القول الأول:
ما زعمه طائفة من الجهمية، والمعتزلة، والماتريدية ، وعامة متأخري الأشاعرة ، من أن معنى العرش في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} هو الملك.
قال الدارمي في كتابه "الرد على الجهمية": "باب: الإيمان بالعرش، وهو أحد ما أنكرته المعطلة.
فادعت هذه العصابة أنهم يؤمنون بالعرش ويقرون به، فقلت لبعضهم: ما إيمانكم به إلا كإيمان {الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بافْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} ، وكالذين: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَياطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} ، أتقرون أن لله عرشا معلوما موصوفا فوق السماء السابعة تحمله الملائكة، والله فوقه كما وصف نفسه، بائن من خلقه، فأبى أن يقر به كذلك، وتردد في الجواب، وخلط ولم يصرح.
قال أبو سعيد: فقال لي زعيم منهم كبير: لا، ولكن لما خلق الله الخلق يعني السموات والأرض وما فيهن، سمى ذلك كله عرشا له، واستوى على جميع ذلك كله" .
وقال ابن تيمية- في سياق كلامه على حمله العرش-: "ثم إن قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} ، وقوله:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ} يوجب أن لله عرشا يحمل، ويوجب أن ذلك العرش ليس هو الملك كما تقوله طائفة من الجهمية" .
وقال الزمخشري: "إنه لما كان الاستواء على العرش- وهو سرير الملك- مما يردف الملك جعلوه كناية عن الملك، فقالوا: استوى فلان على العرش، يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير ألبتة، وقالوه – أيضا - لشهرته في ذلك المعنى، ومساواته ملك في مؤداه، وإن كان أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر" .
وقال البغدادي: "والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك، كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد غيره، وهذا التأويل مأخوذ من قول العرب: ثل عرش فلان، إذا ذهب ملكه، قال متمم بن نويره في هذا المعنى:
عروش تفانوا بعد عز، وأمة
هووا بعدما نالوا السلامة والبقا
وأراد بالعروش ملوكا انقرضوا.
وقال سعيد بن زائدة الخزاعي في النعمان بن المنذر:
قد نال عرشا لم ينله حائل
جن ولا إنس ولاديار
وأراد بالعرش الملك والسلطان.
وقال النابغة:
بعد ابن جفنة وابن هاتك عرشه
والحارثين يؤملون فلاحا
وأراد بهاتك عرش ابن جفنة سالب ملكه، فصح بهذا تأويل العرش على الملك في آية الاستواء على ما بيناه" .
وقال القفال: "العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك، يقال: ثل عرشه، أي: انتقض ملكه وفسد، وإذا استقام ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا: استوى على عرشه، واستقر على سرير ملكه" .
قال الآلوسي: "واختار كثير من ال خلف أن المراد بذلك: الملك والسلطان، وذكره لبيان جلالة ملكه وسلطانه- سبحانه- بعد بيان عظمة شأنه وسعة قدرته بما مر من خلق هاتيك الأجرام العظيمة" .
الرد عليهم:
ما ذهب إليه هؤلاء المخالفون من تفسير معنى العرش الوارد في الآيات بمعنى الملك، إنما هو تاويل باطل، وصرف للفظ عن معناه إلى معنى آخر لا يحتمله.
والمتامل لهذا القول يرى ما فيه من التلبيس والمخالفة.
فقد سبق أن ذكرنا في المبحث اللغوي لكلمة عرش، أن لهذه الكلمة عدة معاني في اللغة العربية، ومن المعلوم أن معرفة المعنى المراد من تلك المعاني لهذه الكلمة أو غيرها، إنما يتحدد بحسب سياق الكلمة، وبحسب ما أضيفت إليه، وليس في سياق الآيات ما يثبت صحة ما ذهبوا إليه، كفا أن ما استدل به هؤلاء المخالفون من الأبيات الشعرية ليس إلا دليلا على أن الملك هو من المعاني اللغوية لكلمة عرش، وهذا أمر لا خلاف عليه، وهذا الاستدلال يماثل ما لو استدللنا على أن من معاني كلمة العرش السقف بقوله: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}،
فليس في هذه الأبيات أي إشارة، لا من قريب ولا من بعيد على أن الملك هو المعنى المراد في الآيات الواردة في العرش، بل إن المتأمل للآيات والأحاديث الواردة في هذه المسألة، يرى أنها تدل دلالة واضحة وصريحة على أن المراد بالعرش هو ذلك المخلوق العظيم الذي خلقه الله تعالى فوق العالم كله، ثم استوى عليه بعد أن خلق السموات والأرض، وكذلك ترد على هؤلاء المخالفين زعمهم الباطل الذي هو في الحقيقة تحريف لكلام الله.
فيا ترى ماذا يصنع ذلك المخالف الذي يزعم أن العرش إنما هو كناية عن الملك والسلطان بقوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ} هل يزعم أن الملك كان على الماء،
وكذلك ماذا يصنع بقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ}، أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش" ، أيقول: آخذ بقائمة من قوائم الملك، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "اهتز عرش الرحمن" ، أيقول: اهتز ملكه وسلطانه،
فخلاصة القول:
إن هذا التأويل إنما هو تأويل باطل، ترده الآيات، والأحاديث، ولا يمكن أن يقول به من له أدنى ذوق أو فهم، بل هو في الحقيقة تحريف لكلام الله تعالى.
وكذلك فإن ما استدل به المخالفون من الأبيات ليس فيه دليل لا من قريب أو بعيد على صحة ما زعموا، وذلك أنه ليس في سياق الآيات ما يؤيده، فاستدلالهم إنما هو نوع من التلبيس، وتحريف الكلم عن مواضعه.