بسم الله الرحمن الرحيم
أخي العزيز تمنيت لو أن هناك تعقيب أو ملاحظة و لدي تعقيبات و ملاحظات أرجو أن يتسع صدرك لها. لقد احتوى مقالك هذا على الكثير من النقاط التي لا أوافق عليها و جملة من النقاط التي أراها متناقضة حتى أنني لا اعلم من أين ابدأ و من أين انتهي لكني أتوكل على الله و ابدأ فأقول:
التاريخ علم يتعلق بذكر أحداث الماضي و بالتالي فموضوعه حقائق و وقائع هي واحدة لكل البشر لكن من نظر بتعمق في كتابة التاريخ يعلم إن كتابة التاريخ في الماضي كانت تخضع لأهواء الكتاب و مؤثرات السياسة و المذاهب و الطوائف و الأعراق و بالتالي كان لابد للباحث في التاريخ إن يتنبه لهذا الأمر و إن يكون له منهج علمي يتحقق به قدر الإمكان من المعلومات التاريخية و أن ينظر بعين الناقد لما يقع بين يديه و لعل ابن خلدون كان من الأوائل الذين أدركوا هذه المشكلة و أشار إلى أن ضرورة إتباع طرق لمعرفة إمكانية وقوع الحادثة من عدمه. فغرض الباحث في التاريخ هو معرفة الوقائع التاريخية كما حدثت لا كما نريدها لأنها وقائع موضوعية و منه فالقول انه لابد من النظر للتاريخ من منظور إسلامي هو كلام خاطئ بنظري كقولنا لابد لدراسة الرياضيات و الكيمياء و الفيزياء من منظور إسلامي, لأن علم التاريخ ليس علما معياريا كعلم القانون وعلم الأخلاق و أنظمة الحكم التي قد نختلف في تصورنا لها لأنها تقع في باب ما نريد, فنحن قادرون على إعادة أو تعديل أو إزالة مواد من القانون لأننا نرى أنها لا تناسبنا لكننا لا نستطيع تغيير أو إزالة أو تعديل حقائق التاريخ و الفيزياء و الكيمياء. و منه فإن النظر في التاريخ يجب أن يكون موضوعيا و لا يصح أن تقع صفة التصور الإسلامي على الحقيقة التاريخية إلا من باب الحكم عليها و على الفاعلين المؤثرين في التاريخ و لكن هذا ليس دور المؤرخ الأساسي بل هو دور الدعاة و السياسيين و المفكرين و غيرهم.
و المؤرخون أحيانا كثيرة خاصة القدماء كانوا يغفلون عن الأسباب الفعلية لحركة التاريخ و لم تكن لديهم معارف و تصورات تسمح لهم بتفسيرها تفسيرا موضوعيا , لذلك حاول ابن خلدون أن يغطي هذا النقص و جاء بعده من العلماء من قدم لنا مناهج و نظريات علمية لفهم أحداث التاريخ و دوافعها الاقتصادية والسياسية و العرقية و العسكرية و الثقافية و الدينية ...الخ . و كارل ماركس كان احدهم . و هنا لابد من وقفة إذ لابد على القارئ الموضوعي للفكر البشري عموما و الفكر الغربي خصوصا أن يميز بين النظرية العلمية و الاستغلال الإيديولوجي للنظرية العلمية , فنظرية ماركس حول الدور الجوهري للعامل الاقتصادي في التاريخ قائمة على ملاحظات و تحليل علمي دقيق منها بحثه عن أسباب الثورة الفرنسية و الماركسية لا تدعي أن العامل الوحيد في حركة التاريخ هو الاقتصاد لكنها تعتبره العامل الأهم , أما الشيوعية فهي ليست نظرية علمية بل إيديولوجية سعت إلى تقديم حلول لمشكلة التفاوت و استغلال الأغنياء للفقراء و هي إذن لا تدخل في باب العلوم بل هي تصور معياري لما يجب أن يكون(حقيقة ذاتية) عل عكس النظرية الماركسية التي هي تصور لما حدث(حقيقة موضوعية) فكون الأمرين صادران من رجل واد لا يعني ربطهما ببعض ربطا مطلقا فنحن نأخذ منه تصوره الموضوعي للتاريخ و نناقشه بصورة علمية و نرفض التصور الذي يقدمه لما يجب أن يكون(الشيوعية) لكونه يخالف الإسلام. فكما يفرق المسلمون بين ما جاء في كتب ابن سينا في الطب و بين توظيفه لمعارفه في الطب في نظرياته الفلسفية فنناقش مضمون الأولى و نرفض ما يخالف الدين في الثانية فكذلك وجب التعامل مع أفكار ماركس و فرويد و نيتشه و داروين و غيرهم , أي إننا نناقش الجانب العلمي منها بصورة علمية و نقبله إن ثبت صحته و نرفض الجانب الذاتي المعياري منه , فنظرية فرويد لا ترفض كلها و كثير من ملاحظاته صائبة و دقيقة و لكن تصوره لما يجب أن يكون هو الجانب الذاتي منه و الذي يحق لنا أن لا نلتفت إليه.
و عودة لقضية التصور الإسلامي للتاريخ فليس الصحيح القول انه علينا أن نضبط التاريخ و مفرداته بكتاب الله و سنة رسوله –صلى الله عليه و سلم- تماما كما لا يصح أن نضبط مفردات الرياضيات و الكيمياء و الفيزياء بالكتاب و السنة. فعندما نتحدث عن العصور التاريخية القديمة كالحجري و البرونزي و الحديدي و عندما نتحدث عن الحضارات كالآشورية و الفينيقية و الحثية أو عندما نتحدث عن الهجرات والحروب و الثورات و الانقلابات و التحالفات أو عندما نتحدث عن القبائل و الشعوب أو عندما نستشهد بالإحصاءات و الأرقام و أو عندما نتحدث التواريخ ففي كل هذا تستخدم مصطلحات و مفاهيم لا هي إسلامية و لا هي غير إسلامية , و لا أدري لماذا علينا أن نقحم الإسلام في كل شيء و مرة أخرى أقول إذا صح ما تقول فعلينا أيضا أن نضبط مفردات الفيزياء بالكتاب و السنة أو إن ذلك معناه أن التاريخ ليس حقائق ثابتة هي واحدة للمسلم و غير المسلم كما هي ظواهر الكيمياء و الفيزياء فلا بد و الحال هذه أن تسمى الأشياء بمسمياتها, أما بعض المصطلحات التي ذكرتها ك : الوحدة العالمية، والإخاء الإنساني، والتعاون الدولي، والسلام العالمي، وزمالة الأديان، والحرية، والمساواة، والتقارب بين المؤمنين بالله في مواجهة الإلحاد والشيوعية فهذه ليست مصطلحات المؤرخين بل مصطلحات الإيديولوجيين والسياسيين , و لكن الغريب هي الدعوة إلى ضبط مفاهيم ( الديمقراطية والاشتراكية و الثيوقراطية والدكتاتورية والإمبراطورية واليمين واليسار والمحافظين والليبرالي والإمبريالي والأحرار والأرستقراطية) فإذا كان القصد هو إعادة صياغة هذه المفاهيم صياغة إسلامية فنرجو إفادتنا بتلك الصياغات و دليلك من الكتاب و السنة و فذا كان قصدك هو نقد مضامينها فهذا ليس عمل المؤرخ لكن من حق أي إنسان أن ينتقدها و يرفضها مضامينها و لكن لا نستطيع أن نرفضها كحقائق موضوعية أي كتيارات لها وجود فعلي على ساحة التاريخ و إلا فنحن نزور التاريخ .
و الذي أراه أننا في أحايين كثيرة لا نميز بين عمل المؤرخ الأكاديمي و بين من يقتات على التاريخ من سياسيين و منظرين إيديولوجيين لذلك نخلط بين الحقيقة التاريخية و المعتقدات مثلا , فلا يوجد من متخصصي التاريخ مثلا من يزعم أن المسيح صلب فعلا فهذا ليس قول المتخصصين في التاريخ و إذا أردت الـتأكد من ذلك فتصفح ما يكتب حول الأمر في الدوريات المتخصصة..
أما عن تزييف التاريخ فصحيح أن هناك من يحاول تغيير الحقائق التاريخية لأغراض سياسية و عقائدية و مصالح شتى وكما أن هناك من يحاول تشويه التاريخ فهناك أيضا من يحاول تلميعه و تزيينه و هو يضن أنه يفعل خيرا, و الأجدر بالمسلم أن ادرس التاريخ بتجرد و موضوعية و أمانة و ليس من باب انه من أهل السنة و الجماعة أو من باب انه عربي أو مسلم فكل ذلك لا يغني عن الحق شيئا (الحقيقة التاريخية) بل هو مدخل للذاتية و تأثير المذهب على تصور وقائع التاريخ و إنكارها و انتقاء ما يتوافق منها مع تصور الباحث و التركيز على عيوب الغير و الغفلة على عيوب من يتشبع له و لا أريد أن أطيل فاكتفي بهذا القدر آملا أن تكون فرصة لنقاش جاد على هذا المنتدى