ملخصات مفيدة لمسابقة القضاء لسرعة الحفظ - الصفحة 2 - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الجامعة و البحث العلمي > الحوار الأكاديمي والطلابي > قسم أرشيف منتديات الجامعة

قسم أرشيف منتديات الجامعة القسم مغلق بحيث يحوي مواضيع الاستفسارات و الطلبات المجاب عنها .....

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

ملخصات مفيدة لمسابقة القضاء لسرعة الحفظ

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2013-02-06, 23:43   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
hadia369
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية hadia369
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة wiwi cheba مشاهدة المشاركة
أرجو منكم أن تساعدوني في مذكرة تخرج حول قاضي الإثبات في القانون الجنائي و بالخصوص خطة المذكرة شكرا
دور القاضي الجنائي في ظل مبدأالأقتناع القضائي
https://www.univ-biskra.dz/fac/droit/.../r5/mk5a13.pdf








 


قديم 2013-02-06, 09:01   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
ilyasou
عضو جديد
 
إحصائية العضو










M001

يسلمو يسلمو










قديم 2013-01-29, 00:04   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
hadia369
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية hadia369
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

المبحث الثاني
النتائج المترتبة على مبدأ الشرعية الجنائية

يرى الفقه أنه تترتب على مبدأ الشرعية الجنائية ثلاثة مبادئ أساسية هي: انفراد التشريع في تحديد الجرائم والعقوبات، والتزام التفسير الضيق للقواعد الجنائية، وعدم رجعية القاعدة الجنائية للتطبيق على ما حدث في الماضي من وقائع. غير أنه يمكننا القول باختصار، أن مبدأ الشرعية الجنائية في شقه الموضوعي ،يقتضي في نظرنا، أنه لا جريمة ولا جزاء إلا بنص قانوني صادر عن السلطة المختصة بإصداره وفقا للقانون، وأن يكون هذا النص ساريا من حيث الزمان والمكان، وزيادة عن ذلك ألا يمون الشخص خاضعا لسبب من أسباب الإباحة، وهو رأي يمليه علينا وضع تقنين العقوبات الجزائري الذي تناول مبدأ الشرعية الجنائية في المادة الأولى وأردفه بالمادتين 2 و3 المتعلقتين بسريان النص الجنائي زمانا ومكانا. لذا سنحاول أن نبين هذا المبحث من خلال ثلاثة مطالب، نخصص الأول للنتائج القانونية العامة لمبدأ الشرعية الجنائية، في حين الثاني نخصصه لسريان النص الجنائي من حيث الزمان كونه الإطار الذي يبين أهم نتائج مبدأ الشرعية المتمثلة في عدم رجعية القوانين الجنائية، على أن نخصص الثالث لسريان النص الجنائي من حيث المكان. ونرجئ البحث عن أسباب الإباحة إلى مبحث ثالث مستقل، على اعتبار أسباب الإباحة تخرجنا من نطاق التجريم وتعيدنا على نطاق الإباحة التي لا يحكمه مبدأ الشرعية الجنائية.

المطلب الأول
النتائج القانونية العامة لمبدأ الشرعية

النتائج القانونية العامة التي يرتبها مبدأ الشرعية الجنائية، هي انفراد التشريع بمجال التجريم والعقاب، أي أن يكون النص الجنائي المكتوب الصادر عن السلطة المختصة بإصداره وفقا للدستور وحده المختص بسن قوانين تتعلق بالتجريم والعقاب، وأنه يحظر على القاضي اللجوء إلى التفسير الواسع أو القياس في هذا المجال بالذات، وهو ما نبينه في الفروع الثلاثة التالية.

الفرع الأول
انفراد التشريع بالتجريم والعقاب

مبدأ الشرعية الجنائية يقوم أساسا على فكرة العقد الاجتماعي ومبدأ الفصل بين السلطات، وان المجال الخطير المتمثل بكل ما يمس بحقوق وحريات الأفراد يجب أن تمارسه السلطة التشريعية التي تمثل الشعب، خاصة وأن هذه السيادة جاءت بعد صراع مرير بين السلطة والفرد، وهو الصراع الذي انتقل بعدها ما بين الحكومة والبرلمان، لغاية انتصار البرلمان واستئثاره بمسائل التشريع وإصدار القوانين، وأضحى سيادة القانون من مبادئ قيام دولة القانون، غير أن الوضع الحالي في جل الدول والأنظمة، اشتراك كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية في إصدار القواعد القانونية، حيث تصدر السلطة التشريعية القوانين بينما تختص السلطة التنفيذية في إصدار اللوائح، غير أن ذلك لا ينال من مبدأ انفراد التشريع، كون القواعد التشريعية التي تصدرها السلطة التشريعية يجب أن تخضع للدستور، واللوائح التي تصدرها السلطة التنفيذية يجب أن تخضع للدستور ولقواعد السلطة التشريعية وقوانينها، وأن تدرج القواعد القانونية سمة من سمات الشرعية الجنائية. وهو موقف كل من فقهاء العصر الحديث ودول النظم الديمقراطية، وقد عبر المجلس الدستوري الفرنسي عن ذلك في عبارة قصيرة أوردها في قرار صادر عنه سنة 1973، جاء فيه أن سلب الحرية يتعلق بالمشرع. بينما أكدت المحكمة الدستورية العليا في مصر، أنه :" الدستور لم يعقد للسلطة التنفيذية اختصاصا ما بتنظيم شيء مما يمس الحقوق التي كفلها الدستور، وان هذا التنظيم يتعين أن تتولاه السلطة التشريعية بما تصدره من قوانين، فلا يجوز لها أن تسلبه من اختصاصاها وتحيل الأمر برمته إلى السلطة التنفيذية دون أن تقديها في ذلك بضوابط عامة وأسس رئيسية تلتزم بالعمل في إطارها.".

وانفراد التشريع بالتجريم والعقاب وفقا لما يقضي به مبدأ الشرعية الجنائية، يعني اختصاص المشرع وحده بمعالجة المسائل التي تدخل في اختصاصه، دون أن تزاحمه في ذلك السلطة التنفيذية بما تملكه من سلطة التشريع عن طريق اللوائح، غير انه يمكنها عن طريق اللوائح تنظيم وتنفيذ ما أقره من المشرع من قواعد عامة، ومن المسائل التي تدخل في اختصاص المشرع وحده كل ما يتعلق بتنظيم ممارسة الحقوق والحريات ورسم حدودها، فلا تملك السلطة التنفيذية التدخل في هذا المجال دون إذن من المشرع[1].ولأن التشريع يعد صادرا من أقدرا السلطات على استجلاء جوانب الصالح العام، والتعبير عن مقتضياته، كون السلطة التشريعية تعبر عن إرادة الشعب، هو فقط الذي يمكن أن يضمن التوازن بين الحقوق والحريات الفردية وبين مقتضيات المصلحة العامة، لذا فإن منطقة الحقوق والحريات محرمة على غير المشرع، متروكة له وحده باعتباره ممثلا للشعب، ويمارس انفراده هذا طبقا للدستور، وأن يفعل ذلك بالكيفية التي حددها الدستور – القواعد القانونية- ولا يمكن أن تشاركه السلطة التنفيذية في ذلك، إلا في الحدود التي ينص عليها التشريع طبقا للدستور.

الفرع الثاني
إتباع قواعد خاصة في تفسير النصوص الجنائية

يقصد بالتفسير تلك العملية الذهنية التي يمكن عن طريقها التوصل إلى المعنى الحقيقي للنص القانوني، حتى يتسنى للقاضي تطبيق النص على الوقائع المعروضة عليه للفصل فيها، خاصة في الحالة التي تكون فيها النصوص غامضة وتحتمل التأويل أو تثير اللبس، لذا يتعين على القاضي البحث عن المعنى الذي أراده المشرع من خلال وضعه لهذا النص، والتفسير عملية قضائية تخص كل النصوص القانونية لا الجزائية فقط، حيث كل نص يحتاج إلى استجلاء معناه ومحتواه، لدرجة أن بعض الفقه رأى انه: لا قضاء بدون تفسير. غير أن القواعد الجنائية، وبالنظر لمساسها بحقوق وحريات الأفراد، نجد الدستور قد خصها بقواعد معينة يجب أن يتم إتباعها في حالة إرادة تفسيرها، خاصة وان الإخلال بمثل هذه القواعد يخل بمبدأ الشرعية الجنائية ذاته. لذا فكيفية تفسير النصوص الجنائية التي بطبيعتها تعد نصوصا عامة ومجردة، تكون بحاولة تطبيقها على الوقائع التي تحدث بالنظر لكل واقعة على حدة، فالمشرع إن كان يضع النصوص الجنائية، فالقاضي هو الذي يقع عليه إثبات تطبيقها، لذا فمن الواجب عليه النظر فيما إن كانت الواقعة التي حدثت تندرج تحت النص الذي سنه المشرع. والتفسير هو البحث عن المعنى الحقيقي للنص العام المجرد، بحيث يمكن تطبيقه على الوقائع المادية، وهو شأن كل قاعدة جنائية حتى ولو لم يكن يشوبها غموض أو إبهام، حيث كل قاعدة جنائية لا بد لها من تفسير وشرح[2]. وتقيدا بمبدأ الشرعية الجنائية، وتحقيقا للعدالة الجنائية، فإن تفسير النصوص الجنائية بمختلف أنواعها تخضع لبعض القواعد الخاصة، حتى لا يكون التفسير اعتداء على مبدأ الشرعية الجنائية وبالتالي اعتداء على الحقوق والحريات. لذا يرى غالبية الفقه، بأن القاضي في تفسيره النصوص الجنائية يجب أن يتبع أسلوب التفسير الضيق أو الحرفي، وأنصار هذا الاتجاه وصلوا حتى دعوة إسناد عملية التفسير للسلطة التشريعية حتى لا يتحول القاضي إلى مشرع[3]، وهو تبرير يجد سنده في العصر الذي وجد فيه المبدأ، حيث ظهرت المدرسة الكلاسيكية كرد فعل عن التحكم والتعسف الذي كان يمارسه القضاة آنذاك، لكن يرى البعض أن هذا الأمر وهم ولا يستند لأي أساس قانوني سوى على العامل الزمني الذي نشأ فيه مبدأ الشرعية الجنائية، خاصة وان القاضي وهو يفسر النصوص الجنائية، لا يعطي رأيه الشخصي وإنما يبحث عن المعنى الحقيقي للقانون، وعن المعنى الموضوعي للنص كما أراده المشرع، ومن جهة ثانية، إلزام القاضي بالتفسير الضيق يفترض قانونا أن تكون النصوص الجنائية الصادرة عن المشرع دقيقة شكلا ومضمونا، وهو غير الموجود في الواقع، إذ كثيرا ما تتصف النصوص الجنائية بعدم الدقة، وينطوي في بعض الحيان على بعض المتناقضات الظاهرية، ثم أن إرادة المشرع التي ضمنها النص، ليست مبدأ جامدا محكومة بالوقائع الاجتماعية السائدة وقت صياغة النص، بل هي إرادة متطورة بتطور الوقائع الاجتماعية التي تعد بلورة لإرادة المشرع، أو المصلحة تبلور إرادة المشرع وتبعا لها يتحدد نطاق تطبيق نصوصه، والقانون لم يصنعه المشرع ليومه فقط، بل صنع للمستقبل، وعلى هذا النحو ترك أمر التفسير لأجل تحديد معنى النصوص القانونية في ضوء التحولات والتغيرات الاجتماعية، والقاضي في ذلك ملزم دائما بالإرادة المفترضة للمشرع افتراضا منطقيا في ضوء الوقائع الاجتماعية الجديدة، مع احترامه للصيغة التي استعملها المشرع في صياغة النصوص احتراما لمسألة الاستقرار القانوني، خاصة وان القانون في الكثير من الأحيان يبنى على أفكار متحركة ومتطورة بطبيعتها، كأفكار النظام العامة والآداب العامة، ومسالة الاختراعات العلمية والتطورات التكنولوجية، ومفهوم المنقول والعقار... وبالتالي القاضي في تفسيره للنصوص الجنائية، يجب أن يبحث عن إرادة المشرع من خلال الصيغة التي عبر من خلالها عن هذه الإرادة، وأن يراعي مجمل الأحكام الدستورية المتعلقة بالمسألة حتى يكون تفسير القاضي مطابقا للدستور.

الفرع الثالث
حظر القياس في المسائل الجزائية
القياس هو :" إلحاق واقعة غير منصوص علي حكمها بواقعة أخرى منصوص على حكمها لاشتراك الواقعتين في علة الحكم"، ذلك أن الحكم يتبع علته وجودا وعدما، في حين يتوسع بعض الفقه في تعريف القياس، بحيث لا يقاس فقط على واقعة بعينها منصوص على حكمها، ولكن على النظام القانوني في مجمله، ووفقا لذلك هناك نوعين من القياس، قياس شرعي Analogie légale وقياس قانوني Analogie juridique. القياس الشرعي، وهو قياس واقعة لم يرد نص بحكمها على واقعة أخرى منصوص عليها، لاشتراك الواقعتين في نفس العلة، فيطبق على الواقعة غير المنصوص على حكمها نفس حكم الواقعة المنصوص عليها. وأما القياس القانوني، هو أن تلحق واقعة غير منصوص على حكمها ليس بواقعة أخرى بعينها، ولكن بمجمل المبادئ العامة وروح القوانين، وتدخل في هذا الاعتبار، المعطيات الأخلاقية والدينية والاجتماعية، وهو الذي كان معمولا به في العصر السابق على الثورة الفرنسية، واختفى في القرن التاسع عشر مع ظهور مبدأ الشرعية الجنائية، لكنه عاد للظهور ثانية في القرن العشرين مع ظهور الفقه الجنائي الحديث والمذاهب السياسية الاستبدادية، فرأى أنصار المذهب الوضعي أن ضرورات الدفاع الاجتماعي ضد الظاهرة الإجرامية تقتضي الأخذ بالقياس، وأثر كذلك المذهب الماركسي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار إلا بالمصلحة متناسيا حرية الفرد.
وإن كان القياس عموما يعد وسيلة من الوسائل التي تستهدف استكمال النقص الذي يشوب النصوص القانونية، وذلك عن طريق إيجاد حل لمسألة لم ينظمها القانون عن طريق استعارة الحل من مسألة مماثلة وضع لها المشرع حلا، فإنه في المجال الجنائي القياس غير جائز بناء على مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، حيث يبعد القياس ضمنيا، حيث تقييد الحقوق والحريات بيد المشرع وحده مما ينزع من القاضي مكنة اللجوء للقياس في هذه المسائل، حتى ولو كان النص قاصرا أو القانون مشوب بقصور أو بثغرات، كون مسألة التجريم والعقاب تمس بالحقوق والحريات الفردية، التي يعد أمر التشريع فيها من اختصاص المشرع وحده دون أن يزاحمه في ذلك احد. وإن أمكنت مزاحمته أحيانا وفي بعض الاستثناءات، من قبل السلطة التنفيذية بما تملكه من اختصاص التشريع سيما في مجال المخالفات، فإن ذلك محكوم بنصوص الدستور، وفي نطاق القواعد العامة للقانون الصادر عن السلطة التشريعية، لكن مسألة القياس تجريما وعقابا، مسألة مستبعدة تماما. خاصة وأن القياس مهمة مناطة بالقاضي الذي لا يملك إزاء النصوص العقابية سوى التطبيق. دون خلق الجرائم والعقوبات عن طريق القياس.
غير انه تجدر الإشارة، إلى أن القياس المحظور، هو القياس في مجال التجريم والعقاب، بالنظر لما تنطوي عليه المسألة من تقييد ومساس بحريات الأشخاص وحقوقهم، سواء تعلق الأمر بخلق جريمة جديدة
أو ظرف تشديد جديد أو عقوبة جديدة، غير أن النصوص التي تخدم صالح المتهم يجوز فيها القياس، كأسباب الإباحة وموانع المسؤولية أو موانع العقاب، أو الأعذار القانونية المعفية أو المخففة، ففي هذه الحالات يعد القياس استصحاب على الأصل العام، المتمثل في أن الأصل في الأشياء الإباحة، وإن كان القياس ممنوع في التجريم والعقاب كونه قياس عن استثناء، فإن القياس في الأصل يجوز. خاصة وان القياس في مثل هذه الحالات يخدم الحريات والحقوق ولا يمس بها أو يقيدها، ومبدأ الشرعية يقتضي حظر القياس خوفا من الإفتتات على هذه الحقوق والحريات، وما عدا ذلك فهو جائز[4]. وإن غابت بعض الأحكام القضائية في الجزائر التي تؤكد عن المسألة، فإنه محكمة النقض الفرنسية أكدت بجواز القياس متى كان في صالح المتهم، حيث سبق وان قاس المشرع الفرنسي على جريمة السرقة بين الأزواج والأصول والفروع التي لا توجب سوى التعويض المدني، على جريمة النصب وخيانة الأمانة، قبل أن تتجسد كنصوص في تقنين العقوبات ونقل المشرع الجزائري المسألة على قانونا العقابي[5]. كما اعتبر المشرع الفرنسي حالة الضرورة من أسباب الإباحة عن طريق القياس على باقي أسباب الإباحة بالرغم من عدم وجود نص يقرر ذلك، غير أنه بخصوص هذه المسألة، فإن المشرع الجزائري لم يتبناها. غير أن المشرع الفرنسي وفي قانون عقوباته الجديد لسنة 1992 والذي دخل حيز النفاذ سنة 1994 أدخل حال الضرورة ضمن أسباب الإباحة بموجب نص المادة 122-7.
المطلب الثاني
تطبيق النص الجنائي من حيث الزمان
عدم الرجعية كأثر من آثار مبدأ الشرعية الجنائية

من قبيل المسلمات أن النصوص القانونية بما فيها ذات الطابع الجنائي ليست بالنصوص الأبدية، بل خاضع للتعديل والإلغاء تبعا لإرادة المشرع في مواجهة ظاهرة الإجرام، والقاعدة القانونية المعروفة عادة، أن النص القانوني لا يطبق على ما حدث من وقائع قبل دخوله حيز النفاذ ولا بعد أن تم إلغاءه، بل يحكم فقط الوقائع والتصرفات التي حدثت في مرحلة سريانه أو فترة نفاذه، والنص الجنائي تحكمه قاعدة عامة معروفة في جل الأنظمة القانونية وهي القاعدة التي تعد مكملة لمبدأ الشرعية الجنائية، أو نتيجة من نتائجه أو أثر من آثاره، وهي قاعدة عدم رجعية النص الجنائي للتطبيق على الماضي، أو قاعدة الأثر المباشر والفوري للنصوص الجنائية، غير أنه مثلما هو الشأن بالنسبة لكل قاعدة، فإنه يرد عليها استثناء، وهذا الاستثناء في المجال الجنائي يعد في حد ذاته مبدءا لم تعرف له فروع القانون الأخرى نظيرا، ألا وهو مبدأ " رجعية القانون الأصلح للمتهم"، أو ما عبر عنه المشرع " بالقانون الأقل شدة". وبذلك تكون المادة الثانية من قانون العقوبات قد تضمنت القاعدة العامة المتمثلة في عدم رجعية النصوص الجنائية، وذلك في الفقرة الأولى منها، في حين تضمنت الفقرة الثانية منها الاستثناء الذي قلنا انه مبدءا في حد ذاته، وهو رجعية القانون الأصلح للمتهم، :" لا يسري قانون العقوبات على الماضي إلا ما كان منه أقل شدة".

الفرع الأول
قاعدة عدم رجعية النصوص الجنائية

تطبيقا لمبدأ الشرعية الجنائية الذي يقضي بأن تكون عملية التجريم والعقاب بموجب النصوص التشريعية المكتوبة، الصادرة عن السلطة المختصة بذلك احتراما لمبدأ الفصل بين السلطات، وتطبيقا لدولة القانون، وتحقيقا لمبدأ سمو هذا القانون، فإن كل ذلك، وحتى المنطق يقضي أن يكون هذا القانون موجودا، أي أن يكون النص سابقا عن الواقعة التي اقترفها الجاني، كون مبدأ الشرعية يقتضي ضمنيا تخيير الشخص بين ما هو مباح وما هو محظور، فعلى الأقل المحظور يجب أن يكون مبينا مسبقا. لذا فالمنطق يقتضي أن كل قانون لا يحكم إلا الوقائع التي حدثت في ظل نفاذه وسريانه، ولا يمتد تطبيقه على ما وقع أو حدث من وقائع سابقة عن نشره وترتيب آثار سريانه[6]، وفي الحقيقة القاعدة لا يختص بها القانون الجنائي وحده، بل هي قاعدة معروفة في كل القوانين الأخرى، بمختلف أقسامها وفروعها، غير أن اختصاص هذه الأقسام والفروع وعدم مساسها بالحقوق والحريات الفردية لم يجعل من عدم الرجعية مسألة تنال الاهتمام مثل الاهتمام الذي لاقته في المجال الجنائي، وبالتالي تقضي القاعدة أن القانون يحكم فقط الأفعال التي تكون لاحقة أو على الأقل معاصرة للحظة سريانه، دون تلك التي حصلت قبل ذلك، ولحظة سريان القانون قد يكون بالنص صراحة على هذا التاريخ، أو وفقا للقواعد العامة في سريان النصوص القانونية، وذلك في خلال 24 ساعة من نشره في الجريدة الرسمية أو من وصول هذه الأخيرة للمناطق البعيدة أو التي كانت تشهد ظروفا استثنائية حالت دون وصول الجريدة الرسمية في وقتها.

وبالتالي تعد قاعدة عدم الرجعية، أو قاعدة الأثر الفوري أو الأثر المباشر لقانون العقوبات، من القواعد الأساسية المكملة لمبدأ الشرعية الجنائية، والتي تقضي وتهدف إلى عدم مفاجأة الأشخاص بتجريم أفعال كانت مباحة وقت ارتكابها، غير أنه للقاعدة استثناء نصت عليه الفقرة الثانية من تقنين العقوبات الجزائري، وهي قاعدة رجعية القانون الأقل شدة – على حسب تعبير المشرع الجزائري- أو قاعدة القانون الأصلح للمتهم حسب التسمية التي يطلقها الفقه الجنائي. وهي الاستثناء الذي يعد في حقيقته مبدءا في قانون العقوبات، الذي نتناوله في النقطة الموالية.

الفرع الثاني
القانون الأصلح للمتهم (القانون الأقل شدة)

إن كانت قاعدة عدم رجعية النصوص الجنائية، قاعدة تعرفها غالبية الفروع القانونية الأخرى، فإن قاعدة رجعية القانون الأقل شدة، وفقا لتعبير المشرع الجزائري، أو القانون الأصلح للمتهم وفقا لتعبير فقهاء القانون الجنائي، تعد في نظرنا قاعدة جنائية خالصة، يختص بها قانون العقوبات دون غيره من فروع القانون الأخرى، التي إن أراد المشرع سريانها على الماضي نص على ذلك صراحة، في حين أنها في المجال الجنائي تعد مسألة قانونية، القاضي ملزم بإعمالها دون الحاجة للنص عليها، وذلك أن صلاحية القانون للمتهم بأي وجه من الأوجه يعد عودة نحو الأصل وهو البراءة، وبالتالي الأصل لا يحتاج على نص بل يقتضيه المنطق[7]. غير أنه لتطبيق فكرة القانون الأصلح للمتهم شروط وضوابط ومعايير يتعين تناولها في النقاط التالية.

أولا: شروط تطبيق القانون الأصلح للمتهم

ليستفيد المتهم من القانون الأصلح للمتهم يجب أن نشير إلى بعض المسائل الهامة، فالقول بهذا الاستثناء يعني بالضرورة انه يوجد هناك قانونان، القانون القديم وهو الذي في ظله ارتكب المتهم جريمته، وقانون جديد صدر قبل أن يصدر حكم نهائي بات في القضية، وإلا لولا صدور هذا القانون الجديد لما طرحت مسألة القانون الأصلح للمتهم على بساط البحث، ومن ثم يجب أن يكون هذا القانون يحمل ما يوحي أنه أصلح للمتهم، إذ إذا كان أسوأ فلا مجال لتطبيقه أصلا، وبالتالي يمكن تلخيص شروط تطبيق القانون الأصلح للمتهم في الشرطين التاليين: أن يكون القانون الجديد قد صدر قبل صدور حكم نهائي بات في القضية، وأن يكون القانون الجديد أقل شدة أو أصلح للمتهم من وجهة نظر القانون لا من وجهة نظر المتهم. وهو ما نبينه في نقطتين مستقلتين، غير أننا ننبه بأن هناك شرط ثالثا ضمني لا نحاول تفصيله، على اعتبار أنه شرط بديهي، وهو أن نكون فعلا أمام تنازع للقوانين أي أن يصدر قانون جديد قبل صدور حكم نهائي بات على الشخص، لأننا إن كنا أمام قانون واحد فهو الواجب التطبيق سواء كان شديدا أو كان في مصلحة المتهم.

1- أن يكون القانون الجديد أقل شدة للمتهم ( أو أصلح للمتهم):

وهي أن يكون القانون الجديد الذي صدر ليزاحم القانون القديم الذي حدثت في ظله الجريمة أصلح للمتهم، وبالتالي فالمسألة تتعلق بتنازع القوانين، وعلى القاضي أن يختار منهما أي قانون يحقق مصلحة المتهم بإعمال معايير وضوابط قانونية تمكنه من الحكم على صلاحية القانون، حيث الأمر غير متروك لتقدير المتهم ولا لاختياراته، إذ ما قد يراه المتهم في صالحه، قد لا يكون كذلك من وجهة نظر القانون، كما أن مسألة اختيار القانون الأصلح للمتهم مسألة موضوعية يستقل بتقديرها قاضي الحكم في ظل الظروف المحيطة بالقضية وشخصية الجاني[8]، إذ لهذه الأخيرة دور كبير في تحديد القانون الأصلح للمتهم، سيما في الحالات الغامضة التي أثارت الكثير من الجدل في الفقه حول تحديد صلاح القانون للمتهم، لذا وجدت الكثير من الأسس والضوابط الموضوعية المستندة أحيانا لبعض الظروف الشخصية، التي من شأنها تمكين القاضي من إجراء مقارنة قانونية بين القانونين وتحديد أيهما أصلح لحالة المتهم في ظل ظروفه التي ارتكب فيها الجريمة.

أ- الضوابط المعمول بها لتحديد القانون الأصلح للمتهم:

سبق وأن رأينا انه من خصائص القاعدة أو النص الجنائي أنه يتألف من شقين أساسيين، شق التجريم وشق الجزاء، وأن الأولوية للشق الأول على الثاني، كون الأخير ما هو إلا أثر مترتب عن اقتراف شق التجريم المتضمن النهي أو الأمر، وأن توقيع الجزاء تحصيل حاصل، لذا فمسألة تنازع القوانين من حيث الزمان، والبحث في أي منهما أصلح للمتهم، قد ينظر فيه لشق التجريم، كما قد ينظر فيه لشق الجزاء، ووفقا للقانون الأولوية دوما لشق التجريم على شق الجزاء، أي أولوية شق التجريم على شق الجزاء إعمالا للمادتين 27 و5 من قانون العقوبات الجزائري[9]، وتنازع القانونيين قد يكون من حيث شق التجريم وقد يكون من حيث شق العقاب، أي أن التعديل الذي مسه القانون الجديد قد يتعلق بأي منهما، وقد يكون متعلقا بكلا الشقين، لذا أوجد الفقه والقضاء معايير تساعد القاضي بخصوص الشق الأول – شق التجريم- وأخرى تعينه في المقارنة بخصوص شق الجزاء.

أ/1-الضوابط المستمدة من الأحكام الخاصة بالتجريم

تطبيقا للمادة 27 من تقنين العقوبات الجزائري، التي قسمت الجرائم إلى جنايات ثم جنح ثم مخالفات، وبالنظر للمادة 5 من ذات القانون التي بينت العقوبات الأصلية لكل من هذه الأنواع، فإن القاضي ملزم بإتباع الترتيب الوارد بهذه المواد، وبذلك يكون القانون الجديد أصلح للمتهم في الحالات التي نعطي عليها أمثلة في النقاط التالية، مع العلم أن المسألة تنأى عن الحصر، كون شق التجريم ترتبط به العديد من الأفكار المتعلقة بالإباحة والمسؤولية وموانعها والنظريات المعمول بها بخصوص الشروع والاشتراك والمساهمة، وما إلى غير ذلك من أفكار، غير أن أهم الحالات التي يمكن الحكم فيها على القانون أنه أصلح للمتهم نذكر:
- حالة إباحة القانون الجديد للفعل الذي كان مجرما بالقانون القديم، وهي من أهم الحالات التي يمكن فيها للمتهم الاستفادة من القانون الجديد حتى ولو كان صدر عليه حكم نهائي بات، أي دون انتظار تحقق الشرط الثاني لتطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم.
- إضافة القانون الجديد للنص القديم سبب من أسباب الإباحة أو مانع من موانع المسؤولية يستفيد منه المتهم في الظروف المحيطة بالجريمة، أو إضافة مانع من موانع العقاب – وإن كان هذا الشق يتعلق بالجزاء لا بشق التجريم-
- إضافة النص الجديد للجريمة ركنا لم يكن مشترط في النص القديم، ويستفيد من هذه الإضافة المتهم، أي تخلف في حقه الركن الجديد الذي اشترطه النص الجديد.
- إعادة تكييف الفعل من الوصف الأشد إلى الوصف الأخف، كأن كان الفعل جناية وأصبح جنحة، أو كان جنحة وأصبح مخالفة. وذلك بغض النظر عن مدة العقوبة.
- إلغاء فكرة العقاب على الشروع في الجريمة، إذ كان النص القديم يعاقب على الشروع في الجنحة وألغاه النص الجديد، وكان المتهم في وضع المتابعة لأجل الشروع في الجريمة وفقا للنص القديم.
هذا ونشير أن الحالات السابقة تعد من بين الحالات الأكثر ووضحا، ولا يعني سردها بأنها الوحيدة، فأمر القانون الأصلح للمتهم قد يتعلق بكافة أفكر القانون الجنائي، والإلمام بها يتعين التفرغ من دراسة القانون بأكمله .

أ/2 - الضوابط المستمدة من الأحكام الخاصة بالجزاء

وهي الحالات التي يكون فيها التعديل الوارد بالنص الجديد متعلقا بشق الجزاء، دون الشق المتعلق بالتجريم، وهي الحالات التي تنأى بدورها عن الحصر وتتعلق بكامل نظرية الجزاء الجنائي، غير أوضح الحالات التي درج الفقه على إعطاءها سنوضحها، غير أننا نؤكد بأن القاضي ملزم في تحديد القانون الأصلح للمتهم بنظرة المشرع العامة وترتيبه للجزاءات وأنواعها وقيمتها ومدتها، لا بما يراه المتهم انه أنسب وأصلح له، لذا فالترتيب الوارد بالمادة 5 من تقنين العقوبات الجزائري ملزم للقاضي وإن كان في الغالب لا يخدم مصلحة المتهم. ومن أهم ما درج الفقه على إعطاءه من حالات وأمثلة نذكر.
- حالات تخفيف النص الجديد للعقوبة، ويجب مراعاة التخفيف المتدرج المنصوص عليه في المادة 5 من قانون العقوبات الجزائري، حيث نجد الإعدام، المؤبد، السجن المؤقت من خمس سنوات إلى عشرين سنة، الحبس من شهرين إلى خمس سنوات، الغرامة التي تتجاوز 20.000 دج، الحبس من يوم إلى شهرين، الغرامة من 2000 دج إلى 20.000 دج[10].
- في حالة اتحاد العقوبة في الجنس والنوع، فالقانون الأصلح هو الذي ينقص من المدة، كان كانت العقوبة في كلا القانونين السجن أو الحبس، فإن القانون الأصلح الذي ينقص من المدة، وإن كانت العقوبة الغرامة في كلا القانونيين، فإن القانون الأصلح هو الذي ينقص من مقدارها.
- كما يعد القانون الصلح للمتهم، القانون الذي ينقص من عدد العقوبات، كأن كانا عقوبتين فجعلهما واحدة،
أو كانت إجباريتين فأعطى الخيار للقاضي.
- إذا جاء القانون الجديد بوقف التنفيذ، أو أضاف مانع من موانع العقاب، أو عذر مخفف سواء كان قضائي أو قانوني.
- إلغاء القانون الجديد للعقوبات التبعية أو التكميلية بعدما كان القانون القديم يتضمنها.
- غير أنه هناك إشكال، يتمثل في كون العقوبات في غالبية التشريعات مبنية على نظام الحدين، حد أدنى وحد أقصى وللقاضي السلطة التقديرية في الحكم بينهما، أو حتى النزول عن الحد الأدنى إعمالا لظروف التخفيف ( المادة 53 من قانون العقوبات وما بعدها من مواد مكررة)، وهنا يكون أي قانون أنزل أحد الحدين سواء كان الأدنى أو الأقصى هو الأصلح للمتهم، وأي منهما رفع هذين الحدين هو الأسوأ، غير أن الإشكال يكمن في الحالة التي يعدل فيها الحدين، وهنا لا إشكال في الذي ينزل بهما معا، فهو دوما الأصلح، كما أنه لا إشكال بخصوص القانون الذي يصعد بهما معا فهو دوما الأسوأ، لكن الإشكال في الذي يرفع من أحدهما وينزل من الآخر، كالرفع من الحد الأدنى والنزول بالحد الأقصى، أو العكس، فهنا ثار جدل فقهي انتهى واستقر في نهاية المطاف أن القاضي ينظر فيه إلى حالة المتهم، فإن كانت ظروفه الشخصية تستحق التخفيف فالقانون الذي ينزل بالحد الأدنى أصلح له حتى وإن رفع من الحد الأقصى، وذلك لكونه جدير بالحد الأدنى، مهما زاد الحد الأقصى، وإن كانت ظروفه الشخصية تقود للتشديد كان يكون عائدا فالقانون الذي ينزل بالحد الأقصى هو الصلح له حتى وإن رفع من الحد الأدنى كونه جدير بالحد الأقصى.

كما يثور الإشكال حول القانون الذي يجمع بعض القواعد التي تعد في صالح المتهم، والبعض الآخر منها في ضد مصلحته، فهنا الحل يكمن في البحث عما إذا كان القانون قابل للتجزئة من عدمها، والقابلية للتجزئة تعني إمكانية تطبيق بعض قواعده في معزل عن الأخرى، على عكس القانون الذي يتضمن قواعد تعد كل واحد لا يقبل التجزئة، مثل القانون الذي يجعل العقوبة التكميلية التي كانت وجوبية وجعلها جوازية، مع رفعه لمدتها، فهنا يجب النظر لظروف القضية على حدا، فإن كانت ظروف الجاني تقتضي التخفيف اعتبر القانون الجديد أصلحا له بالرغم من كونه رفع من مدة العقوبة التكميلية كونه أجدر بتطبيق ظروف التخفيف، والعكس غير صحيح، لذا فمسألة تقدير القانون الأصلح للمتهم، في القوانين القابلة للتجزئة بناء على العلاقة المنطقية بين مختلف النصوص القانونية، والسياسة الجنائية، وفي ضوء اعتبارات شخصية ينظر فيها لشخصية الجاني، وليس بنظرة موضوعية مجردة، وبناء على ذلك يقدر القاضي القانون، ويمتنع عليه تطبيق القانون الشد بأثر رجعي، عكس القانون الأصلح.

وهناك إشكالية أكثر تعقيدا، تتمثل في تنازع ثلاثة قوانين، خاصة إذا ارتكبت جريمة في ظل قانون أشد، ثم صدر قبل الحكم النهائي قانون أقل شدة، وقبل صدور حكم نهائي في القضية صدر قانون ثالث أشد من سابقه وفي ظله سيحاكم المتهم، فأي قانون من بين هذه القوانين الثلاثة سيطبق؟، السائد فقها وقضاء، هو تطبيق القانون الثاني الذي يعد الأصلح للمتهم، خاصة وأن عدم صدور حكم على المتهم في ظل هذا القانون مرده تأخر الإجراءات والمحاكمة، وهي مسألة لا دخل للمتهم فيها، لذا لا يجب أن نحمله عبء تأخر الإجراءات وبطء المحاكم في إصدار الأحكام، إلا أنه بالرغم من وجاهة هذا الرأي ومنطقيته، إلا أن الفقه يرى الأخذ بوجهة النظر هذه بحذر وتحفظ، كون التنازع في الأصل يقوم بين قانونين لا أكثر، وهما القانون الذي حدثت في ظله الواقعة المتابع الشخص من أجلها، والقانون الساري وقت المحاكمة، لذا فليس للمتهم المطالبة بالقانون الثاني- الوسط- لأنه وضع المتهم في ظل سريان هذا القانون لم يتغير، حيث لم يرتكب في ظله الجريمة، كما أنه لا يحاكم في ظله.

كما أن إشكال بطء الإجراءات قد يتسبب في بعض الأوضاع غير المنطقية، حيث أن مسألة التنازع بين القوانين وقاعدة تطبيق القانون الأصلح للمتهم، تثير إشكال في الحالة التي ترتكب فيها جريمتين من نفس النوع، من شخصين، في حين يكون قد صدر على أحدهما حكم نهائي بات حائز لقوة الشيء المقضي فيه، وفي هذه الحالة ينتفي ركن هام من أركان تطبيق القانون الأصلح للمتهم، في حين تأخرت مع الآخر الإجراءات، ولم يصدر ضده حكم نهائي، وبالتالي صدر قانون جديد يعد أصلحا له، ففي هذه الحالة سيستفيد منه، مما يخلق وضعين قانونيين شاذين، حيث يسرى على واقعتين من نفس النوع حدثتا في ذات الوقت قانونيين مختلفين، مما يؤدي إلى الحكم على المتهمين بعقوبتين مختلفتين، إحداهما أشد من الأخرى،
أو أن يدان أحدهما ويبرأ الآخر، خاصة لو أن القانون الجديد قد أباح الفعل، وهنا يرى البعض أنه لا سبيل إلى إصلاح هذا الوضع، إلا عن طريق إجراء العفو، وهو إجراء في جوهره وطبيعته يختلف عن مسألة التخفيف من العقوبة أو إلغائها أو إباحة الفعل. لذا نجد بعض التشريعات تضمنت معالجة لهذه المسألة، وذلك بإعادة النظر في القضية ككل، مثل القانون الدنمركي في المادة الثالثة من تقنين عقوباته، والمادة 24 من قانون العقوبات الإسباني، والمادة 6 من قانون العقوبات البرتغالي، والمادة 2 من قانون العقوبات البولندي، وهو الاتجاه الذي تبناه المؤتمر الدولي للقانون الجنائي المنعقد في برلين سنة 1935.


.
2- ألا يكون قد صدر حكم نهائي بات في القضية

الشرط الثاني لتطبيق القانون الأصلح للمتهم، بعد توفر الشرط الأول المتمثل في تزاحم قانونين، هو ألا يكون قد صدر في القضية حكم نهائي بات، والحكم النهائي البات هو الحكم الذي لا يقبل أي طريق من طرق الطعن، سواء العادية أو غير العادية، وهو أمر بديهي ومنطقي، حيث لا يجب أن يتم المساس بقرارات العدالة النهائية احتراما للأوضاع والمراكز القانونية التي خلقتها، واحتراما لمبدأ حجية الشيء المقضي به المعمول بها في القانون أي كان نوعه، وفي المجال الجنائي تجنبا لمحاكمة الشخص عن الفعل الواحد مرتين.

غير أن هذا الشرط، وكما سبقت الإشارة، لا يمس بالحالة التي يباح فيها فعل كان مجرما بموجب قانون قديم عدل أو ألغي، بالرغم من أن الموضوع قد أثار خلافا وجدلا فقهيا حادا، إلا أنه استقر في نهاية المطاف، على إفادة المتهم بالقانون الذي جاء بالإباحة، بحجة أنه لا فائدة من العقاب على فعل أصبح مباحا في نظر المجتمع، غير أن غالبية الدول العربية تضمنت قوانينها العقابية حلا قانونيا صريحا للمسألة، تبنت فيه الرأي السابق، ومن أمثلتها المادة 5/3 من تقنين العقوبات المصري، والمادة 2 من تقنين العقوبات اللبناني، والمادة 2 من تقنين العقوبات السوري، على عكس المشرع الجزائري الذي لم يضمن قانونه نصا خاصا بالمسألة أسوة بالمشرع الفرنسي.

ثانيا: الاستثناءات الواردة على قاعدة رجعية القانون الأصلح للمتهم

إن كانت قاعدة رجعية القوانين الأصلح للمتهم في المجال الجنائي، تمثل استثناء على قاعدة عدم رجعية القوانين، فهذا الاستثناء ترد عليه استثناءات – بمعنى العودة للقاعدة- وهي أنه لا رجعية للقوانين الإجرائية والمحددة المدة حتى ولو كانت أصلح للمتهم. كون القوانين الإجرائية قوانين تنظم مرفق العدالة ولا خيار للمتهم ولا فائدة له في التنظيم، والمسألة تخص الدولة لا الأفراد، والقوانين المحددة المدة التي يسنها المشرع لمواجهة ظروف وحالات مؤقتة تقتضي طبيعتها وظروفها ذلك، لا يمكن تقييدها باستثناء الرجعية كون ذلك يفقدها الهدف الذي لأجله سنها المشرع، وتكون سببا لتهرب الأفراد ومناورته لغاية انتهاء مدة القانون للاستفادة بفكرة القانون الأصلح للمتهم. وهو ما نوضحه في النقطتين التاليتين.

1- القوانين المؤقتة أو المحددة المدة(Les lois temporaires)

وهي القوانين التي يصدرها المشرع لمواجهة فترات استثنائية معينة أو أوضاعا محددة، وهي مستثناة من رجعية القانون الأصلح للمتهم، حتى ولو لم يكن قد صدر ضده حكم نهائي حائز لقوة الشيء المقضي به، والقول بخلاف ذلك يفقد هذه القوانين معناها والهدف الذي كان يتوخى منها. غير أن ما تجدر الإشارة إليه، هو أن القوانين المؤقتة تختلف عن القوانين الاستثنائية Les lois exceptionnellesأو القوانين الظرفية Lois de circonstances حيث أنها قوانين فعلا مؤقتة بطبيعتها، غير أنها سنت لمواجهة ظروف معينة دون أن تحدد مدة معينة للعمل بها، بل ذلك مرهون بالمدة التي يستغرقها الظرف الذي سنت لأجله، وهو الظرف الذي في العادة ما يكون سياسيا أو اقتصاديا، حيث لا ينتهي العمل بها إلا بصدور قانون يلغي العمل بها، على عكس القوانين المؤقتة التي تتضمن تاريخ سريانها، وهنا يرى الغالبية تطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم، حيث لا يمكن اتهام الشخص بتحايله اتجاهها رغبة منه في كسب الوقت حتى إلغائها، كونه لا يعلم بتاريخ إلغائها، على عكس القوانين المؤقتة التي يعمل فيها المتهم ذكائه ويتحايل على القوانين حتى ينتهي العمل بها استفادة من قاعدة القانون الصلح للمتهم، لذا حرم منها في غالبية القوانين الجنائية.

2- القوانين الإجرائية:

تثار مسألة تنازع القوانين الإجرائية من حيث الزمان، وهي القوانين التي يحكمها مبدأ الأثر
أو السريان الفوري، غير أن المبدأ تعترضه بعض الصعوبات العملية في التطبيق، ويرى فقهاء القرن التاسع عشر أن كل إجراء يجب أن يكتمل في ظل القانون الذي شرع أثناء سريانه، وبالبعض يرى المقارنة بين القوانين الإجرائية وتطبيق الأصلح منها مثلما هو الشأن بالنسبة للقوانين الجنائية الموضوعية، غير أن غالبية الفقه يرى وجوب التطبيق الفوري للقوانين الإجرائية دون رجعية، ولا مجال لإعمال مبدأ القانون الأصلح للمتهم بخصوص هذا النوع من القوانين، كونها قوانين صدرت لأجل المصلحة العامة، ومن أجل مصلحة المتهم أيضا وبالتالي يفترض فيه انه أفضل من سابقه من حيث التنظيم القضائي وإظهار الحقيقة بكل جوانبها، وأن القوانين الإجرائية لا تعد حقا مكتسبا يطالب بالاحتفاظ بها، غير أن ذلك أثار جدلا فقهيا، وهو الجدل الذي لم يكن بسهولة وضع هذا الحل الذي تتفق عليه غالبية القوانين. لذا رأى البعض بأنه يجب أن يكون هناك معيار تبنى عليه مسألة التفرقة بخصوص التطبيق الفوري للقوانين الإجرائية، سيما الوقائع التي خضعت لحكم ابتدائي، حيث يرى البعض أن يكون هذا الحكم معيارا للتمييز، حيث يطبق القانون الجديد إن لم يكن قد صدر حكم ابتدائي في القضية، وإن كان قد صدر فيها حكما ابتدائيا فيجب اتباع الإجراءات في ظل القانون القديم تجنبا لكثرة المصروفات وحفاظا على الحقوق التي يكون قد اكتسبها المتهم من خلال هذا الحكم. كما أن طرق الطعن في الأحكام القضائية، يحكمها القانون الذي صدرت في ظله، كونه القانون الذي يكشف عن طبيعة هذا الحكم ونوعه ومدى قابليته للطعن من عدمه ونوعية هذا الطعن، ومواعيده، والأشخاص الذين يجوز لهم ذلك وأسباب بناء الطعن، حيث يظل الشخص خاضعا لطرق الطعن التي كان منصوصا عليها في القانون الذي صدر في ظله الحكم، حتى وإن كان القانون الجديد قد ألغاها.

كما أن نصوص التقادم تثير بعض الخصوصية بالنظر للطبيعة الخاصة لهذه النصوص، سواء تعلقت بتقادم الجريمة أو الدعوى أو العقوبة، كونها نصوص يمكن القول أنها ذات طبيعة موضوعية، وبذلك يمكن إخضاعها لقاعدة القانون الأصلح للمتهم، حيث القانون الذي يزيد من مدة التقادم يعد الأصلح أو الذي يرسي التقادم بعدما كان النص القديم لا يخضع الفعل للتقادم في أي جانب من جوانبه. وإن اعتبرت النصوص المتعلقة بالتقادم، من النصوص الإجرائية، فهنا يسري عليها ما سري على النصوص الإجرائية من حيث قاعدة الأثر الفوري لها، أم هناك حل خاص يجب اعتماده نظرا للطبيعة الخاصة المتعلقة بالتقادم؟.في الواقع حدث نقاش فقهي حاد بخصوص هذه المسألة، ولم يتفق الفقه إلا على نقطة واحدة، وهي أن القانون الجديد لا يطبق على تقادم اكتملت مدته وفتح باب التقادم من جديد،كون ذلك يتعارض ومبدأ عدم الرجعية، بينما بخصوص التقادم الذي لم يكتمل، اعتبره القضاء الفرنسي من القوانين الموضوعية التي تخضع للقانون الأصلح للمتهم، غير أنه سرعانما تراجع القضاء وجعله من القوانين الإجرائية التي تخضع للتنفيذ الفوري دون رجعية[11].غير أن المسألة لم تتوقف عند هذا الحد، بل ظهرت أفكار فقهية أخرى، تصب في غالبها في اتجاه جعل هذه القوانين المتعلقة بالتقادم تخضع لما تخضع له سائر القوانين الإجرائية.

ثالثا: مسألة تحديد تاريخ ارتكاب الجريمة

مسألة تنازع القوانين من حيث الزمن، واختيار الأصلح منهما للتطبيق على المتهم، تقتضي تحديد تاريخ ارتكاب الجريمة ووقته، حيث معرفة تاريخ وقوعها وما إن كان في ظل سريان القانون القديم
أو سريان القانون الجديد من شأنه أن يحسم كل خلاف، خاصة إن كنا نعلم أن بعض الجرائم ترتكب في وقت قصير من الزمن، والبعض الآخر تتراخى عبر الوقت، حيث يستغرق الركن المادي للجريمة في هذا النوع وقتا من الزمن، قد يطول وقد يقصر، بحيث قد ترتكب بعض الأفعال في ظل القانون القديم، وبعضها الآخر في ظل القانون الجديد، فهنا يثور تساؤل حول أي القانونيين يطبق؟ ومن الطبيعي القول بأن القانون الواجب التطبيق، هو القانون الذي حدث في ظله الركن المادي للجريمة، وبالتالي وقت وقوع هذا الركن هو المحدد للقانون الواجب التطبيق، حيث يكون القانون الساري المفعول وقت وقوعه، لكن الإشكال أن السلوك قد يقع في ظل قانون وتحدث النتيجة في ظل قانون آخر جديد، فهل يجب أن نأخذ بعين الاعتبار زمن اقتراف الفعل أو زمن تحقق النتيجة؟. هنا ظهرت ثلاثة آراء فقهية، الأول يرى أن العبرة بتاريخ اقتراف السلوك الإجرامي، وبالتالي القانون الواجب التطبيق هو القانون الساري وقت إتيان السلوك، والبعض الثاني يرى أن العبرة بتحقق النتيجة، وبالتالي القانون الواجب التطبيق هو القانون الساري المفعول وقت تحقق هذه النتيجة، والرأي الثالث يأخذ بالاتجاهين السابقين معا، حيث يجب أن نقارن ما بين القانونيين أيهما أصلح للمتهم ويطبق، ونرى أنه الرأي الأصوب كون الجريمة اكتمال وتحقق في ضوء القانونيين، ونكون بصدد تنازع نبحث فيه عن القانون الصلح للمتهم. غير أن البعض، يرى الأخذ بالرأي الأول لأن الجريمة في نظره يكتمل ارتكابها عند اقتراف السلوك المادي، ولا عبرة بالنتائج، فالفعال يسأل عنه بغض النظر عن حدوث النتيجة خاصة في الجرائم العمدية.

وبخصوص الجرائم المستمرة التي لا يرتكب فيها الفعل المادي دفعة واحدة بل يأخذ وقت من الزمن فيه قد يعدل القانون أو يصدر قانون آخر يثير مسألة تنازع القوانين من حيث الزمان، والاستمرار قد يكون متتابع كانتحال الألقاب أو الصفات، وهنا لإرادة الجاني دور في حالة الاستمرار، وهناك جرائم مستمرة دائمة كجريمة تزييف النقود، أو تقليد الأختام، وفيها الآثار وحدها المستمرة وليس الركن المادي الذي حدث دفعة واحدة، ويعامل هذا النوع من الجرائم معاملة الجرائم الوقتية. أما النوع الأول المتمثل في الجرائم المستمرة المتتابعة، حيث تختلف عن سابقتها، إذ فيها الفعل المادي لا يرتكب دفعة واحدة، وإنما يرتكب باستمرار حيث كل لحظة تمر تعد الجريمة مرتكبة فيها برمتها، حيث في هذه الحالة يكفي أن تستمر الجريمة ولو للحظة واحدة بعد صدور القانون الجديد ليطبق حتى ولو كان اشد بالنسبة للمتهم، وهناك إشكال آخر بخصوص هذه الحالة، يتمثل في حالة اشتراط القانون لفترة من الزمن كعنصر أساسي في السلوك، مثل الإهمال العائلي والامتناع عن دفع النفقة المقررة قضاء، حيث يشترط الإهمال أو الامتناع أن يتم لفترة من الزمن، قدرها المشرع في هاتين الجريمتين بشهرين، فالرأي الراجح فيها أن يطبق القانون الجديد في الحالة التي تتم فيها المدة هذه في ظله، حيث يشترط أن تمر فترة الشهرين في ظل القانون الجديد حتى تعد الجريمة مرتكبة في ظله.

وفي جرائم الاعتياد، التي تفترض تكرار الفعل الواحد أكثر من مرة، فما حكم الفعل إذا ارتكب عدد من المرات في ظل القانون القديم، ومرة واحدة في ظل القانون الجديد، ففي رأي الفقه لا يأخذ بعين الاعتبار إلا حالات التكرار التي ارتكبت في ظل القانون الجديد، واعتبار الحالات الواقعة قبل صدوره كأن لم تكن ولا تأخذ بعين الاعتبار في تكوين حالة التكرار أو الاعتياد. وإن كانت أحكام القضاء تظهر عكس ذلك، حيث يرى القضاء أن القانون في مثل هذه الجريمة يعاقب على حالة الخطورة الكامنة لدى الجاني، وأن الفعل الأخير في الحقيقة هو الذي يبين هذه الخطورة الإجرامية، وبالتالي يمكن اعتبار أن الفعل الأخير هو الذي كون حالة الاعتياد وبالتالي هو الذي كشف عن الخطورة الإجرامية لدى الجاني التي تستحق العقوبة.

وفي حالة العود، غالبية الفقه يرى أن الحكم الصادر في ظل القانون القديم لا يعد سابقة كوننا نرتب آثار قانونية عن قانون لم يعد معمولا به، كما تثار مسألة وقت ارتكاب الجريمة بخصوص حالة تعدد الجرائم، سواء كان تعدد صوري أو تعدد حقيقي، الذي سمى أيضا بالتتابع الإجرامي أو الجرائم المتتابعة، كالسرقة على عدة دفعات...

.
المطلب الثالث
نطاق تطبيق النص الجنائي من حيث المكان
تنازع القوانين الجنائية من حيث المكان

إن كانت فكرة تنازع القوانين الجنائية من حيث الزمان تخص قانونيين صادرين من نفس المشرع، داخل البلد الواحد، فإن تنازع القوانين الجنائية من حيث المكان تتعلق بقوانين مختلفة لدول مختلفة، فالجريمة كمشروع يمكن أن يمتد تنفيذه لأكثر من إقليم واحد، وتسهر على ذلك عصابات إجرامية من جنسيات مختلفة، وقد تمس الجريمة الواحدة بمصالح العديد من الدول، لذا كان يتعين تحديد نطاق تطبيق القانون الجنائي للدولة، باعتباره قانون يجسد سيادتها، وهي السيادة التي تتجسد أولا على إقليم الدولة ومواطنيها، وفي بعض الأحيان تتبع هؤلاء إلى خارج هذا الإقليم، وفي أحيان أخرى فكرة الإقليم ذاتها في القانون الجنائي ذات مدلول مختلف عما تعارف عليه الناس وفقا للقانون الدستوري والقانون الدولي.

لهذه الأسباب – ولأسباب كثيرة أخرى متعددة- فإن مسألة تحديد نطاق السريان المكاني للنص الجنائي، تتحدد باختصار بتطبيق أربعة مبادئ أساسية تأخذ بها غالبية التشريعات الجنائية المعاصرة، وإن كان بعضها ليس بصفة صريحة مثل مبدأ العالمية- من بين هذه المبادئ ما هو أصلي تنعقد له الأولوية على سائر المبادئ الأخرى، كمبدأ الإقليمية، ومنها ما هو احتياطي كمبدأ الشخصية والعينية اللذان لا يعدان من المبادئ التي تكمل مبدأ الإقليمية وتسد النقائص التي يواجهها تطبيق هذا الأخير، ومنها ما يجسد فكرة التعاون الدولي، وتدويل مواجهة ظاهرة الإجرام، مثلما هو الشأن بالنسبة لمبدأ العالمية. لذا وعلى عكس البعض، الذي يرى أن مبدأ الإقليمية القاعدة ويفرده بنقطة، ويشمل باقي المبادئ في نقطة أخرى باعتبارها استثناءات له، فإننا سنحاول أن نبين كل مبدأ من هذه المبادئ في نقطة مستقلة، باعتبارها تتكامل فيما بينها بما يضمن مكافحة الجريمة ومتابعة مرتكبيها وضبطهم ومحاكمتهم على نحو فعال. غير أننا سنتناول مبدأ الإقليمية في فرع مستقل، لنتناول في فرع آخر المبادئ الأخرى المكملة له، والتي يسميها البعض مبادئ احتياطية، وسبق لنا نحن، أن قلنا انها مبادئ تتعاون وتتكامل فيما بينها.

الفرع الأول
المبـــدأ الأصلي( مبدأ إقليمية النص الجنائي)

يعني مبدأ إقليمية تطبيق النص الجنائي، أن قانون العقوبات يسري على كل الجرائم أيا كان نوعها التي ترتكب على إقليم الجمهورية، وأيا كانت جنسية مرتكبها أو المرتكبة عليه[12]، وطنيا أو أجنبيا، ولهذا المبدأ بعض المبررات التاريخية التي جعلت منه من أقدم المبادئ – وإن كان البعض يرى أن الأقدم هو مبدأ الشخصية وذلك صحيح في نظرنا- كما ينطوي على العديد من المبررات السيادية المتعلقة بسيادة الدولة على إقليمها، بالإضافة لما له من فوائد عملية في إثبات الجرائم ومتابعة مرتكبيها ومحاكمتهم محاكمة فعالة تحقق أفكار الردع العام والخاص، كل ذلك انعكس على طريق تطبيق هذا المبدأ، حيث تمت معاملة بعض الأوضاع أو بالأحرى بعض المركبات معاملة الإقليم، بالرغم من اختلافها التام عنه، مثلما هو الشأن بالنسبة للطائرات والسفن، كما أنه وبالرغم من أولية وأصالة وسيادة مبدأ الإقليمية، إلا أنه ترد عليه بعض الاستثناءات التي تمليها القوانين والأعراف الدولية، سواء كانت سياسية أو دبلوماسية أو قنصلية، وبعض الأحكام الدستورية الأخرى، مما جعل من بعض الجرائم المرتكبة على الإقليم الوطني غير خاضعة للقانون الوطني، وهو ما اصطلح في معالجته باستثناءات مبدأ الإقليمية، وهي المسائل التي نوضحها في النقاط التالية.

أولا: معنى ومبررات مبدأ الإقليمية

يقصد بمبدأ إقليمية النص الجنائي، تطبيق التشريع الوطني الجنائي على كافة الجرائم المرتكبة على إقليم الدولة الجزائرية، بصرف النظر عن جنسية مرتكبها أو المرتكبة عليه، وبغض النظر عن المصلحة
أو الحق المعتدى عليه، سواء كانت مصلحة أو حق وطني أو أجنبي، لذا يرى البعض أنه للمبدأ شقين
أو وجهين، أحدها سلبي ويتمثل في انحسار تطبيق القانون الوطني خارج الإقليم، والآخر إيجابي يتمثل في تطبيق القانون الجنائي الوطني على إقليم الدولة دون مزاحمة من أي تشريع أجنبي آخر. وقد تضمنت المادة 3 من تقنين العقوبات الجزائري النص على مبدأ إقليمية النص الجنائي، بنصها على:" يطبق قانون العقوبات على كافة الجرائم التي ترتكب في أراضي الجمهورية.كما يطبق على الجرائم التي ترتكب في الخارج إذا كانت تدخل في اختصاص المحاكم الجزائية الجزائرية طبقا لأحكام قانون الإجراءات الجنائية"[13].

أما المبررات التي جعلت من غالبية التشريعات الجنائية تأخذ بمبدأ إقليمية النص الجنائي، فإننا نذكر أهمها في النقاط التالية[14]:
1- يعد مبدأ إقليمية تطبيق النص الجنائي، مظهر من مظاهر ممارسة الدولة لسيادتها على إقليمها، وبالتالي تطبيق قانونها على كل ما يقع عليه من أفعال رأت تجريمها، أيا كان مرتكبها أو المرتكبة عليه، وأيا كانت المصلحة المتعدى عليها وطنية أو أجنبية.
2- مبدأ إقليمية النص الجنائي يقود إلى تطبيق قانون مكان ارتكاب الجريمة، ويقضي باختصاص المحاكم الجنائية بنظر الدعوى، وهو أنسب مكان لمحاكمة المتهم، حيث فيه تتوفر أدلة الإثبات، وبه غالبا ما يوجد المتهم.
3- محاكمة المتهم في المكان الذي ارتكب فيه جريمته، وتوقيع الجزاء عليه في هذا المكان، يرسخ فكرة الردع العام الذي يسعى لتحقيقه الجزاء الجنائي.
4- كما أنه من مصلحة المتهم تطبيق قانون البلد الذي ارتكب فيه جريمته، لافتراض علمه بهذا القانون، مما يحقق أغراض مبدأ الشرعية الجنائية ويحقق العدالة من خلال عدم مفاجئة المتهم بقوانين يجهلها.

لذا فالقانون الجنائي الجزائري يطبق على كافة إقليم الجمهورية الجزائرية، وفقا لما هو متعارف عليه في أحكام القانون الدولي العام[15]، ووفقا لنص المادة 12 من دستور 1996 المعدل والمتمم التي بينت معنى الإقليم، وإن كان القانون الجنائي يعطي له مدلولا آخرا، حيث نصت هذه المادة على أنه:" تمارس سيادة الدولة – ونلاحظ أن المادة عبرت عن الموضوع بالسيادة ولا تتعلق فقط بالقانون الجنائي- على مجالها البري ومجالها الجوي، وعلى مياهها، كما تمارس الدولة حقها السيد الذي يقره القانون الدولي على كل منطقة من مختلف مناطق المجال البحري التي ترجع إليها.". وزيادة على ما ذكر بالهامش أدناه حول الإقليم، فيمكن أن نضيف أن قوانين العقوبات لا تهتم ببيان نطاق إقليم الدولة، بل تفرض سلفا أن هذه الفكرة معروفة ومحددة بواسطة القانون الدولي، والإقليم في العادة يشمل الإقليم البري الذي تحدده الاتفاقيات الدولية، ويشمل المياه التي تحت جوف الأرض والأنهار والقنوات التي تمر به سواء كانت أنهارا وطنية أو دولية، وأما الإقليم البحري فبينته اتفاقية سنة 1958 المتعلقة بالبحر الإقليمي التي بينت في مادتها الأولى على أن سيادة الدولة تمتد خارج إقليمها البري ومياهها الداخلية إلى حزام من البحر ملاصق لشواطئها يسمى البحر الإقليمي، وبخصوص الإقليم الجوي وقعت اتفاقية باريس سنة 1919 مبينة أنه لكل دولة سيادة كاملة وانفرادية على طبقات الهواء التي تعلو إقليمها البري وبحرها الإقليمي وحتى مستعمراتها – كون الاتفاقية وقعت وقت الحركات الاستعمارية- وأكدت على ذلك من جديد اتفاقية شيكاغو سنة 1944 التي اعتبرت مادتها الأولى الهواء عنصرا تابعا لإقليم الدولة، غير أنه مبدأ اهتز أمام التطور العلمي مما أدى إلى التفكير في تحديد الإقليم الهوائي بارتفاع محدد، لذا أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 19-12-1966 في دورتها 21 القرار رقم 3222 بالموافقة على مشروع اتفاقية تنظم استعمال واستغلال الدول للطبقات العليا في الجو بما فيها القمر والكواكب الأخرى، ونصت هذه الاتفاقية في مادتها 11 على أن طبقات الجو العليا تخرج عن سيادة كل دولة، غير أنها اتفاقية لم تحدد المسافة التي تكون بين الفضاء الجوي وطبقات الجو العليا.

ثانيا: تحديد مكان وقوع الجريمة

من المتفق عليه قانونا أن مكان وقوع الجريمة يتحدد بالمكان الذي يقع فيه ركنها المادي سواء اجتمعت أركانه الثلاثة وهنا لا إشكال، لكن من المتصور أن تتوزع هذه العناصر على أكثر من إقليم واحد فهنا يثار الإشكال حول تحديد أي منها يكون مكانا لوقوع الجريمة، هنا السائد أن قوانين كل الدول التي توزعت عليها الجريمة يكون مختصا بنظر الجريمة، وهو الوضع أيضا في الجرائم المستمرة حيث يكون قانون كل إقليم قامت فيه حالة الاستمرار مختصا بنظر الجريمة، غير أن جرائم الامتناع تعد مرتكبة في الإقليم الذي حصل فيه الامتناع وكان من الواجب أن يقوم فيه الجاني بما هو مطلوب منه قانونا، كما أنه يعد إقليم ارتكبت فيه الجريمة الإقليم الذي حدثت فيه النتيجة الإجرامية- أو لآثار المباشرة للفعل - حيث أنه إذا أرسل شخص صندوق متفجرات لشخص آخر فتحه فانفجرت عليه وسافر لبلد آخر للعلاج وتوفي هناك يكون مختصا بلد العلاج أيضا بالإضافة للبلدين الآخرين. الأول هو بلد السلوك والثالث بلد النتيجة والثاني بلد علاقة السببية[16]. لكن لا عبرة بالنتائج الحاصلة بعد حدوث النتيجة وإن كانت تشكل جريمة مستقلة فيتحدد الاختصاص بمكان وقوع هذه الجريمة، مثل إخفاء متحصلات السرقة أو إخفاء الجثة التي يعتد بها قانونا ولا الأعمال التحضيرية غير المعاقب عليها.

غير أن الإشكال يكمن في حالة الشروع في الجريمة، وهنا يرى بعض الفقه أن الاختصاص ينعقد للدولة التي شرع في التنفيذ فيها وكذا للدولة التي كان من المفترض حصول النتيجة فيها، في حين يرى جانب آخر من الفقه، منتقدا الرأي الأول أنه لا يجب أن ينعقد الاختصاص لقانون الدولة التي كان يفترض حدوث النتيجة بها، وهو رأي نؤيده كثيرا خاصة وإن كنا نرى أن المجني عليه قد لا يكون عالما أصلا بأنه كان عرضة لجريمة شرع في ارتكابها عليه، كما أنه يثور الإشكال بخصوص المساهمة الجنائية، والتي على نحو ما سنرى تنقسم إلى مساهمة جنائية أصلية ومساهمة جنائية تبعية، ففي الأولى يكون كل الجناة فاعلين أصليين، وهو ما لا يثير أي إشكال حسب البعض إذا ما وقعت الجريمة على إقليم الدولة، لكننا نرى أنه في حالة التحريض قد نكون بصدد مساهمة جنائية أصلية حيث يعد الفاعل الأصلي كل من المحرض والمنفذ، وبالتالي إن كان التحريض في بلد والتنفيذ في بلد آخر فإننا نرى اختصاص قانون كل من البلدين ونفس الشيء بالنسبة للفاعل المعنوي. غير أنه في حالة المساهمة الجنائية التبعية، أين نكون بصدد فعل أصلي وآخر فعل الاشتراك، ونرى أن غالبية القوانين تتبع عمل الشريك بعمل الفاعل الأصلي حيث يرى أنه إذا وقع الفعل الأصلي أو جزء منه في إقليم دولة ما فإن قانونها يمتد للتطبيق على فعل الاشتراك، وأن قانون الدولة التي وقع فيها فقط فعل الاشتراك لا ينطبق تماما، ونؤيد هذا الرأي كون أفعال الاشتراك لا عقاب عليها في حد ذاتها كونها أفعال مباحة تنجذب إلى دائرة التجريم بالنظر لفعل الفاعل الأصلي.

ثالثا: الامتداد الحكمي لفكرة الإقليم

سبق القول، أن المشرع الجزائري، عامل السفن والطائرات معاملة خاصة، في الحالات التي ترتكب عليها جرائم، وعالجهما ضمن إطار مبدأ الإقليمية – وإن كان ذلك في قانون الإجراءات الجزائية- وذلك ضمن المادتين 590 و591، مبينا اختصاص القانون الجزائري بخصوص الجرائم التي ترتكب على متن السفن والطائرات، وحالات وشروط ذلك، مفرقا بين تلك الجزائرية والأجنبية – سواء بخصوص الطائرات أو السفن- أخذا ببعض الحدود التي يمكن تبريرها أحيانا، وأخرى يعجز الشخص عن تفسيرها بعد مقارنة المادتين معا بما تتضمنه من أحوال.

1- بالنسبة للسفــن:

نصت المادة 590 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري على أنه: " تختص الجهات القضائية الجزائرية بالنظر في الجنايات والجنح التي ترتكب في عرض البحر على بواخر تحمل الراية الجزائرية آيا كانت جنسية مرتكبيها. وكذلك الشأن بالنسبة للجنايات والجنح التي ترتكب في ميناء بحرية جزائرية على ظهر باخرة تجارية أجنبية."، من هذه المادة، يتضح بأن المشرع الجزائري، فرق ما بين السفن الوطنية والسفن الأجنبية، وبخصوص الأخيرة فرق بين السفن الأجنبية الحربية والسفن الأجنبية المدنية، واستعمل عبارة السفن التجارية التي نرى ووجوب استبدالها بالمدنية.

أ- بالنسبة للسفن الجزائرية:
متى كانت السفينة جزائرية، فإن قانون العقوبات الجزائري يكون مختصا في حال توفر الشروط التالية مجتمعة[17]، وأن تخلف شرط من هذه الشروط يقود لعدم تطبيقه، وهي:
1- أن تكون السفينة تحمل الراية الجزائرية.
2- أن تكون الجريمة جناية أو جنحة، وبالتالي تستبعد المخالفات.
3- أن يكون مكان ارتكاب هذه الجناية أو الجنحة والباخرة في أعالي البحار، كون هذه المنطقة غير خاضعة لأية سلطة، لأنه لو ارتكبت الجناية أو الجنحة في المياه الإقليمية أو موانئ الجزائر، فاختصاص للقانون الجزائري يكون بموجب المادة 3 من قانون العقوبات، لا بموجب المادة 590 من قانون الإجراءات الجزائية، وإن ارتكبت في مياه إقليمية أجنبية يكون الاختصاص لقانون هذه الدولة تطبيقا لمبدأ إقليميتها.
4- لا عبرة بجنسية الجاني أو المجني عليه، ولا بالمصلحة أو الحق الذي مست به الجناية أو الجنحة.

ب- بالنسبة للسفن الأجنبية:

استعمل المشرع الجزائري بخصوص السفن الأجنبية مصطلح " السفن التجارية" تمييزا لها عن السفن الحربية، هذه الأخيرة التي تعامل معاملة خاصة، وكان عليه أن يستعمل مصطلح " السفن المدنية" كون التجارية قد يفهم منه سفن البضائع دون سفن الأشخاص أو السفن السياحية... وحتى يكون القانون الجزائري مختصا بنظر الجرائم المرتكبة على السفن الأجنبية ما عدا الحربية منها، يجب أن تتوفر الشروط المنصوص عليها في الفقرة الثانية من الماد 590 من قانون الإجراءات الجزائية، وهي:
1 – حسب المادة 590 أن تكون السفينة الأجنبية تجارية، أي ليست حربية – وهو المغزى من الشرط- والسفينة الأجنبية هي التي تحمل جنسية أو راية دولة أخرى.
2- أن يكون الفعل يشكل جناية أو جنحة، وبالتالي تستبعد المخالفات.
3- أنه لا عبرة بجنسية الجاني أو المجني عليه، ولا بالمصلحة التي تم الاعتداء عليها، كون المادة لم تشترط ذلك.
4- أن يكون مكان تواجد السفينة الأجنبية ميناء بحرية جزائرية، وهو ما يفهم منه أن تكون راسية، ونحن نتساءل عن عدم النص على المياه الإقليمية الوطنية باعتبارها من اختصاص قانوننا، على الأقل مثلما نزع المشرع اختصاصنا لما تكون بواخرنا في المياه الإقليمية لدول أخرى، فينزع اختصاص قانون هذه الدول لما تكون بواخرها في مياهنا الإقليمية....غير أن الأمر يمكن مواجهته بالمادة 3 التي تشكل القاعدة العامة متى كانت الباخرة الأجنبية بالمياه الإقليمية الوطنية.

2- بالنسبة للطائرات:
مثلما فعل المشرع الجزائري بالنسبة للسفن، فإنه فعل بالنسبة للطائرات، حيث يتعلق الأمر بالطائرات المدنية دون الحربية، وفرق فيها بين الطائرات الجزائرية والطائرات الأجنبية، وكل منها يجب أن تستجمع جملة من الشروط حتى يكون القانون الجزائري مختصا، وذلك ما بينته المادة 591 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري، التي نصت على أنه: " تختص الجهات القضائية الجزائرية بنظر الجنايات والجنح التي ترتكب على متن طائرات جزائرية أيا كانت جنسية مرتكب الجريمة. كما أنها تختص أيضا بنظر الجنايات
أو الجنح التي ترتكب على متن طائرات أجنبية إذا كان الجاني آو المجني عليه جزائري الجنسية أو إذا هبطت الطائرة بالجزائر بعد وقوع الجناية أو الجنحة. وتختص بنظرها المحاكم التي وقع بدائرتها هبوط الطائرة في حالة القبض على الجاني وقت هبوطها أو مكان القبض على الجاني في حالة ما إذا كان مرتكب الجريمة قد قبض عليه في الجزائر فيما بعد."

أ- بالنسبة للطائرات الجزائرية:
حتى يكون القانون الجزائري مختصا بالتطبيق على الطائرات الجزائرية يجب أن تتوفر الشروط التالية:
1- أن تكون الطائرة جزائرية، أي حاملة للراية الجزائرية،
2- أن يكون الفعل المرتكب يشكل جناية أو جنحة، وبالتالي لا عبرة بالمخالفات.
3- لا عبرة بجنسية الجاني، وبالضرورة إذن لا عبرة بجنسية المجني عليه، ولا بمكان ارتكاب الجريمة، فالقانون الجزائري يتبع طائراتنا أينما حلت حتى في قلب عواصم الدول الأخرى، على عكس ما فعله المشرع بخصوص البواخر.

ب- بالنسبة للطائرات الأجنبية:
يكون قانون العقوبات مختص بالتطبيق على الجرائم المرتكبة على الطائرات المدنية الأجنبية، إذا توفرت الشروط التالية مجتمعة:
1- أن تكون الطائرة أجنبية أي حاملة لجنسية دولة أخرى.
2- أن يكون الفعل بالضرورة يشكل جناية أو جنحة وتستبعد المخالفات.
3- أن يكون الجاني أو المجني عليه جزائريا، أو هبوط الطائرة بالجزائر بعد ارتكاب الجريمة حتى وإن لم يكن الجاني أو المجني عليه جزائريا[18].
وتكون المحكمة التي يتواجد بنطاق اختصاصها مكان هبوط الطائرة بالمحاكمة، أو مكان القبض عليه إن تم القبض عليه لاحقا.

ثالثا: الاستثناءات الواردة على مبدأ الإقليمية:

بالرغم من أن مبدأ إقليمية النص الجنائي يقتضي أن تخضع كل الجرائم المرتكبة على إقليم الجمهورية الجزائرية للقانون الجنائي الجزائري، أيا كانت جنسية الجاني أو المجني عليه، وبغض النظر عن المصلحة أو الحق المعتدى عليه، غير أنه إعمالا لبعض الأحكام الدستورية والأعراف الدبلوماسية وبعض قواعد القانون الدولي العام، وما تتضمنه من أعراف واتفاقيات دولية، فإنه ترد بعض الاستثناءات على مبدأ إقليمية النص الجنائي، التي تستبعد الجرائم التي يرتكبها بعض الأشخاص من الخضوع لقانون العقوبات الجزائري[19]، إذ ارتكبها مثل هؤلاء الأشخاص أثناء أو بمناسبة تأدية مهامهم، ومن بين هؤلاء الأشخاص نذكر:

1- رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الجزائريين:

تستثني غالبية القوانين الجنائية، بما فيها قانون العقوبات الجزائري جرائم رئيس الجمهورية التي يرتكبها أثناء ممارسته لمهامه الرئاسية أو بمناسبتها، وذلك طبقا للأعراف الدستورية، ولا يمكن محاكمته عنها إلا بعد زوال صفة الرئاسة عنه، غير أن ما تجدر الإشارة إليه أن الدستور الجزائري لسنة 1996 المعدل والمتمم، تضمن حكما لم تكن تعرفه الدساتير السابقة، وهو الحكم الذي جاءت به المادة 158 منه: التي نصت على أنه:" تؤسس محكمة عليا للدولة تختص بمحاكمة رئيس الجمهورية عن الأفعال التي يمكن وصفها بالخيانة العظمى، ورئيس الحكومة عن الجنايات والجنح التي يرتكبانها بمناسبة تأدية مهامهما..."[20].
وقضت هذه المادة أن كيفية تشكيل المحكمة وعملها وسيرها وتنظيمها، سيبين عن طريق الأحكام التنظيمية، غير أنه ولحد الساعة لم يصدر أي نص يبين ذلك. مما يجعلها من النص مجرد نص نظري.

2- أعضاء المجالس النيابية العليا:
( البرلمان ومجلس الأمة في الجزائر[21])

ونقصد بالمجالس النيابة العليا، تمييزا لها عن المجالس الشعبية الإقليمية أو المحلية، مثل المجالس الشعبية الولائية والمجالس الشعبية البلدية، ونجد كل الدول تقرر الحصانة لأعضاء السلطة التشريعية[22]، ولا يعني ذلك نزع الصفة التجريمية عن الفعل المعاقب عليه الذي يرتكبونه، وإنما متابعتهم لا تتم إلا بإتباع إجراءات دستورية خاصة، وهو ما بينته المواد 109، 110، 111 من دستور 1996 المعدل والمتمم، حيث تضمنت المادة 109 مبدأ الحصانة البرلمانية، بنصها :" الحصانة البرلمانية معترف بها للنواب ولأعضاء مجلس الأمة مدة نيابتهم ومهمتهم البرلمانية، لا يمكن أن يتابعوا أو يوقفوا، وعلى العموم لا يمكن أن ترفع عليهم أية دعوى مدنية أو جزائية أو يسلط عليهم أي ضغط، بسبب ما عبروا عنه من آراء وما تلفظوا به من كلام أو بسبب تصويتهم خلال ممارسة مهامهم البرلمانية."[23]. وهنا فعلا استثناء بخصوص نوع محدد من الجرائم. كونها مادة أرست فكرة الحصانة البرلمانية المعترف بها لنواب السلطة التشريعية، خاصة المتعلقة بمهامهم الرئيسية وهي مناقشة القوانين والتصويت عليها، غير أن المادة 110 من دستور 1996 المعدل والمتمم ركزت على فكرة المتابعة الجزائية عن الجنايات والجنح، وفكرة التنازل عن الحصانة البرلمانية،
أو رفعها، بينما بنت المادة 111 حالة تلبس النائب بارتكاب جناية أو جنحة.

فقضت المادة 110 بأنه :" لا يجوز الشروع في متابعة أي نائب – المقصود نواب الغرفة السفلى-
أو عضو مجلس الأمة بسبب جناية أو جنحة إلا بتنازل صريح منه أو بإذن حسب الحالة من المجلس الشعبي الوطني أو مجلس الأمة الذي يقرر رفع الحصانة عنه بأغلبية أعضائه."، وبالتالي يمكن للنائب سواء كان نائبا في الغرفة السفلى، أو عضو من أعضاء مجلس الأمة في حال اتهامه بارتكاب جناية أو جنحة، أن يتنازل صراحة عن حصانته البرلمانية، والمقصود بعبارة " صراحة" أنه تنازل مكتوب تضمنه النيابة العامة ملف القضية، أو برفع الحصانة عليه من قبل أغلبية باقي الأعضاء، وفي هذه الحالة تجوز متابعته كأي شخص من الأشخاص، غير أن ما تجدر الإشارة إليه، أن المادة 110 لم تبين الموقف من الحالة التي يرتكب فيها عضو البرلمان أو عضو مجلس الأمة لمخالفة، فهل عدم ذكر هذا النوع من الجرائم يعني عدم المسائلة عنها أصلا، أم تجوز فيها المتابعة دون الإجراءات السابقة. في حين بينت المادة 111 حالة تلبس عضو البرلمان
أو عضو مجلس الأمة بارتكاب جناية أو جنحة[24]، حيث قضت أنه :" في حالة تلبس أحد النواب أو أحد أعضاء مجلس الأمة بجنحة أو جناية يمكن توقيفه ويخطر بذلك مكتب المجلس الشعبي الوطني أو مكتب مجلس الأمة حسب الحالة فورا. يمكن المكتب المخطر أن يطلب إيقاف المتابعة وإطلاق سراح النائب أو عضو المجلس الأمة على أن يعمل فيما بعد بأحكام المادة 110 أعلاه.".

3- رؤساء الدول الأجنبية:
تستثنى وفقا للعرف الدولي الجرائم التي يرتكبها رؤساء الدول الأجنبية أو ملوكها أو أمراءها في أقاليم الدول الأجنبية. وذلك على اعتبار رؤساء الدول الأجنبية يمثلون دولا ذات سيادة وقد جرى العرف الدولي على عدم إخضاعهم لسيادة دولة أجنبية أخرى يتواجدون على إقليمها، ويمتد الاستثناء إلى الجرائم التي يرتكبونها بمناسبة ممارسة مهامهم أو بممارسة حياتهم الشخصية، كما تمتد الحصانة لتشمل حسب البعض كل أفراد أسرتهم وحاشيتهم، وسبق لنا القول بأن قانون العقوبات تعبير عن سيادة الدولة وبالتالي نرى أنه في حال إخضاع رئيس دولة لقانون عقوبات دولة أخرى يكون قد تم إخضاعه لسيادة هذه الدولة. ورئيس الدولة يقصد به حاكم الدولة وفقا للنظام السياسي الذي يسودها، فقد يكون ملكا أو أميرا أو سلطانا أو رئيس جمهورية أو عضو مع غيره في مجلس رئاسي يدير الدولة أو قائد ثورة أو حركة تحرر معترف بها
أو زعيما روحيا لدولة ذات نظام حكم ديني، وهي الحصانة التي تمتد حتى أعضاء الوفد المرافق له وأفراد عائلته[25]. ولا عبرة في كون زيارته رسمية أو خاصة أو حتى ولو كانت تحت اسم مستعار إذ يكفي في الحالة الأخيرة أن يكشف عن شخصيته في حال محاولة توقيفه[26].

4- رجال السلك السياسي الأجنبي:
رؤساء الحكومات والوزراء وكتاب الدولة ورجال المنظمات الدولية يتمتعون بحصانة قضائية مستمدة من المعاهدات الدولية والقوانين الأساسية للمنظمات التي يتبعونها تعفيهم من كل مسائلة جنائية عن الجرائم التي يرتكبونها في الدول التي يقيمون فيها في مهام رسمية.

5- رجال السلك الدبلوماسي والقنصلي:
وهم لا يسألون أيضا عن الجرائم التي يرتكبونها في الدول التي يمثلون فيها دولهم. طبقا لاتفاقية فيينا المؤرخة في 24-04-1963 المتعلقة بالعلاقات القنصلية، والتي تمنح حصانة للموظفين القنصليين وموظفي الهيئات الدولية بالنسبة للجرائم التي تتعلق بقيامهم بوظائفهم أو بسببها، وأما الجرائم التي ترتكب خارج إطار الوظيفة تعقد الاختصاص لقانون البلد الذي يتواجدون به. وفي تبرير الحصانة قيل أن الممثل السياسي ووظيفته شيء واحد، حيث يتلاشى الشخص في وظيفته، فإذا عاقبناه فنحن نعاقب من خلاله الدولة التي يمثلها، وبالتالي نمس بسيادتها، ومن الحصانة السابقة قررت أيضا حصانة مباني السفارات والقنصليات، لكن ذلك لا يعني أنها ملاذ للمجرمين حيث ارتكاب جريمة داخل السفارة أو خارجها والفرار إليها، لا يمنع من تسليم الشخص لسلطات البلد، حتى ولو كان من رعايا الدولة التي تمثلها السفارة أو القنصلية ولا يعني ذلك تسليم رعايا الدولة، حيث لا تعد هذه المباني خارج الإقليم. وبخصوص الحصانة يجب القول أنه يحق للسلطات المحلية عندما يرتكب الممثل السياسي جريمة من الجرائم القيام بطرده باعتباره شخصا لم يعد مرغوبا فيه في البلد، كما يحق لبلده الأصلي معاقبته على جرائمه التي ارتكبها في بلد عمله، وبذلك لا يكون في معزل عن العقاب بأي حال من الأحوال، كما أن الحصانة شخصية وتتعلق بشق العقاب لا شق التجريم، بمعنى عدم العقاب لتوفر الحصانة لا يعني أن الفعل مباح، أو الصفة تعد سبب من أسباب الإباحة، وإنما هي مانع من موانع العقاب في مثل هذه الحالات، لذا فالأشخاص المساهمين مع صاحب الحصانة يمكن متابعتهم وعقباهم متى كنوا لا يتمتعون بالحصانة، سواء كانوا من المواطنين أو من الأجانب تطبيقا لمبدأ الإقليمية، كما أن حق الدفاع المشروع مقرر للمعتدى عليهم حتى ضد أصحاب الحصانة. كما أنه هناك اتفاقية فيينا لسنة 1961 وتشمل أعضاء السلك الدبلوماسي والبعثات السياسية الخاصة وممثلو المنظمات الدولية أو الإقليمية بصرف النظر عن درجاتهم وألقابهم ويستوي أن تتعلق الجرائم بممارسة مهامهم أو بمناسبة متابعة شؤون حياتهم الخاصة ، أما فيما يخص الخدم فتقتصر الحصانة على ما يصدر منهم من جرائم بمناسبة ممارستهم لمهامهم شريطة ألا يكونوا من رعايا الدولة التي توجد بها مقر البعثة أو المنظمة أو السفارة[27].

6- رجال القوات الأجنبية المرابطة في التراب الوطني:
ويستمدون حصانتهم بخصوص عدم متابعتهم عن الجرائم التي يرتكبونها في الدول التي يرابطون فيها. وهي مقررة للقوات الموجودة بأرض الدولة بترخيص منها، مثل قوات الطوارئ الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، أو قوات وطنية لدولة أخرى، وهي الحصانة التي يتمتع بها أفراد هذه القوات بمناسبة ما يقع منهم من جرائم بمناسبة تأديتهم لمهامهم، أو داخل المناطق المخصصة لهم.
وعلى العموم، الحصانة أو الإعفاء من المتابعة الجزائية وفقا للقانون الجزائري لا يغني عن إخطار الجهات الرسمية التي يتبعها الشخص مرتكب الجريمة والمتمتع بالحصانة الدبلوماسية، التي في العادة ما تتابعهم تأديبيا وقد يتجاوز الأمر لحد تعويض ضحاياهم مدنيا، وتبقى كل معاهدة أو قانون أساسي للمنظمة، وكذا الأعراف الدبلوماسية أو مبدأ المعاملة بالمثل تحدد طرق وكيفيات ذلك.

الفرع الثاني
المبادئ المكملة لمبدأ الإقليمية

على عكس العصور السابقة، أضحت الحدود تشكل محاسن للعصابات الإجرامية وليست عوائق، خاصة مع تقدم المواصلات وتحول العالم على قرية صغيرة، وتدويل الجريمة، فأصبحت الحدود عائقا بالنسبة للسلطات في بحثها وتعقبها للمجرمين، وازدياد حركات الهجرة التي تصعب من عمليات التكيف مع قوانين الدول التي يستقر بها هؤلاء المهاجرين، كما أنهم انفصلوا عن جذورهم ولا يستطيعون التكيف مع الحياة الجديدة بسهولة، ولا يستطيعون التكيف مع مجتمع جديد وحياة جديدة وعادات وتقاليد جديدة زيادة على حواجز اللغة والثقافة وحتى الدين، فانفصالهم عن حياة اعتادوا عليها وعايشوها يحدث لهم نوع من الصراع بين القيم القديمة والقيم الجديدة المستحدثة فتضعف مقاومتهم شيئا فشيئا، كما أنه للحربين العالميتين والحروب الإقليمية الأخرى دور كبير في بروز ظاهرة العنف والإرهاب الذي لم يعد مقتصرا فقط على الأفراد والمنظمات، بل شملت حتى الدول، وهي كلها مسائل لفتت الانتباه إلى ضرورة توسع دائرة القانون الجنائي لمحاربة هذا النوع من الإجرام، وهو ما جعل مبدأ الإقليمية وحده غير كاف لمواجهة الظاهرة الإجرامية، وكان لزاما عليه الاستعانة ببعض المبادئ الأخرى المكملة، والتي نتناولها في النقاط التالية.

أولا: مبدأ الشخصية الجنائية

مبدأ الشخصية الجنائية أسبق في الظهور من مبدأ الإقليمية، حيث كان يعد الأصل فيما مضى، كون النص الجنائي كان يتبع رعايا الدولة أسينما حلوا، سيما في ظل فكرة الإقليم لم تكن قد تجسدت بعد بالشكل المعروف اليوم، لكن مع ظهور الدولة وارتكاز سيادتها على فكرة الحدود الإقليمية، انحصر نطاق تطبيق مبدأ الشخصية الجنائية فاسحا المجال أمام مبدأ الإقليمية ليصبح المبدأ الرئيسي الحاكم لسريان النص الجنائي. ويعرف مبدأ الشخصية الجنائية بأنه تطبيق النص الجنائي على كل جاني يحمل جنسية الدولة أينما حل وأينما وجد، وأيا كان الإقليم الذي ارتكب عليه جنايته، وبعبارة أكثر اختصارا، هو وجوب تطبيق القانون الجنائي لكل دولة على الحاملين لجنسيتها أينما حلوا[28]. ونص المشرع الجزائري على مبدأ الشخصية الجنائية في المادتين 582 و583 من قانون الإجراءات الجزائية، مفرقا بين الفعل الذي يرتكبه الجزائري بالخارج وما إن كان جناية أو جنحة، وهو الأمر الذي يقودنا لتناول المبدأ من خلال نقطتين تبعا للتمييز السابق.

.
1- الجنايات ومبدأ الشخصية الجنائية

وهو شق من مبدأ الشخصية الجنائي الذي يركز على الرعية التي ترتكب فعلا يوصف بالجناية في الخارج، وقد تضمنه المادة 582 من قانون الإجراءات الجزائري[29]، التي أوردت جملة من الشروط إذا ما توفرت مجتمعة طبق على هذا الجاني القانون الجزائري بالرغم من أنه ارتكب جنايته بالخارج، وهذه الشروط هي:
- أن يكون الفعل الذي ارتكبه الشخص في الخارج يوصف بأنه جناية وفقا للقانون الجزائري، ويتضح من النص أنه لا عبرة للتكييف المعطى له من قبل تشريع القطر الذي وقعت عليه، سواء كان جناية أو جنحة،
أو فعل مباح أصلا وهو أمر ننتقده بشدة[30].
- أن يكون الجاني يحمل الجنسية الجزائرية، أو أن يكون قد اكتسبها بعد ارتكابه الجريمة[31].
- أن يكون ارتكاب الجناية قد تم خارج الإقليم الجزائري، لأنه لو كانت عليه لطبق مبدأ الإقليمية وفقا للمادة 3 من قانون العقوبات.
- أن يعود هذا الجاني الجزائري إلى أرض الوطن سواء جبرا أو طواعية، لأنه وفقا لهذه المادة لا يمكن أن يحاكم غيابيا.
- ألا يكون الجاني قد حوكم في الخارج عن هذه الجناية، وألا يكون قد قضى عقوبتها في حال كان قد حوكم عنها، أو سقطت عنه هذه العقوبة بالتقادم أو حصل على عفو عنها في دولة ارتكابها.

2- الجنح ومبدأ الشخصية الجنائية

وهو مبدأ يخص الجزائري الذي يرتكب خارج الإقليم الجزائري فعلا يوصف بأنه جنحة سواء في نظر القانون الجزائري أو في نظر القطر الذي ارتكبت فيه، فهنا يكون خاضعا للقانون الجزائري بشروط يجب أن تتوفر جملة واحدة، وهي شروط بينتها المادة 583 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري[32]، وهــي:
- أن يكون الفعل الذي اقترفه الجزائري يوصف بأنه جنحة، سواء في القانون الجزائري أو في القانون الأجنبي المطبق على الإقليم الذي ارتكبت فيه[33].
- أن ترتكب هذه الجنحة في الخارج.
- أن يكون مرتكبها جزائريا وقت اقترافها أو اكتـــسب الجنسية الجزائرية بعد ذلك وفقا للمادة 584 من ق إ ج ج .
- أن يعود الجاني للجزائر أو يسلم غليها، حيث لا يجوز محاكمته غيابيا.
- ألا يكون قد حكم عليه في الخارج أو قضى عقوبته أو تقادمت أو حصل على عفو عنها.
- وزيادة على ذلك، إن كانت الجنحة ضد الأفراد، يجب تقديم شكوى من الشخص المضرور أو بلاغ من سلطات القطر الذي ارتكبت فيه الجنحة حتى يمكن للنيابة العامة تحريك الدعوى العمومية.

وفي حالتي مبدأ الشخصية تجري المتابعة بناء على طلب النيابة العامة لمحل إقامة الجاني بالجرزائر أو محل القبض عليه، وذلك ما تضمنته المادة 587 من قانون الإجراءات الجزائية التي نصت على أنه : " تجري المتابعة بناء على طلب النيابة العامة لمحل إقامة المتهم أو مكان آخر محل إقامة معروف له أو مكان القبض عليه."
ثالثا: مبدأ العينية ( مبدأ الذاتية)

وهو المبدأ المكمل الثاني لمبدأ الإقليمية بعد مبدأ الشخصية، وسمي بمبدأ العينية أو الذاتية لأنه يمس بمصالح الدولة ذاتها أو بعينها لا بمصالح أفرادها، سواء كانوا جناة أو مجني عليهم، وأنه يطبق خصيصا على الأجانب دون حاملي جنسية الدولة، لأنه هؤلاء يخضعون لمبدأ الشخصية، وعموما، نقصد بهذا المبدأ تطبيق القانون الوطني الجزائري على كافة الجرائم المرتكبة بالخارج – لا بأرض الوطن، لأنه في هذه الحالة الخيرة نطبق مبدأ الإقليمية- والتي تمس بالمصالح الأساسية للدولة المرتبطة بسيادتها واقتصادها والثقة المولاة في نقودها، وأن الضحية في هذا النوع من الجرائم هي الدولة ذاتها، وبهذا المبدأ تكون تمارس نوعا من الدفاع الشرعي عن مصالحها، كما يعد – المبدأ- تعبيرا عن بسط الدولة لسلطانها التشريعي على كل الجرائم التي تمس بهيبتها ومصالحها، ولكن في الحالات التي لا تلقى فيها هذه الجرائم اهتمام من سلطات القطر الذي ارتكبت فيه. وهو الأمر الذي دفع بالمشرع الجزائري على غرار غالبية التشريعات الجنائية المعاصرة للنص على هذا المبدأ في المادة 588 من قانون الإجراءات الجزائية[34]، وهو النص الذي لا يطبق إلا إذا توفرت الشروط التالية مجتمعة:
1- أن يكون الجاني أجنبيا، لأنه لو كان جزائريا لطبق مبدأ الشخصية سواء بموجب المادة 582 إذا كان الفعل يشكل جناية، أو المادة 583 إذا كان الفعل يشكل جنحة.
2- أن ترتكب الجريمة في الخارج، لأنه لو ارتكبت في الوطن فيطبق مبدأ الإقليمية.
3- على أن توصف الجريمة على أنه جناية أو جنحة.
4- أن تكون هذه الجريمة ماسة بالسلامة الوطنية[35]، أو أن تكون تزييفا للنقود أو الأوراق المصرفية المتداولة في الجزائر وقت ارتكاب الجريمة[36].
5- أن تحصل الجزائر على تسليمه لها أو أن يلقى القبض عليه في الجزائر. إذ لا يجب أن يحاكم غيابيا.

ثالثا: مبدأ العالمية Universalité de la répression

ويقصد بهذا المبدأ- بالرغم من عدم النص عليه صراحة في القانون الجزائري- سريان القانون الجنائي الوطني على كافة الجرائم ذات الطابع العالمي أو الدولي متى ضبط الجاني أو ألقي عليه القبض في الجزائر، حيث لا يمكن محاكمته غيابيا، أيا كانت جنسية هذا الشخص، على ألا يكون جزائريا، لأنه في هذه الحالة يطبق مبدأ الشخصية، وأيا كانت جنسية المجني عليه، وأيا كان مكان ارتكاب الجريمة، بشرط ألا يكون الجزائر لأنه في هذه الحالة يطبق القانون الجزائري على أساس مبدأ الإقليمية لا مبدأ العالمية، وبشرط ألا تطلب دولة أخرى تسليمه لها باعتباره من رعاياها أو أن الجريمة مست بها بمبدأ من المبادئ السابقة، حيث في هذه الحالة تصبح الأولى بمحاكمته. ويبرر هذا المبدأ رغبة الدول في التعاون من أجل مكافحة نوع معين من الجرائم التي تهم المجتمع الدولي[37]، والتي تشكل عدوانا على مصلحة مشتركة بين الدول، كجرائم القرصنة والاتجار في الرقيق أو في المخدرات... وقد تجسد من خلال اتفاقيات قد تلزم الدول المنضمة لها أن تدرج المبدأ في قانونها الداخلي مثلما هو الشأن بالنسبة لاتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 المتعلقة بجرائم الحرب وغيرها من الانتهاكات الواردة بهذه الاتفاقية










قديم 2013-01-29, 00:08   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
hadia369
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية hadia369
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفرع الثالث
الحالات الممتازة للدفاع الشرعي
( المادة 40 ق ع ج)

وهي حالات منقولة حرفيا من نص المادة 329 قانون عقوبات فرنسي، ويسمها الفقه الحالات الممتازة للدفاع الشرعي أو الدفاع الشرعي الممتاز، دلالة على افتراض المشرع فيها توافر شروط الدفاع الشرعي كقرينة قانونية قاطعة لا تقبل إثبات العكس، غير أنه من الفقه من يرى العكس، وهو أيضا موقف القضاء الفرنسي[1]، وبالتالي نرى أنه لا مجال اليوم لتسميتها بالحالات الممتازة للدفاع الشرعي، وإنما الحالات الخاصة للدفاع المشروع. وقد نصت المادة 40 من قانون العقوبات الجزائري على هذه الحالات بنصها:" يدخل ضمن حالات الضرورة الحالة للدفاع المشروع:
1- القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب لدفع اعتداء على حياة الشخص أو سلامة جسمه أو لمنع تسلق الحواجز
أو الحيطان أو مداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء منها أثناء الليل،
2- الفعل الذي يرتكب للدفاع عن النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أو النهب بالقوة."[2].

ونلاحظ على المشرع الجزائري أنه استعمل لفظ " تدخل ضمن حالات الضرورة للدفاع الشرعي " بمعنى افتراضه لشرط اللزوم كوننا فسرنا عبارة الضرورة الواردة بنص المادة 39 على أنها تقصد اللزوم، لذا فهنا أيضا باستعمال نفس العبارة يعني أن المشرع افترض دخولها في حالات اللزوم. ثم أن المادة ذاتها تميز بين فرضين، فرض ورد فيه نوع الجرائم ونوع الاعتداء الذي يوجبها، وهو ما ورد بالفقرة الأولى من المادة 40، حيث أجاز أقصى الجرائم جسامة، وهي القتل والجرح والضرب[3]، وحصر الاعتداءات في الاعتداءات ضد الحياة أي ضد جرائم القتل، وسلامة الجسم، ويعني الضرب والجرح، أو مجرد تسلق الحواجز والحيطان ومداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء منها[4]. بشرط أن يكون كل ذلك أثناء الليل[5]. كما يمكن أن ننبه أن الشخص يمكنه أيضا دفع التسلق والكسر لملاحق المنازل ومداخلها وأسوارها وحيطانها، إذا كانت متركبة إثناء النهار، لكن في هذه الحالة لا يكون الدفاع شرعيا ومشكلا لسبب من أسباب ألإباحة، بل يكون مشكلا لعذر معفي من العقاب، وهو عذر شخصي لا موضوعي، وهو الأمر الذي قضت به المادة 278 من تقنين العقوبات الجزائري[6]، بينما بينت الفقرة الثانية، وبصيغة عامة إباحة كل فعل أي كان نوعه الذي يرتكب لدفع الاعتداءات على النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أو النهب بالقوة، وهنا لم يشترط التناسب. كما أنه لم يشترط الليل، فيمكن أن يكون ذلك أثناء النهار، مما يجعل هذه الفقرة تتشابه في حكمها مع الحكم العام الذي جاءت به الفقرة الثانية من المادة 39، وكل ما في الأمر أنه في هذه الأخيرة حددت الاعتداءات بصيغة عامة وهي الجرائم الواقعة على النفس أو على الغير أو مال الشخص أو المال الغير، والفقرة الثانية من المادة 40 تتعلق فقط بالسرقات والنهب بالقوة.

وإن كانت الأسباب السابقة، هي أسباب الإباحة التي يأخذ بها المشرع الجزائري، وغالبية القوانين الجنائية المقارنة، فهناك أسباب أخرى تأخذ بها بعض الدول دون البعض الآخر، وهي رضاء المجني عليه وحالة الضرورة، وسبق لنا القول في تمهيد هذا الفصل أن قلنا بأننا سنتناولها في مبحث مستقل، وذلك لتعميم الفائدة، فقد يأتي تعديل ويدخلها في القانون الجزائري، كما قد يجد رجل القانون الجزائري نفسه ملزما للتعامل معها في حالات تنازع القوانين، وبخصوص الطلبة الأعزاء قد تكون موضوع امتحان أو مسابقة- وحدث فعلا أن كانت حالة الضرورة موضوع مسابقة ماجستير بجامعة البليدة منذ سنتين- لذا وإن التمسنا العذر في الإطالة غير المعتادة في إعداد المحاضرات المطبوعة، فإن لهذا العذر مبرراته التي تفوق في مصلحتها كل الانتقادات، وهي تعميم الفائدة العلمية للطلبة. وهنا فقط يمكن الاستعانة بالبيت الشعري المتعلق بالمذمة التي تأتي من جاهل" ..........".

المبحث الثالث
أسباب الإباحة في القانون المقارن

من أسباب الإباحة أيضا، رضاء المجني عليه، وحالة الضرورة التي تأخذ بها بعض القوانين دون البعض الآخر، ومنه القانون الجزائري الذي لا يأخذ بها، لذا ارتأينا تناولها في مبحث مستقل، نتناوله من خلال مطلبين، نخصص الأول لحالة رضاء المجني عليه كسبب من أسباب الإباحة، لنخصص الثاني لحالة الضرورة.
المطلب الأول
رضاء المجني عليه ( صاحب الحق) كسبب من أسباب الإباحة

في حقيقة الأمر المشرع لما يجرم فعل من الأفعال، فإنه يكون قد قدر أن يضر بمصلحة من المصالح، وفي الكثير من الأحيان يتحقق المساس بمصالح المجتمع بالمساس بمصلحة الفرد، ولذا الأصل أنه لا شأن لإرادة الفرد في تجريم الفعل أو إباحته، لذا فاعتراض الشخص على الجريمة لا يعد ركنا في الجريمة، كما أن رضاءه بها لا يعد سببا لإباحتها، غير أن إرادة الفرد أو رضاءه قد يؤدي في بعض الأحوال دورا في مجال قانون العقوبات، وهو الدور الذي قد يكون من شأنه التأثير في قيام الجريمة أو في إباحتها، وهو استثناء عن الأصل، وفي حدود هذا الاستثناء ينحصر اثر الرضا كسبب من أسباب الإباحة.

لكن قد يبدو من الوهلة الأولى أنه متى رضي المجني عليه بارتكاب الجريمة التي تنال حق من حقوقه أو مصالحه، فإن هذا الرضا يبيح الجريمة، لكن هذا القول غير صحيح كون أسباب الإباحة تقتضي سبق تجريم الفعل بنص من نصوص قانون العقوبات، ثم وجود نص آخر يبيح الفعل في الظروف التي ارتكب فيها، والأمر ليس كذلك مع رضاء المجني عليه، حيث يمنع من قيام الجريمة ابتداء، كدخول الشخص منزل آخر برضائه، لذا كان يجب تمحيص الحق المعتدى عله بدقة للقول ما إن كان رضاء المجني عليه يبيحها أم لا، كون رضاء المجني عليه يختلف حكمه باختلاف طبيعة الحق المعتدى عليه. ولا يمكن بأي حال من الأحوال بالقول بهذا السبب في مجال الجرائم التي يعتدى فيها على الدولة كشخص معنوي، ولا على المجتمع كمؤسسة اجتماعية، كما لا رضاء كسبب للإباحة في الجرائم التي تمس بالأسرة كنظام، وما القيود الموجودة على بعض الجرائم الأسرية سوى قيود إجرائية تحول دون تحريك الدعوى العمومية ولا تبيح الفعل في حقيقة الأمر، بل وان الزوج إذا رضي بزنا زوجته ليس هناك ما يمنعه من تقديم الشكوى فيما بعد. وبالتالي البحث ينحصر فقط في الجرائم التي تمس حق الفرد، وحق الفرد بدوره قد يكون حقا مزدوجا، يمس المجتمع والفرد معا، ومثاله حق الحياة، وسلامة البدن، وهنا يجب أن يرجح حق المجتمع ولا يعتد بالرضا الفرد، فمن يطلب من غيره قتله لتخليصه من آلامه التي سببها له مرض خطير أصابه ولا يرجى شفاءه لا يعد رضاؤه سببا لإباحة القتل[7]. لذا فإن بحث مسألة رضاء المجني عليه كسبب من أسباب الإباحة، تقتضي منا أولا، أن نتناول دور الرضاء في قانون العقوبات، وتحديد طبيعته القانونية بخصوص التجريم والعقاب، وذلك في فرع أول، لنتناول في الثاني، الجرائم التي يعمل برضاء الشخص فيها في أهم القوانين المقارنة.


.
الفرع الأول
دور الرضا وتحديد طبيعته القانوني في قانون العقوبات
الرضاء في مجال قانون العقوبات غير الرضاء في مجال التقنين المدني، لذا فالبضرورة أن تختلف طبيعته القانونية في القانون الأول، وبناء على ذلك يظهر دوره في مجال أسباب الإباحة.

أولا: دور الرضا في قانون العقوبات

في بعض الأحوال الضيقة، يشترط المشرع لقيام الجريمة أن يقف المجني عليه منها موقف الرفض، أي أن ترتكب بدون رضاه، وفي مثل هذه الأحوال الضيقة يكون عدم الرضا عنصرا لقيام الجريمة ذاتها، وذلك يوجب نص يقرر المسألة كونها استثناء عن الأصل العام، بمقتضى الحاجة إلى المانع لا تطرأ إلا إذا وجد المقتضى بتمامه، وهنا يكون الرضا يتمم الجريمة، وأهم الجرائم التي يشترط لقيامها عدم رضا الشخص، وقاع الأنثى بدون رضاها ( 267 تقنين عقوبات مصري)، هتك العرض بالقوة أو بالتهديد ( م 268 قانون عقوبات مصري)، القبض والحجز والحبس دون وجه حق ( 280 قانون عقوبات مصري)، خطف الإناث ( المادة 290 قانون عقوبات مصري) وكذا النصب وانتهاك حرمة منزل.. لذا ففي بعض الأحوال يكون الفعل مستجمعا للشروط التي تجعل منه جريمة، فيتدخل رضاء المجني عليه فيجعله مباحا، مثل عمليات الإتلاف، العمليات الجراحية، وإن كان ليس هناك نص صريح يبيح الجريمة برضا المجني عليه، غير أن الأصول القانونية توجب التسليم بهذه الحقيقة، فمن غير المنطقي إذا أباح القانون في فرع من فروعه حق التصرف في حق معين، أن يمنع قانون العقوبات هذا التصرف، لأن ذلك يعطل حرية التصرف، خاصة وأن القانون يعاقب على العدوان وفي مثل هذه الحالة يغيب عنصر الاعتداء لأن الرضا موجود[8]. لكن ذلك لا يعني أنه سبب للإباحة، بل الجريمة لا تقوم لتخلف أحد عناصرها القانونية، الأمر الذي يقودنا بحث طبيعة الرضاء القانونية.

ثانيا: الطبيعة القانونية للرضا

يذهب الفقه إلى اعتبار الرضا تصرف قانوني تحكمه قواعد القانون الخاص، بينما يعتبره البعض تصرف قانوني تحكمه قواعد القانون العام، في حين يرى اتجاه ثالث أنه واقعة قانونية لا تصرف قانوني، في حين يرى البعض أنه تصرف قانوني يخضع أساسا لقانون الحق، لذا فهو يخضع تارة لأحكام القانون الخاص، وتارة أخرى لأحكام القانون العام، ويرجع إلى قانون العقوبات في حالتين، حينما ينص هذا القانون صراحة على حكم خاص بشأن الرضا، وهنا يطبق النص الجنائي مباشرة، والثانية حينما يخلو القانون الخاص من حكم ينظم الرضا في بعض جزئياته، وهنا يستنبط الحكم من المبادئ العامة لقانون العقوبات، وهو ما يتعلق بالسن مثلا، ففي الحالة التي يحدد فيها قانون العقوبات السن المشترطة يعمل بأحكامه، لكن إذا تضمنها النص الخاص المتعلق بالرضا فيحكمه السن القانوني التي نظمها هذا النص، ورغم الخلاف السابق، فإنه يمكن القول بأن الرضاء في قانون العقوبات، عنصر من عناصر قيام الجريمة، حيث أن اشتراط الجريمة للقوة أو العنف أو الخلسة أو دون الرضا، يعني بداهة في حال توفر الرضا تنتفي هذه العناصر وبالتالي لا تقوم الجريمة، مما يجعلنا نقول وبنوع من التحفظ، أنه حتى في القانونين التي لا تنص صراحة على الرضاء كسبب من أسباب الإباحة، فهو ضمنيا سبب أو عنصر يمنع من قيام الجريمة متى تمت الإشارة إليه، لكن في هذه الحالة الفعل يباح لا لأنه ارتبط بسبب من أسباب الإباحة، وإنما لتخلف عنصر من عناصر الجريمة.
الفرع الثاني
الجرائم التي ينتج فيها الرضا أثره المبيح

هي مسألة من أدق المسائل الجنائية، واتفق الرأي على أن الرضا لا ينتج أثره بالنسبة لكافة الجرائم، وإنما يقتصر أثره على طائفة محدودة منها، وهو ما نتناوله في نقطة، لنتناول في الثانية شروط الرضا المبيح للفعل. لنتناول في الثالثة حقيقة الرضا كفعل مبيح للجريمة.

أولا: الجرائم التي يعتد بالرضاء فيها

وهي الجرائم التي يكون فيها العدوان منصبا على حق يقبل التصرف فيه، مما يعني أن اثر الرضا يتوقف على طبيعة الحق، وهي الحقوق التي لا تكون فيها منفعة مباشرة للمجتمع وإنما حقوق تقرها الدولة وتحميها لصالح صاحبها، بقصد تمكينه من الانتفاع بها، غير أن المسألة تحتاج إلى تبيان معيار يعمل في الحياة الواقعية، لذا كان الاتفاق أنه لا أثر للرضا في الجرائم التي تقع مباشرة على حق من الحقوق الخالصة للمجتمع، كالصحة العامة والأخلاق العامة أو الجرائم الماسة بالدين، ولا أثر للرضا في الجرائم التي تقع على الدولة، ولا تلك الواقعة على الأسرة، لتبقى باقي الجرائم الأخرى التي يتعين فيها البحث عن طبيعة الحق، ومنها الحقوق المالية وغير المالية، وهناك اتفاق بخصوص الحقوق المالية التي تقبل التصرف فيها عن طريق الرضا، كرضاء الشخص بقطع الأشجار لبناء جاره عليها، في حين الحقوق غير المالية التي تتصل بذات الإنسان أي بعناصر شخصيته، والتي تسمى بالحقوق الشخصية أو اللصيقة بالشخصية، والمنقسمة إلى ثلاث مجموعات، حقوق تتصل بالكيان المادي للشخصية– مثل الحق في الحياة والحق في سلامة البدن-، وأخرى بالكيان المعنوي لها- الحق في الشرف والعرض والعفة وحرمة الحياة الخاصة والمراسلات والمكالمات والمسكن-، والثالثة تتصل بنشاط الشخصية ذاتها- والتي تضم مجموعة من الحريات، مثل حرية التنقل وحرية الاعتقاد وحرية العمل والتعبير...-، والأصل في هذه الحقوق أنها غير قابلة للتصرف فيها كونها من لوازم الشخصية غير القالبة للانفصال، وبالتالي لا مجال للرضا في الحق في الحياة، بينما يمكن في بعض الحقوق الأخرى أن يتم المساس بها سواء عن طريق الاتفاق، مثل عقد الزواج، أو عقد العلاج إذ يبيح القانون للطبيب الاطلاع على عورة المرأة، كما أنه قد يعتد بالرضا حتى في مسائل هتك العرض والعلاقات الجنسية أو الوقاع، والرضا بالتفتيش وإباحة إفشاء السر، وكشف المراسلات والأحاديث الخاصة.
غير أنه من بين الحقوق الأكثر إثارة للجدل، هو الحق في سلامة البدن، كونه حق للمجتمع مثلما هو حق للفرد، لذا فقدرة الشخص على التصرف في بدنه محدودة للغاية، لذا فهناك مجالات يعتد فيها بالرضا مثل العلاج والتجميل كونها تصرفات تحقق نفعا للشخص وللمجتمع، لكن الإشكال حينما يقرر الشخص التصرف في بدنه تصرف ينتقص من كفاءة الجسم، وهنا اتفق الفقه أنه تصرف جائز بشرط ألا يكون يهدد الحق في الحياة أو المساس بنحو خطير أو دائم بالحق في سلامة الجسد، على نحو يهدد بعدم قدرته على أداء وظيفته الاجتماعية على الشكل المعهود، لذا يجوز للشخص التصرف بالهبة أو البيع لعضو من أعضائه مما لا يعرض فقدها جسم الإنسان للخطر[9].

ثانيا: شروط الرضا المبيح

بما أن الرضا موقفا إراديا، لذا بحثت مسألة ما إن كان يكفي فيه أن يكون ضمنيا أو صراحة، بين نظريتين إحداهما سميت الاتجاه المجرد للإرادة والأخرى سميت نظرية إعلان الإرادة، غير أن الغالبية رأت أنه يمكن للرضا أن يكون ضمنيا، بل أنه يصح أن يكون مفترضا، وهي الظروف التي يستحيل فيها الإفصاح عن الرضا لكنه من المحقق أن الشخص لو كان حاضرا أو قادرا على الإفصاح لأعلن عن رضاه، لكن يجب أن تكتمل شروط الرضا حتى ينتج أثره كسبب مبيح، وهذه الشروط هي:

1- الصـــــفة:
وهو أن يصدر الرضا عن صاحب الحق، وهو الشخص المجني عليه في الجريمة، أو من كان مرشحا لأن يكون مجنيا عليه لولا رضاه، وإذا تعدد أصحاب الحق وجب رضائهم جميعا، فإذا رضي البعض دون البعض الآخر كان الرضا غير كاف ليكون سببا من أسباب الإباحة، لكن وإن كان الأصل أن يصدر الرضا من صاحب الحق نفسه، فإنه يجوز أيضا أن يصدر من نائبه، خاصة وأن الإنابة في التصرف في الحقوق المالية جائزة، سواء كانت الإنابة قانونية أو اتفاقية أو قضائية، غير أن الحقوق غير المالية فلا إنابة فيها بالنظر لطابعها الشخصي الشديد، عدا الحالات التي تكون فيها الفائدة التي تعود على صاحب الحق مؤكدة، مثلما هو الشأن بالنسبة للعمليات الجراحية بغرض الشفاء.

2- الأهلـــــية:

الرضا لا يمكن أن يعتد به إلا إذا كان صادرا من شخص آهل قانونا، والأهلية مناطها الإدراك والتمييز، وأن تسلم الإرادة من العيوب.

3- معاصرة الرضا للفعل:

يجب أن يكون الرضا قائما وقت إتيان الفعل، فإذا تراخى عنه كان عديم الأثر، حيث أن الفعل حينما اقترف كان غير مشروع فلا يقلبه الرضا اللاحق عملا مشروعا، وإذا تحقق الرضا قبل الفعل فيجب أن يظل قائما حتى يدركه الفعل، فإن رضا الشخص بإجراء عملية جراحية له ثم عدل فالطبيب الذي يجري له هذه العملية بعد العدول يعد مرتكبا لفعل غير مشروع.

ثالثا: حقيقة الرضا كسبب من أسباب الإباحة

ثار التساؤل عما إن كان الرضا سببا قائما ومستقلا بذاته من أسباب الإباحة، أم مجرد تطبيق من تطبيقات الإباحة الأخرى، وتوصل البعض أنه مجرد علاقة بين الرضا والإباحة، وحقيقة الرضا أنه تصرف قانوني يرتب للغير حق أو رخصة أو يفرض عليه واجبا، ومباشرة الحق أو أداء الواجب هو الذي يجعل الفعل مباحا، فرضا المريض بالعلاج أنشأ للطبيب حق في علاجه، ولجوء الشخص لقسم الشرطة هربا من خصوه هو الذي أنشأ لهم حق باحتجازه لتأمينه، وهو واجب عليهم يجعل من فعلهم مباحا، لذا فالرضا منظورا له بذاته لا يدخل ضمن أسباب الإباحة، بل هو مصدر للحقوق ونشأة بعض الواجبات، لذا الفقه رتب الإباحة على الرضا بغير وجود نص يقرره.

المطلب الثاني
حالــــة الضرورة

حالة الضرورة من النماذج الجديدة للتنازع بين المصالح المتعارضة، عندما يجد الشخص نفسه مضطرا لارتكاب جريمة لغاية حماية نفسه أو غيره من ضرر جسيم، مثل الأم التي تسرق لإعالة أولادها، وسائق السيارة الذي يصدم سيارة أخرى لتفادي دهس المارة، ومن يخرج عاريا للطريق العام تهربا من حريق شب بالمنزل، والطبيب الذي يجري عملية استعجاليه لمريض عجز عن أخذ رضائه.ويعالج البعض حالة الضرورة كسبب من أسباب الإباحة، كونها تستند للتضحية بحق رعاية لحق أكثر أهمية، مما يجدر معه إضفاء صفة الإباحة عليها. خاصة وأن شرعت لحماية مصلحة الغير أيضا وليست لمصلحة المضطر فقط، مما يعني إقرار لحماية الحق الأجدر بالحماية، وأن الفقه الفرنسي في مجمله يجعلها سببا من أسباب الإباحة، في حين الفقه المصري يرى أن المشرع المصري اعتبرها مانعا من موانع المسؤولية بالنظر لصيغة نص المادة 61 من قانون العقوبات. التي استهلت بعبارة " لا عقاب" وهو ما يعارضه البعض ويرى عدم ضرورة التقيد بعبارات النص. وحالة الضرورة كسبب من أسباب الإباحة قريبة جدا من حالة الدفاع الشرطي، إذ تتطلب شروطا في الخطر( المقابل لفعل العدوان في حالة الدفاع الشرعي)، وشروطا أخرى في فعل الضرورة ( المقابل لفعل الدفاع في حالة الدفاع الشرعي). وهو ما نبينه باختصار من خلال الفرعين التاليين.

الفرع الأول
الشروط المتطلبة في الخطر

حالة الضرورة تتطلب خطرا يحل بالشخص حتى يمكنه اللجوء لفعل الضرورة الذي يشكل في الأصل جريمة لرد الخطر السابق، لذا فالخطر الذي يبرر اللجوء إلى هذا الفعل المجرم، الذي يباح بسبب خصائص الخطر، يوجب أن يستجمع الأخير جملة من الشروط، هي التي نتناولها في النقاط التالية.

أولا: خطر جسيم

يشترط في الخطر الذي يبرر حالة الضرورة أن يكون خطرا جسيما، وهو ما لم يشترطه قانون العقوبات الفرنسي الجديد في المادة 122/7، وشرط الجسامة صفة موضوعية لصيقة بالخطر من حيث مساسه بالمصلحة المحمية، ويقدر القاضي في تقديره الظروف التي أحاطت بالمتهم في ظل الظروف الموضوعية التي أحاطت به، دون أن يشترط فيه أن يكون جريمة مثلما هو الشأن بالنسبة لحالة الدفاع الشرعي، لذا فيمكن أن يكون مصدر الخطر فعل إجرامي أو غير إجرامي، أو قد يكون واقعة طبيعية كالفيضان والزلزال وهبوب العواصف، أو خطر مادي مصدره الآلات الصناعية والتوصيلات الكهربائية
أو سبب نفسي كالجوع والمرض وخشية الفضيحة والعار[10].

ثانيا: خطر مهدد للنفس

المشرع المصري قدر بأن الأخطار المهددة للنفس هي الجديرة وحدها بالرعاية في حالة تصارعها مع المصالح الأخرى، لذا في مصر لا مجال لحالة الضرورة إذا كان الخطر مهددا للمال، مهما بلغت جسامة هذا الخطر، وهنا لا يجوز لربان السفينة إلقاء البضائع في البحر لإنقاذ السفينة من الغرق، على عكس التشريعات الأخرى مثل القانون السويسري والنرويجي والسوري واللبناني والأردني التي سوت بين الأخطار المهددة للنفس وتلك المهددة للمال، وأهمها المادة 122/7 من تقنين العقوبات الفرنسي.

ثالثا: خطــر حــــــال

وهو أن يعرض الخطر بطريقة حالة ومباشرة المصالح المحمية في قانون العقوبات للضرر، فلا يبرر حالة الضرورة الخطر المستقبلي ولا الخطر الذي انتهى، ويتحدد موضوع حيلولة الخطر وفقا لمعيار موضوعي كذلك الذي تناولناه في مجال الدفاع الشرعي، ويجب أن يكون خطر حال حقيقي لا توهمي وهنا كل ما يحدث انتفاء القصد الجنائي ويسأل الشخص عن جريمة غير عمدية إذا كان القانون يعاقب عليها بهذا الوصف، كمن يرى دخان يتصاعد من نافذة جاره فيكسر الباب ويتضح أنها اشتعلت بفعل أصحاب المنزل للشواء، وعلى عكس ذلك، يرى البعض قيام حالة الضرورة بالخطر الوهمي، غير أن أنصار هذا الاتجاه يصنفون حالة الضرورة من بين موانع المسؤولية ويستوي بعد ذلك المصلحة التي يهددها الخطر كأن يكون السمعة والشرف، كما يستوي أن يكون مصدره عمل الإنسان أو الطبيعة.

غير أن المشرع يشترط ألا يكون مصدر الخطر المتهم ذاته، وهو ما بينته المادة 61 من تقنين العقوبات المصري، التي تبعها الفقه على اعتبار حالة الضرورة مانع من موانع المسؤولية، غير أن البعض يرى أن ذلك لا يستقيم مع النظرة الصحيحة لحالة الضرورة كسبب من أسباب الإباحة، غير أن الخلاف لم ينحصر عند هذا الحد، بل امتد لمناقشة ما إن كان دور المتهم في إحداث الخطر عن عمد أو عن طريق الخطأ، فاتفق على أنه لا ضرورة في حالة العمد، كمن يشعل النار في مسرح ثم لينجو يدوس على طفل فيقتله، والقضاء الفرنسي ينفي حالة الضرورة حتى إن كان دور المتهم في إحداثها كان على سبيل الخطأ، في حين لا يوافق البعض ذلك، إذ يمكن إن تسبب الشخص بإهماله في إحداث خطر أن ينقذ مصلحة أجدر بالرعاية، مثل سائق السيارة الذي يسير بسرعة ولتفادي الاصطدام بسيارة تسير في الاتجاه المنعكس أن ينحرف يسارا ويصدم أحد المارة فيقتله، وربان السفينة الذي بإهماله توشك السفينة على الغرق لكن لإنقاذ نفسه والغير يلقي البضائع في البحر[11]. وبتوفر هذه الشروط في الخطر، يستوي أن يكون من تعرض له مرتكب الفعل الضروري أو غيره من الناس، ولا يشترط أن يكون هذا الغير من أقارب الجاني، بل يكفي مطلق الغير.

الفرع الثاني
الفـعل الضروري ( فعل الضرورة)

يشترط في الفعل الضروري الذي يرتكبه الشخص المضطر، مثلما يشترط في فعل الدفاع في حالة الدفاع الشرعي، وهما شرطي اللزوم والتناسب، وهما الشرطين الذين نتناول كل منهما في نقطة مستقلة.

أولا: شرط اللـــــــزوم

وهو أن يكون اللجوء إلى الجريمة التي تشكل الفعل الضروري التي يكون غرضها دفع الخطر الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف، إذ إن كانت أمامه وسيلة أخرى مشروعة لا يعد فعله ضروريا[12]، واللزوم يقاس بمعيار موضوعي يتعلق بالشخص العادي المحاط بنفس الظروف التي يوجد بها المضطر. ومن توفر لديه الهرب فيجب أن يسلكه ولا يلجا لارتكاب الجريمة، وهنا تختلف حالة الضرورة عن حالة الدفاع الشرعي، ويستوي أن تكون الجريمة اللازمة لدرء الخطر الذي يتهدد المضطر جريمة عمدية
أو جريمة غير عمدية، مثل سائق سيارة الإطفاء الذي يسير بسرعة لإنقاذ الناس فيصطدم بالغير، أو من يصعد بسيارته على الرصيف هروبا من دهس أطفال أمامه فيصدم شخصا آخرا[13]. بينما ترى محكمة النقض الفرنسية في هذا الشرط، أن تكون الجريمة هي أحسن وسيلة لتفادي الخطر، لا أن تكون الوسيلة الوحيدة. ويضاف لكل ما سبق ألا يكون الشخص ملزما قانونا بتحمل الخطر الذي يعترضه، مثل الجندي في ميدان القتال، ورجال البوليس في ممارستهم لمهامهم، والمتهم المقبوض عليه، والمحكوم عليه بالإعدام، وربان السفينة عندما تتعرض للغرق، فكل هؤلاء يتعرضون لخطر جسيم على النفس، ولكنهم ملزمين بتحمل هذا الخطر بحكم وظائفهم التي تقتضي بحكم طبيعتها التعرض لمثل هذه الأخطار[14].

ثانيا: شـــرط التناسب

حالة الضرورة تقتضي شانها شأن الدفاع الشرعي التناسب، سواء كان عاما وهي ارتكاب جريمة من حيث الجسامة بأنها الوحيدة الممكنة من بين الجرائم التي كان يمكن ارتكابها، أي لا يمكن للشخص النجاة من الخطر الذي يتهدده إلا بتلك الجريمة التي ارتكبها، ويتحدد هذا التناسب وفقا لمعيار موضوعي واقعي قوامه الشخص المعتاد الذي مر بنفس الظروف التي مر بها الجاني[15]. كما تشترط حالة الضرورة أيضا التناسب الخاص، في الحالات التي يلجا فيها لجريمة القتل، فهنا لا يجب أن يحدث الجاني ضررا يفوق الضرر الذي أراد تجنبه، على عكس التناسب الخاص في مجال الدفاع الشرعي، فالطبيب الذي يجري عملية جراحية لولادة عسيرة ليس له أن يضحي بحياة الأم لينقذ الجنين، ولا يجوز لشخص ينحرف بسيارته لتجنب قتل شخص أن يقتل عدد أكبر من الأشخاص[16]. وتدق المسألة بخصوص مدى توفر حالة الضرورة في حالة قتل إنسان لأجل إنقاذ حياة إنسان آخر، فهنا يرى البعض أنه في حالة تساوي المصالح يجب تفضيل مصلحة البريء الذي لم يصدر عنه أي خطر، مثل حالة من أراد تجنب صدم أحد المارة فيصدم الآخر، ولا يجب أن يقتل الشخص غيره لإنقاذ حياته[17].
وفي حالة تجاوز الضرورة يعتبر الشخص مرتكبا لجريمة عمدية إذا كان القانون يعاقب عليها بهذا الوصف، وإذا كان التجاوز مبنيا على أسباب معقولة انتفت كل مسؤولية، وغن كان التجاوز عمديا اعتبر المتجاوز مسؤول مسؤولية جنائية كاملة.

هذا وبعد ان تناولنا في فصلين متتاليين الركن الشرعي للجريمة، وأسباب الإباحة كأسباب تنفي هذا الركن أصلا وتعطل مفعوله، سنتناول في الفصل الموالي، أهم ركن من أركان الجريمة، ألا وهو الركن المادي على اعتبار الجريمة أفعال وسلوكات نهى عنها النص القانوني، أي الركن المادي تجسيد للركن القانوني.
الفصل الثالث
الركن المادي للجريمة

الركن المادي للجريمة يقصد به تطابق الفعل الذي أتاه الجاني مع النموذج القانوني للجريمة، كون القانون يحدد أركان وشروط الجريمة وبها يتحدد النموذج القانوني لها، أو المظهر القانوني لها، ليأتي المظهر المادي الذي يتحدد بالواقعة التي حدثت في العالم الخارجي من قبل الجاني، ويشترط فيه أن يتطابق مع المظهر القانوني الذي بينه المشرع. لذا فالركن المادي للجريمة، هو وجهها الخارجي الظاهر، وبه يتحقق الاعتداء على المصلحة المحمية قانونا، وعن طريقه تقع الأعمال التنفيذية للجريمة، إذ لا وجود لقانون عقوبات في الدول الديمقراطية يعاقب على مجرد النوايا. فكل جريمة لا بد لها من ماديات تتجسد فيها الإرادة الإجرامية لمرتكبها، فالقانون الجنائي على عكس قواعد الأخلاق ليس له سلطان على ما في ضمائر الناس من أفكار شريرة ومن نوايا إجرامية، حتى ولو وصلت مرحلة عقد العزم والتصميم ما لم تخرج لعالم الماديات التي تجسد هذه النوايا وتصبح تعرض المصالح والحقوق للأخطار، فهنا يتصدى لها القانون الجنائي يعاقب عليها. وبالتالي الركن المادي هو ما يدخل في البناء القانوني للجريمة من عناصر مادية ملموسة يمكن إدراكها بالحواس.

أهمية اشتراط الركن المادي لقيام الجريمة:

إن أهمية اشتراط المشرع للركن المادي للجريمة، تكمن أساسا في كونه الركن الذي يجسد ما يعرف بمبدأ " مادية الجريمة Le Principe de la matérialité de l’infraction"، فالقانون الجنائي لا يهتم بالبواطن والنوايا، وإنما يهتم فقط بالظاهر المادي الملموس، وهو أمر لا يخلو بأي حال من الأحوال من فعالية قانون العقوبات وتحقيقه للعدالة المنشودة، فمن العدالة ألا يحاسب الأفراد على نواياهم، متى لم تتجسد في نشاط مادي خارجي ملموس يلحق أضرارا بالمصالح المحمية قانونا، أو مجرد تهديدها بأخطار، مهما كانت هذه النوايا والنوازع حافلة برغبة مخالفة القانون – كون قانون العقوبات يحمي الحقوق والمصالح من الاعتداءات الفعلية الواقعة عليها، أو مجرد تهديدها أي احتمال الإضرار بها-.

كما انه ليس من الجدوى والفعالية تجريم النوايا والعقاب عليها، كون هذه النوايا ليست ضارة في حد ذاتها، بل أن تجريمها قد يشجع الأفراد على تجاوز مرحلة النوايا والإقدام فعلا على ارتكاب الأفعال، متى كانوا في الحالتين معرضين لعقاب القانون، مما يجعل عدم العقاب على النوايا يعد في حد ذاته ضمانة من الضمانات المكرسة لحقوق وحريات الأفراد[18].

وتظهر أهمية اشتراط الركن المادي أيضا، في تسهيل عملية إثبات الجريمة، لأنه إن كان من اليسير إثبات وقوع ماديات الجريمة، التي تجسدت في أفعال خارجية ملموسة أحدثت أثارا في العالم الخارجي،
أو على الأقل يمكن إدراكها بالحواس حتى وإن لم تصل لحد ترتيب آثارها، فإنه من العسير جدا إثبات النوايا، في الحالات التي يرتأى فيها المشرع تجريم هذه النوايا، وبذلك يكون القانون منفذا لإفلات الجناة من العقاب[19]. وقانون العقوبات في غالب الأحوال لا يشترط مجرد السلوك، بل يتطلب تحقق نتيجة معينة تكون أثرا لهذا السلوك، وأن يكون الأخير مسببها، لذا فالركن المادي للجريمة التامة يتحلل في العادة إلى ثلاثة عناصر، هي: السلوك، النتيجة، وعلاقة أو رابطة سببية تربط بين هذا السلوك والنتيجة التي تحققت، وهو ما الوضع العادي والمألوف للجرائم التامة ، غير أن هذه العناصر قد لا تتحقق مجتمعة ومع ذلك يتدخل المشرع بالعقاب، وذلك في الحالات التي يأتي فيها الشخص بالسلوك إلا أن النتيجة تتخلف، وهو ما يسمى بالشروع أو المحاولة، وهو موضوع بحث في المبحث الثاني، كما أن الوضع العادي والمألوف للجرائم أن فعلا واحدا مجرما يسهر على تنفيذه فاعل واحد، غير أنه يمكن أن تتضافر جهود العديد من الأشخاص لاقتراف الفعل، وفي هذه الحالة نكون أمام مشروع إجرامي لأطراف متعددة، وهي صورة خاصة من صور الركن المادي للجريمة، وتسمى بالمساهمة الجنائية أو الاشتراك، الذي يكون موضوع بحث في المبحث الثالث.




.
المبحث الأول
تحليل الركن المادي للجريمة
عناصره في حالة الجريمة التامة

الركن المادي للجريمة، وفي غالبية الجرائم، يتحلل – مثلما سبق القول- إلى ثلاثة عناصر، هي السلوك سواء تمثل في فعل أو مجرد امتناع، ونتيجة يكون سبب حدوثها هذا السلوك، سواء كانت نتيجة مادية يمكن إدراكها في العالم الخارجي أو مجرد نتيجة بالمفهوم القانوني، وأن ترتبط هذه النتيجة برابطة أو صلة أو علاقة سببية، بمعنى أن يكون السلوك سبب في حدوث وتحقق النتيجة، والعناصر الثلاثة السابقة، هي العناصر العامة للركن المادي لكل جريمة تامة وقعت طبقا للنموذج القانوني أو التشريعي المرسوم لها من قبل المشرع، مع ملاحظة أنه هناك من الجرائم ما لا يشترط فيها المشرع تحقق نتيجة معينة، أي لا تعد النتيجة عنصرا لازما في ركنها المادي، وهي ما تعرف بجرائم السلوك المجرد أو السلوك المحض، كما تسمى أيضا بالجرائم الشكلية، كجريمة حيازة سلاح بدون ترخيص، ومثل هذا النوع من الجرائم يقوم على مجرد إتيان السلوك المجرم، دون اشتراط ترتب نتيجة عليه.

كما أنه هناك جرائم يتطلب البناء القانوني لركنها المادي ، وبالإضافة للعناصر العامة الثلاثة السابقة، عناصر أخرى خاصة تستخلص من نص التجريم ذاته، والتي يتوقف على توفرها اكتمال الجريمة قانونا من الناحية المادية، من أمثلة هذه العناصر الخاصة، ما يتعلق بمحل العدوان الذي ينصب عليه السلوك، مثل الإنسان الحي في جريمة القتل ( المادة 254 قانون عقوبات جزائري)، والمال المملوك للغير في جريمة السرقة ( المادة 350 قانون عقوبات جزائري)، والمحرر المكتوب في جريمة التزوير ( المادة 214 وما بعدها من قانون العقوبات). وقد يتعلق العنصر الخاص بصفة في الشخص، سواء كان جاني أو مجني عليه، ومن أمثلة الصفة المتطلبة في الجاني، صفة الموظف في جريمة الرشوة، وجريمة الاختلاس[20]، وصفة الزوج أو الزوجة في جريمة الزنا ( المادة 339)، ومن العناصر الخاصة المشترطة في المجني عليه، القاصر ( المادة 236 وما بعدها)، وصفة الموظف أو الهيئة النظامية في جرائم الإهانة والتعدي على الموظفين ومؤسسات الدولــة ( المادة 144 وما بعدها)، وترك الأطفال والعاجزين ( المادة 314 وما بعدها)... وقد ينصب العنصر الخاص بالوسيلة المستعملة في ارتكاب الجريمة، مثل السرقة باستعمال السلاح ( المادة 351 ق ع ج) ، وجريمة القتل بالتسميم ( المادة 260 ق ع ج). كما قد يتعلق العنصر الخاص بزمان أو مكان ارتكاب الجريمة، ومن أمثلة اشتراط زمن معين في بعض الجرائم، الجرائم التي ترتكب في زمن السلم ( المادة 74 وما بعدها)، ومن أمثلة الجرائم التي تتعلق بالمكان، جريمة القذف التي تشترط العلنية في مكان عام ( المادة 296)، وجريمة السكر العلني، والمخالفات المتعلقة بالطرق العمومية ( المادة 444 مكرر وما بعدها). غير أن موضع دراسة هذه الأركان الخاصة هو القسم الخاص لقانون العقوبات، لذا تنحصر دراستنا في هذا الموضوع على العناصر العامة للركن المعنوي فقط، ونتناول كل منها في مطلب مستقل من المطالب الثلاثة التالية.

المطلب الأول
السلوك الإجرامي ( أو الجرمي أو المجرم)
مبدأ: السلوك مادة الجريمة وأداة مخالفة القانون

يعد السلوك الإجرامي من أهم مكونات الركن المادي للجريمة، وأكثر هذه العناصر إفصاحا عن مخالفة الجاني لأوامر ونواهي قانون العقوبات، ويعرف السلوك باختصار، بأنه ذلك التصرف أو الفعل
أو الموقف الذي إذا أتاه الشخص عوقب، لذا كان من الطبيعي أن يحدد سلوك كل جريمة من قبل المشرع تطبيقا لمبدأ الشرعية الجنائية، لأن الجرائم أفعال تطبيقا لمبدأ " لا جريمة دون فعل"[21]، وهو الفعل الذي قد يكون إيجابيا يأتيه الشخص بالمخالفة لنواهي قانون العقوبات، وقد يكون سلبيا يأتيه الشخص بالمخالفة لأوامر هذا القانون، وهما صورتا السلوك المؤثم قانونا، الأولى – الفعل الإيجابي- وهي الصورة الشائعة التي تستوعب غالبية الجرائم، والثانية – السلوك السلبي- أقل مقارنة بالأولى، وتسمى الجرائم في هذه الحالة بالجرائم السلبية أو جرائم الامتناع وأحيانا جرائم الترك، وهي قلة قليلة مقارنة بالجرائم الإيجابية أو جرائم الفعل. لذا سنحاول أن نتناول صورتي السلوك من خلال الفرعين التاليين.

الفرع الأول
السلوك الإيــجابي ( الفعـــــــل)

وهي صورة من السلوك المشكلة للركن المادي لغالبية جرائم قانون العقوبات، ويسميها الفقه أيضا:
" النشاط" أو "السلوك"، ويتمثل في الغالب في حركة أو مجموعة حركات عضوية إرادية تحدث تغييرا في العالم الخارجي الملموس، ويكون السلوك فعلا إذا استخدم فيه الجاني أعضاء جسمه، كما لو استعمل يديه في الضرب أو القتل، أو لسانه في جريمة القذف أو السب أو التهديد الشفوي أو تحريض الغير على ارتكاب الجرائم، أو استعمال رجله في جريمة التعدي على الملكية العقارية واغتصابها واحتلالها، لذا فمن أهم خصائص السلوك الإيجابي هي:

أولا: السلوك الإيجابي حركة أو عدة حركات عضوية

السلوك الإيجابي أو الفعل، يعد عبارة عن حركة أو مجموعة حركات عضوية، يأتيها الجاني لتنفيذ جريمته، فقد تكون حركة واحدة كتوجيه ضربة للمجني عليه أو إطلاق رصاصة عليه، أو توجيه إهانة واحدة له، أو مجموعة حركات عضوية تستند إلى قرار جرمي واحد، كاستمرار الجاني في طعن المجني عليه بعدة طعنات متتالية، أو إطلاق العديد من الرصاصات نحوه، في حين السلوك السلبي أو الامتناع فهو إحجام عن الحركة، في أوضاع كان يتعين على الشخص إتيانها، وتسمى الجرائم التي تقع بالسلوك الإيجابي بالجرائم الإيجابية، في حين تسمى الجرائم التي تتحقق بالامتناع، بالجرائم السلبية.
ويجب أن تكون الحركة أو مجموعة لحركات العضوية، عبارة عن حركات مادية مصدرها عضو من أعضاء جسم الإنسان، دون اعتداد في ذلك – في غالبية الأحوال- بالوسيلة المستعملة في تحقيق هذا السلوك، على اعتبار أن الوسيلة ذاتها، تسيرها الحركة الصادرة عن عضو الإنسان[22].


.

ثانيا: السلوك حركة إرادية هادفة لتغيير وضع قائم

يشترط في السلوك الإيجابي، زيادة على كونه حركة أو مجموعة حركات عضوية مادية صادرة عن عضو أو أكثر من أعضاء جسم الإنسان، أن تكون القوة الدافعة لهذه الحركة هي الإرادة، بمعنى أن تكون الحركة إرادية صادرة عن وعي وإدراك وحرية اختيار، وبعبارة أخرى يشترط أن تكون هناك صلة نفسية بين الحركة والإرادة، كون الحركة اللاإرادية حتى وإن ترتب عنها النتيجة المجرمة قانونا، إلا أن مسؤولية الشخص عنها منتفية، والإرادة هذه يجب أن تهدف إلى تغيير وضع قائم، والمقصود بذلك أن يكون هذا التغيير متمثلا في الاعتداء أو الإضرار أو مجرد احتمال التهديد للمصالح والحقوق المحمية بموجب قانون العقوبات.
الفرع الثاني
الســـلوك السلبي
( الترك أو الامتناع أو عدم الفعل[23] )

القانون الجنائي لا يعاقب فقط على السلوكات الإيجابية المتمثلة في حركة أو مجموعة حركات عضوية مادية إرادية – وإن كان ذلك الأصل-، بل هو يعاقب أيضا على بعض التصرفات والسلوكات السلبية الضارة، وذلك كاستثناء، والسلوك السلبي يتمثل في موقف سلبي يتخذه الشخص إزاء قاعدة قانونية تطالبه بالقيام بعمل ما، فيمتنع عن القيام به، أو يقوم بعمل مضاد للعمل الذي أمرت به القاعدة القانونية، لذا فالامتناع بدوره عبارة عن عمل إرادي واعي مصدره الإرادة الحرة المختارة لا مجال فيه للقول بقيام المسؤولية الجنائية للممتنع في حال ما إذا دفعته قوة قاهرة أو أكره عليه.
ومن أمثلة جرائم الامتناع في قانون العقوبات الجزائري، امتناع الشاهد عن الحضور أمام الجهات القضائية الجزائية ( المادة 89 من قانون الإجراءات الجزائية بخصوص الامتناع عن الحضور أمام قاضي التحقيق، والمادة 222 من ذات القانون بخصوص امتناع الشاهد عن الحضور أمام جهات الحكم الجزائية، والمادة 299 من ذات القانون بخصوص امتناع الشاهد عن الحضور أمام محكمة الجنايات)، وامتناع الموظف عن تطبيق ما أمر به القانون ( المادة 109 قانون عقوبات)، وامتناع الشخص الذي يعلم بالشروع في ارتكاب جناية أو وقوعها ولا يخبر السلطات المختصة بها فورا ( المادة 181 ق ع ج).
وفي كل هذه الحالات نكون أمام جرائم امتناع، لأن النص الجنائي ألزم الشخص بالقيام بعمل معين تحت طائلة توقيع جزاء جنائي ولم يقم به، لذا فجرائم الامتناع عبارة عن جرائم محددة العناصر في النصوص الجزائية، تطبيقا لمبدأ الشرعية الجنائية، لذا فلا يجوز اللجوء للتفسير الواسع ولا القياس فيها، والقانون في العادة ما يعاقب على مجرد السلوك السلبي فيها، دون أن يشترط تحقق نتيجة معينة تترتب عن هذا الامتناع، مما يجعل غالبيتها من جرائم السلوك المحض. غير أن الفقه أوجد طائفة جديدة من الجرائم سماها جرائم السلوك بالترك، أو الجرائم الإيجابية التي تقع بجريمة امتناع، أين يكون السلوك مجرد امتناع لكنه يقترن بتحقق نتيجة مادية معينة، مثل امتناع الطبيب عن القيام بعلاج المريض مما يؤدي لموت المريض، أو امتناع الأم عن إرضاع ابنه مما يؤدي إلى إهلاكه.

المطلب الثاني
النتيجة الإجرامية ( أو المجرمة)

يقصد بالنتيجة كأحد العناصر المكون للركن المادي للجريمة، الأثر الطبيعي المترتب عن السلوك المجرم قانونا، وهو المفهوم المادي للنتيجة المتمثل في وجود أثر مادي أو تغير يحدث في العالم الخارجي الملموس، في حين المفهوم القانوني للنتيجة، فيتمثل في الاعتداء على المصالح والحقوق المحمية قانونا.

وقد يظهر أن النتيجة أمر لا ينفصل عن السلوك المادي، بحيث يقوم الجاني بعمل واحد تعد النتيجة آخر حلقاته، غير انه في الواقع، النتيجة تعد العنصر الثاني المستقل والمنفصل من عناصر الركن المادي للجريمة، وما يدل على ذلك تمييز المشرع بين الجريمة التامة ومجرد الشروع- وهو موضوع دراسة مستقلة لاحقا- فلو كانت النتيجة عنصرا ملازما للسلوك لما قام المشرع بهذه التفرقة، ولما كانت هناك أصلا حاجة للعقاب على الشروع، ما دامت النتيجة ملازمة للسلوك، لذا فالسلوك أمر مستقل عن النتيجة. لذا فالنتيجة عنصر من عناصر الركن المادي، يتمثل في التغيير الذي يحدثه السلوك في العالم الخارجي الملموس، والذي قد يكون أثرا ماديا، مثل حدوث الوفاة في جريمة القتل، والاستيلاء على مال الغير في جريمة السرقة، وقد يكون مجرد أثر نفسي، مثلا كالحط من قيمة ومكانة الشخص في وسط أقرنائه في المجتمع كجرائم القذف والسب، لذا نرى أن النتيجة المعتد بها قانونا، ليست النتيجة الواقعية التي حدثت في العالم الخارجي، أو ما يعتبره المجني عليه أنه نتيجة أضرت به، وإنما النتيجة هي ما يعتد به القانون ويعتبره تغييرا قانونيا.

والنتيجة عنصر لازم في معظم الجرائم، خاصة تلك التي يرتب فيها المشرع على تحقق النتيجة أحكام قانونية، تتعلق أساسا بالشروع والاشتراك والقصد الجنائي، غير أن النتيجة قد لا تكون عنصرا لازما في الركن المادي لبعض الجرائم، التي تقوم ويكتمل ركنها المادي بمجرد إتيان السلوك، وتسمى الجريمة في هذه الحالة، بالجريمة الشكلية أو جرائم الخطر أو جرائم السلوك المحض، مقارنة بالجرائم المادية أو جرائم الضرر، التي تتطلب نتيجة[24]. لذا نرى بأن دراسة فكرة النتيجة كعنصر عام وهام في الركن المادي للجرائم، تقتضي منا تناول موضوع التفرقة بين النتيجة المادية والنتيجة القانونية، وذلك في فرع، لنتناول في الثاني التمييز بين الجرائم المادية ذات النتائج، والجرائم الشكلية التي لا يشترط فيها المشرع تحقق نتيجة معينة.
الفرع الأول
التمييز بين النتيجة المادية والنتيجة القانونية
النتيجة بين المفهوم المادي والمفهوم القانوني[25]:

النتيجة عموما هي الأثر الطبيعي الذي يتمخض عن السلوك ويعتد به القانون، وهو التعريف الذي يشتمل على ثلاثة عناصر، أن النتيجة أمر واقعي له وجود خاص وذاتية مستقلة، وهي في حقيقة الأمر تتميز عن السلوك مهما كانت مرتبطة به، والقانون أحيانا قد يتطلب حدوث نتيجة معينة، وأحيانا يكتفي بالنص على صلاحية السلوك لإحداثها، أما العنصر الثاني للنتيجة فهو ارتباطها بالسلوك برابطة سببية، وهي الرابطة
أو العلاقة التي تعد بالغة التعقيد والأهمية، والعنصر الثالث هو اعتداد القانون بالنتيجة، إذ الفعل الواحد قد يرتب نتائج متعددة، وهي النتائج التي قد تولج نتائج أخرى، غير أن القانون يهتم بالبعض دون البعض الآخر، والمشرع قد يجعل بعض النتائج عنصرا لازما لوقوع الجريمة والبعض الآخر من نتائجها المشددة، أو ظرفا مؤثرا في عقوبتها فحسب، مثال الأول حدوث الوفاة في جريمة القتل، ومن أمثلة الثانية العاهة المستديمة في جريمة الضرب، وفي هذا المقام تهمنا النتيجة كعنصر لا كظرف، غير أن النتيجة تعد أحيانا من عناصر الجريمة إذ لا تقوم هذه الأخيرة دونها، في حين قد يكتفي المشرع بالسلوك وحده في بعض الأحيان، وفي هذا الصدد قسمت الجرائم حسب الفقه، إلى جرائم نتيجة وجرائم سلوك محض.

أولا: المفهوم المادي للنتيجة

النتيجة بالمفهوم المادي تتحقق بكل تغيير يحدث في العالم الخارجي كأثر للنشاط الإجرامي[26]، ووفقا لهذا المفهوم للنتيجة أهمية قانونية في موضوعين، الأول بخصوص اكتمال الجريمة وتمامها، والثاني كمعيار لتحديد العقوبة، ووفقا للأهمية الأولى تقسم الجرائم على جرائم مادية ذات نتيجة، وأخرى شكلية كل ما تتطلبه مجرد السلوك، وهو ما نبينه في الفرع الثاني. بعد أن نتناول المفهوم القانوني للنتيجة.

ثانيا: المفهوم القانوني للجريمة

وهي النتيجة المتمثلة في العدوان على الحق أو المصلحة المحمية قانونا، سواء تمثل هذا العدوان في إصابتها بضرر أو مجرد تعريضها للخطر، لذا فهي وفقا لهذا المفهوم، لا تعد تغييرا في العالم الخارجي يمكن للحس أن يدركه ويميز بينه وبين سلوك الجاني، وإنما هي تقدير قانوني للسلوك أو حكم على هذا السلوك من وجهة نظر المشرع، وبهذا المفهوم النتيجة موجودة في كل جريمة، كون كل جريمة تقوم على سلوك، في حين المفهوم المادي للنتيجة المقابل للمفهوم القانوني هو ما يترتب عن السلوك من اثر مادي في العالم الخارجي المحسوس.
الفرع الثاني
التمييز بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية
( الجرائم ذات النتائج والجرائم ذات السلوك المجرد المحض)

سبق القول بأنه ليست كل الجرائم مما يتطلب فيها المشرع تحقق نتيجة مادية تحدث تغييرا ملموسا في العالم الخارجي، بل هناك من الجرائم ما يقوم ركنها المادي على مجرد إتيان السلوك بغض النظر عما إن رتب هذا السلوك نتيجة من عدمه، وبناء على ذلك تنقسم الجرائم من هذه الوجهة، إلى جرائم مادية ذات نتائج، وجرائم شكلية ذات سلوكات فقط، لذا سنحاول أن نتناول معنى النوعين كل في نقطة، لنتناول في نقطة مستقلة أهمية التفرقة بين النوعين

أولا: الجرائم المادية
الجرائم المادية، هي جرائم يتطلب المشرع فيها أن يترب السلوك نتيجة مادية كأثر ملموس في العالم الخارجي المحسوس، أو على الأقل مجرد احتمال حصول هذه النتيجة كأثر مباشر عن السلوك، مثلما هو الشأن بالنسبة لجرائم الشروع، وهذا النوع من الجرائم هو الأكثر شيوعا في القوانين العقابية، إذ غالبية الجنايات والجنح تشترط وقوع نتيجة كأثر مباشر عن السلوك المجرم، سيما في السلوكات الإيجابية. لذا يسمى هذا النوع من الجرائم أيضا " الجرائم ذات النتائج"، أو " جرائم الضرر"، لأن النتيجة في حقيقتها ضرر أصاب مصلحة أو حق محمي قانونا، حتى وغن تجسد هذا الضرر في مجرد احتمال أو تهديد مثلما هو الأمر بالنسبة لجرائم الشروع.

ثانيا: الجرائم الشكلية

في مقابل الجرائم المادية ذات النتائج، توجد هناك جرائم شكلية لا يشترط المشرع لقيامها حدوث نتيجة كأثر مباشر مترتب عن السلوك المجرم، لذا فهي تسمى أيضا " جرائم السلوك المحض" أو " جرائم السلوك المجرد"[27]، ومن أمثلة هذه الجرائم، عرض الرشوة على موظف عام، تزوير أو تزييف النقود دون ترويجها، تزوير الأوراق دون استعمالها، حيازة الأسلحة بدون ترخيص ودون أن تستعمل في ارتكاب جرائم، حمل الأوسمة أو ارتداء الأزياء الرسمية بدون وجه حق.

ثالثا: أهمية التفرقة بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية

للتفرقة بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية، أهمية قانونية بالغة الآثار، وذلك بالنظر للنتائج القانونية المترتبة على هذا التمييز أو هذه التفرقة، خاصة بخصوص علاقة السببية، وفي مجال الشروع، وبخصوص العدول الاختياري. فبخصوص العلاقة السببية، لا مجال للبحث عنها في مجال الجرائم الشكلية، فهي صلة أو رابطة متطلبة فقط في الجرائم المادية ذات النتائج، كونها علاقة أو رابطة تفترض أصلا وجود عنصرين، هما السلوك والنتيجة، وتكون هي الرابط بين هذين العنصرين، وإن كان يجب قيامها وإثباتها في مجال قيام الركن المادي في الجرائم المادية ذات النتائج، فالأمر غير ممكن بخصوص الجرائم الشكلية، وذلك لانعدام النتيجة التي يبحث عن علاقتها بالسلوك، إذ هذا الأخير كاف لوحده لقيام الركن المادي.

وأما بخصوص الشروع – الذي سيكون موضوع دراسة مفصلة- فلا يمكن تصوره في الجرائم الشكلية، إذ السلوك المجرم إما أن يأتيه الشخص وإما أن لا يأتيه إطلاقا، على عكس الجرائم المادية ذات النتائج فهي جرائم تشكل مجالا خصبا لجرائم الشروع، هذه الأخيرة التي تتمثل في إتيان السلوك في بعضه
أو في كله من قبل الجاني، وبالرغم من ذلك لا تتحقق النتيجة لظرف أجنبي خارج عن إرادة الجاني.

وأما بخصوص العدول الاختياري، وهو فكرة قانونية تتعلق بنظرية الشروع، فلا يمكن تصوره إلا في الجرائم المادية ذات النتائج، دون الجرائم الشكلية ذات السلوك المجرد، كون العدول يفترض البدء في تنفيذ الفعل والتوقف قبل تحقق النتيجة، وبالتالي عدم تحقق النتيجة معيار القول بوجود العدول الاختياري من عدمه، وما دامت النتيجة غير موجودة في الجرائم الشكلية فلا مجال للقول فيها لا بالشروع ولا بالعدول الاختياري، فالجريمة الشكلية إما أن تقع تامة وإما ألا تقع إطلاقا.

المطلب الثالث
علاقة ( صلة أو رابطة) السببية
Le lien de causalité

مؤدى التصور القانوني لعلاقة السببية، هو أنه لكي يكتمل البنيان القانوني للركن المادي للجريمة، لا بد أن يرتبط السلوك، فعلا كان أو امتناعا، بالنتيجة المحظورة التي تحققت، أي ارتباط السبب بالمسبب[28]، وبعبارة أخرى، يجب أن يكون السلوك مسبب النتيجة، فإن أمكن رد هذه النتيجة إلى عامل آخر غير السلوك الذي أتاه الجاني، انقطعت الصلة السببية وانتفت مسؤولية الجاني عن النتيجة التي تحققت، لذلك، وحتى يسأل الشخص يجب أن يكون سلوكه سبب حدوث النتيجة المحظورة قانونا، إذ المنطق واعتبارات العدالة تقتضي مسائلة الشخص فقط عن النتائج التي كانت ثمرة أفعاله المحظورة، لا النتائج التي كانت ثمرة عامل أو عوامل أخرى.
ويجب ألا نخلط بين صلة السببية التي تعد من عناصر الركن المادي للجريمة، وبين النية الإجرامية التي تعد من عناصر الركن المعنوي للجريمة – في بعض الحالات الضيقة-، حيث هذه الأخيرة عبارة عن مسألة نفسية أو شخصية، تتعلق بالموقف النفسي للجاني من النتيجة التي تحققت، وما إن كان يريدها أم لا، في حين صلة السببية من الأفكار الموضوعية اللصيقة بماديات الجريمة لا بجوانبها النفسية أو المعنوية.

غير أنه في الواقع توجد حالات يتضح فيها بما لا يدع مجالا للشك، أن الفعل الذي أتاه الجاني هو سبب النتيجة المجرمة التي تحققت، وفي هذه الحالة لا إشكال، حيث يعد الركن المادي بأكمله منسوبا للشخص، غير أنه وفي حالات أخرى كثيرة، قد تتداخل عوامل كثيرة بين سلوك الجاني والنتيجة التي تحققت، سواء كانت هذه العوامل سابقة أو معاصرة أو لاحقة لفعل الجاني، وهو ما قد يعدل أو يؤخر حدوث النتيجة، أو يجعلها تتحقق على نحو مخالف لما ارتآه وأراده الجاني، وبالرغم من أن هذه العوامل فيها الخفي والظاهر، المألوف والشاذ، المتوقع وغير المتوقع، القوي والضعيف[29]... فكيف لنا أن نحدد سبب النتيجة في مثل هذه الحالات؟ وبعبارة أخرى: كيف لنا الحكم بأن سلوك الجاني هو سبب النتيجة؟ وما الحل القانوني لذلك في غياب النص التشريعي؟

في ظل المشاكل العملية التي أظهرتها مشكلة البحث في علاقة السببية، وفي ظل سكوت المشرع عن توضيح معيارها الدقيق، حاول الفقه إيجاد حلول ففقهية لها، محاولا في بداية الأمر أن يعطي لها مفهوما علميا، قائلا أنه للسببية مدلول علمي قبل أن يكون لها مدلول قانوني، لذا يجب استخلاص معيار علمي لها لا استنادا للتصور القانوني، مستندين في ذلك لنظرية العالم " جون ستيوارت ميل" الذي عرف السبب علميا، بأنه: مجموعة العوامل الإيجابية والسلبية التي يستتبع تحققها حدوث النتيجة على نحو لازم، لذلك فالسبب من الناحية العلمية، يعني احتواءه على شرطي اللزوم والكفاية في إحداث النتيجة، أي احتوائه على المقومات اللازمة والكافية لإحداث هذه النتيجة، غير أن هذا المفهوم العلمي صعب التطبيق في مجال العلوم الإنسانية عموما، والعلوم القانونية خصوصا، والقانون الجنائي بالأخص، كون السبب في هذا القانون عبارة عن سلوك إنساني لا يمكن عزله عن الأسباب الأخرى المعاصرة أو السابقة أو اللاحقة له، ولا يمكن تجريده والحكم عليه بمعزل عن مجمل الظروف والملابسات المحيطة به، لذا فالسببية في المجال الجنائي لا يمكن أن تخلو من الجوانب الشخصية والنفسية، لذلك من الصعب بمكان الحكم عن مدى صلاحية السلوك في إحداث النتيجة دون الأخذ بعين الاعتبار الموقف النفسي للجاني، لذلك فشل هذا الاتجاه، وظهرت محاولات فقهية أخرى بنت حلولها على العديد من النظريات الفقهية، نذكر أهمها في النقاط التالية.

الفرع الأول
نظرية تعادل الأسباب
( نظرية الأسباب المتكافئة)

نادى بهذه النظرية فريق من الفقه الألماني وعلى رأسهم الفقيه " فان بورغ Van Burg"، ومقتضاها أن جميع الأسباب التي تساهم في إحداث النتيجة تتعادل وتتساوى ويكون كل من ساهم في إحداث إحداها مسؤولا مع البقية، أي أن كل الأسباب والعوامل التي تتدخل إلى جانب فعل الجاني تعد مسببة للنتيجة متى ساهم معها فعل الجاني في إحداث النتيجة، بغض النظر عن دور باقي الأسباب الأخرى، وسواء كانت سابقة عن فعله أو معاصرة له أو لاحقة عليه، ولا تهم طبيعة هذه العوامل، وما إن كانت مألوفة أو شاذة، قوية
أو ضعيفة، أو حتى ولو تداخل معها خطا المجني عليه[30]، أو خطا الغير[31]، أو القوة القاهرة[32]، أو حتى ولو كانت راجعة لفعل الطبيعة كالزلازل والفيضانات والعواصف، لأن فعل الجاني في مثل هذه الحالات، يصبح جزءا من سبب آخر" سبب السبب"، أي العوامل الأخرى ما كانت لتحدث النتيجة لولا فعل الجاني، حتى ولو كان ضعيفا مقارنة بها، أو دوره ضئيلا مقارنة بدور باقي الأسباب والعوامل الأخرى، إذ فعل الجاني وفقا لهذه النظرية، يكفي أن يكون موجودا ضمن طائفة من الأسباب الأخرى، حتى يمكن القول بأنه سبب في حدوث النتيجة، لأنه لولا فعله لما تعاقبت الأحداث على هذا النحو. ووفقا لهذه النظرية تترتب العديد من النتائج القانونية التي تنعكس على باقي أفكار قانون العقوبات، تقتضي منا تناولها قبل الخوض في تقدير النظرية ككل.

أولا: نتائج نظرية تعادل الأسباب

يترتب على منطق نظرية تعادل الأسباب العديد من النتائج القانونية التي يمكننا أن نوجزها في النقاط التالية:
1- الجاني مسؤول دوما عن الجريمة حتى ولو تداخلت إلى جانب سلوكه أسباب أخرى ساهمت معه في إحداث النتيجة، حتى وإن كانت غير متوقعة ولا مألوفة، كالحالة الصحية السيئة للمجني عليه، أو انهيار المستشفى الذي كان يعالج به المجني عليه،
2- لا تنقطع الصلة السببية بين فعل الجاني والنتيجة حتى ولو تداخلت العديد من الأسباب الأخرى معه، سواء كانت معاصرة لسلوكه أو سابقة له أو لاحقة عليه، كتأخر المجني عليه في عرض نفسه على الطبيب، أو خطا هذا الأخير في علاج المجني عليه.
3- لا تنتفي صلة السببية بين سلوك الجاني والنتيجة المحظورة، حتى ولو كانت النتيجة ستتحقق حتما، إلا أن سلوك الجاني عجل بحدوثها أو ضاعف في حجمها.

ثانيا: تقدير نظرية تعادل الأسباب
جاءت نظرية تعادل أو تكافؤ الأسباب بمعيار سهل ويسير الإثبات في استخلاص علاقة السببية، إذ يكفي أن يكون سلوك الجاني قد ساهم في تسلسل الوقائع ليعد الفعل الذي لولاه لما وقعت النتيجة، إلا أن الفقه وجه سهام النقد لهذه النظرية، لأنها تنطوي على إثقال كاهل الجاني وتشدد عليه المسؤولية، وهو أمر مخالف للعدل والمنطق، وإعمالها أيضا يؤدي إلى نتائج في غاية الغرابة، وكذا من الناحية القانونية، إعمال هذه النظرية يؤدي إلى إلغاء فكرة الاشتراك في الجريمة. كما قيل بأن هذه النظرية تتناقض مع نفسها، فتقر بداية التعادل بين الأسباب، ثم تختار من بينها سبب الجاني فقط وتلقي عليه كامل المسؤولية، وتحمله المسؤولية حتى عن الأسباب النادرة الحدوث، مثل الحريق الذي يهب في المستشفى، أو تهدمه، أو وقوع زلزال...

الفرع الثاني
نظرية السبب المنتج
( السبب المباشر أو الفعال )

وهي نظرية من ابتكار الفقه الأنجلوسكسوني[33]، وتسمى أيضا نظرية السبب الفوري أو السبب النشيط أو السبب الأقوى، والتي ترى وجوب اتصال النتيجة اتصالا مباشرا بفعل الجاني، كونه السبب الأقوى
أو المباشر أو الأساسي في إحداث النتيجة مقارنة مع الأسباب الأخرى، بمعنى أن الفاعل يسأل عن النتيجة الضارة التي جرم المشرع حدوثها، متى كان فعله سببا قويا وأساسيا لإحداثها وفقا للمجرى العادي للأمور، ومؤدى هذه النظرية باختصار، هو أن نطرح السؤال التالي: هل الفعل الذي ارتكبه الجاني، باستبعاد العوامل الأخرى التي تظارفت معه، قادر لوحده على إحداث النتيجة الضارة التي وقعت؟. فإن كان الجواب بالإيجاب، فإن الجاني يعد مسؤولا عن النتيجة التي حدثت، كما يعد مسؤولا عن كل النتائج الأخرى المحتملة، سواء توقعها أو لم يتوقعها، ما دام أمر حدوثها وفقا للمجرى العادي للأمور ممكن التصور، وإن كان الجواب عن السؤال السابق بالنفي، فالجاني لا يسأل عن النتيجة كون فعله لم يكن سببا في حدوثها.

أولا: معيار النظرية

يتضح مما سبق، بأن أنصار هذه النظرية أخذوا بمعيار مادي موضوعي، لا معيار شخصي، لأنها نظرية تأخذ بتقدير الأسباب، وهي أمور موضوعية لا دخل لشخصية الجاني فيها، ومعيار كل ذلك، معيار الرجل العادي الذي يوضع في نفس الظروف التي تواجد بها الجاني.

ثانيا: تقدير النظرية

بالرغم من وجاهة النظرية، إلا أنها لم تسلم بدورها من سهام النقد، وأهم الانتقادات التي وجهت لها، هو عدم وضوح معيارها، أي المعيار الذي يمكن من تحديد السبب المباشر والأساسي من بين سائر الأسباب الأخرى غير المباشرة، وأن القول بوجود سبب واحد للجريمة في ظل تعدد مسبباتها هو قول تعوزه الدقة[34]، لذلك نجد الفقه قد جاء بنظرية أخرى، تعد لغاية اليوم، وبإجماع الفقه، أفضل النظريات التي قيل بها في صدد بحث مشكلة صلة السببية، والتي أخذت بها معظم التشريعات الجنائية، سواء بصفة صريحة أو بصفة ضمنية، كما تبناها القضاء في العديد من الدول، وهي نظرية السبب الملائم، التي نتناولها في الفرع الموالي.

الفرع الثالث
نظرية السبـــب الملائم

وهي نظرية، على عكس النظريات السابقة، أقامها أنصارها على معيار بسيط يشبه نوعا ما المعيار الذي تبنته النظرية السابقة، ومفاد هذا المعيار طرح السؤال التالي: هل باستطاعة فعل الجاني بحسب المجرى العادي للأمور، إحداث النتيجة بالرغم من تداخل عوامل أخرى معه؟[35]. وهي بذلك نظرية لا يأخذ أنصارها بكل العوامل مثلما فعلت النظرية الأولى، ولا تستبعد كل العوامل مثلما فعل أنصار نظرية السبب المنتج، بل تأخذ فقط بالعوامل المألوفة التي يعلم بها الجاني أو يتوقعها على الأقل، ومعيار التفرقة بين العوامل المألوفة والعوامل الشاذة غير المألوفة، هو معيار العلم، أي متى كان يعلم الجاني أو يتوقع بعض العوامل المصاحبة لنشاطه كان العامل مألوفا ولا يمنع من مسائلته، وإن كان يجهل ذلك، عد العامل غير مألوف ويقطع اللصة بين النتيجة وفعله.

غير أن أهم انتقاد وجه لإعمال هذا المعيار، أنه معيار شخصي ونسبي ينقلنا من إطار الركن المادي إلى إطار الركن المعنوي، في حين صلة السببية عنصر هام من عناصر الركن المادي يجب أن يستبعد من محيطها كل العوامل النفسية والشخصية، ويركز فيها فقط على المسائل والأمور المادية الموضوعية. كما أنه لا وجود لضابط يمكن من الحكم بعلم الجاني بالعوامل من عدمه. لذا صحح أنصار هذه النظرية موقفهم، وقالوا بمعيار الرجل العادي[36]، عوض معيار العلم، وهو التصحيح الذي جعل منها من أكثر نظريات السببية قبولا، وأخذت بها غالبية التشريعات بما فيها المشرع الجزائري في نظرنا.

غير انه يمكننا القول كخلاصة، بأن أي من النظريات السابقة، وبالرغم مما قدمته من إضاءة لكثير من جوانب رابطة السببية في مجال الركن المادي للجريمة، إلا أنها لم تحل بصفة نهائية وحاسمة مشاكل هذه الفكرة القانونية، ودليل ذلك هو تشتت الفقه بالرغم من ثراءه، واضطراب القضاء بالرغم من اجتهاده، لذا فتردد المشرع عن تكريس معيار واضح ودقيق لرابطة السببية، لا يخلو من دلالات، وذلك بالنظر لأسباب التالية:
1-إن رابطة السببية ذاتها تستعصي عن التعريف وفق مفهوم مطلق ومجرد، لأن الفعل أو السلوك الإنساني يصعب تجريده بمعزل عن الظروف والعوامل المختلفة المحيطة به، لذا فمثل هذا السلوك يتميز بطابع خاص نسبي وشخصي أيضا تجعله يختلف من شخص لآخر، بل لدى الشخص الواحد من حالة لأخرى، ومن هذه العوامل والظروف، طبيعة الفعل نفسه وزمان ومكان ارتكابه، ووسيلة تنفيذه، والمحل الذي يرد عليه... لذا يجب الخروج من إطار المفهوم المطلق المجرد لعلاقة السببية إلى إطار الفهم الواقعي النسبي لها، وذلك لا يمكن إلا بتبني معيار واقعي ونسبي لهذه العلاقة، يأخذ بعين الاعتبار ظروف كل واقعة على حدة، وذلك لا يمكن أن يتأتى إلا بإعطاء القاضي سلطة تقديرية تمكنه من استخلاص هذه الرابطة من خلال الوقائع المعروضة عليه والظروف والملابسات المحيطة بها.
2- انطلاقا من التصور الواقعي النسبي لعلاقة السببية، يجب البحث فيما إن كان السلوك هو مسبب النتيجة في إطار كل قضية على حدة، وعلى أن يكون هذا السلوك متفوقا نسبيا على باقي العوامل الأخرى التي سبقته أو صاحبته أو تلته، وهذا التفوق النسبي لا يستخلص استخلاصا مجردا، بل يستخلص واقعيا بالنظر لكافة الظروف والملابسات المحيطة بالسلوك، وعلى ضوء دراسة كل العوامل بما فيها الشخصية، ومن أهم المعايير التي قد تعين القاضي في ذلك: طبيعة الجريمة وما إن كانت من الجرائم العمدية أو جرائم الخطأ، بحيث ما قد يصلح لاستخلاص العلاقة السببية في النوع الأول، قد لا يصلح لاستخلاصها في النوع الثاني. شخصية الجاني، وبحث مدى قدرته على التقدير ومدى قدرته على العلم بما يتعين عليه أن يعلمه، لأن سلوك الإنسان يصعب تقديره بمعزل عن صاحبه. مراعاة زمان ومكان ارتكاب الجريمة، لأن ما يمكن أن يكون سببا للجريمة في النهار في ظل الحركة والازدحام، قد لا يمكنه أن يكون كذلك في الليل، وما يمكن أن يصلح لأن يكون سببا للجريمة في مكان قد لا يصلح لأن يكون كذلك في مكان آخر. شخصية المجني عليه وسنه وظروفه الصحية والنفسية لها دور كبير في تقدير ما إن كان فعل الجاني هو السبب المباشر في إحداث النتيجة الضارة.

وبعبارة أخرى، يجب الخروج بصلة السببية من إطار المفهوم المجرد المطلق إلى رحاب الفهم الواقعي النسبي، كون النظريات السابقة، وإن أضاءت جوانب هذه الفكرة القانونية المعقدة، غير أن أي من هذه النظريات لم يحل بصفة نهائية مسألة السببية، ودليل ذلك أن أحكام القضاء لا تزال مترددة ومن العسير ردها إلى نظرية من النظريات، وذلك داخل البلد الواحد، إذ في الدولة الواحدة يتراوح القضاء أحيانا من النقيض إلى النقيض. لذلك يمكن القول بفإن المشرع الذي يعزف عن تكريس معيار للسببية له ما يبرره، كون صلة السببية تستعصي أحيانا على التعريف وفق مفهوم مجرد مطلق، كون الفعل الإنساني يصعب تجريده من ظروف وعوامل شتى تعطي له خصوصيته وطابعه النسبي. لذا فمن الضروري الأخذ بعين الاعتبار كل العوامل والظروف المحيطة بسلوك الإنسان، وعلى ضوئها يتم تقدير علاقة السببية، لذا يجب أن يكون السلوك المسبب للنتيجة متفوق نسبيا عن باقي العوامل الأخرى، وهو التفوق الذي يستخلصه قضاة الموضوع واقعيا ومن خلال كافة الظروف والملابسات المحيطة بهذا السلوك، في كل قضية على حدة وعلى ضوء شخصية الجاني ذاته. كما تختلف باختلاف أنواع الجرائم، فما قد يصلح معيار لاستخلاص علاقة السببية في جريمة قتل عمدي، قد لا يصلح لأن يكون كذلك في جريمة قتل خطأ، وأنه لا يمكن إعمال المقومات المادية على حساب المقومات الشخصية، فيجب أن تقدر صلة السببية بناء على مقومات السلوك المادية، ومقومات شخصية تستفاد من علم الجاني أو بما ينبغي عليه العلم به، لذا فعلاقة السببية تقوم على الفهمين المادي والشخصي، أي على الركنين المادي والمعنوي، فالسلوك الإنساني مهما كان ليس مادة مخبرية يتم إخضاعها للتجارب في المخبر. لذا يجب إعطاء القضاء سلطة في استخلاص صلة السببية، كون الحكم الذي يأتي خاليا من بيان البناء القانوني للجريمة يكون مشوبا بالقصور ويتعين نقضه، والدفع بانتفاء صلة السببية من الدفوع الجوهرية التي يتعين على المحكمة تمحيصها والرد عليها، لكن القول بوجود أو انتفاء الصلة السببية من المسائل الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بتقديرها دون رقابة من محكمة النقض، غير انه لهذه الأخيرة رقابة على المعيار المعتمد من قبل محكمة الموضوع لاستخلاص هذه الصلة.

المبحث الثاني
المحاولة أو الشروع كصورة ناقصة للركن المادي

عادة ما يكتمل البنيان القانوني للجريمة بتوافر أركانها الثلاثة العامة، الركن الشرعي والركن المادي والركن المعنوي، وهو الوضع الغالب والطبيعي لكل الجرائم، غير أن المشرع يتدخل أحيانا ويجرم بعض المظاهر السلوكية التي لا تكتمل لها كل هذه الأركان والعناصر، سيما ما يتعلق منها بالركن المادي للجريمة، فإن كان الأصل أن المشرع لا يعاقب إلا على الأفعال التي اكتملت ورتبت النتائج التي يعتد بها قانونا، إلا أنه يتدخل أحيانا بالعقاب دون أن يصل هذا الركن لهذه المرحلة، وهو الوضع في حال بعض الجرائم الناقصة التي تسمى شروعا. لذا قلنا بأن للركن المادي للجريمة صورا خاصة، تخرج عن إطار النموذج القانوني المكتمل والعادي للجريمة، والمتمثل في ارتكاب شخص لجريمة تامة فيعاقب عليه، وهو وضع جريمة الشروع وفكرة المساهمة الجنائية، التي نتناول كل منهما في مبحث مستقل.

وقد سبق القول بأن الركن المادي للجريمة – سيما في الجرائم المادية ذات النتائج- يتطلب أن يترتب عن سلوك الجاني نتيجة محظورة قانونا، وأن تربط بينهما رابطة سببية ليكتمل الركن المادي قانونا، لكن قد يحدث وأن يقوم الجاني بسلوكه المحظور كاملا، غير أن النتيجة لا تتحقق، أو أن يبدأ في سلوكه هذا ولا يكمله، سواء من تلقاء نفسه، أو نتيجة تدخل عوامل أخرى خارجة عن إرادته، وفي كلتا الحالتين يعد الجاني قد شرع في فعله المجرم كله أو بعضه دون أن يكتمل الركن المادي للجريمة، وهو ما يسمى الشروع في الجريمة أو المحاولة فيها. وهو وضع يعني انه شرع في ارتكاب الجريمة، غير أنها لم تكتمل، مما يجعلها عبارة عن جريمة ناقصة أوقفت في مراحها الأولى، أو استكمل السلوك فيها وخاب أثرها لسبب خارجي لا دخل لإرادة الجاني فيه. وذلك حتى نكون بصدد جريمة الشروع المعاقب عليه، لأنه لو كانت لإرادة الجاني دخل في وقف الجريمة، لكنا أمام فكرة العدول الاختياري التي تنفي جريمة الشروع أصلا. لذا سنحاول أن نبين معنى الشروع وأنواعه والعلة من العقاب عليه، في هذا التمهيد، لنخصص المطالب لأركان جريمة الشروع فقط، بالنظر لخصوصية هذه الأركان في هذا النوع من الجريمة.

أولا: مفهوم جريمة الشروع

عرف البعض الشروع بأنه: الحالات التي يفشل فيها الفاعل في تحقيق جريمته، أي لا تتحقق النتيجة المادية المطلوبة لقيام الجريمة، ورغم ذلك تم تعريض المصالح والحقوق المحمية قانونا للخطر، لأن الشروع ينطوي على احتمال الإجهاز عليها في حال البدء في تنفيذ الجريمة. لذا يمكننا القول، أن الشروع اعتداء محتمل على مصلحة أو حق محمي جنائيا، والمشرع يحمي هذه الأخيرة من الاعتداءات الفعلية ومن مجرد احتمال وقوع مثل هذه الاعتداءات[37]، لذا فالشروع جريمة توافر فيها الركن المعنوي ولكن تخلف فيها اكتمال الركن المادي فقط، سواء كان هذا التخلف بصورة جزئية أو كلية ونكون أمام جريمة ناقصة، وهذا النقص في البنيان القانوني للركن المادي للجريمة ينصب تحديدا على عنصر النتيجة القانونية التي لم تتحقق لسبب لا دخل لإرادة الجاني فيه، وبالتالي تصوير جريمة الشروع على النحو السابق، يستدعي إدراج الملاحظات التالية:جوهر الشروع أنه جريمة ناقصة، وهذا النقص ينحصر فقط في تخلف تحقق النتيجة، رغم ارتكاب السلوك المجرم كله أو في جزء منه.وتبعا لما سبق، الشروع لا يثور كأصل عام، إلا بالنسبة للجرائم المادية ذات النتائج، وبالتالي فهو غير ممكن التصور في الجرائم الشكلية ذات السلوك المجرد المحض – وقد سبقت الإشارة لذلك- كونها في جوهرها جرائم تمثل مرحلة الشروع، وبالتالي لا يمكن تصور الشروع في الشروع. الشروع جريمة لم يكتمل ركنها المادي، لكن الركن المعنوي فيها يبقى ركنا أساسيا لا يمكن تصور قيامها بدونه، وتلك إذن الحكمة من العقاب على الشروع، وبالتالي يمكن القول مبدئيا، بأنه لا شروع في الجرائم غير العمدية.

ثانيا: الهدف أو العلة من العقاب على الشروع

في حقيقة المر ثار السؤال في بعض الدول عن العلة من العقب عن جريمة الشروع، خاصة وان المشرع يعاقب على الاعتداءات الفعلية على المصالح والحقوق المحمية قانونا، كما ثار تساؤل آخر حول قدر العقاب عن جريمة الشروع، وما إن كان يجب أن يكون مساويا للعقاب عن الجريمة التامة أم اقل أم أكثر ؟
فبخصوص العلة من العقاب[38]، يرى الفقه أن الشروع كجريمة وإن كان قد خاب أثرها ولم تعد تشكل اعتداء فعليا، فإنها تحولت إلى اعتداء محتمل أو خطر يهدد المصالح والحقوق المحمية قانونا، وأن المشرع مثلما يحمي هذه الحقوق من الاعتداءات الفعلية، فإنه يحميها أيضا من الاعتداءات المحتملة، والشروع جريمة تهدد بالخطر، ومصدر هذا الخطر أفعال مادية ملموسة والتي حتى وإن كانت ناقصة، إلا أنها تعد بادرة لارتكاب الجرائم وتنبئ بخطورة إجرامية لدى فاعلها أو القائم بها. لذا يعبر بعض الفقه في هذا النوع من الجرائم، بأنه بالرغم من تخلف النتيجة المحظورة قانونا، إلا أن الجريمة قد تمت من الناحية الشخصية، لكنها خابت من الناحية المادية، وأن الاضطراب الذي تحدثه الجريمة الخائبة في المجتمع، أشد خطورة من الاضطراب الذي يحدثه الشروع البسيط، الذي يقصد به عدم اكتمال السلوك.

ثالثا: أنواع الشروع ومجال تطبيقه

نصت المادة 30 من قانون العقوبات الجزائري، على أنه: " المادة 30 :" كل المحاولات لارتكاب جناية تبتدئ بالشروع في التنفيذ أو بأفعال لا لبس فيها تؤدي مباشرة إلى ارتكابها، تعتبر كالجناية نفسها إذا لم توقف أو لم يخب أثرها إلا نتيجة لظروف مستقلة عن إرادة مرتكبها حتى ولو لم يمكن بلوغ الهدف المقصود بسبب ظرف مادي يجهله مرتكبها." ، ونصت المادة 31 :" المحاولة في الجنحة لا يعاقب عليها إلا بناء على نص صريح في القانون. والمحاولة في المخالفة لا يعاقب عليها إطلاقا.". من نص المادة 30 يتضح أنه للشروع صورتين، صورة الجريمة الخائبة التي يفرغ فيها الجاني كل نشاطه المادي ورغم ذلك لا تتحقق النتيجة المحظورة قانونا، لظروف مستقلة عن إرادة الجاني أو لظروف مادية يجهلها أصلا، وهو ما بينته الفقرة الثانية من المادة 30. مستعملة عبارة " لم يخب أثرها"، بينما بينت الفقرة الأولى صورة الشروع الناقص أو الجريمة الناقصة أو الجريمة الموقوفة، وهي الصورة التي لم يكتمل فيها السلوك أصلا، كون الجاني أوقف- لم يتوقف بمحض إرادته- لذا استعملت المادة عبارة " إن لم توقف" المقصود بها الإيقاف الاضطراري، لكون العدول الاختياري يخرجنا أصلا من نطاق جريمة الشروع.

وبالتالي يمكننا القول بأن الشروع إما أن يكون تاما وتقابله الجريمة الخائبة التي لم تتحقق فيها النتيجة المحظورة قانونا، لكنها تبقى ممكنة الوقوع، والجريمة المستحيلة، وشروع ناقص وتقابله الجريمة الموقوفة لأن السلوك فيها أوقف قبل اكتماله، وقبل انتظار تحقق النتيجة من عدمه، على أن يكون هذا التوقف اضطراريا لا اختياريا، لأنه سبق القول أن العدول الاختياري ينفي جريمة الشروع تماما. وبالتالي الشروع نوعان، شروع تام وشروع ناقص وهما نوعا أو صورتا الشروع.

أما فيما يخص مجال تطبيق نظرية الشروع، فيمكننا القول من خلال استقراء المادتين 30 و31 من تقنين العقوبات الجزائري، بأن الشروع متصور في كل أنواع الجنايات بحسب المادة 30 ق ع ج، وفي الجنح في الحالات التي يوجد فيها نص صريح يعاقب على الشروع بحسب المادة 31/1[39]، ولا شروع إطلاقا في مجال المخالفات التي إما أن تتم كاملة أو لا تتم أصلا بحسب المادة 31/2 ق ع ج. وعلة عدم العقاب على الشروع في المخالفات هو أنها جرائم بسيطة لا تنطوي على خطورة إجرامية كبيرة لدى الجاني، في حين أن العقاب على الشروع قرر أصلا لمواجهة الخطورة الإجرامية لدى الجناة. كما أن المخالفات في العادة عبارة عن صور سلوكية تقع بالمخالفة لأمور تنظيمية وإدارية، ارتأى فيها المشرع العقاب على السلوك ذاته، لا النتائج المترتبة عنه.

وعموما يمكن القول أن الشروع عبارة عن جريمة شأنه شأن الجرائم التامة، وكل ما في الأمر أن الركن المادي فيه غير مكتمل العناصر، لذا لا بد وأن تكتمل هل باقي الأركان اللازمة لقيام الجرائم، وهي الأركان العامة الثلاثة المعروفة، الركن الشرعي والركن المادي والركن المعنوي، وإن كان الركن الشرعي لا يثير أي إشكال، بحيث القاعدة العامة في العقاب على الشروع في الجنايات هي المادة 30، وفي الشروع في الجنح نص المادة 31/1 بالإضافة إلى النص الخاص الذي يعاقب على الجنحة، كما لا يثير الركن المعنوي أي إشكال، بحيث هو نفسه الركن المعنوي المشترط في الجرائم التامة- ولنا عودة إلى ذلك- ويبقى الركن المادي هو الذي يثير بعض الصعوبات، بحيث سبق القول بأن معيار التفرقة بين الجرائم التامة وجرائم الشروع هو عدم اكتمال الركن المادي في الأخيرة، الأمر الذي يثير بعض الصعوبات حول المرحلة التي يجب أن يصل فيها التنفيذ المادي للسلوك، ومعيار التفرقة بين المراحل المعاقب عليها من المراحل غير المعاقب عليها، وكذا معيار التفرقة بين العدول المعاقب عليه والعدول غير المعاقب عليه. والموقف من نوع من الجرائم تسمى :" بالجرائم المستحيلة" لذا فالمطالب التي سنتناولها في حقيقة الأمر تخص عناصر الركن المادي غير المكتمل في جريمة الشروع، لأنه سبق القول بان الركنين الشرعي والمعنوي لا يثيران أي إشكال، وإن كنا سنعود للركن المعنوي في الأخير بنوع من التفصيل المختصر، لتبيان بعض الأوضاع
الخاصة.










قديم 2013-01-29, 00:14   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
hadia369
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية hadia369
 

 

 
إحصائية العضو










Hourse

الفرع الثالث
الحالات الممتازة للدفاع الشرعي
( المادة 40 ق ع ج)

وهي حالات منقولة حرفيا من نص المادة 329 قانون عقوبات فرنسي، ويسمها الفقه الحالات الممتازة للدفاع الشرعي أو الدفاع الشرعي الممتاز، دلالة على افتراض المشرع فيها توافر شروط الدفاع الشرعي كقرينة قانونية قاطعة لا تقبل إثبات العكس، غير أنه من الفقه من يرى العكس، وهو أيضا موقف القضاء الفرنسي[1]، وبالتالي نرى أنه لا مجال اليوم لتسميتها بالحالات الممتازة للدفاع الشرعي، وإنما الحالات الخاصة للدفاع المشروع. وقد نصت المادة 40 من قانون العقوبات الجزائري على هذه الحالات بنصها:" يدخل ضمن حالات الضرورة الحالة للدفاع المشروع:
1- القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب لدفع اعتداء على حياة الشخص أو سلامة جسمه أو لمنع تسلق الحواجز
أو الحيطان أو مداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء منها أثناء الليل،
2- الفعل الذي يرتكب للدفاع عن النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أو النهب بالقوة."[2].

ونلاحظ على المشرع الجزائري أنه استعمل لفظ " تدخل ضمن حالات الضرورة للدفاع الشرعي " بمعنى افتراضه لشرط اللزوم كوننا فسرنا عبارة الضرورة الواردة بنص المادة 39 على أنها تقصد اللزوم، لذا فهنا أيضا باستعمال نفس العبارة يعني أن المشرع افترض دخولها في حالات اللزوم. ثم أن المادة ذاتها تميز بين فرضين، فرض ورد فيه نوع الجرائم ونوع الاعتداء الذي يوجبها، وهو ما ورد بالفقرة الأولى من المادة 40، حيث أجاز أقصى الجرائم جسامة، وهي القتل والجرح والضرب[3]، وحصر الاعتداءات في الاعتداءات ضد الحياة أي ضد جرائم القتل، وسلامة الجسم، ويعني الضرب والجرح، أو مجرد تسلق الحواجز والحيطان ومداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء منها[4]. بشرط أن يكون كل ذلك أثناء الليل[5]. كما يمكن أن ننبه أن الشخص يمكنه أيضا دفع التسلق والكسر لملاحق المنازل ومداخلها وأسوارها وحيطانها، إذا كانت متركبة إثناء النهار، لكن في هذه الحالة لا يكون الدفاع شرعيا ومشكلا لسبب من أسباب ألإباحة، بل يكون مشكلا لعذر معفي من العقاب، وهو عذر شخصي لا موضوعي، وهو الأمر الذي قضت به المادة 278 من تقنين العقوبات الجزائري[6]، بينما بينت الفقرة الثانية، وبصيغة عامة إباحة كل فعل أي كان نوعه الذي يرتكب لدفع الاعتداءات على النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أو النهب بالقوة، وهنا لم يشترط التناسب. كما أنه لم يشترط الليل، فيمكن أن يكون ذلك أثناء النهار، مما يجعل هذه الفقرة تتشابه في حكمها مع الحكم العام الذي جاءت به الفقرة الثانية من المادة 39، وكل ما في الأمر أنه في هذه الأخيرة حددت الاعتداءات بصيغة عامة وهي الجرائم الواقعة على النفس أو على الغير أو مال الشخص أو المال الغير، والفقرة الثانية من المادة 40 تتعلق فقط بالسرقات والنهب بالقوة.

وإن كانت الأسباب السابقة، هي أسباب الإباحة التي يأخذ بها المشرع الجزائري، وغالبية القوانين الجنائية المقارنة، فهناك أسباب أخرى تأخذ بها بعض الدول دون البعض الآخر، وهي رضاء المجني عليه وحالة الضرورة، وسبق لنا القول في تمهيد هذا الفصل أن قلنا بأننا سنتناولها في مبحث مستقل، وذلك لتعميم الفائدة، فقد يأتي تعديل ويدخلها في القانون الجزائري، كما قد يجد رجل القانون الجزائري نفسه ملزما للتعامل معها في حالات تنازع القوانين، وبخصوص الطلبة الأعزاء قد تكون موضوع امتحان أو مسابقة- وحدث فعلا أن كانت حالة الضرورة موضوع مسابقة ماجستير بجامعة البليدة منذ سنتين- لذا وإن التمسنا العذر في الإطالة غير المعتادة في إعداد المحاضرات المطبوعة، فإن لهذا العذر مبرراته التي تفوق في مصلحتها كل الانتقادات، وهي تعميم الفائدة العلمية للطلبة. وهنا فقط يمكن الاستعانة بالبيت الشعري المتعلق بالمذمة التي تأتي من جاهل" ..........".

المبحث الثالث
أسباب الإباحة في القانون المقارن

من أسباب الإباحة أيضا، رضاء المجني عليه، وحالة الضرورة التي تأخذ بها بعض القوانين دون البعض الآخر، ومنه القانون الجزائري الذي لا يأخذ بها، لذا ارتأينا تناولها في مبحث مستقل، نتناوله من خلال مطلبين، نخصص الأول لحالة رضاء المجني عليه كسبب من أسباب الإباحة، لنخصص الثاني لحالة الضرورة.
المطلب الأول
رضاء المجني عليه ( صاحب الحق) كسبب من أسباب الإباحة

في حقيقة الأمر المشرع لما يجرم فعل من الأفعال، فإنه يكون قد قدر أن يضر بمصلحة من المصالح، وفي الكثير من الأحيان يتحقق المساس بمصالح المجتمع بالمساس بمصلحة الفرد، ولذا الأصل أنه لا شأن لإرادة الفرد في تجريم الفعل أو إباحته، لذا فاعتراض الشخص على الجريمة لا يعد ركنا في الجريمة، كما أن رضاءه بها لا يعد سببا لإباحتها، غير أن إرادة الفرد أو رضاءه قد يؤدي في بعض الأحوال دورا في مجال قانون العقوبات، وهو الدور الذي قد يكون من شأنه التأثير في قيام الجريمة أو في إباحتها، وهو استثناء عن الأصل، وفي حدود هذا الاستثناء ينحصر اثر الرضا كسبب من أسباب الإباحة.

لكن قد يبدو من الوهلة الأولى أنه متى رضي المجني عليه بارتكاب الجريمة التي تنال حق من حقوقه أو مصالحه، فإن هذا الرضا يبيح الجريمة، لكن هذا القول غير صحيح كون أسباب الإباحة تقتضي سبق تجريم الفعل بنص من نصوص قانون العقوبات، ثم وجود نص آخر يبيح الفعل في الظروف التي ارتكب فيها، والأمر ليس كذلك مع رضاء المجني عليه، حيث يمنع من قيام الجريمة ابتداء، كدخول الشخص منزل آخر برضائه، لذا كان يجب تمحيص الحق المعتدى عله بدقة للقول ما إن كان رضاء المجني عليه يبيحها أم لا، كون رضاء المجني عليه يختلف حكمه باختلاف طبيعة الحق المعتدى عليه. ولا يمكن بأي حال من الأحوال بالقول بهذا السبب في مجال الجرائم التي يعتدى فيها على الدولة كشخص معنوي، ولا على المجتمع كمؤسسة اجتماعية، كما لا رضاء كسبب للإباحة في الجرائم التي تمس بالأسرة كنظام، وما القيود الموجودة على بعض الجرائم الأسرية سوى قيود إجرائية تحول دون تحريك الدعوى العمومية ولا تبيح الفعل في حقيقة الأمر، بل وان الزوج إذا رضي بزنا زوجته ليس هناك ما يمنعه من تقديم الشكوى فيما بعد. وبالتالي البحث ينحصر فقط في الجرائم التي تمس حق الفرد، وحق الفرد بدوره قد يكون حقا مزدوجا، يمس المجتمع والفرد معا، ومثاله حق الحياة، وسلامة البدن، وهنا يجب أن يرجح حق المجتمع ولا يعتد بالرضا الفرد، فمن يطلب من غيره قتله لتخليصه من آلامه التي سببها له مرض خطير أصابه ولا يرجى شفاءه لا يعد رضاؤه سببا لإباحة القتل[7]. لذا فإن بحث مسألة رضاء المجني عليه كسبب من أسباب الإباحة، تقتضي منا أولا، أن نتناول دور الرضاء في قانون العقوبات، وتحديد طبيعته القانونية بخصوص التجريم والعقاب، وذلك في فرع أول، لنتناول في الثاني، الجرائم التي يعمل برضاء الشخص فيها في أهم القوانين المقارنة.


.
الفرع الأول
دور الرضا وتحديد طبيعته القانوني في قانون العقوبات
الرضاء في مجال قانون العقوبات غير الرضاء في مجال التقنين المدني، لذا فالبضرورة أن تختلف طبيعته القانونية في القانون الأول، وبناء على ذلك يظهر دوره في مجال أسباب الإباحة.

أولا: دور الرضا في قانون العقوبات

في بعض الأحوال الضيقة، يشترط المشرع لقيام الجريمة أن يقف المجني عليه منها موقف الرفض، أي أن ترتكب بدون رضاه، وفي مثل هذه الأحوال الضيقة يكون عدم الرضا عنصرا لقيام الجريمة ذاتها، وذلك يوجب نص يقرر المسألة كونها استثناء عن الأصل العام، بمقتضى الحاجة إلى المانع لا تطرأ إلا إذا وجد المقتضى بتمامه، وهنا يكون الرضا يتمم الجريمة، وأهم الجرائم التي يشترط لقيامها عدم رضا الشخص، وقاع الأنثى بدون رضاها ( 267 تقنين عقوبات مصري)، هتك العرض بالقوة أو بالتهديد ( م 268 قانون عقوبات مصري)، القبض والحجز والحبس دون وجه حق ( 280 قانون عقوبات مصري)، خطف الإناث ( المادة 290 قانون عقوبات مصري) وكذا النصب وانتهاك حرمة منزل.. لذا ففي بعض الأحوال يكون الفعل مستجمعا للشروط التي تجعل منه جريمة، فيتدخل رضاء المجني عليه فيجعله مباحا، مثل عمليات الإتلاف، العمليات الجراحية، وإن كان ليس هناك نص صريح يبيح الجريمة برضا المجني عليه، غير أن الأصول القانونية توجب التسليم بهذه الحقيقة، فمن غير المنطقي إذا أباح القانون في فرع من فروعه حق التصرف في حق معين، أن يمنع قانون العقوبات هذا التصرف، لأن ذلك يعطل حرية التصرف، خاصة وأن القانون يعاقب على العدوان وفي مثل هذه الحالة يغيب عنصر الاعتداء لأن الرضا موجود[8]. لكن ذلك لا يعني أنه سبب للإباحة، بل الجريمة لا تقوم لتخلف أحد عناصرها القانونية، الأمر الذي يقودنا بحث طبيعة الرضاء القانونية.

ثانيا: الطبيعة القانونية للرضا

يذهب الفقه إلى اعتبار الرضا تصرف قانوني تحكمه قواعد القانون الخاص، بينما يعتبره البعض تصرف قانوني تحكمه قواعد القانون العام، في حين يرى اتجاه ثالث أنه واقعة قانونية لا تصرف قانوني، في حين يرى البعض أنه تصرف قانوني يخضع أساسا لقانون الحق، لذا فهو يخضع تارة لأحكام القانون الخاص، وتارة أخرى لأحكام القانون العام، ويرجع إلى قانون العقوبات في حالتين، حينما ينص هذا القانون صراحة على حكم خاص بشأن الرضا، وهنا يطبق النص الجنائي مباشرة، والثانية حينما يخلو القانون الخاص من حكم ينظم الرضا في بعض جزئياته، وهنا يستنبط الحكم من المبادئ العامة لقانون العقوبات، وهو ما يتعلق بالسن مثلا، ففي الحالة التي يحدد فيها قانون العقوبات السن المشترطة يعمل بأحكامه، لكن إذا تضمنها النص الخاص المتعلق بالرضا فيحكمه السن القانوني التي نظمها هذا النص، ورغم الخلاف السابق، فإنه يمكن القول بأن الرضاء في قانون العقوبات، عنصر من عناصر قيام الجريمة، حيث أن اشتراط الجريمة للقوة أو العنف أو الخلسة أو دون الرضا، يعني بداهة في حال توفر الرضا تنتفي هذه العناصر وبالتالي لا تقوم الجريمة، مما يجعلنا نقول وبنوع من التحفظ، أنه حتى في القانونين التي لا تنص صراحة على الرضاء كسبب من أسباب الإباحة، فهو ضمنيا سبب أو عنصر يمنع من قيام الجريمة متى تمت الإشارة إليه، لكن في هذه الحالة الفعل يباح لا لأنه ارتبط بسبب من أسباب الإباحة، وإنما لتخلف عنصر من عناصر الجريمة.
الفرع الثاني
الجرائم التي ينتج فيها الرضا أثره المبيح

هي مسألة من أدق المسائل الجنائية، واتفق الرأي على أن الرضا لا ينتج أثره بالنسبة لكافة الجرائم، وإنما يقتصر أثره على طائفة محدودة منها، وهو ما نتناوله في نقطة، لنتناول في الثانية شروط الرضا المبيح للفعل. لنتناول في الثالثة حقيقة الرضا كفعل مبيح للجريمة.

أولا: الجرائم التي يعتد بالرضاء فيها

وهي الجرائم التي يكون فيها العدوان منصبا على حق يقبل التصرف فيه، مما يعني أن اثر الرضا يتوقف على طبيعة الحق، وهي الحقوق التي لا تكون فيها منفعة مباشرة للمجتمع وإنما حقوق تقرها الدولة وتحميها لصالح صاحبها، بقصد تمكينه من الانتفاع بها، غير أن المسألة تحتاج إلى تبيان معيار يعمل في الحياة الواقعية، لذا كان الاتفاق أنه لا أثر للرضا في الجرائم التي تقع مباشرة على حق من الحقوق الخالصة للمجتمع، كالصحة العامة والأخلاق العامة أو الجرائم الماسة بالدين، ولا أثر للرضا في الجرائم التي تقع على الدولة، ولا تلك الواقعة على الأسرة، لتبقى باقي الجرائم الأخرى التي يتعين فيها البحث عن طبيعة الحق، ومنها الحقوق المالية وغير المالية، وهناك اتفاق بخصوص الحقوق المالية التي تقبل التصرف فيها عن طريق الرضا، كرضاء الشخص بقطع الأشجار لبناء جاره عليها، في حين الحقوق غير المالية التي تتصل بذات الإنسان أي بعناصر شخصيته، والتي تسمى بالحقوق الشخصية أو اللصيقة بالشخصية، والمنقسمة إلى ثلاث مجموعات، حقوق تتصل بالكيان المادي للشخصية– مثل الحق في الحياة والحق في سلامة البدن-، وأخرى بالكيان المعنوي لها- الحق في الشرف والعرض والعفة وحرمة الحياة الخاصة والمراسلات والمكالمات والمسكن-، والثالثة تتصل بنشاط الشخصية ذاتها- والتي تضم مجموعة من الحريات، مثل حرية التنقل وحرية الاعتقاد وحرية العمل والتعبير...-، والأصل في هذه الحقوق أنها غير قابلة للتصرف فيها كونها من لوازم الشخصية غير القالبة للانفصال، وبالتالي لا مجال للرضا في الحق في الحياة، بينما يمكن في بعض الحقوق الأخرى أن يتم المساس بها سواء عن طريق الاتفاق، مثل عقد الزواج، أو عقد العلاج إذ يبيح القانون للطبيب الاطلاع على عورة المرأة، كما أنه قد يعتد بالرضا حتى في مسائل هتك العرض والعلاقات الجنسية أو الوقاع، والرضا بالتفتيش وإباحة إفشاء السر، وكشف المراسلات والأحاديث الخاصة.
غير أنه من بين الحقوق الأكثر إثارة للجدل، هو الحق في سلامة البدن، كونه حق للمجتمع مثلما هو حق للفرد، لذا فقدرة الشخص على التصرف في بدنه محدودة للغاية، لذا فهناك مجالات يعتد فيها بالرضا مثل العلاج والتجميل كونها تصرفات تحقق نفعا للشخص وللمجتمع، لكن الإشكال حينما يقرر الشخص التصرف في بدنه تصرف ينتقص من كفاءة الجسم، وهنا اتفق الفقه أنه تصرف جائز بشرط ألا يكون يهدد الحق في الحياة أو المساس بنحو خطير أو دائم بالحق في سلامة الجسد، على نحو يهدد بعدم قدرته على أداء وظيفته الاجتماعية على الشكل المعهود، لذا يجوز للشخص التصرف بالهبة أو البيع لعضو من أعضائه مما لا يعرض فقدها جسم الإنسان للخطر[9].

ثانيا: شروط الرضا المبيح

بما أن الرضا موقفا إراديا، لذا بحثت مسألة ما إن كان يكفي فيه أن يكون ضمنيا أو صراحة، بين نظريتين إحداهما سميت الاتجاه المجرد للإرادة والأخرى سميت نظرية إعلان الإرادة، غير أن الغالبية رأت أنه يمكن للرضا أن يكون ضمنيا، بل أنه يصح أن يكون مفترضا، وهي الظروف التي يستحيل فيها الإفصاح عن الرضا لكنه من المحقق أن الشخص لو كان حاضرا أو قادرا على الإفصاح لأعلن عن رضاه، لكن يجب أن تكتمل شروط الرضا حتى ينتج أثره كسبب مبيح، وهذه الشروط هي:

1- الصـــــفة:
وهو أن يصدر الرضا عن صاحب الحق، وهو الشخص المجني عليه في الجريمة، أو من كان مرشحا لأن يكون مجنيا عليه لولا رضاه، وإذا تعدد أصحاب الحق وجب رضائهم جميعا، فإذا رضي البعض دون البعض الآخر كان الرضا غير كاف ليكون سببا من أسباب الإباحة، لكن وإن كان الأصل أن يصدر الرضا من صاحب الحق نفسه، فإنه يجوز أيضا أن يصدر من نائبه، خاصة وأن الإنابة في التصرف في الحقوق المالية جائزة، سواء كانت الإنابة قانونية أو اتفاقية أو قضائية، غير أن الحقوق غير المالية فلا إنابة فيها بالنظر لطابعها الشخصي الشديد، عدا الحالات التي تكون فيها الفائدة التي تعود على صاحب الحق مؤكدة، مثلما هو الشأن بالنسبة للعمليات الجراحية بغرض الشفاء.

2- الأهلـــــية:

الرضا لا يمكن أن يعتد به إلا إذا كان صادرا من شخص آهل قانونا، والأهلية مناطها الإدراك والتمييز، وأن تسلم الإرادة من العيوب.

3- معاصرة الرضا للفعل:

يجب أن يكون الرضا قائما وقت إتيان الفعل، فإذا تراخى عنه كان عديم الأثر، حيث أن الفعل حينما اقترف كان غير مشروع فلا يقلبه الرضا اللاحق عملا مشروعا، وإذا تحقق الرضا قبل الفعل فيجب أن يظل قائما حتى يدركه الفعل، فإن رضا الشخص بإجراء عملية جراحية له ثم عدل فالطبيب الذي يجري له هذه العملية بعد العدول يعد مرتكبا لفعل غير مشروع.

ثالثا: حقيقة الرضا كسبب من أسباب الإباحة

ثار التساؤل عما إن كان الرضا سببا قائما ومستقلا بذاته من أسباب الإباحة، أم مجرد تطبيق من تطبيقات الإباحة الأخرى، وتوصل البعض أنه مجرد علاقة بين الرضا والإباحة، وحقيقة الرضا أنه تصرف قانوني يرتب للغير حق أو رخصة أو يفرض عليه واجبا، ومباشرة الحق أو أداء الواجب هو الذي يجعل الفعل مباحا، فرضا المريض بالعلاج أنشأ للطبيب حق في علاجه، ولجوء الشخص لقسم الشرطة هربا من خصوه هو الذي أنشأ لهم حق باحتجازه لتأمينه، وهو واجب عليهم يجعل من فعلهم مباحا، لذا فالرضا منظورا له بذاته لا يدخل ضمن أسباب الإباحة، بل هو مصدر للحقوق ونشأة بعض الواجبات، لذا الفقه رتب الإباحة على الرضا بغير وجود نص يقرره.

المطلب الثاني
حالــــة الضرورة

حالة الضرورة من النماذج الجديدة للتنازع بين المصالح المتعارضة، عندما يجد الشخص نفسه مضطرا لارتكاب جريمة لغاية حماية نفسه أو غيره من ضرر جسيم، مثل الأم التي تسرق لإعالة أولادها، وسائق السيارة الذي يصدم سيارة أخرى لتفادي دهس المارة، ومن يخرج عاريا للطريق العام تهربا من حريق شب بالمنزل، والطبيب الذي يجري عملية استعجاليه لمريض عجز عن أخذ رضائه.ويعالج البعض حالة الضرورة كسبب من أسباب الإباحة، كونها تستند للتضحية بحق رعاية لحق أكثر أهمية، مما يجدر معه إضفاء صفة الإباحة عليها. خاصة وأن شرعت لحماية مصلحة الغير أيضا وليست لمصلحة المضطر فقط، مما يعني إقرار لحماية الحق الأجدر بالحماية، وأن الفقه الفرنسي في مجمله يجعلها سببا من أسباب الإباحة، في حين الفقه المصري يرى أن المشرع المصري اعتبرها مانعا من موانع المسؤولية بالنظر لصيغة نص المادة 61 من قانون العقوبات. التي استهلت بعبارة " لا عقاب" وهو ما يعارضه البعض ويرى عدم ضرورة التقيد بعبارات النص. وحالة الضرورة كسبب من أسباب الإباحة قريبة جدا من حالة الدفاع الشرطي، إذ تتطلب شروطا في الخطر( المقابل لفعل العدوان في حالة الدفاع الشرعي)، وشروطا أخرى في فعل الضرورة ( المقابل لفعل الدفاع في حالة الدفاع الشرعي). وهو ما نبينه باختصار من خلال الفرعين التاليين.

الفرع الأول
الشروط المتطلبة في الخطر

حالة الضرورة تتطلب خطرا يحل بالشخص حتى يمكنه اللجوء لفعل الضرورة الذي يشكل في الأصل جريمة لرد الخطر السابق، لذا فالخطر الذي يبرر اللجوء إلى هذا الفعل المجرم، الذي يباح بسبب خصائص الخطر، يوجب أن يستجمع الأخير جملة من الشروط، هي التي نتناولها في النقاط التالية.

أولا: خطر جسيم

يشترط في الخطر الذي يبرر حالة الضرورة أن يكون خطرا جسيما، وهو ما لم يشترطه قانون العقوبات الفرنسي الجديد في المادة 122/7، وشرط الجسامة صفة موضوعية لصيقة بالخطر من حيث مساسه بالمصلحة المحمية، ويقدر القاضي في تقديره الظروف التي أحاطت بالمتهم في ظل الظروف الموضوعية التي أحاطت به، دون أن يشترط فيه أن يكون جريمة مثلما هو الشأن بالنسبة لحالة الدفاع الشرعي، لذا فيمكن أن يكون مصدر الخطر فعل إجرامي أو غير إجرامي، أو قد يكون واقعة طبيعية كالفيضان والزلزال وهبوب العواصف، أو خطر مادي مصدره الآلات الصناعية والتوصيلات الكهربائية
أو سبب نفسي كالجوع والمرض وخشية الفضيحة والعار[10].

ثانيا: خطر مهدد للنفس

المشرع المصري قدر بأن الأخطار المهددة للنفس هي الجديرة وحدها بالرعاية في حالة تصارعها مع المصالح الأخرى، لذا في مصر لا مجال لحالة الضرورة إذا كان الخطر مهددا للمال، مهما بلغت جسامة هذا الخطر، وهنا لا يجوز لربان السفينة إلقاء البضائع في البحر لإنقاذ السفينة من الغرق، على عكس التشريعات الأخرى مثل القانون السويسري والنرويجي والسوري واللبناني والأردني التي سوت بين الأخطار المهددة للنفس وتلك المهددة للمال، وأهمها المادة 122/7 من تقنين العقوبات الفرنسي.

ثالثا: خطــر حــــــال

وهو أن يعرض الخطر بطريقة حالة ومباشرة المصالح المحمية في قانون العقوبات للضرر، فلا يبرر حالة الضرورة الخطر المستقبلي ولا الخطر الذي انتهى، ويتحدد موضوع حيلولة الخطر وفقا لمعيار موضوعي كذلك الذي تناولناه في مجال الدفاع الشرعي، ويجب أن يكون خطر حال حقيقي لا توهمي وهنا كل ما يحدث انتفاء القصد الجنائي ويسأل الشخص عن جريمة غير عمدية إذا كان القانون يعاقب عليها بهذا الوصف، كمن يرى دخان يتصاعد من نافذة جاره فيكسر الباب ويتضح أنها اشتعلت بفعل أصحاب المنزل للشواء، وعلى عكس ذلك، يرى البعض قيام حالة الضرورة بالخطر الوهمي، غير أن أنصار هذا الاتجاه يصنفون حالة الضرورة من بين موانع المسؤولية ويستوي بعد ذلك المصلحة التي يهددها الخطر كأن يكون السمعة والشرف، كما يستوي أن يكون مصدره عمل الإنسان أو الطبيعة.

غير أن المشرع يشترط ألا يكون مصدر الخطر المتهم ذاته، وهو ما بينته المادة 61 من تقنين العقوبات المصري، التي تبعها الفقه على اعتبار حالة الضرورة مانع من موانع المسؤولية، غير أن البعض يرى أن ذلك لا يستقيم مع النظرة الصحيحة لحالة الضرورة كسبب من أسباب الإباحة، غير أن الخلاف لم ينحصر عند هذا الحد، بل امتد لمناقشة ما إن كان دور المتهم في إحداث الخطر عن عمد أو عن طريق الخطأ، فاتفق على أنه لا ضرورة في حالة العمد، كمن يشعل النار في مسرح ثم لينجو يدوس على طفل فيقتله، والقضاء الفرنسي ينفي حالة الضرورة حتى إن كان دور المتهم في إحداثها كان على سبيل الخطأ، في حين لا يوافق البعض ذلك، إذ يمكن إن تسبب الشخص بإهماله في إحداث خطر أن ينقذ مصلحة أجدر بالرعاية، مثل سائق السيارة الذي يسير بسرعة ولتفادي الاصطدام بسيارة تسير في الاتجاه المنعكس أن ينحرف يسارا ويصدم أحد المارة فيقتله، وربان السفينة الذي بإهماله توشك السفينة على الغرق لكن لإنقاذ نفسه والغير يلقي البضائع في البحر[11]. وبتوفر هذه الشروط في الخطر، يستوي أن يكون من تعرض له مرتكب الفعل الضروري أو غيره من الناس، ولا يشترط أن يكون هذا الغير من أقارب الجاني، بل يكفي مطلق الغير.

الفرع الثاني
الفـعل الضروري ( فعل الضرورة)

يشترط في الفعل الضروري الذي يرتكبه الشخص المضطر، مثلما يشترط في فعل الدفاع في حالة الدفاع الشرعي، وهما شرطي اللزوم والتناسب، وهما الشرطين الذين نتناول كل منهما في نقطة مستقلة.

أولا: شرط اللـــــــزوم

وهو أن يكون اللجوء إلى الجريمة التي تشكل الفعل الضروري التي يكون غرضها دفع الخطر الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف، إذ إن كانت أمامه وسيلة أخرى مشروعة لا يعد فعله ضروريا[12]، واللزوم يقاس بمعيار موضوعي يتعلق بالشخص العادي المحاط بنفس الظروف التي يوجد بها المضطر. ومن توفر لديه الهرب فيجب أن يسلكه ولا يلجا لارتكاب الجريمة، وهنا تختلف حالة الضرورة عن حالة الدفاع الشرعي، ويستوي أن تكون الجريمة اللازمة لدرء الخطر الذي يتهدد المضطر جريمة عمدية
أو جريمة غير عمدية، مثل سائق سيارة الإطفاء الذي يسير بسرعة لإنقاذ الناس فيصطدم بالغير، أو من يصعد بسيارته على الرصيف هروبا من دهس أطفال أمامه فيصدم شخصا آخرا[13]. بينما ترى محكمة النقض الفرنسية في هذا الشرط، أن تكون الجريمة هي أحسن وسيلة لتفادي الخطر، لا أن تكون الوسيلة الوحيدة. ويضاف لكل ما سبق ألا يكون الشخص ملزما قانونا بتحمل الخطر الذي يعترضه، مثل الجندي في ميدان القتال، ورجال البوليس في ممارستهم لمهامهم، والمتهم المقبوض عليه، والمحكوم عليه بالإعدام، وربان السفينة عندما تتعرض للغرق، فكل هؤلاء يتعرضون لخطر جسيم على النفس، ولكنهم ملزمين بتحمل هذا الخطر بحكم وظائفهم التي تقتضي بحكم طبيعتها التعرض لمثل هذه الأخطار[14].

ثانيا: شـــرط التناسب

حالة الضرورة تقتضي شانها شأن الدفاع الشرعي التناسب، سواء كان عاما وهي ارتكاب جريمة من حيث الجسامة بأنها الوحيدة الممكنة من بين الجرائم التي كان يمكن ارتكابها، أي لا يمكن للشخص النجاة من الخطر الذي يتهدده إلا بتلك الجريمة التي ارتكبها، ويتحدد هذا التناسب وفقا لمعيار موضوعي واقعي قوامه الشخص المعتاد الذي مر بنفس الظروف التي مر بها الجاني[15]. كما تشترط حالة الضرورة أيضا التناسب الخاص، في الحالات التي يلجا فيها لجريمة القتل، فهنا لا يجب أن يحدث الجاني ضررا يفوق الضرر الذي أراد تجنبه، على عكس التناسب الخاص في مجال الدفاع الشرعي، فالطبيب الذي يجري عملية جراحية لولادة عسيرة ليس له أن يضحي بحياة الأم لينقذ الجنين، ولا يجوز لشخص ينحرف بسيارته لتجنب قتل شخص أن يقتل عدد أكبر من الأشخاص[16]. وتدق المسألة بخصوص مدى توفر حالة الضرورة في حالة قتل إنسان لأجل إنقاذ حياة إنسان آخر، فهنا يرى البعض أنه في حالة تساوي المصالح يجب تفضيل مصلحة البريء الذي لم يصدر عنه أي خطر، مثل حالة من أراد تجنب صدم أحد المارة فيصدم الآخر، ولا يجب أن يقتل الشخص غيره لإنقاذ حياته[17].
وفي حالة تجاوز الضرورة يعتبر الشخص مرتكبا لجريمة عمدية إذا كان القانون يعاقب عليها بهذا الوصف، وإذا كان التجاوز مبنيا على أسباب معقولة انتفت كل مسؤولية، وغن كان التجاوز عمديا اعتبر المتجاوز مسؤول مسؤولية جنائية كاملة.

هذا وبعد ان تناولنا في فصلين متتاليين الركن الشرعي للجريمة، وأسباب الإباحة كأسباب تنفي هذا الركن أصلا وتعطل مفعوله، سنتناول في الفصل الموالي، أهم ركن من أركان الجريمة، ألا وهو الركن المادي على اعتبار الجريمة أفعال وسلوكات نهى عنها النص القانوني، أي الركن المادي تجسيد للركن القانوني.
الفصل الثالث
الركن المادي للجريمة

الركن المادي للجريمة يقصد به تطابق الفعل الذي أتاه الجاني مع النموذج القانوني للجريمة، كون القانون يحدد أركان وشروط الجريمة وبها يتحدد النموذج القانوني لها، أو المظهر القانوني لها، ليأتي المظهر المادي الذي يتحدد بالواقعة التي حدثت في العالم الخارجي من قبل الجاني، ويشترط فيه أن يتطابق مع المظهر القانوني الذي بينه المشرع. لذا فالركن المادي للجريمة، هو وجهها الخارجي الظاهر، وبه يتحقق الاعتداء على المصلحة المحمية قانونا، وعن طريقه تقع الأعمال التنفيذية للجريمة، إذ لا وجود لقانون عقوبات في الدول الديمقراطية يعاقب على مجرد النوايا. فكل جريمة لا بد لها من ماديات تتجسد فيها الإرادة الإجرامية لمرتكبها، فالقانون الجنائي على عكس قواعد الأخلاق ليس له سلطان على ما في ضمائر الناس من أفكار شريرة ومن نوايا إجرامية، حتى ولو وصلت مرحلة عقد العزم والتصميم ما لم تخرج لعالم الماديات التي تجسد هذه النوايا وتصبح تعرض المصالح والحقوق للأخطار، فهنا يتصدى لها القانون الجنائي يعاقب عليها. وبالتالي الركن المادي هو ما يدخل في البناء القانوني للجريمة من عناصر مادية ملموسة يمكن إدراكها بالحواس.

أهمية اشتراط الركن المادي لقيام الجريمة:

إن أهمية اشتراط المشرع للركن المادي للجريمة، تكمن أساسا في كونه الركن الذي يجسد ما يعرف بمبدأ " مادية الجريمة Le Principe de la matérialité de l’infraction"، فالقانون الجنائي لا يهتم بالبواطن والنوايا، وإنما يهتم فقط بالظاهر المادي الملموس، وهو أمر لا يخلو بأي حال من الأحوال من فعالية قانون العقوبات وتحقيقه للعدالة المنشودة، فمن العدالة ألا يحاسب الأفراد على نواياهم، متى لم تتجسد في نشاط مادي خارجي ملموس يلحق أضرارا بالمصالح المحمية قانونا، أو مجرد تهديدها بأخطار، مهما كانت هذه النوايا والنوازع حافلة برغبة مخالفة القانون – كون قانون العقوبات يحمي الحقوق والمصالح من الاعتداءات الفعلية الواقعة عليها، أو مجرد تهديدها أي احتمال الإضرار بها-.

كما انه ليس من الجدوى والفعالية تجريم النوايا والعقاب عليها، كون هذه النوايا ليست ضارة في حد ذاتها، بل أن تجريمها قد يشجع الأفراد على تجاوز مرحلة النوايا والإقدام فعلا على ارتكاب الأفعال، متى كانوا في الحالتين معرضين لعقاب القانون، مما يجعل عدم العقاب على النوايا يعد في حد ذاته ضمانة من الضمانات المكرسة لحقوق وحريات الأفراد[18].

وتظهر أهمية اشتراط الركن المادي أيضا، في تسهيل عملية إثبات الجريمة، لأنه إن كان من اليسير إثبات وقوع ماديات الجريمة، التي تجسدت في أفعال خارجية ملموسة أحدثت أثارا في العالم الخارجي،
أو على الأقل يمكن إدراكها بالحواس حتى وإن لم تصل لحد ترتيب آثارها، فإنه من العسير جدا إثبات النوايا، في الحالات التي يرتأى فيها المشرع تجريم هذه النوايا، وبذلك يكون القانون منفذا لإفلات الجناة من العقاب[19]. وقانون العقوبات في غالب الأحوال لا يشترط مجرد السلوك، بل يتطلب تحقق نتيجة معينة تكون أثرا لهذا السلوك، وأن يكون الأخير مسببها، لذا فالركن المادي للجريمة التامة يتحلل في العادة إلى ثلاثة عناصر، هي: السلوك، النتيجة، وعلاقة أو رابطة سببية تربط بين هذا السلوك والنتيجة التي تحققت، وهو ما الوضع العادي والمألوف للجرائم التامة ، غير أن هذه العناصر قد لا تتحقق مجتمعة ومع ذلك يتدخل المشرع بالعقاب، وذلك في الحالات التي يأتي فيها الشخص بالسلوك إلا أن النتيجة تتخلف، وهو ما يسمى بالشروع أو المحاولة، وهو موضوع بحث في المبحث الثاني، كما أن الوضع العادي والمألوف للجرائم أن فعلا واحدا مجرما يسهر على تنفيذه فاعل واحد، غير أنه يمكن أن تتضافر جهود العديد من الأشخاص لاقتراف الفعل، وفي هذه الحالة نكون أمام مشروع إجرامي لأطراف متعددة، وهي صورة خاصة من صور الركن المادي للجريمة، وتسمى بالمساهمة الجنائية أو الاشتراك، الذي يكون موضوع بحث في المبحث الثالث.




.
المبحث الأول
تحليل الركن المادي للجريمة
عناصره في حالة الجريمة التامة

الركن المادي للجريمة، وفي غالبية الجرائم، يتحلل – مثلما سبق القول- إلى ثلاثة عناصر، هي السلوك سواء تمثل في فعل أو مجرد امتناع، ونتيجة يكون سبب حدوثها هذا السلوك، سواء كانت نتيجة مادية يمكن إدراكها في العالم الخارجي أو مجرد نتيجة بالمفهوم القانوني، وأن ترتبط هذه النتيجة برابطة أو صلة أو علاقة سببية، بمعنى أن يكون السلوك سبب في حدوث وتحقق النتيجة، والعناصر الثلاثة السابقة، هي العناصر العامة للركن المادي لكل جريمة تامة وقعت طبقا للنموذج القانوني أو التشريعي المرسوم لها من قبل المشرع، مع ملاحظة أنه هناك من الجرائم ما لا يشترط فيها المشرع تحقق نتيجة معينة، أي لا تعد النتيجة عنصرا لازما في ركنها المادي، وهي ما تعرف بجرائم السلوك المجرد أو السلوك المحض، كما تسمى أيضا بالجرائم الشكلية، كجريمة حيازة سلاح بدون ترخيص، ومثل هذا النوع من الجرائم يقوم على مجرد إتيان السلوك المجرم، دون اشتراط ترتب نتيجة عليه.

كما أنه هناك جرائم يتطلب البناء القانوني لركنها المادي ، وبالإضافة للعناصر العامة الثلاثة السابقة، عناصر أخرى خاصة تستخلص من نص التجريم ذاته، والتي يتوقف على توفرها اكتمال الجريمة قانونا من الناحية المادية، من أمثلة هذه العناصر الخاصة، ما يتعلق بمحل العدوان الذي ينصب عليه السلوك، مثل الإنسان الحي في جريمة القتل ( المادة 254 قانون عقوبات جزائري)، والمال المملوك للغير في جريمة السرقة ( المادة 350 قانون عقوبات جزائري)، والمحرر المكتوب في جريمة التزوير ( المادة 214 وما بعدها من قانون العقوبات). وقد يتعلق العنصر الخاص بصفة في الشخص، سواء كان جاني أو مجني عليه، ومن أمثلة الصفة المتطلبة في الجاني، صفة الموظف في جريمة الرشوة، وجريمة الاختلاس[20]، وصفة الزوج أو الزوجة في جريمة الزنا ( المادة 339)، ومن العناصر الخاصة المشترطة في المجني عليه، القاصر ( المادة 236 وما بعدها)، وصفة الموظف أو الهيئة النظامية في جرائم الإهانة والتعدي على الموظفين ومؤسسات الدولــة ( المادة 144 وما بعدها)، وترك الأطفال والعاجزين ( المادة 314 وما بعدها)... وقد ينصب العنصر الخاص بالوسيلة المستعملة في ارتكاب الجريمة، مثل السرقة باستعمال السلاح ( المادة 351 ق ع ج) ، وجريمة القتل بالتسميم ( المادة 260 ق ع ج). كما قد يتعلق العنصر الخاص بزمان أو مكان ارتكاب الجريمة، ومن أمثلة اشتراط زمن معين في بعض الجرائم، الجرائم التي ترتكب في زمن السلم ( المادة 74 وما بعدها)، ومن أمثلة الجرائم التي تتعلق بالمكان، جريمة القذف التي تشترط العلنية في مكان عام ( المادة 296)، وجريمة السكر العلني، والمخالفات المتعلقة بالطرق العمومية ( المادة 444 مكرر وما بعدها). غير أن موضع دراسة هذه الأركان الخاصة هو القسم الخاص لقانون العقوبات، لذا تنحصر دراستنا في هذا الموضوع على العناصر العامة للركن المعنوي فقط، ونتناول كل منها في مطلب مستقل من المطالب الثلاثة التالية.

المطلب الأول
السلوك الإجرامي ( أو الجرمي أو المجرم)
مبدأ: السلوك مادة الجريمة وأداة مخالفة القانون

يعد السلوك الإجرامي من أهم مكونات الركن المادي للجريمة، وأكثر هذه العناصر إفصاحا عن مخالفة الجاني لأوامر ونواهي قانون العقوبات، ويعرف السلوك باختصار، بأنه ذلك التصرف أو الفعل
أو الموقف الذي إذا أتاه الشخص عوقب، لذا كان من الطبيعي أن يحدد سلوك كل جريمة من قبل المشرع تطبيقا لمبدأ الشرعية الجنائية، لأن الجرائم أفعال تطبيقا لمبدأ " لا جريمة دون فعل"[21]، وهو الفعل الذي قد يكون إيجابيا يأتيه الشخص بالمخالفة لنواهي قانون العقوبات، وقد يكون سلبيا يأتيه الشخص بالمخالفة لأوامر هذا القانون، وهما صورتا السلوك المؤثم قانونا، الأولى – الفعل الإيجابي- وهي الصورة الشائعة التي تستوعب غالبية الجرائم، والثانية – السلوك السلبي- أقل مقارنة بالأولى، وتسمى الجرائم في هذه الحالة بالجرائم السلبية أو جرائم الامتناع وأحيانا جرائم الترك، وهي قلة قليلة مقارنة بالجرائم الإيجابية أو جرائم الفعل. لذا سنحاول أن نتناول صورتي السلوك من خلال الفرعين التاليين.

الفرع الأول
السلوك الإيــجابي ( الفعـــــــل)

وهي صورة من السلوك المشكلة للركن المادي لغالبية جرائم قانون العقوبات، ويسميها الفقه أيضا:
" النشاط" أو "السلوك"، ويتمثل في الغالب في حركة أو مجموعة حركات عضوية إرادية تحدث تغييرا في العالم الخارجي الملموس، ويكون السلوك فعلا إذا استخدم فيه الجاني أعضاء جسمه، كما لو استعمل يديه في الضرب أو القتل، أو لسانه في جريمة القذف أو السب أو التهديد الشفوي أو تحريض الغير على ارتكاب الجرائم، أو استعمال رجله في جريمة التعدي على الملكية العقارية واغتصابها واحتلالها، لذا فمن أهم خصائص السلوك الإيجابي هي:

أولا: السلوك الإيجابي حركة أو عدة حركات عضوية

السلوك الإيجابي أو الفعل، يعد عبارة عن حركة أو مجموعة حركات عضوية، يأتيها الجاني لتنفيذ جريمته، فقد تكون حركة واحدة كتوجيه ضربة للمجني عليه أو إطلاق رصاصة عليه، أو توجيه إهانة واحدة له، أو مجموعة حركات عضوية تستند إلى قرار جرمي واحد، كاستمرار الجاني في طعن المجني عليه بعدة طعنات متتالية، أو إطلاق العديد من الرصاصات نحوه، في حين السلوك السلبي أو الامتناع فهو إحجام عن الحركة، في أوضاع كان يتعين على الشخص إتيانها، وتسمى الجرائم التي تقع بالسلوك الإيجابي بالجرائم الإيجابية، في حين تسمى الجرائم التي تتحقق بالامتناع، بالجرائم السلبية.
ويجب أن تكون الحركة أو مجموعة لحركات العضوية، عبارة عن حركات مادية مصدرها عضو من أعضاء جسم الإنسان، دون اعتداد في ذلك – في غالبية الأحوال- بالوسيلة المستعملة في تحقيق هذا السلوك، على اعتبار أن الوسيلة ذاتها، تسيرها الحركة الصادرة عن عضو الإنسان[22].


.

ثانيا: السلوك حركة إرادية هادفة لتغيير وضع قائم

يشترط في السلوك الإيجابي، زيادة على كونه حركة أو مجموعة حركات عضوية مادية صادرة عن عضو أو أكثر من أعضاء جسم الإنسان، أن تكون القوة الدافعة لهذه الحركة هي الإرادة، بمعنى أن تكون الحركة إرادية صادرة عن وعي وإدراك وحرية اختيار، وبعبارة أخرى يشترط أن تكون هناك صلة نفسية بين الحركة والإرادة، كون الحركة اللاإرادية حتى وإن ترتب عنها النتيجة المجرمة قانونا، إلا أن مسؤولية الشخص عنها منتفية، والإرادة هذه يجب أن تهدف إلى تغيير وضع قائم، والمقصود بذلك أن يكون هذا التغيير متمثلا في الاعتداء أو الإضرار أو مجرد احتمال التهديد للمصالح والحقوق المحمية بموجب قانون العقوبات.
الفرع الثاني
الســـلوك السلبي
( الترك أو الامتناع أو عدم الفعل[23] )

القانون الجنائي لا يعاقب فقط على السلوكات الإيجابية المتمثلة في حركة أو مجموعة حركات عضوية مادية إرادية – وإن كان ذلك الأصل-، بل هو يعاقب أيضا على بعض التصرفات والسلوكات السلبية الضارة، وذلك كاستثناء، والسلوك السلبي يتمثل في موقف سلبي يتخذه الشخص إزاء قاعدة قانونية تطالبه بالقيام بعمل ما، فيمتنع عن القيام به، أو يقوم بعمل مضاد للعمل الذي أمرت به القاعدة القانونية، لذا فالامتناع بدوره عبارة عن عمل إرادي واعي مصدره الإرادة الحرة المختارة لا مجال فيه للقول بقيام المسؤولية الجنائية للممتنع في حال ما إذا دفعته قوة قاهرة أو أكره عليه.
ومن أمثلة جرائم الامتناع في قانون العقوبات الجزائري، امتناع الشاهد عن الحضور أمام الجهات القضائية الجزائية ( المادة 89 من قانون الإجراءات الجزائية بخصوص الامتناع عن الحضور أمام قاضي التحقيق، والمادة 222 من ذات القانون بخصوص امتناع الشاهد عن الحضور أمام جهات الحكم الجزائية، والمادة 299 من ذات القانون بخصوص امتناع الشاهد عن الحضور أمام محكمة الجنايات)، وامتناع الموظف عن تطبيق ما أمر به القانون ( المادة 109 قانون عقوبات)، وامتناع الشخص الذي يعلم بالشروع في ارتكاب جناية أو وقوعها ولا يخبر السلطات المختصة بها فورا ( المادة 181 ق ع ج).
وفي كل هذه الحالات نكون أمام جرائم امتناع، لأن النص الجنائي ألزم الشخص بالقيام بعمل معين تحت طائلة توقيع جزاء جنائي ولم يقم به، لذا فجرائم الامتناع عبارة عن جرائم محددة العناصر في النصوص الجزائية، تطبيقا لمبدأ الشرعية الجنائية، لذا فلا يجوز اللجوء للتفسير الواسع ولا القياس فيها، والقانون في العادة ما يعاقب على مجرد السلوك السلبي فيها، دون أن يشترط تحقق نتيجة معينة تترتب عن هذا الامتناع، مما يجعل غالبيتها من جرائم السلوك المحض. غير أن الفقه أوجد طائفة جديدة من الجرائم سماها جرائم السلوك بالترك، أو الجرائم الإيجابية التي تقع بجريمة امتناع، أين يكون السلوك مجرد امتناع لكنه يقترن بتحقق نتيجة مادية معينة، مثل امتناع الطبيب عن القيام بعلاج المريض مما يؤدي لموت المريض، أو امتناع الأم عن إرضاع ابنه مما يؤدي إلى إهلاكه.

المطلب الثاني
النتيجة الإجرامية ( أو المجرمة)

يقصد بالنتيجة كأحد العناصر المكون للركن المادي للجريمة، الأثر الطبيعي المترتب عن السلوك المجرم قانونا، وهو المفهوم المادي للنتيجة المتمثل في وجود أثر مادي أو تغير يحدث في العالم الخارجي الملموس، في حين المفهوم القانوني للنتيجة، فيتمثل في الاعتداء على المصالح والحقوق المحمية قانونا.

وقد يظهر أن النتيجة أمر لا ينفصل عن السلوك المادي، بحيث يقوم الجاني بعمل واحد تعد النتيجة آخر حلقاته، غير انه في الواقع، النتيجة تعد العنصر الثاني المستقل والمنفصل من عناصر الركن المادي للجريمة، وما يدل على ذلك تمييز المشرع بين الجريمة التامة ومجرد الشروع- وهو موضوع دراسة مستقلة لاحقا- فلو كانت النتيجة عنصرا ملازما للسلوك لما قام المشرع بهذه التفرقة، ولما كانت هناك أصلا حاجة للعقاب على الشروع، ما دامت النتيجة ملازمة للسلوك، لذا فالسلوك أمر مستقل عن النتيجة. لذا فالنتيجة عنصر من عناصر الركن المادي، يتمثل في التغيير الذي يحدثه السلوك في العالم الخارجي الملموس، والذي قد يكون أثرا ماديا، مثل حدوث الوفاة في جريمة القتل، والاستيلاء على مال الغير في جريمة السرقة، وقد يكون مجرد أثر نفسي، مثلا كالحط من قيمة ومكانة الشخص في وسط أقرنائه في المجتمع كجرائم القذف والسب، لذا نرى أن النتيجة المعتد بها قانونا، ليست النتيجة الواقعية التي حدثت في العالم الخارجي، أو ما يعتبره المجني عليه أنه نتيجة أضرت به، وإنما النتيجة هي ما يعتد به القانون ويعتبره تغييرا قانونيا.

والنتيجة عنصر لازم في معظم الجرائم، خاصة تلك التي يرتب فيها المشرع على تحقق النتيجة أحكام قانونية، تتعلق أساسا بالشروع والاشتراك والقصد الجنائي، غير أن النتيجة قد لا تكون عنصرا لازما في الركن المادي لبعض الجرائم، التي تقوم ويكتمل ركنها المادي بمجرد إتيان السلوك، وتسمى الجريمة في هذه الحالة، بالجريمة الشكلية أو جرائم الخطر أو جرائم السلوك المحض، مقارنة بالجرائم المادية أو جرائم الضرر، التي تتطلب نتيجة[24]. لذا نرى بأن دراسة فكرة النتيجة كعنصر عام وهام في الركن المادي للجرائم، تقتضي منا تناول موضوع التفرقة بين النتيجة المادية والنتيجة القانونية، وذلك في فرع، لنتناول في الثاني التمييز بين الجرائم المادية ذات النتائج، والجرائم الشكلية التي لا يشترط فيها المشرع تحقق نتيجة معينة.
الفرع الأول
التمييز بين النتيجة المادية والنتيجة القانونية
النتيجة بين المفهوم المادي والمفهوم القانوني[25]:

النتيجة عموما هي الأثر الطبيعي الذي يتمخض عن السلوك ويعتد به القانون، وهو التعريف الذي يشتمل على ثلاثة عناصر، أن النتيجة أمر واقعي له وجود خاص وذاتية مستقلة، وهي في حقيقة الأمر تتميز عن السلوك مهما كانت مرتبطة به، والقانون أحيانا قد يتطلب حدوث نتيجة معينة، وأحيانا يكتفي بالنص على صلاحية السلوك لإحداثها، أما العنصر الثاني للنتيجة فهو ارتباطها بالسلوك برابطة سببية، وهي الرابطة
أو العلاقة التي تعد بالغة التعقيد والأهمية، والعنصر الثالث هو اعتداد القانون بالنتيجة، إذ الفعل الواحد قد يرتب نتائج متعددة، وهي النتائج التي قد تولج نتائج أخرى، غير أن القانون يهتم بالبعض دون البعض الآخر، والمشرع قد يجعل بعض النتائج عنصرا لازما لوقوع الجريمة والبعض الآخر من نتائجها المشددة، أو ظرفا مؤثرا في عقوبتها فحسب، مثال الأول حدوث الوفاة في جريمة القتل، ومن أمثلة الثانية العاهة المستديمة في جريمة الضرب، وفي هذا المقام تهمنا النتيجة كعنصر لا كظرف، غير أن النتيجة تعد أحيانا من عناصر الجريمة إذ لا تقوم هذه الأخيرة دونها، في حين قد يكتفي المشرع بالسلوك وحده في بعض الأحيان، وفي هذا الصدد قسمت الجرائم حسب الفقه، إلى جرائم نتيجة وجرائم سلوك محض.

أولا: المفهوم المادي للنتيجة

النتيجة بالمفهوم المادي تتحقق بكل تغيير يحدث في العالم الخارجي كأثر للنشاط الإجرامي[26]، ووفقا لهذا المفهوم للنتيجة أهمية قانونية في موضوعين، الأول بخصوص اكتمال الجريمة وتمامها، والثاني كمعيار لتحديد العقوبة، ووفقا للأهمية الأولى تقسم الجرائم على جرائم مادية ذات نتيجة، وأخرى شكلية كل ما تتطلبه مجرد السلوك، وهو ما نبينه في الفرع الثاني. بعد أن نتناول المفهوم القانوني للنتيجة.

ثانيا: المفهوم القانوني للجريمة

وهي النتيجة المتمثلة في العدوان على الحق أو المصلحة المحمية قانونا، سواء تمثل هذا العدوان في إصابتها بضرر أو مجرد تعريضها للخطر، لذا فهي وفقا لهذا المفهوم، لا تعد تغييرا في العالم الخارجي يمكن للحس أن يدركه ويميز بينه وبين سلوك الجاني، وإنما هي تقدير قانوني للسلوك أو حكم على هذا السلوك من وجهة نظر المشرع، وبهذا المفهوم النتيجة موجودة في كل جريمة، كون كل جريمة تقوم على سلوك، في حين المفهوم المادي للنتيجة المقابل للمفهوم القانوني هو ما يترتب عن السلوك من اثر مادي في العالم الخارجي المحسوس.
الفرع الثاني
التمييز بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية
( الجرائم ذات النتائج والجرائم ذات السلوك المجرد المحض)

سبق القول بأنه ليست كل الجرائم مما يتطلب فيها المشرع تحقق نتيجة مادية تحدث تغييرا ملموسا في العالم الخارجي، بل هناك من الجرائم ما يقوم ركنها المادي على مجرد إتيان السلوك بغض النظر عما إن رتب هذا السلوك نتيجة من عدمه، وبناء على ذلك تنقسم الجرائم من هذه الوجهة، إلى جرائم مادية ذات نتائج، وجرائم شكلية ذات سلوكات فقط، لذا سنحاول أن نتناول معنى النوعين كل في نقطة، لنتناول في نقطة مستقلة أهمية التفرقة بين النوعين

أولا: الجرائم المادية
الجرائم المادية، هي جرائم يتطلب المشرع فيها أن يترب السلوك نتيجة مادية كأثر ملموس في العالم الخارجي المحسوس، أو على الأقل مجرد احتمال حصول هذه النتيجة كأثر مباشر عن السلوك، مثلما هو الشأن بالنسبة لجرائم الشروع، وهذا النوع من الجرائم هو الأكثر شيوعا في القوانين العقابية، إذ غالبية الجنايات والجنح تشترط وقوع نتيجة كأثر مباشر عن السلوك المجرم، سيما في السلوكات الإيجابية. لذا يسمى هذا النوع من الجرائم أيضا " الجرائم ذات النتائج"، أو " جرائم الضرر"، لأن النتيجة في حقيقتها ضرر أصاب مصلحة أو حق محمي قانونا، حتى وغن تجسد هذا الضرر في مجرد احتمال أو تهديد مثلما هو الأمر بالنسبة لجرائم الشروع.

ثانيا: الجرائم الشكلية

في مقابل الجرائم المادية ذات النتائج، توجد هناك جرائم شكلية لا يشترط المشرع لقيامها حدوث نتيجة كأثر مباشر مترتب عن السلوك المجرم، لذا فهي تسمى أيضا " جرائم السلوك المحض" أو " جرائم السلوك المجرد"[27]، ومن أمثلة هذه الجرائم، عرض الرشوة على موظف عام، تزوير أو تزييف النقود دون ترويجها، تزوير الأوراق دون استعمالها، حيازة الأسلحة بدون ترخيص ودون أن تستعمل في ارتكاب جرائم، حمل الأوسمة أو ارتداء الأزياء الرسمية بدون وجه حق.

ثالثا: أهمية التفرقة بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية

للتفرقة بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية، أهمية قانونية بالغة الآثار، وذلك بالنظر للنتائج القانونية المترتبة على هذا التمييز أو هذه التفرقة، خاصة بخصوص علاقة السببية، وفي مجال الشروع، وبخصوص العدول الاختياري. فبخصوص العلاقة السببية، لا مجال للبحث عنها في مجال الجرائم الشكلية، فهي صلة أو رابطة متطلبة فقط في الجرائم المادية ذات النتائج، كونها علاقة أو رابطة تفترض أصلا وجود عنصرين، هما السلوك والنتيجة، وتكون هي الرابط بين هذين العنصرين، وإن كان يجب قيامها وإثباتها في مجال قيام الركن المادي في الجرائم المادية ذات النتائج، فالأمر غير ممكن بخصوص الجرائم الشكلية، وذلك لانعدام النتيجة التي يبحث عن علاقتها بالسلوك، إذ هذا الأخير كاف لوحده لقيام الركن المادي.

وأما بخصوص الشروع – الذي سيكون موضوع دراسة مفصلة- فلا يمكن تصوره في الجرائم الشكلية، إذ السلوك المجرم إما أن يأتيه الشخص وإما أن لا يأتيه إطلاقا، على عكس الجرائم المادية ذات النتائج فهي جرائم تشكل مجالا خصبا لجرائم الشروع، هذه الأخيرة التي تتمثل في إتيان السلوك في بعضه
أو في كله من قبل الجاني، وبالرغم من ذلك لا تتحقق النتيجة لظرف أجنبي خارج عن إرادة الجاني.

وأما بخصوص العدول الاختياري، وهو فكرة قانونية تتعلق بنظرية الشروع، فلا يمكن تصوره إلا في الجرائم المادية ذات النتائج، دون الجرائم الشكلية ذات السلوك المجرد، كون العدول يفترض البدء في تنفيذ الفعل والتوقف قبل تحقق النتيجة، وبالتالي عدم تحقق النتيجة معيار القول بوجود العدول الاختياري من عدمه، وما دامت النتيجة غير موجودة في الجرائم الشكلية فلا مجال للقول فيها لا بالشروع ولا بالعدول الاختياري، فالجريمة الشكلية إما أن تقع تامة وإما ألا تقع إطلاقا.

المطلب الثالث
علاقة ( صلة أو رابطة) السببية
Le lien de causalité

مؤدى التصور القانوني لعلاقة السببية، هو أنه لكي يكتمل البنيان القانوني للركن المادي للجريمة، لا بد أن يرتبط السلوك، فعلا كان أو امتناعا، بالنتيجة المحظورة التي تحققت، أي ارتباط السبب بالمسبب[28]، وبعبارة أخرى، يجب أن يكون السلوك مسبب النتيجة، فإن أمكن رد هذه النتيجة إلى عامل آخر غير السلوك الذي أتاه الجاني، انقطعت الصلة السببية وانتفت مسؤولية الجاني عن النتيجة التي تحققت، لذلك، وحتى يسأل الشخص يجب أن يكون سلوكه سبب حدوث النتيجة المحظورة قانونا، إذ المنطق واعتبارات العدالة تقتضي مسائلة الشخص فقط عن النتائج التي كانت ثمرة أفعاله المحظورة، لا النتائج التي كانت ثمرة عامل أو عوامل أخرى.
ويجب ألا نخلط بين صلة السببية التي تعد من عناصر الركن المادي للجريمة، وبين النية الإجرامية التي تعد من عناصر الركن المعنوي للجريمة – في بعض الحالات الضيقة-، حيث هذه الأخيرة عبارة عن مسألة نفسية أو شخصية، تتعلق بالموقف النفسي للجاني من النتيجة التي تحققت، وما إن كان يريدها أم لا، في حين صلة السببية من الأفكار الموضوعية اللصيقة بماديات الجريمة لا بجوانبها النفسية أو المعنوية.

غير أنه في الواقع توجد حالات يتضح فيها بما لا يدع مجالا للشك، أن الفعل الذي أتاه الجاني هو سبب النتيجة المجرمة التي تحققت، وفي هذه الحالة لا إشكال، حيث يعد الركن المادي بأكمله منسوبا للشخص، غير أنه وفي حالات أخرى كثيرة، قد تتداخل عوامل كثيرة بين سلوك الجاني والنتيجة التي تحققت، سواء كانت هذه العوامل سابقة أو معاصرة أو لاحقة لفعل الجاني، وهو ما قد يعدل أو يؤخر حدوث النتيجة، أو يجعلها تتحقق على نحو مخالف لما ارتآه وأراده الجاني، وبالرغم من أن هذه العوامل فيها الخفي والظاهر، المألوف والشاذ، المتوقع وغير المتوقع، القوي والضعيف[29]... فكيف لنا أن نحدد سبب النتيجة في مثل هذه الحالات؟ وبعبارة أخرى: كيف لنا الحكم بأن سلوك الجاني هو سبب النتيجة؟ وما الحل القانوني لذلك في غياب النص التشريعي؟

في ظل المشاكل العملية التي أظهرتها مشكلة البحث في علاقة السببية، وفي ظل سكوت المشرع عن توضيح معيارها الدقيق، حاول الفقه إيجاد حلول ففقهية لها، محاولا في بداية الأمر أن يعطي لها مفهوما علميا، قائلا أنه للسببية مدلول علمي قبل أن يكون لها مدلول قانوني، لذا يجب استخلاص معيار علمي لها لا استنادا للتصور القانوني، مستندين في ذلك لنظرية العالم " جون ستيوارت ميل" الذي عرف السبب علميا، بأنه: مجموعة العوامل الإيجابية والسلبية التي يستتبع تحققها حدوث النتيجة على نحو لازم، لذلك فالسبب من الناحية العلمية، يعني احتواءه على شرطي اللزوم والكفاية في إحداث النتيجة، أي احتوائه على المقومات اللازمة والكافية لإحداث هذه النتيجة، غير أن هذا المفهوم العلمي صعب التطبيق في مجال العلوم الإنسانية عموما، والعلوم القانونية خصوصا، والقانون الجنائي بالأخص، كون السبب في هذا القانون عبارة عن سلوك إنساني لا يمكن عزله عن الأسباب الأخرى المعاصرة أو السابقة أو اللاحقة له، ولا يمكن تجريده والحكم عليه بمعزل عن مجمل الظروف والملابسات المحيطة به، لذا فالسببية في المجال الجنائي لا يمكن أن تخلو من الجوانب الشخصية والنفسية، لذلك من الصعب بمكان الحكم عن مدى صلاحية السلوك في إحداث النتيجة دون الأخذ بعين الاعتبار الموقف النفسي للجاني، لذلك فشل هذا الاتجاه، وظهرت محاولات فقهية أخرى بنت حلولها على العديد من النظريات الفقهية، نذكر أهمها في النقاط التالية.

الفرع الأول
نظرية تعادل الأسباب
( نظرية الأسباب المتكافئة)

نادى بهذه النظرية فريق من الفقه الألماني وعلى رأسهم الفقيه " فان بورغ Van Burg"، ومقتضاها أن جميع الأسباب التي تساهم في إحداث النتيجة تتعادل وتتساوى ويكون كل من ساهم في إحداث إحداها مسؤولا مع البقية، أي أن كل الأسباب والعوامل التي تتدخل إلى جانب فعل الجاني تعد مسببة للنتيجة متى ساهم معها فعل الجاني في إحداث النتيجة، بغض النظر عن دور باقي الأسباب الأخرى، وسواء كانت سابقة عن فعله أو معاصرة له أو لاحقة عليه، ولا تهم طبيعة هذه العوامل، وما إن كانت مألوفة أو شاذة، قوية
أو ضعيفة، أو حتى ولو تداخل معها خطا المجني عليه[30]، أو خطا الغير[31]، أو القوة القاهرة[32]، أو حتى ولو كانت راجعة لفعل الطبيعة كالزلازل والفيضانات والعواصف، لأن فعل الجاني في مثل هذه الحالات، يصبح جزءا من سبب آخر" سبب السبب"، أي العوامل الأخرى ما كانت لتحدث النتيجة لولا فعل الجاني، حتى ولو كان ضعيفا مقارنة بها، أو دوره ضئيلا مقارنة بدور باقي الأسباب والعوامل الأخرى، إذ فعل الجاني وفقا لهذه النظرية، يكفي أن يكون موجودا ضمن طائفة من الأسباب الأخرى، حتى يمكن القول بأنه سبب في حدوث النتيجة، لأنه لولا فعله لما تعاقبت الأحداث على هذا النحو. ووفقا لهذه النظرية تترتب العديد من النتائج القانونية التي تنعكس على باقي أفكار قانون العقوبات، تقتضي منا تناولها قبل الخوض في تقدير النظرية ككل.

أولا: نتائج نظرية تعادل الأسباب

يترتب على منطق نظرية تعادل الأسباب العديد من النتائج القانونية التي يمكننا أن نوجزها في النقاط التالية:
1- الجاني مسؤول دوما عن الجريمة حتى ولو تداخلت إلى جانب سلوكه أسباب أخرى ساهمت معه في إحداث النتيجة، حتى وإن كانت غير متوقعة ولا مألوفة، كالحالة الصحية السيئة للمجني عليه، أو انهيار المستشفى الذي كان يعالج به المجني عليه،
2- لا تنقطع الصلة السببية بين فعل الجاني والنتيجة حتى ولو تداخلت العديد من الأسباب الأخرى معه، سواء كانت معاصرة لسلوكه أو سابقة له أو لاحقة عليه، كتأخر المجني عليه في عرض نفسه على الطبيب، أو خطا هذا الأخير في علاج المجني عليه.
3- لا تنتفي صلة السببية بين سلوك الجاني والنتيجة المحظورة، حتى ولو كانت النتيجة ستتحقق حتما، إلا أن سلوك الجاني عجل بحدوثها أو ضاعف في حجمها.

ثانيا: تقدير نظرية تعادل الأسباب
جاءت نظرية تعادل أو تكافؤ الأسباب بمعيار سهل ويسير الإثبات في استخلاص علاقة السببية، إذ يكفي أن يكون سلوك الجاني قد ساهم في تسلسل الوقائع ليعد الفعل الذي لولاه لما وقعت النتيجة، إلا أن الفقه وجه سهام النقد لهذه النظرية، لأنها تنطوي على إثقال كاهل الجاني وتشدد عليه المسؤولية، وهو أمر مخالف للعدل والمنطق، وإعمالها أيضا يؤدي إلى نتائج في غاية الغرابة، وكذا من الناحية القانونية، إعمال هذه النظرية يؤدي إلى إلغاء فكرة الاشتراك في الجريمة. كما قيل بأن هذه النظرية تتناقض مع نفسها، فتقر بداية التعادل بين الأسباب، ثم تختار من بينها سبب الجاني فقط وتلقي عليه كامل المسؤولية، وتحمله المسؤولية حتى عن الأسباب النادرة الحدوث، مثل الحريق الذي يهب في المستشفى، أو تهدمه، أو وقوع زلزال...

الفرع الثاني
نظرية السبب المنتج
( السبب المباشر أو الفعال )

وهي نظرية من ابتكار الفقه الأنجلوسكسوني[33]، وتسمى أيضا نظرية السبب الفوري أو السبب النشيط أو السبب الأقوى، والتي ترى وجوب اتصال النتيجة اتصالا مباشرا بفعل الجاني، كونه السبب الأقوى
أو المباشر أو الأساسي في إحداث النتيجة مقارنة مع الأسباب الأخرى، بمعنى أن الفاعل يسأل عن النتيجة الضارة التي جرم المشرع حدوثها، متى كان فعله سببا قويا وأساسيا لإحداثها وفقا للمجرى العادي للأمور، ومؤدى هذه النظرية باختصار، هو أن نطرح السؤال التالي: هل الفعل الذي ارتكبه الجاني، باستبعاد العوامل الأخرى التي تظارفت معه، قادر لوحده على إحداث النتيجة الضارة التي وقعت؟. فإن كان الجواب بالإيجاب، فإن الجاني يعد مسؤولا عن النتيجة التي حدثت، كما يعد مسؤولا عن كل النتائج الأخرى المحتملة، سواء توقعها أو لم يتوقعها، ما دام أمر حدوثها وفقا للمجرى العادي للأمور ممكن التصور، وإن كان الجواب عن السؤال السابق بالنفي، فالجاني لا يسأل عن النتيجة كون فعله لم يكن سببا في حدوثها.

أولا: معيار النظرية

يتضح مما سبق، بأن أنصار هذه النظرية أخذوا بمعيار مادي موضوعي، لا معيار شخصي، لأنها نظرية تأخذ بتقدير الأسباب، وهي أمور موضوعية لا دخل لشخصية الجاني فيها، ومعيار كل ذلك، معيار الرجل العادي الذي يوضع في نفس الظروف التي تواجد بها الجاني.

ثانيا: تقدير النظرية

بالرغم من وجاهة النظرية، إلا أنها لم تسلم بدورها من سهام النقد، وأهم الانتقادات التي وجهت لها، هو عدم وضوح معيارها، أي المعيار الذي يمكن من تحديد السبب المباشر والأساسي من بين سائر الأسباب الأخرى غير المباشرة، وأن القول بوجود سبب واحد للجريمة في ظل تعدد مسبباتها هو قول تعوزه الدقة[34]، لذلك نجد الفقه قد جاء بنظرية أخرى، تعد لغاية اليوم، وبإجماع الفقه، أفضل النظريات التي قيل بها في صدد بحث مشكلة صلة السببية، والتي أخذت بها معظم التشريعات الجنائية، سواء بصفة صريحة أو بصفة ضمنية، كما تبناها القضاء في العديد من الدول، وهي نظرية السبب الملائم، التي نتناولها في الفرع الموالي.

الفرع الثالث
نظرية السبـــب الملائم

وهي نظرية، على عكس النظريات السابقة، أقامها أنصارها على معيار بسيط يشبه نوعا ما المعيار الذي تبنته النظرية السابقة، ومفاد هذا المعيار طرح السؤال التالي: هل باستطاعة فعل الجاني بحسب المجرى العادي للأمور، إحداث النتيجة بالرغم من تداخل عوامل أخرى معه؟[35]. وهي بذلك نظرية لا يأخذ أنصارها بكل العوامل مثلما فعلت النظرية الأولى، ولا تستبعد كل العوامل مثلما فعل أنصار نظرية السبب المنتج، بل تأخذ فقط بالعوامل المألوفة التي يعلم بها الجاني أو يتوقعها على الأقل، ومعيار التفرقة بين العوامل المألوفة والعوامل الشاذة غير المألوفة، هو معيار العلم، أي متى كان يعلم الجاني أو يتوقع بعض العوامل المصاحبة لنشاطه كان العامل مألوفا ولا يمنع من مسائلته، وإن كان يجهل ذلك، عد العامل غير مألوف ويقطع اللصة بين النتيجة وفعله.

غير أن أهم انتقاد وجه لإعمال هذا المعيار، أنه معيار شخصي ونسبي ينقلنا من إطار الركن المادي إلى إطار الركن المعنوي، في حين صلة السببية عنصر هام من عناصر الركن المادي يجب أن يستبعد من محيطها كل العوامل النفسية والشخصية، ويركز فيها فقط على المسائل والأمور المادية الموضوعية. كما أنه لا وجود لضابط يمكن من الحكم بعلم الجاني بالعوامل من عدمه. لذا صحح أنصار هذه النظرية موقفهم، وقالوا بمعيار الرجل العادي[36]، عوض معيار العلم، وهو التصحيح الذي جعل منها من أكثر نظريات السببية قبولا، وأخذت بها غالبية التشريعات بما فيها المشرع الجزائري في نظرنا.

غير انه يمكننا القول كخلاصة، بأن أي من النظريات السابقة، وبالرغم مما قدمته من إضاءة لكثير من جوانب رابطة السببية في مجال الركن المادي للجريمة، إلا أنها لم تحل بصفة نهائية وحاسمة مشاكل هذه الفكرة القانونية، ودليل ذلك هو تشتت الفقه بالرغم من ثراءه، واضطراب القضاء بالرغم من اجتهاده، لذا فتردد المشرع عن تكريس معيار واضح ودقيق لرابطة السببية، لا يخلو من دلالات، وذلك بالنظر لأسباب التالية:
1-إن رابطة السببية ذاتها تستعصي عن التعريف وفق مفهوم مطلق ومجرد، لأن الفعل أو السلوك الإنساني يصعب تجريده بمعزل عن الظروف والعوامل المختلفة المحيطة به، لذا فمثل هذا السلوك يتميز بطابع خاص نسبي وشخصي أيضا تجعله يختلف من شخص لآخر، بل لدى الشخص الواحد من حالة لأخرى، ومن هذه العوامل والظروف، طبيعة الفعل نفسه وزمان ومكان ارتكابه، ووسيلة تنفيذه، والمحل الذي يرد عليه... لذا يجب الخروج من إطار المفهوم المطلق المجرد لعلاقة السببية إلى إطار الفهم الواقعي النسبي لها، وذلك لا يمكن إلا بتبني معيار واقعي ونسبي لهذه العلاقة، يأخذ بعين الاعتبار ظروف كل واقعة على حدة، وذلك لا يمكن أن يتأتى إلا بإعطاء القاضي سلطة تقديرية تمكنه من استخلاص هذه الرابطة من خلال الوقائع المعروضة عليه والظروف والملابسات المحيطة بها.
2- انطلاقا من التصور الواقعي النسبي لعلاقة السببية، يجب البحث فيما إن كان السلوك هو مسبب النتيجة في إطار كل قضية على حدة، وعلى أن يكون هذا السلوك متفوقا نسبيا على باقي العوامل الأخرى التي سبقته أو صاحبته أو تلته، وهذا التفوق النسبي لا يستخلص استخلاصا مجردا، بل يستخلص واقعيا بالنظر لكافة الظروف والملابسات المحيطة بالسلوك، وعلى ضوء دراسة كل العوامل بما فيها الشخصية، ومن أهم المعايير التي قد تعين القاضي في ذلك: طبيعة الجريمة وما إن كانت من الجرائم العمدية أو جرائم الخطأ، بحيث ما قد يصلح لاستخلاص العلاقة السببية في النوع الأول، قد لا يصلح لاستخلاصها في النوع الثاني. شخصية الجاني، وبحث مدى قدرته على التقدير ومدى قدرته على العلم بما يتعين عليه أن يعلمه، لأن سلوك الإنسان يصعب تقديره بمعزل عن صاحبه. مراعاة زمان ومكان ارتكاب الجريمة، لأن ما يمكن أن يكون سببا للجريمة في النهار في ظل الحركة والازدحام، قد لا يمكنه أن يكون كذلك في الليل، وما يمكن أن يصلح لأن يكون سببا للجريمة في مكان قد لا يصلح لأن يكون كذلك في مكان آخر. شخصية المجني عليه وسنه وظروفه الصحية والنفسية لها دور كبير في تقدير ما إن كان فعل الجاني هو السبب المباشر في إحداث النتيجة الضارة.

وبعبارة أخرى، يجب الخروج بصلة السببية من إطار المفهوم المجرد المطلق إلى رحاب الفهم الواقعي النسبي، كون النظريات السابقة، وإن أضاءت جوانب هذه الفكرة القانونية المعقدة، غير أن أي من هذه النظريات لم يحل بصفة نهائية مسألة السببية، ودليل ذلك أن أحكام القضاء لا تزال مترددة ومن العسير ردها إلى نظرية من النظريات، وذلك داخل البلد الواحد، إذ في الدولة الواحدة يتراوح القضاء أحيانا من النقيض إلى النقيض. لذلك يمكن القول بفإن المشرع الذي يعزف عن تكريس معيار للسببية له ما يبرره، كون صلة السببية تستعصي أحيانا على التعريف وفق مفهوم مجرد مطلق، كون الفعل الإنساني يصعب تجريده من ظروف وعوامل شتى تعطي له خصوصيته وطابعه النسبي. لذا فمن الضروري الأخذ بعين الاعتبار كل العوامل والظروف المحيطة بسلوك الإنسان، وعلى ضوئها يتم تقدير علاقة السببية، لذا يجب أن يكون السلوك المسبب للنتيجة متفوق نسبيا عن باقي العوامل الأخرى، وهو التفوق الذي يستخلصه قضاة الموضوع واقعيا ومن خلال كافة الظروف والملابسات المحيطة بهذا السلوك، في كل قضية على حدة وعلى ضوء شخصية الجاني ذاته. كما تختلف باختلاف أنواع الجرائم، فما قد يصلح معيار لاستخلاص علاقة السببية في جريمة قتل عمدي، قد لا يصلح لأن يكون كذلك في جريمة قتل خطأ، وأنه لا يمكن إعمال المقومات المادية على حساب المقومات الشخصية، فيجب أن تقدر صلة السببية بناء على مقومات السلوك المادية، ومقومات شخصية تستفاد من علم الجاني أو بما ينبغي عليه العلم به، لذا فعلاقة السببية تقوم على الفهمين المادي والشخصي، أي على الركنين المادي والمعنوي، فالسلوك الإنساني مهما كان ليس مادة مخبرية يتم إخضاعها للتجارب في المخبر. لذا يجب إعطاء القضاء سلطة في استخلاص صلة السببية، كون الحكم الذي يأتي خاليا من بيان البناء القانوني للجريمة يكون مشوبا بالقصور ويتعين نقضه، والدفع بانتفاء صلة السببية من الدفوع الجوهرية التي يتعين على المحكمة تمحيصها والرد عليها، لكن القول بوجود أو انتفاء الصلة السببية من المسائل الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بتقديرها دون رقابة من محكمة النقض، غير انه لهذه الأخيرة رقابة على المعيار المعتمد من قبل محكمة الموضوع لاستخلاص هذه الصلة.

المبحث الثاني
المحاولة أو الشروع كصورة ناقصة للركن المادي

عادة ما يكتمل البنيان القانوني للجريمة بتوافر أركانها الثلاثة العامة، الركن الشرعي والركن المادي والركن المعنوي، وهو الوضع الغالب والطبيعي لكل الجرائم، غير أن المشرع يتدخل أحيانا ويجرم بعض المظاهر السلوكية التي لا تكتمل لها كل هذه الأركان والعناصر، سيما ما يتعلق منها بالركن المادي للجريمة، فإن كان الأصل أن المشرع لا يعاقب إلا على الأفعال التي اكتملت ورتبت النتائج التي يعتد بها قانونا، إلا أنه يتدخل أحيانا بالعقاب دون أن يصل هذا الركن لهذه المرحلة، وهو الوضع في حال بعض الجرائم الناقصة التي تسمى شروعا. لذا قلنا بأن للركن المادي للجريمة صورا خاصة، تخرج عن إطار النموذج القانوني المكتمل والعادي للجريمة، والمتمثل في ارتكاب شخص لجريمة تامة فيعاقب عليه، وهو وضع جريمة الشروع وفكرة المساهمة الجنائية، التي نتناول كل منهما في مبحث مستقل.

وقد سبق القول بأن الركن المادي للجريمة – سيما في الجرائم المادية ذات النتائج- يتطلب أن يترتب عن سلوك الجاني نتيجة محظورة قانونا، وأن تربط بينهما رابطة سببية ليكتمل الركن المادي قانونا، لكن قد يحدث وأن يقوم الجاني بسلوكه المحظور كاملا، غير أن النتيجة لا تتحقق، أو أن يبدأ في سلوكه هذا ولا يكمله، سواء من تلقاء نفسه، أو نتيجة تدخل عوامل أخرى خارجة عن إرادته، وفي كلتا الحالتين يعد الجاني قد شرع في فعله المجرم كله أو بعضه دون أن يكتمل الركن المادي للجريمة، وهو ما يسمى الشروع في الجريمة أو المحاولة فيها. وهو وضع يعني انه شرع في ارتكاب الجريمة، غير أنها لم تكتمل، مما يجعلها عبارة عن جريمة ناقصة أوقفت في مراحها الأولى، أو استكمل السلوك فيها وخاب أثرها لسبب خارجي لا دخل لإرادة الجاني فيه. وذلك حتى نكون بصدد جريمة الشروع المعاقب عليه، لأنه لو كانت لإرادة الجاني دخل في وقف الجريمة، لكنا أمام فكرة العدول الاختياري التي تنفي جريمة الشروع أصلا. لذا سنحاول أن نبين معنى الشروع وأنواعه والعلة من العقاب عليه، في هذا التمهيد، لنخصص المطالب لأركان جريمة الشروع فقط، بالنظر لخصوصية هذه الأركان في هذا النوع من الجريمة.

أولا: مفهوم جريمة الشروع

عرف البعض الشروع بأنه: الحالات التي يفشل فيها الفاعل في تحقيق جريمته، أي لا تتحقق النتيجة المادية المطلوبة لقيام الجريمة، ورغم ذلك تم تعريض المصالح والحقوق المحمية قانونا للخطر، لأن الشروع ينطوي على احتمال الإجهاز عليها في حال البدء في تنفيذ الجريمة. لذا يمكننا القول، أن الشروع اعتداء محتمل على مصلحة أو حق محمي جنائيا، والمشرع يحمي هذه الأخيرة من الاعتداءات الفعلية ومن مجرد احتمال وقوع مثل هذه الاعتداءات[37]، لذا فالشروع جريمة توافر فيها الركن المعنوي ولكن تخلف فيها اكتمال الركن المادي فقط، سواء كان هذا التخلف بصورة جزئية أو كلية ونكون أمام جريمة ناقصة، وهذا النقص في البنيان القانوني للركن المادي للجريمة ينصب تحديدا على عنصر النتيجة القانونية التي لم تتحقق لسبب لا دخل لإرادة الجاني فيه، وبالتالي تصوير جريمة الشروع على النحو السابق، يستدعي إدراج الملاحظات التالية:جوهر الشروع أنه جريمة ناقصة، وهذا النقص ينحصر فقط في تخلف تحقق النتيجة، رغم ارتكاب السلوك المجرم كله أو في جزء منه.وتبعا لما سبق، الشروع لا يثور كأصل عام، إلا بالنسبة للجرائم المادية ذات النتائج، وبالتالي فهو غير ممكن التصور في الجرائم الشكلية ذات السلوك المجرد المحض – وقد سبقت الإشارة لذلك- كونها في جوهرها جرائم تمثل مرحلة الشروع، وبالتالي لا يمكن تصور الشروع في الشروع. الشروع جريمة لم يكتمل ركنها المادي، لكن الركن المعنوي فيها يبقى ركنا أساسيا لا يمكن تصور قيامها بدونه، وتلك إذن الحكمة من العقاب على الشروع، وبالتالي يمكن القول مبدئيا، بأنه لا شروع في الجرائم غير العمدية.

ثانيا: الهدف أو العلة من العقاب على الشروع

في حقيقة المر ثار السؤال في بعض الدول عن العلة من العقب عن جريمة الشروع، خاصة وان المشرع يعاقب على الاعتداءات الفعلية على المصالح والحقوق المحمية قانونا، كما ثار تساؤل آخر حول قدر العقاب عن جريمة الشروع، وما إن كان يجب أن يكون مساويا للعقاب عن الجريمة التامة أم اقل أم أكثر ؟
فبخصوص العلة من العقاب[38]، يرى الفقه أن الشروع كجريمة وإن كان قد خاب أثرها ولم تعد تشكل اعتداء فعليا، فإنها تحولت إلى اعتداء محتمل أو خطر يهدد المصالح والحقوق المحمية قانونا، وأن المشرع مثلما يحمي هذه الحقوق من الاعتداءات الفعلية، فإنه يحميها أيضا من الاعتداءات المحتملة، والشروع جريمة تهدد بالخطر، ومصدر هذا الخطر أفعال مادية ملموسة والتي حتى وإن كانت ناقصة، إلا أنها تعد بادرة لارتكاب الجرائم وتنبئ بخطورة إجرامية لدى فاعلها أو القائم بها. لذا يعبر بعض الفقه في هذا النوع من الجرائم، بأنه بالرغم من تخلف النتيجة المحظورة قانونا، إلا أن الجريمة قد تمت من الناحية الشخصية، لكنها خابت من الناحية المادية، وأن الاضطراب الذي تحدثه الجريمة الخائبة في المجتمع، أشد خطورة من الاضطراب الذي يحدثه الشروع البسيط، الذي يقصد به عدم اكتمال السلوك.

ثالثا: أنواع الشروع ومجال تطبيقه

نصت المادة 30 من قانون العقوبات الجزائري، على أنه: " المادة 30 :" كل المحاولات لارتكاب جناية تبتدئ بالشروع في التنفيذ أو بأفعال لا لبس فيها تؤدي مباشرة إلى ارتكابها، تعتبر كالجناية نفسها إذا لم توقف أو لم يخب أثرها إلا نتيجة لظروف مستقلة عن إرادة مرتكبها حتى ولو لم يمكن بلوغ الهدف المقصود بسبب ظرف مادي يجهله مرتكبها." ، ونصت المادة 31 :" المحاولة في الجنحة لا يعاقب عليها إلا بناء على نص صريح في القانون. والمحاولة في المخالفة لا يعاقب عليها إطلاقا.". من نص المادة 30 يتضح أنه للشروع صورتين، صورة الجريمة الخائبة التي يفرغ فيها الجاني كل نشاطه المادي ورغم ذلك لا تتحقق النتيجة المحظورة قانونا، لظروف مستقلة عن إرادة الجاني أو لظروف مادية يجهلها أصلا، وهو ما بينته الفقرة الثانية من المادة 30. مستعملة عبارة " لم يخب أثرها"، بينما بينت الفقرة الأولى صورة الشروع الناقص أو الجريمة الناقصة أو الجريمة الموقوفة، وهي الصورة التي لم يكتمل فيها السلوك أصلا، كون الجاني أوقف- لم يتوقف بمحض إرادته- لذا استعملت المادة عبارة " إن لم توقف" المقصود بها الإيقاف الاضطراري، لكون العدول الاختياري يخرجنا أصلا من نطاق جريمة الشروع.

وبالتالي يمكننا القول بأن الشروع إما أن يكون تاما وتقابله الجريمة الخائبة التي لم تتحقق فيها النتيجة المحظورة قانونا، لكنها تبقى ممكنة الوقوع، والجريمة المستحيلة، وشروع ناقص وتقابله الجريمة الموقوفة لأن السلوك فيها أوقف قبل اكتماله، وقبل انتظار تحقق النتيجة من عدمه، على أن يكون هذا التوقف اضطراريا لا اختياريا، لأنه سبق القول أن العدول الاختياري ينفي جريمة الشروع تماما. وبالتالي الشروع نوعان، شروع تام وشروع ناقص وهما نوعا أو صورتا الشروع.

أما فيما يخص مجال تطبيق نظرية الشروع، فيمكننا القول من خلال استقراء المادتين 30 و31 من تقنين العقوبات الجزائري، بأن الشروع متصور في كل أنواع الجنايات بحسب المادة 30 ق ع ج، وفي الجنح في الحالات التي يوجد فيها نص صريح يعاقب على الشروع بحسب المادة 31/1[39]، ولا شروع إطلاقا في مجال المخالفات التي إما أن تتم كاملة أو لا تتم أصلا بحسب المادة 31/2 ق ع ج. وعلة عدم العقاب على الشروع في المخالفات هو أنها جرائم بسيطة لا تنطوي على خطورة إجرامية كبيرة لدى الجاني، في حين أن العقاب على الشروع قرر أصلا لمواجهة الخطورة الإجرامية لدى الجناة. كما أن المخالفات في العادة عبارة عن صور سلوكية تقع بالمخالفة لأمور تنظيمية وإدارية، ارتأى فيها المشرع العقاب على السلوك ذاته، لا النتائج المترتبة عنه.

وعموما يمكن القول أن الشروع عبارة عن جريمة شأنه شأن الجرائم التامة، وكل ما في الأمر أن الركن المادي فيه غير مكتمل العناصر، لذا لا بد وأن تكتمل هل باقي الأركان اللازمة لقيام الجرائم، وهي الأركان العامة الثلاثة المعروفة، الركن الشرعي والركن المادي والركن المعنوي، وإن كان الركن الشرعي لا يثير أي إشكال، بحيث القاعدة العامة في العقاب على الشروع في الجنايات هي المادة 30، وفي الشروع في الجنح نص المادة 31/1 بالإضافة إلى النص الخاص الذي يعاقب على الجنحة، كما لا يثير الركن المعنوي أي إشكال، بحيث هو نفسه الركن المعنوي المشترط في الجرائم التامة- ولنا عودة إلى ذلك- ويبقى الركن المادي هو الذي يثير بعض الصعوبات، بحيث سبق القول بأن معيار التفرقة بين الجرائم التامة وجرائم الشروع هو عدم اكتمال الركن المادي في الأخيرة، الأمر الذي يثير بعض الصعوبات حول المرحلة التي يجب أن يصل فيها التنفيذ المادي للسلوك، ومعيار التفرقة بين المراحل المعاقب عليها من المراحل غير المعاقب عليها، وكذا معيار التفرقة بين العدول المعاقب عليه والعدول غير المعاقب عليه. والموقف من نوع من الجرائم تسمى :" بالجرائم المستحيلة" لذا فالمطالب التي سنتناولها في حقيقة الأمر تخص عناصر الركن المادي غير المكتمل في جريمة الشروع، لأنه سبق القول بان الركنين الشرعي والمعنوي لا يثيران أي إشكال، وإن كنا سنعود للركن المعنوي في الأخير بنوع من التفصيل المختصر، لتبيان بعض الأوضاع
الخاصة.

المطلب الأول
البـــدء في التنفيذ كعنصر أول في الركن المادي لجريمة الشروع

الجريمة كمشروع إجرامي يهدف من خلاله الجاني لتحقيق نتيجة معينة، يمر بالعديد من المراحل، منها ما يعاقب عليه المشرع، ومنها ما هو غير معاقب عليه، ومعيار التفرقة بين المرحلتين هو " البدء في التنفيذ"[1]، بحيث لا عقاب على المراحل التي تسبقه، على عكس المراحل التالية له، الأمر الذي يقتضي منا تبيان هذه المراحل والتمييز بينها، ثم البحث في المعيار المميز لفكرة البدء في التنفيذ التي تعد محور دراسة نظرية الشروع في الجريمة.

الفرع الأول
المراحل غير المعاقب عليها قانونا

سبق القول بأن القانون لا يعاقب على النوايا مهما كانت شريرة، لذا فهو لا يعاقب على كل المسائل الداخلية النفسية التي لم تتجسد في الحيز المادي ولم يعبر عنها بفعل مادي، وعلى أساس ذلك، فإنه لو تصورنا مسار الجريمة كمشروع، نجدها تمر بالعديد من المراحل، تنتهي بمرحلة أخيرة هي مرحلة تمام الجريمة، وهي المرحلة التي تهمنا في دراستنا هذه كون الشروع مرحلة سابقة عليها، لتبقى أمامنا مراحل أخرى، يمكن لنا القول بأن البعض منها نفسي خالص[2]، والبعض الآخر يقترن ببعض السلوكات.

أولا: مرحلة النوايا الكامنة[3]

وهي مرحلة عبارة عن أفكار ونوايا تختلج صدر الجاني، وتكون فيها الجريمة عبارة عن مجرد فكرة كامنة يشوبها التفكير لغاية عقد التصميم على ارتكابها، وهي مراحل لا يحفل بها القانون ولا يعاقب عليها، حتى ولو أفصح عنها صاحبها للغير، ما لم يرق هذا الإفصاح لحد التحريض.

ومعظم القوانين الحديثة لا تعاقب على هذه المرحلة، وتتفق بأنه ليس للقانون سلطان على النوايا ولا على ما يختلج بصدر الإنسان، حيث أنها عبارة عن نوايا لم تحدث اضطرابا بالمجتمع بعد، خاصة وأن النوايا عبارة عن أحاديث نفس من الصعوبة إثباتها والتأكد من وجودها، وأنه من الأفضل عدم العقاب عليها لترك باب العدول مفتوحا لتشجيع الأشخاص عليه، وبالتالي ليس للقانون سلطان على الضمائر حتى وإن كان العزم على ارتكاب الجرائم يشكل خطيئة أخلاقة تستحق التأنيب والتكفير، وإن كان أنصار المدرسة الشخصية يرون العقاب على هذه المرحلة، كونها تعبر عن إرادة إجرامية تعد مصدر للقلق والاضطراب في المجتمع، والخطورة الإجرامية هي المراد الذي ينبعث منه الإجرام، وأنه لمعالجة هذا الأخير يجب أن نعالج الداء من أساسه.

ثانيا: مرحلة النوايا الكاشفة عن خطورة إجرامية

وهي مرحلة بالرغم من أنها لا تزال في طور النوايا والخواطر، إلا أنها وعلى عكس المرحلة السابقة تقترن بقدر من السلوك الذي يفصح عنها، إذ يبدأ في التحضير لجريمته، كشراء المعدات اللازمة لارتكاب الجريمة، إلا أنها مرحلة ليست قاطعة الدلالة على ارتكاب الجريمة بالفعل، غير أننا نجد في بعض الأحيان المشرع يتدخل بالعقاب على هذه المرحلة بوصفها جرائم مستقلة لا بوصفها شروع في ارتكاب جرائم، مثل تجريم حيازة سلاح بدون رخصة[4]، أو جريمة تقليد المفاتيح[5].

وعلة عدم العقاب على المرحلة التحضيرية للجرائم، هو أنها أعمال قابلة للتأويل في مرماها، مما يجعلها غير كافية للكشف عن نية الفاعل بصورة واضحة وأكيدة، فمن اشترى آلة حادة يكون قد اشتراها لاستعمالها في قتل غريمه، أو لغرض آخر مشروع، وبالتالي هي أعمال مبهمة وقابلة للتأويل، لذا فليس من الحكمة العقاب على ظواهر وأمارات لا ترقى لمرتبة الوقائع الثابتة.

ثالثا: مرحلة البدء في تنفيذ الجريمة

وهي المرحلة التي تمثل الشروع في الجريمة المعاقب عليها، وهي تشمل كل فعل يعتبر بدء في تنفيذ الجناية أو الجنحة إذا كان معاقب على الشروع فيها، وهي مرحلة تتميز بتجاوز الجاني لمرحلة التحضير لجريمته والشروع في تنفيذ عدوانه على الحق أو المصلحة المحمية قانونا، على نحو يمكن القول معه أن الجاني تجاوز مرحلة العزم والتفكير والتحضير، وانتقل لمرحلة تنفيذ العمل الإجرامي. لكن الإشكال الكبير الذي يواجهنا ولا يزال يواجه الفقه، هو مسألة المعيار الذي يمكننا من الفصل بين المرحلة التحضيرية ومرحلة البدء في التنفيذ، خاصة وانه هناك أحوال كثيرة لا يمكن فيها الجزم ما إن كانت الأفعال التي أتاها الجاني تعد أعمال تحضيرية أو تجاوزت البدء في التنفيذ. إذ في الكثير من الأحيان ما تظهر الأعمال التحضيرية على أنها بدء في التنفيذ والعكس صحيح[6].

الفرع الثاني
معيار التمييز بين الأعمال التحضيرية والبدء في التنفيذ

انقسم الفقه بغرض إيجاد معيار دقيق يمكن من التمييز بين الأعمال التحضيرية والبدء في تنفيذ الجريمة، - وكالعادة- إلى اتجاهين أساسيين، اتجاه موضوعي يركز على ماديات الجريمة أو على ركنها المادي، وآخر شخصي يركز على نفسية الجاني وذهنيته وخطورته الإجرامية، وبين هذا وذاك، نجد الفقه قد أضاف مذهبا ثالثا اتخذ موقف وسط، وسمي بالاتجاه أو المذهب المختلط، آخذا من مزايا كل من المذهبين السابقين وتاركا مساوئهما. بالإضافة إلى بعض المحاولات الفقهية الفردية الأخرى، وأهمها معيار الفقيه البلجيكي جارو.

أولا: المذهب الموضوعي أو المادي

وفقا لأنصار المذهب المادي أو الموضوعي، نكون بصدد البدء في تنفيذ الجريمة، بالشروع في ارتكاب الركن المادي المكون للجريمة، على النحو المرسوم في النص التجريمي، وما عدا ذلك – أي قبل هذه المرحلة- يعد العمل تحضيريا غير معاقب عليه، ففي جريمة السرقة لا يعد بدء في التنفيذ سوى الفعل الذي يمس به الجاني حيازة الغير للمال، كوضع اليد بالفعل على هذا المال، وفي جريمة القتل لا يعد بدء في التنفيذ سوى الفعل الذي يتضمن خطر إزهاق روح المجني عليه، كإطلاق الرصاص اتجاهه، وما عدا ذلك يعد من قبيل العمال التحضيرية كون النص القانوني لم يجعلها من مكونات الركن المادي للجريمة.

وبالتالي تمتاز هذه النظرية بإرسائها لمعيار واضح وسهل ودقيق، بالرغم من أنه وجهت لها انتقادات تتمحور في مجملها بأنها لا تحقق حماية فعالة للمجتمع ضد مجرمين أظهرت أفعالهم أنهم تقربوا كثيرا من تحقيق نتائجهم المقصودة، وتؤدي إلى إفلات الكثير من الجناة من العقاب، لا لشيء سوى لأنهم لم يرتكبوا بعد فعلا من الأفعال المصورة في نص التجريم، بالرغم من أنهم أبانوا بوضوح عن خطورة إجرامية كبيرة، إذ وفقا لمذهب هذه النظرية لا يعد الشخص مرتكبا لجريمة السرقة، بالرغم من اقتحامه المنزل وتفتيشه الخزانة، إلا إذا عثر على الأموال ووضع يده عليها[7]، ولا يعد مرتكبا لجريمة القتل من صوب السلاح اتجاه غريمه وأطلق النار عليه إلا بعد أن يصيبه.

والانتقادات السابقة وغيرها، جعلت من أنصار هذا المذهب يحاولون إنقاذه عن طريق التوسع في المعيار السابق، قائلين بأن البدء في التنفيذ، وبالإضافة إلى البدء في تنفيذ الفعل المكون للركن المادي للجريمة، فهو أيضا البدء في ارتكاب كل فعل يعتبر ظرفا مشددا للجريمة، مثل الكسر والتسور والتسلق في جريمة السرقة، غير أن هذا التوسع لم يجعل النظرية تسلم من انتقادات جديدة، وأهمها أنه ليست كل الجرائم مما يمكن أن تقترن بالظروف المشددة، كما انه وفي الجرائم التي تقبل ذلك، هناك ظروف لا يمكن إخضاعها لهذا المعيار، مثل ظرف التعدد وظرف الليل في جريمة السرقة، حيث لا نكون أمام جريمة السرقة إذا ارتكبت نهارا، على عكس الحالة التي ترتكب فيها ليلا، لذا قيل أنه معيار غير دقيق.

لذا حاول أنصار هذا الاتجاه إنقاذه مرة أخرى، قائلين هذه المرة بأن البدء في التنفيذ هو ارتكاب فعل واضح الدلالة على النية الإجرامية للفاعل، حيث أنه إن كان العمل التحضيري يحتمل أكثر من دلالة كونه قابل للتأويل، فإن البدء في التنفيذ لا يفصح سوى عن دلالة واحدة، وهي اتجاه الجاني نحو ارتكاب الجريمة. غير أن ما يمكن ملاحظته بخصوص هذا التوسع، هو هجر الجوانب الموضوعية التي يعتمدها أنصار المذهب الموضوعي دوما، ودخولهم متاهات النوايا التي يعتمدها في الأصل أنصار المذهب الشخصي.

ثانيا: المذهب الشخصي أو الذاتي

مؤدى هذا الاتجاه، أن البدء في التنفيذ هو كل فعل يصدر عن الجاني ويفصح عن خطورته ونيته الواضحة في ارتكاب الجريمة، أي هو كل سلوك يسلك به الجاني نهائيا طريق الجريمة، ويصبح عدوله عنها أمرا غير محتمل، أو هو الفعل الذي يؤدي حالا ومباشرة إلى ارتكاب الجريمة، بحيث لم يعد يفصل الجاني عنها سوى خطوة صغيرة لو ترك وشأنه لخطاها، ويعبر عن ذلك بالقول: " حرق الجاني سفنه أو جسوره وراءه". ويلاحظ على هذه النظرية أنها تركز اهتمامها على إرادة الجاني، بحيث يعد بدءا في التنفيذ كل فعل يعد كذلك في نظر الجاني، إذ يؤدي حالا ومباشرة إلى ارتكاب الجريمة بحسب نيته، وهي النية التي تستخلص من الظروف المحيطة بالجاني، كسوابقه وعلاقته بالمجني عليه وأنواع الأسلحة والوسائل التي يستعملها... وبالتالي نكون أمام البدء في التنفيذ كلما كان الفعل الذي أتاه الجاني في ظروف معينة يكشف عن نيته الإجرامية ويدل على أنه لو ترك على حاله لأفضى الفعل إلى تحقيق النتيجة المجرمة.

ومن الانتقادات الموجهة لهذا المذهب، أنه مذهب تعوزه الدقة والوضوح والانضباط، إذ يصعب القطع بتوافر نية ارتكاب الجريمة لمجرد صدور فعل عن الجاني قد يحتمل أكثر من دلالة، وأنه اتجاه يقلب منطق الأمور، إذ عوضا أن يكون الفعل هو مظهر الاستدلال على النية، أصبحت هذه الأخيرة مظهر للدلالة على خطورة الفعل، وبعبارة مختصرة لا يمكننا دراسة الركن المعنوي للجريمة قبل دراسة ركنها المادي. وإن كانت هذه النظرية في حقيقة الأمر تحمي بفعالية المجتمع وتضحي بالحريات الفردية.

لكن وفي رأينا نرى بأن إعمال النظريتين معا، يمكن أن نحدد به، وإن لم يكن بدقة فبدرجة كبيرة، البدء في تنفيذ الجريمة، خاصة في الحالة التي لا نهمل فيها الظروف المحيطة بالفعل وبالجاني، كأن يكون الفعل ذاته صالحا لإحداث النتيجة المجرمة قانونا، وذلك بحسب المجرى العادي للأمور، مع مراعاة حالة الجاني والمجني عليه، وزمان ومكان ارتكاب الجريمة، ودون إهمال نية الجاني في الظروف التي ارتكب فيها فعله. ولعل ذلك ما دفع إلى ظهور المعيار المختلط أو المرن الذي توسط الاتجاهين السابقين.

ثالثا: المذهب المختلط ( المرن)

أمام الانتقادات التي وجهت لكلا الاتجاهين السابقين – وإن كان الاتجاه الموضوعي هو الأكثر قبولا قضاء- اقتنع الفقه بضرورة إيجاد معيار مختلط سمي بالمعيار المرن، حيث اعتبروا البدء في التنفيذ، هو الفعل الذي يؤدي حالا ومباشرة وفقا للمجرى العادي للأمور إلى ارتكاب الجريمة، وأن يقع هذا الفعل في زمن قريب نسبيا من لحظة تنفيذ الجريمة، وأن تكون نية الجاني واضحة لا غموض فيها على عزمه النهائي لارتكاب جريمته. وبالتالي المعيار وفقا لهذا الاتجاه، ليس موضوعيا بحتا ولا شخصيا صرفا، وإنما هو مزيج بينهما، يستمد من النظرية الموضوعية خطورة الفعل وصلاحيته وفقا للمجرى العادي للأمور لتحقيق النتيجة، ويستمد من النظرية الشخصية دلالة الفعل على عزم صاحبه على تحقيق الجريمة. كما يحسب لأنصار هذا الاتجاه عدم التقيد بالمعايير الجامدة والمجردة، بل تعتمد التقدير الواقعي المتغير الذي يختلف من جريمة لأخرى، ومن فاعل لآخر، سيما في ظل خطورة فكرة البدء في التنفيذ الذي يعد التضييق أو التوسع فيه تعديا على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، لذا رأى أنصار هذا الاتجاه، تقدير البدء في التنفيذ على ضوء جملة من الاعتبارات لا المعايير، وأهمها: وجوب ارتكاب فعل من الأفعال التي تدخل في تكوين الركن المادي للجريمة، كون الجرائم أفعال قبل كل شيء، وأن يكون فعل مرتبط على الأقل بالركن المادي برباط سببي وزمني يفضي في نهاية المطاف ووفقا للعادي والمألوف والمتصور إلى حدوث النتيجة المحظورة قانونا.
وأن يفصح السلوك السابق عن نية إجرامية نهائية لدى الجاني. زيادة على الأخذ بعين الاعتبار بكافة الظروف والملابسات، سواء تعلقت بالسلوك ذاته، أو بالجاني أو بالظروف المحيطة بهما معا، وهي الظروف والملابسات التي لا يمكن بأي حال من الأحوال حصرها سلفا كونها تنأى عن كل حصر، بل يترك تقديرها لقضاة الموضوع يقدرونها في كل حالة على حدا.

رابعا: رأي الفقيه البلجيكي جارو

وهي محاولة أيضا للمزج بين المذهبين الشخصي والموضوعي، حيث يرى هذا الفقيه الأخذ من المذهب المادي أو الموضوعي " الأفعال" لكن مع وصفها وتقييدها، حيث يعتد فقط بالأفعال التي لا لبس فيها التي تعبر صراحة على كونها بدء في التنفيذ، وهي تلك الأفعال التي لا تسمح بالعدول وتؤدي حالا ومباشرة لارتكاب الجريمة، وهو ما استمد من المذهب الشخصي، لذا فالبدء في التنفيذ commencement d’exécution هي تلك الأفعال التي لا لبس فيها non équivoque والتي تشكل فعلا بدء في التنفيذ، وتؤدي مباشرة إلى ارتكاب الجريمة Tendant directement à le commettre، واستعار أيضا عبارة أنصار المذهب الشخصي، وهي أن الجاني يقطع جسوره وراءه lorsque l’individu à ente,du couper les tous pont derrière lui.

خامسا: موقف المشرع الجزائري

نرى شخصيا انه باستقراء المادة 30 من تقنين العقوبات الجزائري، أن المشرع الجزائري أخذ بالرأي الأخير، أي رأي الفقيه البلجيكي جارو، حيث نصت هذه المادة على أنه:" كل محاولات لارتكاب جناية تبتدئ بالشروع في التنفيذ أو بأفعال لا لبس فيها تؤدي مباشرة إلى ارتكابها، تعتبر كالجناية نفسها إذا لم توقف أو لم يخب أثرها إلا نتيجة لظروف مستقلة عن إرادة مرتكبها حتى ولو لم يكن بلوغ الهدف المقصود بسبب ظرف مادي يجهله مرتكبها."[8].

غير أن المعيار الصحيح للبدء في التنفيذ، في رأي الكثير من الفقه، هو وجوب وجود علاقة موضوعية بين فعل الشروع وتلك الجريمة التي يراد الشروع فيها، وهي العلاقة التي تتحدد بتحديد الحكمة من تجريم الشروع ذاته، وهي تجريم الشروع لاعتدائه على الحق جزئيا أو تعريضه للخطر، لذا يجب أن يكون الفعل يمثل خطرا مباشرا أو مصر لخطر مباشر على الحق الذي تحميه القاعدة الجنائية، وهي الأمور التي لا يمكن أن تستنتج فقط من عقد العزم من قبل الشخص على الاعتداء على الحق المحمي قانونا، وإنما بناء على إمكانات موضوعية يصح القول معها أن العدوان على الحق قد صار وشيكا، أي أن يكون الفعل صالح حسب المجرى العادي للأمور أن يفضي مباشرة إلى الجريمة، وأن كل ما منع من تمامها هو حائل خارج عن إرادة الجاني، وهو ما يقتضي بالضرورة النظر إلى طبيعة الجريمة ذاتها، والظروف والملابسات التي صاحبت ارتكابها، لأنه ما يصلح لأن يكون بدء في تنفيذ جريمة ما، قد لا يكون صالحا لبدء تنفيذ جريمة أخرى، لذا فصلاحية الفعل يجب أن تكون على درجة من القوة يمكن القول معها بأن وقوع الجريمة أصبح أمرا وشيكا، وهي الأفعال التي تبدو للرجل العادي شديدة القرب من الجريمة إلى الحد الذي يحمله إلى الاعتقاد بأنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الوقوع، لذا فالمعيار هو ذو طبيعة موضوعية خالصة وما الركن المعنوي سوى نفسه في الشروع والجريمة التامة، وهي الحكمة من تجريم الشروع[9]. في حين يرى البعض وجوب تجاوز المعايير السابقة والوقوف عند تقدير واقعي متغير يتجاوز المعايير المجردة، خاصة وأن خطورة معيار البدء في التنفيذ مزدوجة، فهي إما أن تؤدي إلى التوسع أو التضييق من العقاب وفي الحالتين يكون ذلك على حساب مبدأ الشرعية الجنائية، لذا وجب تقدير معيار البدء في التنفيذ بناء على جملة من الاعتبارات لا المعايير المجردة، أهمها ارتكاب فعل من الأفعال المعتبرة من ماديات الجريمة أو على الأقل يرتبط بها برابطة سببية وزمنية تفضي في نهاية المطاف ووفقا للعادي والمألوف والمتصور إلى إحداث النتيجة المحظورة قانونا، وأن يفصح الشخص بهذا الفعل على نية إجرامية نهائية ليست مستقلة بل كاشفة عن دلالة الفعل الذي يوقع، أن يستهدف السلوك أو الفعل السابق المقرون بنية إجرامية مصلحة أو حق محمي قانونا، مع الأخذ بعين الاعتبار بكافة الظروف والملابسات المحيطة بفعل الجاني وبالجاني ذاته، وهي عوامل لا يمكن تحديدها سلفا ولا إخضاعها للحصر، بل تترك لقضاة الموضوع يقدرونها في كل حالة على حدة. ويعبر الفقه عن ذلك بمعيار اللامعيار للبدء في التنفيذ، لذا ينبغي تجاوز الصيغ النظرية المجردة وصولا إلى تقدير واقعي يمكن من أن يختلف الأمر من جريمة لأخرى، ومن جاني لآخر، خاصة في ظل أننا بصدد سلوكات إنسانية نسبية ومتغيرة بطبيعتها لا يمكن أن تحيط أية نظرية مهما بدت محكمة من الإحاطة بكافة جوانبه، لذا فلا مناص من إعمال المظاهر الواقعية التي تكتنف الجريمة ذاتها،وتتعلق بالفاعل نفسه

المطلب الثاني
العنصر الثاني من الركن المادي للشروع
عدم تمــــام الجريمة

الشروع في حقيقته مرحلة من مراحل الجريمة التامة، أو هو جريمة غير تامة، وعدم التمام راجع لوقف الفعل أو خيبة أثره، وهو ما يبين صور الشروع، وهما صورتان، الشروع الناقص أو الجريمة الموقوفة أين لا يتم السلوك بأكمله، وصورة الشروع التام أين يتم السلوك كله ولا تتحقق النتيجة، ويسمى الجريمة الخائبة.
ولا فرق قانونا بينهما حيث في كلاهما يتدخل المشرع بالعقاب على الشروع، وإن كانت فكرة الجريمة المستحيلة قد أثارت جدلا فقهيا وقضائيا كبيرين، من زاوية أن عدم تحقق النتيجة أمر وارد منذ البداية، حيث أن الإخفاق فيها ظاهر منذ البداية، وإن كان هذا الخلاف قد دفع بعض التشريعات إلى التدخل لفضه صراحة، إلا أن البعض الآخر لم يفعل مثلما هو الشأن بالنسبة لغالبية التشريعات، بما فيها المشرع الجزائري. لذا فتخلف النتيجة لسبب خارج عن إرادة الجاني، يعد العنصر الثاني من عناصر الركن المادي لجريمة الشروع، إذ لا يمكن أن نكون بصدد المحاولة أو الشروع إلا في الحالات التي لا تتم فيها الجريمة، إما لإيقاف الجاني عن إتمامها وهو وضع الشروع الناقص أو الجريمة الناقصة، أو لكون أثر سلوكه خاب
أو يستحيل أن يرتب النتيجة المقصودة مثل حالات الجريمة الخائبة أو الجريمة المستحيلة، وهي حالة الشروع التام. وبالتالي يجب أن يكون تخلف النتيجة بسبب ظرف أو سبب خارج عن إرادة الجاني،لأنه لو كانت لإرادته دخل في عدم تحقق النتيجة كنا بصدد العدول الاختياري الذي ينفي جريمة الشروع أصلا[10]، في حين هذه الخيرة تقتضي تخلف النتيجة لسبب أو ظرف خارج عن إرادة الجاني. لذا فهذا الركن يقتضي منا دراسة العدول الاختياري الذي يخرجنا من مجال جريمة الشروع، وتمييزه عن العدول الاضطراري الذي يقيم هذه الجريمة، وكذا تناول الحالات التي يلتبس فيها العدول. كما يقتضي منا الوضع الوقوف عن فكرة الجريمة المستحيلة.

الفرع الأول
العدول عن إتمام الجريمة

من شروط قيام جريمة الشروع، عدم تحقق النتيجة، على أن يكون ذلك راجع لسبب خارجي لا دخل لإرادة الجاني فيه، أي أن يكون مضطرا في ذلك، سواء أوقف أو منع، أو كانت النتيجة غير ممكنة الوقوع أو يستحيل وقوعها، وهو الأمر الذي يؤكد في مجال نظرية العدول، أنه حتى يكون هناك شروع، يجب أن يكون عدول الجاني عدولا اضطراريا، حيث إن كان اختياريا انتفت الجريمة، لذا فالمسألة تقتضي منا تناول العدول الاختياري أولا، باعتباره يخرجنا من نطاق جريمة الشروع، لنتناول بعده العدول الاضطراري الذي يبقينا في نطاق هذه الجريمة، وفي نقطة ثالثة نتناول نوع من العدول المختلط الذي يجمع بين النوعين السابقين.

أولا: العدول الاختياري

يهدف المشرع إلى خلق حافز لدى الجاني على عدم المضي في مشروعه الإجرامي إلى نهايته، فنص على عدم عقابه إن هو عدل بإرادته عن إتمام الجريمة التي شرع في تنفيذها، وهي الحالة التي تعرف بالعدول الاختياري أو العدول الإرادي، أين يقوم الجاني بنفسه بالحيلولة دون وقوع النتيجة، كأن يدخل لمنزل لأجل سرقته لكنه يعود أدراجه من تلقاء نفسه دون أن يقوم بسرقة الأموال، أو أن يشهر سلاحه في وجه غريمه ثم يعدل عن ذلك قبل الضغط على الزناد. ويرى البعض أننا نكون بصدد عدول اختياري إذا سارع الجاني إلى إلغاء مفعول النتيجة بعد وقوعها، كأن يقدم طعاما مخلوطا بالسم لغريمه، وسرعانما يسارع لتنبيهه وإعطاء الترياق للمجني عليه، مما يحول دون إحداث أثار السم، غير أن الفقه الفرنسي في هذه الحالة يسميه توبة إيجابية لاحقة، خاصة وأن جريمة التسميم في القانون الفرنسي – وهو نفس الوضع في القانون الجزائري- جريمة شكلية تقوم بمجرد تقديم السم دون ربطه بضرورة تحقيق النتيجة.

لذا فالعدول الإرادي بجب أن يكون مبعثه إرادة الجاني نفسه وليس سببا آخر[11]، ولا يهم بعد ذلك الدافع لهذا العدول، فقد يكون ندما أو الخوف من افتضاح الأمر أو شفقة على المجني عليه أو خشية إلقاء القبض عليه، أو حتى رغبة من الجاني في تأجيل التنفيذ لمرة أخرى لاحقة، وكل ما يهم في الأمر هو أن يكون العدول من تلقاء نفس الجاني، أي نابع من أسباب داخلية نفسية. لذلك يمكن القول أن شروط العدول الاختياري أو الإرادي هي:
- تراجع تلقائي من قبل الجاني عن إتمام جريمته بالرغم من قدرته على المضي فيها.
- أن يكون هذا التراجع نابع من إرادة الجاني وبكامل حريته.
- أن يكون العدول قبل إتمام الجريمة، وإلا أصبح مجرد توبة، وهذه الأخيرة تكون سببا لتخفيف العقاب لا لامتناعه.
- لا يمكن تصور العدول إلا في الشروع الناقص، أي الجرائم الناقصة لا الخائبة ولا المستحيلة.

ثانيا: العدول الاضطراري

وهو عدول غير إرادي أو غير اختياري، ويرجع إلى ظروف خارجية تفرض على الجاني عدم إتمام جريمته، بمعنى أن تكون إرادة الجاني مضطرة للعدول، كأن يصاب الجاني بحالة إغماء بعد بدءه التنفيذ ولا يستطيع إتمامها، أو كمن يدخل منزل مريدا سرقته ولا يجد أموال فيعود أدراجه، ففي هذه الحالات جريمة الشروع تكون قائمة وموجبة للعقاب، كون العدول كان بتأثير عوامل خارجية تدفع الجاني للعدول عن جريمته، في حين المشرع يشجع فقط العدول الاختياري ليكون دافعا لعدم المضي في إتمام الجرائم.

ثالثا: العدول المختلط

وهو عدول يكون ثمرة عوامل إرادية وأخرى غير إرادية، كالجاني الذي يخيل إليه سماع أصوات أقدام فيظن أنهم أصحاب البيت، فيعدل عن إتمام جريمة سرقة المنزل الذي كان قد دخله، أو يسمع بوق سيارة الشرطة فيعتقد باكتشاف أمره فيتوقف عن إتمام تنفيذ جريمته، وعموما هي حالات توجد فيها حقيقة ظروف خارجية بعيدة عن إرادة الجاني، غير أنها لا تصل إلى حد إجباره عن العدول، غير أنها أحدثت لديه بعض المؤثرات النفسية جعلت منه يعدل بالرغم من أنه كان بإمكانه المواصلة، وهنا ثار تساءل عما إن كان مثل هذا العدول عدولا إراديا يحول دون قيام جريمة الشروع، أم عدول اضطراري لا يحول دون قيام جريمة الشروع وعقاب الجاني عنها؟. أحدث حكم العدول المختلط خلافا فقهيا كبيرا، حيث ذهب بعض الفقه إلى ترجيح الطابع الإرادي للعدول باعتبار أن العامل الخارجي الذي اعتقده الجاني ما هو إلا باعث، ومن مبادئ القوانين العقابية الحديثة أنها لا تهتم بالبواعث، وبالتالي يلحق العدول المختلط في حكمه بالعدول الإرادي الذي لا تقوم به جريمة الشروع. بينما ذهب اتجاه فقهي آخر للقول بالطابع اللاإرادي للعدول المختلط، لأن العدول لا يكون إراديا إلا إذا كان مبعثه أسباب نفسية داخلية وما عدا ذلك فهو عدول اضطراري تقوم به جريمة الشروع وتوجب العقاب.

بينما ذهب اتجاه فقهي ثالث وسط، للقول بوجوب الاعتداد بالعامل الغالب في العدول، فإن كان العامل الغالب هو الإرادة، فالعدول يكون اختياريا لا تقوم به جريمة الشروع، وإن كانت العامل الغالب هو العامل الخارجي، كان العدول اضطراريا تقوم به جريمة الشروع، وفي حالة الشك في تغليب أحدهما للآخر يغلب العامل الإرادي لأن الشك يفسر لمصلحة المتهم. ونرى ترك المسالة للسلطة التقديرية للقاضي، ليقدر ما إن كان بإمكان الجاني الاستمرار في جريمته بالرغم من قيام الظرف الخارجي أم أثر في نفسيته بشكل حال دون تمكنه من الاستمرار في التنفيذ، فإن كان الاختيار بيد الجاني وعدل عن إتمام جريمته كان عدولا اختياريا، وفي الحالة العكسية يكون عدولا اضطراريا تقوم به جريمة الشروع، ودوما يفسر لشك في مصلحة المتهم. وهو الموقف الذي نراه متبعا في القانون الجزائري، فللقاضي أن يقدر المسألة تبعا لظروف كل قضية على حالـــة.










قديم 2013-01-29, 00:15   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
hadia369
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية hadia369
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفرع الثاني
الجريمة المستحيلة كصورة خاصة للشروع

قد يستحيل ارتكاب الجريمة وذلك بعدم تحقق نتيجتها لسبب لا دخل لإرادة الجاني فيه، كأن يطلق الشخص الرصاص اتجاه شخص آخر بقصد قتله، فإذا بهذا الأخير قد يكون توفي نتيجة سكتة قلبية قبل إصابته بالرصاص، أو كمن يضع يده في جيب شخص آخر بغرض سرقته لكنه يتفاجا بوجود الجيب فارغا، أو كمن يحاول قتل شخص بسلاح يكون قد أفرغ من قذائفه دون أن يعلم[12]، وهي ما تسمى بالجريمة المستحيلة التي أثارت خلافا فقهيا فرنسيا كبيرا، حول مفهومها ومدى ضرورة العقاب عليها، خاصة في ظل خلو تقنين العقوبات الفرنسي من نص يبين موقفه من هذا النوع من الجرائم[13]، لذا انصب الخلاف حول ما إن كان مد حكم الجريمة الخائبة على الجريمة المستحيلة، باعتبار أن المجرم في كلتا الحالتين يكون قد استنفذ كامل السلوك المجرم غير أن النتيجة تخلفت لسبب خارج عن إرادته، لذا ثار التساؤل عما كان يعاقب عليها مثل الجريمة الخائبة، أم أنها نوع من الجرائم يخرج أصلا من نطاق الشروع المعاقب عليه، باعتبارها جرائم مستحيل الوقوع منذ البداية.

وللإجابة عن هذا السؤال، ثار الخلاف مثلما هو عليه الوضع دوما بين الاتجاهين التقليديين، الاتجاه الموضوعي والاتجاه الشخصي، الأول ويضع نصب أعينه ماديات الجريمة ويرى عدم العقاب على الجريمة المستحيلة في كافة صورها، والثاني الخطورة الإجرامية لدى الجاني، ويرى العقاب على الجريمة المستحيلة بكل أنواعها، كون الجاني قد أبان عن خطورة إجرامية كانت كامنة لديه، غير أن تطرف المذهبين أدى في النهاية – ومثلما هو عليه الحال دوما- إلى ظهور مذاهب توفيقية، وهي مذاهب حاولت هذه المرة التفرقة بين صور الاستحالة، منها ما يرى أن الاستحالة قد تكون مطلقة وقد تكون نسبية، والثاني يرى أنها قد تكون قانونية وقد تكون مادية، وكل منها يحاول العقاب على نوع من الأنواع دون النوع الآخر.

أولا: الاتجــــاه الشخصي
العقاب على الجريمة المستحيلة في كافة صورها

يرى أنصار المذهب الشخصي بأنه لا فرق بين الجريمة المستحيلة والجريمة الخائبة، وبين النوعين والجريمة الموقوفة، ففي كل هذه الأنواع يكون الجاني مرتكبا لجريمة الشروع، وعلة ذلك أن المشرع في عقابه على الشروع لم ينظر إلى الضرر المادي الذي قد يصيب الفرد والمجتمع من جريمة الشروع، بل ينظر إلى الخطورة الإجرامية التي أظهرها الجاني بأفعال خارجية ذات صلة مباشرة بالجريمة، فكلما توفرت مثل هذه الخطورة لدى الجاني توجب عقابه دون حاجة للبحث ما إن كانت الجريمة مستحيلة أو ممكنة أو ما إلى غير ذلك، فوفقا لأنصار هذا الاتجاه، استحالة تحقق النتيجة في الجريمة المستحيلة لا يمحي عن الجاني خطورته الإجرامية، سيما وأن علة العقاب على الشروع هو عدم تعريض المصالح والحقوق للخطر، وهو ما عيب عليها، كون الخطورة تستمد من خطورة الفعل ذاته مضافا لها خطورة الجاني.

ثانيا: الاتجاه الموضوعي ( المادي )
عدم العقاب على الجريمة المستحيلة في كافة صورها

وهو أقدم الاتجاهات والذي يتبناه الفقه الألماني وبعض الفقه الفرنسي، والذي يبنون رأيهم على أنه لا يمكن الشروع فيما لا يمكن الشروع فيه، ولا يمكن البدء في تنفيذ ما لا يمكن تنفيذه، وأن كل ما أفصح عليه الجاني في الجريمة المستحيلة، هو نية إجرامية، والقانون لا يعاقب على النوايا ما لم ترتب أضرارا اجتماعية، وفي الجريمة المستحيلة لا يوجد ضرر ولا مجرد تهديد بحصول هذا الضرر، وبالتالي الأمر لا يستحق لا التجريم ولا العقاب. غير أن ما وجه لهذه النظرية من انتقادات هو تضييقها كثيرا من نطاق العقاب مما يعصف بحقوق المجتمع، فالشخص الذي يضع يده في جيب شخص آخر ويجده خاويا وفقا لهذه النظرية لا يعاقب، بالرغم من أن فعله يعد شروعا تاما، لذلك هجرت هذه النظرية ولم يبق في الفقه من يؤيدها.

ثالثا: الاتجـــاه التوفيقي
التفرقة بين أنواع الاستحالة

من بين أهم الاتجاهات التوفيقية التي حاولت الجمع بين مزايا المذهبين المادي والشخصي وهجر مساوئهما، اتجاهين رئيسيين، أحدهما فرق بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية، والثاني فرق بين الاستحالة القانونية والاستحالة المادية، وكل منهما حصر العقاب على نوع دون الآخر، وفق ما سيتضح من الآتي.

1- التفرقة بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية
قصر العقاب على الاستحالة النسبية دون الاستحالة المطلقة

وهو اتجاه ينسب في حقيقة الأمر لأنصار المذهب الموضوعي أو المادي، وميزوا بين نوعين من الاستحالة، استحالة مطلقة ولا عقاب عليها، واستحالة نسبية تبرر عقاب الجاني. ورأوا بأن الاستحالة المطلقة قد تتعلق بمحل الجريمة أو بوسيلة ارتكابها، ومثال الأولى أن يكون المحل المادي للجريمة أو موضوعها منعدما، كأن يكون الشخص المراد قتله في جريمة القتل متوفيا من قبل، أو محاولة إجهاض امرأة غير حامل أصلا، ومثال عدم صلاحية الوسيلة كاستعمال سلاح ناري للقتل ويكون غير صالح لذلك، أو يكون خاليا من الرصاص أو محاولة التسميم بمادة غير مؤذية للصحة تماما. وهنا لا يمكن القول بوجود جريمة الشروع ولا يمكن العقاب عليها.
وأما الاستحالة النسبية فقد ترد أيضا على المحل أو على الوسيلة، لكن لا أن يكون المحل غير موجود أصلا أو الوسيلة غير صالحة أصلا، وإنما أن يكون المحل وقت الجريمة فقط غير موجود،
أو استعمال الوسيلة لم يكن بالنحو الصحيح لتشغيلها، ففي مثال جريمة القتل، كأن يكون المجني عليه لحظة ارتكاب الفعل غير موجود بالمكان الذي اعتاد أن ينام فيه، أو استعمال السلاح لم يكن بالطريقة السليمة،
أو في جريمة السرقة السابقة نقل المجني عليه قبل ارتكاب الجريمة إلى جيب آخر. وفي هذا النوع من الاستحالة تقوم جريمة الشروع ويعاقب المجني عليه. كون الاستحالة في هذا النوع عبارة فقط عن جريمة خائبة لا مستحيلة.
وهي التفرقة التي انتقدت بشدة من قبل الفقه، على اعتبارها تفرقة غير منطقية، كون الاستحالة نوع واحدة وحالة واحدة ولا تقبل أي تفرقة، فالجريمة إما أن تكون ممكنة وإما ألا تكون ممكنة، أي مستحيلة، ولا توجد درجات للاستحالة. لذا ظهر اتجاه آخر وسط يفرق بين أنواع الاستحالة، لكن يقول بنوعين آخرين منها، وهي استحالة قانونية وأخرى مادية.

2- التفرقــــة بين الاستحالة المادية والاستحالة القانونية
قصر العقاب على الاستحالة المادية دون الاستحالة القانونية

وهو اتجاه وسط تبناه فريق من الفقه الفرنسي، والذي على غرار ما قام به أنصار الاتجاه الأول، قام بالتفرقة بين نوعين من الاستحالة، لكنه جعلها استحالة مادية وأخرى قانونية، وقصر العقاب على الاستحالة المادية دون الاستحالة القانونية. ووفقا لهذا الاتجاه، الاستحالة القانونية قد ترجع بصفة عامة إلى انعدام محل الجريمة أو انتفاء عنصر من عناصرها القانونية، فهنا لا جريمة ولا شروع ولا عقاب، حيث الجريمة لا تقوم أصلا بدون عنصر من العناصر المتطلبة قانونا لقيامها، كسبق وفاة المراد قتله أو ملكية الجاني للمال المسروق الذي اعتقد أنه ملك للغير، في حين الاستحالة المادية ترجع إلى سبب مادي واقعي لا قانوني، كعدم استعمال وسيلة ارتكاب الجريمة استعمالا سليما، وهنا تقوم جريمة الشروع ويعاقب عليها الجاني.

رابعا: موقف المشرع الجزائري من الجريمة المستحيلة

يتضح من نص المادة 30 من تقنين العقوبات الجزائري، أن المشرع الجزائري يعاقب على الجريمة المستحيلة، إذ يعاقب بصراحة على الاستحالة المادية وفقا للرأي السابق، حيث استعمل فكرة " الظرف المادي" دون الظرف القانوني، لأن هذا الأخير لا يقيم الجريمة أصلا، حيث نصت المادة على أنه:" ...حتى ولو لم يمكن بلوغ الهدف المقصود بسبب ظرف مادي يجهله مرتكبها.". غير أن المشرع يستثني بعض الحالات الخاصة، مثلما هو الشأن بالنسبة لجريمة الإجهاض، المنصوص والمعاقب عليها بموجب نص المادة 304، حيث يتوقف العقاب على هذه الجريمة على حمل المرأة أو مجرد افتراض حملها. في حين يرى البعض تعليق العقاب على الجريمة المستحيلة على عنصر " العلم"، وهو أهم عناصر القصد الجنائي، حيث إن كان الجاني لا يعلم بأن الوسيلة غير صالحة لإحداث النتيجة، أو أن محل الجريمة لا يوجد أو منعدم عوقب، أما إن كان يعلم بذلك فهو لا يعاقب كون علمه هذا يقود لعلمه أن النتيجة مستحيلة الحدوث وبالتالي يعلم جيدا أن الجريمة لا تقوم[14].

.

المطلب الثالث
الركن المعنوي لجريمة الشروع

الشروع جريمة، وبالتالي لا يكفي لقيامها مجرد البدء في تنفيذ الركن المادي للجريمة، وعدم تحقق النتيجة، وإنما يجب أن يتوفر لدى الجاني قصد تحقيق هذه الجريمة، وهنا يمكن القول بأنه لا فرق بين جريمة الشروع والجريمة التامة من حيث الركن المعنوي، بل الفرق ينحصر في الركن المادي فقط، وبالضبط في عنصر النتيجة، حيث تتحقق في الجريمة التامة، وتتخلف في جريمة الشروع. لذا يمكن القول أن جريمة الشروع جريمة عمدية يجب لقيامها اتجاه قصد الجاني إلى إتيان السلوك المجرم بقصد تحقيق النتيجة المجرمة قانونا، وبمعنى آخر يجب أن تنصرف إرادة الجاني في البداية إلى تحقيق جريمة تامة، وليس مجرد الشروع فيها، فإذا ثبت أن إرادة الجاني لم تتجه إلى إتمام الجريمة، وإنما الوقوف بفعله عند حد معين، كالجرح مثلا، فلا يمكن أن يسأل عن المحاولة في القتل، لأنه لم يقصد تحقيقه، بل يسأل عن الضرب المفضي للوفاة باعتباره جريمة مستقلة وقائمة بذاتها. ونتيجة لما سبق، سنحاول دراسة الشروع في الجرائم غير العمدية وفي الجرائم المتجاوزة القصد.

الفرع الأول
الشروع في الجرائم غير العمدية

دون استعراض الخلاف الفقهي، يمكن القول مباشرة، أنه لا يمكن تصور الشروع في الجرائم غير العمدية، كون الركن المعنوي في هذا النوع من الجرائم لا يقوم على إرادة تحقيق النتيجة، بل هذه الأخيرة تحققت فقط لاتخاذ سلوك خاطئ، وسبق القول في الشروع أن الجاني يريد تحقيق النتيجة وتتخلف لظرف خارج عن إرادته، وبالتالي لا شروع في الجرائم غير العمدية، وإن كان يمكن تخلف جريمة يقيم جريمة غير عمدية أخرى، فقيادة السيارة بسرعة فائقة في طريق مزدحم بالمارة لا يعد شروعا في القتل الخطأ لكن يقيم جريمة تجاوز السرعة المحددة قانونا، وإصابة شخص دون أن تحدث له الوفاة، لا يعد جريمة الشروع في القتل الخطأ، بل يشكل جريمة أخرى هي جريمة الجروح الخطأ.

الفرع الثاني
الشروع في الجرائم المتعدية ( المتجاوزة) القصد

وهي جرائم يقترف فيها الجاني سلوكا معينا قاصدا منه تحقيق نتيجة إجرامية معينة، فإذا بالنتيجة التي تتحقق تكون أشد جسامة، لكن لم يكن يقصدها الجاني إطلاقا، وبالتالي لا يمكن تصور الشروع فيها كونها نتيجة كانت غير مقصودة أصلا، والركن المعنوي في جريمة الشروع يقتضي إرادة النتيجة ورغم ذلك تتخلف.
وإذا ما قامت أركان الشروع السابقة، فإن عقوبة الشروع في القانون الجزائري عقوبة ذات عقوبة الجريمة التامة، وهو اتجاه موقف قانوني يساوي بين الجريمة التامة وجريمة الشروع، وإن كانت هناك قوانين تخفف من جرائم الشروع مقارنة مع الجريمة التامة، غير أن هذا الموقف المتعلق بالمساواة في العقاب هو الموقف القانوني للمشرع ولا يوجد ما يمنع القاضي من إعمال سلطته التقديرية في تقدير العقوبات ومبدأ تفريد العقاب.










قديم 2013-01-29, 00:16   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
hadia369
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية hadia369
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

المبحث الثالث
المساهمــــة الجنائية
الاشتراك الجنائي أو الإسهام الجرمي

لئن كانت الجريمة في صورتها العادية تقع من شخص واحد، إلا أنها قد تمثل أحيانا مشروعا إجراميا يسهر ويقوم على تنفيذه أكثر من شخص واحد، فتتحول الجريمة إلى مشروع جماعي بعدما كانت مشروعا فرديا، وهو ما يمثل فكرة المساهمة الجنائية التي تعني ارتكاب الجريمة الواحدة من طرف شخصين أو أكثر، وهي الفكرة التي نظمها المشرع الجزائري في المواد من 41 إلى 46 من تقنين العقوبات الجزائري، وذلك تحت عنوان: "المساهمون في الجريمة".

ماهية المساهمة الجنائية

تقتضي النظرية العامة للجريمة، أن المشرع لا يتدخل بالعقاب عليها إلا إذا اكتملت أركانها بغض النظر عن الشخص الذي ارتكبها، إلا أنه هناك حالات يقوم فيها العديد من الأشخاص الذي يتقاسمون الأدوار التي تختلف وتتفاوت في طبيعتها ودرجتها في تنفيذ هذه الجريمة، وهو المقصود من المساهمة الجنائية.
وتختلف المساهمة الجنائية التي نحن بصدد دراستها، عن فكرة المساهمة الضرورية التي يقصد بها تلك المساهمة القانونية التي تتطلبها بعض أنواع الجرائم التي لا تقبل بطبيعتها أن يرتكبها شخصا واحدا، مثل جريمة الرشوة التي تتطلب الراشي والموظف المرتشي، وجريمة الزنا التي تطلب شخصين احدهما يكون متزوجا، وجريمة التآمر التي تتطلب العديد من الأشخاص الذين يتآمرون ضد الوطن... والعديد من الجرائم الأخرى التي لا تقوم بطبيعتها ووفقا للقانون بفعل شخص واحد.
في حين أن فكرة المساهمة الجنائية التي نحن بصدد دراستها، تعني أن الجريمة من الجرائم القابلة بطبيعتها أن يرتكبها شخصا واحدا، إلا أننا نجد العديد من الأشخاص الذين يساهمون في تنفيذها، سواء تامة أو عند مرحلة الشروع، وبالتالي هي فكرة تتطلب جريمة واحدة – فالجرائم المتعددة تبعدنا عن فكرة المساهمة الجنائية-، كما تتطلب تعدد الجناة- إذ الجاني المنفرد يبعدنا أيضا عن فكرة المساهمة الجنائية-. لذا فالمساهمة الجنائية، تتطلب وحدة الجريمة وتعدد الجناة. وهما الشرطين الضروريين لجعلنا أمام هذه الفكرة الجنائية.

أولا: وحـــدة الجريمة

تقتضي فكرة المساهمة الجنائية أن يرتكب العديد من الجناة جريمة واحدة تقبل طبيعتها أن يرتكبها شخصا واحدا، لذا يجب أن تتضافر جهود هؤلاء في تنفيذ الجريمة،- وذلك بأن تجمع بينهما الوحدة المادية- وحدة الركن المادي- والوحدة المعنوية – وحدة الركن المعنوي-.

1- الوحدة المادية:
فكرة المساهمة الجنائية تقتضي قيام العديد من الجناة الذين تختلف وتتفاوت أدوارهم في ارتكاب جريمة واحدة، ووحدة الجريمة أول ما تتجسد فإنها تتجسد في وحدة الركن المادي لها، وهذا الأخير يتطلب وحدة السلوك ووحدة النتيجة، لكن إن كانت نتيجة الجريمة واحدة، فوحدة السلوك وإن كانت تعني سلوك واحد أدى لحدوث النتيجة السابقة، غير انه سلوك مشكل من تعدد الأفعال المشكلة لسلوك إجرامي واحد، وأن يساهم كل فعل من هذه الأفعال في تحقيق النتيجة وأن يرتبط بها برابطة سببية، بحيث لو استبعدنا فعل من هذه الأفعال وبالرغم من ذلك حدثت النتيجة، فالقائم بهذا الفعل لا يعد مساهما في الجريمة. وبالتالي يمكن القول بأن فكرة الوحدة المادية تعني وحدة الركن المادي، والتي تتأكد من خلال وحدة النتيجة وارتباطها برابطة سببية مع كل الأفعال التي أتاها الجناة، أي أن يتوفر لدى كل جاني عناصر الركن المادي الأساسية والمتمثلة في سلوك ونتيجة علاقة سببية تربط بين هذا السلوك والنتيجة الواحدة التي تحققت.

2-الوحدة المعنوية:
ويقصد بها أن تكون هناك وحدة ذهنية ورابطة معنوية تجمع بين جميع المساهمين في ارتكاب الجريمة، وذلك من علم وإرادة تهدف إلى ارتكاب نفس النتيجة سواء كان بينهم اتفاق سابق أو مجرد تفاهم، والتفاهم هو مجرد توفر نية الاشتراك معاصرة لارتكاب الجريمة، عكس الاتفاق الذي يكون سابقا لارتكاب الجريمة فإن التفاهم يكون معاصرا لها، أي لحظة ارتكابها، كأن يرى أحدهم يجري وراء الآخر لأجل قتله، فيمسك به بغرض تمكين الجاني منه بالرغم من أنه لم يكن هناك اتفقا سابق بينهما، وقد لا يكون يعرفه أصلا. وفقدان مثل هذه الرابطة المعنوية، يحول الجريمة من جريمة مساهم فيها إلى مجموعة جرائم.
ثانيا: تعدد الجـــــناة
سبق القول بأن المساهمة الجنائية تفترض وحدة الجريمة بركنيها المادي – وإن كانت النتيجة واحدة فالأفعال متعددة- والمعنوي، وأن يساهم العديد من الأشخاص في ارتكاب هذه الجريمة، أي وجود أكثر من جاني واحد يساهم في هذه الجريمة التي تصبح تشكل لهم مشروعا إجراميا واحدا، وبالتالي وجود العديد من الأشخاص الذين يرتبكون العديد من الجرائم لا يجعلنا أمام المساهمة الجنائية، ولا وجود شخص واحد يرتكب العديد من الجرائم، إذ هذا الوضع يجعلنا أمام فكرة تعدد جرائم الشخص الواحد.

هذا وبعد أن تناولنا مفهوم المساهمة الجنائية، وشروطها، سنحاول من خلال ثلاثة مطالب أن نتناول المشاكل التي تثيرها المسؤولية الجنائية، لنخصص المطلبين الآخرين لنوعيها، المساهمة الأصلية والمساهمة التبيعة.
المطلب الأول
المشاكل التي تثيرها المساهمة الجنائية

إن ارتكاب جريمة واحدة بركن مادي واحد تتعدد فيها الأفعال والنتيجة واحدة، وكل فعل من هذه الأفعال يساهم في إحداثها ويرتبط بها برابطة سببية، يجعلنا نتساءل عن دور كل فعل من هذه الأفعال في تحقيق هذه النتيجة الواحدة، حيث أنه من المؤكد أن دور هذه الأفعال ليس متساويا، ومن ثم فمن الضروري ألا تكون مسؤولية كل المساهمين على نفس القدر من الأهمية، وهنا كان من الواجب تحديد دور كل منهم لتحديد مسؤوليته، وهو ما يثير فكرة تحديد دور كل مساهم في إحداث النتيجة المحظورة قانونا.

الفرع الأول
تقييم الأدوار لتحديد المسؤوليات

لأجل تحديد دور كل مساهم من المساهمين، ودور الفعل الذي قام به في إحداث النتيجة المحظورة قانونا، وبالتالي تحديد قدر مسؤوليته عن الجريمة التي ارتكبت كثمرة لنشاطات الجميع، ظهر اتجاهين أساسيين، أولهما لا يفصل بين المساهمين ولا يولي أهمية لأية تفرقة بينهم، والثاني يقيم تفرقة بينهم ويجعل منهم مساهمين وشركاء، وسمي الأول بمذهب التوحيد بين المساهمين، وسمي الثاني بمذهب استقلال المساهمين، وهو ما نوضحه في النقطتين التاليتين.

أولا: مذهب التوحيد بين المساهمين

وهو مذهب يعتمد على نظرية تعادل الأسباب التي سبق وأن بيناها في دراسة علاقة السببية، حيث يرى أنصار هذا المذهب أن منطق الأمور لا يتفق والتمييز بين أعمال الجناة القائمين على تنفيذ جريمة واحدة، فالجريمة حسنهم هي نتاج تضافر جميع جهود المساهمين فيها، وكل مساهم فيها أيا كان الفعل الذي أتاه ودور هذا الفعل في إحداث النتيجة، فهو مسؤول عن هذه الجريمة مسؤولية كاملة، باعتباره فاعلا لها لا باعتبار فعله ساهم في إحداث النتيجة. وعليه فجميع أعمال المساهمين متساوية في إحداث النتيجة، وهي بذلك متساوية في الأهمية، كما هي متساوية أيضا في المسؤولية الجنائية، وبذلك يستبعد أنصار هذا المذهب كل تفرقة بين الفاعل والشريك، بل الكل يعد فاعل أصلي للجريمة.

غير أن هذا المذهب وجهت له العديد من الانتقادات، أهمها أن الجريمة الواحدة يستحيل أن يرتكبها العديد من الفاعلين الأصليين فقط، لأن ذلك يؤدي إلى تعدد الجرائم وهو أمر غير منطقي في مجال فكرة المساهمة الجنائية، إذ هذه الفكرة تقتضي أن نكون بصدد جريمة واحدة يسهر على تنفيذها العديد من الجناة، كما أن المساواة بين كل الفاعلين أمر يجافي العدالة، ويتنافى ومبدأ التفريد العقابي الذي يقوم على فكرة إنزال العقوبات تبعا لخطورة كل مجرم على حدة، لذا نجد غالبية الرأي الفقهي والموقف التشريعي والقضائي يرفض هذا الرأي.

ثانيا: مذهب استقلال المساهمين

وهو مذهب يقيم تفرقة بين الفاعلين الأصليين والشركاء، وهو الرأي الراجح فقها وقضاء، واتبعته غالبية التشريعات، وهو مذهب بنادي أنصاره بوجوب التمييز بين المساهمين في الجريمة بحسب الدور الذي قام به كل منهم، وعلى ذلك تقسم أدوار الجريمة إلى نوعين، أدوار رئيسية يقوم بها المساهمين الأصليين، وأدوار ثانوية يقوم بها الشركاء أو الفاعلين التبعيين. غير أن أنصار هذا الاتجاه انقسموا بخصوص المعيار الذي يمكن من التمييز بين الأفعال الرئيسية والأفعال الثانوية أو التبعية، وبالتالي المعيار الذي يبين الفاعلين الأصليين والفاعلين التبعيين أو الشركاء، وكالعادة تنازع المسألة المذهبان المادي والشخصي. الأول ويركز كالعادة على الركن المادي للجريمة، والثاني على الركن المعنوي لها أو نية الفاعل.

1- المذهب الشخصي :
وهو المذهب الذي ركز على الركن المعنوي أو النفسي للجريمة، ورأى أنصاره بأن الركن المادي للجريمة لا يمكننا من التمييز بين الأعمال الرئيسية والأعمال الثانوية، لذا يجب إعمال الركن المعنوي، وذلك بالاستناد إلى نية وإرادة المساهم وما إن كان يريد أن يكون فاعلا أصليا أو مجرد شريك، فالفاعل الأصلي تتجه إرادته إلى تحقيق النتيجة على أساس أنها تحقق مصلحته وهو سيدها، بينما الشريك هو من توفرت لديه فقط نية الاشتراك، وأن تتجه إرادته لأن يكون فعله مجرد فعل يساعد ويدعم به أفعال الفاعل الأصلي، فالجريمة ليست مشروعه الإجرامي ولا يريد تنفيذها ما لم ينفذها غيره. غير أن هذا المذهب غامض وصعب للإثبات، إذ كيف يمكننا الغوص في أغوار النفس واستخلاص نية الشخص وتبينها والحكم عليها ما إن كانت تريد الجريمة كمشروع أو اشتراك فقط. لذا هجر هذا المعيار من غالبية الفقه وأحكام القضاء.



2- المذهب الموضوعي أو المادي:
وهو المذهب الذي يركز أنصاره على الركن المادي للجريمة للتمييز بين الأفعال الرئيسية التي يعد صاحبها فاعلا أصليا للجريمة، وبين الأفعال الثانوية التي يعد فاعلها مجرد شريك، وذلك بالاستناد لنوع العمل ومدى خطورته المادية، فمتى كانت الأعمال خطيرة فالمساهمة تكون أصلية، ومتى كانت الأعمال ثانوية وأقل جسامة وخطورة كانت المساهمة تبعية وفاعلها مجرد شريك.
وللتمييز بين الأعمال الخطيرة وتلك الأقل خطورة، يرى أنصار هذا الاتجاه الاستناد للركن المادي للجريمة ذاته، فالأعمال الخطيرة هي كل فعل يدخل في الأعمال التنفيذية المشكلة للركن المادي للجريمة، سواء كله أ جزء منه، أما الأعمال الثانوية غير الخطيرة، فهي تلك الأفعال التي لا ترقى لمرتبة الأفعال التنفيذية المكونة للركن المادي للجريمة، بل مجرد أعمال مسهلة أو محضرة للأعمال التنفيذية السابقة، ويعمل في ذلك بمعيار البدء في التنفيذ الذي سبق وان بينته هذه النظرية في جريمة الشروع. وبالتالي استقر الفكر القانوني على ضرورة التمييز بين الفاعل الأصلي والشريك، لكن ثارت مسألة البحث عن طبيعة العلاقة بينهما، وهو ما نتناوله في النقطة الموالية.

الفرع الثاني
طبيعة العلاقة بين الفاعل الأصلي والشريك

في الحقيقة إن أعمال الشريك هي مجرد أعمال تحضيرية غير معاقب عليها في ذاتها، لولا فعل الفاعل الأصلي الذي يجذبها لدائرة التجريم ويكسبها قيمة قانونية، وبمعنى آخر أعمال الشريك تجرم فقط لتبعيتها لفعل مطابق للنموذج التشريعي للجريمة، وبالتالي هناك علاقة فعلية وقانونية بين أعمال الشريك وأعمال الفاعل الأصلي، وهي العلاقة التي لا يمكن إنكارها بأي حال من الأحوال، لكن السؤال يتعلق بالبحث في طبيعة هذه العلاقة، وهي الفكرة التي حاول الفقه بحثها، لكنه اختلف حول تكييفها، ويمكن رد هذا الخلاف إلى نظريتين أساسيتين، نظرية تقليدية وهي نظرية الاستعارة، ونظرية حديثة وسميت بنظرية التبعية، وهو ما نبينه في النقطتين التاليتين.

أولا: نظرية الاستعارة

وهي نظرية يرى أنصارها بأن الشريك يستعير إجرامه من فعل الفاعل الأصلي، إذ هناك علاقة استعارة بين الفاعل الأصلي والشريك، حيث يضفي فعل الأول الصفة الإجرامية على الفعل الثاني، أو أن الشريك يستعير الصفة الإجرامية لأفعاله غير المجرمة أصلا من فعل الفاعل الأصلي، لكن داخل هذا الاتجاه ذاته ثار التساؤل حول مدى هذه الاستعارة، وهنا انقسم هذا الاتجاه ذاته إلى اتجاهين، أحدهما يرى أنها استعارة مطلقة والآخر يراها مجرد استعارة نسبية.

1- نظرية الاستعارة المطلقة:
ويرى أنصارها أن الفاعل الأصلي يلقي بظله كاملا على الشريك، بمعنى أن هذا الأخير يستعير كل الظروف العينية والشخصية اللصيقة بالجريمة وبالفاعل الأصلي، مما يجعلهما متساوين في المسؤولية الجنائية والتي تعني أيضا تطبيق نفس الجزاء الجنائي عليهما.

2- نظرية الاستعارة النسبية:
وهي النظرية التي يرى أنصارها عكس رؤية أنصار النظرية الأولى، ويرون بأن الشريك يستعير من الفاعل الأصلي التجريم دون العقاب، حيث يستعير منه الظروف العينية الموضوعية اللصيقة بالجريمة، دون الظروف الشخصية اللصيق بالفاعل، مما يجعلهم غير متساوين في المسؤولية ولا في الجزاء.

ثانيا: نظرية التبعية

وهي نظرية في الحقيقة تستند لفكرة مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه المعروفة في القانون المدني، ويرى أنصارها أن فعل الشريك هو فعل مستقل في ذاته عن فعل الفاعل الأصلي، غير أنه غير مستقل استقلالا تاما، إذ وقوع فعل الفاعل الأصلي المتمثل في اقتراف الركن المادي للجريمة، يجعل من فعل الشريك يتبعه وتصبغ عليه الصفة الإجرامية، وإلا فلا مجال للقول باشتراكه في الجريمة، غير أن كل منهما مستقل بظروفه الشخصية، وبالتالي يستقل كل واحد بخصوص الجزاء بحسب الخطورة الإجرامية، كما يستقلان في المسؤولية المدنية، ولا يسأل الشريك عن الجرائم المحتملة التي يقترفها الفاعل الأصلي.










قديم 2013-01-29, 00:21   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
hadia369
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية hadia369
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

المطلب الثاني
المساهـــمة الأصــلية
الفاعــل الأصلــــــــي
المادتان 41 و45 من قانون العقوبات الجزائري

يمكن القول اختصارا أنه لا جريمة دون فعل ولا جريمة دون فاعل، وهو الفاعل الذي قد يكون وحيدا أو متعددا، أو وحيدا وله شريك أو عدة شركاء، أو عدة فاعلين لهم شريك واحد أو عدة شركاء، وبالتالي لا جريمة بشركاء فقط، وفاعل الجريمة قد يرتكبها بصورة مباشرة مثل الفاعل المادي أو الفاعل المباشر، وقد يرتكبها بطريقة غير مباشرة مثل المحرض أو الفاعل المعنوي. لكنهما يبقيان صاحبا الجريمة.
والفاعل الأصلي وفقا لتقنين العقوبات الجزائري نصت عليه المادتان 41 و45، حيث بينت الأولى الفاعل المادي أو الفاعل المباشر، وذلك في الفقرة الأولى منها، في حين بينت الفقرة الثانية المحرض، في حين تناولت المادة 45 فكرة الفاعل المعنوي.

المطلب الأول
الفــــاعل المـــــباشر
( الفاعل المادي أو الفاعل المنفرد )

يعرف الفقيه الفرنسية رو Roux الفاعل المادي المنفرد أو الفاعل المباشر، بأنه:" الشخص الذي ساهم نشاطه أو امتناعه في ارتكاب الجريمة."، وبالتالي الفاعل هو من يرتكب الواقعة المجرمة بنص القانون، أو هو الشخص الذي يتولى لوحده تنفيذ كافة الأفعال المكونة للجريمة، بحيث لا يكون من أحد على مسرح الجريمة غيره، وهو ما يقتضي بحث فكرة الركن المادي والركن المعنوي لديه.

الفرع الأول
الركن المادي لجريمة الفاعل المباشر

نصت المادة 41 من تقنين العقوبات الجزائري، وفي توضيحها لمعنى الفاعل المباشر بأنه:" ... من ساهم مساهمة مباشرة في تنفيذ الجريمة"، وبالتالي الفاعل المباشر هو الفاعل الذي تكون مساهمته مباشرة في ارتكاب الجريمة، فما معنى المساهمة المباشرة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة 41 من تقنين العقوبات الجزائري ؟
المساهمة المباشرة في تنفيذ الجريمة، هي إتيان الأفعال الأعمال التنفيذية المكونة للركن المادي للجريمة، سواء كان شخصا منفردا أو عدة فاعلين أصليين، ومعيار البدء في التنفيذ هو المعيار المحدد للأعمال التنفيذية للركن المادي على النحو المبين سابقا، بالإضافة إلى إعمال معيار آخر مكمل، وهو المتمثل في ظهور الجاني على مسرح الجريمة وأن يكون لصيق الصلة بالتنفيذ ومعاصر له.
غير أنه هناك حالات يظهر فيها الشخص وكأنه بعيد عن مسرح الجريمة، غير أنه يعد فاعلا مباشرا للجريمة، مثل خادم المنزل الذي يترك باب سيده مفتوحا لتمكين اللصوص من سرقته، وكذا مراقب الطريق، والشخص الذي يمسك بالشخص الهارب من غريمه ليمكن هذا الأخير من قتله – في هذه الحالة الشخص في الحقيقة موجود على مسرح الجريمة-... مما يعني أن معيار الظهور على مسرح الجريمة ليس معيارا حاسما في كل الحالات.
.

الفرع الثاني
الركن المعنوي لجريمة الفاعل المباشر

يجب أن يتوفر لدى الفاعل المباشر أو الفاعل المادي مع غيره من الفاعلين أو الشركاء – كوننا بصدد نظرية المساهمة الجنائية- رابطة ذهنية واحدة، وذلك بأن يكون كل المساهمين في الجريمة على علم بكل الأفعال التي تتضافر لتحقيق الركن المادي للجريمة، ويريدون النتيجة التي تسفر عن جميع الأفعال المتضافرة السابقة، والعلم يجب أن ينصرف لما هو من عمل الشخص وكذا عمل غيره من باقي المساهمين، وأن يريد كل مهم النتيجة أو النتائج المتمخضة عن هذه الأفعال.

وأن انتفاء الرابطة المعنوية والذهنية لدى الجناة، يخرجنا من مجال المساهمة الجنائية ويجعلنا نسأل كل فاعل عن جريمة مستقلة بقدر السلوك الذي أتاه، لذا فإن إطلاق الرصاص على مجني عليه واحد من قبل العديد من الفاعلين وفي لحظة واحدة يجعلهم مساهمين في جريمة القتل متى توفرت لديهم وحدة الرابطة الذهنية، غير أنه إذا انتفت هذه الأخيرة، سأل الشخص الذي أصابت رصاصته المجني عليه عن جريمة قتل عمدن وسأل الباقين كل منهم مستقلا عن محاولة القتل إن لم تصب رصاصاتهم الشخص المجني عليه.

المطلب الثاني
المحرض كفاعل أصلي

التحريض هو خلق فكرة الجريمة لدى الشخص الفاعل وجعله يصمم على ارتكابها، ولم يكن المحرض فاعلا أصليا في القانون الجزائري إلا بتعديل قانون 82-04 المؤرخ في 13-02-1982، ويعد ذلك خروجا عن الاتجاه التقليدي الذي أخذت به معظم التشريعات، وكذا خروجا عن توصيات المؤتمر الدولي السابع لقانون العقوبات المنعقد بأثينا سنة 1957 الذي أوصى بجعل التحريض " جريمة مستقلة" عن المساهمة، وخروجها عن المساهمة الأصلية لأن التحريض يتقصه التنفيذ، ولا بالمساهمة التبعية كون المحرض هو صاحب خلق فكرة الجريمة وهو من جعل الفاعل يصمم على ارتكابها.

والتحريض هو خلق فكرة الجريمة لدى شخص آخر ذهنه كان خاليا منها، أو هو جعل الفاعل يصمم عليها، وذلك بالتأثير على نفسية هذا الشخص ودفعه لغاية تنفيذ ركنها المادي، بمعنى التحريض يعني خلق فكرة الجريمة في ذهن كان خاليا منها أو على الأقل زينها له ودفع به على تنفيذها[1]. أو هو خلق التصميم لدى الفاعل بارتكاب الجريمة، ودفعه نحو ارتكابها، وهو التعريف الذي تبناه المؤتمر الدولي السابع لقانون العقوبات سنة 1957، والتحريض يؤدي إلى نتيجتين الأولى نفسية تتمثل في القرار الذي يتخذه الفاعل الذي وجه له التحريض، والنتيجة الثانية مادية تتمثل في الجريمة التي ارتكبها بناء على القرار النفسي السابق، ويستوي أن يكون المحرض هو صاحب الفكرة الإجرامية أم اقتصر دوره على تزيين الفكرة التي كانت من خلق من حرض شخصيا. وسنحاول تبين أركان التحريض كجريمة في الفرع الموالي.

الفرع الأول
أركان جريمة التحريض

التحريض جريمة من جرائم المساهمة الجنائية، وبالتالي فهو كأي جريمة يشترط الأركان العامة الثلاثة لقيامها. وهي الركن الشرعي، والركن المادي والركن المعنوي.

1- الركن الشرعي للتحريض
الركن الشرعي لجريمة التحريض تضمنته المادة 41/2 من قانون العقوبات الجزائري، بنصها:" ...يعد فاعلا...كل من حرض على ارتكاب الفعل بالهبة أو الوعد أو التهديد أو إساءة استعمال السلطة
أو الولاية أو التحايل أو التدليس الإجرامي.". ومن متطلبات الركن الشرعي لجريمة التحريض، أن ينصب التحريض على ارتكاب جريمة أو مجموعة جرائم من المنصوص والمعاقب عليها قانونا، لذا فإن خلق العداوة والبغضاء والكراهية لدى شخص آخر لا يرقى لمرتبة التحريض، لذا فالموضوع المحدد لعملية التحريض هو ارتكاب جريمة بعينها[2]، وأن يكون مباشر وبفعل إيجابي.

2- الركن المادي للتحريض
قوام السلوك في جريمة التحريض هو خلق فكرة الجريمة لدى الفاعل و/أو إيجاد التصميم لديه على ارتكابها، وتقتضي فكرة خلق الجريمة أن ذهن الفاعل كان في الأصل خاليا منها، لولا تحريضه من قبل الشخص المحرض وجعله يصمم عليها، كما قد تكون الفكرة من الفاعل ابتداء لكن المحرض جعله يصمم على تنفيذها، بعدما كان الفاعل مترددا بخصوص ذلك، وكل النشاطات السابقة عبارة عن أفعال إيجابية لا سلبية، وبالتالي يمكن القول بأنه لا تحريض عن طريق الامتناع أو بعمل سلبي، أيا كانت دلالته الإجرامية، فسكوت الشخص أمام فاعل يروي له تفاصيل الجريمة التي سيرتكبها لا يجعله مرتكبا لجريمة التحريض كون موقفه كان سلبيا في حين التحريض جريمة إيجابيا.
والسلوك الإيجابي في جريمة التحريض غير مقيد باستعمال طريقة محددة – وإن كان مقيد بالوسيلة المادية-، فقد يكون التحريض عن طريق القول أو الكتابة، وقد يكون باللفظ العادي أو بوسائل الاتصال أيا كان نوعها، طالما كانت الوسيلة معبرة عن إرادة المحرض وقصده في خلق فكرة الجريمة لدى الغير وجعله يصمم على ارتكابها. والأصل في التحريض أن يكون شخصيا، موجه لشخص أو أشخاص محددين ويمكن تعيينهم، دون اشتراط توفر العلم بين الأطراف، كون التعارف بينهما ليس من شروط قيام جريمة التحريض، غير أن توجيه التحريض لأشخاص غير محددين يعد جريمة مستقلة بحد ذاتها، وهي الجريمة المنصوص والمعاقب عليها في القانون الجزائري بموجب المادة 100 منه[3]. كما يجب أن يكون التحريض منصبا على ارتكاب جريمة من جرائم قانون العقوبات دون اشتراط نوعها أو ذكر وصفها القانوني للفاعل، وإنما يكفي التحريض على ارتكاب الواقعة المكونة لركنها المادي، وبالإضافة إلى كل ما سبق، حددت المادة 41/2 الوسائل التي بموجبها يتم التحريض، وهي الوسائل أو الأفعال التي بينت على سبيل الحصر لا على سبيل المثال، وبالتالي المسألة قانونية لا يجوز تفسيرها تفسير واسعا، كما لا يجوز القياس عليها، وهذه الوسائل في قانون العقوبات الجزائري من الوسائل المادية التي يشترط إتيانها قبل ارتكاب الجريمة، ويمكن الاستعانة فيها بوسيلة واحدة أو أكثركما يجوز جمعها كلها وهــــي:

1- الهبـــــة:
والهبة قد تكون مبلغا من المال، كما قد تكون أي عقار أو منقول أو سلعة من السلع، أو عبارة عن تقديم خدمة، ويمكن أن تقدم بطريقة مباشرة أو مجرد الوعد بتقديمها، غير أن كل ما يشترط فيها أن يكون تقديمها أو الوعد بتقديمها سابقا على ارتكاب الجريمة.

2- الوعـــــد:
الوعد هو أن يقطع الجاني على نفسه وعدا بأداء خدمة أو أداء عمل أو تقديم هبة للفاعل في حال ما إن ارتكب الجريمة المحرض على ارتكابها، بشرط أن يقطع مثل هذا الوعد قبل تنفيذ هذه الجريمة.

3- التهديــــد[4]:
التهديد هو أن يقوم الشخص المحرض بالضغط على إرادته بتهديده بارتكاب أفعال أو القيام ببعض التصرفات التي من شأنها أن ترهب المهدد وتدفعه لارتاب الجريمة[5]، ويشترط أن يكون التهديد أيضا سابقا على ارتكاب الجريمة.

4-إساءة استعمال السلطة أو الولاية:
وفي هذه الحالة، يشترط أن يكون للشخص المحرض سلطة على المنفذ، وهي السلطة التي قد تكون قانونية كسلطة الرئيس على المرؤوس[6]، وقد تكون فعلية كسلطة رب العمل على العامل، أو كأن تكون ولاية كولاية الأب على أبناءه، فيستغل مثل هؤلاء مثل هذه السلطة لتحريض تابعيهم لتنفيذ الجريمة.

5- التحايل والتدليس الإجرامي:
التدليس الإجرامي هو تعزز الكذب بأفعال مادية ومظاهر خارجية تساهم في إقناع الغير بالانصياع لرغبة المحرض، وذلك باتخاذه لأفعال مادية كاذبة تشجع وتدفع الغير لارتكاب الجريمة.

وبالتالي جريمة التحريض يجب وأن تتم بإحدى هذه الوسائل أو أكثر، وهي الوسائل التي نذكر بأنها وردت على سبيل الحصر لا المثال، وهي كلها من الوسائل المادية التي يشترط إتيانه قبل إقدام المنفذ على ارتكاب الجريمة التي حرض عليها، وبشرط أن يكون التحريض موجه لشخص أو أشخاص محددين لا لعامة الناس، كون التحريض العام سبق القول أيضا أنه جريمة مستقلة قائمة بذاتها ( المادة 100 ق ع ج).

ثالثا: الركن المعنوي لجريمة التحريض

جريمة التحريض جريمة عمدية، يجب أن يتوفر لدى الشخص المحرض القصد الجنائي بعنصريه العلم والإرادة، وهو العلم بأن سلوكه يؤدي إلى خلق فكرة الجريمة لدى المنفذ أو على الأقل جعله يصمم عليها إن كانت الفكرة أصلا من المنفذ، وأن يريد هذه الجريمة والنتائج التي تتمخض عنها، لكنه لا يسأل عما زاد من نتائج محتملة لم يكن يعلمها ولا يريدها.
لفرع الثاني
الشروع والاشتراك في التحريض

باعتبار التحريض جريمة قائمة بذلتها وفقا للقانون الجزائري، حيث أنها جريمة تنتهي بإقناع الشخص الذي حرض بارتكاب الجريمة، وبتقديم إحدى الوسائل المادية المذكورة حصرا في المادة 41/2 ق ع ج، فيكون بذلك المحرض مقترفا لجريمة التحريض بغض النظر عن ارتكابها من قبل الشخص الذي حرض من عدمه، ففي حال ما لم ينفذها سأل فقط المحرض عن جريمة التحريض، وفي حال ارتكبها الفاعل سأل عنها كفاعل مادي مباشر وسأل الآخر كمحرض، لذا نتساءل عما إن كانت جريمة التحريض تقبل الشروع والاشتراك، وه ما نتناوله في النقطتين التاليتين.

أولا: الشروع في جريمة التحريض

جريمة التحريض تبدأ بتقديم إحدى الوسائل المذكورة أعلاه، وتنتهي بخلق فكرة الجريمة أو تزيينها لدى الجاني وخلق التصميم لديه على ارتكابها، وبالتالي هي جريمة يمكن القول بنوع من التجاوز أنها مستقلة – نقول بنوع من التجاوز، لأن الحقيقة القانونية أن المشرع جعلها جريمة مساهمة لا مستقلة- وتنتهي عند هذا الحد، فالمحرض في حقيقة الأمر فاعل أصلي لجريمة التحريض، وليس له أي دور في الجريمة الأصلية التي يرتكبها المنفذ، لذا فإن عدم إتمام المنفذ للجريمة التي حرض عليها، أمر خارج في حقيقته عن إرادة المحرض، لكن ذلك لا ينفي عنه أنه قام بجريمة التحريض التي توقفت عند حد الشروع، وهو تفسير البعض للمادة 46 من تقنين العقوبات الجزائري[7]، غير أننا لا نوافق هذا الرأي، كون جريمة التحريض نتيجتها خلق فكرة الجريمة لدى الجاني وجعله يصمم على ارتكابها، وبالتالي في الحالة السابقة الجريمة كانت تامة وليست مجرد جريمة انتهت في طور الشروع. لكن يمكن تصور العدول عن جريمة التحريض، في الحالة التي يخلق فيها الجريمة في ذهن الفاعل وجعله يصمم على ارتكابها ويقدم وسيلة من الوسائل المحددة بالمادة 41/2، ولكن قبل إقدام الفاعل على التنفيذ يسارع ويسحب وسيلته المادية، وهنا إن كان العدول اضطراريا أمكن القول بقيام لشروع في التحريض، وفقا للقواعد العامة، وإن كان اختياريا لا عقاب على الفعل، إعمالا للقواعد العامة في جريمة الشروع دوما.



.
ثانيا: الاشتراك في التحريض

إذا كان هناك محرضا واحد وفاعلا واحدا للجريمة، عد كل منهما فاعلا أصليا لها، الأول بصفته محرض والثاني بصفته فاعل أصلي لها، ما لم تتوفر شروط الإكراه في حالة استعمال التهديد، غير أنه يثار التساؤل عما إن كان يمكن تصور تعدد المحرضين. إن طبيعة وسائل التحريض التي تعد كلها من الوسائل المادية، تسمح بقبول فكرة الاشتراك في التحريض، كأن يشتري أحدهما هدية ويقدمها للثاني الذي يقدمها بدوره للمنفذ ويخلق فكرة الجريمة في ذهنه ويجعله يصمم على ارتكابها، وبذلك يكون مقدم الهدية شريك في التحريض، بشرط أن يتوفر لديه قصد الاشتراك في التحريض وتتجه إرادته لذلك، كون جريمة التحريض جريمة عمدية، التي تشرط العلم والإرادة بالسلوك وبالنتائج، لذا فهو لا يسال عن النتائج المتجاوزة لقصده. ولا يشترط أن يكون عالما بالمنفذ، بل كل ما يشترط أن يكون عالما بوجود جريمة التحريض على جريمة.


المطلب الثالث
الفاعل المعنوي كمساهم أصلي

الفاعل المعنوي كصورة من صور المساهمة الجنائية نصت عليه المادة 45 من تقنين العقوبات الجزائري، ويقصد بالفاعل المعنوي الشخص الذي يستخدم شخص آخر كأداة لارتكاب الجريمة، وأن يكون هذا الشخص غير مسؤول جنائيا بسبب وضعه أو صفته الشخصية، وذلك باستعمال أية وسيلة من الوسائل، سواء كانت تلك المبينة في التحريض أو غيرها، وقد عرف المؤتمر الدولي السابع لقانون العقوبات المنعقد في أثينا سنة 1957 الفاعل المعنوي، أنه :" من يدفع نحو ارتكاب الجريمة منفذا لا يمكن مسائلته جنائيا". لذا فهناك وجه شبه كبير بين المحرض والفاعل المعنوي، وهو ما نبينه في فرع، لنتناول في الثاني أركان جريمة الفاعل المعنوي.

الفرع الأول
الفرق بين المحرض والفاعل المعنوي

وبالتالي، الفاعل المعنوي يقترب كثيرا من المحرض، غير أن الأخير يحرض شخص مسؤول جنائيا مستعملا في ذلك وسيلة مادية من الوسائل المحددة حصرا بنص المادة 41/2، في حين الأول، يستعمل شخص غير مسؤول جنائيا أو شخص حسن النية وكأنه أداة مادية، حيث قد يكون شخص غير مسؤول جنائيا، مثل الصغير غير بالغ سن الرشد والمجنون[8]، أو بسبب وضعه كأن يكون حسن النية[9]، ولا يشترط في ذلك استعمال وسيلة محددة. وقد نص المشرع الجزائري على الفاعل المعنوي بموجب المادة 45 التي قضت على انه:" من يحمل شخصا لا يخضع للعقوبة بسبب وضعه أو صفته الشخصية على ارتكاب جريمة يعاقب بالعقوبات المقررة لها."[10].

لذا فوجه التشابه بين المحرض والفاعل المعنوي، أن الأول يستعمل شخص مسؤول جنائيا، في حين الثاني يستعمل شخص كأداة مادية، وعليه فإن المنفذ في التحريض يعاقب باعتباره الفاعل الأصلي للجريمة المحرض عليها، في حين لا فاعل أصلي للجريمة في حالة فاعل معنوي لأنه شخص منذ البداية غير معاقب عليه ، وفي كلا الجريمتين لا ينفذان الجريمة بنفسيهما بل بغيرهما. لكننا نرى بأن المنفذ في حالة الفاعل المعنوي قد يخضع لتدبير من تدابير الأمن، بينما حسن النية فلا يعاقب لانتفاء القصد لديه والخطأ فالجريمة إن كانت تقوم بالخطأ سأل عنها كأن يكون ملزم بواجب التحري. والحيطة والحذر .

الفرع الثاني
أركان جريمة الفاعل المعنوي

جريمة الفاعل المعنوي جريمة شأنها شأن سائر الجرائم الأخرى، تحتاج لقيامها الأركان الثلاثة العامة، وإن كان الركن الشرعي لا يطرح أي إشكال وهو نص المادة 45 من تقنين العقوبات الجزائري. فإننا سنركز على الركنين المادي والمعنوي.

أولا: الركـن المادي لجريمة الفاعل المعنوي

على عكس جريمة التحريض، فإن المشرع الجزائري لم يحدد الوسائل التي يلجأ إليها الفاعل المعنوي لأجل الدفع بالشخص المستعمل كأداة لارتكاب الجريمة، وعلى ذلك فكل الوسائل يمكن أن تصلح لقيام جريمة الفاعل المعنوي، بل وتقوم حتى في ظل انعدم مثل هذه الوسائل. بشرط أن يحرض الشخص حسن النية
أو غير المسؤول جنائيا، على الركن المادي لجريمة من الجرائم المعاقب عليها قانونا، دون شرط تبين وصفها أو تكييفها، كما لا يشترط التعارف بين الشخصين، حيث كل ما يلزم أن يعلم الشخص أنه يحرض شخص غير مسؤول أو غير معاقب بسبب وضعه أو صفته. وبالتالي هي جريمة تقوم بنشاط إيجابي ينصب على خلق فكرة الجريمة لدى الشخص ودفعه لارتكابها شأنه شأن التحريض.

ثانيا: الركن المعنوي لجريمة الفاعل المعنوي

المنفذ في جريمة الفاعل المعنوي مجرد أداة مادية استخدمت في تنفيذ الجريمة، وبالتالي فلا مسؤولية ولا عقاب عليه، فهو لا بالفاعل الأصلي ولا بالشريك، بل المسؤول الوحيد هو الفاعل المعنوي وهو مسؤول عن النتائج التي أرادها وتلك التي لم يردها أو لم يتوقعها أصلا، لأنه كان عليه أن يتوقع بأن يتعامل مع شخص غير مميز وغير مدرك وعليه أن يضع في حسبانه أن هذا الشخص قد يتجاوز ما طلب منه.

المبحث الثاني
المســـاهمة التبـــعية ( الاشتراك )

يقصد بالمساهمة التبعية أو ما يسمى بالاشتراك، تعدد الجناة في المرحلة السابقة على البدء في تنفيذ الجريمة، سيما في مرحلة التحضير والإعداد للجريمة، فهي لا تعني قيام الجاني بدور أصلي أو رئيسي في تنفيذ الركن المادي للجريمة، وإنما القيام فقط بالأدوار الثانوية أو التبعية السابقة عن هذا التنفيذ، غير أنها أفعال ترتبط بالنتيجة النهائية المترتبة عن الجريمة برابطة سببية، دون أن تعتبر هذه الأفعال أو الأعمال في ذاتها بدءا في تنفيذ الجريمة، وبعبارة أخرى أكثر اختصارا، الشريك هو الشخص الذي يقوم بنشاط تبعي غير رئيسي يرتبط بجريمة ارتكبها فاعل أو فاعلين أصليين برابطة سببية[11]. وبالتالي الشريك في حقيقة الأمر لا يرتكب فعلا مجرما قانونا في حد ذاته، وإنما يكتسب صفته الإجرامية من الفعل التنفيذي الذي يرتكبه الفاعل الأصلي للجريمة، وبالتالي ما دام أن الشريك لم يرتكب أي نشاط أو سلوك أو فعل يدخل في التكوين القانوني ( النموذجي ) للركن المادي للجريمة، وبالتالي في حقيقة الأمر لا يوجد نص قانوني يطبق على هذا الفعل، ما دام النص الذي يعاقب على الجريمة التي ارتكبها الفاعل الأصلي لا يطبق على فعل الشريك، وهنا في حقيقة الأمر أين ظهرت نظريتي الاستعارة والتبعية، والخلاف الفقهي الذي ساد الفقه حول البحث في طبيعة العلاقة بين الفاعل الأصلي والشريك. وقد بين المشرع الجزائري معنى الشريك في نص المادة 42 من تقنين العقوبات، بينما بين نص المادة 43 من يعد في حكم الشريك، وبعبارة أخرى النص الأول بين الشريك الفعلي، بينما بينت المادة 43 الشريك حكما – إن صح القول-. حيث باستقراء المادتين تتبين أركان الاشتراك. وسنبين في مطلب أركان الاشتراك، لنتناول في الثاني بعض الأوضاع المتعلقة بالاشتراك.
.

المطلب الأول
أركـــان الاشتراك

لكي تقوم جريمة الشريك ويعاقب بهذا الوصف، لا بد من توفر الأركان الثلاثة العامة المشترطة لقيام أي جريمة، غير انه يمكننا القول بأن الشرط المفترض الأول هو وقوع الجريمة الأصلية التي يرتكبها الفاعل الأصلي، وأن تكون الأعمال الثانوية التي ارتكبها الشريك مرتبطة بهذه الجريمة برابطة سببية، وهي أفعال الاشتراك التي بينتها نصوص القانون، ويشترط أخيرا أن يكون الشريك متعمدا هذه المساهمة.

الفرع الأول
الركن الشرعي للاشتراك

نصت المادة 42 من تقنين العقوبات الجزائري على أنه:" يعد شريكا في الجريمة من لم يشترك اشتراكا مباشرا[12]، لكنه ساعد بكل الطرق أو عاون الفاعل أو الفاعلين على ارتكاب الأعمال التحضيرية
أو المسهلة أو المنفذة لها مع عله بذلك.". بينما بينت المادة 43 من هم في حكم الشريك، وهي المادة التي نصت على أنه:" يأخذ حكم الشريك من اعتاد أن يقدم سكنا أو ملجأ أو مكان للاجتماع لواحد أو أكثر[13]، من الأشرار الذين يمارسون اللصوصية أو العنف ضد أمن الدولة أو الأمن العام أو ضد الأشخاص أو الأموال مع العلم بسلوكهم الإجرامي[14]."، وباستقراء المادتين، يمكن القول أن الاشتراك هو كل من عاون الفاعل
أو الفاعلين الأصليين في ارتكاب جناية أو جنحة، سواء تمت أو توقفت عند حد الشروع، وأن تنصب هذه المساعدة أو المعاونة على المرحلة التحضيرية للجريمة، أو لتسهيل ارتكابها ماديا، أو تسهيل تنفيذها، وبالتالي النظرة المجردة لنوع هذه الأعمال غير معاقب عليها قانونا وفقا لما تناولناه في نظرية الشروع، غير أنها تنجذب لدائرة التجريم لكونها ترتبط بجريمة الفاعل الأصلي وكانت سببا معينا أو مسهلا لتنفيذها، وهو في الحقيقة تجسيد فعلي لنظرية الاستعارة على الأقل في جانبها التجريمي الموضوعي دون الشخصي – سنبين مسألة استثناء الاستعارة الشخصية لاحقا-، لذا وما دامت أفعال الشريك غير معاقب عليها في حد ذاتها بل لارتباطها بالجريمة الأصلية، لذا فهذه الأخيرة يجب أن تتوفر فيها بعض الشروط، أهمها:
1- أن يشكل الفعل الذي يقوم به الجاني جريمة من الجرائم المعاقب عليها قانونا. لكن بوصف الجناية
أو الجنحة، إذ لا مساهمة ولا اشتراك في المخالفات.
2- ألا يكون فاعل الجريمة الأصلية توفر لديه سبب من أسباب الإباحة، لأنه سبق القول أن مثل هذه الأسباب يستفيد منها كل من ساهم في ارتكاب الجريمة، سواء كان فاعلا أصليا أو مجرد شريك.

كما تجب الإشارة إلى بعض العناصر المتمثلة في أن إفلات الفاعل الأصلي من العقاب لا يمنع من قيام الاشتراك وعقاب الشريك في حال امتناع مسؤولية الفاعل الأصلي أو قيام مانع من موانع العقاب لديه. لأنها أسباب شخصية يستفيد بها المتوفرة لديه دون غيره. كما أن عدم عقاب الفاعل الأصلي بسبب قيام عذر لديه لا يحول دون عقاب الشريك، كون العذر أيضا من السباب الشخصية.

الفرع الثاني
الركن المادي للاشتراك

لعقاب الشريك عن الأفعال التي ساعد بها الفاعل الأصلي، يجب وأن يرتكب أو يأتي إحدى أفعال الاشتراك المنصوص عليها في المادتين 42 و 43 من تقنين العقوبات الجزائري، وهي أفعال وردت على سبيل الحصر، كوننا بصدد نص تجريمي يجب إعمال مبدأ الشرعية بخصوصه، وهي بالتالي أفعال أو أعمال لا يجوز تفسيرها تفسيرا واسعا لا القياس عليها، وهذه الأعمال هي:

أولا: أعمال المساعدة أو المعاونة

أعمال المساعدة أو المعاونة، هي كل فعل أو عمل من شأنه أن يعين أو يساعد أو يدعم به الشريك الفاعل الأصلي، بشرط أن تبقى هذه الأفعال في حدود مرحلة ما قبل البدء في تنفيذ الجريمة، أو بعد ذلك دون أن يظهر الشريك على مسرح الجريمة، لأن الظهور على مسرح الجريمة (مكان ارتكاب الجريمة) يجعل من الشخص فاعلا أصليا لا مجرد شريك، لذا فالشريك يجب أن يساعد الفاعل الأصلي في المرحلة التحضيرية لارتكاب الجريمة، كشراء سلاح وتقديمه للفاعل مع علمه بهدف هذا الأخير. أو أن تكون هذه الأعمال معاصرة لارتكاب الجريمة لكن بعيد عن مكان تنفيذها. أما أعمال المساعدة اللاحقة لارتكاب الجريمة، فليست وسيلة من وسائل الاشتراك، وإنما يمكن أن تشكل جريمة مستقلة بذاتها، غير أن بعض الفقه يرى أنه يمكن الاشتراك بأعمال لاحقة على ارتكاب الجريمة، بشرط أن يكون هناك اتفاق سابق بين الشريك والفاعل الأصلي على القيام بها، وهنا يكون الشخص شريكا بالاتفاق لا بالمساعدة، مثل تدبير الشخص الوسائل اللازمة لتمكين الجناة من الفرار، أو إخفاء معالم الجريمة بعد ارتكابها، وإن لم يكن هناك اتفاق، فهذه الأعمال تعد جريمة مستقلة، مثل إخفاء أشياء متحصلة من جناية أو جنحة، أو التستر على الفارين، أو أي جريمة يعاقب عليها المشرع بصفة مستقلة، ويعد الشخص فاعلا أصليا فيها. لا شريك في الجريمة الأخرى التي أخفى فيها المعالم أو الآثار.

ثانيا: إيواء الأشرار أو إخفائهم

إيواء أو إخفاء الأشرار في حقيقته يعد عملا من الأعمال اللاحقة لارتكاب الجريمة الأصلية، التي من المفروض أن تخضع لما ورد سابقا، غير أنه وتطبيقا للمادة 43 اعتبرت من يقوم بمثل هذه الأفعال في حكم الشريك، لكن بتوفر الشروط الواردة بهذه المادة، وهذه الشروط المحددة حصرا هي : الاعتياد أو تكرار تقديم مسكن أو ملجأ لأشرار يقومون بأعمال اللصوصية أو العنف ضد أمن الدولة أو الأمن العام أو الأشخاص
أو الأموال، والاعتياد يعني قيام الشخص بمثل هذه الأعمال لأكثر من مرة واحدة، بمعنى من ارتكب الفعل لأول مرة لا يعد كذلك.
وقد أضاف المشرع الجزائري في المادة 91 من قانون العقوبات صورة أخرى من صور الاشتراك، وهي المتمثلة في أعمال المساعدة اللاحقة أيضا، حيث نصت هذه المادة على أنه: المادة 91 ( المادة 60 من القانون 06-23 المؤرخ في: 20-12-2006):" مع عدم الإخلال بالواجبات التي يفرضها سر المهنة، يعاقب بالسجن المؤقت لمدة لا تقل عن عشر سنوات ولا تتجاوز عشرين سنة في وقت الحرب، وبالحبس من سنة إلى خمس سنوات وبغرامة من 20.000 إلى 100.000 دج في وقت السلم، كل شخص علم بوجود خطط أو أفعال لارتكاب جرائم الخيانة أو التجسس أو غيرها من النشاطات التي يكون من طبيعتها الإضرار بالدفاع الوطني ولم يبلغ عنها السلطات العسكرية أو الإدارية أو القضائية فور علمه بها. علاوة على الأشخاص المبينين في المادة 42 يعاقب باعتباره شريكا من يرتكب دون أن يكون فاعلا أو شريكا أحد الأفعال الآتية:
1- تزويد مرتكبي الجنايات والجنح ضد أمن الدولة بالمؤن أو وسائل المعيشة وتهيئة مساكن لهم أو أماكن لاختفائهم أو لتجمعهم وذلك دون أن يكون قد وقع عليه إكراه ومع علمهم بنواياهم،
2- حمل مراسلات مرتكبي هذه الجنايات وتلك الجنح وتسهيل الوصول إلى موضوع الجناية أو الجنحة
أو إخفائه أو نقله أو توصيله وذلك بأي طريقة كانت مع علمه بذلك.
وعلاوة على الأشخاص المعنيين في المادة 387 ق ع ج[15]، يعاقب باعتباره مخفيا من يرتكب من غير الفاعلين أو الشركاء الأفعال الآتية:
1- إخفاء الأشياء أو الأدوات التي استعملت أو كانت ستستعمل في ارتكاب الجناية أو الجنحة والأشياء
أو المواد أو الوثائق المتحصلة من الجنايات أو الجنح مع علمه بذلك،
2- إتلاف أو اختلاس أو تزييف وثيقة عمومية أو خصوصية من شأنها تسهيل البحث عن الجناية أو الجنحة أو اكتشاف الدليل عليها مع علمه بذلك.
ويجوز للمحكمة في الحالات المنصوص عليها في هذه المادة أن تعفي أقارب أو أصهار الفاعل لغاية الدرجة الثالثة من العقوبة المقررة."
الفرع الثالث
الركن المعنوي لدى الشريك

جرائم الاشتراك من الجرائم العمدية، لذلك يشترط لدى الشريك توفر القصد الجنائي لديه بعنصريه العلم والإرادة، العلم بكل الأفعال التي تؤدي إلى تحقيق النتيجة، سواء كانت من أفعاله أو أفعال غيره، وأن يريد النتائج المترتبة عنها، ولا يسأل عما زاد عن ذلك من نتائج متجاوزة قصده، فهو يسأل فقط في حدود قصده.

المطلب الثاني
الأوضاع الخاصة للاشتراك والعقاب عليه

باعتبار الاشتراك جريمة معاقب علها قانونا، فهي تحتاج على دراسة مدى جواز قيام الشروع فيها، وكذا جواز القول بالاشتراك في الاشتراك، وتحديد العقوبة المقررة للشريك.

الفرع الأول
الشروع والاشتراك في الاشتراك

بالنظر لخصوصية جريمة الاشتراك التي تعد في الأصل جريمة غير معاقب عليها لولا قيام الفاعل الأصلي بجريمته، فيمكن القول بأن الاشتراك جائز في الجنايات والجنح التامة، منا يجوز الاشتراك في الجرائم الناقصة ( جرائم الشروع)، جرائم معاقب عليها أيضا، فيجوز الاشتراك في الشروع في جناية
أو الشروع في جنحة، بشرط أن تكون الجنحة مما يعاقب على الشروع فيها، غير أن ما يحتاج الدراسة هو الشروع في الاشتراك، والاشتراك في الاشتراك، الذين نتناولهما في النقطتين التاليتين.

أولا: الشروع في الاشتراك:

يرى البعض أنه لا يمكن الحديث عن الشروع في الاشتراك، سيما في الفروض التي تنتفي فيها رابطة سببية بين السلوك والجريمة المتحققة، كون الشروع يفترض أن الفعل المرتكب لم يمتلك القدرة الفعلية على تحقيق النتيجة، وبما أن الاشتراك ليس جريمة قائمة بذاتها ومستقلة عن الجريمة الأصلية، وبالتالي لا يمكن الشروع في الاشتراك لأن الشروع يستلزم البدء في تنفيذ جريمة وفقا للنص التجريمي الأصلي. وبالتالي من يباشر عمل من أعمال الاشتراك، دون أن تتفاعل سببيا مع الجريمة الأصلية المرتكبة، لا يمكن اعتباره شريكا في الجريمة لأنه شرع في الاشتراك فيه، ومثال ذلك إعارة شخص مسدس لشخص آخر لأجل قتل أحد الأشخاص، فيقوم الجاني بقتله عن طريق الخنق لا باستعمال المسدس، فلا يد شريكا كونه انتفت العلاقة السببية بين فعله والنتيجة التي تحققت. وهي نقطة تقود لدراسة أثر عدول الشريك على قيام الجريمة.

ثانيا: عدول الشريك

عدول الشريك قبل بدء الفاعل الأصلي في تنفيذ جريمته مقبول قانونا، أما ذلك غير جائز بعد البدء في تنفيذ الجريمة من قبل الفاعل الأصلي. غير أن التساؤل يثار حول مسألة عدول الفاعل الأصلي عن ارتكاب جريمته، وهنا يمكن القول بأن الاشتراك غير معاقب عليه في حد ذاته ما لم تقع الجريمة الأصلية من قبل الفاعل الأصلي، وبالتالي الشرط الأولي لعقاب الشريك هو ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونا من قبل الفاعل الأصلي، غير أنه في حالة عدول هذا الأخير لا نكون بصدد جريمة، وبالتالي لا اشتراك جنائي في فعل لا يعد جريمة[16].

ثالثا: الاشتراك في الاشتراك

الاشتراك في الاشتراك أمر جائز، مثل الصيدلي الذي يقدم مادة سامة لشخص آخر مع علمه أن هذا الأخير سيسمم بها شخص آخر، ورغم ذلك يريد مساعدته على ارتكاب هذه الجريمة بمثل هذه المادة، فيعد كلاهما شريك في جريمة القتل بالتسميم. وذهب بعض الفقه إلى القول أن الاشتراك في الاشتراك لا عقاب عليه، كونه مساهمة في فعل لا عقاب عليه في حد ذاته، لأنه سبق القول بأن أفعال الاشتراك لا عقاب عليها ما لم يرتكب الفاعل الأصلي الجريمة الأصلية ما لم تكن هناك علاقة اتصال مباشر بين الشريك والفاعل الأصلي، غير أن هذا الرأي لا أساس قانوني له، كون القانون يعاقب على الاشتراك متى وجدت علاقة بين الفعل الأصلي وأفعال الاشتراك، وأن توفرت رابطة ذهنية بين الفاعلين، وبالتالي شريك الشريك يعاقب عن الجريمة التي ارتكبها الفاعل الأصلي بوصفه شريكا فيها لا بوصفه شريك الشريك.

الفرع الثاني
عقوبة الاشتراك وأثر الظروف على عقوبة الشريك

نصت المادة 44 من تقنين العقوبات الجزائري على أنه: يعاقب الشريك في جناية أو جنحة بالعقوبة المقررة للجناية أو الجنحة. ولا تؤثر الظروف الشخصية التي ينتج عنها تشديد أو تخفيف العقوبة أو الإعفاء منها إلا بالنسبة للفاعل أو الشريك الذي تتصل به هذه الظروف. والظروف الموضوعية اللصيقة بالجريمة التي تؤدي إلى تشديد أو تخفيف العقوبة التي توقع على من ساهم فيها يترتب عليها تشديدها أو تخفيفها، بحسب ما إذا كان يعلم أو لا يعلم بهذه الظروف.ولا يعاقب على الاشتراك في المخالفة على الإطلاق.".
وبالتالي يتضح أن كل مساهم مستقل بظروفه الشخصية سواء كانت مشددة أو مخففة أو معفية من العقاب أو من المسؤولية، أما بالنسبة للظروف الموضوعية اللصيقة بالجريمة فتسري على كل من ساهم في الجريمة سواء بوصفه فاعلا أصليا أو مجرد شريك، بشرط توفر العلم بها، أي أن يعلم بها الشريك[17].










قديم 2013-01-29, 00:22   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
hadia369
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية hadia369
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفصل الرابع
الركن المعنوي للجريمة

إن مجرد ارتكاب ماديات الجريمة المتمثلة في عناصر ركنها المادي، لا تكفي لقيام الجريمة قانونا ومسائلة فاعلها جنائيا، بل يجب أن يتوفر لدى مرتكبها قدر من الخطأ أو الإثم، وهو ما اصطلح على تسميته بالركن المعنوي للجريمة[18]، المتمثل في توفر صلة نفسية بين الفاعل وماديات الجريمة[19]، وبالتالي يمكن القول أنه لا جريمة بدون خطا مهما كانت النتائج التي تمخضت عنها، وهو ما يعني أيضا توفر صلة نفسية بين الفاعل والنتيجة التي تحققت، بحيث يمكن وصف هذا السلوك بأنه سلوك خاطئ أو مؤثم[20]. فالجريمة إذن يجب وأن تقوم على ركنين أساسيين، بالإضافة إلى الركن الشرعي، هما الركن المادي المتمثل في ماديات الجريمة التي تعد المظهر الذي تبرز به في العالم الخارجي، وركن معنوي يتحقق بموقف الإرادة من الفعل المادي، وهو الموقف الذي قد يتخذ صورة القصد، كما قد يتخذ صورة الخطأ، وكلاهما يفترض القدرة على توجيه الإرادة نحو ماديات الجريمة، غير أنه في حالة القصد تتجه الإرادة نحو الفعل والنتيجة معا، وفي حالة الخطأ تتجه الإرادة نحو الفعل دون النتيجة، التي تتحقق بصورة غير مقصودة.

والمشرع لا يشير إلى هذه العلاقة النفسية بين الفاعل والفعل، إلا بكلمة واحدة في العادة، كاستعماله عبارة " من يرتكب عمدا"[21]، " عن قصد أو بقصد"[22]، أو بغرض[23]، " مع العلم"،" أو "بإهمال"[24]، أو " بنية"[25]... كون معظم القوانين لم تتصد لتعريف الركن المعنوي للجريمة، لذا فالفضل يعود لفكر الفقه الجنائي الحديث في تحديد نطاق الركن المعنوي للجريمة واستجلاء غموضه، وجعل القانون يعاقب الأشخاص ليس لأنهم " فعلوا" وإنما لأنهم " أخطئوا"، وعليه فقد أصبح من المبادئ الراسخة في الوجدان القانوني الجنائي المعاصر، وهو المبدأ القاضي بأنه :" لا عقوبة دون خطأ"، وما يزال تحتفظ به القوانين من جرائم غير عمدية، هو مجرد استثناء على المبدأ في حدود لا تنال من فعاليته وأهميته[26]. وبذلك يعد الركن المعنوي من الأركان التي لا تصور لقيام الجريمة بدونه، كقاعدة عامة باعتباره العنصر النفسي لها، فلكي تقوم المسؤولية الجنائية لمقترف الفعل المجرم لا تكفي مجرد النسبية المادية للفعل له، وإنما يلزم أن تتوافر رابطة نفسية بينهما تصلح أن تكون أساسا للحكم بتوافر العنصر المعنوي أو الأدبي للجريمة.

أهمية الركن المعنوي

يعد الركن المعنوي من أهم مكونات البناء القانوني للجريمة، الذي لا يكتمل – هذا البناء القانوني- إلا بهذا الركن، الذي إن لم يتوفر فلا نكون أمام جريمة عمدية، وإن كان يمكن أن يجعلنا أمام جريمة غير عمدية إن كان الفعل يقبل مثل هذا الوصف، وبتوفر هذا الركن تكتمل الجريمة قانونا ويحق مسائلة فاعلها من جهة، ومن جهة ثانية، تظهر أهمية الركن المعنوي، في أنه الركن الذي يلعب دورا كبيرا في تحديد وتقدير الجزاء المقرر لمرتكب الجريمة، إذ يتدرج الجزاء الجنائي في جسامته ومقداره، بقدر درجة الإثم أو الخطأ التي يكشف عنها الركن المعنوي للجريمة، عكس العصور الماضية التي كانت فيه درجة الجزاء ترتبط فحسب بدرجة وجسامة العدوان المادي الذي وقع وما أسفر عنه من نتائج دونما أي اعتداد بما توافر لدى الجاني من خطأ. كما تكمن أهمية هذا الركن، في كونه ضمانة لتحقيق العدالة، كون توقيع عقوبة على شخص لم تربطه صلة نفسية بجريمة ارتكب مادياتها، يعد مجافاة للعدالة، كون هذه الأخيرة تقتضي أن يوقع الجزاء الجنائي فقط على المخطئ في أفعاله، والخطأ لا يمكن تصوره إلا لدى شخص توفرت لديه رابطة نفسية بينه وبين الفعل الذي اقترفه، وهي الرابطة التي تبين اتجاه إرادته لمخالفة أحكام القانون الجنائي بارتكابه لهذا الفعل، وبذلك فقط تكون إرادته مخطئة أو آثمة أو منحرفة.

علاقة الركن المعنوي بفكرة المسؤولية الجنائية

دون استعراض مختلف التطورات التاريخية، يمكننا القول بأن ظهور الركن المعنوي للجريمة، كان نتيجة التطورات التي عرفتها فكرة المسؤولية الجنائية، بالرغم من استقلال كل منهما عن الآخر، كون الركن المعنوي ركن من الأركان العامة للجريمة، في حين المسؤولية الجنائية، هي حصيلة أركان الجريمة مجتمعة، والتي تؤدي عند قيامها أو ثبوتها إلى خضوع الجاني للعقاب. وبذلك المسؤولية الجنائية، وعلى عكس الركن المعنوي، نتيجة قانونية لقيام الجريمة أو أثر من آثارها لا ركن من أركانها[27].

وكخلاصة للتمهيد لدراسة الركن المعنوي للجريمة، يمكن القول أن قانون العقوبات أو القانون الجنائي، يخاطب بأوامره ونواهيه الإنسان الواعي المدرك صاحب الإرادة الحرة والسليمة فقط، لذا فالشخص يسأل عن الأفعال التي يأتيها وهو مدرك لما يقوم به من أفعال ومقدر لمدى خطورتها قانونا، وهذه الإرادة وهذا الإدراك هما اللذان يتشكل منهما الركن المعنوي للجريمة، وهو القول الذي ينطبق على كل الجرائم سواء كانت عمدية أو غير عمدية[28]. الأمر الذي جعل الفقه يرى بأن الركن المعنوي بصفة عامة، يتطلب مجموعة من العناصر تكاد تكون مشتركة بين في كل صور هذا الركن، وهذه العناصر هي: إرادة النشاط المكون للركن المادي للجريمة، العلم بكافة العناصر الواقعية الجوهرية اللازمة قانونا لقيام الجريمة، العلم بصلاحية النشاط لإحداث النتيجة، توافر موقف نفسي للفاعل إزاء النتيجة، فقد يريدها وقد يتوقعها فقط ويعتقد بقدرته على تجنبها.

صور الركن المعنوي للجريمة:

للركن المعنوي للجريمة صورتين، صورة القصد الجنائي ونكون بصدده متى كانت إرادة الفاعل واعية وتقصد وتريد إحداث النتيجة المجرمة قانونا، وصورة الخطأ الجنائي ونكون بصددها متى كانت إرادة الفاعل مهملة في ارتكاب النشاط المادي وغير قاصدة تحقيق النتيجة المجرمة قانونا، والتي يرتبط توقيع الجزاء الجنائي بحصولها، لذا سنحاول تقسيم دراسة الركن المعنوي للجريمة إلى مبحثين، نتناول في الأول القصد الجنائي أو الجرائم العمدية أو القصدية، لنتناول في الثاني صورة الخطأ الجنائي أو الجرائم غير العمدية.
.


المبحث الأول
القصد الجنائي أو القصد الجرمي ( العمـــــــد)

بالرغم من أن القصد مشترط في كل الجرائم العمدية، غر أن المشرع لم يعرفه، وترك المهمة للفقه الذي تصدى بغزارة لوضع تعريف لهذا العنصر القانوني المهم، لذا سنحاول أن نتناول محاولات الفقه الزاخرة في هذا الشأن في إطار مطلب أول نتناول من خلاله مفهوم القصد الجنائي لنتناول في الثاني عناصر القصد الجنائي، وفي الثالث أنواع وصور القصد الجنائي.

المطلب الأول
مفهوم القصد الجنائي

يقتضي موضوع القصد الجنائي وتحديد ماهيته، أن نتناول التعريف به وتبيان عناصره والخلاف الفقه الذي ثار بشأن ذلك. من خلال الفروع التالية.

الفرع الأول
التعريف بالقصد الجنائي وتحديد أبعاده

أولا: تعريف القصد الجنائي

يعني القصد الجنائي لغة، توجيه الإرادة نحو تحقيق هدف ما، أما اصطلاحا في لغة القانون الجنائي، فيعني توجيه الإرادة نحو ارتكاب الفعل المحظور قانونا، وهناك من القوانين التي عرفت القصد الجنائي، منها القانون الجنائي اللبناني في المادة 188 منه التي عرفت القصد بأنه:" إرادة ارتكاب الجريمة على نحو ما عرفها القانون". أما فقهيا، فالفقهاء اختلفوا منذ عدة قرون حول ما إن كان القصد عنصرا نفسيا بسيكولوجيا، أو مجرد حركة أو امتناع أدى إلى تحقيق النتيجة المجرمة قانونا، وتمخض عن هذا الخلاف ظهور نظريتين رئيسيتين تنازعتا في تعريف القصد الجنائي، النظرية التقليدية للقصد والنظرية الوضعية.

1- النظرية التقليدية ( الكلاسيكية) للقصد:

ومن أهم زعماء هذه النظرية الفقيه الفرنسي ( إميل غارسون)، وحسبه فإن القصد يعني:" إرادة الشخص ووعيه وعلمه بأنه يرتكب فعلا أو امتناعا مجرم قانونا"، وبالتالي حتى يكون الإنسان متعمدا
أو مرتكبا لجريمة عن قصد، يكفي أن يكون مدركا لخطورة سلوكه، وعالما بأن هذا السلوك محظور قانونا، وما دام هذا العلم مفترضا تطبيقا لقاعدة " لا عذر بجهل القانون" فيكفي عمليا حسب أنصار هذا الاتجاه، أن يكون السلوك المكون لركن المادي للجريمة صادرا عن إرادة حرة غير مكرهة، وعن وعي وإدراك سليم، أي ألا يكون الشخص منعدم الأهلية أو مجنونا أو مكرها[29]، وبعد ذلك لا يهم أن يكون الفاعل صاحب إرادة آثمة أو صاحب خطورة إجرامية على المجتمع، أم أن فعله ناتج عن مجرد عدم استقامة أو سوء تقدر أو عدم توقع لنتائج فعله، وبالتالي هي نظرية لا تفرق أصلا بين العمد ومجرد الخطأ، ونفهم بأنه يرون بأنه للركن المعنوي صورة واحدة هي صورة العمد. وهو وضع النظرية الشخصية دوما التي تركز على الإرادة دون الفعل.

2- النظرية الوضعية أو الواقعية:

وهي النظرية التي نجد على رأس أنصارها الفقيه الإيطالي ( أنريكو فيري) وهو رائد المدرسة الوضعية الحديثة في علم الإجرام، وبحسبه القصد لا يعني فقط إرادة مجردة، بل القصد يعني الباعث الشرير الذي دفع بالشخص إلى ارتكاب الجريمة، فالفعل لا يعاقب عليه القانون إلا إذا نتج عن رغبة حقيقية في المساس بالمجتمع، وكلما انعدمت الإرادة الآثمة وكان الباعث نبيلا انتفى القصد وانعدمت المسؤولية الجنائية للفاعل، وهنا نلاحظ أننا لا زلنا بصدد النظرية الشخصية، المركزة على الإرادة الآثمة، والخلط بين الركن المعنوي والمسؤولية الجنائية، وهي نظرية لا تستقيم مع ما هو معمول به قانونا، سيما وأن القوانين الحديثة لا تحفل بالبواعث.

ثانيا: تحديد القصد الجنائي

باستقراء الاجتهاد القضائي المطبق في الدول الغربية، خاصة في فرنسا، نجد بأن آراء المدرسة التقليدية هي المطبقة، كما يبدو ذلك من معظم النصوص القانونية الجزائية، ولعل ذلك راجع لواقعية وبساطة هذه النظرية وسهولة تطبيقها في تحديد القصد الذي يعتمد تحديده على:
- الإدراك: وهو أن الإنسان ما دام مدركا وغير مجنون وغير مكره أو غير مميز جنائيا فإن إدراكه مفترضا.
- الإرادة: لا يكفي العنصر الذهني السابق، بل لا بد أن يصدر الفعل عن إرادة حرة غير مكرهة.
- العلم: وهو العنصر المفترض في غالب الأحيان، والذي يعني علم الشخص بأنه يرتكب سلوكا محظور قانونا.
والعناصر الثلاثة السابقة من العناصر السهلة الاستخلاص والاستنتاج، كونها عناصر ملموسة تمكن القاضي من استخلاص القصد بكل سهولة، دون الاعتماد على الجوانب النفسية والبسيكولوجية الصعبة الإثبات. وتبعا لما سبق، يمكن تعريف القصد بأنه:" إرادة النشاط والعلم بالعناصر الواقعية الجوهرية اللازمة لقيام الجريمة، وبصلاحية النشاط لإحداث النتيجة المحظورة قانونا مع توفر قصد تحقيق ذلك"، وبالتالي يمكن القول بأن عناصر العمد أو القصد الجنائي هي ذاتها عناصر الركن المعنوي، والمتمثلة عموما في: إرادة النشاط المكون للركن المادي للجريمة سواء تمثل في فعل إيجابي وهو الغالب دوما، أو مجرد امتناع أحيانا. العلم بالعناصر الواقعية الجوهرية اللازمة لقيام الجريمة. العلم بصلاحية النشاط أو الامتناع لإحداث النتيجة[30]. توافر الصلة النفسية بين الفاعل والنتيجة متمثلا هذا العنصر في قصد تحقيق هذه النتيجة، وينبغي أن يكون هذا القصد واضحا لا لبس فيه على نحو يأخذ فيه صورة العزم واليقين.

الفرع الثاني
عناصر القصد الجنائي

كل التعاريف التي قيلت في تعريف القصد الجنائي، تدور حول محورين أو نقطتين أساسيتين، الأولى وهي " الإرادة"، والثانية وهي : العلم"، فبخصوص الإرادة تتجه غالبية التعريفات إلى ضرورة اتجاه إرادة الجاني إلى ارتكاب الجريمة، وبخصوص العلم فيشترط أن يعلم الجاني بجميع أركان هذه الجريمة، وبتحقق هذين العنصرين مجتمعين يقوم القصد الجنائي وبانتفائهما أو انتفاء أحدهما ينتفي هذا القصد.

أولا: عــنصر العــلم

يعد العلم كعنصر مكون للقصد الجنائي، حالة نفسية تجعل من مرتكب الجريمة عالما بجميع أركانها وعناصرها وفقا لما حدده ورسمه المشرع في النص الجنائي أو في النموذج القانوني للجريمة، وينتفي العلم بالجهل بهذه العناصر والأركان[31]، وبانتفاء العلم ينتفي القصد، مثلما ينفيه أيضا الغلط[32]. غير أنه العلم بعناصر الجريمة يقتضي تبيان العناصر التي يقتضي العلم بها، وتلك العناصر التي لا تؤثر في قيام عنصر العلم، التي حتى وغن لم يعلم بها الجاني، قام قصده الجنائي، وهو ما نتناوله في النقطتين التاليتين.

1- العناصر التي يتعين العلم بها:

يقوم عنصر العلم كأحد أهم أركان القصد الجنائي، على العلم بالعناصر والوقائع التي تعطي الوصف المتميز لجريمة ما مقارنة بسائر الجرائم الأخرى، وذلك وفقا لما رسمه المشرع في إطار النموذج التشريعي لها، وعلى العموم يعني العلم الإحاطة بكل واقعة ذات أهمية قانونية في تكوين الجريمة، سواء كانت عناصر أساسية أو مفترضة. وأهم هذه العناصر والوقائع:

أ – محل الجريمة أو الحق المعتدى عليه:
العلم بموضوع الجريمة، أو الحق أو المصلحة المعتدى عليها من أهم العناصر الواجبة لقيام الجريمة وبالتالي يجب أن يعلم بها الجاني، مثل ملكية الغير للمال المسروق في جريمة السرقة، وكون الإنسان حي في جريمة القتل... وأن كل جهل بهذا العنصر يجعل من العلم منتفيا وينتفي بذلك القصد الجنائي.
ب- العلم بأن الفعل الذي يأتيه الجاني محظور قانونا، أي أنه يشكل جريمة من جرائم قانون العقوبات، وإن كانت مسألة العلم بالقانون قد أثارت العديد من الجدل الفقيه.
ج- العلم بزمان ومكان ارتكاب الجريمة، لكن متى كان هذين العنصرين من العناصر المكونة للجريمة، كجريمة التجمهر في مكان عام أو جريمة السكر العلني والقذف في مكان عام والمزايدة في زمن الحرب والكوارث الطبيعية...
د- العلم بالظروف المتطلبة قانونا في الجاني أو المجني عليه، كالعلم بحمل المرأة أو افتراض حملها في جريمة الإجهاض، والعلم بأن الشخص جزائري في جريمة الخيانة، والعلم بصفة الموظف في جريمة الرشوة، والعلم بالمرأة المتزوجة في جريمة الزنا...
ه- توقع النتيجة كون مجرد الغلط في النتيجة ينفي القصد الجنائي، ويسأل الشخص عن جريمة غير عمدية إن كان يمكن قيامها بهذا الوصف.

2- الوقائع التي لا يتعين العلم بها

من أهم العناصر أو الوقائع التي لا يشترط العلم بها لقيام هذا العنصر الهام من عناصر القصد الجنائي، هي كل المسائل والعناصر التي تخرج عن نطاق تكوين أركان الجريمة، مثل نص قانون العقوبات والظروف المشددة للعقوبة والأهلية الجنائية وتوافر شروط العقاب.

أ- نص قانون العقوبات:
لا يشترط لتوفر القصد الجنائي أن يعلم الجاني علما حقيقيا بنص قانون العقوبات أو القوانين المكملة له، بحيث أن كل جهل أو خطا في فهم وتفسير هذه النصوص لا يؤثر على توفر القصد الجنائي تطبيقا للمبدأ الدستوري " لا يعذر أحد بجهل القانون"، والتي نصت عليه بعض القوانين صراحة ضمن نصوص قانون العقوبات، كالقانون اللبناني في نص المادة 223 منه التي قضت انه:" لا يمكن لأحد أن يحتج بجهله الشريعة الجزائية أو تأويله إياها تأويلا مغلوطا فيه." حيث هناك قاعدة افتراض علم الكافة بأحكام قانون العقوبات.

ب- الظروف المشددة للعقوبة:
لا يشترط أيضا لقيام القصد الجنائي لدى الجاني، أن يعلم الأخير بالظروف المشددة للعقاب، كونها ليست من العناصر التي تدخل في التكوين القانوني للجريمة، بل هي مجرد ظروف تتعلق بمسائل أخرى، في حين أن القصد الجنائي يتعلق بأركان الجريمة دون غيرها، لذا فالشخص الذي نسي أنه مسبوق فلا يؤثر على قيام ظرف العود لديه.

ج- عناصر الأهلية أو المسؤولية الجنائية:
مثلما سبق القول، فإن كل المسائل غير المتعلقة بأركان الجريمة ليس لها علاقة بالقصد الجنائي، لذا فعناصر الأهلية الجنائية أو عناصر المسؤولية الجنائية لا يؤثر العلم أو الجهل بهما في شيء على عنصر العلم المتطلب في قيام القصد الجنائي، فمن كان يعتقد بإصابته بمرض عقلي عند ارتكابه الجريمة ثم تبين انه سليم، فإن ذلك لا يؤثر على قصده الجنائي.

د- شروط العقاب:
ما قيل بخصوص الظروف المشددة للعقوبة وعناصر الأهلية والمسؤولية الجنائية يمكن قوله بخصوص شروط العقاب. التي لا يؤثر الخطأ أو الجهل بها بشيء في قيام القصد الجنائي.

ثانيا: عنصـر الإرادة

الإرادة قوة داخلية نفسية تتحكم في سلوك الإنسان وتوجهه، وهي بذلك نشاط يصدر عن وعي وإدراك بهدف بلوغ هدف معين، والإرادة في القانون الجنائي، هي القوة المسيطرة والموجهة للسلوك المادي نحو تحقيق نتيجة محظورة قانونا، أو مجرد قيادة هذا السلوك في الجرائم الشكلية. وقد ثار خلاف فقهي بخصوص علاقة الإرادة بالنتيجة، ما دامت الإرادة تسيطر فقط على السلوك وان النتيجة اثر له، ومعنى ذلك أنه لا أثر للإرادة على النتيجة، فهي كل ما تتحكم به هو السلوك، غير أن مناقشة هذه المسألة تنازعته نظريتان أيضا، نظرية العلم ونظرية الإرادة. نظرية العلم، ويرى أنصارها بأن الرابطة بين النتيجة والإرادة هي رابطة ضعيفة، فمجرد وجود علاقة ولو بسيطة ( مجرد تصور أو توقع للنتيجة) يكفي للقول بإرادة النتيجة، كون هذه الأخيرة مجرد نتيجة طبيعية للسلوك لا يمكن السيطرة عليها، كونها حصلت كنتيجة لاحقة لهذا السلوك ولا يمكن للإرادة أن تسيطر على الأفعال اللاحقة للسلوك. أما أنصار نظرية الإرادة، فيرون ضرورة أن تكون الرابطة بين الإرادة والنتيجة رابطة قوية بحيث تتجه إرادة الفاعل إليها وترغب في تحقيقها، بحيث تسيطر الإرادة على النتيجة مثلما تسيطر على السلوك.

الفرع الثالث
لحظة توفر القصد الجنائي وكيفية إثباته
أولا: لحظة توافر القصد الجنائي

إذا كان القصد الجنائي هو إرادة تحقيق الركن المادي للجريمة مع العلم بعناصره، فيجب لقيامه أن يتعاصر مع الركن المادي دون تفرقة بين ما يعد سلوكا وما يعد نتيجة، وإن لم تكن هناك صعوبة مثلا في جريمة القتل الفورية أين يطلق الشخص النار على آخر فيرديه قتيلا، فهنا يعد القصد قد تحقق في اللحظتين معا، لحظة إتيان السلوك، ولحظة تحقق النتيجة الفورية، غير أنه قد يحدث أن يتوفر القصد في إحدى اللحظتين دون الأخرى، وذلك لا يمنع من القول بتوفره أيضا، كالشخص الذي يندم بعد وضعه السم في طعام شخص آخر، غير أن الوفاة تحدث، فهنا يكون القصد متوفرا في حقه بالرغم من قيامه فعلا لحظة إتيان السلوك وتخلفه لحظة تحقق النتيجة، أو في الحالة العكسية – أين يتحقق القصد لحظة النتيجة دون أن يكون متوفرا لحظة السلوك-، مثل الصيدلي الذي يخطئ في تركيب دواء طلبه منه شخص معين، فيضع في هذا الدواء مادة سامة ويسلمه للمريض ثم بعد أن يغادر الأخير يكتشف خطأه لكن يمتنع عن تنبيهه مع قدرته على ذلك، رغبة منه في تحقق نتيجة الوفاة، ففي هذه الحالة أيضا يعد القصد متوفرا بالرغم من معاصرته فقط للنتيجة وتخلفه لحظة إتيان السلوك. وبهذا يمكن القول باختصار، أنه يكفي قيام القصد بعنصريه العلم والإرادة في أية مرحلة من مراحل تنفيذ الركن المادي، كون هذا الأخير حتى وإن أمكننا نظريا تحليله لعناصر، غير أن ذلك لا ينال من حقيقته كوحدة مادية واحدة يكفي توفر القصد فيها في أية لحظة من لحظاتها.

ثانيا: إثبات القصد الجنائي

القصد يعد ركن من أركان الجريمة التي لا قيام لها بدونه، لذا يجب إثباته وإقامة الدليل على توفره، وتلك مسألة قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض، غير أن إثبات المسائل النفسية لا يكون بطريق مباشر وإنما بطرق غير مباشرة بالاستدلال والاستنتاج من ظروف وملابسات كل قضية على حدة، خاضعا في ذلك للسلطة التقديرية لقضاة الموضوع دون رقابة عليهم من محكمة النقض، لأنها مسألة استنتاج ليس هناك مظهر بذاته يقطع بتوفره على سبيل الحتم والجزم واليقين. ويجب أن يظهر في الحكم وإلا كان معيبا ومعرضا للنقض والإبطال.



المطلب الثاني
صور القصد الجنائي

يقسم فقهاء القانون الجنائي القصد الجنائي ( العمد ) عدة تقسيمات، فيقسم إلى قصد عام وقصد خاص، وقصد محدد وقصد غير محدد، وقصد مباشر وقصد غير مباشر.. وفي الغالب المشرع لا يرتب أية نتيجة قانونية على هذه الأنواع، ما عدا بخصوص التقسيم الأول- القصد العام والقصد الخاص- لكن باقي التقسيمات الأخرى يرى الفقه أن أثرها ينحصر في تقدير العقوبة الموقعة على الجاني، دون أن يكون لها أثر على الجريمة وقيامها.

الفرع الأول
القصد الجنائي العام والقصد الجنائي الخاص

أولا: القصد الجنائي العام
القصد الجنائي العام هو القصد المطلوب في كل الجرائم العمدية، وينحصر في إطار النموذج التشريعي المنصوص عليه في النص، ولا يمتد للغرض الذي يسعى إلى تحقيقه الجاني، وبغض النظر عن غاية وباعث الجاني من وراء اقترافه الجريمة، بل ينحصر فقط في الهدف الضروري والمباشر للسلوك الإجرامي، وهو بذلك لا يختلف من جاني لآخر في الجريمة الواحدة.

ثانيا: القصد الجنائي الخاص
القصد الجنائي الخاص، هو ذلك القصد الذي نكون بصدده عندما يتطلب القانون بالإضافة إلى القصد الجنائي العام، تحقق غاية معينة يبتغيها الجاني، وتكون هي التي دفعته لارتكاب الجريمة، وهي التي يستدل عليها بطرح سؤال بسبب ارتكاب الجاني لجريمته، لذا فالغاية التي يتضمنها القصد الخاص في حقيقتها مسألة خارجة أصلا عن وقائع الجريمة المتطلبة في تكوين نموذجها التشريعي، تؤدي في حال اشتراطها إلى اكتمال الركن المعنوي للجريمة. ولا يختلف القصد الجنائي العام على القصد الجنائي الخاص من حيث العناصر المكونة لكل منهما، كون القصد الجنائي الخاص يتطلب بدوره عنصري العلم والإرادة في حدود معينة تدور في الغاية التي يتطلبها المشرع، ونجد المشرع عندما يتطلب قصدا خاصا يستعمل عبارات مثل " بقصد" أو " بقصد الإضرار" أو " بغرض"....

الفرع الثاني
القصد الجنائي المحدود والقصد الجنائي غير المحدود

أولا: القصد الجنائي المحدود
نكون بصدد القصد الجنائي المحدود، لما يحدد الجاني بدقة موضوع جريمته ويحدد ويحصر النتائج المراد تحقيقها من خلالها، أما ارتكاب الجريمة دون تحديد موضوعها ولا النتائج المراد تحقيقها، يجعلنا بصدد قصد غير محدد، وكلا النوعين يشترطان العلم والإرادة دون أن يفرق القانون ما يترتب عنهما بخصوص العقوبات، فكلاهما معاقب عليه لكن كثيرا ما يعد القصد المحدد ظرفا مشددا بالنظر لجسامة النتائج المترتبة عنه.

الفرع الثالث
القصد الجنائي المباشر والقصد الجنائي غير المباشر ( الاحتمالي)

بالرغم من تشابه هذا التقسيم مع السابق، إلا أنه يختلف عنه في أساس التقسيم، حيث يعتمد في هذا التقسيم مدى اتجاه الإرادة إلى النتيجة والرغبة فيها أو قبولها، لذا يكون القصد مباشرا عندما تتجه إرادة الجاني لارتكاب الجريمة التي أرادها بكل عناصرها إلى تحقيق نتيجة معينة كأثر أكيد لسلوكه مع رغبة في حدوثها، مثل إطلاق النار على شخص محدد رغبة في قتله.
أما إذا كان الجاني يتوقع إمكانية حدوث النتيجة ما بارتكابه سلوكه المجرم دون أن يكون متأكدا من حدوث هذه النتيجة، باعتبارها ممكنة الوقوع، ورغم ذلك غامر بارتكاب هذا السلوك، فهنا نكون أمام قصد احتمالي غير مباشر باعتباره قد قبل النتيجة التي تحققت، بمعنى أننا نكون بصدد قصد احتمالي في جميع الحالات التي يتوقع فيها الجاني النتيجة كأثر ممكن من سلوكه ومع ذلك يتصرف كأنه قابل بحدوثها بدليل عدم تراجعه عن سلوكه.










قديم 2013-01-29, 00:24   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
hadia369
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية hadia369
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

المبحث الثاني
الخطأ الجــــنائي
الركن المعنوي للجريمة غير العمدية

الجرائم إما أن تكون عمدية تقوم بتوفر القصد الجنائي هو الأصل، وإما غير عمدية تقوم بمجرد توفر الخطأ الجنائي[1]، فالجريمة العمدية إن كانت تقوم على قصد إتيان السلوك وترتيب النتائج الضارة المترتبة عليه، فالجريمة غير العمدية أو الجريمة الخطئية، فيكفي فيها إتيان سلوك حتى دون قصد إتيانه أو قصد تحقيق النتيجة. وغالبية المشرعين لم يعرفوا الخطأ، بل اكتفوا بتبيان صوره، وهي الصور التي تتضح في الغالب بمناسبة تجريم الجروح الخطأ والقتل الخطأ، وهو ما فعله المشرع الفرنسي في المادتين 319 و320 من تقنين العقوبات الفرنسي، التي أوردها المشرع الجزائري في المادتين 288 و289 من تقنين العقوبات الجزائري، وهي صور تبين بأن الخطأ هو إخلال الجاني بواجبات الحيطة والحذر التي تتطلبها الحياة الاجتماعية حتى ولو لم يتوقع النتيجة الإجرامية، كونه كان بإمكانه أن يتوقعها، لذا توصف إرادته في هذه الحالة بأنها آثمة لمجرد أنها لم تلتزم باتخاذ التدابير اللازمة لتفادي وقوع النتائج الضارة والمحظورة المترتبة عن سلوكه[2]. وعليه يظهر بجلاء الفرق بين الخطأ الجنائي والقصد الجنائي، كون الإرادة في الأول تسيطر على السلوك المادي دون النتيجة، هذه الأخيرة التي قد لا يكون يتوقعها أصلا، أو توقعها واعتقد أنه بإمكانه تجنبها، بينما في القصد تسيطر الإرادة على ماديات الجريمة وتسعى أيضا لتحقيق النتيجة وترغب فيها، لكن هذا القول لا يعني إطلاقا انعدام أية علاقة بين النتيجة والإرادة في الجرائم غير العمدية، بحيث أنه إذا ثبت بأن هذه العلاقة منعدمة فلا تقوم الجريمة ولا يسأل المتهم على النتيجة لأنه لم يثبت الخطأ في جانبه متى اتخذ قدر معين من الحيطة والحذر، أي اتخاذ جانب من الحيطة والحذر كافي لنفي القصد الجنائي.

المطلب الأول
ماهية الـــخطأ الجنائي

الخطأ الجنائي هو انحراف الشخص إراديا غير مكره عن واجبات الحيطة والحذر التي تقتضيها الحياة الاجتماعية، لذا فإتيانه سلوك متصف بالتهور يجعله سلوك محظور بالرغم من انتفاء قصد إتيانه، ومن ذلك يتضح أن الخطأ الجنائي مفهوم غير مفهوم القصد الجنائي، ويتعين تناول ماهيته وعناصره في الفرعين التاليين.
الفرع الأول
مفهوم الخطأ الجنائي

لم يعرف المشرع الخطأ الجنائي غير العمدي تاركا المهمة للفقه، الذي عرف الخطأ بأنه إخلال بالتزام عام يفرضه المشرع على الأفراد بالتزام الحيطة والحذر فيما يباشرونه من نشاط، وذلك حرصا على المصالح التي يحميها القانون[3]. وعرفه البعض بأنه " اتخاذ الفاعل سلوكا منطويا على خطر وخمول إرادته في منع هذا الخطر من التحول إلى ضرر" أو " إخلال شخص عند تصرفه بواجبات الحيطة والحذر التي يفرضها القانون، وعدم حيلولته تبعا لذلك دون أن يفضي تصرفه إلى إحداث النتيجة الجرمية، سواء أكان لم يتوقعها في حين كان ذلك في استطاعته ومن واجبه، أم توقعها ولكن حسب غير محق أن بإمكانه تجنبها"،
أو هو :" اتجاه الإرادة إلى السلوك الإجرامي دون قبولها بتحقق النتيجة الإجرامية التي يفضي إليها هذا السلوك مع عدم الحيلولة دون وقوعها "، وقد عرفته محكمة النقض المصرية، بأنه تصرف الشخص تصرفا لا يتفق والحيطة التي تقضي بها ظروف الحياة العادية، فهو بذلك عيب يشوب مسلك الإنسان لا يأتيه الرجل العادي المتبصر الذي أحاطت به ظروف خارجية مماثلة للظروف التي أحاطت بالشخص المسؤول.

ويمكن أن نستنتج مما سبق بأن الخطأ الجنائي يقوم على فكرة " إمكانية التوقع" كونها الفكرة الضرورية التي بدونها لا يقوم الركن المعنوي في الجرائم غير العمدية وتخرجنا لمجال الحادث الفجائي، خاصة وأننا بها نبقى في دائرة الإرادة اللازمة للركن المعنوي في صورتيه، القصد والخطأ، واستنادا لذلك يتلخص الخطأ غير العمدي في عدم توقع الجاني لما يترتب على سلوكه من نتائج، بالرغم من كون هذه النتائج في ذاتها مما يمكن توقعها، أو مما يجب أن يتوقعها، كما قد يرتكز على توقع الجاني لما يمكن أن يفضي إليه سلوكه، لكن رغم ذلك يمضي فيه معتقدا أنها نتائج قد لا تحدث، أو ظنا منه أنه اتخذ ما يلزم من احتياطات للحيلولة دون حدوث هذه النتائج، في حين أن مثل هذه الاحتياطات لم تكن كافية. لذا فبعيدا عن التعاريف، سنحاول تنال جوهر الخطأ وأساس العقاب عليه في النقاط التالية.

أولا: جوهر الخطأ

جوهر الخطأ يختلف من حيث الزاوية التي ينظر منها إليه، فمن وجهة نظر اجتماعية يتمثل جوهر الخطأ في إخلال الجاني بواجبات الحيطة والحذر، مما يترتب عليه إضرارا بالحقوق والمصالح التي يحميها القانون، وهو بذلك إتيان سلوك أو الإحجام عن إتيان سلوك ينطوي على خطر المساس ببعض الحقوق والمصالح التي تتطلب درجة من الحرص والانتباه حال التعامل معها أو التواجد في نطاقها المادي، ومن وجهة نظر نفسية يعد جوهر الخطأ في الغلط الذي ينشأ من الجهل ببعض الحقائق الاجتماعية أو القانونية فيما تمليه على الأفراد من واجب الالتزام بالسلوك الحريص، فتجربة الحياة تزودنا بمجموعة من الحقائق التي تخاطب الكافة، وقد لا تكون هذه الحقائق مكتوبة ومع ذلك فهي بمثابة قواعد اجتماعية ترسم حدود السلوك سواء باتباعه أو الواجب تفاديه.

ثانيا: أساس العقاب على الخطأ

الخطأ وعلى خلاف القصد الجنائي لا يعد سببا عاما لقيام المسؤولية الجنائية، بل يعتبر سببا خاصا لقيامها في جرائم معينة بذاتها، وإن كانت المسؤولية في القصد الجنائي هي مسؤولية أدبية قوامها الإثم
أو الخطيئة، فإن المسؤولية الجنائية في الخطأ هي أشبه ما تكون بمسؤولية اجتماعية قوامها الإضرار بالحقوق والمصالح القانونية بالإهمال أو الرعونة أو ما إلى ذلك من صور الخطأ، وبمعنى آخر لا يعاقب القانون الجاني في الخطأ عن إرادته الآثمة بل عما صدر عنه من نشاط صادر عن إرادة خاملة أو غافلة، وبالتالي المسؤولية الجنائية عن الخطأ لا تتقرر إلا بناء على نص خاص، إن لم يوجد امتنع العقاب عن السلوك كجريمة عمدية.

الفرع الثاني
عناصر الخـــطأ

تتحدد عناصر الخطأ في إرادة السلوك سواء كان فعلا أو امتناعا، وهو العنصر المشترك بين كافة صور الركن المعنوي، والعنصر الثاني انتفاء إرادة تحقيق النتيجة وهو العنصر الحاسم للتمييز بين القصد الجنائي والخطأ غير العمدي ، والعنصر الثالث هو انتفاء العلم بصلاحية السلوك لإحداث النتيجة كليا أو أن يتخذ هذا العلم أدنى درجاته وهي درجة الإمكان ، وأهم ما نتناوله عنصر العلم .

أولا: عنصر العلم

العلم في الخطأ غير العمدي يمثل عنصرا هاما كونه العنصر المميز للخطأ عن باقي صور الركن المعنوي للجريمة ويميز الخطأ حتى في حد ذاته، حيث أن موقف الجاني من العلم بصلاحية النشاط لإحداث النتيجة المحظورة قانونا يتحدد في إحدى الصور الثلاث التالية: إما انتفاء العلم كلية على نحو لا يتوقع فيه الجاني حدوث النتيجة وليس في مقدوره توقعها، وهي صورة تقترب أكثر لفكرة القوة القاهرة أو الحادث الفجائي، وبالتالي تخرج من نطاق صور الخطأ تماما، كالشخص الذي تنفجر عجلة سيارته فجأة لخطأ في الصنع فيصدم شخصا ويرديه قتيلا، أو كالشخص الذي يصطاد في الليل في منطقة خالية تماما من السكان فيطلق رصاصة على ما رآه يتمشى معتقدا أنه فريسة فإذا به شخص، ففي مثل هذين المثالين انتفى علم الجاني بإمكانية إحداث سلوكه للنتيجة التي وقعت ولم يكن أصلا بإمكانه توقعها، وأما الصورة الثانية فهي انتفاء علم الجاني بصلاحية سلوكه لإحداث النتيجة مع عدم توقعه حصولها لكن كان بإمكانه أن يتوقع ذلك، كترك الأم سما أمام أطفالها مما يمكن أن يأخذه أحدهم، أما الصورة الثالثة فتتمثل في توفر علم الجاني بصلاحية سلوكه في إحداث النتيجة في أدنى درجات العلم، وهي درجة الإمكان، لكنه كان يأمل في عدم حصولها معتمدا في ذلك على مهارته وخبرته، ويسمى هنا الخطأ مع التبصر أو الخطأ الواعي، كمن يقود سيارته بسرعة كبيرة ليلا والشارع يخص بالمارة محاولا اللحاق بميعاد فاته ويترتب على ذلك أن يصدم أحد المارة ويودي بحياته.
ثانيا: عنصر الإدراك
وهو عنصر ذهني ضروري في كل الجرائم، سواء كانت عمدية أو غير عمدية، فالخطأ مثلما سبق القول هو انحراف عن السلك العادي المألوف، لذا يجب أن يكون المخطأ مدركا لتصرفاته، وإلا انتفى عنصر هام من عناصر الخطأ.

ثالثا: عنصر الإرادة
السلوك الذي يأتيه الشخص في الجرائم غير العمدية يبقى دائما سلوكا إراديا، لأنه أراد أن يتصرف على النحو الذي تصرف به، وكل ما في الأمر أنه لم يرد فقط تحقيق النتيجة التي ترتبت عن سلوكه، وهو ما يميز الخطأ عن العمد.

رابعا: عنصر الانحراف
يشترط لقيام الخطأ إمكانية نسب الضرر لمسببه، لذلك يشترط أن يثبت أن السلوك المنحرف للشخص هو الذي سبب النتيجة الضارة كما يجب أن يثبت بأنه سلوكه يشكل سلوك منحرف. لكن السؤال الذي يطرح، هو : ما المعيار الذي يمكننا من التمييز بين السلوك العادي السلوك المنحرف؟. بصدد البحث عن هذا المعيار، تأثر الفقه الجنائي بأفكار القانون المدني، وهو ما تجلى في فكرة وحدة الخطأين المدني والجنائي[4]، وذلك باستعارتهم معيار الخطأ من القانون المدني، وهو معيار الرجل العادي، حيث لكي يقاس سلوك الشخص وبحث ما إن كان منحرفا أم لا، يقاس بسلوك الرجل العادي الذي هو رب الأسرة العاقل المعتني بشؤون نفسه وشؤون أسرته، والذي لا هو بالرجل الخارق الذكاء ولا بالأبله، بل هو متوسط الحذر والذكاء والسن والثقافة، فإن وجدنا سلوك الشخص مخالف لسلوك هذا الرجل، قلنا بقيام الخطأ، وإن وجدنا بأن الشخص العادي كان سيتصرف مثلما تصرف الشخص انتفى الخطأ، دون أن يهمل في ذلك أيضا مختلف الظروف والملابسات المحيطة بالجريمة وهو أمر خاضع لسلطة قضا الموضوع دون رقابة عليهم من محكمة النقض.

المطلب الثاني
صور الخــــطأ الجنائي ودرجاته

للخطأ الجنائي صور حددها المشرع، وأثارت الخلاف ما إن كانت على سبيل الحصر أو على سبيل المثال، وفي العادة التشريعات متفقة بخصوصها، كما انه للخطأ درجات وحالات وضوابط وأثارت العديد من الجدل الفقهي، وهو ما نتناوله باختصار في الفرعين التاليين.

الفرع الأول
صور الخطأ الجنائي

حدد المشرع الجزائري صور الخطأ الجنائي بمناسبة نصه على أخطر الجرائم غير العمدية، وهما جريمتي الجروح الخطأ والقتل الخطأ، المنصوص والمعاقب عليهما بموجب المادتين 288 و289 من تقنين العقوبات الجزائري[5]، اللتان أوردتا صور الخطأ على سبيل الحصر لا المثال، لذلك لا يجوز القياس عليها ولا تفسيرها بصورة موسعة إعمالا لبدا الشرعية الجنائية، وهذه الصور هي: الرعونة، عدم الاحتياط، الإهمال وعدم الانتباه، عدم مراعاة الأنظمة والقوانين.

أولا: الرعــــــونة

وهي الصورة التي يسميها الفقه أيضا ب:" الخطأ الفني"، وهي تعني نوع من الطيش والخفة وسوء التقدير في عمل يتعين من القائم به أن يكون على دراية وعلم به، أو هي سوء تقدير للكفاءة والقدرة، وهي في العادة تنجم عن عدم مراعاة قواعد الخبرة الإنسانية الخاصة أو المهنية التي توجبها ممارسة مهنة
أو حرفة معينة، من ناحية، ومن ناحية ثانية، قد تنجم عن مسلك إيجابي يقوم به الجاني كان يتعين عليه الامتناع عن القيام به بالكيفية التي تم بها، أو في الوقت الذي تم فيه، كالطبيب الذي يقوم بإجراء عملية جراحية لمريض دون أن يراعي في ذلك أبسط الأصول المهنية والقواعد العلمية، فيترتب على ذلك موت المريض، أو دون أن يستعين بطبيب تخدير، أو يكتفي بتخدير موضعي بينما توجب الأصول العلمية أن يكون تخديرا كليا، وكذا صاحب البناء الذي يتقاعس عن صيانة عقاره وترميمه فيتسبب في قتل خطا. وعليه،
ومثلما تقدم، تقوم حالة الرعونة نتيجة موقف أو سلوك سلبي، في الحالات التي يحجم فيها الجاني عن اتخاذ عمل كان توجبه قواعد الخبرة المهنية باتخاذه، كالممرضة التي يستغرقها مشاهدة إحدى المسلسلات التلفزيونية أو مواصلة الثرثرة مع زميلاتها فلا تقوم إعطاء المريض المتواجد في حالة خطر دواءه في الميعاد المحدد بما يؤدي إلى وفاته.

ثانيا: عـــدم الاحتياط

وتسمى فقهيا أيضا " عدم الاحتراز"، وهي حالة تقوم بمجرد الاستخفاف بالأمر وعدم اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع حدوث الضرر الممكن تصور حدوثه من أمر قابل لإحداث مثل هذا الضرر، وبالتالي عدم الاحتياط في جوهره عبارة عن اتخاذ موقف إيجابي يتمثل في مباشرة الجاني لسلوك كان يتعين عليه الامتناع عن إتيانه، نظرا لما يترتب عليه من أضرار، وأن قواعد الخبرة الإنسانية العامة تأبى إتيان مثل هذه السلوكات في مثل هذه الظروف، كسائق السيارة الذي يقود سيارته بسرعة جنونية في شارع مليء بالمارة فيصدم أحدهم فيقتله، أو كالأب الذي يسلم ابنه الصغير عجلا فيفلت منه ويصدم أحد الأشخاص فيقتله.

ثالثا: الإهمال وعدم الانتباه

الإهمال هو سلوك يتمثل في عدم بذل الشخص العناية اللازمة في عمل يتطلب مثل هذه العناية، كمن يهمل صيانة سيارته ويصدم شخصا بسبب عدم اشتغال المكابح، وبالتالي الإهمال هو اتخاذ موقف سلبي من عمل كان يتعين اتخاذه وفقا لما تمليه قواعد الخبرة الإنسانية العامة، مما يجعل من هذا الامتناع يرتب نتائج ضارة، كامتناع حارس ممر السكة الحديد عن إغلاق ممر الراجلين وقت مرور القطار مما يجعله يصدم أحد المارة، أو الأم التي تترك رضيعها بجوار موقد غاز مشتعل مما يؤدي إلى سقوطه في إناء ماء مغلي. أما عدم الانتباه فهو انحراف يتمثل في عدم اكتراث الشخص بضرورة اليقظة الدائمة فيسبب ذلك ضررا للغير.

رابعا: عدم مراعاة الأنظمة والقوانين

على خلاف صور الخطأ السابقة التي تقوم كلها على مخالفة قواعد الخبرة الإنسانية العامة
أو الأصول العلمية والمهنية، فإن هذه الصورة تعد أبسط وأسهل صور الخطأ للإثبات، إذ يكفي مقارنة سلوك الشخص مع متطلبات القوانين والأنظمة، فمجرد كون السلوك مخالفا للوائح والأنظمة تقوم الجريمة، مثلما هو الأمر في مخالفة قوانين المرور أو قواعد البوليس المنظمة لحركة سير المركبات واستخدام الآلات والأسلحة، ويستوي في هذه القواعد أن تكون صادرة عن السلطة التشريعية كما هو الشأن بالنسبة للقوانين بالمعنى الضيق للمصطلح، أو عن السلطة التنفيذية مثل لوائح التنفيذ والتنظيم والضبط، أو صادرة عن السلطات الإدارية في الحدود المسموح لها بإصدار مثل هذه اللوائح، وفي هذه الصورة قد يجد الشخص نفسه أمام جريمتين، جريمة مخالفة الأنظمة واللوائح حتى وإن لم يترتب عليها أي ضرر، وجريمة أخرى تتمثل فيما أحدثته هذه المخالفة من أضرار للغير. ومخالفة الأنظمة واللوائح عبارة عن خطأ مفترض لا تلتزم المحكمة بإقامة الدليل على توفره، على خلاف صور الخطأ الأخرى، فبمجرد مخالفة الأنظمة والقوانين ينعت سلوك المخالف بالخاطئ، وافتراضه يرقى لمرتبة حد القرينة القاطعة التي لا تقبل إثبات العكس.
والملاحظ بأن هذه الصورة الوحيدة من صور الخطأ التي لا يشترط فيها المشرع حصول نتيجة معينة بل مجرد مخالفة اللائحة أو النظام يقيم الجريمة، بل أن حصول نتيجة محظورة قانونا تجعل الشخص يسأل عن جريمتين. مما يجعل من هذه الصورة جريمة شكلية أو جريمة سلوك محض، على خلاف باقي الصور الأخرى التي تعد فيها الجريمة غير العمدية جريمة مادية ذات نتيجة ضارة يشترطها المشرع لقيام الجريمة.

الفرع الثاني
ضابط الخطأ الجنائي وحالاته

اختلف الفقه بخصوص الضابط الحاكم للخطأ، وكالعادة انحصر الخلاف بين المذهبين الموضوعي والشخصي، وظهر الاتجاه التوفيقي، كما حاول الفقه تحديد حالات الخطأ، وهو ما نبينه في النقطتين التاليتين.

أولا: ضابط الخطأ

بعد أن تتحدد صورة الخطأ على النحو السابق، وجب البحث عن المعيار الذي يقاس به هذا الخطأ، وثار تساؤل عما إن كان يرجع في ذلك إلى معيار شخصي يتمثل فيما توقعه الجاني بالفعل، أو كان بإمكانه أن يتوقعه، أو فيما كان يجب أن يتخذه من احتياطات، أم يرجع في ذلك إلى معيار موضوعي يتمثل في معيار الرجل العادي المتمثل في الشخص متوسط الذكاء والحذر والحيطة بعيدا عن حرص الجاني ذاته؟، وهنا كالعادة ظهر المعيار الموضوعي المعتمد على " معيار الرجل العادي"، والذي انتقد على أساس أنه معيار مادي لا يلاءم فكرة نفسية متمثلة في الركن المعنوي، لذا طرح البعض المعيار الشخصي المتمثل في بحث موقف الجاني نفسه في ظروفه الآنية والواقعية مع مختلف جوانب شخصيته وما يتمتع به من ذكاء وقدرات، وبالتالي إن كان الجاني ولا أحد سواه يعلم أو يتوقع بصلاحية سلوكه لإحداث النتيجة قام الخطأ في جانبه، أما إذا كان الجاني متواضع القدرات ومحدود الخبرة وقليل الذكاء يجهل بصلاحية سلوكه لإحداث النتيجة أو لا يتوقع ذلك فإن الخطأ ينتفي في جانبه، ويميل الفقه إلى اعتبار المعيار الشخصي أكثر ملائمة لتقدير فكرة الخطأ واستخلاص عنصر العلم لدى الجاني. وغالبية الفقه يرى أنه يجب إعمال معيار مختلط يجمع ما بين المعيار الشخصي والمعيار الموضوعي، حيث يؤخذ من المعيار الموضوعي معيار الشخص العادي إذا وجد ضن نفس الظروف، حيث إذا وجد الجاني قد التزم بقدر من الحيطة والحذر في تصرفه يوافق ما كان يفعله الشخص المعتاد الذي وجد في مثل ظروفه، انتفى خطأه، أما إذا بذل قدرا من الحيطة والحذر أقل من ذلك نسب إليه الخطأ. نحن نرى أن هذا المعيار ما هو إلا تكريس لمعيار موضوعي، ونرى أنه بما أننا بصدد الركن المعنوي فالقاضي يأخذ في اعتباره دوما المعيار الشخصي باعتبار الركن المعنوي ينطوي أكثر على جوانب نفسية أكثر منها موضوعية.
ثانيا: حالات الخطأ
للخطأ حسب غالبية الفقه، حالتين أيا كانت الصورة التي اتخذها، وهي إما أن يكون خطئا واعيا وإما أن يكون خطئا غير واعي. فالخطأ الواعي faute consciente، ويسمى أيضا الخطأ بتبصر أو الخطأ المصحوب بتوقع، هو الحالة التي يتوقع فيها الجاني حصول النتيجة الضارة لكنه لا يريدها، ويأمل في عدم حدوثها، إما نتيجة لاحتياط اتخذه يحول دون حدوثها في حين لم يكن كافيا، والحالة التي لا يتخذ فيها أصلا أي احتياطات للحيلولة دون حدوثها، مما يعني أنه يستوي لديه حدوثها من عدمه. والحالة الثانية، هي الخطأ غير الواعي faute inconsciente، ويطلق عليه أيضا الخطأ بغير تبصر أو الخطأ غير المصحوب بتوقع، وهي الحالة التي لا يتوقع فيها الجاني حدوث النتيجة الضارة، في حين كان يجب عليه أن يتوقع ذلك أو من واجبه أن يتوقعها، وطالما لم يتوقع الجاني النتيجة، فإنه على عكس الحالة السابقة لا يتخذ أي إجراءات تحول دون حدوث النتيجة.

الفرع الثالث
الخطأ المدني والخطأ الجنائي

نصت المادة 124 وتقابلها في القانون المصري المادة 163 التي نصت على أنه :" كل خطأ سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض" ، وبالتالي المشرع المدني لم يحصر صور للخطأ كما لم يحدد لها درجات.لذا ثار تساءل منذ زمن، ما إن كان المشرع الجنائي بدوره يرتب المسؤولية الجنائية عن الخطأ أيا كانت درجته، أم أنه خلافا للمشرع المدني يستلزم أن يرقى الخطأ إلى درجة من الجسامة حتى يمكن أن يرتب المسؤولية الجنائية غير العمدية . ولقد ساد ولزمن طويل قديما أن الخطأ يقسم إلى ثلاث درجات، الخطأ الجسيم الذي تكون نتيجته الضارة متوقعة من قبل الجميع، والخطأ البسيط، الذي يكون ضرره متوقع فقط من قبل الرجل المعتاد، والخطأ اليسير جدا وهو الخطأ الذي يكون ضرره غير متوقع وغير ممكن إلا بانتباه غير عادي يفوق انتباه ما يحظى به الرجل العادي، وهي الدرجات الثلاث التي يجب أن ينظر إليها في كل حالة على حده آخذين بعين الاعتبار للسن ودرجة الثقافة، وكان التساؤل في ظل هذه التفرقة : بأي درجة يقوم الخطأ الجنائي ؟ وما إن كان يقوم كل من الخطأ المدني والخطأ الجنائي بدرجة واحدة؟ وهو السؤال الذي تنازع إجابته اتجاهان.اتجاه أول : استقلال الخطأ المدني عن الخطأ الجنائي، ويذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن ما يقوم به الأول لا يجب أن يقوم به الثاني، وإن كان الخطأ الجسيم والبسيط قد يقوم بها كلا نوعي الخطأ، فإن الخطأ اليسير جدا لا يمكن أن يقوم به سوى الخطأ المدني، وذلك بالنظر لما بين الخطأين من فوارق، أهمها:اختلاف الخطأين من حيث الطبيعة، واختلافهما من حيث الجزاء، واختلافهما من حيث عبء الإثبات. والاتجاه الثاني : وحدة الخطأ الجنائي والخطأ المدني، يرى أنصار هذا الاتجاه أنه لا فارق بين الخطأين وأن ما يقوم به الخطأ المدني يصح أن يقوم به أيضا الخطأ الجنائي، خاصة وأن كلاهما يقاس بمعيار واحد هو معيار الرجل العادي، وكل ما هو موجود من فروق ينحصر في أن القانون المدني لم يبين صور الخطأ المدني في حين المشرع الجنائي حصر صوره ما ذلك إلا نتيجة تقيد المشرع بمبدأ الشرعية الجنائية. وهو الاتجاه الذي تحول إليه القضاء الفرنسي وما سايره أيضا القضاء المصري.










قديم 2013-01-29, 00:26   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
hadia369
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية hadia369
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

المطلب الثالث
الشروع والاشتراك في الجرائم غير العمدية

باختصار شديد، وبالنظر لبساطة المسألة سوف لن نقسم هذا المطلب إلى فروع، حيث أنه لا شروع ولا اشتراك في الجرائم غير العمدية، خاصة وأن هذه الأخيرة في غالبيتها من المخالفات في حين سبق القول بأن الشروع لا يكون إلا في الجنايات وفي الجنح بموجب نص خاص ولا شروع إطلاقا في المخالفات، وهو نفس الوضع تقريبا بالنسبة للاشتراك....كما أنه لا ظروف تشديد ولا تخفيف بخصوص الجرائم غير العمدية ما عدا ما قضت به المادة 290 من تقنين العقوبات الجزائري التي تضاعف العقوبة المقررة في حالة ارتكاب الجريمة في حالة سكر أو ارتكاب الجريمة ومن بعدها محاولة الهرب من المسؤولية[6]، وإن كان ذلك قد يقيم أيضا جريمة أخرى هي جريمة التهرب من المسؤولية أو عدم تقديم مساعدة لشخص في حالة خطر.

الفصل الخامس
تصنيــــف الجرائم

سبق لنا القول عند تناولنا لتقسيمات الجريمة وتصنيفها بناء على الركن المعنوي للجريمة، الذي تناولنا فيه التقسيم الثلاثي أو القانوني، وكذا تمييز الجريمة إلى عادية وسياسية وعسكرية، أننا سنرجئ الحديث عن باقي التصنيفات والتقسيمات الأخرى المعتمدة على الركنين المادي والمعنوي، إلا ما بعد استيعاب كنه ومضمون وأبعاد هذين الركنين، لذا سنحاول أن نتناول من خلال مبحثين التصنيفات المعتمدة على الركن المادي، والأخرى المعتمدة على الركن المعنوي. على أننا سنختصر قدر الإمكان بخصوص بعض التصنيفات التي سبق تناولها في مواضع أخرى من هذه الدراسة، وكذا بخصوص الجوانب الإجرائية المتعلقة بفائدة التفرقة، كونها مسائل يصعب استيعابها قبل دراسة قانون الإجراءات الجزائية.

المبحث الثاني
تقسيم الجرائم بحسب طبيعة وتكوين الركن المادي

بالنظر للركن المادي للجريمة، يمكن تقسيم الجرائم عدة تقسيمات، منها ما يأخذ بعين الاعتبار عنصر الزمن الذي يستغرقه إتمام الركن المادي للجريمة، حيث تقسم الجرائم بالنظر إلى ذلك إلى جرائم وقتية وجرائم مستمرة، كما تقسم بحسب النظر إلى السلوك إلى جرائم إيجابية وجرائم سلبية، أو بالنظر لتعدده إلى جرائم اعتياد وجرائم بسيطة أو بالنظر إلى النتيجة إلى جرائم ذات النتائج وجرائم شكلية.

المطلب الأول
تقسيم الجرائم إلى وقتية ومستمرة

وأساس هذا التقسيم، هو الزمن الذي يستغرقه تحقق أركان الجريمة، الركن المادي والركن المعنوي معا، واستنادا لذلك تكون الجريمة وقتية إن لم يستغرق ارتكابها سوى برهة زمنية قصيرة، أما إذا امتد ذلك فتعد الجريمة مستمرة. والعبرة بالزمن الذي استغرقه الركن لا للأثر الذي ترتب عليها، فالقتل نتيجته إزهاق الروح إلى الأبد وبالتالي هو جريمة مستمرة الآثار، وليس هذا هو المقصود، وإنما وقتية السلوك التي أزهقت الروح، أما الجريمة المستمرة فركنها المادي مصحوبا بالركن المعنوي، يستغرق زمنا طويل نسبيا، سواء كان الاستمرار للسلوك دون النتيجة أو لهذه الأخيرة دون السلوك، فالاستمرار قد ينظر له من خلال الفعل كما قد ينظر له من خلال النتيجة الجرمية التي تحققت، بشرط أن تظل إرادة الجاني حاضرة طيلة الوقت الذي استغرقه الركن المادي، وبمعنى آخر مواكبة الركن المعنوي للركن المادي، وإلا خرجت الجريمة من المعنى الفني للجريمة المستمرة، لذا يميز الفقه بين نوعين من الاستمرار.الاستمرار المتجدد، وهو الاستمرار الذي يستلزم تدخل إرادة الجاني بصفة متجددة وهي حالة مواكبة الركن المعنوي لحالة الاستمرار وتسمى الجريمة عندئذ ب: délit continu successif ، والاستمرار الثابت أو المضطرد، وهو الاستمرار الذي إذا انطلق بقي بذاته دون حاجة إلى تدخل جديد من قبل إرادة الجاني، وبمعنى آخر دون حاجة لمواكبة الركن المعنوي لحالة الاستمرار وتسمى الجريمة عندئذ ب : délit continu permanent وهو ما يسميه الفقه بأنه الجريمة الوقتية في حد ذاتها في الحالة التي تخلف فيها أثار، وهو رجوع من جديد للتقسيم التقليدي بين الجريمة الوقتية والجريمة المستمرة، على أن يفهم بأن الاستمرار هو ما يلزم تدخل إرادة الجاني طوال فترة الاستمرار وأن يفهم من الجرائم الوقتية ما يحدث من آثار فورية حتى ولو كانت ممتدة في الزمن.وهو ما يحتم علينا لمزيد من التوضيح تبيان المعيار المعتمد للتقسيم بين الجرائم الوقتية والجرائم المستمرة.

الفرع الأول
معيار التمييز بين الجرائم الوقتية والجرائم المستمرة
kجد الفقه يتنازعه معياران، الأول هو معيار طبيعة الاعتداء في حد ذاته، والثاني هو معيار الامتداد الفعلي للزمن الذي تستغرقه الجريمة .
أولا: معيار طبيعة الاعتداء

وهو المعيار الذي يذهب أنصاره للتفرقة بين الجرائم الوقتية والجرائم المستمرة إلى اعتماد طبيعة الاعتداء ذاته، وهل هو قابل في حد ذاته للاستمرار من عدمه، فإذا كان الاعتداء في طبيعته قابلا للاستمرار كانت الجريمة مستمرة، مثل جريمة إخفاء الأشياء المسروقة حتى ولو استمر الإخفاء للحظة فقط كون الإخفاء بطبيعته قابلا للاستمرار، وإن كان غير قابل لذلك كانت الجريمة وقتية

ثانيا: معيار الامتداد الفعلي للزمن الذي تستغرقه الجريمة

وهو المعيار الذي يرى أنصاره، إلى أن العبرة في التفرقة بين المؤقت والاستمرار هو الامتداد الفعلي للزمن الذي يستغرقه تحقق عناصر الجريمة، فالركن المادي قد يتخذ وضع الاستمرار في الجريمة الواحدة مرة وقد يتخذ وضع التأقيت في وضع آخر في ذات الجريمة، وكل ذلك بحسب ارتكاب الجاني للواقعة، وبالتالي الجريمة التي قد يتمثل بها أنها وقتية يمكن أن تقع مستمرة والعكس صحيح، والعبرة في كل ذلك بالزمن الفعلي الذي استغرقه ارتكاب الجريمة بركنيها المادي والمعنوي، لذا يرى أنصار هذا الاتجاه أن تقسيم الجرائم إلى وقتية ومستمرة له طابعا نسبيا، فالسرقة في أغلب صورها جرائم وقتية، ومن المتصور أن تكون مستمرة مثل حالة سرقة التيار الكهربائي، وجريمة القتل في أغلب صورها جريمة وقتية لكن قد تكون جريمة مستمرة في حالة القتل بالتسميم عن طريق إعطاء جرعات من السم على فترات ممتدة عبر الزمن خاصة إن كانت الجرعة الواحدة غير كافية لإحداث الوفاة، لكن مجموع هذه الجرعات هو الذي أحدث الوفاة، وجريمة استعمال المزور في أغلب صورها جرائم مستمرة لكن قد تقع وقتية مثل الحالة التي يبرز فيها الجاني بطاقة مزورة ويخبئها مباشرة. وبالتالي خلاصة هذا الرأي أن تقسيم الجرائم إلى وقتية ومستمرة ليس تقسيما مطلقا بل نسبيا، حيث ليس هناك جرائم وقتية بطبيعتها أو جرائم مستمرة بطبيعتها ولكن هناك جرائم يغلب فيها أن تكون وقتية وأخرى يغلب فيها أن تكون مستمرة. غير أن الإشكال المطروح هو انعدام معيار تشريعي من خلاله يمكن تحديد ما إن كان الزمن مستمرا أو مؤقتا، وهو ما جعل أنصار هذا الاتجاه يتركون المسألة للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع يستنتجه من النص المقرر للجريمة ذاته.

والجرائم المستمرة لا تنحصر في الجرائم الإيجابية فقط، بل يمكن أن تشمل أيضا الجرائم السلبية مثل عدم تسليم طفل لمن له الحق في حضانته، وقد يظهر أحيانا أن الجريمة الوقتية قد تستغرق وقتا زمنيا كجريمة السرقة والتزوير، لكن رغم ذلك تبقى مثل هذه الجرائم جرائم وقتية، والاستمرار نسبي قد يستغرق دقائق أو ساعات أو أيام أو أكثر كما أن الاستمرار قد يلحق السلوك كما قد يلحق النتيجة مثل جريمة إخفاء أشياء مسروقة.










قديم 2013-01-29, 00:28   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
hadia369
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية hadia369
 

 

 
إحصائية العضو










A16

لمطلب الثاني
صور الخــــطأ الجنائي ودرجاته

للخطأ الجنائي صور حددها المشرع، وأثارت الخلاف ما إن كانت على سبيل الحصر أو على سبيل المثال، وفي العادة التشريعات متفقة بخصوصها، كما انه للخطأ درجات وحالات وضوابط وأثارت العديد من الجدل الفقهي، وهو ما نتناوله باختصار في الفرعين التاليين.

الفرع الأول
صور الخطأ الجنائي

حدد المشرع الجزائري صور الخطأ الجنائي بمناسبة نصه على أخطر الجرائم غير العمدية، وهما جريمتي الجروح الخطأ والقتل الخطأ، المنصوص والمعاقب عليهما بموجب المادتين 288 و289 من تقنين العقوبات الجزائري[5]، اللتان أوردتا صور الخطأ على سبيل الحصر لا المثال، لذلك لا يجوز القياس عليها ولا تفسيرها بصورة موسعة إعمالا لبدا الشرعية الجنائية، وهذه الصور هي: الرعونة، عدم الاحتياط، الإهمال وعدم الانتباه، عدم مراعاة الأنظمة والقوانين.

أولا: الرعــــــونة

وهي الصورة التي يسميها الفقه أيضا ب:" الخطأ الفني"، وهي تعني نوع من الطيش والخفة وسوء التقدير في عمل يتعين من القائم به أن يكون على دراية وعلم به، أو هي سوء تقدير للكفاءة والقدرة، وهي في العادة تنجم عن عدم مراعاة قواعد الخبرة الإنسانية الخاصة أو المهنية التي توجبها ممارسة مهنة
أو حرفة معينة، من ناحية، ومن ناحية ثانية، قد تنجم عن مسلك إيجابي يقوم به الجاني كان يتعين عليه الامتناع عن القيام به بالكيفية التي تم بها، أو في الوقت الذي تم فيه، كالطبيب الذي يقوم بإجراء عملية جراحية لمريض دون أن يراعي في ذلك أبسط الأصول المهنية والقواعد العلمية، فيترتب على ذلك موت المريض، أو دون أن يستعين بطبيب تخدير، أو يكتفي بتخدير موضعي بينما توجب الأصول العلمية أن يكون تخديرا كليا، وكذا صاحب البناء الذي يتقاعس عن صيانة عقاره وترميمه فيتسبب في قتل خطا. وعليه،
ومثلما تقدم، تقوم حالة الرعونة نتيجة موقف أو سلوك سلبي، في الحالات التي يحجم فيها الجاني عن اتخاذ عمل كان توجبه قواعد الخبرة المهنية باتخاذه، كالممرضة التي يستغرقها مشاهدة إحدى المسلسلات التلفزيونية أو مواصلة الثرثرة مع زميلاتها فلا تقوم إعطاء المريض المتواجد في حالة خطر دواءه في الميعاد المحدد بما يؤدي إلى وفاته.

ثانيا: عـــدم الاحتياط

وتسمى فقهيا أيضا " عدم الاحتراز"، وهي حالة تقوم بمجرد الاستخفاف بالأمر وعدم اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع حدوث الضرر الممكن تصور حدوثه من أمر قابل لإحداث مثل هذا الضرر، وبالتالي عدم الاحتياط في جوهره عبارة عن اتخاذ موقف إيجابي يتمثل في مباشرة الجاني لسلوك كان يتعين عليه الامتناع عن إتيانه، نظرا لما يترتب عليه من أضرار، وأن قواعد الخبرة الإنسانية العامة تأبى إتيان مثل هذه السلوكات في مثل هذه الظروف، كسائق السيارة الذي يقود سيارته بسرعة جنونية في شارع مليء بالمارة فيصدم أحدهم فيقتله، أو كالأب الذي يسلم ابنه الصغير عجلا فيفلت منه ويصدم أحد الأشخاص فيقتله.

ثالثا: الإهمال وعدم الانتباه

الإهمال هو سلوك يتمثل في عدم بذل الشخص العناية اللازمة في عمل يتطلب مثل هذه العناية، كمن يهمل صيانة سيارته ويصدم شخصا بسبب عدم اشتغال المكابح، وبالتالي الإهمال هو اتخاذ موقف سلبي من عمل كان يتعين اتخاذه وفقا لما تمليه قواعد الخبرة الإنسانية العامة، مما يجعل من هذا الامتناع يرتب نتائج ضارة، كامتناع حارس ممر السكة الحديد عن إغلاق ممر الراجلين وقت مرور القطار مما يجعله يصدم أحد المارة، أو الأم التي تترك رضيعها بجوار موقد غاز مشتعل مما يؤدي إلى سقوطه في إناء ماء مغلي. أما عدم الانتباه فهو انحراف يتمثل في عدم اكتراث الشخص بضرورة اليقظة الدائمة فيسبب ذلك ضررا للغير.

رابعا: عدم مراعاة الأنظمة والقوانين

على خلاف صور الخطأ السابقة التي تقوم كلها على مخالفة قواعد الخبرة الإنسانية العامة
أو الأصول العلمية والمهنية، فإن هذه الصورة تعد أبسط وأسهل صور الخطأ للإثبات، إذ يكفي مقارنة سلوك الشخص مع متطلبات القوانين والأنظمة، فمجرد كون السلوك مخالفا للوائح والأنظمة تقوم الجريمة، مثلما هو الأمر في مخالفة قوانين المرور أو قواعد البوليس المنظمة لحركة سير المركبات واستخدام الآلات والأسلحة، ويستوي في هذه القواعد أن تكون صادرة عن السلطة التشريعية كما هو الشأن بالنسبة للقوانين بالمعنى الضيق للمصطلح، أو عن السلطة التنفيذية مثل لوائح التنفيذ والتنظيم والضبط، أو صادرة عن السلطات الإدارية في الحدود المسموح لها بإصدار مثل هذه اللوائح، وفي هذه الصورة قد يجد الشخص نفسه أمام جريمتين، جريمة مخالفة الأنظمة واللوائح حتى وإن لم يترتب عليها أي ضرر، وجريمة أخرى تتمثل فيما أحدثته هذه المخالفة من أضرار للغير. ومخالفة الأنظمة واللوائح عبارة عن خطأ مفترض لا تلتزم المحكمة بإقامة الدليل على توفره، على خلاف صور الخطأ الأخرى، فبمجرد مخالفة الأنظمة والقوانين ينعت سلوك المخالف بالخاطئ، وافتراضه يرقى لمرتبة حد القرينة القاطعة التي لا تقبل إثبات العكس.
والملاحظ بأن هذه الصورة الوحيدة من صور الخطأ التي لا يشترط فيها المشرع حصول نتيجة معينة بل مجرد مخالفة اللائحة أو النظام يقيم الجريمة، بل أن حصول نتيجة محظورة قانونا تجعل الشخص يسأل عن جريمتين. مما يجعل من هذه الصورة جريمة شكلية أو جريمة سلوك محض، على خلاف باقي الصور الأخرى التي تعد فيها الجريمة غير العمدية جريمة مادية ذات نتيجة ضارة يشترطها المشرع لقيام الجريمة.

الفرع الثاني
ضابط الخطأ الجنائي وحالاته

اختلف الفقه بخصوص الضابط الحاكم للخطأ، وكالعادة انحصر الخلاف بين المذهبين الموضوعي والشخصي، وظهر الاتجاه التوفيقي، كما حاول الفقه تحديد حالات الخطأ، وهو ما نبينه في النقطتين التاليتين.

أولا: ضابط الخطأ

بعد أن تتحدد صورة الخطأ على النحو السابق، وجب البحث عن المعيار الذي يقاس به هذا الخطأ، وثار تساؤل عما إن كان يرجع في ذلك إلى معيار شخصي يتمثل فيما توقعه الجاني بالفعل، أو كان بإمكانه أن يتوقعه، أو فيما كان يجب أن يتخذه من احتياطات، أم يرجع في ذلك إلى معيار موضوعي يتمثل في معيار الرجل العادي المتمثل في الشخص متوسط الذكاء والحذر والحيطة بعيدا عن حرص الجاني ذاته؟، وهنا كالعادة ظهر المعيار الموضوعي المعتمد على " معيار الرجل العادي"، والذي انتقد على أساس أنه معيار مادي لا يلاءم فكرة نفسية متمثلة في الركن المعنوي، لذا طرح البعض المعيار الشخصي المتمثل في بحث موقف الجاني نفسه في ظروفه الآنية والواقعية مع مختلف جوانب شخصيته وما يتمتع به من ذكاء وقدرات، وبالتالي إن كان الجاني ولا أحد سواه يعلم أو يتوقع بصلاحية سلوكه لإحداث النتيجة قام الخطأ في جانبه، أما إذا كان الجاني متواضع القدرات ومحدود الخبرة وقليل الذكاء يجهل بصلاحية سلوكه لإحداث النتيجة أو لا يتوقع ذلك فإن الخطأ ينتفي في جانبه، ويميل الفقه إلى اعتبار المعيار الشخصي أكثر ملائمة لتقدير فكرة الخطأ واستخلاص عنصر العلم لدى الجاني. وغالبية الفقه يرى أنه يجب إعمال معيار مختلط يجمع ما بين المعيار الشخصي والمعيار الموضوعي، حيث يؤخذ من المعيار الموضوعي معيار الشخص العادي إذا وجد ضن نفس الظروف، حيث إذا وجد الجاني قد التزم بقدر من الحيطة والحذر في تصرفه يوافق ما كان يفعله الشخص المعتاد الذي وجد في مثل ظروفه، انتفى خطأه، أما إذا بذل قدرا من الحيطة والحذر أقل من ذلك نسب إليه الخطأ. نحن نرى أن هذا المعيار ما هو إلا تكريس لمعيار موضوعي، ونرى أنه بما أننا بصدد الركن المعنوي فالقاضي يأخذ في اعتباره دوما المعيار الشخصي باعتبار الركن المعنوي ينطوي أكثر على جوانب نفسية أكثر منها موضوعية.
ثانيا: حالات الخطأ
للخطأ حسب غالبية الفقه، حالتين أيا كانت الصورة التي اتخذها، وهي إما أن يكون خطئا واعيا وإما أن يكون خطئا غير واعي. فالخطأ الواعي faute consciente، ويسمى أيضا الخطأ بتبصر أو الخطأ المصحوب بتوقع، هو الحالة التي يتوقع فيها الجاني حصول النتيجة الضارة لكنه لا يريدها، ويأمل في عدم حدوثها، إما نتيجة لاحتياط اتخذه يحول دون حدوثها في حين لم يكن كافيا، والحالة التي لا يتخذ فيها أصلا أي احتياطات للحيلولة دون حدوثها، مما يعني أنه يستوي لديه حدوثها من عدمه. والحالة الثانية، هي الخطأ غير الواعي faute inconsciente، ويطلق عليه أيضا الخطأ بغير تبصر أو الخطأ غير المصحوب بتوقع، وهي الحالة التي لا يتوقع فيها الجاني حدوث النتيجة الضارة، في حين كان يجب عليه أن يتوقع ذلك أو من واجبه أن يتوقعها، وطالما لم يتوقع الجاني النتيجة، فإنه على عكس الحالة السابقة لا يتخذ أي إجراءات تحول دون حدوث النتيجة.

الفرع الثالث
الخطأ المدني والخطأ الجنائي

نصت المادة 124 وتقابلها في القانون المصري المادة 163 التي نصت على أنه :" كل خطأ سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض" ، وبالتالي المشرع المدني لم يحصر صور للخطأ كما لم يحدد لها درجات.لذا ثار تساءل منذ زمن، ما إن كان المشرع الجنائي بدوره يرتب المسؤولية الجنائية عن الخطأ أيا كانت درجته، أم أنه خلافا للمشرع المدني يستلزم أن يرقى الخطأ إلى درجة من الجسامة حتى يمكن أن يرتب المسؤولية الجنائية غير العمدية . ولقد ساد ولزمن طويل قديما أن الخطأ يقسم إلى ثلاث درجات، الخطأ الجسيم الذي تكون نتيجته الضارة متوقعة من قبل الجميع، والخطأ البسيط، الذي يكون ضرره متوقع فقط من قبل الرجل المعتاد، والخطأ اليسير جدا وهو الخطأ الذي يكون ضرره غير متوقع وغير ممكن إلا بانتباه غير عادي يفوق انتباه ما يحظى به الرجل العادي، وهي الدرجات الثلاث التي يجب أن ينظر إليها في كل حالة على حده آخذين بعين الاعتبار للسن ودرجة الثقافة، وكان التساؤل في ظل هذه التفرقة : بأي درجة يقوم الخطأ الجنائي ؟ وما إن كان يقوم كل من الخطأ المدني والخطأ الجنائي بدرجة واحدة؟ وهو السؤال الذي تنازع إجابته اتجاهان.اتجاه أول : استقلال الخطأ المدني عن الخطأ الجنائي، ويذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن ما يقوم به الأول لا يجب أن يقوم به الثاني، وإن كان الخطأ الجسيم والبسيط قد يقوم بها كلا نوعي الخطأ، فإن الخطأ اليسير جدا لا يمكن أن يقوم به سوى الخطأ المدني، وذلك بالنظر لما بين الخطأين من فوارق، أهمها:اختلاف الخطأين من حيث الطبيعة، واختلافهما من حيث الجزاء، واختلافهما من حيث عبء الإثبات. والاتجاه الثاني : وحدة الخطأ الجنائي والخطأ المدني، يرى أنصار هذا الاتجاه أنه لا فارق بين الخطأين وأن ما يقوم به الخطأ المدني يصح أن يقوم به أيضا الخطأ الجنائي، خاصة وأن كلاهما يقاس بمعيار واحد هو معيار الرجل العادي، وكل ما هو موجود من فروق ينحصر في أن القانون المدني لم يبين صور الخطأ المدني في حين المشرع الجنائي حصر صوره ما ذلك إلا نتيجة تقيد المشرع بمبدأ الشرعية الجنائية. وهو الاتجاه الذي تحول إليه القضاء الفرنسي وما سايره أيضا القضاء المصري.

المطلب الثالث
الشروع والاشتراك في الجرائم غير العمدية

باختصار شديد، وبالنظر لبساطة المسألة سوف لن نقسم هذا المطلب إلى فروع، حيث أنه لا شروع ولا اشتراك في الجرائم غير العمدية، خاصة وأن هذه الأخيرة في غالبيتها من المخالفات في حين سبق القول بأن الشروع لا يكون إلا في الجنايات وفي الجنح بموجب نص خاص ولا شروع إطلاقا في المخالفات، وهو نفس الوضع تقريبا بالنسبة للاشتراك....كما أنه لا ظروف تشديد ولا تخفيف بخصوص الجرائم غير العمدية ما عدا ما قضت به المادة 290 من تقنين العقوبات الجزائري التي تضاعف العقوبة المقررة في حالة ارتكاب الجريمة في حالة سكر أو ارتكاب الجريمة ومن بعدها محاولة الهرب من المسؤولية[6]، وإن كان ذلك قد يقيم أيضا جريمة أخرى هي جريمة التهرب من المسؤولية أو عدم تقديم مساعدة لشخص في حالة خطر.

الفصل الخامس
تصنيــــف الجرائم

سبق لنا القول عند تناولنا لتقسيمات الجريمة وتصنيفها بناء على الركن المعنوي للجريمة، الذي تناولنا فيه التقسيم الثلاثي أو القانوني، وكذا تمييز الجريمة إلى عادية وسياسية وعسكرية، أننا سنرجئ الحديث عن باقي التصنيفات والتقسيمات الأخرى المعتمدة على الركنين المادي والمعنوي، إلا ما بعد استيعاب كنه ومضمون وأبعاد هذين الركنين، لذا سنحاول أن نتناول من خلال مبحثين التصنيفات المعتمدة على الركن المادي، والأخرى المعتمدة على الركن المعنوي. على أننا سنختصر قدر الإمكان بخصوص بعض التصنيفات التي سبق تناولها في مواضع أخرى من هذه الدراسة، وكذا بخصوص الجوانب الإجرائية المتعلقة بفائدة التفرقة، كونها مسائل يصعب استيعابها قبل دراسة قانون الإجراءات الجزائية.

المبحث الثاني
تقسيم الجرائم بحسب طبيعة وتكوين الركن المادي

بالنظر للركن المادي للجريمة، يمكن تقسيم الجرائم عدة تقسيمات، منها ما يأخذ بعين الاعتبار عنصر الزمن الذي يستغرقه إتمام الركن المادي للجريمة، حيث تقسم الجرائم بالنظر إلى ذلك إلى جرائم وقتية وجرائم مستمرة، كما تقسم بحسب النظر إلى السلوك إلى جرائم إيجابية وجرائم سلبية، أو بالنظر لتعدده إلى جرائم اعتياد وجرائم بسيطة أو بالنظر إلى النتيجة إلى جرائم ذات النتائج وجرائم شكلية.

المطلب الأول
تقسيم الجرائم إلى وقتية ومستمرة

وأساس هذا التقسيم، هو الزمن الذي يستغرقه تحقق أركان الجريمة، الركن المادي والركن المعنوي معا، واستنادا لذلك تكون الجريمة وقتية إن لم يستغرق ارتكابها سوى برهة زمنية قصيرة، أما إذا امتد ذلك فتعد الجريمة مستمرة. والعبرة بالزمن الذي استغرقه الركن لا للأثر الذي ترتب عليها، فالقتل نتيجته إزهاق الروح إلى الأبد وبالتالي هو جريمة مستمرة الآثار، وليس هذا هو المقصود، وإنما وقتية السلوك التي أزهقت الروح، أما الجريمة المستمرة فركنها المادي مصحوبا بالركن المعنوي، يستغرق زمنا طويل نسبيا، سواء كان الاستمرار للسلوك دون النتيجة أو لهذه الأخيرة دون السلوك، فالاستمرار قد ينظر له من خلال الفعل كما قد ينظر له من خلال النتيجة الجرمية التي تحققت، بشرط أن تظل إرادة الجاني حاضرة طيلة الوقت الذي استغرقه الركن المادي، وبمعنى آخر مواكبة الركن المعنوي للركن المادي، وإلا خرجت الجريمة من المعنى الفني للجريمة المستمرة، لذا يميز الفقه بين نوعين من الاستمرار.الاستمرار المتجدد، وهو الاستمرار الذي يستلزم تدخل إرادة الجاني بصفة متجددة وهي حالة مواكبة الركن المعنوي لحالة الاستمرار وتسمى الجريمة عندئذ ب: délit continu successif ، والاستمرار الثابت أو المضطرد، وهو الاستمرار الذي إذا انطلق بقي بذاته دون حاجة إلى تدخل جديد من قبل إرادة الجاني، وبمعنى آخر دون حاجة لمواكبة الركن المعنوي لحالة الاستمرار وتسمى الجريمة عندئذ ب : délit continu permanent وهو ما يسميه الفقه بأنه الجريمة الوقتية في حد ذاتها في الحالة التي تخلف فيها أثار، وهو رجوع من جديد للتقسيم التقليدي بين الجريمة الوقتية والجريمة المستمرة، على أن يفهم بأن الاستمرار هو ما يلزم تدخل إرادة الجاني طوال فترة الاستمرار وأن يفهم من الجرائم الوقتية ما يحدث من آثار فورية حتى ولو كانت ممتدة في الزمن.وهو ما يحتم علينا لمزيد من التوضيح تبيان المعيار المعتمد للتقسيم بين الجرائم الوقتية والجرائم المستمرة.

الفرع الأول
معيار التمييز بين الجرائم الوقتية والجرائم المستمرة
kجد الفقه يتنازعه معياران، الأول هو معيار طبيعة الاعتداء في حد ذاته، والثاني هو معيار الامتداد الفعلي للزمن الذي تستغرقه الجريمة .
أولا: معيار طبيعة الاعتداء

وهو المعيار الذي يذهب أنصاره للتفرقة بين الجرائم الوقتية والجرائم المستمرة إلى اعتماد طبيعة الاعتداء ذاته، وهل هو قابل في حد ذاته للاستمرار من عدمه، فإذا كان الاعتداء في طبيعته قابلا للاستمرار كانت الجريمة مستمرة، مثل جريمة إخفاء الأشياء المسروقة حتى ولو استمر الإخفاء للحظة فقط كون الإخفاء بطبيعته قابلا للاستمرار، وإن كان غير قابل لذلك كانت الجريمة وقتية

ثانيا: معيار الامتداد الفعلي للزمن الذي تستغرقه الجريمة

وهو المعيار الذي يرى أنصاره، إلى أن العبرة في التفرقة بين المؤقت والاستمرار هو الامتداد الفعلي للزمن الذي يستغرقه تحقق عناصر الجريمة، فالركن المادي قد يتخذ وضع الاستمرار في الجريمة الواحدة مرة وقد يتخذ وضع التأقيت في وضع آخر في ذات الجريمة، وكل ذلك بحسب ارتكاب الجاني للواقعة، وبالتالي الجريمة التي قد يتمثل بها أنها وقتية يمكن أن تقع مستمرة والعكس صحيح، والعبرة في كل ذلك بالزمن الفعلي الذي استغرقه ارتكاب الجريمة بركنيها المادي والمعنوي، لذا يرى أنصار هذا الاتجاه أن تقسيم الجرائم إلى وقتية ومستمرة له طابعا نسبيا، فالسرقة في أغلب صورها جرائم وقتية، ومن المتصور أن تكون مستمرة مثل حالة سرقة التيار الكهربائي، وجريمة القتل في أغلب صورها جريمة وقتية لكن قد تكون جريمة مستمرة في حالة القتل بالتسميم عن طريق إعطاء جرعات من السم على فترات ممتدة عبر الزمن خاصة إن كانت الجرعة الواحدة غير كافية لإحداث الوفاة، لكن مجموع هذه الجرعات هو الذي أحدث الوفاة، وجريمة استعمال المزور في أغلب صورها جرائم مستمرة لكن قد تقع وقتية مثل الحالة التي يبرز فيها الجاني بطاقة مزورة ويخبئها مباشرة. وبالتالي خلاصة هذا الرأي أن تقسيم الجرائم إلى وقتية ومستمرة ليس تقسيما مطلقا بل نسبيا، حيث ليس هناك جرائم وقتية بطبيعتها أو جرائم مستمرة بطبيعتها ولكن هناك جرائم يغلب فيها أن تكون وقتية وأخرى يغلب فيها أن تكون مستمرة. غير أن الإشكال المطروح هو انعدام معيار تشريعي من خلاله يمكن تحديد ما إن كان الزمن مستمرا أو مؤقتا، وهو ما جعل أنصار هذا الاتجاه يتركون المسألة للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع يستنتجه من النص المقرر للجريمة ذاته.

والجرائم المستمرة لا تنحصر في الجرائم الإيجابية فقط، بل يمكن أن تشمل أيضا الجرائم السلبية مثل عدم تسليم طفل لمن له الحق في حضانته، وقد يظهر أحيانا أن الجريمة الوقتية قد تستغرق وقتا زمنيا كجريمة السرقة والتزوير، لكن رغم ذلك تبقى مثل هذه الجرائم جرائم وقتية، والاستمرار نسبي قد يستغرق دقائق أو ساعات أو أيام أو أكثر كما أن الاستمرار قد يلحق السلوك كما قد يلحق النتيجة مثل جريمة إخفاء أشياء مسروقة.


.
الفرع الثاني
أهمية تقسيم الجرائم إلى جرائم وقتية وجرائم مستمرة

لتقسيم الجرائم إلى جرائم مستمرة وجرائم مؤقتة أهمية تتبين من نتائج التفرقة ذاتها، منها نتائج ترتبط بالقواعد الجنائية الموضوعية، ومنها ما يتعلق بالقواعد الجنائية الإجرائية.

أولا: النتائج المرتبطة بالقواعد الجنائية الموضوعية

من أهم النتائج المرتبطة بتقسيم الجرائم إلى جرائم وقتية وجرائم مستمرة، من الناحية الموضوعية، مسألة سريان النص الجنائي من حيث الزمان والمكان. ففي الجرائم المستمرة يسري القانون الجنائي الأشد لو عمل به قبل انقطاع حالة الاستمرار حتى ولو كانت قد بدأت في ظل القانون القديم الأصلح، حيث تعد الجريمة قد وقعت في ظل القانون الجديد حتى ولو كان قد بدأت في ظل القانون القديم، وهو الأمر الذي لا يعمل به بخصوص الجرائم المؤقتة، أما من حيث سريان النص الجنائي من حيث المكان، يتحدد مكان وقوع الجريمة المستمرة بكل مكان قامت فيه حالة الاستمرار، فأي جزء قام في إقليم الدولة يعد نشاطا إجراميا كاملا وليس جزءا من جريمة وقع بعضها على إقليم الدولة وبعضها في الخارج، ويضيف البعض أهمية تكمن في وقت تقدير قيام الركن المعنوي، حيث أنه في الجرائم الوقتية يجب أن يتعاصر كل من الركن المادي والركن المعنوي، وإن تراخى الأخير فلا قيام للبنيان القانوني للجريمة المؤقتة، لكن في الجريمة المستمرة يمكن أن يتراخى أحدهما عن الآخر لذا يقدر الركن المعنوي على عنصر العلم بعد بدء السلوك كحيازة الشخص بداية لشيء مسروق عند الحيازة كان حسن النية ثم يعلم بالحقيقة ويستمر في ذلك.

ثانيا: النتائج المرتبطة بالقواعد الجنائية الإجرائية

أهم النتائج المترتبة على تقسيم الجرائم إلى جرائم وقتية وأخرى مستمرة من ناحية القواعد الجنائية الإجرائية، ما يتعلق بقواعد الاختصاص والتقادم، وقوة الشيء المقضي به. فبخصوص الاختصاص في الجرائم المستمرة، تكون مختصة كل المحاكم التي قامت في دائرة اختصاصها حالة الاستمرار
أو بدأت أو انقطعت، على عكس الجرائم الوقتية حيث يتحدد بمكان وقوع الجريمة، وبخصوص التقادم المسقط للدعوى، في الجرائم الوقتية يبدأ سريان التقادم بخصوصها من لحظة وقوعها، بينما في الجرائم المستمرة يبدأ التقادم من اليوم التالي لانتهاء حالة الاستمرار فيها وليس من اليوم الذي بدأت فيه حالة الاستمرار. وبخصوص قوة الشيء المحكوم به، في الجرائم المستمرة تنصرف قوة الشيء المقضي به إلى كل حالة الاستمرار السابقة على صدور الحكم، وما يحصل بعد ذلك من قبل إرادة الجاني للإبقاء على حالة الاستمرار يشكل جرائم جديدة تجوز محاكمته عنها دون أن يمس ذلك بمبدأ عدم جواز محاكمة الشخص عن الفعل مرتين، على عكس الجريمة الوقتية التي ينصرف فيها الحكم إلى الجريمة المقامة عنها الدعوى كلها. وبخصوص العفو فإن العفو الصادر عن الجريمة الوقتية، يمحو الجريمة ويمنع بالتالي رفع الدعوى العمومية عنها ثانية، في حين العفو الصادر في الجريمة المستمرة فإنه لا يحول دون رفع الدعوى العمومية عنها متى تجددت حالة الاستمرار، هذا ونشير بأن الفقه يضيف إلى النوعين السابقين، الجريمة الوقتية والجريمة المستمرة، نوعا وسطا وهو الجريمة الوقتية المتتابعة.

الفرع الثالث
الجرائم الوقتية المتتابعة

وهو نوع من الجرائم التي يطلق عليها أيضا مصطلح الجريمة ذات الأفعال المتلاحقة
أو المتكررة، وهي الجريمة التي ترتكب من أجل غرض إجرامي واحد من قبل مرتكبها غير أنها تقوم بأفعال متعددة ومتماثلة يجمع بينها وحدة الحق المعتدى عليه، وتستهدف إحداث نتيجة إجرامية واحدة، وبالتالي هي نوع من الجرائم الوقتية تصبح متتابعة ويشترط لكي تكون كذلك الشروط التالية.

أولا: تماثل الأفعال وتتابعها

في الأصل كل الأفعال التي تتشكل منها الجريمة تعد جريمة مستقلة في حد ذاتها، حيث لو اكتفى الجاني بواحد منها عوقب عليه كجريمة، كضرب الجاني للمجني عليه عدة ضربات أو تزييف عدد من الأوراق النقدية، وهي جريمة بالرغم من أنها تظهر على أنها تعدد الجرائم إلا أنه في هذا النوع من الجرائم تعد جريمة واحدة لا توقع عليه من أجلها سوى عقوبة واحدة، كون تعدد وتماثل الأفعال في هذه الحالة لا يعد تعددا للركن المادي للجريمة، وذلك لوجود نوع من التقارب بين تكرار الأفعال دون اشتراط أن تقع في وقت واحد ولا في مكان واحد.

ثانيا: وحدة الحق المعتدى عليه

الشرط الثاني في هذا النوع من الجرائم، هو أن تقع الأفعال المتتابعة أو المتماثلة الحاصلة في توقيت متقارب على حق واحد محمي قانونا، كجريمة الضرب بعدة ضربات تمس حق واحد هو حق المجني عليه في سلامة جسده، وفي جريمة تزوير النقود هو حق الدولة في الثقة في عملتها وسلامة اقتصادها. غير أن القفه لم يتفق حول اشتراط أن يكون شخص المجني عليه شخصا واحدا، فجانب من الفقه يرى أنه إذا تعدد المجني عليهم أصبحنا بصدد تعدد للجرائم، سيما في جرائم الأشخاص، بينما ذهب اتجاه ثاني من الفقه أن لا يقضي أن يكون الشخص المجني عليه شخصا واحدا، فالوحدة مشترطة في الحق المعتدى عليه لا في الأشخاص.

ثالثا: وحدة المشروع الإجرامي
يستتبع الشرطين السابقين، أن يكون ما يجمع الأفعال السابقة المتتابعة والمتتالية مشكلة لمشروع وغرض إجرامي واحد لدى الجاني، أي خطة إجرامية واحدة تعددت عناصرها ووسائل تنفيذها.

وبالرغم من أن هذه الجريمة من الجرائم الوقتية مثلما تدل عليه تسميتها، إلا أنه تخضع في أحكامها لأحكام تشبه تلك التي تخضع لها الجرائم المستمرة، سيما ما تعلق بما يلزم من زمن طويل نسبيا يستغرقه ارتكاب الركن المادي لهذا النوع من الجرائم، ونؤيد هذا الرأي سيما بخصوص النقاط التي تناولناها سابقا بخصوص أهمية التقسيم ما بين الجرائم المستمرة والجرائم الوقتية بخصوص القانون الأشد وسريان القانون من حيث الزمان والمكان أو من حيث القواعد الجنائية الإجرائية من حيث التقادم وحجية الحكم ...

المطلب الثاني
الجرائم الإيجابية والجرائم السلبية

وهو التقسيم الذي يستند إلى طبيعة السلوك الإجرامي، وما إن كان يتخذ صورة إيجابية أو صورة سلبية، وبيان ذلك يتضح من خلال القواعد الجنائية التي يسنها المشرع كونها قواعد قد تتضمن أوامر للأفراد كما قد تتضمن نواهي، ففي حال مخالفة الأوامر يكون الشخص مرتكبا لجريمة سلبية وفي حال ما كنت تتضمن المخالفة لنهي عدت الجريمة جريمة إيجابية. فانتهاك النهي يكون بإتيان الجاني لحركة إرادية مادية يسعى من خلالها لتحقيق النتيجة المجرمة قانونا، وهو النوع الغالب والأهم من بين أنواع الجرائم.أما انتهاك الأوامر، فيتمثل في امتناع الجاني عن القيام بعمل يأمر به القانون ويعد ذلك اتخاذ لموقف سلبي من قبله اتجاه القاعدة الجنائية التي تأمره بالفعل. وهناك طائفة ثالثة من الجرائم تتوسط الطائفتين السابقتين، وهي الجرائم التي يكون فيها السلوك متكونا من فعل إيجابي وامتناع في ذات الوقت، ويرى الفقه أنه نوع إذا نظر إليه بتمعن لوجد أنه يميل للجرائم الإيجابية أكثر.
الفرع الأول
وقوع الجريمة الإيجابية عن طريق الامتناع

شغلت مسألة ما إن كان يمكن تصور قيام الجريمة الإيجابية عن طريق الامتناع الفقه، وأثارت بذلك جدلا فقهيا منذ زمن بعيد، وأغلب مجال كان مدارا لمثل هذا الجدل، هو الجريمة القتل والتساؤل عما عن كان يمكن أن يتم عن طريق الامتناع أم لا، كامتناع الأم عن إرضاع ابنها فيموت، أو امتناع مراقب الشاطئ عن إنقاذ الغريق فيموت، أو امتناع الممرضة عن إعطاء المريض الدواء فتسوء حالته ويموت، وإن كان يمكن أيضا أن يثار الإشكال بالنسبة لجرائم أخرى غير القتل، وعموما تنحصر المسألة في إطار الجرائم ذات النتائج وأن تكون من الجرائم العمدية أيضا، ويضاف لكل ذلك ألا يكون الجاني قد قام بعمل حتى لا نكون بصدد جريمة إيجابية، وتمثلت الاتجاهات الفقهية في حل مسألة الجرائم الإيجابية عن طريق الترك
أو الامتناع يمكن أن نميز بين الاتجاهات الفقهية الثلاث التالي تناولها.

أولا:عدم إمكان العقاب على النتيجة الإيجابية إن كانت نتيجة امتناع

وهو اتجاه يرى أنصاره أن من امتنع عن فعل لا يمكن القول أنه ارتكبه، أو قصده، وذلك أن الامتناع عبارة عن عدم والعدم لا يمكن أن يفضي إلا إلى عدم مثله، ونجد هذا الاتجاه سائدا في الفقه الفرنسي والقضاء الفرنسي، حيث يرون أن الحالات التي يمكن أن تتم فيها نتيجة إيجابية عن طريق الامتناع يجب أن يحددها المشرع بموجب نص خاص نظرا لخصوصيتها وأشهر قضية في القضاء الفرنسي تدلل على ذلك هو القضية الشهيرة بتسمية حبيسة بواتييه LA SEQUESTSTREE DE POITIERS حيث رفض قضاة بواتييه إدانة المدعو مونييه بتهمة إستعمال العنف والتعدي لما جعل أخته المريضة مرضا عقليا تحيا لعدة سنوات في غرفة لا يدخلها هواء نقي ولا ينفذ إليها ضوء إلى غاية أن تدهورت حالتها الصحية، وبررت المحكمة قضائها بأنه لا يمكن للعنف والتعدي أن يقوم دون وقوع هذا العنف أو التعدي.

ثانيا: إمكان وقوع الجريمة الإيجابية عن طريق الترك

وهو اتجاه يرى أنصاره أن السلب مظهر للتعبير عن الإرادة مثل الإيجاب تماما، وأن موطن الصعوبة فقط حسب أنصار هذا الاتجاه يكمن في استخلاص رابطة السببية بين امتناع الجاني والنتيجة المجرمة التي تحققت، حيث في مثل هذه الحالات يصعب القطع بتوفر العلاقة السببية، لذا نجدهم يشترطون للجزم بقيام مثل هذه الرابطة أن يكون الجاني ملتزما التزاما قانونيا أو تعاقديا بالعمل على منع وقوع هذه النتيجة، ويلزم أن يتدخل المشرع لتقرير ذلك بموجب نص صريح في القانون، وهو ما له مثيل في القانون الإيطالي لسنة 1930 في المادة 40/2 التي قضت أنه : " عدم منع التي يلتزم الشخص قانونا بمنعها يعادل إحداثها " والقانون الألماني لسنة 1975 في المادة 13 التي قضت أنه :" من يحجم عن تفادي نتيجة، تشكل عنصرا في جريمة، لا يعاقب بمقتضى أحكام هذا القانون إلا إذا كان ملزما قانونا بمنع تحقق هذه النتيجة، وكان الامتناع يعادل الإيجاب في تحقيق هذا العنصر".

ثالثا: وهو اتجاه يتفق مع الرأي السابق في إمكان تحقق النتيجة الإيجابية عن طريق الترك، غير أنه لا يضيف شرط وجوب أن يكون الجاني ملزما قانونا أو تعاقديا بمنع حدوث النتيجة المجرمة، فالقانون حسبهم يعاقب على النتائج المجرمة دون أن يعبأ بوسيلة تحققها، وعليه تستوي كل الوسائل من حيث صلاحيتها لإحداث النتيجة، وبالتالي لا يشترط سلوك معين لإحداث مثل هذه النتيجة

الفرع الثاني
أهمية تقسيم الجرائم إلى جرائم إيجابية وجرائم سلبية

وهو تقسيم أكثر ما يفيد في نظرية المحاولة أو الشروع، حيث يرى غالبية الفقه أن نظرية الشروع مقصورة على الجرائم الإيجابية دون الجرائم السلبية التي إما أن تقع كاملة وإما ألا تقع. وتتجلى حكمة التجريم في الجرائم البسيطة في خطورة الفعل في ذاته وما قد ينجم عنه من ضرر على الحق المحمي قانونان، أما حكمة تجريم الجرائم الاعتياد فتتجلى في حالة الاعتياد التي يتواجد عليها الجاني التي تصبح مصدر الخطورة الحقيقية التي لأجلها يعاقب على الفعل وليس الفعل في ذاته.

المطلب الثالث
الجرائم البسيطة وجرائم الاعتياد

هناك جرائم لا تكمن خطورتها في ارتكاب الفعل مرة واحدة، وهو حال الجريمة البسيطة، بينما تكمن خطورتها في تكرار الفعل أكثر من مرة، وحينها لا يكون محل التجريم هو السلوك في حد ذاته، بل الاعتياد عليه.
الفرع الأول
معيار التفرقة بين الجرائم البسيطة وجرائم الاعتياد وأهمية ذلك

جرائم الاعتياد، هي جرائم لا تكتمل قانونا إلا بارتكاب الفعل المكون للجريمة أكثر من مرة دون أن يحدد المشرع عدد هذه المرات وأن الفقه السائد أن تقع مرتين وأكثر، في حين هناك رأي آخر يخول السلطة التقديرية للقاضي في تقدير عدد مرات الفعل الذي تكتمل به الجريمة المستمرة قانونا على ضوء ما يستخلصه من توافر حالة الاعتياد لدى الجاني.

أولا: عناصر الاعتياد

الاعتياد يكون بتكرار الفعل في إطار زمني معين. فبخصوص تكرار الفعل، القانون لم يحدد عدد المرات التي يوجب أن يتكرر فيها الفعل، لذا ثار خلاف فقهي حول تحديد عدد المرات، بين اتجاه يرى وجوب تحديده في عدد معين، وهو اتجاه اكتفى بتكرار الفعل مرتين، والبعض الآخر في إطار نفس الاتجاه أن يتكرر الفعل أكثر من ثلاث مرات. ي حين ذهب اتجاه ثاني إلى عدم تحديد الأفعال بعدد معين، ووجوب ترك المسألة للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع، وحجتهم في ذلك أن العدد ليس مطلوبا في حد ذاته، وإنما هو مجرد قرينة على توافر حالة الاعتياد، وقد ذهبت محكمة النقض المصرية إلى تبني الاتجاه الأول وقررت أن يكون تكراره مرتين على الأقل. وهناك عنصر الإطار الزمني ، لتوفر حالة الاعتياد هو أن يتكرر الفعل دون أن يكون الفعل الأول قد سقط بالتقادم، وهو رأي نتبناه كثيرا فما دام التقادم المسقط في اعتبار المشرع يعد قرينة على نسيان الجريمة، فمن باب أولى يجب أن يكون كافيا لنسيان سلوك غير مجرم لوحده ما لم يتكرر، خاصة وأنه سبق القول أن تجريم هذا النوع من الجرائم يجد أساسه في نظر المشرع من خطورة فعل التكرار لا من خطورة السلوك ذاته.

ثانيا: أهمية تقسيم الجرائم إلى جرام بسيطة وجرائم اعتياد

تكمن أهمية تقسيم الجرائم إلى جرائم بسيطة وجرائم اعتياد، في كون هذه الأخيرة تخضع في أحكامها إلى أحكام قريبة من تلك التي تخضع لها الجرائم المستمرة، كون كلاهما يستغرق زمنا طويل نسبيا وما يترتب عن ذلك من تطبيق القانون من حيث الزمان، إذ يسري القانون الجديد حتى ولو كان أكثر شدة على فعل التكرار إن كان قد وقع في ظله، وفي التقادم يسري القانون من أول يوم يلي اكتمال فعل التكرار. غير أن أهم فرق، هو أن المضرور لا يحق له المطالبة بالتعويض كون ما هو مجرم، هو فعل التكرار والعادة لا ما لحق المجني عليه من أضرار.
لكن تبقى هناك صعوبة استخلاص البناء القانوني لجريمة الاعتياد، حيث يرى بعض الفقه أنه هناك صعوبات ثلاث تعترض استخلاص البناء القانوني لهذه الجريمة : أولى الصعوبات، هي ما إن كانت جريمة الاعتياد تقوم بتكرار الفعل مرتين أو أكثر دون عبرة بالزمن الزمن الذي يستغرقه هاذان الفعلان أمي نبغي اشتراط مثل هذا الزمن، والفقه السائد يرى وجوب ألا يمر وقت زمني بين الفعلين يؤدي إلى تقادم هذه الجريمة، وانتقد هذا الرأي على أساس أن الفعل الواحد في جريمة الاعتياد هو عنصر فيها لا تكتمل به الجريمة قانونا وأنه لا مجال للكلام عن التقادم ما لم يكتمل البناء القانوني للجريمة، لذا يجب ترك المسألة للسلطة التقديرية للقاضي. وتتمثل الصعوبة الثانية في تحديد " ذاتية " الفعل المكون لحالة الاعتياد حينما تقترن به بعض الظروف، مثل جريمة الإقراض بالربا في الحالة التي يقرض فيها الشخص عدة قروض لآخر في وقت واحد، وهنا واضح ألا تقوم جريمة الاعتياد لكن في الحالة التي يقرض فيها الشخص بموجب عقد واحد عدة قروض لأشخاص متعددين، فهنا يرى البعض أن الفعل يعد واحد ولا تقوم به جريمة الاعتياد، غير أن البعض يرى أنها عدة قروض وبالتالي لا مناص من قيام جريمة الاعتياد.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه هناك تبعا للتقسيم السابق نوع آخر من الجرائم نتناوله في النقطة الموالية

الفرع الثالث
جرائم الاعتياد، الجرائم المستمرة والجرائم متتابعة الأفعال
التفرقة والنتائج
أولا: التفرقة

بين الأنواع الثلاثة السابقة نقاط التقاء، ونقاط تفترق من خلالها عن بعضها البعض، فهي كلها يتطلب تحققها وقتا من الزمن مما يبرر خضوعها لنوع متشابهة من الأحكام القانونية، غير أن ذلك لا يمنع من وجود فروقات هامة بينها نوجزها في النقاط التالية:تفترض جرائم الاعتياد والجرائم المتتابعة الأفعال أفعالا متعددة ومتماثلة، في حين الجريمة المستمرة كل ما تتطلبه فعل واحد يستغرق مدة من الزمن، جرائم الاعتياد كل فعل منها لا يشكل لوحده جريمة مستقلة، على عكس جرائم الأفعال المتتابعة التي يمكن أن يسأل فيها الجاني عن كل فعل باعتباره يشكل جريمة مستقلة بذاتها. الجريمة المركبة هي الجرائم التي يكون بنيانها القانوني قائما على عدة أفعال جرمية مختلفة تدخل كعنصر من عناصرها أو كظرف مشدد لها كدخول حرمة مسكن للسرقة، هما فعلين مجرمين ومستقلين، غير أنها تعتبر جريمة واحدة كون المشرع جمعهما في نموذج قانوني واحد، أما الجريمة المتتابعة الأفعال أو المتعاقبة، فهي الجريمة التي تتكون من عدة أفعال متتابعة تعتبر كلها جريمة واحد بالنظر لورود كل الاعتداءات على ذات المصلحة المحمية تنفيذا لمشروع إجرامي واحد، كضرب الشخص عدة ضربات متتابعة أو اختلاس أموال الدولة على دفعات والزنا المتتابع مع شريك واحد وحيازة عدة قطع من المخدرات وسرقة التيار الكهربائي عدة أيام والبناء المتوالي بدون ترخيص

ثانيا: النتائج المترتبة عن تقسيم الجرائم إلى بسيطة واعتيادية

من أهم نتائج التفرقة بين الجرائم البسيطة والجرائم الاعتيادة، هي نتائج إجرائية، أولها بخصوص تقادم الدعوى، حيث يسري التقادم بخصوص جرائم الاعتياد من اليوم التالي لآخر فعل من الأفعال المكونة للجريمة قانونا، ولا عبرة في ذلك بالمدة التي تفصل بين الفعلين المكونين لحالة الاعتياد. وفيما يتعلق بالاختصاص المكاني، الاختصاص بنظر جريمة الاعتياد ينعقد لكل محكمة من المحاكم ارتكب في دائرة اختصاصها فعل من الأفعال المتطلبة لتكوين حالة الاعتياد، على عكس الجريمة البسيطة تخضع لاختصاص محكمة مكان اقترفاها، فيما يتعلق بقوة الشيء المقضي به، متى أدين شخص بجريمة اعتياد ليس هناك ما يمنع من رفع الدعوى عليه متى ارتكب بعد الحكم، مرة أخرى الجريمة بفعلين أو أكثر، من دون الأفعال التي سبق الحكم عليه بسببها.وفيما يتعلق بالسريان الزماني للنص، النص القانوني الجديد ولو أسوأ من القديم يطبق على جريمة الاعتياد في فعلها الأخير الذي تقوم به حتى ولو كانت الأفعال السابقة وقعت في ظل القانون القديم.
المطلب الرابع
الجرائم ذات النتائج والجرائم الشكلية

ومعيار التقسيم بين النوعين من الجرائم، هو بالنظر لعناصر ومكونات الركن المادي للجريمة، فالجريمة ذات النتيجة هي الجريمة التي تكتمل فيها عناصر الركن المادي، بينما الجرائم الشكلية هي اتجاه إرادة الجاني لارتكاب السلوك دون النتيجة وتسمى في هذه الحالة أيضا جرائم السلوك المجرد أو الجرائم الشكلية مقابلة للجرائم المادية، وهي الجرائم ذات النتيجة أو جرائم الضرر مقابلة لجرائم الخطر وقد كانت جرائم الخطر موضوع المؤتمر الدولي العاشر المنعقد بروما سنة 1969. وهو تقسيم سبق تناوله، ونختصر أهميته في النقاط التالية: تكمن أهمية التقسيم بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية من عدة أوجه أهمها تتعلق بالقواعد الجنائية الموضوعية سيما في مجال الشروع في الجريمة ومجال علاقة السببية. حيث أنه بخصوص الشروع في الجريمة، فلا يكون إلا في الجرائم ذات النتائج دون جرائم السلوك المحض أو المجرد أو ما تسمى بالجرائم الشكلية التي لا مجال للكلام عن الشروع فيها. وبخصوص البحث عن علاقة السببية، فلا مجال لبحثها في مجال الجرائم الشكلية لانعدام النتيجة فيها وهي التي يحتم البحث ما إن كان يربطها بسلوك الجاني علاقة سببية..
المطلب الخامس
الجرائم المركبة والجرائم متتابعة الأفعال

الجريمة المركبة، هي تلك الجريمة التي يتألف النشاط المكون لركنها المادي من أكثر من فعل، كجريمة النصب التي لا تكتمل قانونا إلا بوقوع فعلين متميزين، هما استخدام الوسائل الاحتيالية ومن ثم الاستيلاء على مال الغير. وبذلك فمن حيث الجوانب الموضوعية تخضع الجريمة المركبة من حيث سريان النص من حيث الزمان للقانون الجديد على كل الجريمة حتى ولو بدأ سريان القانون بعد اقتراف الفعل الأول.
ومن حيث الجوانب الإجرائية ينعقد الاختصاص في الجرائم المركبة لكل محكمة وقع في دائرة اختصاصها فعل من الأفعال المكونة للجريمة، حتى بخصوص مبدأ الإقليمية حيث ينعقد الاختصاص لقضاء كل دولة من الدول التي وقع بإقليمها فعل من الأفعال المكونة لهذه الجريمة، كما أن تقادم الدعوى لا يبدأ في السريان إلا من اليوم التالي لاقتراف آخر فعل مكون للجريمة المركبة بل في جريمة النصب في اليوم الموالي لأخر عنصر من عناصر التسليم.
أما تعريف الجريمة متتابعة الأفعال، هي تلك الجرائم التي تتمثل في أفعال متعددة يجمع بينها بالرغم من هذا التعدد تماثل الحق المعتدى عليه ووحدة الغرض الإجرامي، كمن يصدر عدة شيكات بدون رصيد لشخص واحد عن دين واحد، وهي بذلك جريمة تقوم بعدة أفعال يصلح كل منها لتكوين جريمة مستقلة وكل منها يتكون من ركن مادي وآخر معنوي لكن تصبح جريمة واحدة لتماثل الحق المعتدى عليه ولوحدة الغرض الإجرامي وبالتالي لا يطبق عليها سوى عقوبة واحدة.
المبحث الثاني
تقسيم الجرائم بالنظر لركنها المعنوي
بالنظر للركن المعنوي للجريمة، الذي انتهينا منه منذ قيليل، فهناك تقسيم واحد للجرائم، وهي جرائم عمدية وأخرى غير عمدية، وسنحاول بنوع من الاختصار تناول كل نوع منها في مطلب مستقل.

المطلب الأول
الجرائــــم العمدية
الجريمة العمدية، هي تلك الجريمة التي يتطلب المشرع لقيامها توفر القصد الجنائي بعنصريه العلم والإرادة، إرادة السلوك – وهي صورة مشتركة بين الجرائم العمدية والجرائم غير العمدية – وإرادة النتيجة، بالإضافة إلى العلم بكل العناصر الواقعية الجوهرية اللازمة لقيام الجريمة والعلم بصلاحية السلوك لإحداث النتيجة، وهي صورة العلم الذي إن اتخذ درجة اليقين كان القصد مباشرا وإن اتخذ درجة الاحتمال كنا بصدد القصد الاحتمالي أو القصد غير المباشر، وأن الغالبية العظمى من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات من الجرائم العمدية، وعادة ما يعبر عنه المشرع بعبارات مثل كل من ارتكب " عمدا " أو كل من ارتكب " عالم" وأن كل الجنايات عمدية وأغلب الجنح عمدية أما المخالفات فالقليل منها فقط عمدي.

المطلب الثاني
الجرائم غير العمدية

وتسمى أيضا بالجريمة الخطئية أو بجريمة الإهمال، وهي تلك التي لا يتطلب المشرع لقيامها توافر القصد الجنائي لدى الجاني كون كل ما يلزم فيها إرادة السلوك مع العلم بكافة العناصر الواقعية الجوهرية اللازمة لقيام الجريمة – وهو أيضا عنصر مشترك ما بين الجرائم العمدية والجرائم غير العمدية - دون إرادة النتيجة ، لكن مع العلم بصلاحية السلوك لإحداث النتيجة. وبالتالي تختلف الجريمة غير العمدية عن الجريمة العمدية، في كون الأولى توجب توافر قصد تحقيق النتيجة عكس الجرائم غير العمدية، ومن ناحية ثانية درجة العلم المتطلبة في الجرائم العمدية ترقى لمرتبة اليقين أو الاحتمال، بينما في الجرائم غير العمدية فتتوقف درجة العلم عند درجة الإمكان أي العلم بإمكان تحقق النتيجة كأثر للسلوك.

وهناك نوع من الجرائم قد يثير اللبس بين النوعين السابقي،ن وهو ما يسمى بالجرائم المادية DELIT MATERIELS التي تقع بمجرد إتيان النشاط المكون لركنها المادي حتى ولو لم يقم الركن المعنوي لدى الجاني، و لا حتى مجرد الخطأ أو الإهمال، بل هي جرائم تقوم بالركن المادي وحده دون الركن المعنوي، كالجرائم المرورية والجرائم الضريبية والجرائم الجمركية، وهو ما أثار حفيظة أنصار الفكر الجنائي الحديث الذين يطالبون بجعل الإثم أو الخطأ كأساس للمسؤولية الجنائية، إلا أن المبرر يكمن في القول بأن الجرائم المادية لا تعني انتفاء الركن المعنوي وإنما يجعل فيها المشرع ارتكاب الفعل المادي قرينة على توفر الخطأ لديه وتنقل عبء الإثبات من عاتق النيابة إلى عاتق المتهم الذي له أن يثبت انتفاء مسؤوليته بانتفاء الخطأ من جانبه.
ومن أهم النتائج المترتبة على تفقسيم الجرائم إلى عمدية وغير عمدية، من حيث العقوبة المقررة، فعقوبات الجرائم غير العمدية في العادة عقوبات مخففة مقارنة بالعقوبات المقررة للجرائم العمدية، ومن حيث إمكان العقاب على الشروع، فلا شروع في الجرائم غير العمدية ولا اشتراك فيها.

الباب الثاني
نظرية المسؤولية الجـــنائية

لا يكفي مجرد ارتكاب الجريمة بأركانها المبينة على النحو السابق لاعتبار مقترفها مسؤول عنها مسؤولية جنائية، وبالتالي استحقاق العقاب المقرر لها بل يجب أن تتوفر فيه العناصر القانونية اللازمة المكونة للمسؤولية الجنائية، لأنه هناك فرق كبير بين فكرة الجريمة وفكرة المسؤولية الجنائية، فالجريمة إن كانت تقوم ببنيانها القانوني بموجب الأركان الثلاثة العامة، فإن المسؤولية الجنائية أو كما يسميها البعض " الأهلية الجنائية" أو " أهلية الإسناد". لا تقوم ولا تتحقق إلا إذا كان الفاعل وقت اقترافه الجريمة يتمتع بملكتي " الوعي والإدراك" من ناحية، وبالقدرة على الاختيار أو حرية الاختيار من ناحية ثانية، وبدون هذه العناصر تنتفي المسؤولية الجنائية وبالتالي لا مجال لتوقيع الجزاء على الفاعل، بالرغم من ارتكابه الجريمة على النحو الموصوف قانونا، وإن كان ذلك لا يمنع من خضوعه للتدابير الاحترازية أو تدابير الأمن كصورة ثانية من صور الجزاء الجنائي، وهي التدابير التي توقع على من توفرت في جانبه خطورة إجرامية. لذا فأساس توقيع العقوبة هي المسؤولية الجنائية، والخطورة الإجرامية أساس توقيع التدابير الاحترازية أو الأمنية، وبالتالي المسؤولية الجنائية شرط ضروري لإمكان الحديث عن توقيع العقوبة على الفاعل، وقوام المسؤولية الجنائية الوعي والإدراك من ناحية، والإرادة وحرية الاختيار من ناحية ثانية[7]. لذا فنظرية المسؤولية الجنائية تقتضي الحديث عن الشخص الفاعل، حيث إن كانت أركان الجريمة تنصرف إلى الفعل المادي، فإن نظرية المسؤولية الجنائية تنصرف أكثر إلى الشخص الفاعل، لذا نجد الكثير من الفقه يتناول المسؤولية الجنائية في إطار نظرية " المجرم والجزاء"، لذا فضلنا نحن تناول المسؤولية الجنائية ضمن باب مواز لنظرية الجريمة، وكانت خطتنا في البداية أن فقسم هذا الباب إلى فصلين، فصل يتعلق بالشخص المجرم المسؤول وموانع هذه المسؤولية، وآخر يتعلق بنظرية الجزاء، غير أن قولنا بترك نظرية الجزاء لتكون موضوع مطبوعة مستقلة، جعل من هذا الباب يختل توازنه مقارنة بالباب الأول، غير أن هدف المطبوعة يتجاوز مراعاة الجوانب الشكلية، ويركز فقط على النواحي الموضوعية الهادفة لإفادة الطالب بالتفاصيل التي قد يتم تجاوزها في المحاضرات، لذا فتركيزنا في هذا الباب المختصر سيكون من خلال فصلين نتناول في الأول فكرة المسؤولية الجنائية ذاتها، على أن نتناول في الثاني موانع هذه المسؤولية. كون فكرة المسؤولية الجنائية أو الجزائية[8]، تتطلب تحديد مفهومها وذلك بتحديد معناها وأساسها وبيان شروطها، من جهة، ومن جهة ثانية تحديد الحالات التي تنتفي فيها المسؤولية الجنائية أو تمتنع من القيام بالرغم من ارتكاب الفعل المجرم قانونا.

الفصل الأول
ماهية المسؤولية الجنائية

قبل أن نتناول مفهوم المسؤولية الجنائية وبيان أساسها وشروطها وتمييزها عما يشابهها من أفكار قانونية، تجدر بنا الإشارة بأنه هناك العديد من الفقهاء من يتناول دراسة هذه الفكرة في إطار دراسته للركن المعنوي للجريمة، وذلك بسبب النقاط القانونية الكثيرة المشتركة بينهما، سيما فيما يخص موانع المسؤولية التي تعد في حد ذاتها موانع في الحقيقة لقيام الركن المعنوي للجريمة، وأيضا ارتباطهما معا بفكرتي الأهلية الجنائية وفكرة العدالة، وكذا اتخاذ المسؤولية الجنائية للعديد من الصور تبعا لتعدد صور الركن المعنوي ذاته، حيث نجد المسؤولية العمدية التي تقابل صورة القصد الجنائي و عنصر العمد، والمسؤولية غير العمدية التي تقابل صورة الخطأ، والمسؤولية المتعدية أو المتجاوزة القصد تبعا لصورة القصد الجنائي المتعدي
أو المتجاوز، وهي نقاط التشابه الكثيرة التي جعلت من البعض يرى بأن الركن المعنوي هو ركن في المسؤولية الجنائية، بالرغم من نقاط الخلاف الكثيرة بينهما على نحو ما سنتبينه.

المبحث الأول
مفهوم المسؤولية الجنائية وتحديد أساسها القانوني

يقصد بالمسؤولية الجنائية في مجال النظرية العامة للجريمة، الالتزام بتحمل النتائج المترتبة على وقوع الفعل المجرم، وهي بهذا الوصف لا تعد ركنا أو عنصرا في الجريمة، بل هي الأثر أو النتيجة القانونية لها، وأيا كان الخلاف الفقهي حول مفهوم المسؤولية الجنائية، فهي باختصار تحمل تبعة الأفعال التي يجرمها القانون الجنائي، وفكرة تحمل التبعة لا تعني سوى تطبيق العقوبة، غير أن ما تجدر الإشارة إليه، أنه على خلاف الوقت الحاضر الذي تقام فيه المسؤولية الجنائية للإنسان العاقل البالغ فقط، فإن الشرائع القديمة عرفت مسؤولية الحيوان والجماد، بل وحتى الموتى في قبورهم، وفسر ذلك بنسبة الجريمة للأرواح الشريرة التي تتقمص هذه الأشياء وتسخرها في ارتكاب الجرائم، غير أنه حديثا أصبحت المسؤولية لا يمكن أن تسند إلا للإنسان لأنه الكائن الوحيد الذي يمكنه أن يفهم ويستوعب أوامر ونواهي القانون، كما أن ما يتضمنه القانون من جرائم لا يمكن تصور ارتكابه إلا من قبل الإنسان وكذلك الشأن بالنسبة للجزاءات التي يتضمنها والتي لا يمكن تصور إنزالها إلا بالإنسان، ولا يتصور تحقيق أغراضها إلا إذا نفذت على الإنسان، وكاستثناء أصبحت تتقرر مسؤولية الأشخاص المعنوية أو الاعتبارية.

المطلب الأول
تعريف المسؤولية الجنائية وتمييزها عما يشابهها من أفكار قانونية جنائية[9]

يقصد بفكرة المسؤولية الجنائية أهلية الإنسان العاقل الواعي بأن يتحمل الجزاء العقابي نتيجة اقترافه جريمة من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات، كون لفظ المسؤولية مرادف للفظ المسائلة، أي مسائلة الشخص عن اختياره الجريمة كسلوك مخالف للقانون ومناقض له، وهو سؤال يحمل معنى اللوم والاستنكار والتهديد بتوقيع الجزاء نتيجة اختيار هذا السلوك المجرم. لذا فالمسؤولية الجنائية ليست ركنا من أركان الجريمة، بل هي حصيلة أو أثر لأركان الجريمة مجتمعة، وهي الحصيلة التي اجتمعت في شخص إنسان عاقل مميز ومريد وله القدرة على الاختيار. وعليه فالمسؤولية الجنائية تتميز عن كل أركان الجريمة، بما فيها الركن المعنوي المشابه لها كثيرا، فالركن المعنوي ركن في الجريمة ولا يمكن البحث في توفر المسؤولية الجنائية إلا بعد أن تقوم الأركان العامة الثلاثة للجريمة بما فيها الركن المعنوي، بل المسؤولية الجنائية وبالإضافة إلى توفر أركان الجريمة، يجب أن يتوفر أيضا عناصر الوعي والإرادة وحرية الاختيار لدى الجاني.
كما تختلف المسؤولية الجنائية أيضا عن فكرة " الأهلية الجنائية"، فهذه الأخيرة تعني صلاحية مرتكب الجريمة لأن يسأل عنها، أي إمكانية الشخص أن يكون مسؤولا عن أفعاله، وهي مرتبطة بسن معينة تختلف حوله التشريعات الجنائية، مما يجعلها شرطا لقيام المسؤولية الجنائية أو عنصرا من عناصرها، فالمسؤولية الجنائية لا تقوم إلا بتوافر الأهلية الجنائية بحيث حيثما تنتفي هذه الأخيرة تنتفي المسؤولية الجنائية.

المطلب الثاني
أساس المسؤولية الجنائية

المسؤولية الجنائية كفكرة قانونية جنائية يجب وأن تستند إلى أساس خاص يبرر مشروعية توقيع الجزاء على الشخص مرتكب الجريمة، لأن المنطق القانوني السليم يستدعي أساسا منطقيا بموجبه وعلى أساسه يمكن مسائلة الشخص، وهو الأساس الذي مثل البحث فيه مسألة فلسفية انكب على دراستها فقهاء القانون على مدار القرنين الأخيرين[10]، حيث اختلفوا وانقسموا بخصوص هذا الأساس اختلافا شديدا ومتباينا، وهو الخلاف الذي يمكن رده إلى اتجاهين أو مذهبين أساسيين، تمثلهما مدرستين عريقتين هما المدرسة التقليدية والمدرسة الوضعية، الأولى نادت بفكرة " حرية الاختيار" كأساس للمسؤولية الجنائية، فيما نادى أنصار المدرسة الوضعية بفكرة " الجبرية أو الحتمية" كأساس، وهو ما نبينه في فرعين، لكن مثلما هو الأمر دوما كلما وجد اتجاهين، يوجد اتجاه وسط توفيقي يحاول تفادي مساوئ كل اتجاه والأخذ بمزاياه، وهو ما نبينه في الفرع الثالث.
الفرع الأول
المــــــذهب التقليدي
مذهب حرية الاختيار
أساس المسؤولية الجنائية هو المسؤولية الأدبية أو الأخلاقية

وهو المذهب الذي يقيم أنصاره المسؤولية الجنائية على فكرة أن الإنسان المكتمل لمداركه العقلية يصبح حرا في تصرفاته ويوجه إرادته حيثما يشاء ويريد، وبالتالي يكون مسؤولا عن كل أفعاله وحيثما يوجه إرادته يتحمل مسؤوليته، وعليه فالجريمة وليدة إرادة الإنسان الحرة، لذا فوفقا لأنصار المدرسة التقليدية يجب أن يتوفر عنصري الإرادة وحرية الاختيار لتقوم المسؤولية الجنائية للشخص، فالإرادة وحرية الاختيار فقط تمكن من القول بأن الإنسان يسأل عن اختيار أو سلوكه طريق الجريمة، واعتباره مخطئا قانونا، لذا فلا يسأل الصغير أو المجنون أو المكره أو النائم، ففي كل هذه الحالات تنعدم المسؤولية الجنائية لعدم قيام الإرادة وحرية الاختيار وبالتالي انتفاء عنصر الخطأ في سلوك الشخص، لأن الخطأ يقاس بمدى إدراك الإنسان لفعله الخاطئ، وللخطأ والمسؤولية الجنائية درجات تقاس وفقا للقدر الذي ينقص به الإدراك والاختيار. إذن باختصار، أساس المسؤولية الجنائية وفقا لأنصار المدرسة التقليدية، وفي جوهرها هي لوم على سلوك مخالف للقانون كان باستطاعة الفاعل أن يسلك غيره، لذا فهي مسؤولية أدبية و أخلاقية. كون الإنسان مخير في أفعاله وليس مسيرا وبالتالي عليه دوما أن يسلك الطريق نحو الفعل غير المجرم وأن يوجه إرادته نحو ذلك[11].
الفرع الثاني
المـــذهب الوضـــعي
مذهب الجبرية أو الحتــمية

على عكس الاتجاه التقليدي، ذهب أنصار المدرسة الوضعية إلى القول بأن الإنسان ليس مخيرا وإنما مسيرا، وبالتالي تصرفاته ليست وليدة اختياره وحريته، وإنما حتمية عليه لعوامل لا دخل لإرادته فيها، وهي عوامل وراثية وخلقية ومزاجية وبيئية واجتماعية، وما الإرادة إلا ثمرة لهذه العوامل التي قد تدفع الشخص إلى ارتكاب الجريمة كقدر محتوم مكتوب عليه[12]، غير أنه بالرغم من امتناع حرية الاختيار فإن المسؤولية الجنائية لا تمتنع، فيسأل الصبي كما يسأل المجنون، شأنهما شأن الشخص العاقل، وكل ما في الأمر أن المسؤولية قابلة فقط للتخفيف لكنها لا تمتنع.

.
الفرع الثالث
المذهب التوفـــيقي
وهو مذهب أقام أنصاره أساس المسؤولية الجنائية على محاسن الاتجاهين السابقين، فأقامها على أساس التمييز وحرية الاختيار، دون إهمال الظروف والعوامل الشخصية والاجتماعية المحيطة بالشخص الجاني.

المطلب الثالث
خصائص المسؤولية الجنائية

في حقيقة الأمر، تتحدد خصائص المسؤولية الجنائية تبعا للأساس الذي تبنى عليه، وبما أن الأساس السائد في التشريعات الجنائية الوضعية، هو مذهب حرية الاختيار، فإن خصائص المسؤولية الجنائية تبعا لذلك، أن الإنسان هو موضوعها، وبذلك تكون مسؤولية شخصية.

الفرع الأول
الإنسان موضوع أو محل المسؤولية الجنائية

السائد فقها وتشريعا وقضاء أن الإنسان هو محور أو موضوع أو محل المسؤولية الجنائية، على عكس ما كان سائدا قديما، أين عرفت مسؤولية الحيوان والنبات والجماد، كما أن الجريمة سلوك إرادي، والإرادة جوهر الركن المعنوي للجريمة، وهي التي تقف خلف السلوك الإجرامي وهي الإرادة التي لا يمكن أن تكون إلا إرادة إنسانية تصدر عن إنسان، لذا فالمسؤولية الجنائية لا يتحملها إلا الإنسان كونه المدرك والمميز والفاهم لحقيقة الأفعال والمختار لها، لذا فالإنسان هو الذي يرتكب الجريمة وهو الذي يتحمل مسؤوليتها، خاصة وأن الجزاءات الموجودة بالقانون لا يمكن تصور إنزالها بغير الإنسان، ولا يمكن تصور تحقيقيها لأغراضها إلا إذا نفذت فيه، سواء تمثلت هذه الأغراض في الردع العام أو الردع الخاص
أو التهذيب أو الإصلاح والعلاج. غير أن التطور القانوني انتهى إلى الاعتراف بالمسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، والذي لا يزال يثير الجدل لغاية اليوم، حول إمكانية مسائلة الشخص المعنوي جزائيا، وهو الجدل الفقهي الذي انعكس على التشريعات الوضعية، حيث أنكر اتجاه قيام المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية، لكن هو أمر مسلم به في تقنين العقوبات الجزائري. وهو ما تكون لنا عودة إليه.
الفرع الثاني
شخصية المسؤولية الجنائية
من المسلمات في القانون الجنائي مبدأ شخصية العقوبة، حيث لا توقع العقوبة إلا من تقررت مسؤوليته الجنائية عن الجريمة التي وقعت، وبالتالي فالمسؤولية الجنائية شخصية، حيث لا تقوم إلا لدى الشخص مرتكب الجريمة أو المساهم فيها بوصفه فاعلا أو شريكا، فالعدالة الجنائية تأبى تحميل المسؤولية لشخص لا علاقة له بالجريمة المرتكبة، وهو مبدأ إلهي تقرر في القرآن الكريم حيث ليس للإنسان إلا ما سعى، في قوله عز وجل في الآيات من 36 إلى 39 من سورة النجم : وفي الآية 286 من سورة البقرة " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" وفي الآية 46 من سورة فصلت" من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها"، وفي الآية 15 من سورة الإسراء :" ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى" وفي الآية 33 من سورة لقمان :" لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا"، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه".

غير أن مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية لم تعرفه القوانين الوضعية إلا حديثا، حيث كانت تعرف القوانين القديمة فكرة المسؤولية الجنائية الجماعية، حيث كانت تمتد لتشمل أسرة الجاني وأقربائه وعشيرته، وهو الوضع الذي امتد لغاية ما قبل الثورة الفرنسية، غير أنه اليوم أضحى المبدأ من المبادئ الدستورية والجنائية، حيث لا يعرف القانون الجنائي المسؤولية عن أفعال الغير مثل القانون المدني، ما عدا في بعض الفروض النادرة مثل الجرائم الصحفية....
المبحث الثاني
شروط المسؤولية الجنائية

في حقيقة الأمر شروط المسؤولية الجنائية تختلف باختلاف الأساس الذي بنيت عليه، فحيث يكون أساسها حرية الاختيار فإن شروطها تتمثل في ضرورة توافر الإدراك وحرية الاختيار، وحيث يكون أساسها الجبرية أو الحتمية فإنه يشترط لتقرير المسؤولية الجنائية توفر الخطورة الإجرامية، لذا يجب أن نتناول كل هذه الشروط، حيث الأصل في أساس المسؤولية الجنائية حرية الاختيار فإن شروطها الإدراك والاختيار، وحيث أساسها الجبرية فإن شرطها الأساسي توفر الخطورة الإجرامية – وهو نضيفه فقط للاستيعاب وننبه مرة أخرى هو أنه من الشروط في القوانين التي تأخذ بمذهب الجبرية-، وهو ما نبينه في المطلب التالي، بعد أن نبين شرط أساسي يتمثل في التمتع بالأهلية الجنائية.

المطلب الأول
التمتع بالأهلية الجزائية

الأهلية الجزائية مجموعة من الصفات والعناصر التي يتوجب أن تتوفر في الشخص حتى يمكن نسب الجريمة إليه، بوصفه فاعلها عن وعي وإدراك، وهي لا تثبت إلا للإنسان باعتباره الوحيد من بين الكائنات الذي يملك قدرة الإدراك وحرية الاختيار، وكنتيجة لذلك فالجريمة لا يمكن أن يقترفها إلا الإنسان، غير أن صفة الإنسان وإن كانت ضرورية فهي غير كافية لتوفر الأهلية الجنائية، فقد ترتكب جريمة من قبل إنسان غير أن أهليته تمتنع لجنونه أو صغر سنه، وبالتالي ليكون الشخص آهلا لتحمل المسؤولية الجنائية أن يكون حيا وعاقلا وبالغا سنا معينة وهو ما نبينه في النقاط التالية.
الفرع الأول
وقوع الجريمة من إنسان حي

صفة الإنسان شرط لازم لوصف السلوك المخالف للقاعدة الجنائية بوصف الجريمة، بحيث هذه الأخيرة لا يمكن أن ترتكب إلا من إنسان، وبالتالي الشرط الأول للأهلية الجنائية هو صدور الجريمة عن إنسان، وأن كل فعل صادر عن جماد أو حيوان دون أن يكون هناك دور للإنسان فيه فهو لا يعد جريمة، إذ غير الإنسان مستبعد من الخطاب الجزائي تجريما وعقابا ومسؤولية. كما أنه لا يكفي أن تكون الجريمة صادرة عن إنسان، بل يجب أن يكون هذا الأخير حيا، بالنظر لخاصية شخصية العقوبة التي تعني بداهة سقوطها بوفاة الجاني إذ بذلك تنتفي الغاية من توقيع الجزاء كما ينتفي محلها الذي يوقع عليه.
الفرع الثاني
أن يكون الجاني عاقلا وبالغا

يعد العقل أساس تحمل المسؤولية، لأن العقل هو مناط الإدراك، لذلك فالشخص المصاب بمرض
أو عاهة عقلية لازمته وقت ارتكاب الجريمة انعدمت أهليته وبالتالي مسؤوليته الجنائية، والعقل وفقا لاتفاق التشريعات الجنائية الحديثة يتطلب سنا معينة حتى وإن اختلفت بشأنه التشريعات، فالعقل يتدرج حسب المراحل السنية وهو لا يكتمل قانونا إلا ببلوغ السن التي يحددها قانون العقوبات.
المطلب الثاني
التمتع بالوعي وحرية الإرادة
( التبعة الجــزائية)
لا يكفي لقيام المسؤولية الجنائية ارتكاب الفعل المجرم من شخص آهل جنائية، أي إنسان حي بالغ سن معينة، بل يجب إضافة إلى ذلك أن يكون متمتع بشرط التبعة الجزائية التي تقوم على عنصري الوعي والإرادة[13].
الفرع الأول
الوعـــــــي والإدراك

يقصد بالوعي أو الإدراك، قدرة الإنسان على فهم ماهية سلوكه وتقدير ما قد يترتب عليه من نتائج، ويعني في مجال المسؤولية الجنائية أن يعي الشخص أنه بصدد سلوك محظور قانونا، غير أنه باختياره يوجه إرادته نحو القيام به، فيعد بذلك مسؤول جنائيا عنه. والقدرة السابقة في حقيقة الأمر، هي قدرة واقعية تتعلق بماديات الفعل في ذاته ونتائجه، كما هو الأمر في الواقع المألوف، وهي القدرة الاجتماعية التي تستمد من قواعد الخبرة الإنسانية العامة، في التمييز بين الخير والشر، والمسموح والممنوح والمباح والمحظور، وهو الفهم الواقعي من حيث الفعل بذاته وما قد يرتبه من نتائج، وليس الفهم القانوني، حيث الشخص قد يأتي فعلا يجهل أصلا أن قانون العقوبات يجرمه، إذ العلم بقانون العقوبات والتكييف الذي يتضمنه أمر مفترض، فالعلم ليست له علاقة بالإرادة، كونه لا يعذر شخص بجهل القانون.

الفرع الثاني
حريـــة الإرادة

ويقصد بحرية الإرادة حرية الشخص على الاختيار وقدرته على توجيه سلوكاته نحو القيام بالفعل
أو تركه، وحتى تتوفر حرية الإرادة يجب أن يكون الفعل مما يمكن القيام به، بحيث إذا كان مستحيلا فلا محل للقول بحرية الإرادة، وأن يكون أمام الشخص بدائل تمكنه من الاختيار من بينها.كما تعني الإرادة توجيه الذهن إلى تحقيق عمل معين، فهي إرادة قد تكون واعية، كما قد تكون غير واعية، فالمجنون يريد أفعاله والصغير كذلك، غير أن إرادتهما غير واعية، والإدراك يجب توفره وقت إتيان الجريمة، أي الأفعال المادية المكونة لها حيث يجب أن يكون معاصرا لها، فإن انتفى يكون شرط أساسي من شروط قيام المسؤولية الجنائية قد تخلف وبالتالي لا تقوم، أما قدرة الاختيار فتعني قدرة الشخص على توجيه إرادته، إذ يفترض تعدد الخيارات أمام الشخص ومن ثم يوجهها الوجهة التي يختارها، الأمر الذي يجعل منه يختلف عن الإرادة، فهذه الأخيرة تتعلق بالجريمة في ركنيها المادي والمعنوي، بينما حرية الاختيار موقعها المسؤولية الجنائية كمحصلة لأركان الجريمة مجتمعة، ومعلوم انه قد توجد الجريمة وتتخلف المسؤولية، وحرية الإرادة موجود متى كانت الظروف المحيطة بالجاني تركت له حرية التصرف، بينما هناك ظروف تنقص منها أو قد تعدمها مثل الإكراه أو الضرورة، وبذلك يتعين الإنقاص من المسؤولية الجنائية أو امتناع قيامها أصلا تبعا للمقدار الذي ترك لحرية تصرف الشخص.
ومثلما ذكرنا سابقا، سنضيف شرط ثالثا يتعلق بشروط المسؤولية في القوانين التي تأخذ بالجبريةن وهو شرط الخطورة الإجرامية.
الفرع الثالث
شرط الخطورة الإجرامية

وهي فكرة اعتنقها أنصار المدرسة الوضعية لتأسيس المسؤولية الجنائية، ومنها قرروا استبعاد العقوبات التقليدية وإحلال التدابير الاحترازية محلها لحماية المجتمع من تكرار الجريمة في المستقبل، وتعرف الخطورة الإجرامية بأنها: حالة أو صفة نفسية لصيقة بشخص الجاني تنذر باحتمال إقدامه على ارتكاب جريمة أخرى في المستقبل، ومن هذا التعريف تتضمن الخطورة الإجرامية عنصرين، الجريمة السابقة المرتكبة، واحتمال وقوع جرائم جديدة في المستقبل. فشرط الجريمة السابقة أو التي وقعت شرط أساسي من شروط القول بانطواء الشخص على خطورة إجرامية، فضرورة ارتكاب الجريمة وتوقيع التدبير يحكمه مبدأ الشرعية الجنائية، حيث مثلما تخضع العقوبة لهذا المبدأ، فالتدابير الاحترازية تخضع له أيضا، وبالتالي بجب توفر هذه الجريمة وإلا فلا مجال للقول بالخطورة الإجرامية حتى ولو كانت نفسية الجاني تنطوي على خطورة اجتماعية عالية، بالرغم من أن البعض عارض ذلك، بحجة عدم وجوب انتظار وقوع ضرر الجريمة ما دامت الخطورة متوفرة، فيمكن توقيع التدابير دون انتظار وقوع الجريمة، دفاعا عن المجتمع.

وأما الشرط الثاني للقول بتوفر الخطورة الإجرامية، فيتمثل في احتمال وقوع جريمة جديدة في المستقبل، وهو ما تكشف عنه الجريمة السابقة التي تبين الشخصية الإجرامية لدى الجاني، وتوفر دلالات وإمارات لديه يخشى مع توفرها إقدام الجاني على ارتكاب جرائم جديدة في المستقبل، فالإمارات ضرورية بالنظر لكون الخطورة الإجرامية حالة نفسية يستحيل تبينها وإثباتها ما لم يتدعم بإمارات ودلالات تدل عليها، وفحص شخصية الجاني للبحث عن الاستعدادات الجنائية لديه وذلك من مختلف نواحي شخصيته، مثل بعض الظروف التي ترتكب فيها الجريمة، أو ارتكاب جرائم جسيمة.

الفصل الثاني
موانع المسؤولية الجنائية

سبق القول أن جوهر المسؤولية الجنائية يقوم على الوعي والإدراك الذين يسيران حرية الاختيار، وبالتالي تمتنع المسؤولية الجنائية كلما انعدم هذا الوعي أو هذه الإرادة، ويترتب على ذلك عدم توقيع العقوبة على الشخص بالرغم من ارتكابه للجريمة على النحو الموصوف قانونا، وبالرغم من توفر أركانها القانونية العامة والخاصة، مع ما تتضمنه هذه الأركان من عناصر قانونية، غير أن امتناع المسؤولية وإفلات الفاعل من العقوبة لا يمنع من خضوعه للتدابير الاحترازية أو تدابير الأمن، كصورة من صور الجزاء، لأنه سبق القول أنه إن كانت المسؤولية أساس توقيع العقوبة، فأساس توقيع التدابير هو توفر الخطورة الإجرامية. وبالتالي موانع المسؤولية قد تكون ناشئة عن انعدام الإرادة، مثل حالة الإكراه وحالة الضرورة – في القوانين التي تجعل منها مانعا من موانع المسؤولية لا سببا من أسباب الإباحة-، وإما أن تكون ناشئة عن انعدام الوعي مثل صغر السن أو الجنون، وهو ما نتناوله في مبحثين متتاليين، نتناول في الأول موانع المسؤولية الناشئة عن انعدام الوعي، وفي الثاني تلك المتعلقة بانعدام الإرادة.

لكن قبل ذلك، نود أن نشير أن كون المسؤولية تقوم على كل من الإدراك وحرية الاختيار وتخلف أحد هذين العنصرين أو تخلف أحدهما يترتب عليه انتفاء وتخلف المسؤولية الجنائية، أو الحيلولة دون توقيع شق الجزاء لأسباب شخصية توفرت في مرتكب الجريمة أو علقت بشخصه، مع بقاء بفعله يتسم بالصفة التجريمية من الناحية القانونية، كما قد تقيم مسؤوليته المدنية عنها، ولأن موانع المسؤولية الجنائية أسباب شخصية، فهي لا تنتج أثرها إلا بخصوص الشخص الذي توفرت لديه دون باقي المساهمين أو الشركاء معه في الجريمة، والفرق واضح ما بين مبدأ الشرعية الذي يقضي بالا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وفكرة المسؤولية الجنائية المبنية على فكرة الخطأ، فمبدأ الشرعية لما ينظر للأفعال المجرمة أنها أفعال ماسة بالقيم الجماعية المشتركة، التي يعد إتيانها مصدرا للوم الاجتماعي، كونها تمثل اعتداء على القواسم المشتركة بين أفراد المجتمع، وهم الأفراد الذين يصنفون إلى محترم ومعاد لهذه القيم والقواسم الاجتماعية المشتركة، ومبدأ الشرعية يعني لا وجود للجريمة ما لم يكن الفعل مخالف لنص جنائي، وبالتالي وفقا للمبدأ لا فرق بين الشخص المسؤول وغير المسؤول، فالشخص الذي توفر لديه مانع من موانع المسؤولية إذا ما أتى هذا الفعل فوفقا لمبدأ الشرعية قد أتى جريمة، ما دامت تصرفاته تخالف النصوص الجنائية، ولا أحد بمقدوره القول غير ذلك، كون موانع المسؤولية في حقيقة الأمر لا تمنح الحق لهؤلاء بمخالفة قانون الجماعة الذي ارتضته لنفسها، وبالتالي لا تأثر لموانع المسؤولية من كونها تصرفات مجرمة، أو أفعال تشكل جرائم، فتعليق المسائلة يتعلق بالشخص لا الفعل وبمن توفر لديه السبب دون غيره ممن ساهم معه في ارتكاب الجريمة ما لم يكن يتوفر لديه ذات المانع. ويرى البعض أن دراسة موانع المسؤولية الجنائية، يبرز فكرتين رئيسيتين، هما الشعور والإرادة، فالشعور الآثم والإرادة الآثمة هما أساسا المسؤولية الجنائية، وكلما انتفى الإثم عنهما انتفت المسؤولية الجنائية، وذلك لا يعني أنه هناك سببين لمنع المسؤولية الجنائية، وإنما هما فكرة واحدة.وعلى ذلك، فكرة الجريمة مستقلة عن فكرة المسؤولية الجنائية، غير أن ذلك لا يعني الاستقلال التام بينهما، فالمسؤولية الجنائية لا يمكن أن تستمد وجودها إلا من خلال الجريمة، فبدون الجريمة لا يمكن تصور من هم مسؤولين عنها، غير أنه بالإضافة لوجود الجريمة، تقتضي المسؤولية الجنائية زيادة عن ذلك وجود فكرة الخطأ، وإذ قلنا الخطأ، فذلك يعني بالضرورة حرية الإرادة، واختيار ارتكاب الجريمة سواء تعمدا
أو بغير عمد، وعموما أن يكون الشخص في موضوع نفسي يسمح له بالحكم على تصرفاته، فالمشرع لا يولي قيمة قانونية إلا للتصرفات التي يأتيها من بإمكانه تقييم تصرفاته.

لذا فموانع المسؤولية أسباب أو أحوال أو أمور تعترض سبيل المسؤولية الجنائية فتخفف منها
أو تعدل مسارها أو تعدمها كلية، ومنها ما هو طبعي كصغر السن، وبعضها عارض أو مؤقت مثل الجنون وعاهة العقل والإكراه المعنوي وحالة الضرورة – في بعض القوانين-، وهي موانع شخصية على خلاف أسباب الإباحة، وأنها لا تزيل الصفة التجريمية عن الفعل لذا فهي تمنع توقيع العقوبة فقط دون التدابير الاحترازية وقيام المسؤولية المدنية، عكس أسباب الإباحة، غير أنها قريبة جدا من موانع العقاب، كون هذه الأخيرة بدورها شخصية، غير أن وجه للخلاف أن موانع العقاب لا تمحي الجريمة ولا تستبعد المسؤولية الجنائية عنها، بل تستبعد العقاب فقط، وذلك لتوفر بعض الاعتبارات الاجتماعية التي يقدر معها المشرع إعفاء الشخص من العقاب خير من توقيعه عليه.

ويذهب رأي في الفقه أن موانع المسؤولية الجنائية لم ترد في قانون العقوبات على سبيل الحصر، فهي وردت على سبيل المثال لذا يمكن أن تستوعب كل ما يسفر عنه العلم أو الواقع العملي من أسباب أخرى، على عكس اتجاه فقهي آخر يرى أن موانع المسؤولية وردت في قانون العقوبات على سبيل الحصر، وأن كل ما في الأمر أنها تقبل التفسير الواسع والقياس على عكس مسائل التجريم والعقاب.

المبحث الأول
موانع المسؤولية الناشئة عن انعدام الوعي

من الموانع التي تمنع المسؤولية الجنائية من القيام قانونا، وتتعلق بانعدام الوعي لدى الشخص الذي يتجرد من ملكتي الوعي والإدراك، وبالتالي من القدرة على فهم دلالة أفعاله وإدراك أبعادها القانونية، هما مانعين أساسيين، الجنون وصغر السن، وهناك من التشريعات تضيف مانع ثالث يتعلق بالغيبوبة الناشئة عن السكر الاضطراري. وسنتناول كل مانع من هذه الموانع في مطلب مستقل.
المطلب الأول
صغر السن كمانع للمسؤولية الجنائية
سبق القول أن قوام المسؤولية الجنائية يتمثل في الوعي والإدراك، أي قدرة الشخص على فهم حقيقة أفعاله وتمييز ما هو مباح وما هو محظور منها، وذلك بالضرورة لا يمتلكه الشخص دفعة واحدة ولا أن يولد معه، بل تنمو هذه الملكة بنمو الشخص وتقدمه في السن، فالشخص يولد منعدم الوعي والإدراك ويبقى كذلك في السنوات الأولى من عمره، والمسماة بمرحلة الطفولة، لتبدأ هذه الملكة في النمو لديه شيئا فشيء مع تقدم السنين، غير أنها تبقى منقوصة في مرحلة الطفولة المنقوصة ومرحلة المراهقة، وهي المسألة التي تراعيها التشريعات الجنائية في خطابها للأشخاص، فهي لا تحاسب الأطفال عن أخطائهم الجنائية مثلما تحاسب البالغين، بل أن مسؤولية الطفل أو الصبي غير المميز تتدرج بحسب المرحلة السنية التي يمر بهـــا[14].



الفرع الأول
علة عدم مسائلة الحدث
صغر السن من الأسباب المتعلقة بفقدان التمييز، شأنه شأن الجنون والسكر، باعتبار الصغير لا يعقل كنه الفعل أو الترك، إذ ليس بمقدوره أن يتخذ موقفا عقلانيا يعتد به القانون ويحاسبه أو يعاقبه عليه، حيث ينظر الصغير لقيم المجتمع نظرة مادية غريزية تدنو من الغرائز الحيوانية، والمشرع لا يخاطب الحيوانات، كون مثل هذه القيم تكتسب بالتدرج في الضمير الإنساني لغاية اكتمال النمو العقلي والنفسي، غير أن مثل هذه السن لم يقع عليها اتفاق الفقه الحديث، وإن كانت فكرة معاملة الأحداث معاملة متميزة قد بدت منذ القدم، ونجد إميل غارسون قد نادى بإخراج الأحداث من قانون العقوبات، وذلك منذ بداية القرن العشرين، وفعلا خرج الأحداث من نطاق قانون العقوبات فعلا من سنة 1945 وحذت الكثير من الدول العربية حذو ذلك، حيث يخضع الأحداث إلى إجراءات تربوية وإصلاحية وحماية ومراقبة، مما يبعد فكرة المسؤولية الجنائية عن الأحداث، غير أن تقسيم مراحل السن للحدث لا يزال يثير الخلاف ويطرح الإشكاليات.
وتختلف التشريعات العقابية الوضعية في تحديدها السن التي يعد فيها الشخص قد بلغ سن الرشد الجنائي، وبالتالي مسؤول جنائيا، وذلك باختلاف السياسة الجنائية التي نتهجها كل دولة، إلا أن غالبية التشريعات تعتبر الطفل ما دون سن السابعة منعدم التمييز وبالتالي تنعدم مسؤوليته الجنائية عن كل الأفعال المحظورة التي يأتيها[15]، وهي السن التي تمتد في قوانين أخرى لحد سن الثانية عشر وحتى سن الخامسة عشر في قوانين أخرى.

الفرع الثاني
موقف المشرع الجزائري

قضت المادة 49 من تقنين العقوبات الجزائري على أنه: :" لا توقع على القاصر الذي لم يكمل الثالثة عشر إلا تدابير الحماية أو التربية.ومع ذلك فإنه في مواد المخالفات لا يكون محلا إلا للتوبيخ. ويخضع القاصر الذي يبلغ سنه من 13 إلى 18 إما لتدابير الحماية أو التربية أو لعقوبات مخففة.". وباستقراء هذا النص، نجد المشرع الجزائري قد قسم المراحل السنية إلى ثلاثة مراحل، وتبعا لها تتدرج المسؤولية الجنائية للشخص، المرحلة الأولى وهي مرحلة ما دون سن الثالثة عشر، والمرحلة الثانية الممتدة من 13 حتى 18، ومرحلة المسؤولية الكاملة ما بعد 18 سنة.


أولا: المرحلة الأولى: ما دون ال 13 سنة (مرحلة انعدام المسؤولية )
وفي هذه المرحلة تكون أهلية الشخص قانونا منعدمة تماما، وهي المرحلة التي لا يكون فيها الشخص مسؤول إطلاقا، والعبرة في تحديد السن هي بيوم ارتكاب الجريمة حتى ولو كان الشخص يوم المحاكمة قد فاق هذه السن، وهو ما حددته المادة 443 من قانون الإجراءات الجنائية الجزائري، غير أن انعدام مسؤولية الصبي في هذه الفترة لا يمنع من إخضاعه لتدابير الحماية أو التربية التي ترمي لحماية الحدث لا لعقابه. وذلك لا يعني أن مسؤوليته مخففة، بل هي مسؤولية جنائية منعدمة، وتدابير الحماية والتربية مقررة لمصلحته خارج المؤسسات العقابية.

ثانيا: المرحلة الثانية: المرحلة بين 13-18(المسؤولية الجنائية المخففة ( الناقصة))
المرحلة الممتدة بين سن الثالثة عشرة والثامنة عشرة، تكون فيها أهلية الشخص ناقصة وتبعا لذلك تكون مسؤوليته الجنائية مخففة، وفي هذه المرحلة التي يعد فيها الشص حدثا تطبق عليه إما تدابير الحماية والتربية شأنه شأن الصبي غير المميز، أو تطبيق بعض العقوبات المخففة المنصوص عليها ضمن المادة 50 من تقنين العقوبات الجزائري، التي قضت أنه: :" إذا قضي بأن يخضع القاصر الذي يبلغ سنه من 13 إلى 18 لحكم جزائي فإن العقوبة التي تصدر عليه تكون كالآتي: 1-إذا كانت العقوبة التي تفرض عليه هي الإعدام أو السجن المؤبد فإنه يحكم عليه بعقوبة الحبس من عشر سنوات إلى عشرين سنة. 2- وإذا كانت العقوبة هي السجن أو الحبس المؤقت فإنه يحكم عليه بالحبس لمدة تساوي نصف المدة التي كان يتعين الحكم عليه بها إذا كان بالغا.". كما أضافت المادة 51:" في مواد المخالفات يقضى على القاصر الذي يبلغ سنه من 13 إلى 18 إما بالتوبيخ وإما بعقوبة الغرامة.".

ثالثا: المرحلة الثالثة: مرحلة البلوغ(المسؤولية الجنائية الكاملة)

مرحلة بلوغ الشخص وفقا لقانون العقوبات الجزائري هي ببلوغه سن الثامنة عشر سنة حسب المادتين 49 من تقنين العقوبات الجزائري وكذا نص المادة 442 من تقنين الإجراءات الجزائية الجزائري، وببلوغ الشخص هذه المرحلة السية يكون مسؤول مسؤولية جنائية كاملة.

المطلب الثاني
الجنون كمانع للمسؤولية الجنائية

الجنون هو فقدان الشخص لملكاته العقلية على نحو يجرده من الوعي والإدراك، وكذا القوة على التمييز، وقد نصت المادة 47 من تقنين العقوبات الجزائري، على أنه:" :" لا عقوبة على من كان في حالة جنون وقت ارتكاب الجريمة وذلك دون الإخلال بأحكام الفقرة 2 من المادة 21 [16]."[17].وبالتالي المشرع اعتبر الجنون أو عاهة العقل مانعا من موانع المسؤولية الجنائية، بالنظر لما يرتبه من فقدان للشعور والتمييز والإرادة، غير أن الجنون وإن كان يحول دون مسائلة الشخص بتوقيع العقوبات عليه، فإنه لا يحول دون إنزال التدبير الاحترازية عليه باعتباره ينطوي على خطورة إجرامية، وبذلك في العادة ما يوضع في المصحات العقلية أو النفسية. وسنتناول تفصيل حكم هذا المانع، في فرع، لنخصص الثاني لشروط الاستفادة منه.
الفرع الأول
حكم الجنون وعاهة العقل

وهو مانع نصت عليه أيضا المادة 62 من تقنين العقوبات المصري، والمادة 122-1 من تقنين العقوبات الفرنسي على أنه :" لا يسأل جنائيا من كان وقت ارتكاب الفعل مصابا بمرض عقلي أو عصبي
أو عدم تمييزه أو القدرة على التحكم في أفعاله ". ونص على الجنون في القانون اللبناني المادتان 231 و232 من قانون العقوبات، حيث نصت الأولى على أنه:" يعفى من العقاب من كان في حالة جنون أفقدته الوعي والإرادة"، ما يلاحظ على النص وإن كان أقامها على أساس فقد الوعي والإرادة التي تقوم عليهما المسؤولية الجنائية إلا أنه أسبق المادة بعبارة " لا عقاب " مما قد يفهم منه أن الجنون مانع من موانع العقاب لا مانع من موانع المسؤولية، ولم يبن كل هؤلاء المشرعين ولا المشرع الجزائري مدلولا محددا للجنون أو عاهة العقل، لذا يرى غالبية الفقه، أنه في قانون العقوبات، يقصد بالجنون، الاضطراب الحاصل في القوى العقلية للشخص بعد تمام نموها بما يؤدي إلى فقد القدرة على التمييز والإدراك، وقد يكون الجنون نتيجة مرض يصيب المخ أو ناتج عن شيخوخة طاعنة في بعض الحالات، كما يمكن أن يكون الجنون مطبقا إذا أصاب كل الملكات الذهنية للشخص، وهنا يفقد الأهلية ويمنع قيام المسؤولية، وقد يكون متقطعا يأخذ صورة نوبات تتخللها فترات إفاقة، وهنا لا يرتب أثره إلا إذا ارتكبت الجريمة أثناء إحدى نوبات الجنون دون نوبات الإفاقة[18].

والجنون بمعناه العام، يشمل حالة العته أو البله أو الضعف العقلي وهي الحالة التي تصاحب الشخص منذ ولادته وتفيد وقوف ملكاته العقلية أو الذهنية دون مستوى النضج الطبيعي، بمعنى يجب النظر لفكرة الجنون كمانع من موانع المسؤولية ليس بمعناه القانوني أو بمعناه الطبي الدقيق، بل يجب أن يمتد ليغطي كل الحالات المرضية التي من شأنها أن تؤدي إلى فقد الوعي أو الإرادة، سواء وصفت بالجنون أو وصفت بغير ذلك، بما يجعله يشمل كل من الأمراض العقلية والعصبية والنفسية التي تؤثر في المخ فتفقده الوعي والإرادة المعاصر لارتكاب الجريمة. لذا نجد بأنه عرف، بأنه فقدان الشخص لملكاته العقلية على نحو يترتب عليه تجرده من الوعي والقدرة على التمييز، وإن كان يؤدي إلى امتناع المسؤولية فهو لا يمنع من اعتباره خطرا إجراميا لا يحول دون توقيع التدابير الاحترازية كالإيداع في مصحة عقلية. وقد أخذ حكم المجنون الشخص المصاب بالبارنوياك Baranoiaque وهو الشخص الذي تأتيه نوبات هذيان وشك وريبة، فهنا قد يضطر حد قتل من يضطره، ويسمى جنون Manie أو هذيان الاضطهاد غير أنه مسؤول مثلا عن السرقة إذ لا علاقة لها بمثل هذا الاضطهاد[19].

غير أن أنصار المدرسة الوضعية الإيطالية كانت لههم نظرة أخرى، فاعتبروا المجنون مسؤول جنائيا ولا يمكن أن يخرج عن نطاق القانون الجنائي، حيث أن مسؤوليته اجتماعية أساسها الخطورة الإجرامية الكامنة لديه، وبالتالي يجب توقيع التدابير الاحترازية عليه وذلك بوضعه في المصحات العقلية حتى يشفى من نونه وتزول خطورته الإجرامية، ورغم أن التشريعات الحالية تميل للاتجاه التقليدي، المتمثل في بناء المسؤولية الجنائية على حرية الاختيار، ومن ثم لا يمكن مسائلة المجنون جنائيا لانعدام هذه الحرية لديه، وإن كانت تأخذ بفكرة التدابير الاحترازية بخصوص المجنون وهو ما يعني الأخذ أيضا بأفكار المدرسة الوضعية.
الفرع الثاني
الشروط الواجب توفرها لامتناع المسؤولية بسبب الجنون

حتى يعد الجنون مانعا من موانع المسؤولية الجنائية، يجب أن تتوفر فيه ثلاثة شروط أساسية، هي:
1- إصابة المتهم فعلا بجنون أو عاهة عقلية.2- فقد الشعور أو الاختيار بخصوص العمل الذي سلكه الشخص.3- معاصرة الجنون أو العاهة العقلية لوقت ارتكب الجريمة. وهو ما نتناول تفصيله في النقاط الثلاث التالية.

أولا: إصابة المتهم بجنون أو عاهة عقلية

الجنون من وجهة النظر القانونية، يشمل كافة صور اضطراب القوى الذهنية لدى الشخص، الأمر الذي يفقده التمييز وحرية الاختيار، لذا نجد القاضي الجزائي لا يتقيد بالمعنى الطبي الدقيق للجنون، بل يكفيه أن يتأكد من أن أثر العاهة العقلية أفقدت الشخص التمييز أو حرية الاختيار لحظة ارتكابه الجريمة، سواء كان ذلك راجعا لمرض يصيب المخ، وهو الجنون في معناه الطبي[20]، أو خلل يصيب الجهاز العصبي للشخص، أو أي اضطراب في الصحة النفسية له، لكن يستبعد من مدلول الجنون كل صور الاختلالات والاضطرابات النفسية، كحالات الشخصية السيكوباتية التي تسيطر على الشخص فتجعله في عداء مستمر مع المجتمع، وكذا حالات الانفعال الشديد أو حالات ثورة العاطفة.

ثانيا: فقد الشعور أو القدرة على الاختيار

إن لم يؤدي الجنون أو عاهة العقل إلى إفقاد الشخص لشعوره وقدرة اختياره، فلا يعد مانعا من موانع المسؤولية، ولا يقصد بفقد الشعور والاختيار زوالهما زوالا تاما، بل يكفي إضعافهما أو الانتقاص منهما إلى حد التأثير على إرادة الجاني، وهي مسألة موضوعية متروكة لتقدير قضاة الموضوع دون معقب عليهم من محكمة النقض، وللقاضي في ذلك حق الاستعانة بالخبرة الطبية والنفسية.

ثالثا: معاصرة الجنون لوقت ارتكاب الجريمة

حتى يعد الجنون أو العاهة العقلية مانعا من موانع المسؤولية، يجب أن يكون معاصرا لوقت ارتكاب الجريمة، أي أن يعتري الشخص لحظة ارتكابه الجريمة ( وبالضبط ارتكاب ركنها المادي)، فلا عبرة قانونا بالجنون السابق لهذه اللحظة، إذا كان الشخص قد عفي منه وقت ارتكابه الجريمة، ولا عبرة أيضا بالجنون
أو العاهة العقلية التي تطرأ على الشخص بعد ارتكابه الجريمة، بحيث في هذه الحالة يعد سببا يحول دون مواصلة إجراءات الدعوى أو امتناع توقيع العقوبة عليه، بحيث إن اعترى الشخص جنون بعد ارتكاب الجريمة وقبل إجراءات المحاكمة فإن ذلك يعد حائلا يحول دون محاكمته، وإن اعتراه الجنون وقت المحاكمة توقفت إجراءاتها، وإن طرأ بعد المحاكمة وصدور الحكم، فإنه يوقف فقط تنفيذ العقوبة لغاية شفائه إن كان جنونا من النوع الذي يشفى. غير أنه وفقا للقانون الجزائري وتطبيقا للمادة 21 من تقنين العقوبات فإنه تنزل به التدابير الاحترازية المتمثلة في مؤسسة استشفائية للأمراض العقلية[21].

وباستجماع المرض أو العاهة العقلية للشروط الثلاثة السابقة، يصبح مانعا من موانع المسؤولية الجنائية، يمنع توقيع العقوبة على المصاب به، وهو من الموانع الشخصية التي على غرار موانع المسؤولية كلها لا يستفيد منه إلا من توفر في حقه.










قديم 2013-01-29, 00:29   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
hadia369
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية hadia369
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

المبحث الثاني
موانع المسؤولية الناشئة عن انعدام الإرادة

إن امتناع المسؤولية الجنائية – يسميها البعض عوارض المسؤولية- لا يشترط أن يكون ماسا بالوعي والتمييز فقط، وذلك بأن ينعدما، بل قد يكون الإنسان مميزا وعاقلا وواعيا لحقيقة ودلالات فعله، لكنه قد يكون متجرد من إرادته كلية كما في حالة الإكراه المادي، وقد ينتقص منها فقط على نحو يجعلها إرادة معيبة غير حرة، مثلما هو الأمر بالنسبة للإكراه المعنوي وحالة الضرورة- في القوانين التي تجعل منها سببا من أسباب الإباحة- وكذا الغيبوبة الناشئة عن التخدير أو السكر الاضطراري في بعض الدول، لذا سنتناول هذا المبحث من خلال مطلبين، نتناول فيهما فقط حالة الإكراه بنوعيه، وكذا حالة الغيبوبة الناشئة عن السكر، دون حالة الضرورة التي تناولناها في مجال أسباب الإباحة، وأنه يشترط فيها ذات الشروط التي سبق تناولها حتى ولو كانت مانعا من موانع المسؤولية.
المطلب الأول
الإكــــــــــراه

الإكراه نوعان، إكراه مادي وهو الذي تنعدم فيه إرادة الشخص كلية، ومثاله أن يمسك شخص بيد شخص آخر ويجبره على التوقيع على محرر مزور، أو على شيك بدون رصيد، وهو نوع من الإكراه يعدم الإرادة كلية، وفي هذه الحالة لا يسأل الشخص عن جرائمه. وهناك إكراه معنوي، وهو إكراه لا يعدم الإرادة تماما، وإنما يجردها فقط من حريتها، كالتهديد بإنزال الأذى بشخص إن لم يرتكب جريمة ما، والإكراه كمانع من موانع المسؤولية تضمنته المادة 48 من تقنين العقوبات الجزائري[22].وسنحاول أن نتناول نوعا الإكراه وأنواعه، قبل أن نتناول الشروط المتطلبة فيه حتى يكون مانعا من موانع المسؤولية.

الفرع الأول
نوعـــــــا الإكراه

هناك نوعين للإكراه، إكراه مادي أين تنعدم إرادة الفاعل في حقيقة الأمر ولا يكون لها وجود، ويلحق بالإكراه المادي حالة القوة القاهرة والحادث الفجائي، وبين الإكراه المعنوي أين تبقى الإرادة لكن مجال الاختيار أمامها يكون ضيقا إلى أبعد الحدود. أو هو وجود الشخص في وضع لا يمكن معه إلا ارتكاب الجريمة، والمشرع الفرنسي في نص المادة 64 لما عالج مسألة الإكراه والجنون عالجها بطريقة توحي انه يعتبرهما من أسباب الإباحة حيث يشرع في المادة بالنص:" لا جناية ولا جنحة". والإكراه في معناه العام، هو حمل الغير على إتيان ما يكره، وفي المجال الجنائي هو حمل الشخص على إتيان جريمة، سواء كانت في صورة فعل أو امتناع، وهو كما سبق على نوعين، مادي وهو ما يقع في الغالب على جسم الغير ويعطل دائما إرادته، وأما المعنوي أو الأدبي فينصب على معنويات الغير ويحد كثيرا من حرية الاختيار، واختلاف النوعين في الطبيعة يترتب عليه بالضرورة اختلاف في الحكم القانوني، ويرى البعض أن الأول يعد مانع من قيام الجريمة والثاني مانع من موانع العقاب.

أولا: الإكـــراه المــادي(La contrainte physique)

الإكراه المادي هو أن يحمل الجاني بالقوة المادية التي يكون مصدرها فعل الإنسان على إتيان الفعل أو الامتناع المكون للجريمة، أي دفع الشخص باستعمال قوة مادية ليس بمقدوره دفعها، كحجز الشاهد حتى لا يشهد في المحكمة بالجريمة المستدعى للإدلاء بشهادته فيها، ومن يباشر الإكراه المادي في حقيقة الأمر يباشر سلب لإرادة من وقع عليه الإكراه فيحمله على إتيان عمل أو الامتناع عن القيام بعمل. ومن غير العدل والمنطق معاقبة الشخص أو مسائلته عن فعل لم يكن لإرادته دور في ارتكابه، غير أن كلاهما يعد مرتكبا للجريمة كفاعل أصلي للجريمة، غير أن أحدهما مسؤول عنها والآخر غير مسؤول عنها، كوننا نتكلم عن مانع من موانع المسؤولية، مما يعني أن الجريمة أمر وقوعها ثابت، وعرف الإكراه المادي، بأنه قوة مادية تشل الإرادة وتعدمها بصفة عارضة أو مؤقتة وتفقد الإنسان سيطرته على أعضاء جسمه وقد تدفعه إلى ارتكاب ماديات إجرامية، أو هي قوة مادية تفرض على الإنسان عمل ما لا يجب عليه أن يعمله، أو تمنعه من عمل ما يجب عليه عمله، وقد يكون مصدر تلك القوة خارجي، كقوة الطبيعة أو الحيوان أو الإنسان، وهو الغالب، وقد يكون مصدرها داخليا، كان يصاب الشخص بشلل مفاجئ فيسقط على طفل فيقتله، أو يأخذ النوم إنسان في قطار فيتجاوز المسافة التي لأجلها دفع أجرة القطار.. والقاعدة أن من يسأل في حالة الإكراه المادي هو الشخص المكره لا الذي وقع عليه الإكراه، كون قصده الجنائي في مثل هذه الحالة يكون قد انتفى، بل أن الركن المادي في حقيقته لم يقم به الشخص الذي وقع عليه الإكراه بل من مارس هذا الإكراه. ويشترط لكي يرتب الإكراه أثره أن تكون القوة التي تعرض لها المكره قوة غير متوقعة وغير مستطاع مقاومتها، وإلا عد المكره مرتكبا لجريمة غير عمدية. الأمر الذي يتطلب منا تناول القوة القاهرة والحادث الفجائي في النقطتين التاليتين.

1- القوة القاهرة la force majeur
القوة القاهرة في هذا المقام تلحق في حكمها بالإكراه المادي حسب البعض - نحن نرى أنها حالة الضرورة وليست إكراها ماديا - كون الجاني في كلتا الحالتين لا يأتي نشاطا إراديا غير أنه في حالة الإكراه سلب الإرادة يكون بفعل نشاط إنساني، بينما في حالة القوة القاهرة يكون بفعل قوى الطبيعة أو فعل الحيوان، ويضيف البعض حتى حالة فعل الشخص الغير مسؤول جنائيا، كما أن الفرق الجوهري هو أنه في حالة الإكراه المادي يكون هناك فاعل ألي للجريمة وهو من مارس الإكراه، بينما في حالة القوة القاهرة لا يكون أمامنا مسؤول، غير أنهما يشتركان في الشروط بحيث كلاهما يشترط عدم إمكان التوقع imprévisible وألا يكون بإمكان الشخص مقاومة هذه القوةirrésistible .، وإن انعدم أحد هذين الشرطين سؤل الشخص بحسب الأحوال عن جريمة عمدية أو غير عمدية فمن يركب حيوان يعلم أنه جامح وصعب المراس ويتعمد ذلك ويحدث بذلك أضرارا للغير، أو المرأة المتزوجة التي كان بإمكانها مقاومة مغتصبها ولم تفعل تكون قد ارتكبت جريمة الزنا.

2- الحادث الفجائي cas fortuit

الحادث الفجائي قوة غير متوقعة تنشأ عن فعل الإنسان أو قوى الطبيعة التي لا تترك مجالا أمام الشخص ليعمل فيه اختياره، كدفع طفل أمام سائق سيارة كان متبعا كافة التعليمات القانونية أو سائق السيارة الذي يصاب بعمي ألوان مفاجئ فيدهس شخصا كان مارا أمامه بالطريق، وهو بذلك شأنه شأن القوة القاهرة لا يكون أحدا مسؤولا عنه، غير أنه خلافا لحالتي الإكراه المادي والقوة القاهرة هنا الشخص يمارس نوعا من النشاط لكنه نشاط مشروع غير مجرم ولا ينطوي على خطأ، ويشترط فيه أيضا ألا يكون متوقعا ولا يمكن مقاومته. لذا فشروط الإكراه المادي أن يكون غير متوقع، إذ التوقع أو إمكانية التوقع تمكن الشخص من تجنبه، وأن يكون مستحيل الدفع، ولم يرد أن يكون مصدره إنسان، حيث أن هذا الاتجاه يرد أسباب الإكراه المادي إلى عوامل الطبيعة أو الحيوان.

ثانيا: الإكـراه المعـــنويLa contrainte morale

الإكراه المعنوي، هو ممارسة ضغط على إرادة الإنسان لحمله على ارتكاب جريمة معينة، فهو وإن لم يقض على وجود الإرادة نهائيا من الناحية المادية، فهو شل حركتها وأفقدها قوتها على الاختيار. أو هو ضغط شخص على إرادة شخص آخر لحمله على توجيهها إلى سلوك جرمي[23]. وهناك من الفقه من يصور حالة الإكراه المعنوي الخارجي ويضيف لها الإكراه المعنوي الداخلي، المتمثل في حالة الانفعال الشديد والهوى الذي يذهب بقوى الضبط والسيطرة لدى الفرد وهي القوى الكابحة، غير أن مثل هذه الحالات وإن كانت تمنع قوى الإرادة، إلا أن المشرع الفرنسي والجزائري لم يأخذا بها، خاصة وان الحقيقة الواعية تؤكد أن غالبية الجرائم هي نتيجة مثل هذه الحالات، لذا فالقانون لا يجعلها مانع من موانع المسؤولية، بل يلقي على الإنسان عبء مقاومتها[24]. وقد يكون مصدر الإكراه المعنوي، تأثير خوف أو من وقوع خطر
أو ضرر جسيم على وشك الوقوع وليس بالإمكان الإفلات منه أو دفعه إلا بارتكاب الجريمة، كتسليم شخص لوديعة مودعة لديه تحت تأثير التهديد بالقتل مما يحول دون ارتكابه لجريمة خيانة الأمانة، أو أن تأتي المرأة المتزوجة فعل الزنا تحت التهديد دون أن تكون مرتكبة لجريمة الزنا. لذا نجد جانب من الفقه يرى أن الإكراه المعنوي لا يختلف في طبيعته عن الإكراه المادي، وأن الخلاف الوحيد بينهما ينحصر في الوسيلة المؤثرة في الإرادة، بينما جانب آخر - ونؤيده - يرى أنه في الإكراه المادي حقيقة الركن المادي للجريمة تنسب لمن مارس الإكراه وأن المكره في حقيقته لم يمارس أي ركن مادي، على عكس الإكراه المعنوي أين نجد الشخص المكره من قام بالركن المادي للجريمة. بينما هناك من يرى في الإكراه المعنوي ما هو إلا صورة من صور حالة الضرورة . ويرى البعض أن الإكراه المعنوي يضغط على الإرادة إلا أنه لا يعدمها، وهو من هذه الناحية يختلف عن القوة القاهرة والإكراه المادي، فالحقيقة أن المكره معنويا ينتقص لديه الاختيار ويظل مميزا ومدركا لماهية أفعاله ونتائجها، فالاختيار هو الذي ضيق من مجاله إلى أقصر الحدود، حيث يجد الشخص نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، وهو إما الرضوخ للإكراه وارتكاب الجريمة، وإما يقبل بوقوع الخطر أو التهديد أو الشر أو الضرر الذي هدد به.


الفرع الثاني
الشروط الواجب تطلبها في الإكراه كمانع للمسؤولية الجنائية

حتى يعد الإكراه مانعا من موانع المسؤولية الجنائية، يجب أن يستجمع شرطين أساسيين بدونهما لا تتوفر فيه صفة المانع من المسؤولية، الشرط الأول، وهو أن يكون مصدر الإكراه الإنسان، وأما الشرط الثاني، فهو أن يكون سبب الإكراه غير متوقع ويستحيل دفعه. وهو ما نتناوله في النقطتين التاليتين.

أولا: أن يكون مصدر الإكراه إنسان

حتى يكون الإكراه مانعا من موانع المسؤولية الجنائية، يجب أن يكون مصدره إنسان، وهو المصدر الذي يجعل الإكراه يتميز عن بعض الأفكار القانونية الأخرى التي حتى وإن كانت تشترك معه من حيث كونها تمنع قيام المسؤوليه إلا أن مصدرها غير الإنسان، كحالة القوة القاهرة التي تعد الطبيعة مصدرا لها كالزلازل والفيضانات والعواصف، كما قد يكون مصدرها الحيوان، كحالة جموح دابة، كما قد تتمثل في المرض الذي يصيب الإنسان أو النعاس الذي يعتريه فيرتكب جريمة مدفوعا بذلك، فهي أيضا مانعا للمسؤولية. كما يختلف الإكراه عن الحادث الفجائي الذي لا يجرد الشخص من إرادته بل يجرد فعله من عنصر الخطأ، كمن يقود سيارته محترما لقواعد السير وإذا بشخص أرعن يعبر الطريق أمامه فجأة في غير المكان المخصص لعبور الراجلين، غير ملتزم بأدنى قواعد التبصر والانتباه فيصدمه ويتسبب ذلك في وفاته، فهنا يعد السائق بصدد حادث فجائي كان سببه خطأ المضرور ذاته وبذلك تمتنع مسؤوليته الجنائية.

ثانيا: أن يكون سبب الإكراه غير متوقع ويستحيل دفعه

يجب أن يكون الإكراه المسلط على الشخص غير متوقع بالنسبة له، حتى يعتد به كمانع من موانع المسؤولية الجنائية، وعدم التوقع مسألة موضوعية يستقل بتقديرها قضاة الموضوع تبعا لظروف كل قضية على حدة، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، يجب أن يكون دفع هذا الإكراه من قبل الشخص المكره مستحيلا، فإن كان يمكن دفعه يمتنع الزعم بأنه أعدم إرادة الشخص، فلا يمكن لشاب قوي البنية مثلا أن يحتج بالإكراه المسلط عليه من قبل صبي صغير محدود القدرات. هذا ويضيف البعض، ألا يكون للجاني يد في حصول هذا الإكراه، وفي حقيقة الأمر شرط عدم التوقع يغني عنه.

المطلب الثاني
الغيبوبة الناشئة عن السكر الاضطراري

الغيبوبة كمانع من موانع المسؤولية أخذت به العديد من التشريعات الجنائية، غير أننا سنركز على القانون المصري ونعطيه كنموذج، مع مقارنته أحيانا مع القانون اللبناني، على اعتبار ن الأول مصدر للثاني، وفي هذا القانون نصت المادة 62 على حالة الغيبوبة بنصها : " لا عقاب على من يكون فاقد الشعور
أو الاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل.... لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيا كان نوعها إذا أخذها قهرا عنه أو على غير علم منه بها"، ويستفاد من هذا النص بمفهوم المخالفة استبعاد حالة تناول هذه العقاقير
أو المواد المخدرة بإرادة الشخص، حيث المادة اشترطت تناولها قهرا أو بغير علم من الشخص .ومن شروط تطبيق هذه الحالة هو أن يؤدي تناول هذه العقاقير إلى فقد الشعور وقت ارتكاب الجريمة مع تناولها قهرا
أو عن غير علم بحقيقة هذه العقاقير. وبينت المادة 235 من قانون العقوبات اللبناني ذلك بالنص :" يعفى من العقوبة من كان حين اقتراف الفعل بسبب طارئ أو قوة قاهرة في حالة تسمم ناتجة عن الكحول أو المخدرات أفقدته الوعي أو الإرادة. وإذا نتج التسمم عن خطأ الفاعل كان هذا مسؤولا عن كل جريمة غير مقصودة ارتكبها. ويكون مسؤولا عن الجريمة المقصودة إذا توقع حين أوجد نفسه في تلك الحالة بسبب خطأه إمكان اقترافه أعمالا إجرامية. وإذا وجد نفسه في تلك الحالة قصدا بغية ارتكـــاب الجريمة شددت عقوبته وفقا للمادة 257".
الفرع الأول
المقصود بالسكر أو التسمم

يقصد بالسكر أو التسمم كمانع من موانع المسؤولية، الحالة التي يفقد فيها الشخص الوعي والإرادة بصفة مؤقتة وعارضة على إثر تعاطيه لكمية من سائل مسكر أو مادة مخدرة كافية لإحداث هذا الأثر. أما الكحول والمخدرات، فيقصد بها كل المواد الكحولية أيا كانت تسميتها أو نوعها، وأيا كانت نوعية أو شكل المواد المخدرة دون التقيد بالجدول المبين بقانون المخدرات، كما يستوي الوسيلة التي يتعاطى بها الشخص الكحول أو المخدرات، سواء كان ذلك عن طريق الفم أو الشم أو الحقن أو امتصاص مسام الجلد له أو أية وسيلة أخرى. والسكر وتناول المخدرات حالة مؤقتة دوما وليست مثل الحالة المرضية الناتجة عن الإدمان كما أنها ليست حالة دائمة كالجنون.
الفرع الثاني
السكـــــر الإرادي

السكر الذي يؤدي إلى الغيبوبة ويمنع قيام المسؤولية الجنائية، هو السكر اللاإرادي أو الذي يتناوله الشخص مكرها أو عن طريق الخطأ، لذا نجد الفقه قد أثار مسألة تناول عقاقير مخدرة أدت إلى غيبوبته
أو سكر بإرادة الشخص الحرة، وحدود المسؤولية في هذه الحالة، خاصة وأن المسؤولية تقوم على مدى القدرة على الإدراك والتمييز، والشخص في مثل هذه الحالات يكون فاقدا للقدرة على التمييز والإدراك، ومن بين ما جاء به الفقه هو عقد الشخص العزم على ارتكاب الجريمة ثم يعمد إلى السكر لبث الجرأة فيه لتنفيذ الجريمة، هــنا يرى أن عقد العزم قد تم قبل تناول المادة وبالتالي يسأل، وإن كنا التبرير يجب أن ينصب حول وقت الجريمة الذي كان فيه الشخص فاقدا للقدرة على التمييز والإدراك، وهذا لا يعني أننا لا نحمل مسؤولية لهذا الشخص، لكن يجب أن نبحث عن أساس آخر لها، أما ما عدا هذا الفرض فالفقه ميز بين أربعة آراء.

أولا: المسائلة على أساس الإهمال وعدم الاحتياط

وهو اتجاه يرى أنصاره، أن الشخص الذي يتناول المخدر أو المسكر مع علمه بطبيعة ما يتناوله وبإرادته، يعد مسؤولا مسؤولية جنائية على أساس الإهمال وعدم الاحتياط، لأن المسكر أو المخدر أفقد الجاني الشعور والقدرة على التحكم. لكن أخذ على هذا الرأي الملاحظات التالية: أنه رأي يؤدي إلى الإعفاء من المسؤولية بناء على فقدان الشعور والإدراك، وهي مسألة متطلبة في كل من نوعي الجرائم العمدية وغير العمدية، إذن لا يمكن القول بالمسؤولية أيضا على أساس الإهمال وعدم الاحتياط كون هاتين الصورتين من صور الخطأ تقوم بدورها على الإدراك والتمييز. القول بهذا الرأي، يؤدي إلى عدم مسائلة الشخص في الحالة التي لا تحتمل فيها الجريمة الارتكاب إلا عمدا، مثلما هو الشأن بالنسبة لجريمة الاغتصاب في القانون المصري وكذا جريمتي القذف والسب .

ثانيا: المسائلة عن جرائم عمدية

وهو رأي يرى أنصاره معاقبة من يفقد إفاقته عمدا مع علمه بذلك، ويسأل عن جريمة عمدية رغم انعدام القصد الجنائي لديه، وإنما القانون يحمله نتيجة قصده الاحتمالي. وقد وجهت انتقادات لهذا الرأي أيضا، تمثلت أساسا في كون القصد الاحتمالي يستلزم توفر النية لدى الجاني قبل ارتكاب الجريمة.

ثالثا: موقف محكم النقض المصرية

وهو رأي يقوم على التفرقة بين الجرائم التي لا تتطلب سوى القصد الجنائي العام، وتلك التي تتطلب قصدا جنائيا خاصا، فالجاني يحمل مسؤولية الجرائم العمدية التي تقوم على القصد الجنائي العام، بالرغم من فقده الشعور نتيجة السكر والغيبوبة الاختيارية، بينما الجرائم التي تتطلب قصدا جنائيا خاصا، فلا يحمل الجاني مسؤوليتها سوى على القصد العام إن كانت مثل هذه الجرائم ممكن أن تتحول إلى ذلك، وإن لم تكن تحتمل ذلك فلا يسأل الشخص جنائيا .كجريمة القتل العمد التي يرى الفقه أنها جريمة عمدية تتطلب قصدا خاصا، وفي حال فقد هذا القصد الخاص وتحوله إلى قصد عام تصبح جريمة الضرب المفضي إلى الموت، وهي جريمة تتطلب فقط قصدا جنائيا عاما، وهو موقف قضائي مصري يرى فيه الفقه المصري، أنه موقف يفتقر إلى السند القانوني، زيادة على خلطه بين الأهلية الجنائية والركن المعنوي للجريمة.

رابعا: قيام المسؤولية على أساس العمد المفترض
تجنبا للانتقادات السابقة التي وجهت للآراء الثلاثة السابقة، حاول البعض، أن يبني مسؤولية الشخص فاقد الشعور نتيجة المخدر أو السكر الذي تناول عمدا مع علمه بحقيقة المادة، على أساس العمد المفترض افتراضا لا يقبل إثبات العكس، وأن يفترض بأن الجاني أثناء ارتكابه جريمته كان مالكا لشعوره، وبالتالي يكون مسؤولا عن الجريمة التي ارتكبها، سواء كانت جريمة عمدية أو غير عمدية، ذات قصد عام أو ذات قصد خاص. مما يعني تحمل الشخص المسؤولية عن الجريمة التي ارتكبها كما ولو كان في حال إفاقة تامة.

ويرى البعض الميل للرأي الذي يرى وجوب ما إن كانت الجريمة تحتمل العقاب على صورتي العمد والخطأ، أم يعاقب عليها في صورة العمد فقط، فإن كانت تحتمل الصورتين يسأل الشخص مسؤولية غير عمدية، وإن لم تكن كذلك امتنعت مسؤوليته الجنائية في ظل عدم وجود نص صريح يقرر مثل هذه المسؤولية ولا يجب اصطناع أنواع جديدة من المسؤولية لا وجود لها من حيث الواقع ولا سند لها إذا قيل أنها مسؤولية مفترضة.










قديم 2013-01-29, 00:31   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
hadia369
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية hadia369
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي










قديم 2013-01-31, 23:10   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
rose dj
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

جزاك الله خيرا الأخت هادية لو سمحت اذا ممكن ملخصات باقي المقاييس أكون ممتنة لك .
جعلها الله في ميزان حسناتك
أنتظر الملخصات بفارغ الصبر لأنني كنت أعاني من وعكة صحية .










 

الكلمات الدلالية (Tags)
ملخصات, لمسابقة, مزرعة, مفيدة, الدفع, القضاء


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 08:14

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc