والكلمة الطيبة صدقة ،
وإنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها واشتد الحماس لها ، ونرجو أن تتكاثف جهود الجميع من أجل إثراء هذا الموضوع والتحسيس به على جميع المستويات، قناعة منا بنجاعته في وأد النزاعات التي تمزق كيان المجتمع.
إن الوسيط القضائي يعتبر وافدا جديدا على أسرة أعوان القضاء، من أجل المساهمة في تفعيل دور القضاء الجزائري وترقيته بما يحقق العدالة والسلم الاجتماعي.
وإن كان دور بقية أعوان القضاء يعتبر علاجيا بعد رفع النزاع أمام القضاء ، فإن دور الوسيط القضائي يعتبر وقائيا بأتم معنى الكلمة للحيلولة دون حوث النزاع ، والوقاية خير من العلاج كما قيل.
نظرة تاريخية عن الوساطة القضائية.تعتبر الوساطة القضائية والصلح والتحكيم من أقدم الأساليب القضائية البديلة لحل النزاعات فقد عملت بها قبائل العرب قبل مجيء الإسلام ، وواقعة تنازع قبائل قريش حول أحقية التشرف بوضع الحجر الأسود في مكانه عند بناء الكعبة المشرفة ليست منا ببعيد.
فعندها احتكم الخصوم إذ ذاك إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته وكان يلقب بالصادق الأمين ، ورضي الجميع بالحل الذي اقترحه عليهم.
وبعد مجيء الإسلام الذي أبقى على الصلح بين الأطراف المتنازعة كأداة قضائية فعالة في وأد المنازعات ، وأحاطه بجملة من الضوابط جعلت منه أهم الدعائم التي يرتكز عليها القضاء في الإسلام ، والشواهد في القرآن الكريم والسنة المطهرة في هذا الباب أكثر من أن تحصى، وقد قال صلى الله عليه وسلم : والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا).
بل ارتقى الإسلام بالصلح إلى مرتبة تجعله من أعظم العبادات وأجلها ويفوق ثوابه درجة الصلاة والصيام والزكاة فقال صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والزكاة ، قالوا بلى يا رسول الله، قال : إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الرأس ولكن تحلق الدين).
ومع تطور مفهوم الدولة الحديثة وتوسع نطاق القانون وتشعب القضايا وأمام عجز الأنظمة القضائية في مواجهة القضايا المتراكمة والمستعصية ، عمدت مختلف الدول إلى تطوير أساليب تتماشى ومتطلبات هذا التطور ، واعتمدت الوساطة القضائية إلى جانب التحكيم والصلح والتوفيق كوسيلة لفض النزاعات.
فقد كانت مطبقة في العهد القديم في فرنسا بمفهوم المصالحة ، واستخدمت من جديد بعد الثورة الفرنسية عام 1789 ، وظهر أول قانون يتضمن هذا الموضوع في 3/1/1973 وتبعه قانون 24/12/1976 الذي تم بموجبه تعيين وسيط الجمهورية.
وقد ظهرت الوساطة أيضا في الولايات المتحدة الأمريكية خلال 1977 كرد فعل على الاستياء العام من التعقيدات الإجرائية للعمل القضائي وطول أمده الذي يفوق في بعض الأحيان أجل المتقاضي في حد ذاته ،
فعلى إثر نزاع أمام القضاء الأمريكي دام أكثر من 3 سنوات ، اهتدى أطراف النزاع إلى فكرة تشكيل لجنة مصغرة ممن لهم معرفة ودراية بتفاصيل النزاع يرأسها شخص محايد .
وبعد جولتين من المفاوضات تم حل النزاع ، ومنذ هذا التاريخ ظهر ما يسمى بالوسيلة البديلة لحل المنازعات.
وقد عرفت الوساطة القضائية إقبالا واهتماما متزايدا في أوساط الباحثين، والممارسين في المجال القضائي والقانوني والسياسي في أغلب دول العالم ، وسارعت النظم القانونية الداخلية والدولية إلى تخصيص ندوات وملتقيات دراسية حولها ، و أصبحت موضوع مجموعة من الرسائل الجامعية، ليتم بعد ذلك اعتمادها كأداة مساعدة ومكملة لتطوير أجهزة القضاء مستفيدين من مزاياها في خفض التكاليف والحفاظ على السرية والسرعة في حسم النزاع ،إضافة إلى المرونة من حيث الإجراءات في التنفيذ ، وكل ذلك جعلها تلعب دورا رياديا في التخفيف من العبء الذي تعانيه المحاكم، وترتقي بجهاز القضاء إلى ما يروم إليه من تحقيق العدالة التي نصت عليها الدساتير.
أما في بريطانيا فإن الدراسات المختصة تعزو سبب عزوف المتقاضين عن اللجوء للقضاء إلى ما يتحمله الأطراف من تكاليف باهضة تفوق في بعض الأحيان الحق المطلوب ذاته.
أما بالنسبة للدول العربية فإن الوساطة القضائية لم تعرف سبيلها إلى المنظومة القانونية القضائية إلا في السنوات الأخيرة .
فقد سعت معظم التشريعات العربية وفي مقدمتها الجزائر إلى تحديث المنظومة القضائية في إطار دعم الموجود وإيجاد المفقود باستحداث الوساطة كوسيلة بديلة لحل النزاعات ، وجاء القانون 08-09 المعدل والمتمم ليمثل ثمرة الجهود المبذولة في هذا الشأن.