الثاني:
تنصيصُ بعض الأئمة في مصنفاتهم على (الخروج بالسيف)؛ إنما هو نصٌّ على أشدِّ الخروج (الخروج النهائي الأكبر)، وذلك مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ»، و«الحَجُّ عَرَفَة»، و«الدينُ النصحية»، وغيرها من النصوص.
فكما أنّ حسن الخلق أعظم خصال البر، فكذلك الخروج بالسيف هو أعظم أنواع الخروج.
وكما أن أعظم أركان الحج هو يومُ عرفة، فكذلك الخروج بالسيف هو أعظم أنواع الخروج.
قال العلامة الفقيه ابن عثيمين -رحمه الله-: (وقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «إنه يخرج من ضِئْضِئ هذا الرجل مَن يحقر أحدكم صلاته عند صلاته»، يعني: مثله، وهذا أكبر دليل على أن الخروج على الإمام يكون بالسيف، ويكون بالكلام، هذا ما أَخَذَ السيفَ على الرسول -عليه الصلاة والسلام- لكنه أنكر عليه، وما يُوجد في بعض كتب أهل السنة، من أن الخروج على الإمام: هو الخروج بالسيف، فمرادهم بذلك: هو (الخروج النهائي الأكبر)، كما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- الزنا يكون بالعين، ويكون بالأُذُن، ويكون باليد، ويكون بالرِّجل، لكن الزنا الأعظم: هو زنا الحقيقة، هو زنا الفرج، ولهذا قال : «الفرج يُصدِّقه أو يُكذِّبه». فهذه العبارة من بعض العلماء: هذا مرادهم. [من تعليقه على رسالة الإمام الشوكاني -رحمهما الله-: «رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين» ( الشريط : ٢/أ )]
وقد سُئل العلامة صالح بن فوزان الفوزان -حفظه الله-: هل الخروج على الأئمة يكون بالسيف فقط، أم يدخل في ذلك الطعن فيهم، وتحريض الناس على منابذتهم والتظاهر ضدهم؟
فأجاب -حفظه الله-: ذكرنا هذا لكم، قلنا: الخروج على الأئمة يكون بالخروج عليهم بالسيف، وهذا أشد الخروج، ويكون بالكلام: بسبِّهم، وشتمهم، والكلام فيهم في المجالس، وعلى المنابر، هذا يهيِّج الناس ويحثهم على الخروج على ولي الأمر، ويُنَقِّص قدر الولاة عندهم، هذا خروج، فالكلام خروج، نعم. [محاضرة ألقاها الشيخ بمسجد الملك فهد بالطائف بتاريخ 3-3-1415 هـ، والمادة موجودة على الموقع الرسمي للشيخ، بعنوان: (صور الخروج على الأئمة)] .
الثالث:
تنصيصُ بعض الأئمة في مصنفاتهم على (الخروج بالسيف)؛ إنما هو نصٌّ على ثمرة اللسان؛ وذلك لأن اللسان يُفضِي -ولابد- إلى السيف، فلا يُعقل من جهة النظر سيفٌ بلا لسان!!
إنّ الخروج بالسيف لا يحصل إلا بالخروج بالكلام وهو الإنكار العلني على الولاة، والتشهير بأخطائهم على المنابر، وإيغار صدور العامة عليهم، والتاريخ والواقع يشهدان على ذلك. وقد قيلَ:
فإِنَّ النَّارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى ... وإِنَّ الحَرْبَ أَوَّلُها كَلامُ
هذا الذي يريد الخروج بالسيف على الإمام لا يخرج إلا إذا تكلم، وإلا كيف يجتمع الناس؟!!
قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- موضِّحًا هذا المعنى: «ونحن نعلم علم اليقين بمقتضى طبيعة الحال: أنه لا يمكن خروج بالسيف إلا وقد سبقه خروج باللسان والقول.
الناس لا يمكن أن يأخذوا سيوفهم يحاربون الإمام بدون شيء يثيرهم، لابد أن يكون هناك شيء يثيرهم، وهو الكلام، فيكون الخروج على الأئمة بالكلام خروجًا حقيقة، دلَّت عليه السنة، ودلّ عليه الواقع.
أما السنة فعرفتموها، وأما الواقع: فإنا نعلم علم اليقين: أن الخروج بالسيف فرع عن الخروج باللسان والقول، لأن الناس لم يخرجوا على الإمام (بمجرد أخذِ السيف) لابد أن يكون توطئة وتمهيد: قدح في الأئمة ، وستر لمحاسنهم، ثم تمتلئ القلوب غيظًا وحقدًا، وحينئِذٍ يحصل البلاء». [من تعليقه على رسالة الإمام الشوكاني -رحمهما الله-: «رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين» ( الشريط : ٢/أ )]
وقد سُئل العلامة صالح الفوزان -حفظه الله-: هل الخروج على الحاكم بالقول كالخروج بالسيف سواء بسواء؟ وما الحكم بالخروج على الحاكم؟
فأجابَ: الخروج على الحاكم بالقول قد يكون أشد من الخروج بالسيف، بل الخروج بالسيف مترتب على الخروج بالقول، الخروج بالقول خطيرٌ جدًا، ولا يجوز للإنسان أن يحث الناس على الخروج على ولاة الأمور، ويبغَّض ولاة أمور المسلمين إلى الناس ، فإن هذا سبب في حمل السلاح فيما بعد والقتال، فهو أشد من الخروج بالسيف ، لأنه يُفسد العقيدة ويُحرَّش بين الناس ويلقي العداوة بينهم وربما يسبب حمل السلاح، نعم. [الموقع الرسمي للشيخ، مادة بعنوان: (الخروج على الحاكم بالقول أخطر من الخروج عليه بالسيف)].
وسُئلَ العلامة عبدالعزيز الراجحي -حفظه الله-: هل الخروج على الحكام يكون بالسيف فقط, أم يكون باللسان أيضًا؟ كمَن ينتقد الظلم مثلاً, أو مَن يطالب بتغيير المنكرات علانيةً عن طريق الإعلام والقنوات الفضائية؟
فأجاب -حفظه الله-: «نعم , الخروج على الولاة يكون بالقتال وبالسيف, ويكون أيضًا بذكر المعايب ونشرها في الصحف، أو فوق المنابر، أو في الإنترنت؛ في الشبكة أوغيرها؛ لأن ذكر المعايب هذه تبغِّض الناس في الحُكّام, ثم تكون سببًا في الخروج عليهم.
أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- لما خرج عليه (الثوار) نشروا معايبه أولاً بين الناس, وقالوا: إنه خالف الشيخين الذين قبله أبو بكرٍ وعمر, وخفض صوته في التكبير, وأخذ الزكاة على الخيل, وأتمَّ الصلاة في السفر, وقرّب أولياءه, وأعطاهم الولايات.. فجعلوا ينشرونها، فاجتمع (الثوار)، ثم أحاطوا ببيته وقتلوه.
فلا يجوز للإنسان أن ينشرَ المعايب, هذا نوعٌ من الخروج، فإذا نُشرت المعايب -معايب الحُكام والولاة- على المنابر، وفي الصحف، والمجلات، وفي الشبكة المعلوماتية, أبغضَ الناس الولاة وألَّبوهم عليهم, فخرج الناس عليهم. اهـ [«المختار في أصول السنة» لابن البنا شرح الراجحي (صـ 289)] .
بل لقد صرَّح بعض السلف أن مجرد ذكر مساوئ الحاكم تؤدي إلى الخروج عليه بالسلاح، فعن هلال بن أبي حميد، عن عبد الله بن عُكَيْم أبي معبد قال: «لا أُعِينُ عَلَى دَمِ خَلِيفَةٍ أَبَدًا بَعْدَ عُثْمَانَ». قَالَ فَيُقَالُ لَهُ: يَا أَبَا مَعْبَدٍ أَوَ أَعَنْتَ عَلَى دَمِهِ؟ فَقَالَ: «إِنِّي لأَعُدُّ ذِكْرَ مَسَاوِيهِ عَوْنًا عَلَى دَمِهِ». [رواه ابن سعد في الطبقات (6/115)، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/362)، وغيرهما].
الرابع:
تنصيصُ بعض الأئمة في مصنفاتهم على (الخروج بالسيف)؛ إنما هو من باب تعريف الشيء ببعض أفراده، وهذا مثل قولهم: (التوحيدُ: إفرادُ الله بالعبادة)، مع أنه إفرادُ الله بما يستحقه من الألوهية والربوبية والأسماء والصفات.
الخامس:
هب أن الخروج المحرَّم هو الخروج المسلح فقط، فإنه من المقرر عند أهل العلم أن (الوسائل لها أحكام المقاصد)؛ فإذا كان الخروجُ بالسيف محرمًا كانت الوسائل المفضية إليه محرمةً أيضًا.
فالوسائل الموصلة للخروج الحقيقي تأخذ حكم الخروج, والشيءُ إذا حُرّم كانت الوسيلة إليه محرّمة؛ فأيُّ قولٍ، أو فعلٍ، أو اعتقادٍ، يؤدي إلى الخروج فهو خروج.
قال العلامة صالح آل الشيخ -حفظه الله-: «قال العلماء: الوسائلُ لها أحكام المقاصد؛ فإذا كان الخروج محرمًا كانت وسائله القطعية والظنية محرمةً أيضًا». [مقطع بعنوان: (الحاكم المسلم لا يجوز الخروج عليه مطلقًا لأي سببٍ من الأسباب)].
وقد عُلم بالتجربة ومن خلال أقوال أهل العلم السابقة أن الخروجَ بالسيف لابد أن يسبقه خروجٌ بالكلام.
المصادر
قال ابن عبدالبر -رحمه الله-: (إِنَّ مِنْ بَرَكَةِ العِلْمِ أَنْ تُضِيَفَ الشَّيْءَ إِلَى قَائِلِهِ). [جامعُ بيان العِلم وفضلِه (2-922)]، وقد استفدتُ في إعداد هذا البحث من خلال هذه: (الرسائل والكتب والمقالات والمحاضرات):
1- رسالة (الرد على شبهة أن الخروج لا يكون إلا بالسيف) لعلي عبدالعزيز موسى.
2- كتاب (السلفية منهج رباني، وليست حزبًا سياسيًا) لمحمد عبدالعليم آل ماضي.
3- كتاب (شبهات حول أحداث 25 يناير، والرد على مشايخ الثورات) لمحمود عبدالحميد الخولي.
4- مقال (سؤال / كيف نعرف الخوارج ونميزهم في المجتمع؟) لجمال الحارثيّ. [والمقال منشور على منتديات نور اليقين] .
5- مقال (إنما الخروج يكون بالقلب وباللسان وبالفعل) لأبي عبد الرحمن محمد عطا. [والمقال منشور على منتديات نور الإسلام السلفية] .
6- مقطع فيديو بعنوان (رد الشيخ هشام البيلى على محمد حسان ومحمد عبد المقصود فى الخروج لا يكون الا بالسيف). [والمقطع منشور على اليوتيوب بنفس الاسم] .
7- مقطع فيديو بعنوان (رداً على مَن قال أن الخروج لا يكون إلا بالسيف، ووتعليقًا على ما كتبته المصري اليوم عنه, يجيب الشيخ محمد كمال السيوطي). [والمقطع منشور على اليوتيوب بنفس الاسم] .
غيرَ أنّ الجزء الذي تأوّلتُ فيه كلامَ العلماء في نصِّهم في مؤلفاتهم على أنّ (الخروج بالسيف) لم أرَ مَن فصّل فيه التفصيل المذكور في البحث، فإنْ أصبتُ فمن الله وحده، وإنْ أخطأتُ فمني ومن الشيطان، واللهَ أسأل أن يغفر لي.
ويمكن تحميل البحث منسقًا..
للتحميل بصيغة PDF
اضغط هنـــا
للتحميل بصيغة وورد 2003
اضغط هنـــا
للتحميل بصيغة وورد 2007 ، 2010
اضغط هنـــا