوعون بالنحت والتصوير فكيف يكونون آلهة مع الله ؟ {وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي لا يستطيعون دفع ضر عنهم ولا جلب نفع لهم {وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} أي لا تملك أن تُميت أحداً، ولا أن تُحيي أحداً ولا أن تبعث أحداً من الأموات قال الزمخشري: المعنى أنهم آثروا على عبادة الله عبادة آلهة لا يقدرون على شيء، وإِذا عجزوا عن دفع الضرر وجلب النفع الذي يقدر عليه العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور الذي لا يقدر عليها إِلا الله أعجز.





مزاعم المشركين في القرآن



{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا(4)وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً(5)قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(6)}.



سبب النزول:

قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث، فهو الذي قال هذا القول. وعنى بقوله تعالى: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} عدَّاس مولى حُوَيْطب بن عبد العُزَّى، ويسار غلام عامر بن الحضرمي، وجبر مولى عامر أو أبو فُكَيْهة الرومي، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب، وكانوا يقرؤون التوراة ويحدثون أحاديث منها، فلما أسلموا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعهدهم، قال النضر ما قال. فرد الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا}.



{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} أي وقال كفار قريش ما هذا القرآن إِلا كذب اختلقه محمد من تلقاء نفسه {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} أي وساعده على هذا الاختلاق قومٌ من أهل الكتاب {فَقَدْ جَاءوا ظُلْمًا وَزُورًا} أي جاءوا بالظلم والبهتان حيث جعلوا العربي يتلقَّنُ من العجمي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب فكان كلامهم فيه محض الكذب والزور {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} أي وقالوا في حق القرآن أيضاً إِنه خرافات الأمم السابقين أمر أن تُكتب له {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي فهي تُلقى وتُقرأ عليه ليحفظها صباحاً ومساءً قال ابن عباس: والقائل هو "النضر بن الحارث" وأتباعه والإِفكُ أسوأ الكذب {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} هذا ردٌّ عليهم في تلك المزاعم أي قل لهم يا محمد أنزله الله العليم القدير الذي لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} أي إِنه تعالى لم يعجّل لكم العقوبة بل أمهلكم رحمة بكم لأنه واسع المغفرة رحيم بالعباد.





تساءل المشركين وطعنهم في الرسول صلى الله عليه وسلم



{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا(7)أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا(8)انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً(9)تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا(10)}.



سبب النزول:

أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه وابن جرير وابن أبي حاتم عن خيثمة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيناك مفاتيح الأرض وخزائنها، لا ينقصك ذلك عندنا شيئاً في الآخرة، وإن شئت جَمَعْتُهما لك في الآخرة، فقال: لا، بل اجمعْها لي في الآخرة، فنزلت: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} الآية. أي أن عرض الخزائن من الله. وجاء في السيرة النبوية أن عروض الإغراء بالمال والغنى، والسيادة والجاه، والملك والسلطان كانت من زعماء قريش.



{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} أي وقال المشركون ما لهذا الذي يزعم الرسالة يأكل الطعام كما نأكل، ويمشي في الأسواق لطلب المعاش كما نمشي ؟ إِنه ليس بمَلَك ولا مَلِك، لأن الملائكة لا تأكل، والملوك لا تتبذّل في الأسواق، وفي قولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} مع إِنكارهم لرسالته تهكم واستهزاء {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} أي هلاّ بعث الله معه ملكاً ليكون له شاهداً على صدق ما يدعيه ! {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ} أي يأتيه كنزٌ من السماء فيستعين به ويستغني عن طلب المعاش {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} أي يكون له بستان يأكل من ثماره {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا} أي وقال الكافرون ما تتبعون أيها المؤمنون إِلا إِنساناً سحر فغلب على عقله فهو يزعم أنه رسول الله {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا} أي انظر كيف قالوا في حقك يا محمد تلك الأقاويل العجيبة، الجارية لغرابتها مجرى الأمثال ! وكيف اخترعوا تلك الصفات والأحوال الشاذة فضلُّوا بذلك عن الهدى! {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} أي فلا يجدون طريقاً إلى الحق بعد أن ضلوا عنه بتكذيبك وإِنكار رسالتك، ذكروا له عليه الصلاة والسلام خمس صفات وزعموا أنها تُخلُّ بالرسالة زعماً منهم أنَّ فضيلة الرسول على غيره تكون بأمورٍ جسمانية وهي غاية الجهالة والسفاهة فردَّ الله عليهم بأمرين: الأول: تعجيب الرسول صلى الله عليه وسلم من تناقضهم فتارة يقولون عنه شاعر، وتارة ساحر، وأُخرى يقولون إِنه مجنون حتى أصبحت تلك الأقوال الغريبة الشاذة، والأمور العجيبة جارية مجرى الأمثال والثاني: أن الله تعالى لو أراد لأعطى نبيَّه خيراً مما اقترحوا وأفضل مما يتصورون وهو المراد بقوله {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} أي تمجَّد وتعظّم الله الكبير الجليل الذي لو أراد لجعل لك خيراً من ذلك الذي ذكروه من نعيم الدنيا {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي لو شاء لأعطاك بساتين وحدائق تسير فيها الأنهار لا جنةً واحدة كما قالوا {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} أي ويجعل لك مع الحدائق القصور الرفيعة المشيدة كما هو حال الملوك قال الضحاك: لما عيَّر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة حزن عليه السلام فنزل جبريل معزياً له فبينما النبي وجبريل يتحدثان إذ فُتح باب من السماء فقال جبريل: أبشرْ يا محمد هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضى من ربك فسلَّم عليه وقال: ربك يخيرّك بين أن تكون نبياً ملكاً، وبين أن تكون نبياً عبداً - ومعه سفط من نور يتلألأ - ثم قال: هذه مفاتيح خزائن الأرض فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير فأومأ بيده أن تواضع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بل نبياً عبداً" فكان عليه السلام بعد ذلك لا يأكل متكأ حتى فارق الدنيا.



تكذيب المشركين باليوم الآخر والمقارنة بينهم وبين أهل الجنة



{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا(11)إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا(12)وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا(13)لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا(14)قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا(15)لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولاً(16)}.



{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} أي بل كذبوا بالقيامة {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} أي وهيأنا لمن كذَّب بالآخرة ناراً شديدة الاستعار قال الطبري: المعنى ما كذب هؤلاء المشركون بالله وأنكروا ما جئتهم به من الحق من أجل أنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق ولكنْ من أجل أنهم لا يوقنون بالمعاد تكذيباً منهم بالقيامة وأعددنا لمن كذَّب بالبعث ناراً تُسعَّر علهم وتتَّقد {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي إِذا رأت جهنم هؤلاء المشركين من مسافة بعيدة وهي مسير خمسمائة عام {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} أي سمعوا صوت لهيبها وغليانها كالغضبان إِذا غلا صدره من الغيظ وسمعوا لها صوتاً كصوت الحمار وهو الزفير قال ابن عباس: إِن الرجل ليجرُّ إِلى النار فتشهق إِليه النار شهوق البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرةً لا يبقى أحدٌ إِلاّ خاف، وتقييد الرؤية بالبعد {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} فيه مزيد تهويل لأمرها {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا} أي وإِذا أُلقوا في جهنم في مكانٍ ضيّق قال ابن عباس: تضيق عليهم ضيق الزُّج في الرُّمح - الزُّج: الحديدة التي في أسفل الرمح - {مُقَرَّنِينَ} أي مصفَّدين قد قرنت أيديهم إِلى أعناقهم بالسلاسل {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} أي دعوا في ذلك المكان على أنفسهم بالويل والهلاك يقولون: يا هلاكنا، نادوه نداء المتمني للهلاك ليسلموا مما هو أشدُّ منه كما قيل: أشدُّ من الموت ما يتمنى معه الموت {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} أي يقال لهم: لا تدعوا اليوم بالهلاك على أنفسكم مرةً واحدة بل ادعوا مراتٍ ومراتٍ، فإِن ما أنتم فيه من العذاب الشديد يستوجب تكرير الدعاء في كل حين وآن، وفيه إِقناطٌ لهم من استجابة الدعاء وتخفيف العذاب {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} ؟ أي قل لهم يا محمد على سبيل التقريع والتهكم أذلك السعير خيرٌ أم جنة الخلود التي وعدها المتقون ؟ قال ابن كثير: يقول الله تعالى يا محمد : هذا الذي وصفناه لك من حال الأشقياء الذين تتلقاهم جهنم بوجهٍ عبوسٍ وتغيظٍ وزفير، ويلقون في أماكنها الضيقة مقرّنين لا يستطيعون حراكاً ولا فكاكاً مما هم فيه، أهذا خيرٌ أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده ؟ قال الإِمام الفخر الرازي: فإِن قيل كيف يقال العذاب خيرٌ أم جنة الخلد؟ وهل يجوز أن يقول العاقل: السُكر أحلى أم الصبر ؟ قلنا: هذا يحسن في معرض التقريع كما إِذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرَّد وأبى واستكبر فيضربه ضرباً وجيعاً ويقول على سبيل التوبيخ: أهذا أطيب أم ذاك ؟ {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا} أي كانت لهم ثواباً ومرجعاً {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} أي لهم في الجنة ما يشاؤون من النعيم {خَالِدِينَ} أي ماكثين فيها أبداً سرمداً بلا زوال ولا انقضاء {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولاً} أي كان ذلك الجزاء وعداً على ذي الجلال حقيقاً بأن يُسأل ويُطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون، وهو وعدٌ واجب.



أحوال الكفار والمعبودين من دون الله يوم القيامة



{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ(17)قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا(18)فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا(19)}.



{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي واذكر ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - حين يجمع الله الكفار والأصنام وكل من عُبد من دون الله كالملائكة والمسيح قال مجاهد: هو عيسى وعزير والملائكة {فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} أي فيقول تعالى للمعبودين تقريعاً لعبدتهم: أأنتم دعوتم هؤلاء إِلى عبادتكم ؟ {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} أي أم هم ضلوا الطريق فعبدوكم من تلقاء أنفسهم ؟ {قَالُوا سُبْحَانَكَ} أي قال المعبودون تعجباً مما قيل لهم: تنزَّهت يا الله عن الأنداد {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} أي ما يحقُّ لنا ولا لأحدٍ من الخلق أن يعبد غيرك، ولا أن يشرك معك سواك {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} أي ولكن أكثرت عليهم وعلى آبائهم النعمة - وكان يجب عليهم شكرها والإِيمان بما جاءت به الرسل - فكان ذلك سبباً للإِعراض عن ذكرك وشكرك {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} أي وكانوا قوماً هالكين، قال تعالى توبيخاً للكفرة {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} أي فقد كذبكم هؤلاء المعبودون في قولكم إِنهم آلهة {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا} أي فما تستطيعون أيها الكفار دفعاً للعذاب عنكم ولا نصراً لأنفسكم من هذا البلاء {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} أي ومن يشرك منكم بالله فيظلم نفسه نذقه عذاباً شديداً في الآخرة.





إثبات بشرية الرسل



{وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا(20)}.










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-26, 18:00   رقم المشاركة : 57
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 تابع

سبب النزول:

أخرج الواحدي وابن جرير عن ابن عباس قال : لما عيَّر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة، وقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} حزِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل: {وما أرسلنا قَبْلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق}.



{وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} أي وما أرسلنا قبلك يا محمد أحداً من الرسل إِلا وهم يأكلون ويشربون ويتجولون في الأسواق للتكسب والتجارة، فتلك هي سنة المرسلين من قبلك فلم ينكرون ذلك عليك ؟ وهو جواب عن قولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} ؟ {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}أي جعلنا بعض الناس بلاءً لبعض ومحنة، ابتلى الله الغنيَّ بالفقير، والشريف بالوضيع، والصحيح بالمريض ليختبر صبركم وإِيمانكم أتشكرون أم تكفرون ؟ قال الحسن: يقول الأعمى لو شاء الله لجعلني بصيراً مثل فلان، ويقول الفقير لو شاء الله لجعلني غنياً مثل فلان، ويقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} أي عالماً بمن يصبر أو يجزع، وبمن يشكر أو يكفر.





طلب المشركين إنزال الملائكةُ عليهم أو رؤية الله والإخبار بإحباط أعمالهم



{وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا(21)يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا(22)وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا(23)أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً(24)}.



المنَاسَبَة:

لما حكى تعالى إِنكار المشركين لنبوة محمد عليه السلام وتكذيبهم للقرآن، أعقبه بذكر بعض جرائمهم الأخرى، ثم ذكر قصص بعض الأنبياء وما حلَّ بأقوامهم المكذبين تسلية لرسول الله عليه الصلاة والسلام.



{وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا} أي قال المشركون الذين لا يرجون لقاء الله، ولا يخشون عقابه لتكذيبهم بالبعث والنشور {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكةُ} أي هلاّ نزلت الملائكة علينا فأخبرونا بصدق محمد {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} أي أو نرى الله عياناً فيخبرنا أنك رسوله قال أبو حيان: وهذا كله على سبيل التعنت وإِلا فما جاءهم به من المعجزات كافٍ لو وُفّقوا { لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} أي تكبروا في شأن أنفسهم حين تفوهوا بمثل هذه العظيمة، وطلبوا ما لا ينبغي {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} أي تجاوزوا الحدَّ في الظلم والطغيان، حتى بلغوا أقصى العتو وغاية الاستكبار {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} أي يوم يرى المشركون الملائكة حين تنزل لقبض أرواحهم وقت الاحتضار لن يكون للمجرمين يومئذٍ بشارة تسرهم بل لهم الخيبة والخسران {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} أي تقول الملائكة لهم: حرام ومحرم عليكم الجنة والبُشرى والغفران قال ابن كثير: وذلك يصدق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار، فتقول للكافر عند خروج روحه: أُخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث، أُخرجي إِلى سمومٍ وحميم وظلٍ من يحموم فتأبى الخروج وتتفرق في البدن فيضربونه بمقامع الحديد، بخلاف المؤمنين حال احتضارهم فإِنهم يُبشرون بالخيرات وحصول المسرات {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهمْ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} أي عمدنا إِلى أعمال الكفار التي يعتقدونها براً كإِطعام المساكين وصلة الأرحام ويظنون أنها تقربهم إِلى الله {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} أي جعلناه مثل الغبار المنثور في الجو، لأنه لا يعتمد على أساس ولا يستند على إِيمان قال الطبري: أي جعلناه باطلاً لأنهم لم يعملوه لله، وإِنما عملوه للشيطان، والهباء هو الذي يُرى كهيئة الغبار إِذا دخل ضوء الشمس من كوة، والمنثور المتفرق وقال القرطبي: إِن الله أحبط أعمالهم بسبب الكفر حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} لما بيَّن تعالى حال الكفار وأنهم في الخسران الكلي والخيبة التامة، شرح وصف أهل الجنة وأنهم في غاية السرور والحبور، تنبيهاً على أن السعادة كل السعادة في طاعة الله عز وجل، ومعنى الآية: أصحابُ الجنة يوم القيامة خيرٌ من الكفار مستقراً ومنزلاً ومأوى {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} أي وأحسنُ منهم مكاناً للتمتع وقت القيلولة وهي الاستراحة نصف النهار، فالمؤمنون في الآخرة في الفردوس والنعيم المقيم، والكفار في دركات الجحيم قال ابن مسعود: "لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار".





هول يوم القيامة ورهبته



{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً(25)الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا(26)وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً(27)يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً(28)لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً(29)}.



سبب النزول:

أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان أُبيّ بن خَلَف يحضر النبي صلى الله عليه وسلم، فيزجره عقبة بن أبي مُعَيط، فنزل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} إلى قوله: {مَخْذُولاً}.

وفي رواية: كان عقبة بن أبي مُعَيْط يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى ضيافته، فأبى أن يأكل طعامه حتى ينطق بالشهادتين، ففعل، وكان أبي بن خلف صديقه، فعاتبه، وقال : صبأت ؟! فقال: لا، ولكن أبى أن يأكل من طعامي، وهو في بيتي، فاستحييت منه، فشهدت له، فقال: لا أرضى منك إلا أن تأتيه، فتطأ قفاه، وتبزق في وجهه، فوجده ساجداً في دار الندوة، ففعل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوتُ رأسَك بالسيف" فأسر يوم بدر، فأمر علياً فقتله، وطعن أُبياً بأحد في المبارزة، فرجع إلى مكة ومات يقول: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}.

قال الضحاك: لما بزق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاد بزاقه في وجهه، فتشعب شعبتين، فأحرق خديه، وكان أثر ذلك فيه حتى الموت.



{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} أي واذكر ذلك اليوم الرهيب يوم تتشقَّق السماء وتنفطر عن الغمام الذي يُسود الجو ويُظلمه ويغم القلوب مرآه لكثرته وشدة ظلمته {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً} أي ونزلت الملائكة فأحاطت بالخلائق في المحشر {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ} أي الملك في ذلك اليوم لله الواحد القهار، الذي تخضع له الملوك، وتعنو له الوجوه، وتذل له الجبابرة، لا مالك يومئذٍ سواه كقوله {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} أي وكان ذلك اليوم صعباً شديداً على الكفار قال أبو حيان: ودل قوله {عَلَى الْكَافِرِينَ} على تيسيره على المؤمنين ففي الحديث (إِنه يهون حتى يكون على المؤمن أخف عليه من صلاةٍ مكتوبة صلاها في الدنيا) {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} أي واذكر يوم يندم ويتحسر الظالم على نفسه لما فرَّط في جنب الله، وعضُّ اليدين كنايةٌ عن الندم والحسرة، والمراد بالظالم "عُقبة بن أبي معيط" كما في سبب النزول، وهي تعمُّ كل ظالم قال ابن كثير: يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وسلك سبيلاً غير سبيل الرسول، فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا نفعه الندم، وعضَّ على يديه حسرةً وأسفاً، وسواءٌ كان نزولها في "عقبة بن معيط" أو غيره من الأشقياء فإِنها عامةٌ في كل ظالم {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} أي يقول الظالم يا ليتني اتبعتُ الرسول فاتخذت معه طريقاً إِلى الهدى ينجيني من العذاب {يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً} أي يا هلاكي وحسرتي يا ليتني لم أصاحب فلاناً واجعله صديقاً لي، ولفظ {فُلان} كناية عن الشخص الذي أضلَّه وهو "أُبي بن خلف" قال القرطبي: وكنى عنه ولم يصرّح باسمه ليتناول جميع من فعل مثل فعله {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} أي لقد أضلني عن الهدى والإِيمان بعد أن اهتديت وآمنت ثم قال تعالى {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} أي يُضله ويُغويه ثم يتبرأ منه وقت البلاء فلا ينقذه ولا ينصره.





هجر الكفار للقرآن ومطالبتهم بإنزاله دفعة واحدة

{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا(30)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا(31)وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً(32)وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا(33)الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً(34)}.



سبب النزول:

نزول الآية(32):

أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قال المشركون: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم، كما يزعم نبياً، فلِمَ يعذبُه ربه، ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة، فينزل عليه الآية والآيتين، فأنزل الله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}.



{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} لما أكثر المشركون الطعن في القرآن ضاق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وشكاهم إِلى الله والمعنى: قال محمد يا رب إِنَّ قريشاً كذبت بالقرآن ولم تؤمن به وجعلته وراء ظهورها متروكاً وأعرضوا عن استماعه قال المفسرون: وليس المقصود من حكاية هذا القول الإِخبار بما قال المشركون بل المقصود منها تعظيم شكايته، وتخويف قومه، لأن الأنبياء إِذا التجأوا إِلى الله وشكوا قومهم حل بهم العذاب ولم يمهلوا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ} أي كما جعلنا لك أعداء من مشركي قومك جعلنا لكل نبي عدواً من كفار قومه، والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بالتأسي بغيره من الأنبياء {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} وكفى أن يكون ربك يا محمد هادياً لك وناصراً لك على أعدائك فلا تبال بمن عاداك {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وقال كفار مكة {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أي هلاَّ نزل هذا القرآن على محمد دفعة واحدة كما نزلت التوراة والإِنجيل ؟ قال تعالى ردّاً على شبهتهم التافهة {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي كذلك أنزلناه مفرقاً لنقوي قلبك على تحمله فتحفظه وتعمل بمقتضى ما فيه {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} أي فصَّلنا تفصيلاً بديعاً قال قتادة : أي بينَّاه وقال الرازي: الترتيلُ في الكلام أن يأتي بعضه على إِثر بعض على تُؤدة وتمهل، وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفلجها وقال الطبري: الترتيلُ في القراءة الترسُّلُ والتثبتُ يقول: علمناكه شيئاً بعد شيء حتى تحفظه {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي ولا يأتيك هؤلاء الكفار بحجةٍ أو شبهةٍ للقدح فيك أو في القرآن إِلا أتيناك يا محمد بالحق الواضح، والنور الساطع لندمغ به باطلهم {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أي أحسن بياناً وتفصيلاً، ثم ذكر تعالى حال هؤلاء المشركين المكذبين للقرآن فقال {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} أي يُسْحبون ويجُرُّون إِلى النار على وجوههم {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أي هم شر منزلاً ومصيراً، وأخْطأ ديناً وطريقاً وفي الحديث "قيل يا رسول الله: كيف يُحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ فقال: إِن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة".



قصص بعض الأنبياء وجزاء المكذب بهم



{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا(35)فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا(36)وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا(37)وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا(38)وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا(39)وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا(40)}.



ثم ذكر تعالى قصص الأنبياء تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإِرهاباً للمكذبين فقال {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} أي والله لقد أعطينا موسى التوراة {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} أي وأعنَّاه بأخيه هارون فجعلناه وزيراً يناصره ويُؤآزره {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي اذهبا إلى فرعون وقومه بالآيات الباهرات، والمعجزات الساطعات {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} أي فأهلكناهم إِهلاكاً لمّا كذبوا رسلنا {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} أي وأغرقنا قوم نوح بالطوفان لمّا كذبوا رسولهم نوحاً وجعلناهم عبرةً لمن يعتبر قال أبو السعود: وإِنما قال الرسل بالجمع مع أنهم كذَّبوا نوحاً وحده لأن تكذيبه تكذيبٌ للجميع لاتفاقهم على التوحيد والإِسلام {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} أي وأعددنا لهم في الآخرة عذاباً شديداً مؤلماً سوى ما حلَّ بهم في الدنيا {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} أي وأهلكنا عاداً وثمود وأصحاب البئر الذين انهارت بهم قال البيضاوي: وأصحابُ الرس قومٌ كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إِليهم شعيباً فكذبوه فبينما هم حول الرس - وهي البئر غير المطوية - انهارت فخسفت بهم وبديارهم {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} أي وأمماً وخلائق كثيرين لا يعلمهم إِلا الله بين أولئك المكذبين أهلكناهم أيضاً {وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} أي وكلاً من هؤلاء بيّنا لهم الحجج، ووضحنا لهم الأدلة إِعذاراً وإِنذاراًً {وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} أي أهلكناه إِهلاكاً، ودمرناه تدميراً، لمّا لم تنجع فيهم المواعظ {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} أي ولقد مرَّت قريش مراراً في متاجرهم إِلى الشام على تلك القرية التي أُهلكت بالحجارة من السماء وهي قرية "سدوم" عُظمى قرى قوم لوط {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا}؟ توبيخٌ لهم على تركهم الاتعاظ والاعتبار أي أفلم يكونوا في أسفارهم يرونها فيعتبروا بما حلَّ بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم لرسولهم ومخالفتهم لأوامر الله ؟ قال ابن عباس: كانت قريشٌ في تجارتهم إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط كقوله تعالى {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} أي إِنهم لا يعتبرون لأنهم لا يرجون معاداً يوم القيامة.



سبب النزول:

نزول الآية(41):

روي أن هذه الآية نزلت في أبي جهل، فإنه كان إذا مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحبه قال مستهزئاً: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً}؟.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى شبهات المشركين حول القرآن والرسول، وردَّ عليهم بالحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، ذكر هنا طرفاً من استهزائهم وسخريتهم بالرسول فلم يقتصروا على تكذيبه بل زادوا عليه بالاستهزاء والاحتقار، ثم ذكر الأدلة على وحدانيته تعالى وقدرته.



استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم ورمي دعوته بالضلال



{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً(41)إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً(42)أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً(43)أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً(44)}.



{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} أي وإِذا رآك المشركون يا محمد ما يتخذونك إِلا موضع هزء وسخرية {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} أي قائلين بطريق التهكم والاستهزاء: أهذا الذي بعثه الله إِلينا رسولاً ؟ {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} أي إِن كاد ليصرفنا عن عبادة آلهتنا لولا أن ثبتنا عليها واستمسكنا بعبادتها قال تعالى رداً عليهم {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وعيد وتهديد أي سوف يعلمون في الآخرة عند مشاهدة العذاب من أخطأ طريقاً وأضل ديناً أَهُمْ أم محمد ؟ {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} تعجيبٌ من ضلال المشركين أي أرأيت من جعل هواه إِلهاً كيف يكون حاله ؟ قال ابن عباس: كان الرجل من المشركين يعبد حجراً فإذا رأى حجراً أحسن منه رماه وأخذ الثاني فعبده {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} أي حافظاً تحفظه من اتباع هواه ؟ ليس الأمر لك قال أبو حيان: وهذا تيئيسٌ من إِيمانهم، وإِشارةٌ للرسول عليه السلام ألا يتأسف عليهم، وإِعلامٌ أنهم في الجهل بالمنافع وقلة النظر في العواقب مثل البهائم {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}؟ أي أتظن أن هؤلاء المشركين يسمعون ما تقول لهم سماع قبول ؟ أو يعقلون ما تورده عليهم من الحجج والبراهين الدالة على الوحدانية فتهتم بشأنهم وتطمع في إِيمانهم؟ {إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} أي ما هم إِلا كالبهائم بل هم أبشع حالاً، وأسوأ مالاً من الأنعام السارحة، لأن البهائم تهتدي لمراعيها، وتنقاد لأربابها وتعرف من يحسن إِليها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إِحسانه إِليهم.



دلائل وجود الله وتوحيده



{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً(45)ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا(46)وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا(47)وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا(48)لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا(49)وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا(50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا(51)فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا(52)وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا(53)وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا(54)}.



ثم ذكر تعالى أنواعاً من الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أي ألم تنظر إِلى بديع صنع الله وقدرته كيف بسط تعالى الظلَّ ومدَّه وقت النهار حتى يستروح الإِنسان بظل الأشياء من حرارة الشمس المتوهجة ؟ إِذ لولا الظلُّ لأحرقت الشمس الإِنسان وكدَّرت حياته {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} أي لو أراد سبحانه لجعله دائماً ثابتاً في مكانٍ لا يزول ولا يتحول عنه، ولكنه بقدرته ينقله من مكان إِلى مكان، ومن جهةٍ إلى جهة، فتارة يكون جهة المشرق، وتارة جهة المغرب، وأُخرى من أمام أو خلف{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} أي جعلنا طلوع الشمس دليلاً على وجود الظل، فلولا وقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجوداً، ولما ظهرت آثار هذه النعمة الجليلة للعباد، والأشياء إِنما تُعرف بأضدادها فلولا الظلمة ما عُرف النور، ولولا الشمسُ ما عرف الظل "وبضدها تتميز الأشياء" {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} أي أزلنا هذا الظلَّ شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً لا دفعة واحدة لئلا تختل المصالح قال ابن عباس: الظلُّ من وقت طلوع الفجر إِلى وقت طلوع الشمس قال المفسرون: الظلُّ هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة، وهو يحدث على وجه الأرض منبسطاً فيما بين ظهور الفجر إلى طلوع الشمس، ثم إِن الشمس تنسخه وتزيله شيئاً فشيئاً، إلى الزوال، ثم هو ينسخ ضوء الشمس من وقت الزوال إلى الغروب ويسمى فَيْئاً، ووجه الاستدلال به على وجود الصانع الحكيم أن وجوده بعد العدم، وعدمه بعد الوجود، وتغير أحواله بالزيادة والنقصان، والانبساط والتقلص، على الوجه النافع للعباد لا بدَّ له من صانع قادر، مدبر حكيم، يقدر على تحريك الأجرام العلوية، وتدبير الأجسام الفلكية وترتيبها على الوصف الأحسن، والترتيب الأكمل وما هو إِلا الله رب العالمين. ثم أشار تعالى إِلى آثار قدرته، وجليل نعمته الفائضة على الخلق فقال {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا} أي هو سبحانه الذي جعل لكم الليل كاللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس بزينته قال الطبري: وصف الليل باللباس تشبيهاً من حيث إنه يستر الأشياء فصار لهم ستراً يستترون به كما يستترون بالثياب التي يكسونها {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} أي وجعل النوم راحةً لأبدانكم بانقطاعكم عن أعمالكم {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} أي وقتاً لانتشار الناس فيه لمعايشهم، ومكاسبهم، وأسباب رزقهم {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي أرسل الرياح مبشرة بنزول الغيث والمطر { وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} أي أنزلنا من السحاب الذي ساقته الرياح ماءً طاهراً مطهّراً تشربون وتتطهرون به قال القرطبي: وصيغة {طَهُور} بناء مبالغة في "طاهر" فاقتضى أن يكون طاهراً مطهّراً {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أي لنحيي بهذا المطر أرضاً ميتةً لا زرع فيها ولا نبات {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} أي وليشرب منه الحيوان والإِنسان لأن الماء حياة كل حيّ، والناس محتاجون إِليه غاية الحاجة لشربهم وزروعهم وسقي مواشيهم قال الإِمام الفخر الرازي: وتنكير الأنعام والأناسي لأن حياة البشر بحياة أرضهم وأنعامهم، وأكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأودية والأنهار، فهم في غنية عن شرب مياه المطر، وكثيرٌ منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إِلا عند نزول المطر ولهذا قال {أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} أي بشراً كثيرين لأن "فعيل" يراد به الكثرة {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} أي ضربنا الأمثال في هذا القرآن للناس وبيَّنا فيه الحجج والبراهين ليتفكروا ويتدبروا {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} أي أبى الكثير من البشر إِلا الجحود والتكذيب {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} أي لو أردنا لخففنا عنك أعباء النبوة فبعثنا في كل أهل قرية نبياً ينذرهم، ولكنا خصصناك بالبعثة إلى جميع الأرض إِجلالاً لك، وتعظيماً لشأنك، فقابل هذا الإِجلال بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإِظهار الحق {فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} أي فلا تطع الكفار فيما يدعونك إِليه من الكفّ عن آلهتهم، وجاهدهم بالقرآن جهاداً كبيراً بالغاً نهايته لا يصاحبه فتور {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي هو تعالى بقدرته خلى وأرسل البحرين متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} أي شديد العذوبة قاطع للعطش من فرط عذوبته {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي بليغ الملوحة، مرُّ شديد المرارة {وَجَعلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} أي جعل بينهما حاجزاً من قدرته لا يغلب أحدهما على الآخر {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} أي ومنعاً من وصول أثر أحدهما إِلى الآخر وامتزاجه به قال ابن كثير: معنى الآية أنه تعالى خلق الماءين: الحلو والمالح، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار، والمالح كالبحار الكبار التي لا تجري، وجعل بين العذب والمالح حاجزاً وهو اليابس من الأرض، ومانعاً من أن يصل أحدهما إِلى الآخر، وهذا اختيار ابن جرير وقال الرازي: ووجه الاستدلال ههنا بينّ لأن الحلاوة والملوحة إِن كانت بسبب طبيعة الأرض أو الماء فلا بدَّ من الاستواء، وإِن لم يكن كذلك فلا بدَّ من قادر حكيم يخص كل واحد بصفة معينة {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا} أي خلق من النطفة إِنساناً سميعاً بصيراً {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا}أي قسمهم من نطفة واحدة قسمين: ذوي نسب أي ذكوراً ينسب إليهم لأن النسب إلى الأباء كما قال الشاعر:

" فإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللآباء أبناء " وإِناثاً يُصاهر بهن، فبالنسب يتعارفون ويتواصلون، وبالمصاهرة تكون المحبة والمودة واجتماع الغريب بالقريب {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} أي مبالغاً في القدرة حيث خلق من النطفة الواحدة ذكراً وأنثى.



عبادة المشركين الأوثان وعبادة المؤمنين الرحمن



{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا(55)وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(56)قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً(57)وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا(58)الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا(59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا(60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا(61)وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا(62)}.



ولما شرح دلائل التوحيد عاد إِلى تهجين سيرة المشركين في عبادة الأوثان فقال {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} أي يعبدون الأصنام التي لا تنفع ولا تضر لأنها جمادات لا تُحسُّ ولا تُبصر ولا تعقل {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} أي معيناً للشيطان على معصية الرحمن، لأنَّ عبادته للأصنام معاونة للشيطان قال مجاهد: يظاهر الشيطان على معصية الله ويُعينه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} أي مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم، ومنذراً للكافرين بعذاب الجحيم {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي قل لهم يا محمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً { إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي لكن من شاء أن يتخذ طريقاً يقربه إِلى الله بالإِيمان والعمل الصالح فليفعل كأنه يقول: لا أسألكم مالاً ولا أجراً وإِنما أسألكم الإِيمان بالله وطاعته وأجري على الله {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} أي اعتمد في جميع أمورك على الواحد الأحد، الدائم الباقي الذي لا يموت أبداً، فإِنه كافيك وناصرك ومظهر دينك على سائر الأديان {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي نزّه الله تعالى عمّا يصفه هؤلاء الكفار مما لا يليق به من الشركاء والأولاد {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} أي حسبك أن الله مطَّلع على أعمال العباد لا يخفى عليه شيء منها قال الإِمام الفخر الرازي: وهذه الكلمة يراد بها المبالغة كقولهم: كفى بالعلم جمالاً، وكفى بالأدب مالاً، وهي بمعنى حسبك أي لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبيرٌ بأحوالهم، قادر على مجازاتهم، وذلك وعيدٌ شديد {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي هذا الإِله العظيم الذي ينبغي أن تتوكل عليه هو القادر على كل شيء، الذي خلق السماوات السبع في ارتفاعها واتساعها، والأرضين في كثافتها وامتدادها في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا قال ابن جبير: الله قادر على أن يخلقها في لحظة ولكن علَّم خلقه الرفق والتثبت {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} استواءً يليق بجلالة من غير تشبيه ولا تعطيل {الرَّحْمَانُ} أي هو الرحمن ذو الجود والإِحسان {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} أي فسلْ عنه من هو خبيرٌ عارف بجلاله ورحمته، وقيل: الضمير يعود إلى الله أي فاسأل اللهَ الخبيرَ بالأشياء، العالم بحقائقها يطلعك على جليَّة الأمر {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ} أي وإِذا قيل للمشركين اسجدوا لربكم الرحمن الذي وسعت رحمته الأكوان {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ}؟ أي من هو الرحمن؟ استفهموا عنه استفهام من يجهله وهم عالمون به { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} أي أنسجد لما تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه؟ {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} أي وزادهم هذا القول بعداً عن الدين ونفوراً منه.



المنَاسَبَة:

لما ذكر إعراض المشركين عن عبادة الرحمن أعقبها بذكر آياته الكونية الدالة على الوحدانية، ثم ختم السورة الكريمة بذكر صفات عباد الرحمن التي استحقوا بها دخول الجنان.

{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} أي تمجَّد وتعظَّم الله الذي جعل في السماء تلك الكواكب العِظام المنيرة {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} أي وجعل فيها الشمس المتوهجة في النهار، والقمر المضيء بالليل {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أي يخلف كلٌّ منهما الآخر ويتعاقبان، فيأتي النهار بضيائه ثم يعقبه الليل بظلامه {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} أي لمن أراد أن يتذَّكر آلاء الله، ويتفكر في بدائع صنعه {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أي أراد شكر الله على أفضاله ونعمائه قال الطبري: جعل الله الليل والنهار يخلف كل واحدٍ منهما الآخر، فمن فاته شيء من الليل أدركه النهار، ومن فاته شيء من النهار أدركه بالليل.







صفات عباد الرحمن



{ وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا(63)وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا(64)وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا(65)إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا(66)وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا(67)وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68)يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا(69)إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(70)وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا(71)وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا(72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا(73)وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا(74)أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا(75)خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا(76)قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا(77)}.



سبب النزول:

نزول الآية(68):

{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ}: أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الذنب أعظمُ ؟ قال: "أن تجعل لله نِدّاً، وهو خَلقَك"، قلتُ: ثم أي ؟ قال: "أن تقتلَ ولدَك مخافةَ أن يَطْعم معك"، قلت: ثم أي ؟ قال: "أن تُزاني حليلة جارك" فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية.

وأخرج الشيخان عن ابن عباس: أن ناساً من أهل الشرك قَتَلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لِما عملنا كفارة؟ فنزلت: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى قوله: {غفوراً رحيماً}. ونزل: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية [الزمر: 53].



سبب نزول الآية(70):

{إِلا مَنْ تَابَ}: أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: لما أنزلت في الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} الآية، قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس بغير حق، ودعونا مع الله إلهاً آخر، وآتينا الفواحش، فنزلت: {إِلا مَنْ تَابَ} الآية.

{وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} الإِضافة للتشريف أي العباد الذين يحبهم الله وهم جديرون بالانتساب إليه هم الذين يمشون على الأرض في لين وسكينة ووقار، لا يضربون بأقدامهم أشراً ولا بطراً، ولا يتبخترون في مشيتهم {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} أي وإِذا خاطبهم السفهاء بغلظةٍ وجفاءً قالوا قولاً يسْلمون من الإِثم قال الحسن: لا يجهلون على أحد، وإِن جُهل عليهم حَلُموا {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} أي يُحْيون الليل بالصلاة ساجدين لله على جباههم، أو قائمين على أقدامهم كقوله {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} قال الرازي: لما ذكر سيرتهم في النهار من وجهين: ترك الإِيذاء، وتحمل الأذى بيَّن هنا سيرتهم في الليالي وهو اشتغالهم بخدمة الخالق {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} أي يدعون ربهم أن ينجيهم من عذاب النار، ويبتهلون إليه أن يدفع عنهم عذابها {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} أي لازماً دائماً غير مفارق {إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي بئست جهنم منزلاً ومكان إقامة قال القرطبي: المعنى بئس المستقر وبئس المقام، فهم مع طاعتهم مشفقون خائفون من عذاب الله، وقال الحسن: خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرَقاً من عذاب جهنم {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} هذا هو الوصف الخامس من أوصاف عباد الرحمن والمعنى: ليسوا مبذرين في إِنفاقهم في المطاعم والمشارب والملابس، ولا مقصِّرين ومضيِّقين بحيث يصبحون بخلاء {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أي وكان إنفاقُهم وسطاً معتدلاً بين الإِسراف والتقتير كقوله تعالى {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} الآية وقال مجاهد: "لو أنفقت مثل جبل أبي قُبيس ذهباً في طاعة الله ما كان سَرفاً، ولو أنفقت صاعاً في معصية الله كان سرفاً فيقال: عملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا فيقول: نعم. لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي لا يعبدون معه تعالى إلهاً آخر، بل يوحّدونه مخلصين له الدين {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} أي لا يقتلون النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بما يحقُّ أن تُقتل به النفوس من كفرٍ بعد إيمان، أو زنىً بعد إحصان، أو القتل قِصاصاً {وَلا يَزْنُونَ} أي لا يرتكبون جريمة الزنى التي هي أفحش الجرائم {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} أي ومن يقترف تلك الموبقات العظيمة من الشرك والقتل والزنى يجد في الآخرة النكال والعقوبة ثم فسَّرها بقوله {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يُضاعف عقابُه ويُغلَّظ بسبب الشرك وبسبب المعاصي {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} أي يُخلد في ذلك العذاب حقيراً ذليلاً أبد الآبدين {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا} أي إلاّ من تاب في الدنيا التوبة النصوح وأحسن عمله {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} أي يكرمهم الله في الآخرة فيجعل مكان السيئات حسنات وفي الحديث (إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها، رجلٌ يُؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال له: فإِنَّ لك مكانَ كل سيئةٍ حسنة فيقول يا رب: قد عملتُ أشياء لا أراها ههنا، قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدتْ نواجذه) {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي واسع المغفرة كثير الرحمة {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} أي ومن تاب عن المعاصي وأصلح سيرته فإِن الله يتقبل توبته ويكون مرضياً عند الله تعالى {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} هذا هو الوصف السابع من أوصاف عباد الرحمن أي لا يشهدون الشهادة الباطلة - شهادة الزور - التي فيها تضييعٌ لحقوق الناس {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} أي وإِذا مرُّوا بمجالس اللغو - وهي الأماكن التي يكون فيها العمل القبيح كمجالس اللهو، والسينما، والقمار، والغناء المحرَّم - مرُّوا معرضين مكرمين أنفسهم عن أمثال تلك المجالس قال الطبري: واللغوُ كلُّ كلامٍ أو فعلٍ باطل وكلُّ ما يُستقبح كسبّ الإِنسان، وذكر النكاح باسمه في بعض الأماكن، وسماعِ الغناءِ مما هو قبيح، كلُّ ذلك يدخل في معنى اللغو الذي يجب أن يجتنبه المؤمن {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} أي إِذا وُعظوا بآيات القرآن وخُوّفوا بها {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} أي لم يُعرضوا عنها بل سمعوها بآذانٍ واعية وقلوبٍ وجلة {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } أي اجعل لنا في الأزواج والبنين مسرةً وفرحاً بالتمسك بطاعتك، والعمل بمرضاتك {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي اجعلنا قُدوة يقتدي بنا المتقون، دعاةً إلى الخير هُداة مهتدين قال ابن عباس: أي أئمة يقتدى بنا في الخير {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} أي أولئك المتصفون بالأوصاف الجليلة السامية ينالون الدرجات العالية، بصبرهم على أمر الله وطاعتهم له سبحانه {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} أي ويُتلقَّون بالتحية والسلام من الملائكة الكرام كقوله تعالى {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ} الآية {خَالِدِينَ فِيهَا} أي مقيمين في ذلك النعيم لا يموتون ولا يُخْرجون من الجنَّة لأنها دار الخلود {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي ما أحسنها مقراً وأطيبها منزلاً لمن اتقى الله {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} أي قل لهم يا محمد: لا يكترثُ ولا يحفلُ بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إيّاه في الشدائد {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أي فقد كذبتم أيها الكافرون بالرسول والقرآن فسوف يكون العذاب ملازماً لكم في الآخرة.










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-26, 18:01   رقم المشاركة : 58
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 سورة الشعراء

سورة الشعراء



التِســميَـة

تكذيب المشركين للقرآن، إظهار دلائل وحدانيته تعالى

قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون

مجادلة موسى فرعون في إثبات وجود الله

وصف فرعون معجزة موسى عليه السلام بالسحر

إيمان السحرة بالله في المبارزة بينهم وبين موسى

نجاة موسى وقومه وغرق فرعون وجنوده

قصة إبراهيم عليه السلام وتنديده بعبادة الأصنام

إخلاص إبراهيم عليه السلام في دعائه

صورة شاملة ليوم القيامة، وتخاصم المشركين فيما بينهم

قصة نوح عليه السلام مع قومه

قصة هود عليه السلام

قصة صالح عليه السلام

قصة لوط عليه السلام

قصة شعيب عليه السلام

تنزيل القرآن من رب العالمين

أدب الدعاة في الدعوة

تنزُّل الشياطين على الكذبة الفَسقَة







بَين يَدَي السُّورَة



* سورة الشعراء مكية وقد عالجت أصول الدين من "التوحيد، والرسالة، والبعث" شأنها شأن سائر السور المكية، التي تهم بجانب العقيدة وأصول الإِيمان.



* ابتدأت السورة الكريمة بموضوع القرآن العظيم الذي أنزله الله هدايةً للخلق، وبلْسماً شافياً لأمراض الإِنسانية، وذكرت موقف المشركين منه، فقد كذبوا به مع وضوح آياته، وسطوع براهينه، وطلبوا معجزة أُخرى غير القرآن الكريم عناداً واستكباراً.



* ثم تحدثت السورة عن طائفةٍ من الرسل الكرام، الذين بعثهم الله لهداية البشرية، فبدأت بقصة الكليم "موسى" مع فرعون الطاغية الجبار، وما جرى من المحاورة والمداورة بينهما في شأن الإِله جلَّ وعلا، وما أيَّد به موسى من الحجة الدامغة التي تقصم ظهر الباطل، وقد ذكرت في القصة حلقات جديدة، انتهت ببيان العظة والعبرة من الفارق الهائل، بين الإِيمان والطغيان.



* ثم تناولت قصة الخليل إبراهيم عليه السلام، وموقفه من قومه وأبيه في عبادتهم للأوثان والأصنام، وقد أظهر لهم بقوة حجته، ونصاعة بيانه، بطلان ما هم عليه من عبادة ما لا يسمع ولا ينفع، وأقام لهم الأدلة القاطعة على وحدانية رب العالمين، الذي بيده النفع والضر، والإِحياء والإِماتة.



* ثم تحدثت السورة عن المتقين والغاوين، والسعداء والأشقياء، ومصير كلٍ من الفريقين يوم الدين.

* وبعد أن تابعت السورة في ذكر قصص الأنبياء "نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب" عليهم الصلاة والسلام، وبيَّنت سنة الله في معاملة المكذبين لرسله، عادت للتنويه بشأن الكتاب العزيز، تفخيماً لشأنه، وبياناً لمصدره {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}.



* ثم ختمت السورة بالرد على افتراء المشركين، في زعمهم أن القرآن من تنزل الشياطين، ليتناسق البدء مع الختام في أروع تناسق والتئام ‍‍.



التِسميَة:

سميت "سورة الشعراء" لأن الله تعالى ذكر فيها أخبار الشعراء، وذلك للرد على المشركين في زعمهم أن محمداً كان شاعراً، وأن ما جاء به من قبيل الشعر، فردَّ الله عليهم ذلك الكذب والبهتان بقوله {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}؟ وبذلك ظهر الحق وبان.



تكذيب المشركين للقرآن، إظهار دلائل وحدانيته تعالى



{طسم(1)تِلْكَ ءايات الْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(3)إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ(4)وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَانِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ(5)فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ(7)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(8)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(9)}.



{طسم} إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم وأنه مركب من أمثال هذه الحروف الهجائية {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي هذه آيات القرآن الواضح الجلي، الظاهر إعجازه لمن تأمله {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي لعلك يا محمد مُهلِكٌ نفسك لعدم إِيمان هؤلاء الكفار، فيه تسلية للرسول عليه السلام حتى لا يحزن ولا يتأثر على عدم إيمانهم {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً} أي لو شئنا لأنزلنا آية من السماء تضطرهم إلى الإِيمان قهراً {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} أي فتظل أعناقهم منقادةً خاضعة للإِيمان قسراً وقهراً، ولكنْ لا نفعل لأنا نريد أن يكون الإِيمان اختياراً لا اضطراراً قال الصاوي: المعنى لا تحزن على عدم إيمانهم فلو شئنا إيمانهم لأنزلنا معجزة تأخذ بقلوبهم فيؤمنون قهراً عليهم، ولكنْ سبق في علمنا شقاؤهم فأرحْ نفسك من التعب {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ الرَّحْمَانِ} أي ما يأتي هؤلاء الكفار شيء من القرآن أو الوحي منزلٍ من عند الرحمن {مُحْدَثٍ} أي جديد في النزول، ينزل وقتاً بعد وقت {إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} أي إلاّ كذبوا به واستهزءوا ولم يتأملوا ما فيه من المواعظ والعِبَر {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} أي فقد بلغوا النهاية في الإِعراض والتكذيب فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا واستهزؤوا به، ثم نبّه تعالى على عظمة سلطانه، وجلالة قدره في مخلوقاته ومصنوعاته، الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أي أولم ينظروا إلى عجائب الأرض كم أخرجنا فيها من كل صنفٍ حسنٍ محمود، كثير الخير والمنفعة ؟ والاستفهام للتوبيخ على تركهم الاعتبار {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إِنَّ في ذلك الإِنبات لآيةً باهرة تدل على وحدانية الله وقدرته {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي وما كان أكثرهم يؤمن في علم الله تعالى، فمع ظهور الدلائل الساطعة يستمر أكثرهم على كفرهم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي هو سبحانه الغالب القاهر، القادر على الانتقام ممن عصاه، الرحيم بخلقه حيث أمهلهم ولم يعجّل لهم العقوبة مع قدرته عليهم قال أبو العالية: العزيز في نقمته ممن خالف أمره وعبَد غيره، الرحيم بمن تاب إليه وأناب وقال الفخر الرازي: إنما قدم ذكر {الْعَزِيزُ} على {الرَّحِيمُ} لأنه ربما قيل: إنه رحمهم لعجزه عن عقوبتهم، فأزال هذا الوهم بذكر العزيز وهو الغالب القاهر، ومع ذلك فإنه رحيم بعباده، فإن الرحمة إذا كانت مع القدرة الكاملة كانت أعظم وقعاً.



قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون



{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(10)قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ(11)قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ(12)وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ(13)وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ(14)قَالَ كَلا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ(15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(16)أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ(17)قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(18)وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ(19)قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ(20)فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ(21)وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(22)}.



{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} أي واذكر يا محمد لأولئك المعرضين المكذبين من قومك حين نادى ربك نبيَّه موسى من جانب الطور الأيمن آمراً له أن يذهب إلى فرعون وملئه {أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي بأن ائت هؤلاء الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، واستعباد الضعفاء من بني إسرائيل {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} أي هم قوم فرعون، وهو عطف بيان كأن القوم الظالمين وقوم فرعون شيء واحد {أَلا يَتَّقُونَ} ؟ أي ألا يخافون عقاب الله ؟ وفيه تعجيب من غلوهم في الظلم وإِفراطهم في العدوان {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} أي قال موسى يا ربّ إني أخاف أن يكذبوني في أمر الرسالة {وَيَضِيقُ صَدْرِي} أي ويضيق صدري من تكذيبهم إياي {وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} أي ولا ينطلق لساني بأداء الرسالة على الوجه الكامل {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} أي فأرسلْ إلى هارون ليعينني على تبليغ رسالتك قال المفسرون: التمس موسى العذر بطلب المعين بثلاثة أعذار كلُّ واحدٍ منها مرتب على ما قبله وهي: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وعدم انطلاق اللسان، فالتكذيبُ سببٌ لضيق القلب، وضيقُ القلب سببٌ لتعسر الكلام، وبالأخص على من كان في لسانه حُبْسة كما في قوله {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} ثم زاد اعتذاراً آخر بقوله {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} أي ولفرعون وقومه عليَّ دعوى ذنب وهو أني قتلت منهم قبطياً فأخاف أن يقتلوني به {قالَ كَلا} أي قال الله تعالى له: كلاّ لن يقتلوك قال القرطبي: وهو ردعٌ وزجر عن هذا الظن، وأمرٌ بالثقة بالله تعالى أي ثقْ بالله وانزجر عن خوفك منهم فإنهم لا يقدرون على قتلك {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا} أي اذهب أنت وهارون بالبراهين والمعجزات الباهرة {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} أي فأنا معكما بالعون والنصرة أسمع ما تقولان وما يجيبكما به، وصيغةُ الجمع "معكم" أريد بها التثنية فكأنهما لشرفهما عند الله عاملهما في الخطاب معاملة الجمع تشريفاً لهما وتعظماً {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي فائتيا فرعون الطاغية وقولا له: إنا مرسلان من عند رب العالمين إليك لندعوك إلى الهدى {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أطلقْ بني إسرائيل من إسارك واستعبادك وخلِّ سبيلهم حتى يذهبوا معنا إلى الشام {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} في الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره: فأتياه فبلغاه الرسالة فقال فرعون لموسى عندئذٍ: ألم نربك في منازلنا صبياً صغيراً ؟ قصد فرعون بهذا الكلام المنَّ على موسى والاحتقار له كأنه يقول: ألست أنت الذي ربيناك صغيراً وأحسنّا إليك فمتى كان هذا الأمر الذي تدّعيه؟ {وَلَبثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} أي ومكثت بين ظهرانينا سنين عديدة نحسن إليك ونرعاك قال مقاتل: ثلاثين سنة {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} أي فجازيتنا على أن ربيناك أن كفرت نعمتنا وقتلتَ منا نفساً ؟ والتعبيرُ بالفعلة لتهويل الواقعة وتعظيم الأمر، ومرادهُ قتل القبطي {وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ} أي وأنت من الجاحدين لإِنعامنا الكافرين بإِحساننا قال ابن عباس: من الكافرين لنعمتي إذ لم يكن فرعون يعلم ما الكفر {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ} أي قال موسى: فعلتُ تلك الفعلة وأنا من المخطئين لأنني لم أتعمد قتله ولكن أردت تأديبه، ولم يقصد عليه السلام الضلال عن الهدى لأنه معصوم منذ الصغر وقال ابن عباس: {وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ} أي الجاهلين {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} أي فهربتُ إلى أرض مدين حين خفت على نفسي أن تقتلوني وتؤاخذوني بما لا أستحقه {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} أي فأعطاني الله النبوة والحكمة {وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ} أي واختارني رسولاً إليك، فإن آمنتَ سلمتَ، وإِن جحدتَ هلكتَ {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي كيف تمنُّ عليَّ بإِحسانك إليَّ وقد استعبدتَ قومي ؟ فما تعدُّه نعمة ما هو إلاّ نقمة قال ابن كثير: المعنى ما أحسنتَ إليَّ وربيتني مقابل ما اسأتَ إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيداً وخدماً، أوف في إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم؟ وقال الطبري: أي أتمنُّ عليَّ أن اتخذت بني إسرائيل عبيداً.



مجادلة موسى فرعون في إثبات وجود الله



{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ(23)قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ(24)قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ(25)قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ(26)قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27)قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ(28)قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ(29)قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ(30)قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(31)}.



{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي قال فرعون متعالياً متكبراً: من هو هذا الذي تزعم أنه ربُّ العالمين؟ هل هناك إلهٌ غيري؟ لأنه كان يجحد الصانع ويقول لقومه {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي قال موسى: هو خالق السماواتِ والأرض، والمتصرف فيهما بالإِحياء والإِعدام، وهو الذي خلق الأشياء كلها من بحار وقفار، وجبالٍ وأشجار، ونباتٍ وثمار، وغير ذلك من المخلوقات البديعة {إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} أي إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصارٌ نافذة، فهذا أمر ظاهر جلي {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} أي قال فرعون لمن حوله من أشراف قومه على سبيل التهكم والاستهزاء: ألا تسمعون جوابه وتعجبون من أمره ؟ أسأله عن حقيقة الله فيجيبني عن صفاته، فأجاب موسى وزاد في البيان والحجة {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ} أي هو خالقكم وخالق آبائكم الذين كانوا قبلكم، فوجودكم دليل على وجود القادر الحكيم، عدلَ عن التعريف العام إلى التعريف الخاص لأنَّ دليل الأنفس أقرب من دليل الآفاق، وأوضح عند التأمل {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} فعند ذلك غضب فرعون ونسب موسى إلى الجنون {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} سمَّاه رسولاً استهزاءً وأضافه إلى المخاطبين استنكافاً من نسبته له أي إن هذا الرسول لمجنون لا عقل له، أسأله عن شيء فيجيبني عن شيء، فلم يحفل موسى بسخرية فرعون وعاد إلى تأكيد الحجة بتعريفٍ أوضح من الثاني {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي هو تعالى الذي يطلع الشمس من المشرق ويجعلها تغرب من المغرب، وهذا مشاهد كل يوم يبصره العاقل والجاهل ولهذا قال {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي إن كان لكم عقول أدركتم أن هذا لا يقدر عليه إلا ربُّ العالمين، وهذا من أبلغ الحجج التي تقصم ظهر الباطل كقول إبراهيم في مناظرة النمرود {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} ولما انقطع فرعون وأُبلس في الحجة رجع إِلى الاستعلاء متوعداَ بالبطش والعنف {قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لاجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ} أي لئن اتخذت رباً غيري لألقينك في غياهب السجن قال المفسرون: وكان سجنه شديداً يحبس الشخص في مكان تحت الأرض وحده لا يبصر ولا يسمع فيه أحداً حتى يموت ولهذا لم يقل "لأسجننَّك" وإنما قال لأجعلنك من المسجونين لأن سجنه كان أشدَّ من القتل قال ابن جزي: لما أظهر فرعونُ الجهل بالله فقال {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} أجابه موسى بقوله { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فقال { أَلا تَسْتَمِعُونَ}؟ تعجباً من جوابه، فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ} لأن وجود الإِنسان وآبائه أظهرُ الأدلة عند العقلاء، وأعظم البراهين، فإِن أنفسهم أقرب الأشياء إليهم فيستدلون بها على وجود خالقهم، فلما ظهرت هذه الحجة حاد فرعون عنها ونسب موسى إلى الجنون مغالطةً منه، وأيّده بالازدراء والتهكم في قوله {إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} لأن طلوع الشمس وغروبها آية ظاهرة لا يمكن لأحدٍ جحدها ولا أن يدعيها لغير الله، فلما انقطع فرعون بالحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فهدَّده بالسجن، فأقام موسى عليه الحجة بالمعجزة وذكرها له بتلطف طمعاً في إِيمانه {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} أي أتسجنني ولو جئتك بأمرٍ ظاهرٍ، وبرهان قاطع تعرف به صدقي؟ {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي فائت بما تقول إن كنت صادقاً في دعواك.



وصف فرعون معجزة موسى عليه السلام بالسحر



{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ(32)وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ(33)قَالَ لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ(34)يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(35)قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ(36)يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ(37)}.



{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} أي رمى موسى عصاه فإِذا هي حية عظيمة في غاية الجلاء والوضوح، ذات قوائم وفم كبير وشكل هائل مزعج {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} أي وأخرج يده من جيبه فإِذا هي تتلألأ كالشمس الساطعة، لها شعاع يكادُ يعشي الأبصار ويسدُّ الأفق {قَالَ لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} أي قال فرعون لأشراف قومه الذين كانوا حوله : إن هذا لساحرٌ عظيم بارعٌ في فنِّ السحر .. أراد أن يُعمِّي على قومه تلك المعجزة برميه بالسحر خشية أن يتأثروا بما رأوا {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} أي يريد أن يستولي على بلادكم بسحره العظيم {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أي فبأي شيء تأمروني وبمَ تشيرون عليَّ أن أصنع به ؟ لما رأى فرعون تلك الآيات الباهرة خاف على قومه أن يتبعوه، فتنزَّل إلى مشاورتهم بعد أن كان مستبداً بالرأي والتدبير {قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ} أي أخِّرْ أمرهما {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} أي وأرسل في أطراف مملكتك من يجمع لك السحرة من كل مكان {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} أي يجيئوك بكل ساحر ماهر، عليم بضروب السحر قال ابن كثير: وكان هذا من تسخير الله تعالى ليجتمع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة.



إيمان السحرة بالله في المبارزة بينهم وبين موسى



{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(38)وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ(39)لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ(40)فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ(41)قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ(42)قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ(43)فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ(44)فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(45)فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(46)قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(47)رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(48)قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(49)قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ(50)إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ(51)}.



{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي فاجتمع السحرة للموعد المحدَّد وهو وقت الضحى من يوم الزينة، وهو الوقت الذي حدَّده موسى، ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد كما قال تعالى {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ} أي قيل للناس: بادروا إلى الاجتماع لكي نتبع السحرة في دينهم إن غلبوا موسى {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} أي إن غلبنا بسحرنا موسى فهل تكرمنا بالمال والأجر الجزيل ؟ {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} أي قال لهم فرعون: نعم أعطيكم ما تريدون وأجعلكم من المقربين عندي ومن خاصة جلسائي {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} في الكلام إيجاز دلَّ عليه السياق تقديره: فقالوا لموسى عن ذلك إمَّا أن تُلقي وإِما أن نكون الملقين كما ذكر في الأعراف فأجابهم موسى بقوله {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} أي ابدءوا بإِلقاء ما تريدون فأنا لا أخشاكم، قاله ثقةً بنصرة الله له وتوسلاً لإِظهار الحقِّ {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} أي فألقوا ما بأيديهم من الحبال والعصي وقالوا عند الإِلقاء نقسم بعظمة فرعون وسلطانه إنّا نحن الغالبون لموسى {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} أي فألقى موسى العصا فانقلبت حية عظيمة فإِذا هي تبتلع وتزدرد الحبال والعصي التي اختلقوها باسم السحر حيث خيلوها للناس حياتٍ تسعى، وسمّى تلك الأشياء إفكاً مبالغةً {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} أي سجدوا للهِ رب العالمين، بعدما شاهدوا البرهان الساطع، والمعجزة الباهرة {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ *رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} أي وقالوا عند سجودهم آمنا بالله العزيز الكبير الذي يدعونا إليه موسى وهارون قال الطبري: لما تبيّن للسحرة أن الذي جاءهم به موسى حقٌّ لا سحر، وأنه مما لا يقدر عليه غيرُ الله الذي فطر السماوات والأرض، خرّوا لوجوههم سجداً لله مذعنين له بالطاعة قائلين: آمنا برب العالمين الذي دعانا موسى لعبادته، دون فرعون وملئه {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } أي قال فرعون للسحرة: آمنتم لموسى قبل أن تستأذنوني ؟ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ} أي إنه رئيسكم الذي تعلمتم منه السحر وتواطأتم معه ليظهر أمره، أراد فرعون بهذا الكلام التلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أن السحرة آمنوا عن بصيرة وظهور حق قال ابن كثير: وهذه مكابرة يعلم كل أحدٍ بطلانها، فإِنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر ؟ هذا لا يقوله عاقل، ثم توعَّدهم بقوله {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي سوف تعلمون عند عقابي وبال ما صنعتم من الإِيمان به {لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} أي لأقطعنَّ يد كل واحد منكم اليمنى ورجله اليسرى {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} أي ولأصلبنَّ كل واحد منكم على جذع شجرة وأتركه حتى الموت {قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون} أي لا ضرر علينا في وقوع ما أوعدتنا به، ولا نبالي به لأننا نرجع إلى ربنا مؤملين غفرانه {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} أي إنا نرجو أن يغفر لنا الله ذنوبنا التي سلفت منا قبل إيماننا به فلا يعاقبنا بها {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} أي بسبب أن بادرنا قومنا إلى الإِيمان وكنا أول من آمن بموسى.



المنَاسَبَة:

ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة سبع قصص: أولها قصة موسى وهارون، وثانيها قصة إبراهيم، وثالثها قصة نوح، ورابعها قصة هود، وخامسها قصة صالح وسادسها قصة لوط وسابعها قصة شعيب، وكل تلك القصص لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من المشركين، ولا تزال الآيات تتحدث عن قصة موسى عليه السلام.



نجاة موسى وقومه وغرق فرعون وجنوده



{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ(52)فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ(53)إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ(54)وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ(55)وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ(56)فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(57)وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(58)كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ(59)فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ(60)فَلَمَّا تَرَاءَ الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61)قَالَ كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ(63)وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ(64)وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ(65)ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ(66)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(67)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(68)}.



{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أي أمرنا موسى بطريق الوحي أن يسير ليلاً إلى جهة البحر ببني إسرائيل قال القرطبي: أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً، وسمّاهم عباده لأنهم آمنوا بموسى {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} أي يتبعكم فرعون وقومه ليردُّوكم إلى أرض مصر ويقتلوكم {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} أي أرسل فرعون في طلبهم حين أخبر بمصيرهم وأمر أن يُجمع له الجيش من كل المُدُن قائلاً لهم {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} أي طائفة قليلة قال الطبري: كان بنو إسرائيل ستمائة وسبعين ألفاً ولكنه قلَّلهم بالنسبة إلى كثرة جيشه {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} أي وإِنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} أي ونحن قوم متيقظون منتبهون، من عادتنا التيقظ والحذر، واستعمالُ الحزم في الأمور قال الزمخشري: وهذه معاذير اعتذر بها إلى قومه لئلا يُظنَّ به ما يكسر من قهره وسلطانه، قال تعالى {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي أخرجنا فرعون وقومه من بساتين كانت لهم وأنهار جارية {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} أي وأخرجناهم من الأموال التي كنزوها من الذهب والفضة، ومن المنازل الحسنة والمجالس البهية {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي مثل ذلك الإِخراج الذي وضعناه فعلنا بهم، وأورثنا بني إسرائيل ديارهم وأموالهم بعد إغراق فرعون وقومه {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} أي فلحقوهم وقت شروق الشمس {فَلَمَّا تَرَاء الْجَمْعَانِ} أي فلما رأى كلٌّ منهما الآخر، والمراد جمعُ موسى وجمع فرعون {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي مُلحقون يلحقنا فرعون وجنوده فيقتلوننا، قالوا ذلك حين رأوا فرعون الجبار وجنوده وراءهم، والبحر أمامهم، وساءت ظنُونهُم {قَالَ كَلا} أي قال موسى كلاَّ لن يدركوكم فارتدعوا عن مثل هذا الكلام وانزجروا {إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} إنَّ ربي معي بالحفظ والنصرة، وسيهديني إلى طريق النجاة والخلاص قال الرازي: قوَّى نفوسهم بأمرين: أحدهما بأن ربه معه وهذا دلالة على النصرة والتكفل بالمعونة، والثاني قوله {سَيَهْدِينِ} أي إلى طريق النجاة والخلاص، وإِذا دلَّه على طريق نجاته وهلاك أعدائه فقد بلغ النهاية في النصرة {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} أي أمرنا موسى بطريق الوحي أن يضرب البحر بعصاه {فَانفَلَقَ} أي فضربه فانشق وانفلق {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} أي فكان كل جزء منه كالجبل الشامخ الثابت قال ابن عباس : صار فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبطٍ منهم طريق {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} أي وقربنا هناك فرعون وجماعته حتى دخلوا البحر على إثر دخول بني إسرائيل {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} أي أنجينا موسى والمؤمنين معه جميعاً {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} أي أغرقنا فرعون وقومه قال المفسرون: لما انفلق البحر جعله الله يبَساً لموسى وقومه، وصار فيه اثنا عشر طريقاً ووقف الماء بينها كالطود العظيم، فلما خرج أصحاب موسى وتكامل دخول أصحاب فرعون أمر الله البحر أن يطبق عليهم فغرقوا فيه، فقال بعض أصحاب موسى: ما غرق فرعون ! فنبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إنَّ في إغراق فرعون وقومه لعبرة عظيمة على إِنجاء الله لأوليائه، وإِهلاكه لأعدائه {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي ومع مشاهدة هذه الآية العظمى لم يؤمن أكثر البشر، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيدٌ لمن عصاه {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه.



قصة إبراهيم عليه السلام وتنديده بعبادة الأصنام



{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ(69)إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ(70)قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ(71)قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ(72)أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ(73)قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(74)قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77)الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78)وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79)وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80)وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ(81)وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82)}.



{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} هذه بداية قصة إبراهيم أي اقصص عليهم يا محمد خبر إبراهيم وشأنه العظيم {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} أي حين قال لأبيه وعشيرته أيَّ شيءٍ تعبدون؟ سألهم مع علمه بأنهم يعبدون الأصنام ليبيّن لهم سفاهة عقولهم في عبادة ما لا ينفع، ويقيم عليهم الحجة {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} أي نعبد أصناماً فنبقى مقيمين على عبادتها لا نتركها، قالوا ذلك على سبيل الابتهاج والافتخار، وكان يكفيهم أن يقولوا: نعبد الأصنام ولكنهم زادوا في الوصف كالمفتخر بما يصنع {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} أي قال لهم إبراهيم على سبيل التبكيت والتوبيخ: هل يسمعون دعاءكم حين تلجأون إليهم بالدعاء؟ {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} أي وهل يبذلون لكم منفعة، أو يدفعون عنكم مضرة؟ {قَالُوا بَلْ وَجَدْنا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أي وجدنا آباءنا يعبدونهم ففعلنا مثلهم قال أبو السعود: اعترفوا بأنها لا تنفع ولا تضر بالمرَّة، واضطروا إلى إظهار الحقيقة وهي أنه لا سند لهم سوى التقليد، وهذا من علامات انقطاع الحجة {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ} أي قال إبراهيم: أفرأيتم هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله أنتم وآباؤكم الأولون؟ {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} أي فإِن هذه الأصنام أعداء لي لا أعبدهم، ولكن أعبد الله ربَّ العالمين فهو وليي في الدنيا والآخرة، أسند العداوة لنفسه تعريضاً بهم وهو أبلغ في النصيحة من التصريح {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أي اللهُ الذي خلقني هو الذي يهديني إلى طريق الرشاد لا هذه الأصنام {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي هو تعالى الذي يرزقني الطعام والشراب فهو الخالق الرازق الذي ساق المُزْن، وأنزل المطر، وأخرج به أنواع الثمرات رزقاً للعباد {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} أي وإِذا أصابني المرض فإِنه لا يقدر على شفائي أحدٌ غيره، وأسند الشفاء إلى الله رعايةً للأدب، وإلاّ فالمرض والشفاء من الله جل وعلا فاستعمل في كلامه حسن الأدب {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} أي وهو تعالى المحيي المميت لا يقدر على ذلك أحد سواه، يميتني إذا شاء ثم يحييني إذا أراد بعد مماتي {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} أي أرجو من واسع رحمته أن يغفر لي ذنبي يوم الحساب والجزاء حيث يُجازي العباد بأعمالهم، وفيه تعليم للأمة أن يستغفروا من ذنوبهم ويقرُّوا بخطاياهم.



إخلاص إبراهيم عليه السلام في دعائه



{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ(83)وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ(84)وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ(85)وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ(86)وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ(87)يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ(88)إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)}.



{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} أي هب لي الفهم والعلم وألحقني في زمرة عبادك الصالحين {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} أي اجعل لي ذكراً حسناً وثناءً عاطراً {فِي الآخِرِينَ} أي فيمن يأتي بعدي إلى يوم القيامة، أُذكر به ويُقتدى بي قال ابن عباس: هو اجتماعُ الأمم عليه، فكلُّ أمةٍ تتمسك به وتُعظّمه {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} أي من السعداء في الآخرة الذين يستحقون ميراث جنات الخُلد {وَاغْفِرْ لأَبِي} أي اصفح عنه واهده إلى الإِيمان {إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ} أي ممن ضلَّ عن سبيل الهدى قال الصاوي: وقد أجابه الله تعالى في جميع دعواته سوى الدعاء بالغفران لأبيه وقال القرطبي: كان أبوه وعده أن يؤمن به فلذلك استغفر له، فلما بان له أنه لا يفي تبرأ منه {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أي لا تُذلَّني ولا تُهِنِّي يومَ تبعث الخلائق للحساب، وهذا تواضعٌ منه أمام عظمة الله وجلاله وإلا فقد أثنى الله عليه بقوله {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} الآية {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} أي في ذلك اليوم العصيب لا ينفع أحداً فيه مالٌ ولا ولد {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ} أي إلا من جاء ربَّه في الآخرة {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي بقلب نقيٍّ طاهر، سليم من الشرك والنفاق، والحسد والبغضاء، وإِلى هنا تنتهي دعوات الخليل إبراهيم ثم قال تعالى.



صورة شاملة ليوم القيامة، وتخاصم المشركين فيما بينهم



{وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ(90)وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ(91)وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(92)مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ(93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ(94)وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ(95)قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ(96)تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(97)إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(98)وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ(99)فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ(100)وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ(101)فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(102)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(103)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(104)}.



{وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي قُرِّبت الجنةُ للمتقين لربهم ليدخلوها قال الطبري: وهم الذين اتقوا عقابَ الله بطاعتهم إيّاه في الدنيا {وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} أي وأُظهرت النارُ للمجرمين الضالين حتى رأوها بارزة أمامهم مكشوفة للعيان، فالمؤمنين يرون الجنة فتحصل لهم البهجة والسرور، والغاوون يرون جهنم فتحصل لهم المساءة والأحزان {وَقِيلَ لَهُمْ} أي قيل للمجرمين على سبيل التقريع والتوبيخ {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي أين آلهتكم الذي عبدتموهم من الأصنام والأنداد ؟ {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} أي هل ينقذونكم من عذاب الله، أو يستطيعون أن يدفعوه عن أنفسهم؟ وهذا كله توبيخ {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} أي أُلقوا على رءوسهم في جهنم قال مجاهد: دُهوروا في جهنم وقال الطبري: رُمي بعضُهم على بعض، وطُرح بعضُهم على بعض منكبين على وجوههم {هُمْ وَالْغَاوُونَ} أي الأصنامُ والمشركون والعابدون والمعبودون كقوله {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} أي وأتباعُ إبليس قاطبة من الإِنس والجن {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} أي قال العابدون لمعبوديهم وهم في الجحيم يتنازعون ويتخاصمون {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي نقسم بالله لقد كنا في ضلالٍ واضح وبعدٍ عن الحق ظاهر {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي حين عبدناكم مع ربّ العالمين وجعلناكم مثله في استحقاق العبادة {وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ} أي وما أضلنا عن الهدى إلاّ الرؤساء والكبراء الذين زينوا لنا الكفر والمعاصي {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} أي ليس لنا من يشفع لنا من هول هذا اليوم {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} أي ولا صديقٍ خالص الود ينقذنا من عذاب الله {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي لو أن رجعنا إلى الدنيا {فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} أي فنؤمن بالله ونحسن عملنا ونطيع ربنا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إن فيما ذكر من نبأ إبراهيم وقومه لعبرةً يعتبر بها أولو الأبصار {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي وما كان أكثر هؤلاء المشركين الذين تدعوهم إلى الإِسلام بمؤمنين {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.





قصة نوح عليه السلام مع قومه



{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ(105)إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ(106)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(107)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(108)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(109)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(110)قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ(111)قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(112)إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ(113)وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ(114)إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ(115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ(116)قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ(117)فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(118)فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(119)ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ(120)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(121)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(122)}.



المنَاسَبَة:

لما قصَّ تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم خبر موسى وإِبراهيم أتبعه بذكر قصة نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وكلُّ ذلك تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يلقاه من قومه، وبيانٌ لسنة الله في عقاب المكذبين.



{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} أي كذَّب قوم نوح رسولهم نوحاً، وإِنما قال {الْمُرْسَلِينَ} لأن من كذَّب رسولاً فقد كذب الرسل {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} أي أخوهم في النسب لا في الدين لأنه كان منهم قال الزمخشري: وهذا من قول العرب: يا أخا بني تميم يريدون واحداً منهم ومنه بيت الحماسة "لا يسألون أخاهم حين يندبهم" {أَلا تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون عقاب الله في عبادة الأصنام ؟ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي إني لكم ناصح، أمينٌ في نصحي لا أخون ولا أكذب {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي خافوا عذابالله وأطيعوا أمري {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي لا أطلب منكم جزاءً على نصحي لكم {إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي ما أطلب ثوابي وأجري إلا من الله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} كرره تأكيداً وتنبيهاً على أهمية الأمر الذي دعاهم إليه {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ} أي أنصدّقك يا نوح فيما تقول {وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} أي والحال أن أتباعك هم السفلة والفقراء والضعفاء ؟ قال البيضاوي: وهذا من سخافة عقلهم وقصور رأيهم، فقد قصروا الأمر على حطام الدنيا حتى جعلوا اتّباع الفقراء له مانعاً عن اتباعهم وإِيمانهم بدعوة نوح {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ليس عليَّ أن أبحث عن خفايا ضمائرهم، وأن أُنقّب عن أعمالهم هل اتبعوني إخلاصاً أو طمعاً؟ قال القرطبي: كأنهم قالوا: إِنما اتبعك هؤلاء الضعفاء طمعاً في العزة والمال فقال في جوابهم: إني لم أقف على باطن أمرهم وإِنما لي ظاهرهم {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} أي ما حسابهم وجزاؤهم إلا على الله فإِنه المطّلع على السرائر والضمائر لو تعلمون ذلك {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} أي لست بمبعد هؤلاء المؤمنين الضعفاء عني، ولا بطاردهم عن مجلسي قال أبو حيان: وهذا مشعرٌ بأنهم طلبوا منه ذلك كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد من آمن من الضعفاء {إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي ما أنا إلا نذير لكم من عذاب الله، أخوفكم بأسه وسطوته فمن أطاعني نجا سواءً كان شريفاً أو ضيعاً، أو جليلاً أو حقيراً {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ} أي لئن لم تنته عن دعوى الرسالة وتقبيح ما نحن عليه لتكوننَّ من المرجومين بالحجارة، خوفوه بالقتل بالحجارة فعند ذلك حصل اليأس لنوحٍ من فلاحهم فدعا عليهم {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} أي قال نوح يا رب إن قومي كذبوني ولم يؤمنوا بي {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} أي فاحكم بيني وبينهم بما تشاء، واقض بيننا بحكمك العادل {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} أي أنقذني والمؤمنين معي من مكرهم وكيدهم {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي فأنجينا نوحاً ومن معه من المؤمنين في السفينة المملوءة بالرجال والنساء والحيوان {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} أي أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي لعبرة عظيمة لمن تفكر وتدبَّر {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي وما أكثر الناس بمؤمنين {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي وإِن ربك يا محمد لهو الغالب الذي لا يُقهر، الرحيم بالعباد حيث لا يعاجلهم بالعقوبة.










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-26, 18:02   رقم المشاركة : 59
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 تابع

قصة هود عليه السلام



{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ(123)إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ(124)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(125)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(126)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(127)أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ(128)وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ(129)وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ(130)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(131)وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ(132)أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ(133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(134)إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(135)قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ(136)إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ(137)وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(138)فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(139)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(140)}.



ثم شرع تعالى في ذكر قصة "هود" فقال {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} أي كذبت قبيلة عاد رسولهم هوداً، ومن كذَّب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم لغيره ‍! {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي أمينٌ على الوحي ناصح لكم في الدين {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي فخافوا عذاب الله وأطيعوا أمري {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي لا أطلب منكم على تبليغ الدعوة شيئاً من المال إِنما أطلب أجري من الله، كررت الآيات للتنبيه إلى أنَّ دعوةَ الرسل واحدة {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} ؟ استفهامٌ إنكاري أي أتبنون بكل موضع مرتفع من الطريق بناءً شامخاً كالعَلَم لمجرد اللهو والعبث ؟ قال ابن كثير: الريعْ المكان المرتفع كانوا يبنون عند الطرق المشهورة بنياناً محكماً هائلاً باهراً لمجرد اللهو واللعب وإِظهار القوة، ولهذا أنكر عليهم نبيُهم عليه السلام ذلك لأنه تضييعٌ للزمان، وإِتعابٌ للأبدان، واشتغالُ بما لا يُجدي في الدنيا ولا في الآخرة {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي وتتخذون قصوراً مشيَّدة محكمة ترجون الخلود في الدنيا كأنكم لا تموتون ؟ {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} أي وإِذا اعتديتم على أحد فعلتم فعل الجبارين من البطش دون رأفةٍ أو رحمة، وإِنما أنكر عليهم ذلك لأنه صادر عن ظلم عادة الجبابرة المتسلطين قال الفخر الرازي: وصفهم بثلاثة أمور: اتخاذ الأبنية العالية وهو يدل على السرف وحب العلو، واتخاذ المصانع - القصور المشيَّدة والحصون - وهو يدل على حب البقاء والخلود، والجبارية وهي تدل على حب التفرد بالعلو، وكلُّ ذلك يشير على أن حبَّ الدنيا قد استولى عليهم بحيث استغرقوا فيه حتى خرجوا عن حد العبودية، وحاموا حول ادعاء الربوبية، وحبُّ الدنيا رأسُ كل خطيئة {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي خافوا الله واتركوا هذه الأفعال وأطيعوا أمري، ثم شرع يذكّرهم بنعم الله فقال {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} أي أنعم عليكم بأنواع النعم والخيرات {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي أعطاكم أصول الخيرات من المواشي، والبنين، والبساتين، والأنهار، وأغدق عليكم النعم فهو الذي يجب أن يُعْبد ويُشْكر ولا يُكفر {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي أخشى عليكم إن لم تشكروا هذه النعم وأشركتم وكفرتم عذاب يومٍ هائل تشيب لهوله الولدان .. دعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب، وبلغ في دعائهم بالوعظِ والتخويفِ النهاية القصوى في البيان فكان جوابهم {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ} أي يستوي عندنا تذكيرك لنا وعدُمه، فلا نبالي بما تقول، ولا نرعوي عمّا نحن عليه قال أبو حيان: جعلوا قوله وعْظاً على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوَّفهم به إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به، وأنه كاذبٌ فيما ادَّعاه {إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} أي ما هذا الذي جئتنا به إلا كذبُ وخرافاتُ الأولين {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} أي فكذبوا رسولهم هوداً فأهلكناهم بريحٍ صرصرٍ عاتية قال ابن كثير: وكان إهلاكهم بالريح الشديدة الهبوب، ذات البرد الشديد وهي الريح الصرصر العاتية، وكان سبب إهلاكهم من جنسهم، فإِنهم كانوا أعتى شيءٍ وأجبره، فسلَّط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشدَّ، فحصبت الريح كل شيء حتى كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه، وترفعه في الهواء ثم تنكّسه على أم رأسه، فتشدخ رأسه ودماغه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إن في إهلاكهم لعظة وعبرة {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي وما آمن أكثر الناس مع رؤيتهم للآيات الباهرة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي وإِن ربك يا محمد لهو العزيزُ في انتقامه من أعدائه، الرحيمُ بعبادة المؤمنين.



قصة صالح عليه السلام



{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ(141)إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ(142)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(143)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(144)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(145)أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ(146)فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(147)وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ(148)وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ(149)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(150)وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ(151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ(152)قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(153)مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(154)قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(155)وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ(156)فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ(157)فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(158)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(159)}.



ثم شرع تعالى في ذكر قصة "صالح" فقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} أي كذبت قبيلة ثمود نبيَّهم "صالحاً" ومن كذَّب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} ؟ ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم غيره ! {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} كررت الآيات للتنبيه على أن دعوة الرسل واحدة، فكل رسولٍ يذكِّر قومه بالغاية من بعثته ورسالته، وأنها لصالح البشر{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} أي أيترككم ربكم في هذه الدنيا آمنين، مخلَّدين في النعيم، كأنكم باقون في الدنيا بلا موت ؟ قال ابن عباس: كانوا معمَّرين لا يقى البنيان مع أعمارهم، قال القرطبي: ودل على هذا قولُه تعالى {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} فقرَّعهم صالح ووبَّخهم وقال: أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي في بساتين وأنهار جاريات {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} أي وسهولٍ فسيحة فيها من أنواع الزروع والنخيل والرطب اللين ؟ أتتركون في كل ذلك النعيم دون حساب ولا جزاء قال المفسرون: كانت أرض ثمود كثيرة البساتين والماء والنخل فذكَّرهم صالحٌ بنعم الله الجليلة من إنبات البساتين والجنات، وتفجير العيون الجاريات، وإِخراج الزروع والثمرات، ومعنى "الهضيم" اللطيف الدقيق وهو قول عكرمة، وقال ابن عباس معناه: اليانع النضيج {وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} أي وتبنون بيوتاً في الجبال أشرين بطرين من غير حاجةٍ لسكناها قال الرازي: وظاهر هذه الآيات يدل على أنَّ الغالب على قوم "هود" هو اللذاتُ الخيالية وهي الاستعلاء، والبقاء، والتجبر، والغالب على قوم "صالح" هو اللذاتُ الحسية وهي طلب المأكول، والمشروب، والمساكن الطيبة وقال الصاوي: كانت أعمارهم طويلة فإِن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم، لأن الواحد منهم كان يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي فاتقوا عقاب الله وأطيعوني في نصيحتي لكم {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} أي ولا تطيعوا أمر الكبراء المجرمين {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} أي الذين عادتهم الفساد في الأرض لا الإِصلاح قال الطبري: وهم الرهط التسعة الذين وصفهم الله بقوله {وكان في المدينة تسعةُ رهطٍ يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون} {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ} أي من المسحورين سُحرت حتى غُلب على عقلك قال المفسرون: والمُسحَّر مبالغةٌ من المسحور {مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي لستَ يا صالح إلا رجلاً مثلنا، فكيف تزعم أنك رسول الله ؟ {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي فائتنا بمعجزة تدل على صدقك {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ} أي هذه معجزتي إليكم وهي الناقة التي تخرج من الصخر الأصم بقدرة الله قال المفسرون: روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عُشراء - حامل - تخرج من صخرة معينة وتلد أمامهم، فقعد صالح عليه السلام يتفكر فجاءه جبريل فقال: صلِّ ركعتين وسلْ ربك الناقة ففعل، فخرجت الناقة وولدت أمامهم وبركت بين أيديهم فقال لهم هذه ناقة يا قوم {لَهَا شِرْبٌ وَلَكمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي تشرب ماءكم يوماً، ويوماً تشربون أنتم الماء قال قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كلَّه، وشربهُم في اليوم الذي لا تشرب هي فيه، وتلك آيةٌ أخرى {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} أي لا تنالوها بأيِّ ضرر بالعقر أو بالضرب {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي فيصيبكم عذاب من الله هائل لا يكاد يوصف قال ابن كثير: حذَّرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء، فمكثت الناقة بين أظهرهم حيناً من الدهر، تردُ الماء وتأكل الورق والمرعى، وينتفعون بلبنها يحلبون منها ما يكفيهم شرباً وريَّاً، فلما طال عليهم الأمد وحضر أشقاهم تمالؤوا على قتلها وعقرها {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} أي فقتلوها رمياً بالسهام، رماها أشقاهم - قُدار بن سالف - بأمرهم ورضاهم فأصبحوا نادمين على قتلها خوف العذاب قال الفخر الرازي: لم يكن ندمهم ندم التائبين، لكن ندم الخائفين من العذاب العاجل {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} أي العذاب الموعود، وكان صيحةً خمدت لها أبدانهم، وانشقت لها قلوبهم، وزُلزلت الأرض تحتهم زلزالاً شديداً، وصُبَّت عليهم حجارة من السماء فماتوا عن آخرهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي لعظةً وعبرة لمن عقل وتدبَّر {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تقدم تفسيرها فيما سبق.



قصة لوط عليه السلام



{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ(160)إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ(161)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(162)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(163)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(164)أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ(165)وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ(166)قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ(167)قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ(168)رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ(169)فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ(170)إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ(171)ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ(172)وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ(173)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(174)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(175)}.



ثم شرع تعالى في ذكر قصة "لوط" فقال {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} أي كذبوا رسولهم لوطاً {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون عقاب الله وانتقامه في عبادتكم غيره ! {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} نفسُ الكلمات والألفاظ التي قالها من قبلُ صالحٌ، وهودٌ، ونوح مما يؤكد أن دعوة الرسل واحدة، وغايتها واحدة، وأن منشأها هو الوحي السماوي، ثم قال لهم لوط {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} استفهامُ إِنكارٍ وتوبيخٍ وتقريعٍ أي أَتنْكحون الذكور في أدبارهم، وتنفردون بهذا الفعل الشنيع من بين سائر الخلق ؟ {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} أي وتتركون ما أباح لكم ربكم من الاستمتاع بالإِناث؟ قال مجاهد: تركتم فروج النساء إلى أدبار الرجال {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} أي بل أنتم قوم مجاوزون الحدَّ في الإِجرام والفساد، وبَّخهم على إتيانهم الذكور، ثم أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في التوبيخ كأنه يقول خرجتم عن حدود الإِنسانية إلى مرتبة البهيمية بعدوانكم وارتكابكم هذه الجريمة الشنيعة، فالذكر من الحيوان يأنف عن إتيان الذكر، وأنتم فعلتم ما يتورع عنه الحيوان {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ} أي لئن لم تترك تقبيح ما نحن عليه لنخرجنك من بين أظهرنا وننفيك من بلدنا كما فعلنا بمن قبلك، توعدوه بالنفي والطرد {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنْ الْقَالِينَ} أي إني لعملكم القبيح من المبغضين غاية البغض وأنا بريء منكم {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} أي نجني من العذاب الذي يستحقونه بعملهم القبيح أنا وأهلي قال تعالى {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} أي نجيناه مع أهله جميعاً إلا امرأته كانت من الهالكين، الباقين في العذاب قال ابن كثير: والمراد بالعجوز امرأته فقد كانت عجوز سوء، بقيت فهلكت مع من بقي من قومها حين أمره الله أن يسريَ بأهله إلا امرأته {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} أي أهلكناهم أشد إهلاكٍ وأفظعه بالخسف والحَصْب {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} أي أمطرنا عليهم حجارة من السماء كالمطر الزاخر {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} أي بئس هذا المطر مطر القوم المُنْذرين الذين أنذرهم نبيهم فكذبوه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إنَّ في ذلك لعبرة وعظة لأولي البصائر {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تقدم تفسيره.



قصة شعيب عليه السلام



{كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ(176)إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ(177)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(178)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(179)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(180)أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ(181)وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ(182)وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(183)وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ(184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(185)وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ(186)فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(187)قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ(188)فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(189)إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(190)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(191)}.



ثم شرع تعالى في ذكر قصة "شعيب" فقال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} أي كذَّب أصحاب مدين نبيهم شعيباً قال الطبري: والأيكةُ: الشجرُ الملتف وهم أهل مدين {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} سبق تفسيره {أَوْفُوا الْكَيْلَ} أي أوفوا الناس حقوقهم في الكيل والوزن {وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ} أي من المُنْقِصين المُطَفِّفين في المكيال والميزان {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أي زنوا بالميزان العدل السويّ {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} أي لا تثنقصوا حقوق الناس بأي طريق كان بالهضم أو الغبن أو الغصب ونحو ذلك {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي ولا تُفسدوا في الأرض بأنواع الفساد من قطع الطريق، والغارة، والسلب والنهب {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} أي خافوا الله الذي خلقكم وخلق الخليقة المتقدمين قال مجاهد: الجِبِلَّة: الخليقة ويعني بها الأمم السابقين {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ} أي ما أنت إلا من المسحورين، سُحِرت كثيراً حتى غُلب على عقلك {وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي أنت إنسانٌ مثلنا ولست برسول {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ} أي ما نظنك يا شعيب إلاّ كاذباً، تكذب علينا فتقول أنا رسول الله {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنْ السَّمَاءِ} أي أنزلْ علينا العذاب قِطَعاً من السماء، وهو مبالغة في التكذيب {إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي إن كنت صادقاً فيما تقول قال الرازي: وإِنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه، فظنوا أنه إذا لم يقع ظهرَ كذبه فعندها أجابهم شعيب {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي الله أعلم بأعمالكم، فإِن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به وهو غير ظالم لكم، وإن كنتم تستحقون عقاباً آخر فإِليه الحكم والمشيئة، قال تعالى {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} أي فكذبوا شعيباً فأخذهم ذلك العذاب الرهيب عذابُ يوم الظُلَّة وهي السحابة التي أظلتهم قال المفسرون: بعث الله عليهم حراً شديداً فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، بعث الله عليهم سحابةً أظلَّتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً ونادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً، وكان ذلك من أعظم العذاب ولهذا قال {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي كان عذاب يوم هائل، عظيم في الشدة والهَول {إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} وإِلى هنا ينتهي آخر القصص السبع التي أوحيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لصرفه عن الحرص على إسلام قومه، وقطع رجائه ودفع تحسره عليهم كما قال في أول السورة {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ففيها تسلية لرسول الله وتخفيفٌ عن أحزانه وآلامه، وإنما كرر في نهاية كل قصة قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ليكون ذلك أبلغ في الاعتبار، وأشدَّ تنبيهاً لذوي القلوب والأبصار.





تنزيل القرآن من رب العالمين



{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ(194)بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ(196)أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ(197)وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ(198)فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ(199)كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ(200)لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ(201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(202)فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ(203)أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ(204)أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ(205)ثُمَّ جَاءهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ(206)مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ(207)وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ(208)ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ(209)وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210)وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211)إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(212)}.



سبب النزول:

نزول الآية (205):

{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ... } أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جهضم قال : "رئي النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه متحير، فسألوه عن ذلك، فقال: ولِمَ، ورأيت عدوي يكون من أمتي بعد ؟ فنزلت: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَاءهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ* مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} فطابت نفسه".



{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وإِن هذا القرآن المعجز لتنزيلُ ربّ الأرباب {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} أي نزل به أمين السماء جبريل عليه السلام {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ} أي أنزله على قلبك يا محمد لتحفظه وتُنذر بآياته المكذبين {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} أي بلسانٍ عربي فصيح هو لسان قريش، لئلا يبقى لهم عذر فيقولوا : ما فائدة كلامٍ لا نفهمه ؟ قال ابن كثير: أنزلناه باللسان العربي الفصيح، الكامل الشامل، ليكون بيناً واضحاً، قاطعاً للعذر مقيماً للحجة، دليلاً إلى المحجة {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} أي وإِن ذكر القرآن وخبره لموجودٌ في كتب الأنبياء السابقين {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً} الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي أولم يكن لكفار مكة علامة على صحة القرآن {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أن يعلم ذلك علماء بني إسرائيل الذين يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم كعبد الله بن سلام وأمثاله {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ} أي لو نزلنا هذا القرآن بنظمه الرائق المعجز على بعض الأعجمين الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} أي فقرأه على كفار مكة قراءة صحيحة فصيحة، وانضم إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء ما آمنوا بالقرآن لفرط عنادهم واستكبارهم {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} أي كذلك أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين، فسمعوا به وفهموه، وعرفوا فصاحته وبلاغته، وتحققوا من إعجازه ثم لم يؤمنوا به وجحدوه {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي لا يصدّقون بالقرآن مع ظهور إعجازه {حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} أي حتى يشاهدوا عذاب الله المؤلم فيؤمنوا حيث لا ينفع الإِيمان {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي فيأتيهم عذاب الله فجأة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي وهم لا يعلمون بمجيئه ولا يدرون {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} أي فيقولوا حين يفجأهم العذاب - تحسراً على ما فاتهم من الإِيمان وتمنياً للإِمهال - هل نحن مؤخرون لنؤمن ونصدّق {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} إِنكارٌ وتوبيخ أي كيف يستعجل العذاب هؤلاء المشركون ويقولون {ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}؟ وحاُلهم عند نزول العذاب أنهم يطلبون الإِمهال والنظرة؟ {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} أي أخبرني يا محمد إن متعناهم سنين طويلة، مع وفور الصحة ورغد العيش {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} أي ثم جاءهم العذاب الذي وُعدوا به {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}؟ أي ماذا ينفعهم حينئذٍ ما مضى من طول أعمارهم، وطيب معاشهم؟ هل ينفعهم ذلك النعيم في تخفيف الحزن، أو دفع العذاب؟ {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} أي وما أهلكنا أهل قرية من القرى، ولا أُمةً من الأمم {إِلا لَهَا مُنذِرُونَ} أي إلاّ بعدما ألزمناهم الحجة بإِرسال الرسل مبشرين ومنذرين {ذِكْرَى} أي ليكون إهلاكهم تذكرةً وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي وما كنا ظالمين في تعذيبهم، لأننا أقمنا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم .. ثم إنه تعالى بعد أن نبّه على إعجاز القرآن وصدق نبوة محمد عليه السلام ردَّ على قول من زعم من الكفار أن القرآن من إلقاء الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة فقال {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} أي وما تنزَّلت بهذا القرآن الشياطين، بل نزل به الروح الأمين {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أي وما يصح ولا يستقيم أن يتنزل بهذا القرآن الشياطين، ولا يستطيعون ذلك أصلاً {إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} أي لأنهم منعوا من استراق السمع منذ بعث محمد عليه السلام، وحيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب، فكيف يستطيعون أن يتنزلوا به ؟ قال ابن كثير: ذكر تعالى أنه يمتنع ذلك عليهم من ثلاثة أوجه: أحدها أنه ما ينبغي لهم لأن سجاياهم الفساد، وإضلال العباد، وهذا فيه نورٌ وهدى وبرهان عظيم، الثاني: أنه لو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك، وهذا من حفظ الله لكتابه وتأييده لشرعه الثالث: أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك لأنهم بمعزلٍ عن استماع القرآن، لأن السماء مُلئت حرساً شديداً وشهباً، فلم يخلص أحد من الشياطين لاستماع حرفٍ واحد منه لئلا يشتبه الأمر.





سبب النزول:

أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال: لما نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} بدأ بأهل بيته وفصيلته، فشقَّ ذلك على المسلمين فأنزل الله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}.



أدب الدعاة في الدعوة



{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ(213)وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ(214)وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(215)فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(216)وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217)الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219)إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(220)}.



{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره أي لا تعبد يا محمد مع الله معبوداً آخر {فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ} أي فيعذبك الله بنار جهنم قال ابن عباس: يُحذّر به غيره يقول: أنتَ أكرمُ الخلق عليَّ، ولو اتخذت من دوني إلهاً لعذبتك، ثم أمر تعالى رسوله بتبليغ الرسالة فقال {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} أي خوِّف أقاربك الأقرب منهم فالأقرب من عذاب الله إن لم يؤمنوا، روي أنه صلى الله عليه وسلم قام حين نزلت عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فقال: "يا معشر قريشٍ اشتروا أنفسكم من اللهِ لا أُغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباسُ بن عبدِ المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفيةُ عمةَ رسول الله لا أُغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمةُ بنتَ محمد سليني ما شئتِ لا أُغني عنك من الله شيئاً" قال المفسرون: وإِنما أُمر صلى الله عليه وسلم بإِنذار أقاربه أولاً لئلا يظن أحدٌ به المحاباة واللطف معهم فإِذا تشدَّد على نفسه وعلى أقاربه كان قوله أنفع، وكلامه أنجع {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} أي تواضعْ وأَلِنْ جانبك لأتباعك المؤمنين {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} أي فإِن لم يطيعوك وخالفوا أمرك فتبرأ منهم ومن أعمالهم قال أبو حيان: لما كان الإِنذار يترتب عليه الطاعة أو العصيان جاء التقسيم عليهما فكأن المعنى: من اتبعك مؤمناً فتواضع له، ومن عصاك فتبرأ منهم ومن أعمالهم {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي فوّض جميع أمورك إلى الله العزيز، الذي يقهر أعداءك بعزته، وينصرك عليهم برحمته {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي يراك حين تكون وحدك تقوم من فراشك أو مجلسك وقال ابن عباس: حين تقوم إلى الصلاة {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} أي ويرى تقلُّبك مع المصلين في الركوع والسجود والقيام، والمعنى يراك وحدك ويراك في الجماعة {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي إنه تعالى السميع لما تقوله، العليم بما تخفيه.





تنزُّل الشياطين على الكذبة الفَسقَة



{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(222)يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ(223)وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ(224)أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225)وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ(226)إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227)}.



سبب النزول:

نزول الآية (224) وما بعدها:

{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ}: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم آخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه، وهم السفهاء، فأنزل الله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ} الآيات

وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة قال: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ} إلى قوله: {مَا لا يَفْعَلُونَ} قال عبد الله بن رَواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ السورة.

وأخرج ابن جرير والحاكم عن أبي حسن البرّاد قال: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ} الآية، جاء عبد الله بن رواحة، كَعْب بن مالك، وحسان بن ثابت، فقالوا: يا رسول الله، والله لقد أنزل الله هذه الآية، وهو يعلم أنا شعراء، هلكنا، فأنزل الله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} الآية، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاها عليهم.



{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} ؟ أي قل يا محمد لكفار مكة: هل أخبركم، على من تتنزَّل الشياطين؟ وهذا ردٌّ عليهم حين قالوا إنما يأتيه بالقرآن الشياطين {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أي تتنزَّل على كل كذَّابٍ فاجر، مبالغٍ في الكذب والعدوان، لا على سيّد ولد عدنان {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} أي تُلقي الشياطين ما استرقوه من السمع إلى أوليائهم الكهنة، وأكثرهم يكذبون فيما يوحون به إليهم وفي الحديث (تلك الكلمةُ من الحقِّ يخطفها الجنيُّ فيقرقرها - أي يلقيها - في أُذن وليّه كقرقرة الدجاج، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة) قال الزمخشري: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} هم الشياطين كانوا قبل أن يُحجبوا بالرجم يسمّعون إلى الملأ الأعلى، فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم من الكهنة والمتنبئة {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} فيما يوحون به إليهم، لأنهم يُسمعونهم ما لم يسمعوا، ثم ردَّ تعالى على من زعم أن محمداً شاعر فقال {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} أي يتبعهم الضالون لا أهل البصيرة والرشاد {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} أي ألم تر أيها السامع العاقل أنهم يسلكون في المديح والهجاء كل طريق، يمدحون الشيء بعد أن ذمّوه، ويعظّمون الشخص بعد أن احتقروه قال الطبري: وهذا مثلٌ ضربه الله لهم في افتتانهم في الوجوه التي يُفتنون فيها بغير حق، فيمدحون بالباطل قوماً ويهجون آخرين {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} أي يكذبون فينسبون لأنفسهم ما لم يعملوه قال أبو حيان: أخبر تعالى عن الشعراء بالأحوال التي تخالف حال النبوة، إذْ أمرهُم كما ذُكر من اتّباع الغُواة لهم، وسلوكهم أفانين الكلام من مدح الشيء وذمّه، ونسبة ما لا يقع منهم إليهم، وهذا مخالف لحال النبوة فإِنها طريقة واحدة لا يتبعها إلا الراشدون، ثم استثنى تعالى فقال {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي صدقوا في إيمانهم وأخلصوا في أعمالهم {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} أي لم يشغلهم الشعرُ عن ذكر الله ولم يجعلوه همَّهم ودينهم {وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} أي هجوا المشركين دفاعاً عن الحق ونصرةً للإِسلام {وَسيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} وعيدٌ عام في كل ظالم، تتفتت له القلوب وتتصدع لهوله الأكباد أي وسيعلم الظالمون المعادون لدعوة الله ومعهم الشعراء الغاوون {أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}؟ أي أيَّ مرجع يرجعون إليه، وأي مصيرٍ يصيرون إليه؟ فإِنَّ مرجعهم إلى العقاب وهو شرُّ مرجع، ومصيرهم إلى النار وهو أقبح مصير.










رد مع اقتباس
قديم 2011-03-26, 20:26   رقم المشاركة : 60
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 سورة النمل

سورة النمل



التسميَة

القرآن هداية للمؤمنين

قصة موسى عليه السلام

قصة داود وسليمان عليهما السلام

قصة سليمان عليه السلام مع الهدهد

جواب بلقيس على كتاب سليمان عليه السلام

إسلام بلقيس وزيارتها لسليمان عليه السلام

قصة صالح عليه السلام

قصة لوط عليه السلام

دلائل القدرة والوحدانية

علم الغيب لله وحده

إنكار المشركين للبعث

ذكر أوصاف القرآن الكريم

إخراج دابة الأرض وحشر الأمم

النفخ في الصور وتسيير الجبال

الأمر بعبادة الله وتلاوة القرآن







بَين يَدَي السُّورَة



* سورة النمل من السور المكية التي تهتم بالحديث عن أصول العقيدة "التوحيد، والرسالة، والبعث" وهي إحدى سور ثلاث نزلت متتالية، ووضعت في المصحف متتالية وهي "الشعراء، والنمل، والقصص" ويكاد يكون منهاجها واحداً، في سلوك مسلك العظة والعبرة، عن طريق قصص الغابرين.



* تناولت السورة الكريمة القرآن العظيم، معجزة محمد الكبرى، وحجته البالغة إلى يوم الدين، فوضحت أنه تنزيل من حكيم عليم، ثم تحدثت عن قصص الأنبياء بإيجاز في البعض، وإسهابٍ في البعض، فذكرت بالإجمال قصة "موسى" وقصة "صالح" وقصة "لوط" وما نال أقوامهم من العذاب والنكال، بسبب إعراضهم عن دعوة الله، وتكذيبهم لرسله الكرام.



* وتحدثت بالتفصيل عن قصة "داود" وولده "سليمان" وما أنعم الله عليهما من النعم الجليلة، وما خصهما به من الفضل الكبير بالجمع بين النبوة والمُلْك الواسع، ثم ذكرت قصة "سليمان مع بلقيس" ملكة سبأ.



* وفي هذه القصة مغزى دقيق لأصحاب الجاه والسلطان، والعظماء والملوك، فقد اتخذ سليمان المُلْك وسيلةً للدعوة إلى الله، فلم يترك حاكماً جائراً ولا ملكاً كافراً إلا دعاه إلى الله، وهكذا كان شأنه مع "بلقيس" حتى تركت عبادة الأوثان، وأتت مع جندها خاضعةً مسلمةً، مستجيبةً لدعوة الرحمن.



* وتناولت السورة الكريمة الدلائل والبراهين على وجود الله ووحدانيته، من آثار مخلوقاته وبدائع صنعه، وساقت بعض الأهوال والمشاهد الرهيبة، التي يراها الناس يوم الحشر الأكبر، حيث يفزعون ويرهبون، وينقسمون إلى قسمين: السعداء الأبرار، والذين يكبون على وجوههم في النار.



التسميَة:

سميت سورة النمل، لأن الله تعالى ذكر فيها قصة النملة، التي وعظت بني جنسها وذكَّرت ثم اعتذرت عن سليمان وجنوده، ففهم نبيُّ الله كلامها وتبسم من قولها، وشكر الله على ما منحه من الفضل والإنعام، وفي ذلك أعظم الدلالة على علم الحيوان، وأنَّ ذلك من إلهام الواحد الديان.



القرآن هداية للمؤمنين



{طس تِلْكَ ءاياتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ(1)هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(2)الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(3)إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ(4)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ(5)وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ(6)}.



{طس} الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وقد تقدم الكلام عليها {تِلْكَ ءاياتُ الْقُرْآنِ} أي هذه الآيات المنزَّلة عليك يا محمد هي ءاياتُ القرآن المعجز في بيانه، الساطع في برهانه {وَكِتَابٍ مُبِينٍ} أي وآياتُ كتابٍ واضحٍ مبين لمن تفكر فيه وتدبَّر، أبان اللهُ فيه الأحكام، وهدى به الأنام {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي تلك ءايات القرآن الهادي للمؤمنين إلى صراطٍ مستقيم، والمبشر لهم بجنات النعيم، خصَّ المؤمنين بالذكر لانتفاعهم به {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} أي يؤدونها على الوجه الأكمل بخشوعها، وآدابها، وأركانها {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي يدفعون زكاة أموالهم طيبةً بها نفوسهم {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أي يصدقون بالآخرة تصديقاً جازماً لا يخالجه شك أو ارتياب قال الإمام الفخر الرازي: والجملة إعتراضية كأنه قيل وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة، فما يوقن بالآخرة حقَّ الإيقان إلاّ هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق وقال أبو حيان: ولما كان {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} مما يتجدَّد ولا يستغرق الأزمان جاءت الصلة فعلاً، ولما كان الإيمان بالآخرة بما هو ثابت ومستقر جاءت الجملة اسمية وأُكدت بتكرار الضمير {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وجاء خبر المبتدأ فعلاً ليدل على الديمومة، ولما ذكر تعالى المؤمنين الموقنين بالبعث، ذكر بعدها المنكرين المكذبين بالآخرة فقال {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي لا يصدّقون بالبعث {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} أي زينا لهم أعمالهم القبيحة حتى رأوها حسنة قال الرازي: والمراد من التزيين هو أن يخلق في قلبه العلم بما فيها من المنافع واللذات، ولا يخلق في قلبه العلم بما فيها من المضار والآفات {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} أي فهم في ضلال أعمالهم القبيحة يترددون حيارى لا يميزون بين الحسن والقبيح {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} أي لهم أشد العذاب في الدنيا بالقتل والأسر والتشريد {وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ} أي وخسارتهم في الآخرة أشد من خسارتهم في الدنيا لمصيرهم إلى النار المؤبدة والجحيم والأغلال {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} أي وإنك يا محمد لتتلقى هذا القرآن العظيم وتُعطاه {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} أي من عند الله الحكيم بتدبير خلقه، العليم بما فيه صلاحهم وسعادتهم قال الزمخشري: وهذه الآية بسطٌ وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص، وما في ذلك من لطائف حكمته، ودقائق علمه.



قصة موسى عليه السلام



{إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ(7)فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(8)يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(9)وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ(10)إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ(11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ ءاياتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(12)فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ ءاياتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ(13)وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(14)}.



{إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} أي اذكر يا محمد حين قال موسى لأهله - أي زوجته - إني أبصرتُ ورأيت ناراً قال المفسرون: وهذا عندما سار من مدين إلى مصر، وكان في ليلة مظلمة باردة، وقد ضلَّ عن الطريق وأخذ زوجته الطَّلقُ {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} أي سآتيكم بخبرٍ عن الطريق إذا وصلتُ إليها {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} أي أو آتيكم بشعلةٍ مقتبسة من النار {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي لكي تستدفئوا بها {فَلَمَّا جَاءَهَا} أي فلما وصل إلى مكان النار رأى منظراً هائلاً عظيماً، حيث رأى النار تضطرم في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا توقداً، ولا تزداد الشجرةُ إلا خضرةً ونُضْرة، ثم رفع رأسه فإِذا نورها متصلٌ بعنان السماء قال ابن عباس: لم تكن ناراً وإِنما كانت نوراً يتوهج فوقف موسى متعجباً ممّا رأى وجاءه النداء العلوي {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} أي نودي من جانب الطور بأن بوركتَ يا موسى وبورك من حولك من الملائكة قال ابن عباس: معنى {بُورِكَ} تقدَّس {وَمَنْ حَوْلَهَا} الملائكةُ قال أبو حيان: وبدؤه بالنداء تبشيرٌ لموسى وتأنيسٌ له ومقدمةٌ لمناجاته، وجديرٌ أن يبارك من في النار ومن حواليها إذ قد حدث أمرٌ عظيم وهو تكليم الله لموسى وتنبيئه {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي تقدَّس وتنزَّه ربُّ العزة، العليُّ الشأن، الذي لا يشبهه شيء من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي أنا الله القويُّ القادر، العزيز الذي لا يُقهر، الحكيم الذي يفعل كل شيء بحكمةٍ وتدبير{وَأَلْقِ عَصَاكَ} عطفٌ على السابق أي ونودي أن ألق عصاك لترى معجزتك بنفسك فتأنس بها {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} أي فلما رآها تتحرك حركة سريعة كأنها ثعبان خفيف سريع الجري {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي ولّى الأدبار منهزماً ولم يرجع لما دهاه من الخوف والفزع قال مجاهد: "لم يُعقب" لم يرجع، وقال قتادة: لم يلتفت، لحقه ما لحق طبع البشر إذا رأى أمراً هائلاً جداً وهو انقلاب العصا حيةً تسعى ولهذا ناداه ربه {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} أي أقبل ولا تخف لأنك بحضرتي ومن كان فيها فهو آمنٌ {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} أي فأنت رسولي ورسلي الذين اصطفيتهم للنبوة لا يخافون غيري قال ابن الجوزي: نبَّهه على أن من آمنَه الله بالنبوة من عذابه لا ينبغي أن يخاف من حيَّة {إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} الاستثناء منقطع أي لكنْ من ظلم من سائر الناس لا من المرسلين فإِنه يخاف إلا إذا تاب وبدَّل عمله السيء إلى العمل الحسن {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة قال ابن كثير: وفيه بشارة عظيمةٌ للبشر وذلك أن من كان على عمل سيء، ثم أقلع ورجع وتاب وأناب فإِن الله يتوب عليه كقوله {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} هذه معجزةٌ أُخرى لموسى تدل على باهر قدرة الله والمعنى أدخل يا موسى يدك في فتحة ثوبك ثم أخرجها تخرج مضيئة ساطعة بيضاء تتلألأ كالبرق الخاطف دون مرضٍ أو برص {فِي تِسْعِ ءاياتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} أي هاتان المعجزتان "العصا واليد" ضمن تسعِ معجزاتٍ أيدتك بها وجعلتُها برهاناً على صدقك لتذهب بها إلى فرعون وقومه {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} أي خارجين عن طاعتنا، ممعنين في الكفر والضلال {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ ءاياتُنَا مُبْصِرَةً} أي فلما رأوا تلك المعجزات الباهرة، واضحةً بينةً ظاهرة {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي أنكروها وزعموا أنها سحرٌ واضح {وَجَحَدُوا بِهَا} أي كفروا وكذبوا بتلك الخوارق {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} أي وقد أيقنوا بقلوبهم أنها من عند الله وليست من قبيل السحر {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} أي جحدوا بها ظلماً من أنفسهم، واستكباراً عن اتباع الحق، وأيُّ ظلمٍ أفحش ممن يعتقد ويستيقن أنها ءايات بينة واضحة جاءت من عند الله، ثم يكابر بتسميتها سحراً؟ ولهذا قال {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي انظر أيها السامع وتدبر بعين الفكر والبصيرة ماذا كان مآلُ أمر الطاغين، من الإِغراق في الدنيا، والإِحراق في الآخرة ؟ قال ابن كثير: وفحوى الخطاب كأنه يقول: احذروا أيها المكذبون لمحمد، الجاحدون لما جاء به من ربه، أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى، فإِن محمداً صلى الله عليه وسلم أشرفُ وأعظمُ من موسى، وبرهانُه أدلُّ وأقوى من برهان موسى، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.



قصة داود وسليمان عليهما السلام



{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ(15)وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ(16)وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ(17)حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(18)فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(19)}.



{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} هذه هي القصة الثانية في السورة الكريمة وهي قصة "داود وسليمان"، والمعنى: واللهِ لقد أعطينا داود وابنه سليمان علماً واسعاً من علوم الدنيا والدين، وجمعنا لهما بين سعادة الدنيا والآخرة قال الطبري: وذلك علم كلام الطير والدواب وغير ذلك مما خصَّهم الله بعلمه {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} أي وقالا شكراً لله الحمد الله الذي فضلنا بما آتانا من النبوة، والعلم، وتسخير الإِنس والجن والشياطين، على كثيرٍ من عباده المؤمنين {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} أي ورث سليمانُ أباه في النبوة، والعلم، والمُلْك دون سائر أولاده قال الكلبي: كان لداود تسعة عشر ولداً فورث سليمانُ من بينهم نبوته وملكه، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} أي وقال تحدثاً بنعمة الله: يا أيها الناسُ لقد أكرمنا اللهُ فعلِّمنا منطق الطير وأصوات جميع الحيوانات {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي وأعطانا الله من كل شيء من خيرات الدنيا يعطاها العظماء والملوك {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} أي إن ما أُعطيناه وما خصَّنا الله به من أنواع النعم لهو الفضل الواضح الجلي، قاله على سبيل الشكر والمحمدة لا على سبيل العلوّ والكبرياء {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ} أي جمعت له جيوشه وعساكره وأُحضرت له في مسيرةٍ كبيرة فيها طوائف الجن والإِنس والطير، يتقدمهم سليمان في أُبَّهة وعظمةٍ كبيرة {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي فهم يُكَفُّون ويمنعون عن التقدم بين يديه قال ابن عباس: جعل على كل صنفٍ من يردُّ أولاها على أُخراها لئلا يتقدموا في المسير كما تصنع الملوك {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ} أي حتى إذا وصلوا إلى وادٍ بالشام كثير النمل {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} أي قالت إحدى النملات لرفيقاتها ادخلوا بيوتكم، خاطبتهم مخاطبة العقلاء لأنها أمرتهم بما يؤمر به العقلاء {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} أي لا يكسرنَّكم سليمانُ وجيوشه بأقدامهم {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي وهم لا يشعرون بكم ولا يريدون حطمكم عن عمد، حذَّرت ثم اعتذرت لأنها علمت أنه نبيٌّ رحيم، فسمع سليمان كلامها وفهم مرامها {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} أي فتبسَّم سروراً بما سمع من ثناء النملة عليه وعلى جنوده، فإِن قولها {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وصفٌ لهم بالتقوى والتحفظ من مضرة الحيوان {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} أي ألهمني ووفقني لشكر نعمائك وأفضالك التي أنعمت بها عليَّ وعلى أبويَّ {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} أي ووفقني لعمل الخير الذي يقربني منك والذي تحبه وترضاه {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} أي وأدخلني الجنة دار الرحمة مع عبادك الصالحين.



قصة سليمان عليه السلام مع الهدهد



{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ(20)لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لاذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ(21)فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ(22)إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ(23)وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ(24)أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ(25)اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(26)قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(27) اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ(28)}.



{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} أي بحث سليمان وفتَّش عن جماعة الطير {فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ} أي لا أرى الهُدهد ههنا ؟ قال المفسرون: كانت الطير تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها، فلما فصل سليمان عن وادي النمل ونزل في قفرٍ من الأرض، عطش الجيش فسألوه الماء، وكان الهدهد يدله على الماء فإِذا قال: ههنا الماء شقت الشياطين وفجَّرت العيون، فطلبه في ذلك اليوم فلم يجده فقال مالي لا أراه {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} أمْ منقطعة بمعنى "بل" أي بل هو غائب، ذهب دون إذنٍ مني {لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي لأعاقبنه عقاباً أليماً بالسجن أو نتف الريش أو الذبح أو ليأتيني بحجة واضحة تبيّن عذره {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي فأقام الهدهد زماناً يسيراً ثم جاء إلى سليمان {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي اطلعت على ما لم تطّلع عليه وعرفت ما لم تعرفه {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} أي وأتيتُكَ من مدينة سبأ - باليمن - بخبرٍ هامٍ، وأمر صادقٍ خطير {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} أي من عجائب ما رأيت أن امرأة - تسمى بلقيس - هي ملكة لهم، وهم يدينون بالطاعة لها {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي وأُعطيت من كل شيء من الأشياء التي يحتاج إليها الملوك من أسباب الدنيا من سعة المال وكثرة الرجال ووفرة السلاح والعتاد {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي ولها سرير كبير مكلَّل بالدر والياقوت قال قتادة: كان عرشُها من ذهب، قوائمُه من جوهر، مكلَّل باللؤلؤ قال الطبري: وعنى بالعظيم في هذا الموضع العظيم في قدره وخطره، لا عظمه في الكبر والسعة، ولهذا قال ابن عباس: {عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي سرير كريم حسن الصنعة، وعرشُها سريرٌ من ذهب قوائمُه من جوهرٍ ولؤلؤ، ثم أخذ يحدثه عما هو أعظم وأخطر فقال {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي وجدتهم جميعاً مجوساً يعبدون الشمس ويتركون عبادة الواحد الأحد {وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي حسَّن لهم إبليس عبادتهم الشمس وسجودهم لها من دون الله {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} أي منعهم بسبب هذا الضلال عن طريق الحق والصواب {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} أي فهم بسبب إغواء الشيطان لا يهتدون إلى الله وتوحيده، ثم قال الهدهد متعجباً {أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي أيسجدون للشمس ولا يسجدون للهِ الخالق العظيم، الذي يعلم الخفايا ويعلم كل مخبوء في العالم العلوي والسفلي؟ قال ابن عباس: يعلم كل خبيئةٍ في السماء والأرض {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أي ويعلم السرَّ والعلن، ما ظهر وما بطن {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} أي هو تعالى المتفرد بالعظمة والجلال، ربُّ العرش الكريم المستحق للعبادة والسجود، وخصَّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات، وإِلى هنا انتهى كلام الهُدهد {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي قال سليمان: سننظر في قولك ونتثبت هل أنت صادقٌ أم كاذب فيه ؟ قال ابن الجوزي: وإِنما شكَّ في خبره لأنه أنكر أن يكون لغيره سلطان، ثم كتب كتاباً وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهُدهد وقال {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} أي اذهب بهذا الكتاب وأوصلْه إلى ملكة سبأ وجندها {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي تنحَّ إلى مكان قريب مستتراً عنهم {فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} أي فانظر ماذا يردون من الجواب ؟ قال المفسرون: أخذ الهدهد الكتاب وذهب إلى بلقيس وقومها، فرفرف فوق رأسها ثم ألقى الكتاب في حجرها.










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
القرآن, الكريم, تفسير


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 13:58

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc