إنه التابعي الجليل ربيعة الرأي الذي يقول عنه أحد العلماء ما رأيت أحدا أحفظ للسنة من ربيعة الرأي.
تبدأ قصة ربيعة من خلال والده فروخ الذي خرج للجهاد سنة إحدى وخمسين للهجرة وكتائب المسلمين تضرب في فجاج الأرض تنشر العقيدة وتمتدّ لإصلاح البشرية وترفع الظلم عن البشر وتحرر الإنسان من عبودية الإنسان ليكون عبدا لله وحده لا شريك له.
و قائد جيش هذه الكتائب هو الصحابي الجليل الربيع بن زياد الحارثي أمير خراسان وفاتح سجستان والجمهوريات الإسلامية التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي يمضي على رأس جيشه الغازي في سبيل الله ومعه غلام شجاع اسمه فروخ والغلام هو الذي حرر بعد أن كان عبدا.
هذا القائد العظيم عزم بعد أن فتح سجستان وغيرها من هذه البقاع أن يختم حياته بعبور نهر سيحون وهو النهر الذي أعاق تقدم المسلمين.
وصار سدا بينهم وبين الفتوحات وسميت تلك المناطق التي لم تفتح مناطق ما وراء سيحون.
ولو اخترق جيش المسلمين سيحون لفتحوا كل المناطق التي خلفها.
والربيع بن زياد القائد العظيم رضي الله عنه أعد للمعركة الموعودة عدتها وأخذ أهبته وحدد المكان الذي سيهجم منه وهجم من هذا المكان وأبلى المسلمون بلاء عظيما وكان فتحا عظيما للجند المغاوير ظل التاريخ يذكره إلى هذا الزمان.
وأظهر هذا المجاهد فروخ أنواع البسالات وصنوف الإقدام وازداد إعجاب الربيع به وانجلت المعركة بنصر مؤزّر للمسلمين.
زلزلوا أقدام العدو وشتتوا صفوفهم وعبروا نهر سيحون الذي كان يحول دون الانسياح في مناطق الصين وممالك الصعد وغيرها من بلاد الترك التي كانت معطلة بسبب النهر.
فتح هذا النهر العظيم وما أن عبر القائد العظيم جانب النهر ويستقر فيه حتى أمر أن تصلى صلاة الفتح شكرا لله تعالى على نصرهم فصلوا ركعتين وشكروا الله تعالى.
ثم كافأ القائد غلامه فروخ وأمثاله الذين أبلوا البلاء الحسن وأعطاهم الغنائم التي يستحقونها وزاده من عنده.
بعد هذا الفتح توسعت الفتوحات في ما وراء النهر واستمر الربيع بن زياد في فتوحاته ثم توفي بعد فتح سيحون بسنتين ومضى إلى ربه.
أما الفتى الباسل الشجاع فروخ فظل في الجهاد كل هذه السنين وكان قد ترك المدينة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره عشرون سنة.
انقطع للجهاد وانشغل عن أهله حتى أصبح عمره خمسون سنة لقد أمضى ثلاثين سنة من عمره وهو يجاهد والمسافة كانت بينه وبين أهله طويلة لهذا لم يكن بوسعه أن يعود إلى أهله ويراهم والفتوحات كانت متوالية لهذا لم يستطع أن يعود إلى أهله في المدينة وأوكل أمرهم إلى الله تعالى.
ولما صار عمره خمسين سنة وجسده لم يعد كما كان قرر العودة إلى المدينة ليستقر فيها ومعه سهمه من الجهاد الذي كان يساوي أربعة آلاف دينار من الذهب ومن الهبة السخية التي أعطاها إياه القائد العظيم.
رجع ومعه ذكريات طيبة من أيام الجهاد والفتوحات والبطولات وغبار المعارك.
وبدأ يتذكر المدينة التي كان فيها ويتذكر أيامه فيها.
لقد عزم أن يعود إلى زوجته نعم لقد كان متزوجا من امرأة راجحة في العقل قريبة منه في السن.
ابتاع قبل الجهاد بيتا في وسط المدينة وسكن فيه هو وزوجته وفرح بهذه الدار وعاش مع زوجته في سعادة وحملت منه زوجته وفي هذه الفترة ناد مناد الجهاد قائلا إن الجيش الإسلامي في الشرق يحتاج للرجال أيا كانوا.
واشتد طلب الخلفاء للرجال من أجل مساعدة جيش المسلمين في الشرق وما استطاع فروخ إلا أن يجيب وقرر أن يترك المدينة المنورة ليذهب إلى الجهاد عسى أن يقبضه الله تعالى شهيدا في سبيله.
ذهب فروخ إلى زوجته مخبرا إياها عزمه على الجهاد فقالت له يا أبا عبد الرحمن أنا امرأة حامل وليس عندي من أستند عليه من أب وأخ وغيره فإلى من تتركني.
اصبر حتى ألد ويكبر الولد ثم بعد ذلك اذهب.
فقال لها هذا يحتاج إلى وقت طويل وأنا أريد الجهاد ومنادي الجهاد ينادي.
فقالت إننا لا أهل لنا في هذه المدينة ولا عشيرة فإلى من تتركني....؟
فقال لها أتركك لله ولرسوله.
ثم إنني قد جمعت مما ورثت من أهلي ومن الجهاد ثلاثين ألف دينار من الذهب وهي تكفيك الدهر كله بل أكثر من هذا إنك إذا استثمرت هذه الأموال فإنك ستعيشين بها وتبقى الأموال كما هي.
فصونيها واستثمريها وأنفقي على نفسك وعلى وليدك إلى أن أعود إليك أو يرزقني الله الشهادة.
أصرّ على نفسه وودع الأهل وسافر مع جيش المسلمين وبقيت هي وابنها وحيدة لا تعرف شيئا.
وبعد سفره بعدة أشهر ولدت زوجته ولدا مشرق الوجه حلو القسمات وفرحت به فرحا عظيما أنساها فراق أبيه وأطلقت عليه اسم ربيعة.
بدأ الولد يكبر وظهر الذكاء في أفعاله وأقواله وأسلمته أمه إلى المعلمين وأوصتهم أن يحسن التعليم وطلبت له المؤدبين حتى أتقن القراءة والكتابة وحفظ كتاب الله عز وجل وهو طفل صغير وأخذ يحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويحفظ اللغة العربية حتى صار من فصائح جيله وفرحت أمه بما وصل إليه ربيعة وأخذت تغدق من الأموال على العلماء الذين يعلمونه ويحفظونه.
وكلما ازداد علما ازدادت إكراما وإغداقا عليهم.
وبدأت الأموال تقل لأنها لم تستثمرها وفي نفس الوقت كانت تنتظر عودة أبيه الغائب لتريه ابنه العالم الأديب الصالح.
وطالت الأيام وكثرت الإشاعات فمن الناس من يقول إنه ما زال يجاهد مع جيش المسلمين ومنهم من قال إنه أسر بيد الأعداء وجاء الخبر الأخير أن فرّوخ نال الشهادة وترجح هذا الخبر وحزنت عليه حزنا.
ولكن حقيقة أمر فروخ أنه انقطعت أخباره فاحتسبت زوجها عند الله تعالى واحتسبت ابنها ليكون نفعا لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
في هذه اللحظات جاء الناصحون إلى أم ربيعة وقالوا لها إن ربيعة قد استكمل ما ينبغي عليه أن يحفظه بل زاد على ذلك في حفظه للقرآن بالقراءات والحديث.
فحبذا لو علمتيه حرفة يكسب من خلالها غدا إذا كبر.
فقالت كلمة عجيبة وهي:
أسأل الله أن يخير له ما فيه صلاح معاشه ومعاده إن ربيعة قد اختار لنفسه العلم وعزم أن يعيش على العلم معلما ومتعلما ما امتدت به الحياة.
مضى ربيعة في الطريق الذي اختاره بنفسه وظل في حلقات العلم يقبل على العلماء ولزم من بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كأنس بن مالك رضي الله عنه وتعلم من كبار التابعين وهو من كبار التابعين لكن هناك من التابعين من سبقه في العمر والعلم كسعيد بن المسيب ومكحول الشامي وسلمة بن دينار.
كان يتعب نفسه في العلم تعبا شديدا حتى قال له أصدقاؤه لماذا تتعب نفسك يا ربيعة فقال لهم:
لقد سمعت أشياخنا يقولون إن العلم لا يعطيك بعضه إذا لم تعطه نفسك كلها.
بقي هكذا يعكف على العلم ويجهد نفسه فيه حتى ارتفع ذكره وعلا نجمه وكثر تلاميذه وسوّده قومه وصار من أبرز علماء المدينة.
أمضى حياته في تعليم العلم وتدريسه.
وفي ليلة من الليالي في أواخر العقد الثالث من عمر فروخ المجاهد وبقي هناك حتى كبر في السن ووصل المدينة وعمره قريب من الستين.
جعل يسير في طرق المدينة التي تغيرت وبدأ يتذكر زوجته التي تركها شابة مع ابنه.
دخل المدينة ومعه أربعة آلاف دينار التي أتى بها من الجهاد والفتوحات ووصل المدينة بعد صلاة العشاء ولم يلتفت إليه أحد.
لقد حزن أنه لم يعرفه أحد ولم يعرف أحدا لأن الوجوه تغيرت والمدينة كلها تغيرت وظل يحاول أن يتلمس داره حتى وجد نفسه أمام داره.
وقف أمام داره والباب مفتوح ومن شدة فرحته لم يستأذن وإنما دخل صحن الدار ووقف ينتظر أن يرى أحدا من أهل الدار.
فسمع صاحب البيت جلبة في الدار فخرج ومعه زوجته الشابة فإذا بهذا الرجل يقف في وسط الدار وعليه رمح وسيف فانقض عليه وقال له:
أتتستر بجنح الليل يا عدو الله تقتحم علي بيتي وتكشف على حريمي وهجم عليه مثل الأسد يريد أن يظفر به.
بدأ الشجار بين الشاب والرجل الكبير وظهرت الأصوات وجاء الجيران وأمسكوا بفروخ.
قال له صاحب الدار واله لا أطلق سراحك إلا أمام الوالي.
قال فروخ والله ما أنا بعدو لله وإنما أنا رجل من المجاهدين ولم أرتكب ذنبا لأن هذا بيتي.
قال صاحب الدار انظروا إليه ماذا يقول هل هذا بيته.
فقال فروخ نعم إنه بيتي وأنا فروخ يا مسلمين أما فيكم أحد يذكر فروخا الذي سكن هنا قبل ثلاثين سنة وخرج مجاهدا في سبيل الله.
وهنا سمعت الأم الصوت والجلبة فمدت رأسها وإذا به زوجها فروخ فنادت بابنها وقالت له دعه يا بني إن هذا الرجل هو والدك وهذا زوجي فروخ انصرفوا يا قوم.
ولما انصرفوا أقبلت الزوجة على زوجها تضمه ولما علم ربيعة أن هذا والده أقبل عليه يضمه ويقبل يده وانفض الخلاف ورجع السلام وفرح الناس بهذه العودة الكريمة.
جلس فروخ يحدث زوجته بما جرى له وما فعله في جهاده وهي تستمع إليه ولا تريد أن تنغص فرحته بخبر أن الأموال قد نفدت ولم يبق لديها من الأموال شيئا.
قال لها لقد جئتك بأربعة لآلاف دينار فائت بالمال الذي لديك حتى أضعه مع ما لدي ويبارك الله فيهم.
فتشاغلت الأم عنه وأظهرت نفسها أنها مشغولة .
وكما تعلمون أن المال قد أنفقته على ولدها وربيعة كان كريما في المال وكان يجود بلا حساب فقال له أين المال....؟
فقالت لقد وضعته في مكانه وفي الصباح أخبرك فنام ولما أصبح الصباح قال أين ربيعة فقالت لقد ذهب إلى المسجد منذ النداء الأول.
استعجل فروخ في ذهابه إلى المسجد وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى حلقة عظيمة في المسجد النبوي بدأت تتجمع ووجد فيها كبار الناس ومن كثرة الحضور لم ير من يتكلم من العلماء فجلس وبدأ يستمع فإذا بهذا العالم يتحدث في صنوف العلم ويعلم الناس فالتفت إلى من حوله وقال من هذا فقال له الرجل ألم تعرفه إنه أستاذ الإمام مالك وأبي حنيفة وكبار العلماء قال فروخ لم أعرفه فقال الرجل إنه ربيعة بن فروخ وقد بلغني أنه قد لقي والده بالأمس.
فرح فروخ بهذا الخبر فرحا عظيما لما وصل إليه ابنه من المكانة والعلم.
ولما رجع إلى بيته قال لزوجته لقد فرحت فرحا عظيما لما وصل إليه ابننا من العلم.
قالت أمه هل هذا خير لك أم الثلاثون ألف دينار.......؟
قال بل هذا والله خير، قالت فقد أنفقتها عليه حتى وصل إلى هذه الدرجة فقال فروخ خيرا فعلت.
هذا هو ربيعة وهذا هو فروخ وهذه هي أمه التي أنشأت للأمة سيدا من سادات المسلمين وعالما من علمائها.
هذا هو ربيعة الذي علم الإمام مالك وأبي حنيفة ويحيى بن سعيد والأوزاعي والثوري والليث بن سعد.
كل هؤلاء كانوا بصبر وتربية هذه المرأة الصالحة وهكذا تكون الأمهات يا أمهات المسلمين.
---- يتبع - مع نمودج اخر من نمادج البيوت الناجحة - *** اخوكم ابو ابراهيم ***