ثانيا :
وأما ما ورد في السؤال : فإنه لا يتعارض مع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تحقيق مقام العبودية الخاصة، ولا يتعارض مع كونه صلى الله عليه وسلم خير من عبد الله وصلى وصام وقام ، وذلك بيانه كما يلي :
أولا : الحديث الذي أشار إليه السائل الكريم ، حديث صحيح
أخرجه البخاري في "صحيحه" (268) .
ثانيا : في الحديث دلالة على أن وقوع ذلك الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم كان في ساعة واحدة من الليل أو من النهار ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قد أوتي قوة ثلاثين من الرجال في هذا الباب ، فأين الخلل إذا ؟!
وقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي أن هذه الساعة كانت له صلى الله عليه وسلم بعد العصر ، بعيدا عن القسم بين نسائه .
قال ابن العربي في "عارضة الأحوذي" (1/230)
:" وكان الله سبحانه قد خصه في النكاح بأشياء يأتي بيانها إن شاء الله ، لم يعطها لغيره ، منها تسع زوجات في ملك ، ثم أعطاه ساعة لا يكون لأزواجه فيها حق ، مقتطعة له من زمانه ، يدخل فيها علي جميع أزواجه فيطؤهن أو بعضهن ، ثم يدخل عند التي الدور لها ، ففي كتاب مسلم عن ابن عباس أن تلك الساعة كانت بعد العصر ، فلو اشتغل عنها لكانت بعد المغرب أو غيره ، فلذلك قال في الحديث :" في الساعة الواحدة من ليل أو نهار ". انتهى
والساعة هي الجزء من الزمان ، وليست الساعة الزمنية المعروفة اليوم .
قال ابن حجر في "فتح الباري" (1/377)
:" قَوْلُهُ " فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ " الْمُرَادُ بِهَا قَدْرٌ مِنَ الزَّمَانِ ، لَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ ". انتهى
ثم إن ذلك لم يكن خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم فحسب ، بل هذا سليمان عليه السلام ، وهو مشهور بجهاده العظيم في سبيل الله ، كان له النساء الكثير ، ولم يشغلنه عن جهاده في سبيل الله تعالى ، بل في كتب أهل الكتاب التي بين أيديهم الآن : أنه كان لسليمان عليه السلام : ألف امرأة ، وليس مائة فقط ، وفي الحديث الصحيح السابق أنه طاف على مائة امرأة ، منهن ، في ليلة واحدة .
فإذا كان هذا حال نبي الله سليمان عليه السلام ، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأحسن بلا ريب .
وقد ثبت في البخاري (5242)
ومسلم (1654)
من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ

قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلاَمًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ المَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّه ُ، فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ ، فَأَطَافَ بِهِنَّ ، وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ ، وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ ) .
قال ابن حجر في "فتح الباري" (6/462)
في شرحه لحديث " لأطوفن الليلة على مائة امرأة " :" وَفِيهِ مَا خُصَّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى الْجِمَاعِ الدَّالِّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الْبِنْيَةِ وَقُوَّةِ الْفُحُولِيَّةِ وَكَمَالِ الرُّجُولِيَّةِ ، مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ وَالْعُلُومِ ، وَقَدْ وَقَعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ أَبْلَغُ الْمُعْجِزَةِ ، لِأَنَّهُ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَعُلُومِهِ وَمُعَالَجَةِ الْخَلْقِ ، كَانَ مُتَقَلِّلًا مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ الْمُقْتَضِيَةِ لِضَعْفِ الْبَدَنِ عَلَى كَثْرَةِ الْجِمَاعِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَة بِغسْل وَاحِد وَهن إحدى عَشْرَةَ امْرَأَةً ". انتهى .
ثالثا :
أن الحديث الذي ذكره السائل ، وهو حديث أنس ، قد ذهب كثير من أهل العلم أنه لا يدل على العادة المستمرة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لعدة أمور :
الأمر الأول : أنه قد ورد في السنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من عادته أن يقسم لزوجاته فيبيت عند كل واحدة منهن ليلة ، إلا أنه يدور عليهن جميعا كل يوم ليسأل عليهن ، ويؤنسهن ، إلا أنه لا يجامع أي واحدة منهن إلا في ليلتها .
وقد دل على ذلك الحديث الذي أخرجه أحمد في "مسنده" ( 24765)
و أبو داود في "سننه" (2135) من حديث عائشة رضي الله عنها ، قالت

كان رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم لا يُفضِّلُ بعضنا على بعضٍ في القَسمِ ، من مُكثه عِندنا ، وكان قلَّ يومٌ إلا وهو يَطُوفُ علينا جميعاً ، فيدنو مِنْ كُلِّ امرأة ، مِن غير مَسِيسٍ ، حتى يَبْلُغَ إلى التي هو يَوْمُها فيبيتُ عندها ) .
والحديث صحيح ، صححه الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (1852) .
وموضع الشاهد في الحديث قولها :" فيدنو من كل امرأة من غير مسيس "، أي من غير جماع.
الأمر الثاني : أن حديث أنس الذي أورده السائل ، وإن كان عبر عنه في هذه الرواية بلفظ " كان " ، والتي تدل على الاستمرار ، إلا أن كثيرا من أهل العلم حملوا ذلك على أنه كان في أوقات مخصوصة ، بل حمله بعضهم على أنه حدث مرة واحدة ، جمعا بين الأدلة .
قال ابن عبد البر في "الاستذكار" (1/300)
:" وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ ، وَهَذَا مَعْنَاهُ فِي حِينِ قُدُومِهِ مِنْ سَفَرٍ أَوْ نَحْوِهِ ، فِي وَقْتٍ لَيْسَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمٌ مُعَيَّنٌ مَعْلُومٌ ، فَجَمَعهنَ حِينَئِذٍ ، ثُمَّ دَارَ بِالْقِسْمِ عَلَيْهِنَّ بَعْدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّهُنَّ كُنَّ حَرَائِرَ ، وَسُنَّتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِنَّ الْعَدْلُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَهُنَّ ، وَأَلَّا يَمَسَّ الْوَاحِدَةَ فِي يَوْمِ الْأُخْرَى ، وَهَذَا قول جماعة الفقهاء ". انتهى
وقال المناوي في "فيض القدير" (5/228)
في أثناء شرحه لحديث أنس: " ثم قضية "كان" [يعني : مقتضى هذا اللفظ] ، المشعرة باللزوم والاستمرار : أن ذلك كان يقع غالبا ، إن لم يكن دائما .
لكن في الخبر المتفق عليه : ما يشعر بأن ذلك إنما كان يقع منه عند إرادته الإحرام ، ولفظه عن عائشة :" كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيطوف على نسائه ، فيصبح محرما ينضح طيبا ". انتهى .
وكذا نقله الكشميري في "العرف الشذي" (1/159)
عن القاضي أبي بكر بن العربي المالكي ، فقال :" قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي: إن هذه واقعة حجة الوداع قبل الإحرام ، وكان غرضه قضاء حاجتهن ، وإن عبرها الراوي بطريق الاستمرار ولفظ العادة ". انتهى
وأكد الصنعاني ذلك في "التنوير شرح الجامع الصغير" (8/592)
فقال :" واعلم أن ظاهر " كان يطوف " : أنه كان يداوم على ذلك ، وفي الحديث المتفق عليه ما يؤخذ منه بأن ذلك إنما كان يقع منه عند إرادة الإحرام ، ولفظه عن عائشة " كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيطوف على نسائه ثم يصبح محرما ينضح طيبا " . انتهى
ومما يؤكد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجتمع عنده هذا العدد من زوجاته إلا في آخر حياته صلى الله عليه وسلم .
والحاصل :
أنه لا يزال الرجل يمدح بقوته ، وعفته ، وصيانته ، فكيف إذا انضم مع ذلك تعبده وتنسكه ، وقيامه كذلك بحق أزواجه أحسن القيام وأتمه ، وهذا الذي كان لنبينا صلى الله عليه وسلم أوفر الحظ والنصيب ، ولذا كان أكمل الخلق ، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم .
والله أعلم