س / ما مقياس الحقيقة ؟
ج / إن مقاييس الحقيقة تابعةعموما لطبيعة هاته الحقيقة ومجالاتها ، و
الفلسفة أصحابها ، لذلك يمكن القول بوجودعدة معايير يذكر منها
:
1 – مقياس البداهة و الوضوح " الحقيقة المطلقة " ( العقلي ) :
البداهة و الوضوح مصدرهما العقل لأنه هو المعيار الذي يلهم جلالمفكرين و الفلاسفة و
حتى عامة الناس يقول سبينوزا ( 1632 – 1677 ) الهولندي
: " الهولندي هل يمكن أن يكون هنالك شيئا أكثر وضوحا و يقينا من
الفكرة الصادقة يصلح أن
تكون معيار الحقيقة ؟ فكما أن النور يكشف عن نفسه و عن الظلمات ،
كذلك الصدق هومعيار نفسه
و معيار الكذب " مما يدل أن الحكم الصادق يحمل في طياته معيار صدقه و هوالوضوح الذي يرتفع فوق
كل شيء ، و يتجلى ذلك في البديهيات الرياضية التي تبدوضرورية وواضحة بذاتها كقولنا " الكل اكبر
من الجزء " و " أن الخط المستقيم هو أقصرمسافة بين نقطتين " و يقول ديكارت ( 1596 –
1650 ) " لاحظت أنه لا شيء في قولي
: أنا أفكر إذن أنا موجود يضمن لي أن أقول الحقيقة ، إلا كوني أرى
بكثير من الوضوح أنالوجودواجب التفكير ، فحكمت
بأنني أستطيع اتخاذ قاعدة عامة لنفسي ، وهي أن الأشياءالتي نتصورها بالغ الوضوح و التمييز هي صحيحة
كلها " و يضيف قائلا " كل ما يمكنمعرفته عن الله يمكن البرهنة عليه بمبررات لسنا
بحاجة للبحث عنها ، بعيدا عن أنفسنا،
و التي لا يقوى على توفيرها لنا سوى تفكيرنا " و بالتالي لا مجال للشك في
الحقائقالمطلقة
الواضحة بذاتها
.
2 – مقياس النفع " الحقيقة النسبية
" :
لقدنظر "
بنتام " ( 1748 – 1832 ) فيلسوف إنجليزي من رواد المنفعة في العصر الحديث : " الحقيقة نظرة تجريبية
واعتبر أن كل إنسان من طبيعته الميل إلى اللذة وتجنب الألموبالتالي الخير ما يؤدي
إلى المنفعة و بالتالي هو الحق و الشر ما يؤدي إلى المضرة وبالتالي فهو الباطل و
بناء على هذا وضع مقياسا لحساب اللذات التي يمكن أن تحقق أكبرقدر من المنفعة من سبع
درجات هي اليقين ، الخصوبة ، المدة ، النقاء ، القرب ،الامتداد كما أنه قبل القيام بالعمل لابد من
التفكير في المنفعة المنشودة والتأكدبأبعادها حسابيا فنتساءل :
1- هل بكل طريقة حسابية يعطي هذا العمل اللذائذ ؟ " اليقين "
2 – هل هذه اللذة شديدة أم ضعيفة ؟ " الشدة "
3 – هل الخير في
الحاضر أم في المستقبل ؟ " الخصوبة
"
4 – هل اللذة مستمرة أم قصيرة الأمد ؟
" المدة
"
5 – هل اللذة تمتزج بأي ألم أم لا ؟ " النقاء "
6 – هل اللذة قريبةأم بعيدة " القرب
"
7 – هل هذا العمل فيه منفعة لي أم منفعة لغيري ؟ " الامتداد "
أما البرغماتية التي هي امتداد للفكر النفعي فإنها ترى أن مقياس
الحقيقةالفكر
العملي التطبيقي الميداني لا الفكر المجرد البعيد عن الواقع ، لأن العقل أداةللحياة العملية ، كما
أن قيمة الفكرة من حيث الصدق أو الكذب ، النفع أو الضرر ،الحقيقية أو المزيفة
ترجع إلى ما تحققه من نتائج عملية نافعة ، فالعبرة بالنتائج ،فالصدق صدق لأنه نافع و
يقول " وليام جيمس" فيلسوف براغماتي أمريكي ( - ) " إن كلما يؤدي إلى النجاح فهو
حقيقي ، و أن كل ما يعطينا أكبر قسط من الراحة ، و ما هوصالح لأفكارنا و مفيد لنا بأي حال من الأحوال
فهو حقيقي " و يضيف أيضا " الحق ليسإلا التفكير الملائم لغايته ، كما أن الصواب ليس
إلا الفعل الملائم في مجال السلوك
" و كان " بيرس " قد أكد نفس الفكرة عندما قال : " إن
تصورنا لموضوع ما ، هو تصورنالما قد ينتج عن هذا الموضوع من آثار عملية لا
أكثر ... تدبر الآثار التي يجوز أنيكون لها نتائج فعلية على الموضوع الذي نفكر فيه
، وعندئذ تكون فكرتنا عن هذه
الآثار هي كل فكرتنا عن الموضوع " و في موضع آخر يقول وليام
جيمس : " أسمي الفكرة
الصادقة ، حين نبدأ بتحقيقها تحقيقا تجريبيا ، فإذا ما انتهيت من
التحقيق و تأكدتمن سلامة
الفكرة ، سميتها نافعة فهذه الآثار التي تنتهي إليها الفكرة هي الدليل علىصدقها أو هي مقياس
صوابها ... و أن التفكير هو أولا و آخرا و دائما من أجل العمل " ذلك إذا ما تضاربت
الأفكار و الآراء على الإنسان أن يرجع إلى التجربة العملية التيتكشف له عن الفكرة إن
كانت صادقة أو غير ذلك ويضيف أيضا " والتجربة هي التي تكشف منالمنفعة أو عدمها إنها
هي محك الصدق ، و الزيف ، مقياس الحق و الباطل ، معيار الخيروالشر " ، كما أن
الإعتقاد الديني لا يخضع للبيئات العقلية : و التناول التجريبيالوحيد وله هو آثاره في
حياة الإنسان و المجتمع إذ يؤدي إلى الكمال ، بما فيه منتنظيم وحيوية . إذن الحقيقة تقاس بمعيار العمل
المنتج و ليست حقيقة في ذاتها ، و إنالنتائج والآثار هي الدليل على صدقها أو صوابها .
3 - مقياس الوجود لذاته
:
أن الوجود لذاته عند الوجوديين هو الوجود الإنساني الذي يشعر به كل
واحد منافي عالمه
الداخلي و يحياه بكل جوارحه ومن مميزاته أنه ليس وضعا نهائيا و لا ساكنا وإنما هو تجاوز مستمر لما
هو عليه كل واحد منا ، كما أن الوجود لذاته هو أساسالفلسفة الوجودية و مصدر فلسفتهم و يقول في هذا
الصدد جون بول سارتر ( 1905 – 1980)
: إن الأشجار والأحجار هي مجرد كائنات ، وإن الإنسان في هذا العلم هو
وحده الذييوجد لذاته
أي يمتلك وجدانا " أو بتعبير آخر و يقول " لا شيء مهم مثل وجود الإنسان " و يقول ياسبرس ( 1883 –
1969 ) الفيلسوف الألماني : " إن كلمة وجود هي أحدمرادفات كلمة واقع ، بيد أنها قد اتخذت وجها
جديدا ، بفضل التوكيد الذي أكدهكيركجارد فأصبحت تدل على ما أنا إياه بصورة
أساسية ذاتي " و يقول أيضا " إن الواقعقد دخل في تاريخ طويل ابتدأ من بداية غامضة في
نتاج كيركجارد" و أن الوجود سابق عنالماهية و معناه أن الوجودي يقوم في بداية الأمر
بغير ماهية و أكون عند ولادتي ناقصالصورة لأني الكائن الوحيد الذي يكمن وجوده في
حريته على عكس الحال مع سائر
الكائنات ، ولكي أحدد ماهيتي وجب أن أختار ، ولكي أختار وجب أن
أكون موجود ، لذلكالصواب أن
أقول أنا أفكر إذن فأنا كنت موجودا و ليس أفكر إذن أنا موجود ، وما كانقبل وجود الإنسان يعد
عدما ، وعليه الشعور أو الحدس هو مصدر المعرفة فإذا كانالعقلانيون يقدمون العقل و يضعونه فوق كل اعتبار
فإن الوجوديين يضعون الوجود ومايستدعيه من شعور باطني و انفعالي فوق كل حقيقة
لأنه قادر على الاستمرار حيثما تنقطعسلسلة الاستدلالات العقلية و المقارنة الفلسفية
الخاصة يقو كيركجارد (1855 – 1913
) الفيلسوف الدانمركي : ( إن مسألة المسائل هي أن أجد حقيقة ...حقيقة
و لكن بالنسبةإلي ، أن
أجد الفكرة التي من أجلها أيد أن أحيا و أموت " و يضيف أيضا " الحقيقة
هيذات الحياة
التي تعبر عنها : هي الحياة في حال الفعل " و يضيف قائلا " إن مؤلفاتيكلها تدور حول نفسي
...حول نفسي وحدها و لاشيء سواها ...إن إنتاجي كله ليس سوىتربيتي لنفسي "
أما سارتر فيقول " إن علاقتي بالعالم هي التي صيرته بالنسبة إلي ذادلالة إذ أنه صار قابلا
للمعقولية ، وهو يتكون من ظواهر هي التي تألف الموجوداتالحقيقية " وهذا لأن الكائن الإنساني حر
حرية مطلقة في تحديد مصيره و قيمه فيالوجود دون ضغوطات أو قوالب فكرية جاهزة من
البداية حيث يقول سارتر أيضا " إنالإنسان لا يوجد أولا ليكون بعد ذلك حرا ، وإنما
ليس فوق ثمة فرق بين وجود الإنسانووجوده حرا" فكل واحد منا يتمتع بإرادة حرة
تسمح له باختيار ما يراه مناسبا له مثلاسارتر فضل الشيوعية و هيدجر فضل النازية ياسبرس
فضل الليبرالية دون أن يفرض أحدهماختياره على الآخر بل يرون أن تفضيل اختيار ما
معناه إلغاء بقية الاختيارات الممكنة
- إعدامها – كما أن الوجود لذاته فهو وجود يدخل في مقوماته العدم
والعدم يكشف عننفسه في حال
القلق ، وهذا الوجود تناقض لأنه نقطة التلاقي بين المتناهي واللامتناهي، وبين الزمني والسرمدي ، وما يهدد الإنسان هو الموت وكما قيل
الإنسان ولد لكي يموت
، مشروع موت ، يسير نحو
الموت و هذا الذي يزيد من قلقه و تعدد الوجدانات مصدرالنزاعات لأن كل وجدان يمثل حسب وجه نظره مما
يؤدي إلى منازعات و يقول سارتر : " إنمنذ الآونة التي نشعر فيها بأن إنسانا آخر ينظر
إلينا إنما نشعر أيضا بأن الآخريسلبنا عالمنا على نحو من الأنحاء ، هذا العالم
الذي كنا نمتلكه وحدنا حتى هذهاللحظة " و يضيف قائلا " إنني ابتداء
من الآونة التي أشعر فيها أن أحدا ينظر إلي ،أشعر أنني سلبت عن طريق نظر الآخر الموجه إلي و
إلى العالم ...إن العلاقة بينناوبين الآخرين هي التي تخلق شقاقنا " لذلك
خلص إلى مقولته الشهيرة إن الآخرين همالجحيم
.
مناقشة
:
1 – إن أصحاب الحقيقة المطلقة حصروا الوجود في الذاتالعارفة و ليس البحث في
الوجود من حيث هو موجود ، كما جعلوا معيار الصدق و الوضوحمعيار ذاتي رغم أننا لا
ننكر دور العقل في الحقيقة غير أن الحقيقة ليست دائما صوريةو يقينها ليس دائما
العقل فللواقع دور في بلوغ الحقيقة - فكر ، وجود – كما أن لميولالإنسان و انفعالاته –
عواطف ، تربية ، اتجاهات فكرية – دخل في التأثير على معيارالحقيقة .
2 – إن النفعية على صواب لو اقتصرت على المجال التجريبي و لكن أصحابهاأرادوا أن يجعلوها
شاملة لجميع أنواع الحقائق الفلسفية و السياسية والدينية ممايؤدي إلى القضاء على
الحقيقة لأن الخطأ نفسه قد يؤدي إلى نتائج نافعة و بالتالي فإنالنفعية و البرغماتية
لا يفرقان بين الخطأ والصواب ما دام في الخطأ منافع بحجةالمنفعة و عليه تصبح الحقيقة شخصية ونسبية و محل
اختلاف و حتى صراع بين الأفرادلاختلاف منافعهم مما يفقدها قيمتها لكونها بعيدة
عن العلم والتأمل الفلسفي وهذالأننا نحسب لها حسابا عدديا قوامه النتائج
3 – كما أن الحقيقة أوسع مما ذهبإليه الوجوديون فليس من باب الحكمة التمرد على
قيمة الحياة الاجتماعية من أجلالتمرد و هجران الفكر المجرد من أجل الغوص في
التأمل في الذات الشاعرة و هذا لأنالإنسان اجتماعي فمعيار الوجوديين غير كاف .
اختي شوفي هذي يمكن تساعدك ولو بجزء بسيط.