إلى الأخ :OTI
عفوا على التأخر في الرد
المقدمة
يعد النقد من أهم الحوافز الدافعة إلى ازدهار الإبداع الأدبي, وتطوير أشكاله الفنية ومقاصده الفكرية والثقافية، وتنوع مناهجه التحليلية والثقافية، وما فتئ كل إبداع سردي أو شعري يقابل بإبداع نقدي عبر توالي العصور وتعاقب الأجيال، وما ازدهر الأدب في عصر من العصور إلا وكان النقد رافداً له وتفسيراً أو تقييماً أو إبداعاً، وكلما قلّت القراءة المبدعة خبت جذوة الإبداع وقاربت الأفول.
وقد ظهرت مدارس عديدة لدراسة النتاج الأدبي هي أساس مناهج النقد الحديث منها: مدرسة النقد الشكلي والبنيوي،ومدرسة النقد الظاهراتي والوجودي، ومدرسة التحليل والنقد النفسي، ومدرسة النقد الاجتماعي والماركسي، وقد انفرد كل اتجاه بأعلامه وقوانينه وأسسه.
أسباب الاختيار:
وقع اختياري على هذا الموضوع لما كان لهذا المنهج من أهميةٍ وأثرٍ على النقد، وما دار حوله من خلاف، وقلة معلوماتي عنه؛ رغبت في تناول هذا المنهج بالبحث والدراسة تحت عنوان: المنهج الاجتماعي في النقد.
الدراسات السابقة:
تناولت بعض المراجع المناهجَ النقديةَ الحديثةَ بعامة، ككتاب النقد الأدبي الحديث قضاياه ومناهجه، لصالح هويدي، وكتاب مناهج النقد المعاصر، لصلاح فضل، وكتاب النقد الأدبي الحديث أسسه الجمالية ومناهجه المعاصرة، للدكتور سعد أبوالرضا.
وأفردت في بحثي هذا الحديث عن المنهج الاجتماعي في النقد الأدبي.
وقد استعنت من المراجع السابقة ما يثري جوانب البحث ويبرز أهميته.
منهج البحث:
1. اعتمدت في هذا البحث على استقاء المعلومات من مصادرها.
2. في الحاشية أذكر اسم الكتاب ثم المؤلف ثم المترجم أو المحقق ـ إن وجد ـ ثم دار الطبع ثم رقم الطبعة ثم التاريخ.
3. عند تكرار الكتاب في الحاشية اكتفي بذكر اسم الكتاب فقط ورقم الصفحة.
خطة البحث:
قسمت بحثي مستعينة بالله إلى:
• مقدمة: وتشتمل على بيان لماهية النقد وأهميته وبعض مناهجه، أسباب اختيار الموضوع، وخطته، وأهم مراجعه.
• التمهيد: ويشتمل على بيان لمفهوم المنهج الاجتماعي وأصوله.
• المبحث الأول: المنهج الاجتماعي في النقد الأوربي الحديث.
• المبحث الثاني: اتجاهات المنهج الاجتماعي.
o المطلب الأول: الاتجاه الأول: الكمي.
o المطلب الثاني: الاتجاه الثاني: المدرسة الجدلية.
• المبحث الثالث: المنهج الاجتماعي في النقد العربي.
• المبحث الرابع: نقد المنهج الاجتماعي.
• المبحث الخامس: تحليل نص على ضوء المنهج الاجتماعي.
• الخاتمة.
• فهرس المراجع.
• فهرس الموضوعات.
التمهيد
مفهومه وأصوله:
المنهج الاجتماعي من المناهج الأساسية في الدراسات الأدبية والنقدية، وقد تولد هذا المنهج من المنهج التاريخي، بمعنى أن المنطلق التاريخي كان هو التأسيس الطبيعي للمنطلق الاجتماعي عبر محوري الزمان والمكان ( ) .
وهو منهج يربط بين الأدب والمجتمع بطبقاته المختلفة، فيكون الأدب ممثلاً للحياة على المستوى الجماعي لا الفردي؛ باعتبار أن المجتمع هو المنتج الفعلي للأعمال الإبداعية، فالقارئ حاضر في ذهن الأديب وهو وسيلته وغايته في آن واحد ( ) .
ويتفق معظم الباحثين على أن الإرهاصات الأولى للمنهج الاجتماعي في دراسة الأدب ونقده بدأت منهجياً منذ أن أصدرت "مدام دي ستايل" عام 1800م كتابها "الأدب في علاقته بالأنظمة الاجتماعية"، فقد تبنت مبدأ أن الأدب تعبير عن المجتمع ( ) .
ويمكن عد التحليلات التي حواها كتاب الناقد "هيبوليت تين" في كتابه "تاريخ الأدب وتحليله عام 1863م، أحد أبرز التطبيقات الممثلة للمنهج الاجتماعي في دراسة الأدب وتحليله ( ) .
المبحث الأول: المنهج الاجتماعي في النقد الأوربي الحديث.
كان للفكر المادي الماركسي أثر في تطور المنهج الاجتماعي، وإكسابه إطاراً منهجياً وشكلاً فكرياً ناضجاً، ومن المتقرر في الفلسفة الماركسية أن المجتمع يتكون من بنيتين: دنيا: يمثلها النتاج المادي المتجلي في البنية الاقتصادية، وعليا: تتمثل في النظم الثقافية والفكرية والسياسية المتولدة عن البنية الأساسية الأولى، وأن أي تغير في قوى الإنتاج المادية لابد أن يُحدث تغيراً في العلاقات والنظم الفكرية ( ) .
واعتماداً على ما سبق؛ ظهرت نظرية "الانعكاس" التي طورتها الواقعية، إلا أن المشكلة التي كانت تواجه هذه النظرية تتمثل في فرضية مؤداها، أنه كلما ازدهر المجتمع في نظمه السياسية والحضارية والاقتصادية؛ ازدهر الأدب، إلا أن مراجعة تاريخ الآداب والمجتمعات أثبتت أن التلازم ليس صحيحاً، نضرب مثلاً لذلك بالعصر العباسي الثاني الذي كان نموذجاً لتفكك الدولة، وانتقال السلطة من العرب إلى العجم، ونشوء الدويلات، كل هذه الظواهر السلبية اقترنت بنشوء حقبة من الأدب الذي تميز بالإبداع الشعري في الثقافة العربية ( ) .
لقد قدَّم الماركسيون تصوراً لتفادي هذه المشكلة، سموه " قانون العصور الطويلة"، مفاده أن نتيجة التطور الاقتصادي والسياسي والثقافي وارتباطه بالتطور الإبداعي الأدبي لا يظهر مباشرة؛ بل يلزم ذلك مرور أجيال وعصور طويلة حتى يتفاعل الأدب مع مظاهر التطور المختلفة ويكتسب القوة منها، فهذا القانون يرفض ارتباط الأدب بالمجتمع في فترات وجيزة ( ) .
وقد عملت الماركسية مع الواقعية جنباً إلى جنب في تعميق الاتجاه الذي يدعو إلى التلازم بين التطور الاجتماعي والازدهار الأدبي؛ مما أسهم في ازدهار "علم الاجتماع" بتنوعاته المختلفة، كان من بينها علم نشأ قبل منتصف القرن العشرين أطلق عليه: علم "اجتماع الأدب" أو "سوسيولوجيا الأدب"، وقد تأثر هذا العلم بالتطورات التي حدثت في الأدب من جانب، وما حدث في مناهج علم الاجتماع من جانب آخر ( ) .
المبحث الثاني: اتجاهات المنهج الاجتماعي.
المطلب الأول: الاتجاه الأول: الكمي.
يطلق عليه علم اجتماع الظواهر الأدبية، وهو تيار تجريبي يستفيد من التقنيات التحليلية في مناهج الدراسات الاجتماعية، مثل الإحصائيات والبيانات وتفسير الظواهر انطلاقاً من قاعدة يبنيها الدارس طبقاً لمناهج دقيقة ثم يستخلص منها المعلومات التي تهمه ( ) .
ويرى هذا الاتجاه أن الأدب جزء من الحركة الثقافية، وأن تحليل الأدب يقتضي تجميع أكبر عدد البيانات الدقيقة عن الأعمال الأدبية، فعندما نعمد إلى دراسة رواية ما؛ فإننا ندرس الإنتاج الروائي في فترة محددة، وبما أن الرواية جزء من الإنتاج السردي من قصة وقصة قصيرة وغيرها، فإننا نأخذ في التوصيف الكمي لهذا الإنتاج عدد القصص والروايات التي ظهرت في تلك البيئة، وعدد الطبعات التي صدرت منها، ودرجة انتشارها، والعوائق التي واجهتها، ولو أمكن أن نصل إلى عدد القراء، واستجاباتهم، وغيرها من الإحصائيات الكمية؛ حتى يمكن لنا أن ندرس الظاهرة الأدبية كأنها جزء من الظاهرة الاقتصادية، لكنه اقتصاد الثقافة بمعنى أننا نستخدم فيها مصطلحات الإنتاج والتسويق والتوزيع، وكل ذلك نستخدمه لاستخلاص نتائج مهمة تكشف لنا عن حركة الأدب في المجتمع ( ) .
ومن رواد هذه المدرسة "سكاربيه"، ناقد فرنسي له كتاب في علم اجتماع الأدب، وهو يدرس الأدب كظاهرة إنتاجية مرتبطة بقوانين السوق، ويمكن عن هذا دراسة الأعمال الأدبية من ناحية الكم ( ) .
وعلى ما سبق؛ يغفل هذا الاتجاه الطابع النوعي للأعمال الأدبية، فتتساوى لديه الرواية العظيمة ذات القيمة الخالدة بالرواية الهابطة التي تعتمد على الإثارة، فتُدرس الأعمال الأدبية على أساس أنها ظواهر اجتماعية تُستخدم فيها لغة الأرقام من حيث عدد النسخ وعدد الطبعات ومجموع القراء وهل تحولت هذه الرواية إلى فيلم سينمائي؟، فيَحكم هذه الدراسات الأساس الكمي لا الكيفي؛ فلا تملك هذه المدرسة رؤيةً جمالية في الحكم على العمل الأدبي ( ) .
ولكن ما لبث هذا المنظور أن تطور وارتبط بشكلٍ ما بالجانب الجمالي، نجد ذلك بارزاً في "حدود حرية التعبير" للباحثة السويدية "مارينا ستاغ"، فقد وظفت هذه الدراسة التقنيات الإحصائية والتجريبية في علم اجتماع الأدب بشكل مختلف عن السابق؛ فهي تختار ظاهرة محددة هي ظاهرة سقف الحرية التي يتمتع بها كُتَّاب القصة القصيرة على وجه التحديد في مصر في فترة حكمي عبد الناصر والسادات، وهي تتخذ منظورها من منطلقات منهجية حيث ترى أن الإبداع القصصي هو أكثر أشكال الإبداع ارتباطاً بحركة المجتمع، وأنه غالباً ما يصطدم بالممنوعات الاجتماعية وهي الممنوعات السياسية، والدينية، والأخلاقية ( ) .
أما المنطلق الثاني المنهجي للدراسة فيتمثل في رؤية الكاتبة للحرية بأنها قرينة الإبداع، وأن مؤشر قمع الحرية هو أهم مؤشر لتدخل المجتمع في تكييف الإنتاج الأدبي، ويظهر هذا القمع لدى الكاتب نفسه قبل أن يمارسه عليه المجتمع، ويتجلى ذلك في الرقابة الذاتية لدى الكاتب نفسه فهو بحكم خبرته الاجتماعية يعلم أن أعماله تُمنع إذا اتسمت بشيء من الجرأة، لذلك فإن مؤشرات لمصادرة والحظر ومنع التداول والعقوبة بالسجن هي التي يمكن أن نقيس بها درجة حرية التعبير المسموح بها في المجتمع، ودرجة التعبير ذات علاقة وثيقة بالقيمة النوعية للأعمال الإبداعية، فهي ليست مؤشراً كمياً فحسب لكنه مؤشر نوعي يمكن قياسه ( ) .
وعمدت الباحثة إلى تحديد حالات الكتاب المصريين الذين تعرضت أعمالهم الإبداعية في مجال القصة القصيرة للحظر كلياً أو جزئياً بمنع النشر أو الرقابة أو الحذف أو تعرضوا هم شخصياً للسجن نتيجة لنشرهم هذه الأعمال أو اضطروا للهجرة بها خارج حدود السلطة، فربطت الباحثة في هذه الدراسة بين التطور الحضاري والتطور الإبداعي من خلال قياس حرية المبدع ( ) .
وليست هذه النماذج التي أتيحت للباحثة دراستها هي أفضل النماذج التي أبدعت في المجتمع المصري في تلك الحقبة المحددة، فليس المنع والقمع والسجن مقياساً لجودة الأعمال الأدبية، فهناك أعمال لا تقل جودة وجرأة وطموحاً عنها إلا أن كُتَّابها اتخذوا من الرمز والكناية وغيرها من التقنيات الفنية للتعبير عن آرائهم بعيداً عن الرقابة ( ) .
ومع ذلك نجد أن بعض دراسات سوسيولوجيا الأدب التجريبية لها أهمية بالغة في الكشف عن علاقة الإنتاج الثقافي بالمستويات المتعددة الفاعلة في بنية المجتمع من سياسية واقتصادية واجتماعية ( ) .
أما النقد الذي يوجه لهذا الاتجاه فبالإضافة إلى إغفاله للجانب النوعي للأعمال الأدبية ـ كما وضحنا سابقاً ـ فإنه يكتفي برصد الظواهر ولا يتعمق في إمكانية تفسيرها وربطها ببعضها، بل ويقيم التوازي بين ظواهر غير متجانسة أصلاً؛ لأن الأدب إنتاج تخيلي إبداعي يغاير نوعياً طبيعة الحياة الخارجية، وهذه نقطة ضعف جوهرية تعيب دراسات علم اجتماع الأدب وتجعل نتائج عملها مجرد إضافة لمجموعة من البيانات والمعلومات التي تخدم علم الاجتماع ودارسيه أكثر من نقاد الأدب والمتخصصين فيه ( ) .
المطلب الثاني: الاتجاه الثاني: المدرسة الجدلية.
نسبة إلى "هيجل" ثم ماركس من بعده ورأيهما في العلاقة بين البنى التحتية والبنى الفوقية في الإنتاج الأدبي والإنتاج الثقافي، وهذه العلاقة متبادلة ومتفاعلة مما يجعلها علاقة جدلية ( ) .
وقد برز "جورج لوكاش" كمنظِّر لهذا الاتجاه عندما درس وحلل العلاقة بين الأدب والمجتمع باعتباره انعكاساً وتمثيلاً للحياة، وقدَّم دراسات ربط فيها بين نشأة الجنس الأدبي وازدهاره، وبين طبيعة الحياة الاجتماعية والثقافية لمجتمع ما تسمى بـ"سوسيولوجيا الأجناس الأدبية"، تناول فيها طبيعة ونشأة الرواية المقترنة بنشأة حركة الرأسمالية العالمية وصعود البرجوازية الغربية ( ) .
ثم جاء بعده "لوسيان جولدمان" الذي ارتكز على مبادئ لوكاش وطوّرها حتى تبنى اتجاهاً يطلق عليه "علم اجتماع الإبداع الأدبي"، حاول فيه الاقتراب من الجانب الكيفي على عكس اتجاه "سكاربيه" الكمي ( ) .
اعتمد "جولدمان" على مجموعة من المبادئ العميقة والمتشابكة التي يمكن أن نوجزها في التالي:
1. يرى "جولدمان" أن الأدب ليس إنتاجاً فردياً، ولا يعامل باعتباره تعبيراً عن وجهة نظر شخصية، بل هو تعبير عن الوعي الطبقي للفئات والمجتمعات المختلفة، بمعنى أن الأديب عندما يكتب فإنه يعبر عن وجهة نظر تتجسد فيها عمليات الوعي والضمير الجماعي، فجودة الأديب وإقبال القرَّاء على أدبه بسبب قوته في تجسيد المنظور الجماعي ووعيه الحقيقي بحاجات المجتمع، فيجد القارئ ذاته وأحلامه ووعيه بالأشياء، والعكس صحيح لمن يملكون وعياً مزيفاً ( ) .
2. أن الأعمال الأدبية تتميز بأبنية دلالية كلية، وهي ما يفهم من العمل الأدبي في إجماله، وهي تختلف من عملٍ لآخر، فعندما نقرأ عملاً ما فإننا ننمو إلى إقامة بنية دلالية كلية تتعدل باستمرار كلما عبرنا من جزء إلى آخر في العمل الإبداعي، فإذا انتهينا من القراءة نكون قد كوَّنا بنية دلالية كلية تتكون من المقابل المفهومي والمقابل الفكري للوعي والضمير الاجتماعيين المتبلورين لدى الأديب ( ) .
واعتماداً على ما سبق نجد بين العمل الأدبي ودلالته اتصالاً وتناظراً، ونقطة الاتصال بين البنية الدلالية والوعي الجماعي هي أهم الحلقات عند "جولدمان" والتي يطلق عليها مصطلح "رؤية العالم"، فكل عمل أدبي يتضمن رؤية للعالم، ليس العمل الأدبي المنفرد فحسب لكن الإنتاج الكلي للأديب ( ) .
انطلاقاً من هذا المنظور أسس "جولدمان" منهجه "التوليدي" أو "التكويني"، كما قام بإجراء عدد من الدراسات التي ترتبط بعلم اجتماع الأجناس الأدبية كما فعل "لوكاش"، فأصدر كتاباً بعنوان "من أجل تحليل سوسيولوجي للرواية" درس فيه نشأة الرواية الغربية وكيفية تحولاتها المختلفة في مراحلها المتعددة تعبيراً عن رؤية البرجوازية الغربية للعالم ( ) .
وقد استخدم بعض الدارسين العرب المنهجَ التوليدي في تحليل ظواهر الأدب العربي، من أبرزهم "الطاهر لبيب" رئيس جمعية علماء الاجتماع العرب، وقد تناول ظاهرة الغزل العذري في العصر الأموي من حيث تعبيرها عن رؤية العالم لفئة اجتماعية معينة، حاول فيها أن يقيم علاقة بين ظاهرة الغزل العذري وبين طبيعة الأبنية الاجتماعية والاقتصادية لهؤلاء الشعراء، ومدى نجاحهم في تقديم رؤية للعالم تعبر عن واقعهم الاجتماعي ( ) .
ثم حدث تطور في مناهج النقد الأدبي مما أدى إلى نشوء علم جديد هو "علم اجتماع النص"، يعتمد على اللغة باعتبارها الوسيط الفعلي بين الأدب والحياة، فهي مركز التحليل النقدي في الأعمال الأدبية، فاتخاذ اللغة منطقة للبحث النقدي في علم اجتماع النص الأدبي هو الوسيلة لتفادي الهوة النوعية بين الظواهر المختلفة ( ) .
وقد استطاع هذا المنهج الأخير من تجاوز ما وجِّه لـ"رؤية العالم" من نقدٍ، إذ ليست سوى رؤية فكرية وذهنية وفلسفية، فعلم اجتماع النص تصور لغوي يرتبط بجذور الظاهرة الأدبية، ونجد الناقد "بييرزيما" في كتابه "النقد الاجتماعي" يتميز من خلال عرضه للاتجاهات التي سبقته ثم أهم الصعوبات والانتقادات التي وجهت إليها، ثم يقترح تصوراً أكثر نضجاً وتطوراً في سوسيولوجيا الأدب ( ) .
المبحث الثالث: المنهج الاجتماعي في النقد العربي.
نجد في تراثنا النقدي القديم نقداً للمجتمع وسلوكياته ككتاب "البخلاء" للجاحظ، والحرص على الربط بين المعنى الشريف واللفظ الشريف الذي نجده عند بشر بن المعتمر، وبعض الملاحظات المنتشرة في كتب النقد القديم التي تحث على الربط بين المستوى التعبيري ومستوى المتلقين ( ) .
أما في النقد الحديث، فلم يكن لهذا المنهج رواد بارزون مقتنعون به، يربطون بين الإنتاج المادي والإنتاج الأدبي كما يوجد في روسيا، ولكننا نجد بعض الدعوات إلى الاهتمام بالاتجاه الاجتماعي في النقد الأدبي عند شبلي شميل، وسلامة موسى، وعمر الفاخوري، وقد اقترب هذا المنهج من المدرسة الجدلية عند محمود أمين العالم، وعبد العظيم أنبس، ولوبس عوض، حتى كان تجليه في النقد الأيدلوجي عند محمد مندور ( ) .
المبحث الرابع: نقد المنهج الاجتماعي.
للمنهج الاجتماعي جوانب تقصير عديدة نحاول إيجازها في التالي:
1. إصرار أصحاب المنهج الاجتماعي على رؤية الأدب على أنه انعكاس للظروف الاجتماعية للأديب ( ) ، ونجد أن هذا الرأي صحيح إلى حدٍّ ما، فليس الأديب شيئاً منعزلاً عن مجتمعه، لكنه أيضاً يحتاج لأن يعبر عن أشياء أخرى مختلفة غير هموم مجتمعه.
2. سيطرت التوجهات المادية على كل شيء في هذا المنهج، فالبنية الدنيا المادية ـ في نظر الاتجاه الماركسي ـ تتحكم في البنية العليا التي يعتبر الأدب جزء منها، فتزول حرية الأديب لأنها مبنية على سيطرة المادة، ومن جانب آخر يغفل هذا المنهج جانب الغيبيات وأثرها الفاعل في توجيه الأدباء من خلال الخلوص لله سبحانه واستحضار خشيته في القول والفعل، وهو يتصل بالمرجعية الدينية كجزء من الحكم النقدي ( ) .
3. يهتم هذا المنهج بالأعمال النثرية كالقصص والمسرحيات، ويركز النقاد على شخصية البطل، وإظهار تفوقها على الواقع مما يؤدي إلى التزييف نتيجة الإفراط في التفاؤل، فتصوير البطل يجب أن يكون من خلال الواقع وتمثل الجوهر الحقيقي لواقع الحياة ( ) .
4. يغلب على أصحاب هذا الاتجاه إفراطهم في الاهتمام بمضمون العمل الأدبي على حساب الشكل، فجاء "علم اجتماع النص" كتعويض لهذا النقص حيث يهتم باللغة باعتبارها الوسيط بين الحياة والأدب، وهي أداة فهم المبدع وإبداعه ( ) .
المبحث الخامس: تحليل نص على ضوء المنهج الاجتماعي.
يقول عبد الوهاب البيَّاتي في قصيدته "سوق القرية" من ديوان: "أباريق مهشمة" ( ) :
الشّمسُ والحُمـُر الهزيلة ُ والذّباب
و حذاءُ جنديّ قديم
يتداولُ لأيدي، وفلاح ٌ يحدّق ُفي الفراغ:
"في مطلع ِ العـام ِالجديد
يدايَ تمتلئان ِ حتماً بـِالنقود
وسأشتري هذا الحذاء"
...
والحاصدونَ المتعـبون:
"زرعـوا ولم نأكل
ونزرعُ، صاغـرينَ، فيأكلون"
...
وبائعـاتُ الكرم ِ يجمعـنَ السّلال:
"عـينا حبيبي كوكبان ِ
وصدرهُ وردُ الرّبيع"
*** ***
هذه القصيدة تتحدث عن سوق القرية، وما فيه من بضاعة ومتبضعين، ومن يقرأ هذه القصيدة وحديثها عن الفقر الذي دلت عليه بعض الأفكار مثل: تداول الناس "لحذاء قديم" لم يستطع أحد شرائه، وحديث الفلاح الفقير لنفسه بأنه في العام القادم سيشتري هذا الحذاء، فنستشف من هذا أن الشاعر ربما قصد المجتمع وعبّر عنه بالسوق؛ لاختلاف المتواجدين فيه باختلاف طبقات المجتمع، وبدأ بأهم مشكلة تواجه مجتمعه وهي الفقر، وقررها ببعض الأفكار الواقعية التي ذكرنا سابقاً.
ثم انتقل في أبيات أخرى إلى مشكلة أخرى تؤرق مجتمعه وطبقته، ألا وهي سيطرت الطبقة العليا على الطبقة الكادحة في المجتمع، نرى ذلك واضحاً من خلال استغلال الطبقة البرجوازية للفلاحين الفقراء أبشع استغلال واغتصاب زرعهم وجهدهم، وسخط الفلاح على هذا الاستحقار والاستغلال، فقلب الشاعر القول المعروف: "زرعوا فأكلنا، ونزرع فيأكلون" تعبيراً ن ذلك.
ثم انتقل في مقطع آخر إلى وصف بائعات الكَرم اللاتي جمعن سلالهم وغادرن السوق، وغنائهن الذي يدل على الفرح والسرور، فربما قصد الشاعر بهن الطبقة البرجوازية التي تعيش حياة هانئة رغيدة على حساب الطبقة الكادحة، وتأفف هذه الطبقة العليا من الطبقة الدنيا من خلال مغادرة السوق.
إذن؛ نجد الشاعر في هذه القصيدة قد صوّر هموم مجتمعه تصويراً دقيقاً معبراً عن هذه المشاكل بأفكار واقعية منها الحذاء القديم، والفلاحين الساخطين، وبائعات الكرم، تدل على إحساس الشاعر بهموم مجتمعه، وأنه هو المنبع الوحيد لإبداع الشاعر.
الخاتمة
تعددت مناهج النقد الحديث، ودار حولها نقاش وخلاف، من هذه المناهج: المنهج الاجتماعي الذي نشأ في حضن المنهج التاريخي، وهو منهج يدعو إلى ربط الأدب بالمجتمع، وتقاس جودة الشاعر بمدى تصويره لهموم مجتمعه وطبقته تصويراً صادقاً.
وقد كان للماركسيون إسهام في تطور هذا المنهج من خلال رؤيتهم للمجتمع أنه بنيتان: بنية دنيا، وبنية تقوم على سابقتها وتعتمد عليها هي بنية عليا، والأدب جزء منها، فربطوا بين النتاج المادي والنتاج الأدبي بعلاقة طردية.
وللمنهج الاجتماعي اتجاهان متوازيان متباعدان في الوقت عينه، أولهما: الاتجاه الكمي الذي يعتمد على الإحصائيات والتحليلات في تقييم الأدب، وثانيهما: المدرسة الجدلية التي ابتعدت عن الكم في التقييم واقتربت من الكيف، وقدّم منظِّرها "لوكاش" مصطلح "رؤية العالم" التي هي نقطة الاتصال بين البنية الدلالية والوعي الاجتماعي.
وقد ظهر في نقدنا بعض النقاد الذين دعوا لهذا المنهج دون أن يكون له نقاد ورواد متفننون فيه، منهم سلامة موسى، وعمر الفاخوري، ومحمد مندور.
وللمنهج الاجتماعي عيوب أبرزها إصرار أصحابه على صدور فن الأديب عن رؤى مجتمعه، وقصرهم جودة عمله الأدبي على مدى تصويره لمشاكل طبقته، وفي هذا سلب صريح لحرية الأدب والأديب التي يجب ألا تخرج عن شرع الله.
المراجع
1. الشبكة العنكبوتية: أدب ـ الموسوعة العالمية للشعر العربي، ديوان الشاعر: عبدالوهاب البياتي: قصيدة سوق القرية:
https://www.adab.com/modules.php?name...=n_asc&start=0 .
2. مناهج النقد المعاصر/ صلاح فضل/ دار الآفاق العربية/ القاهرة/ ط1/ 1417هـ.
3. النقد الأدبي الحديث أسسه الجمالية ومناهجه المعاصرة، رؤية إسلامية/ سعد أبوالرضا/ (ب.ط)/ 1425هـ.
4. النقد الأدبي الحديث، قضاياه ومناهجه/ صالح هويدي/ منشورات جامعة السابع من إبريل/ ط1/ 1426.
فهرس الموضوعات
المقدمة 1
التمهيد 4
مفهومه وأصوله 4
المبحث الأول: المنهج الاجتماعي في النقد الأوربي الحديث 5
المبحث الثاني: اتجاهات المنهج الاجتماعي 7
المطلب الأول: الاتجاه الأول: الكمي 7
المطلب الثاني: الاتجاه الثاني: المدرسة الجدلية 10
المبحث الثالث: المنهج الاجتماعي في النقد العربي 13
المبحث الرابع: نقد المنهج الاجتماعي 14
المبحث الخامس: تحليل نص على ضوء المنهج الاجتماعي 15
الخاتمة 17
المراجع 18