من كل سورة فائدة .. متجدد.. - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الكتاب و السنة > أرشيف قسم الكتاب و السنة

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

من كل سورة فائدة .. متجدد..

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2010-12-25, 11:22   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
حنين موحد
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية حنين موحد
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

سورةُ آل عِمرَانَ

المحافظةُ على الأدعيةِ المأثُورَةِ




قال الله تعالى مخبرًا عن أولي الألباب أنّهم يدعونه قائلين : ﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ . رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ . رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ ( آل عمران : 192-194 ) .
أدعيةُ القرآن و السّنّة جامعةٌ مانعةٌ ، لا يتأتّى للبشر أن ينسُجوا على مِنوالها ؛ لأنّها وحيٌ ، و مهما تأمّلتَ في أدعية البشر من رونقٍ و جمالٍ و حسن أداءٍ و تأثيرٍ ، فإن الخلل مصاحبُها مصاحبة النّقص للبشر ، و من أطلعه الله على ما أودع من حِكمٍ وقواعدَ في أدعية القرآن والسّنّة أدرك لأوّل وهلةٍ أنّ هذا من تنزيل حكيمٍ عليمٍ ، و هذه الآيات من سورة آل عمران مثالٌ قرآنيٌّ على ذلك ، قال ابن القيّم في " بدائع الفوائد " ( 2/434-435 ) :
" و الشّرُّ المستعاذ منه نوعان :
أحدهما : موجودٌ يطلب رفعه .
والثّاني : معدومٌ يطلب بقاؤُه على العدم و أن لا يوجد .
كما أنّ الخيرَ المطلقَ نوعان :
أحدهما : موجودٌ فيطلب دوامه و ثباته و أن لا يُسْلَبَه .
والثّاني : معدومٌ فيطلب وجوده و حصوله .
فهذه أربعةٌ هي أمّهات مطالب السّائلين من ربّ العالمين ، وعليها مدارُ طلباتهم ، وقد جاءت هذه المطالب الأربعةُ في قوله تعالى حكايةً عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قولهم : ﴿ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيئَاتِنَا ( آل عمران : 193 ) ، فهذا الطّلبُ لدفع الشّرّ الموجود ؛ فإنّ الذّنوبَ و السّيِّئاتِ شرٌّ كما تقدّم بيانه ، ثمّ قال : ﴿ وَ تَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ ، فهذا طلبٌ لدوام الخير الموجود ، و هو الإيمان حتّى يتوفّاهم عليه ، فهذان قسمان ، ثمّ قال : ﴿ رَبَّنَا وَ آتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ ( آل عمران : 194 ) فهذا طلبٌ للخير المعدوم أن يؤتيهم إيّاه ، ثمّ قال : ﴿ وَ لاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ، فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشّرَّ المعدوم ، و هو خِزي يوم القيامة ، فانتظمت الآيتان للمطالب الأربعة أحسنَ انتظامٍ ، مرتَّبةً أحسنَ ترتيبٍ ، قُدِّم فيها النّوعان اللّذان في الدّنيا ، و هما المغفرة و دوام الإسلام إلى الموت ، ثمّ أُتبعا بالنّوعين اللّذين في الآخرة ، و هما أن يُعطَوا ما وُعدوه على ألسنة رسله ، و أن لا يخزيهم يوم القيامة ، فإذا عُرِف هذا ، فقوله في تشهّد الخُطبة : ( و نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا ) (1) يتناول الاستعاذةَ من شرّ النّفس الّذي هو معدومٌ ، لكنّه فيها بالقوّة ، فيسأل دفعَه و أن لا يوجدَ ، و أمّا قوله من سيّئات أعمالنا ) ، ففيه قولان : أحدُهما أنّه استعاذة من الأعمال السّيِّئة الّتي قد وُجدت ، فيكون الحديث قد تناول نوعي الاستعاذة من الشّرِّ المعدوم الّذي لم يوجد ، و من الشّرّ الموجود ، فطلبَ دفعَ الأوّل و رفعَ الثّاني ، و القولُ الثّاني أنّ سيّئات الأعمال هي عقوباتها و موجباتها السّيّئة الّتي تسوءُ صاحبَها ، و على هذا يكون من استعاذة الدّفع أيضًا دفعُ المسبّب ، و الأوّلُ دفعُ السّبب ، فيكون قد استعاذ من حصول الألم و أسبابه ، و على الأوّل يكون إضافة السّيّئات إلى الأعمال من باب إضافة النّوع إلى جنسه ؛ فإنّ الأعمال جنسٌ و سيّئاتها نوعٌ منها ، و على الثّاني يكونُ من باب إضافة المسبّب إلى سببه ، و المعلول إلى علّته ، كأنّه قال : من عقوبة عملي ، و القولان محتملان ، فتأمّل أيّهما أليقُ بالحديث و أولى به ؛ فإنّ مع كلّ واحدٍ منهما نوعًا من التّرجيح ، فيترجّح الأوّلُ بأنّ منشأَ الأعمال السّيّئة من شرّ النّفس ، فشرُّ النّفس يولِّد الأعمالَ السّيّئة ، فاستعاذ من صفة النّفس و من الأعمال التي تحدثُ عن تلك الصّفة ، و هذان جماع الشّرِّ وأسبابُ كلّ ألمٍ ، فمتى عوفي منها عوفي من الشّرّ بحذافيره ، و يترجّح الثّاني بأنّ سيّئات الأعمال هي العقوباتُ الّتي تسوء العاملَ ، و أسبابها شرُّ النّفس ، فاستعاذ من العقوباتِ والآلامِ و أسبابها ، والقولان في الحقيقة متلازمان والاستعاذةُ من أحدهما تستلزم الاستعاذةَ من الآخر " . ثمّ قال : " و لمّا كان الشّرّ له سببٌ هو مصدرُه ، و له موردٌ و منتهى ، و كان السّبب إمّا من ذات العبد ، و إمّا من خارجه ، و موردُه و منتهاهُ إمّا نفسه ، و إمّا غيرُه ، كان هنا أربعةُ أمورٍ:
شرٌّ مصدره من نفسه ، و يعود على نفسه تارةً ، و على غيره أخرى ، و شرٌّ مصدره من غيره ، و هو السّببُ فيه و يعود على نفسه تارة ، و على غيره أخرى ، جمع النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم هذه المقامات الأربعة في الدّعاء الّذي علّمه الصّديقَ أن يقوله إذا أصبح و إذا أمسى و إذا أخذ مضجعه : ( اللهمّ فاطرَ السّموات و الأرض ، عالمَ الغيب و الشّهادة ، ربَّ كلِّ شيءٍ و مليكَه أشهد أن لا إله إلاّ أنتَ ، أعوذ بك من شرّ نفسي و شرّ الشّيطان و شِركه ، و أن أقترف على نفسي سوءًا أو أجرّه إلى مسلم ) (2) ، فذكر مصدري الشّرّ و هما النّفس و الشّيطان ، و ذكر مورديه و نهايتيه ، و هما عَودُه على النّفس أو على أخيه المسلم ، فجمع الحديثُ مصادر الشّرّ و موارده في أوجز لفظٍ و أخصره و أجمعه و أبينه " .
و أمّا من السّنّة فقد كان النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم حريصًا على ألاّ يستبدل أصحابه رضي الله عنهم حرفًا من أدعيتهم بحرف من أدعيته ، و هم من هم ، ففي الصّحيحين عن البراء رضي الله عنه قال : قال النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم : " إِذا أتيتَ مَضجَعَكَ فتَوَضَّأْ وُضوءَكَ للصّلاةِ، ثمَّ اضْطَجِع على شِقِّكَ الأيْمَنِ، ثمَّ قُلْ : اللّهمَّ أَسْلمتُ وَجهي إِليكَ ، و فَوَّضْتُ أمري إِليكَ ، و أَلجَأتُ ظَهرِي إِليكَ ، رَغبةً و رهبةً إِليكَ ، لا مَلْجَأ و لا مَنْجى منكَ إِلاّ إِليكَ ، اللّهمَّ آمنتُ بكِتابكَ الذي أنْزَلتَ ، و بِنَبِيِّكَ الّذي أَرسلتَ ، فإِنْ متَّ مِن لَيلَتِكَ فأنتَ على الفِطْرةِ ، و اجعلهنَّ آخِرَ ما تتكلّمُ به ، قال : فردَّدْتُها على النبيِّ صلّى الله عليه و سلّم ، فلمّا بَلغتُ : اللّهمَّ آمنتُ بكتابِكَ الّذي أنزلتَ ، قلتُ : وَ رسولِكَ ، قال : لا ! و نبيِّكَ الذي أرسلتَ " .
و ما دمنا في باب بيان ما في الأدعية المأثورة من كمالٍ ، فإنّني أحببت أن أتحف القارئ بما في هذا الدّعاء النّبويّ من المعاني العالية و القواعد الغالية ، فقد حاول بعض أهل العلم استنباطَها ، كلٌّ بما فتح الله عليه ، منهم الحافظُ ابنُ حجرٍ في " فتح الباري " ( 11/110-112 ) ، و الكِرماني في " الكواكب الدّراري شرح صحيح البخاري " ( 3/106-109 ) ، و ابن بطّال في " شرح صحيح البخاري " ( 1/365 ) ، و أبو العبّاس أحمد القرطبي في " المفهِم لما أشكلَ من تلخيص كتاب مسلم " ( 7/37 ) ، و قد تلخّص من أقوالهم من الفوائد ما يأتي :
1 - في الجمع بين الوُضوء و هذا الدّعاء إشارةٌ إلى الجمع بين الطّهارتين : البدنيّة و القلبيّة ؛ فالوضوء للطّهارة البدنيّة ، و الذّكر للطّهارة القلبيّة ، بل هو خير ما تُطهَّرُ به القلوب ، قال الله تعالى : ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ ( الرّعد : 28 ) ، قال التّرمذي عقب روايته الحديث برقم ( 3574 ) : " و لا نعلم في شيءٍ من الرّوايات ذكرَ الوضوء إلاّ في هذا الحديث " ، قلت : لعلّ ذلك راجعٌ إلى هذه المناسبة اللّطيفة ، و قد أشار إلى ذلك ابنُ حجر .
2 – لمّا كان التّوحيدُ أفضل الذّكر فقد جمع هذا الدّعاء أصول الإيمان السّتّة ، كما نبّه عليه الكِرماني ، و هي الإيمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و القدر خيره و شرّه ، وهذا تفصيله المختصر :
- فالإيمان بالله واضحٌ من النّداء : " اللهمّ " .
- و الإيمان بالكتب في قوله : " آمنتُ بكتابك " .
- و الإيمان بالملائكة في قوله : " الّذي أنزلتَ " ؛ لأنّ الملَك هو الّذي ينزل بكلام الله كما هو معلومٌ ، قال تعالى : ﴿ وَ إِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ ( الشّعراء : 192-193 ) .
- و الإيمان بالرّسل في قوله : " و نبيّك الّذي أرسلتَ " ، و يظهرُ هنا فائدة عدم تبديل لفظة ( نبيّك ) بلفظة ( رسولك ) كما وقع للبراء ؛ لأنّه – زيادةً على ما قيل في التّفريق بين النّبيّ و الرّسول – فإنّ الملَك لا يدخل تحت اسم النّبيّ ، لكنّه يدخل تحت اسم الرّسول ، كما جاء في التّنزيل كثيرًا ، منه قوله تعالى : ﴿ ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( الحجّ : 75 ) ، قاله ابنُ بطّال .
- و الإيمان باليوم الآخر في قوله : " رغبةً و رهبةً إليك " ، فالرّغبة إلى الجنّة و الثّواب ، و الرّهبة من النّار و العقاب .
- و الإيمان بالقدر في قوله : " لا ملجأَ و لا منجى منك إلاّ إليك " ، نبّه على هذين الكِرماني .
3 – في الحديث إسلام الظّاهر والباطن لله ، أي الخلوص من الكفر و النّفاق ؛ و ذلك في قوله : " اللّهمّ أسلمتُ وجهي إليكَ " ، و في روايةٍ عند البخاري : ( 7488 ) : " اللّهمّ أسلمتُ نفسي إليك ، و وجّهتُ وجهي إليك " ، فهما على هذا جملتان ، وقد جعل بعض أهل العلم النّفس هنا على معنى الذّات ، و الوجه على معنى القصد والنيّة ؛ كما قيل :

أستغفرُ الله ذنبًا لستُ محصيه ..... ربَّ العباد إليه الوجهُ و العملُ

يقال : أيَّ وجهٍ تريد ؟ أي أيَّ وِجهةٍ تقصد ؟ و عَكَسَه بعضهم فجعل إسلام النّفس لانقياد الباطن ، وتوجيه الوجه لانقياد الظّاهر ، انظر " الفتح " في الموضع المشار إليه و " أضواء البيان " للشّيخ محمّد الأمين الشّنقيطي ( 1/420 ) ، و إن كان الخلاف هنا سهلاً ، فلعلّ القولَ الأخير هو الأقرب و قد مال إليه الكِرماني ؛ لأنّ الجملتين وردتا على سبيل التّقابل و الاقتران كما أشار إليه القرطبي ، بخلاف لو تفرّقتا ، فإنّه يأخذ كلٌّ منهما معنى الآخر ؛ على قاعدة : إذا اجتمعا افترقا ، و إذا افترقا اجتمعا و الله أعلم ، لكن يستخلص من هذه الفائدة أنّ في الدّعاء بهذين اللّفظين إيذانًا بتسليم المرء نفسَه كلّها لله ، و هذا هو معنى ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، فقد قال ابنُ تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 10/149 ) : " العبادة اسمٌ جامعٌ لكلّ ما يحبّه الله و يرضاه من الأقوال و الأعمال الباطنة و الظّاهرة " .
4 – في الحديث إشارة إلى التوكّل على الله ، و للتوكّل ركنان : الحسّ و المعنى ، فتفويض الأمر المعنويّ لله في قوله : " و فوّضتُ أمري إليكَ " ، و تفويض الحسّي في قوله : " و ألجأتُ ظهري إليك " ، و خصّه بالظّهر ؛ لأنّ العادة جرت أنّ الإنسان يعتمد بظهره إلى ما يستند إليه ، ففيه معنى : اعتمدت عليك في أموري كلّها ، كما في " الفتح " ، وهذا هو معنى قوله سبحانه :﴿ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .
5- في الحديث أركان العبادة الثّلاثة : الرّجاء و الخوف و الحبّ ، فأمّا الرّجاء ففي قوله : "رغبةً " ، و أمّا الخوف ففي قوله : " رهبةً " ، و أمّا الحبّ ففي قوله : " لا ملجأ ولا منجى منك إلاّ إليك " ؛ فإنّه لا يُلجأ إلاّ إلى محبوبٍ ، لا سيما و أنّه لا يفرُّ مؤمنٌ من الله إلاّ إليه .
6 – في اشتمال هذا الذّكر على كلّ ما يجب الإيمان به ، و على إسلام الظّاهر و الباطن لله ، و تفويض الأمر الحسّّي و المعنويّ له ، تفسيرٌ لقوله صلّى الله عليه و سلّم فيه : " فإن متّ من ليلتك فأنت على الفطرة " ؛ فإنّ الفطرة هي الدّين الإسلاميّ .
هذا نموذجٌ حديثيٌّ من الأذكار المأثورة ، و ذاك نموذجٌ قرآنيٌّ ، فانظر إلى معانيها الشّريفة الّتي اشتملت عليها ، و لئن اجتمعت الإنس و الجنُّ على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرًا ، مع أنّ ما خفي علينا من المعاني المستنبطة و الأصول الجامعة أكثر! ولذلك أحبّ أن أنقل هنا و في هذا المعنى كلمةً للمهلّب نقلها عنه ابن بطّال في " شرح صحيح البخاري " ( 1/365 ) أنّه قال : " إنّما لم تُبدّل ألفاظه عليه السّلام ؛ لأنّها ينابيع الحكمة و جوامع الكلم ، فلو جُوِّز أن يُعبّر عن كلامه بكلام غيره سقطت فائدة النّهاية في البلاغة الّتي أُعطيها عليه السّلام " ، و قال ابنُ تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 22/525 ) : " و من أشدّ الناس عيبًا من يتّخذ حزبًا ليس بمأثورٍ عن النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم ، و إن كان حزبًا لبعض المشايخ ، و يدع الأحزاب النّبويّة الّتي كان يقولها سيّد بني آدم و إمام الخلق و حجّة الله على عباده ! " .
و من أعظم فوائد هذا الحديث أنّ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم منع البراء من أن يغيّر لفظًا واحدًا من ألفاظ دعائه هذا ، مع أنّ التّغيير كان بين لفظتين قريبتي المعنى ، فقد قال البراء : قلت : و رسولك الّذي أرسلت ، فاعترض عليه الرّسول صلّى الله عليه و سلّم و قال له : " لا ! و نبيّك الّذي أرسلت " ، فكيف يجترئ أحدٌ بعد هذا ليخترع للنّاس الأذكار ؟!!
و كذلك الشّأن فيما رَتَّب الشّارع الحكيم ثوابًا ما على عددٍ مخصوصٍ من الذّكر ، قال ابنُ حجَر في " الفتح " ( 2/330 ) و هو يتحدّث عن التّسبيح بعد الصّلاة : " و استُنبِط من هذا أن مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرةٌ ، و إلاّ لكان يمكن أن يُقال لهم : أضيفوا لها التّهليل ثلاثًا و ثلاثين ، وقد كان بعض العلماء يقول : إنّ الأعداد الواردة كالذّكر عقب الصّلوات إذا رُتّب عليها ثوابٌ مخصوصٌ فزاد الآتي بها على العدد المذكور لا يحصل له ذلك الثّواب المخصوص ؛ لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمةٌ وخاصّيّةٌ تفوت بمجاوزة ذلك العدد ... و قد مثّله بعض العلماء بالدّواء يكون مثلا فيه أوقِيَّة سكّر ، فلو زيد فيه أوقيّةٌ أخرى لتخلّف الانتفاع به ، فلو اقتصر على الأوقيّة في الدّواء ، ثمّ استعمل من السّكّر بعد ذلك ما شاء لم يتخلّف الانتفاع ، و يؤيّد ذلك أنّ الأذكار المتغايرة إذا ورد لكلٍّ منها عددٌ مخصوصٌ مع طلب الإتيان بجميعها متواليةً لم تحسن الزّيادة على العدد المخصوص لما في ذلك من قطع الموالاة ؛ لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمةٌ خاصّة تفوت بفواتها ، و الله أعلم " .
و قد نبّه أهل العلم على ضرورة القناعة بالألفاظ النّبويّة الواردة في الأذكار ؛ لأنّها شريعةٌ لنا و استدلّوا زيادةً على ما مضى بما رواه مسلم (2137 ) عن سمرةَ بن جُندب قال : قال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : " أحبّ الكلام إلى الله أربعٌ : سبحان الله ، و الحمد لله ، و لا إله إلا الله ، و الله أكبر ، لا يضرّك بأيّهنَ بدأتَ " ، و موضع الشّاهد من الحديث هو قوله صلّى الله عليه وسلّم : " لا يضرّك بأيّهنَ بدأتَ " ، فدلّ بمنطوقه على التّقيّد بالكلام الّذي يحبّه الله من غير زيادةِ لفظةٍ عليه و لا نقصانٍ إلاّ ما ورد به الدّليل ؛ لأنّ الرّسول صلّى الله عليه و سلّم أخبر أنّ الله يحبّ هذه الكلمات بعينها ، و المؤمن لا يختار لنفسه غير ما اختار الله له و رسوله ؛ لأنّ الله يقول : ﴿ وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ( الأحزاب : 36 ) ، قال ابنُ كثير في تفسيرها : " فهذه الآية عامّةٌ في جميع الأمور ، و ذلك أنّه إذا حكم الله و رسوله بشيءٍ فليس لأحدٍ مخالفته ، و لا اختيارَ لأحدٍ هنا ، و لا رأيَ و لا قولَ " ، كما دلّ بمنطوقه أيضًا على أن التّقيّد بترتيب هذه الكلمات خاصّةً غيرُ مطلوب ، و دلّ بمفهومه على أن التّقيّد بترتيب الأذكار الأخرى هو الأصل الّذي جرى عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عيه و سلّم ، و قد مرّ عنهم شيءٌ من ذلك ، و لمّا علم رسول الله صلّى الله عليه و سلّم منهم ذلك لشدّة اتّباعهم للسّنّة و وقوفهم عند حرفية اللّفظ النّبويّ ، بيّن لهم أنّ ترتيب جمل هذه الألفاظ الخاصّة بعضِها على بعضٍ ليس أمرًا مطلوبًا فاستثناه و نفى الضّرر عمّن لا يرتّبها ، الأمر الّذي يدلّ على أنّ التّقيّد بالألفاظ النّبويّة و أعدادها و ترتيبها كما جاءت هو جادّة أهل الاتّباع الّذين يرجون القبول عند الله .
و أمّا دعاء المرء لنفسه بما شاء من حاجاته الّتي لا تكاد تنحصر فلا شكّ في جوازه ما لم يصحبه محظورٌ شرعيٌّ ؛ لأنّ الله قال : ﴿ وَ قَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر : 60 ) ، و بشرط أن لا يجعل ما جرّبه من أدعيةٍ مخترعة سنّةً لنفسه و لا لغيره ، و لو وجد فيها صاحبُها نوعَ استجابةٍ و تأثيرٍ ؛ لأنّ التّجربة ليست من مصادر الشّريعة ، و لا يجوز أن يقال : هذا دعاءٌ مجرّبٌ بُغيةَ ترتيبه للنّاس ؛ لأنّ الله لم يأذن لأحدٍ أن يشرَع لأحدٍ بعد رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ، و قد قال : ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ منَ ٱلدينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ ( الشورى : 21 ) ، و للقاضي عياض كلمةٌ عظيمةٌ في هذا المعنى ، نقلها عنه ابنُ علاّن في " شرح الأذكار " ( 1/17 ) أنّه قال : " أذن الله في دعائه ، و علّم الدّعاء في كتابه لخليقته ، وعلّم النّبيُّ صلّى الله عليه و سلّم الدّعاء لأمّته ، و اجتمعت فيه ثلاثةُ أشياء : العلم بالتّوحيد ، و العلم باللّغة ، و النّصيحة للأمّة ، فلا ينبغي لأحدٍ أن يعدل عن دعائه صلّى الله عليه و سلّم ، و قد احتال الشّيطان للنّاس من هذا المقام ، فقيّض لهم قوم سوءٍ يخترعون لهم الأدعية ، يشتغلون بها عن الاقتداء بالنّبيّ صلّى الله عليه و سلّم ، و أشدّ ما في الإحالة أنّهم ينسبونها إلى الأنبياء و الصّالحين ، فيقولون : دعاء نوح ! دعاء يونس ! دعاء أبي بكر ! فاتّقوا الله في أنفسكم ، لا تشتغلوا من الحديث إلاّ الصّحيح " .
و بعدُ ، فهذه عبرةٌ للمعرضين عن الألفاظ النّبويّة ، المتوسّعين في ابتداع الأذكار و الأدعية ، المفتونين بالألفاظ البشريّة ، لا سيما ما ثُرثِرَ فيه بزخرفٍ من السّجع ، كما أنّها تحذيرٌ شديدٌ لأولئك الّذين يستغلّون جهل العوامّ وحبّهم للذّكر ليبيعوا لهم الأدعية ؛ كي تملأ لهم الأوعية ، والسّعيد من اتّبع السّنّة ، وأيقنَ أنّها خير ما تُعبّد به الإنسُ و الجِنّة ، و قد كان خيرة هذه الأمة أيقظ النّاس لاتّباع الأذكار النّبويّة كما نطق بها المصطفى صلّى الله عليه و سلّم ، فعن نافع أنّ رجلاً عطس إلى جنب ابن عمرَ ، فقال : الحمد لله و السّلام على رسول الله ، قال ابن عمر : و أنا أقول : الحمد لله و السّلام على رسول الله ، و ليس هكذا علّمَنا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ، علّمَنا أن نقول : الحمد لله على كلّ حالٍ " رواه التّرمذيُّ ( 2738 ) ، وصحّحه الألبانيُّ فيه .
و أمّا كون أدعية البشر لا تسلم من النّقص ، فإنّني أمثّل له بمثالٍ ماتعٍ و مُقنعٍ ، رواه مسلم ( 2688 ) عن أنسٍ رضي الله عنه " أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عاد رجلاً من المسلمين قد خَفَتَ فصار مثل الفَرْخِ ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : هل كنتَ تدعو بشيءٍ أو تسألُه إيّاه ؟ قال : نعم ! كنتُ أقول : اللّهمّ ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّله لي في الدّنيا ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه ! أفلا قلتَ : اللّهمّ آتنا في الدّنيا حسنةً و في الآخرة حسنةً ، وقِنا عذاب النّار ، قال : فدعا الله له فشفاه " .
فهذا صحابيٌّ كاد يُهلك نفسَه في الدّنيا حين اختار هذا الدّعاء الّذي ظاهره خيرٌ ؛ لأنّه يدلّ على الخشية من الله ، لكن من ذا الّذي يُطيق عذاب الله ؟ !فإذا كان الصّحابيّ – الذي كان مع رسول الله صلّى الله عليه و سلّم – عُرضةً للخطأ في اختيار الأدعية من عند نفسه ، فكيف بمن دونه ؟! و الله العاصم .

____________________
(1) : أخرجه أهل السّنن ، وصحّحه الألباني في " خطبة الحاجة " .
(2) : أخرجه التّرمذي ( 3529 ) و الحاكم ( 1/513 ) و صحّحاه ، وانظر " السّلسلة الصّحيحة " للألباني ( 2763 ) .










 

الكلمات الدلالية (Tags)
متجدد.., صورة, فائدة

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 16:55

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc