تداعت علينا الأمم كما تداعت الأكلة إلى قصعتها، ذبح أبناؤنا، استحييت نساؤنا ، قِتل شيوخنا ، يتم أولادنا و حوصر و جوع قومنا ، وأخرجنا من ديارنا و أبنائنا، في أرض ملئت ظلما و جورا، في زمن الوهن، ، في السنوات الخداعات ، يتكلم فيها الرويبظة ، زعيم القوم فيها أرذلهم ، لا يريهم إلا ما يرى ، يستخف قومه فيطيعوه ، فهما سواء .
فظهرت فئتان عظيمتان، الأولى فئة قليلة في عددها عظيمة بإيمانها بقضيتها وبعزيمتها، و الثانية كثيرة في عددها وعظيمة بوهنها. وهما فئتان بينهما برزخ لا تيبغيان .
قالت الفئة القليلة للكثيرة و هما تتحاوران : ( إن فرعون علا في الأرض و جعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناؤهم و يستحيي نساءهم إنه كان من المسرفين ) . إن جالوت و جنوده طغوا في الأرض . (يا أيها الذين امنوا ما لكم إذا قيل لكم أنفروا في سبيل الله إثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الأخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) . فماذا أنتم فاعلون ؟ هل تنضموا إلينا ؟ .أجابت الفئة الكثيرة : ( لا طاقة لنا اليوم بجالوت و جنوده ) .
فظهر أن كل هذا الكلام لم ينفع معها، فطلع قائد الفئة القليلة فناداهم بأعلى صوته ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض والله ذو فضل على العالمين ) .
قالت الفئة الكثيرة للقائد : ( ألم نربك فينا وليدا و لبثت فينا من عمرك سنينا و فعلت فعلتك التي فعلت ) في الحادي عشر من الشهر التاسع ؟
قال : ( فعلتها إذا و أنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما ) ( قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ) .
فأجابته : ( إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) سنضع أصابعنا في أذاننا وسنستغشي ثيابنا، ما أنت بمصرخنا وما نحن بمصرخك.
قال : ( أنلزمكموها و أنتم لهل كارهون ) .إذهبوا فإن لكم موعدا لن تخلفوه ، ( إن يوم الفصل ) ميقاتكم أجمعين . ( ألا إن نصر الله قريب ) . ( رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ) ( ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين ) .
فافترقت الفئتان ، فرجعت الفئة الكثيرة إلى فراعنتها فقالت لهم : ( أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ) قالوا : ( نعم و إنكم لمن المقربين ) . فقالت جموع الفئة ( بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ) ( فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائضون و إنا لجميع حاذرون ) . أما الفئة القليلة فمضت إلى ما أمنت و استيقنت به أنفسها . ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ( نصر من الله وفتح قريب ) .
فجاء ( نصر الله و الفتح ) فغزوا الجزيرة ففتحها الله ، و غزوا فارس ففتحه الله ، وغزوا القسطنطينية ففتحها الله ، وغزواالروم ففتحه الله ، وغزوا الدجال ففتحه الله ( فهزموهم بإذن الله ) .
وعادوا و دخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة . و فرح المؤمنون بنصر الله ، فصلوا صلات الشكر لله رب العلمين ، ( وأشرقت الأرض بنور ربها ) و ملئت الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما و جورا ( و الله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . رضوان من الله وجنات الفردوس و أجر كثير بغير حساب ... فدخلوا زمرًا زمرًا .
فجاءت جموع الفئة الكثيرة يهرعون إليهم ( و من قبل كانوا يعملون السيئات ) بتخاذلهم وباستهزائهم و قعودهم عن نصرة إخوانهم و باتخاذهم للعدو وليا، طامعين فيما أ تاهم الله من فضله، فقالوا لهم وهم ( ناكسوا رؤوسهم ) ( ترهقهم ذلة ) : ( ألم نكن معكم ) ؟
قالوا : ( بلى و لكنكم فتنتم أنفسكم و تربصتم و ارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله و غركم بالله الغرور ) فلن تخرجوا معنا أبدا ولن تقاتلوا معنا عدوا ، إنكم كنتم منا تضحكون و إذا مررتم بنا تتغامزون ، ( إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع القاعدين ).
فقالوا : ( أرونا نقتبس من نوركم ) أو ( أفيضوا علينا من الماء) - من الأجر العظيم - ( أو مما رزقكم الله ) - النصر و الشهادة - .
أجابوهم : ( إن الله حرمها عليكم ) بما قدمت أيديكم و بما كنتم به تستهزئون فاليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا .
( و أورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض و مغاربها و تمت كلمة ربك بالحسنى )
وقضي الأمر ( و قيل بعدا للقوم الظالمين )
والحمد لله رب العلمين