الحمدُ لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
فهذه بعض الأدلّة في ورود الهجر سواءً من الكتاب أو السُنّة أو من كلام سلفنا الصالح أو كلام علمائنا المعاصرين.
بسم الله:
قال الله تعالى:((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) [الأنعام:68].
عن أبي عون قال: " كان محمد (يعني ابن سيرين) يرى أن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى أن هذه الآية أنزلت فيهم ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)) (1).
وقد ذكر الله تعالى بما حذر منه هنا من مجالسة هؤلاء في سورة النساء فقال: ((وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)).
نقل البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تفسير هذه الآية: " دخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة " (2).
وقد هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلفوا عن غزوة تبوك كما جاء في الحديث عن كعب بن مالك : ( ونَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة ، من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي الأرض فما هي التي أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنتُ أشب القوم وأجلدهم ، فكنتُ أخرج فأشهدُ الصلاة مع المسلمين ، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول غي نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام عليَّ أم لا ؟ .. ). متفق عليه.
ففي قصة كعب هذه دليل على مشروعية هجر أهل البدع والمعاصي، بترك المجالسة والكلام، وقد استدل بها غير واحد من أهل العلم على جواز هجر أهل البدع حتى يتوبوا .
قال ابن عبد البر في "التمهيد" (6/118): وفيه دليل على أنه جائز أن يهجر المرءُ أخاهُ إذا بَدَت منه بدعة أو فاحشة يرجو أن يكون هجرانه تأديباً له ، وزجراً عنه.
وقال النووي في "روضة الطالبين" ( 7 / 367 ـ 368 ): إن كان الهجر لعذر بأن كان المهجور مذموم الحال ، لبدعة أو فسق أو نحوهما ، أوكان فيه صلاح لدين الهاجر أو المهجور فلاتحريم .
وقال البغوي في "شرح السنة" ( 1 / 226 ـ 227 ): وفيه دليل على أن هجران أهل البدع على التأبيد .
وفي الحديث أيضاً، قال صلى الله عليه وسلم : ( مثل الجليسُ الصالح والجليس السوء : كحاملُ المسكِ ونافخُ الكير ، ....)) الحديث. متفق عليه .
قال النووي في "شرح مسلم" ( 16 / 178 ): وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب ، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع ومن يغتاب الناس أويكثرُ فجره وباطله ونحو ذلك من الأنواع المذمومة.
فالسلف من الصحابة والتابعون ومن بعدهم يهجرون من خالف السنة أو انحرف عن الاستقامة ، أو من دخل عليهم من كلامه مفسدة.
فقد هجرت عائشة رضي الله عنها عبد الله بن الزبير وهي خالته وقتاً طويلا.
وهجر ابن عمر أحد أولاده.
وهذا عبد الله بن المُغفل رأى رجلاً يَخذف وهو رمي الحصى فقال له : "لاتخذف ! فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف" ـ وقال : إنه لا يصاد به صيد ، ولا ينكأ به عدو ولكنها تكسرُ السن وتفقأ العين ثم رآه بعد ذلك يخذف ! فقال له : أُحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخذف ـ أوكره الخذف ـ وتحذف ؟ ! لا أكلمك كذا وكذا " وفي رواية : " لا أكلمك أبدا ". متفق عليه.
قال النووي في شرحه على مسلم" (13/106) : " فيه هجران أهل البدع والفسوق ومنُابذي السُّنَّة مع العلم، وأنه يجوز هجرانه دائما ، والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هَجَر لحظ نفسه ومعايش الدنيا ، وأما أهل البدع ونحوهم ، فهجرانهم دائما ، وهذا الحديث مما يؤيده مع نظائر له ، كحديث كعب بن مالك وغيره" .
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/608): " وفي الحديث : جواز هجران من خالف السُّنَّة ، وترك كلامه ، ولا يدخل ذلك في النهي عن الهجر فوق ثلاث ، فإنه يتعلق بمن هجر لحظ نفسه".
وما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من ضربه لصبيغ العراقي وكتابته لأهل البصرة أن لا يجالسوه (3).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب " (4).
ومن ذلك هجر أبي بكر الصديق رضي الله عنه لِمسْطَح بن أُثاثة لكلامه في حادثة الإفك، وترك النفقة عليه حتى نزلت الآية ((وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [النور:22] فترك أبو بكر هجره وأعاد عليه النفقة وقال: " بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي " (5).
والأمثلة لذلك من سيرة الصحابة كثيرة نقل العلماء بعضها كابن قتيبة رحمه الله (6) وما ذكرته هنا أمثله فقط.
ومن ما جاء عن التابعين والأئمة في ذلك من أقوال وأفعال:
فمن أقوالهم المصرحة بترك مجالسة أهل البدع والنهي عنها:
ما رواه الدارمي وغيره عن أيوب قال: " رآني سعيد بن جبير جلست إلى طلق بن حبيب فقال لي: ألم أرك جلست إلى طلق بن حبيب لا تجالسنه " (7) وفي بعض الروايات: " لا تجالسه فإنه مرجئ ".
وعن أبي قلابة رحمه الله تعالى أنه كان يقول: " لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم " (8).
وعن الحسن البصري أنه قال: " لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم " (9).
ويروى عن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: " أنه دخل عليه رجلان من أهل الأهواء فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث؟ قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله عز وجل؟ قال: لا. لتقومن عني، أو لأقومنه " (10).
ـــــــــــــ
(1) أخرجه ابن بطة في الإبانة الكُبرى (2/431).
(2) تفسير البغوي (1/491).
(3) الإبانة الكبرى (2/414).
(4) أخرجه الآجري ي الشريعة ص61، وابن بطة في الإبانة الكبرى (2/438).
(5) أخرجه البخاري ضمن ذكر حادثة الإفك (كتاب التفسير – باب لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا...) فتح الباري (8/455) ح:4750، ومسلم (كتاب التوبة – باب حديث الإفك ...) (4/2136) ح:2770.
(6) انظر المعارف ص550.
(7) أخرجه الدارمي في سننه (1/120).
(8) المصدر نفسه.
(9) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/133).
(10) أخرجه الدارمي في سننه (1/120).