صناعة الأخلاق
هنا تسجيل فارق بين صناعة المبادئ وصناعة الأخلاق..فصناعة المبادئ تعني وجود سقف طموحات وغايات نبيلة يسعى لها الإنسان، أو أن يظن بها نفعاً تحصيلياً مما يجعل هذا النوع من الصناعة أكثر شمولاً..أما الأخلاق فهي وصف أدق لمجموعة قيم فطرية واعتبارية تتحدد بناءاً عن اتحاد الذات والمجتمعين العام والخاص في إدراكٍ واحد..بتوضيح أكثر فالصدق قيمة فطرية تنشأ لمنع أذى الكذب بالتبعية..بينما الشجاعة والجُبن قيمتين اعتباريتين يشكلهما وعي الآخر بالذات، فلو لم يوجد الآخر لانعدمت تلك القيمة لانتفاء وجود محل الوصف، ولكن هل يصح أن يكون هناك شجاعة دون وجود الآخر..نعم يوجد ولكن في حال كان الآخر هو محل الوصف فتقوم الذات بإبراز عمل بطولي يتصف بالشجاعة في مواجهة قوى الأذى ، كالذي يواجه نَمراً دون خوف..هذه شجاعة في حقيقتها، ولكنها تنشأ بتوصيف الآخر برؤيته..أما القيمة الفطرية كالصدق فيكفي الصدق مع النفس لدفع أذى الكذب لتبيان وجوده دون الحاجة لمصدر خارجي.
نحن هنا أمام صناعة يتحكم في آلياتها المجتمع -كصناعة المبادئ بالضبط، ولعل هذا ما يفسر نشوء الأديان كون الدين يخاطب المجتمع والفرد في آنٍ واحد،فلا دين للفرد دون المجتمع، وهذا أبلغ رد على من يُنكر دور الدين في الأخلاق، فبدون الدين تكون صناعة المبادئ مُبهمة ، والإشكال يكمن أحياناً في الاعتقاد بأن تأثير المجتمع هو تأثيراً حصرياً وعليه فالأخلاق نتاج مجتمعي دون الحاجة للدين، والرد على ذلك بالبحث في تأثير النزعوية التي حيرت سقراط وجعلته غير قادر على رصد الإنسان الحقيقي الخالي من المثالية، أو تفسير أرسطو الذي ربط "مشكلة"الأخلاق بفهم الناس للسعادة ..ولكن سواء عَرف الإنسان السعادة أو حاز على المثالية فلا حاجة لوجوده في هذا العالم كونه أصبح كائناً استهلاكياً معدوم التضحية والإيثار والصبر والكفاح ...
حقيقة نحن أمام إشكالية عظيمة تقف حائلاً بين النظرية والتطبيق ،يتشكل أحد أضلاعها من المبادئ والأخلاق ودور الإنسان في صناعة كُلاً منهم على حِدا، وكما أشرنا عاليه بأن الاختلاف في رصد وتقدير ودور النزعات أو حول مفاهيم كالسعادة هو الذي ينشئ لدى الإنسان هاجساً من الآخر..وكأن الأخلاق لديه هي أفعاله وأقواله داخل الحُجرة، أما مبادئه فهي جدران تلك الحُجرة، فلا هو أقدم على فهم أقواله وأفعاله باحتكاكها خارج جدران الحُجرة، ولا هو اعتقد بأن تلك الجدران لا تشكل إلا حاجزاً وهمياً يتشكل من الخارج وليس من الداخل...ولو حاول تجاوز الجدران بغرض التصحيح أو التثبت من منهجه وأفعاله لوقف على أن هذه الحوائط قد يكون لها شكل آخر بسطح آخر غير الذي عرفه من قبل...ومع ذلك فهي في حقيقتها جدران.