قال الشيخ مختار الطيباوي في رده عن احد متشددي السلفية
نهي الطَّالح عن التَّمسُّح بالسَّلف الصَّالح
نسخة معدَّلة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله وحده، و الصَّلاة و السَّلام على من لا نبي بعده.
أمَّا بعد، فقد زعم الدكتور رسلان في خطبته بالأمس أنَّ السَّلف كانوا أشداء على المبتدعة ،وهذا في الحقيقة ظنُّ كلِّ غلاة التَّجريح يخلطون بين الإسلام و الموسوية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الجواب الصَّحيح)(2/79): ((إِنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ تَغْلِبُ عَلَيْهَا الشِّدَّةُ، وَشَرِيعَةَ الْإِنْجِيلِ يَغْلِبُ عَلَيْهَا اللِّينُ، وَشَرِيعَةَ الْقُرْآنِ مُعْتَدِلَةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ أُمَّتِهِ:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وَقَالَ - أَيْضًا -:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] . فَوَصَفَهُمْ بِالرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالذِّلَّةِ لَهُمْ، وَالشِّدَّةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْعِزَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ كَانَ صِفَةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيِّهِمْ، أَكْمَلِ النَّبِيِّينَ وَأَفْضَلِ الرُّسُلِ؛ بِحَيْثُ قَالَ: ((أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَأَنَا نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ، وَأَنَا نَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَأَنَا الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ)) وَهَذَا أَكْمَلُ مِمَّنْ نُعِتَ بِالشِّدَّةِ وَالْبَأْسِ غَالِبًا، أَوْ بِاللِّينِ غَالِبًا، وَقَدْ قِيلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ نُفُوسُهُمْ قَدْ ذُلَّتْ لِقَهْرِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ وَاسْتِعْبَادِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ، فَشُرِعَتْ لَهُمُ الشِّدَّةُ لِتَقْوَى أَنْفُسُهُمْ وَيَزُولَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الذُّلُّ..))
من المعلوم البديهي من أصول أهل السُّنَّة و الجماعة أنَّ المسلم في أحكامه و أقضيته و محاورته و مناظراته يجب أن يعود أوَّلا إلى الكتاب و السُّنَّة و الإجماع، ثمَّ يستشهد بكلام أهل العلم، أمَّا الرُّجوع إلى كلام بعض السَّلف دون جميعهم، وعلى حساب نصوص الكتاب و السُّنَّة فليس هو من أصول أهل السُّنَّة و الجماعة في شيء، ولذلك يتناظر أهل السُّنَّة بالكتاب و السُّنَّة و الإجماع، ولا يتناظرون بأسماء الرِّجال.
وإذا عدنا إلى الكتاب و السُّنَّة و الإجماع عرفنا الأصول وعرفنا الاستثناء، عرفنا العموم وعرفنا الخاصَّ، عرفنا النَّاسخ و عرفنا المنسوخ، عرفنا المحكم و عرفنا المتشابه
وفي هذه المسألة المتعلِّقة بأسلوب الدَّعوة سنرى من خلال هذا البحث حثَّ القرآن و السُّنَّة على اللِّين و الرِّفق و المداراة، و أنَّ الشِّدَّة و الغلظة استثناء له موضعه، و لكن ليس هو القاعدة العامَّة، ولا الأصل الجامع.
كذلك يجب على المسلم أن ينتبه إلى شيئين مهمين جدًّا هما:
1 ـ لقد أمر الله في كتابه بالحكمة و الموعظة الحسنة و بالجدال بالَّتي هي أحسن:{ اُدْعُ إِلَى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }، وليس في واحدة من هذه الثلاثة الشدَّة و الغلظة، بل كلُّها تدلُّ على اللِّين و الرِّفق و المداراة و الرَّحمة.
2 ـ هذا يقتضي أنَّ النَّاس ثلاثة أصناف: العلماء العقلاء الَّذين تكون دعوتهم بالحكمة و العلم و الحوار الهادئ و تبليغ الحجَّة.
و الصِّنف الثَّاني: أصحاب القلوب الطيِّبة المتذكِّرة، الَّذين أبعدهم الجهل أو الغفلة عن طريق الله، فهؤلاء يتمُّ دعوتهم بالموعظة الحسنة الَّتي هي التَّذكير بالتَّرغيب و التَّرهيب و الوعظ و القصص.
و الصِّنف الثَّالث: هو من عنده شبهة و نوع علم أو جهل مركَّب، فهؤلاء يتمُّ دعوتهم بالمجادلة بالَّتي هي أحسن، بنقض قواعدهم، و بيان عوار مذهبهم، و قرع الحجَّة بالحجَّة.
فلا الناس كلّهم يحتاجون إلى الحكمة، و لا النَّاس كلّهم يحتاجون إلى الموعظة، ولا النَّاس كلّهم يحتاجون على الجدال بالَّتي هي أحسن، و إن كان الغالب منهم بحاجة إلى الوعظ لأنَّ الغالب هم العوامُّ.
وهذه الحقيقة تقودنا إلى نتيجة مهمَّة جدًّا: وهي أنَّ من التزم أسلوب النَّقض و الرَّدِّ و الجدال وحده، فلا شكَّ أن قسما كبيرا من النَّاس لن يقبل على علمه، فإمَّا يُنوِّع في خطابه للنَّاس، و إمَّا يترك القائمين بالخطابات الأخرى يقومون بدورهم، ولا يُعكِّر عليهم مالم يكونوا دعاة إلى ضلالة.
فليس كلُّ النَّاس يخالف الحقَّ لسوء القصد و سوء النِّيَّة، ولا كلّهم يخالفه لفساد التَّصوُّر و عدم العلم، فلا يجب أن يخلط بين الأمرين.
السَّلف كانوا يعتمدون على اللِّين و المدارة و يجعلون الشِّدَّة في موضعها شدَّة العالم في دين الله، في العلم و الأمر بالمعروف و النَّهي عن المنكر كشدَّة المقاتل في سبيل الله، لا يقضي شيئا إذا كان رخوا، وهي في السِّياق العامِّ لمنهج أهل السُّنَّة من باب العقوبات، والعقوبة لا تكون أبدا باللِّين وخفض الجانب و غير ذلك.
و هذه الشِّدَّة معروفة عن أئمَّة السُّنَّة في كلِّ العصور خاصَّة العصور الأولى، و لكن تنزيل عصر مالك على هذا العصر دون اعتبار الفوارق الموجودة يفوت المقاصد الشَّرعيَّة لتفاوت العصرين، فالعمل بمنهج أهل السُّنَّة في عصر مالك بتمامه يمكن إذا كان دين الحقِّ منتشرا مهيمنا في هذا العصر كما كان في عصر مالك
لاشكَّ أنَّنا نسعى جاهدين بكلِّ ما نملك من قوى أن نعيد الأمَّة في جميع المجالات إلى ما كانت عليه زمن مالك، فلا يجب حينئذ أن نعزل الأحكام عن أسبابها، و نأخذ بالحكم دون أن يتحقَّق موجبه في زمن مالك.
فدور مالك، و أحمد، و الشَّافعيِّ، و قبلهم الزُّهريّ، و سعيد بن المسيِّب، و الحسن البصريِّ و غيرهم كان حفظ السُّنَّة بتعلُّمها و تعليمها و استنباط الأحكام منها، وحفظها بخلاف دور العلماء اليوم الَّذي يكاد يقتصر على وجوب التَّعريف بالسُّنَّة و نشرها، فحفظ عقائد المسلمين و منهجهم غير محاولة نشر هذه العقيدة و هذا المنهج بينهم، و قد أخذوا في عقيدة أخرى، و المعلِّم لا يمتحن طلبته حتَّى يعلِّمهم الدَّرس، أمَّا أن يبدأهم بالامتحان ولم يعلِّمهم الدرس بعد فهذا لا يُعقل.
و إذ قد يقال: من بلاد المسلمين ما السُّنَّة فيها قويَّة معروفة ظاهرة؟
قلتُ: ففي هذه البلدان يجب هجر المبتدعة و معاقبتهم، وترك مخاطبتهم، و الشِّدَّة عليهم و غير ذلك لحفظ السُّنَّة و حماية النَّاس من البدعة، على فرض وجود مثل هذا البلد !
أمَّا إذا كان في هذا البلد المبتدعة يدرسون ويفتون و يعلِّمون، ولهم مكانة، ولا يلتفت إلى السُّنِّيِّ إذا خالفهم، و هذا هو الواقع فالواجب المجابهة و الدَّعوة.
و إذا تتبَّعنا ما ينقله الدكتور رسلان و الإخوة عن شدِّة العلماء، علماء السُّنَّة على المبتدعة، وهي نقول صحيحة يمكن توجيها مع ما يتماشى و الأصل العامِّ الَّذي بيَّناه، فعبد الله بن أبي حسَّان اليحصبي، كما قال عنه ابن فرحون كان: "جواد مفوَّها قويًّا على المناظرة ذابًّا عن السُّنَّة".
و الدارمي" أظهر السُّنَّة ببلده و دعا إليها، و ذبَّ عن حريمها، و قمع مخالفها[بالحجَّة و البرهان]" كما قال عنه ابن حبَّان، و:"لهجا بالسُّنَّة بصيرا بالمناظرة جذعا في أعين المبتدعة" كما قال عنه الذَّهبيُّ، فهذا يعني أنَّهم كانوا أشداء على المبتدعة بتتبُّع زلَّاتهم و مناظرتهم بالعلم حتَّى يضيق عليهم البلد، و ينكشف حالهم للنَّاس و ليس بالفحش و التَّفحُّش كما يزعم الدكتور رسلان.
فمثل هؤلاء الأئمَّة كان همُّهم الأكبر تتبُّع المبتدعة و الرَّدِّ عليهم، و مناظرتهم، وكشف شبهاتهم حتَّى يتعرَّوا أمام المسلمين، و هذه الطَّريقة النَّاجعة لحفظ السُّنَّة و قمع البدعة و المبتدعة، فإنَّ المبتدع إذا كشفت شبهاته و ثابرت على ذلك، و أكدت عليها حتَّى تصير معروفة عند المسلمين ثمَّ حذَّرت منه اتَّبعك النَّاس على دلك، فإنَّ المبتدع كلَّما ناظرته و كشفت شبهاته كلَّما ضعف و قلَّ صيته، أمَّا إذا تركته على ماهو عليه حرًّا، يدعو إلى بدعته و يفعل ما يشاء، يكتب و يسجِّل و يحاضر، و لا أحد يردُّ عليه، فقد كفيته [شرَّك] و أعانته من حيث لا تدري على نشر بدعته.
قال شيخ الإسلام في ( المنهاج){239/5}، مبيِّنا القصد من التَّغليظ في ذمِّ البدعة: ((وَهَكَذَا الرَّدُّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ: إِنْ لَمْ يَقْصِدْ فِيهِ بَيَانَ الْحَقِّ وَهُدَى الْخَلْقِ وَرَحْمَتَهُمْ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ، لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ صَالِحًا. وَإِذَا غَلَّظَ فِي ذَمِّ بِدْعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ كَانَ قَصْدُهُ بَيَانَ مَا فِيهَا مِنَ الْفَسَادِ لِيَحْذَرَهَا الْعِبَادُ، كَمَا فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ يُهْجَرُ الرَّجُلُ عُقُوبَةً وَتَعْزِيرًا، وَالْمَقْصُودُ بِذَلِكَ رَدَعُهُ وَرَدَعُ أَمْثَالِهِ، لِلرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، لَا لِلتَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ.))
فيجب أن نفهم ما معنى الشِّدَّة على المبتدعة، و أنَّها قد تتناول الشِّدَّة في اللَّفظ في مواضع، ولكن ليس ذاك هو المقصد الكبير، بل المناظرة، و الرَّدّ، و الكشف، و التَّتبُّع، وتكرار ذلك حتَّى تضيق عليه الأرض و يصير معروفا مشهورا بها هو الشِّدَّة النَّافعة، كما فعل الشَّافعيُّ مع غيلان القدري، و حفص الفرد، و فعل أحمد مع الجهميَّة، و عبد العزيز الكنانيُّ، و نصر الخزاعيُّ، و الدَّارميُّ ،و ابن خزيمة، والبربهاري، و ابن تيميَّة، و ابن القيِّم ، و الشَّيخ الألباني و غيرهم.
و إذا ترك بعض الأئمَّة المناظرة و الرَّدَّ بسبب قوَّة السُّنَّة، واكتفوا بمعاقبتهم، أو جمعوا اهتمامهم على الكتابة في العلم، فإنَّ أئمَّة علماء أهل السُّنَّة هم أئمَّتهم في الاعتقاد الَّذين ناظروا و كتبوا و كشفوا.
لكن الشِّدَّة لا تكون ابتداء بل تكون انتهاء، كما بيَّن هذا الأصل ابن القيِّم في كتابه" بدائع الفوائد" في فصل" تليين الخطاب مع الرؤساء"، و استدلَّ على ذلك بآيات من القرآن بيَّن فيها أسلوب القرآن في المناظرة، و أسلوب الأنبياء في مخاطبة قومهم، كما فعل إبراهيم عليه السَّلام مع أبيه، وموسى عليه السَّلام مع فرعون، وكذلك كان أسلوب شيخ الإسلام تليين الخطاب أوَّلا، ومراعاة الألفة و الاستدراج بذكر أخف المخالفات، وقد يضطرّ أحيانا إلى هتك الأستار و ذكر اللوازم الشَّنيعة.
فالشِّدَّة تخصُّ المبتدع لا تخصُّ أتباعه، وهنا يجب أن نلاحظ قضيَّة مهمَّة جدًّا تندرج تحت الأصل العامِّ الَّذي بيَّناه سابقا، وهو التَّفريق بين مقام القوَّة و الحكم، و مقام الضَّعف و الدَّعوة، ومقام المخاطبة و مقام النَّقض، فإنَّه و إن جازت الشِّدَّة على المبتدع مشافهةً، فإنَّها في الكتابة لا تقضي شيئا يُذكر، لأنَّنا و نحن في مقام الدَّعوة يجب أن نراعي مشاعر أتباع المبتدع حتَّى يسمعوا الحجج، و نبيِّن لهم أخطاء من يتَّبعون، أمَّا إذا ابتدأناهم بالشِّدَّة فإنَّهم سينفرون منَّا ومن كتبنا، و يصبح صعبا على السَّلفيِّ أن يخاطب غيره، و يوصل الخطاب إلى ملايين المسلمين، وبهذا تنقطع أسباب الدَّعوة و التَّبليغ.
فهذا أمر على غاية من الأهمِّيَّة يجب ملاحظته، حتَّى لا نضيِّع المصلحة العظمى وهي نشر السُّنَّة، فإنَّ السُّنَّة لا تُحفظ إلاَّ إذا كانت منتشرة معروفة، وهذا واضح.
قال القرطبيُّ في( تفسيره){16/2}:
(( فينبغي للإنسان أن يكون قوله للنَّاس لينا ووجهه منبسطا طلقا مع البرِّ والفاجر، و السُّنِّيِّ و المبتدع، مداهنة أن يتكلَّم معه بكلام يظنُّ أنَّه يرضي مذهبه، لأنَّ الله تعالى قال لموسى وهارون:{ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا } ، فالقائل ليس بأفضل من موسى و هارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، و قد أمرهما الله تعالى باللِّين معه، وقال طلحة بن عمر قلت لعطاء:" إنَّك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة و أنا رجل فيَّ حدَّة فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل، يقول الله تعالى:{ وقولوا للنَّاس حُسنًا} فدخل في هذه الآية اليهود و النَّصارى فكيف بالحنيفي؟)).
و الأمر بالرِّفق و اللِّين ورد في كثير من آيات القرآن ممَّا يدلُّ على أنَّه الأصل في معاملة النَّاس، و أنَّ الشِّدَّة و الغلظة استثناء له موضعه وشروطه الدَّقيقة، فمنها:
ـ قوله تعالى:{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَْرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا }(الفرقان).
قال ابن القيِّم في (مدارج السَّالكين){327/2}: ((أَيْ سَكِينَةً وَوَقَارًا مُتَوَاضِعِينَ، غَيْرَ أَشِرِينَ، وَلَا مَرِحِينَ وَلَا مُتَكَبِّرِينَ. قَالَ الْحَسَنُ: عُلَمَاءُ حُلَمَاءُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: أَصْحَابُ وَقَارٍ وَعِفَّةٍ لَا يَسْفَهُونَ. وَإِنْ سُفِهَ عَلَيْهِمْ حَلُمُوا.
وَالْهَوْنُ بِالْفَتْحِ فِي اللُّغَةِ: الرِّفْقُ وَاللِّينُ. وَالْهُونُ بِالضَّمِّ: الْهَوَانُ. فَالْمَفْتُوحُ مِنْهُ: صِفَةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَالْمَضْمُومُ: صِفَةُ أَهْلِ الْكُفْرَانِ. وَجَزَاؤُهُمْ مِنَ اللَّهِ النِّيرَانُ.)).
و قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] قال ابن القيِّم في المصدر نفسه:
((لمَّا كَانَ الذُّلُّ مِنْهُمْ ذُلَّ رَحْمَةٍ وَعَطْفٍ وَشَفَقَةٍ وَإِخْبَاتٍ عَدَّاهُ بِأَدَاةِ (عَلَى) تَضْمِينًا لِمَعَانِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ. فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذُلَّ الْهَوَانِ الَّذِي صَاحِبُهُ ذَلِيلٌ. وَإِنَّمَا هُوَ ذُلُّ اللِّينِ وَالِانْقِيَادِ الَّذِي صَاحِبُهُ ذَلُولٌ، فَالْمُؤْمِنُ ذَلُولٌ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ «الْمُؤْمِنِ كَالْجَمَلِ الذَّلُولِ. وَالْمُنَافِقُ وَالْفَاسِقُ ذَلِيلٌ)).
ـ وروى الطَّبريُّ من طريقه عن عكرمة في قول الله:{فَقُلْ لهُم قَولا مَيْسُورا} قال:الرِّفق.
و قال تعالى:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ }[ آل عمران / 159]، فمن كان طبعه الغلظة، ولا يعفو عن النَّاس، فإنَّه سرعان ما ينفض عنه النَّاس و أصحابه، ولا يبقى معه إلاَّ من يشبهه في خلقه، وهذا إن كان رجلا عاديا فالأمر هيِّن، و لكن عندما يكون داعية يكون فاشلا في مهمَّته،و الإنسان لا يمنعه اللِّين و الرِّفق من قول الحقِّ، ونصيحة المخطئ ،ولكن كذلك لا يدعوه النُّصح و الرَّدُّ و بيان الخطأ إلى ترك اللِّين و الرِّفق، و الموفَّق من جمع بينهما.
وروى عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه و سلَّم أنَّه قال لعائشة:
((يَا عَائِشَةُ إِنَّ الْفُحْشَ لَوْ كَانَ رَجُلًا لَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ)) .
قال في (فيض القدير){519/5}:
(( من ابتلى بمخالطة النَّاس معاملة و معاشرة فألان جانبه و تلطَّف، و لم ينفِّرهم كتب له صدقة، قال ابن حبَّان: المداراة الَّتي تكون صدقة للمداري تخلُّقه بأخلاقه المستحسنة مع نحو عشيرته مالم يشنها بمعصية، و المداراة محثوث عليها مأمور بها ،ومن ثمَّ قيل: اتَّسعت دار من يُداري، وفي شرح البخاريِّ: قالوا: المداراة: الرِّفق بالجاهل في التَّعليم، و بالفاسق بالنَّهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه))
وقال{207/6}:
(( كان صلَّى الله عليه و سلَّم في غاية اللِّين فكان إذا ذكر أصحابه الدُّنيا ذكرها معهم، و إذا ذكروا الآخرة ذكرها معهم، و إذا ذكروا الطَّعام ذكره معهم)).
و قد جاء الأمر بالرِّفق في عدَّة أحاديث صحيحة تبلغ العشرات، وقد صحَّ عن نبيِّنا الأمر بالرِّفق بالنِّساء، و الرِّفق بالأطفال، والرِّفق بالبهائم، والرِّفق بالجاهل، و الرِّفق بالميت وغير ذلك، و أجمع ما صحَّ في الرِّفق قوله صلَّى الله عليه و سلَّم:
ـ ((إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ)).
ومعلوم أنَّ الرِّفق و اللِّين من أسباب المحبَّة بين النَّاس، فإنَّ النَّاس يحبُّون من يرفق بهم و يقودهم بلطف إلى الخير، ومتى شعروا منك بالرِّفق و اللِّين أحبُّوك، و إذا أحبُّوك قبلوا منك النُّصح و العتاب، ألم تر كيف يقبل المحبُّ العتاب من حبيبه، وربَّما يجده حلوا كما قالوا.
فهذا أثر الرِّفق في توليد المحبَّة بين النَّاس لغرض خدمة الخير و المعروف، وكما قال الشَّاعر:
أُحِبُّ أَبَا ثَرْوَانَ مِنْ حُبِّ تَمْرِهِ ... وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الرِّفْقَ بِالْجَارِ أَرْفَقُ
فَوَاللَّهِ لَــــــــــــوْلَا تَمْرُهُ مَا حَبَبْتُهُ ... وَلَا كَانَ أَدْنَى مِنْ عُبَيْدٍ وَمِشْرِقِ
ـ وقوله صلَّى الله عليه و سلَّم

مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ ").
ـ

إنَّ الله عزَّ وجلَّ رفيق يحبُّ الرِّفق و يعينُ عليه مالا يُعين على العنف).
ـ(مَنْ يُحْرَمُ الرِّفْقَ يُحْرَمُ الْخَيْرَ كُلَّهُ).
ـ

مَنْ يُعْطَ الرِّفْقَ فِي الدُّنْيَا يَنْفَعْهُ فِي الْآخِرَةِ).
ـ

يَا عَائِشَةُ، ارْفُقِي، فَإِنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا، دَلَّهُمْ عَلَى بَابِ الرِّفْقِ).
وفي (فتح الباري){325/1}:
في قصَّة بول الأعرابيِّ في المسجد

( فيه الرِّفق بالجاهل و تعليمه ما يلزمه دون تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادا، وفيه رأفة النَّبيِّ صلَّى الله عليه و سلَّم و حسن خلقه)).
ولقد كان رسول الله صلَّى الله عليه و سلَّم في قمَّة الرِّفق و اللِّين، فكان إذا أتاه طالب حاجة لم يرده إلاَّ بها أو بميسور من القول ،فلما تحاكم إليه عليٌّ وزيد و جعفر في ابنة حمزة،فلم يقض بها لواحد منهم ،و لكن قضى بها لخالتها، ثمَّ طيَّب قلب كلِّ واحد منهم بكلمة حسنة فقال لعليٍّ: ((أنت منِّي و أنا منك))، وقال لجعفر

( أشبهت خلقي وخلقي))، و قال لزيد

( أنت أخونا ومولانا)).
وجاء في ( الزهد)لابن مبارك{470/1}:
(( عن حبيب بن حجر القيسي أنَّه قال:" كان يقال: ما أحسن الإيمان يزيِّنه العلم، و ما أحسن العلم يزيِّنه العمل، وما أحسن العمل يزيِّنه الرِّفق، و ما أضيف شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم)).
ـ وكان عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ يقول

( و الله لأريدن أن أخرج لهم المرَّة من الحقِّ فأخاف أن ينفروا عنها فأصبر حتَّى تجيء الحلوة من الدُّنيا فأخرجها معها فإذا نفروا لهذه سكنوا لهذه)).{السِّياسة الشَّرعيَّة}{114}.
وروى الخطيب في( تاريخ بغداد){287/13}:
(( عن نصر بن عليِّ انَّه قال:" دخلت على المتوكِّل فإذا هو يمدح الرِّفق فأكثر، فقلت: يا أمير المؤمنين أنشدني الأصمعيُّ:
لم أر مثل الرِّفْـــــــــــــق فِي لينه ... أخرج الْعَذْرَاء من خدرها
من يستعين بالرِّفق في أمره... يستخرج الحيَّة من جحرها
فقال: يا غلام الدواة و القرطاس فكتبهما)).
وقد جمع ابن القيِّم مقالا فريدا في صفة المؤمن الدَّاعية إلى الله، وكيف يكون المؤمن الحقيقيُّ متَّصفا بالصِّفات الَّتي يحبُّها الله، وهو قمَّة التَّعامل بين المسلمين فتأمَّله، قال ـ رحمه الله ـ في ( الوابل الصَّيِّب){54}:
(( وهو سبحانه و تعالى رحيم يحبُّ الرُّحماء، و إنَّما يرحم من عباده الرُّحماء، وهو ستير يحبُّ من يستر على عباده، وعفو يحبُّ من يعفوا عنهم من عباده، وغفور يحبُّ من يغفر لهم من عباده، ولطيف يحب اللَّطيف من عباده، و يبغض الفظَّ الغليظ القاسي الجعظري الجوَّاظ، ورفيق يحبُّ الرفق، وحليم يحبُّ الحلم، وبرٌّ يحبُّ البرَّ و أهله، وعدل يحبُّ العدل، وقابل للمعاذير يحبُّ من يقبل معاذير عباده، ويجازي عبده بحسب هذه الصِّفات فيه وجودا وعدما، فمن عفا عفا عنه، ومن غفر غفر له، ومن سامح سامحه، ومن حاقق حاققه، ومن رفق بعباده رفق به، ومن رحم خلقه رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن صفح عنهم صفح عنه، ومن تتبَّع عورتهم تتبَّع عورته، ومن هتكهم هتكه وفضحه، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن شاق شاق الله تعالى به، ومن مكر مكر به، ومن خادع خدعه، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله تعالى بتلك الصِّفة بعينها في الدُّنيا و الآخرة.
فالله تعالى لعبده على حسب ما يكون العبد لخلقه، ولهذا جاء في الحديث:" مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، و" وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ حِسَابَهُ ، و" مَنْ أَقَالَ نَادِمًا [بَيْعَتَهُ] أَقَالَهُ اللهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ، و " مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ " ، لأنَّه لما جعله في ظلِّ الأنظار و الصَّبر و نجَّاه من حرِّ المطالبة و حرارة تكلُّف الأداء مع عسرته و عجزه نجاه الله تعالى من حرِّ الشَّمس يوم القيامة إلى ظلِّ العرش.
وكذلك الحديث الَّذي في التِّرمذيِّ و غيره عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم انَّه قال في خطبته يوما:" يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ " كما تدين تدان، وكن كيف شئت فإنَّ الله تعالى لك كما تكون أنت لعباده.))
قلتُ: هذه هي أخلاق رجال القرآن و أصحاب رسول الملك الدَّيَّان فدعوكم من فُحش رسلان.
وكما جاء في الحكمة: "لا تكن حُلْوًا فتبلع ولا مُرًّا فتلفظ."
قال ابن القيِّم في(الوابل الصَّيِّب) في صفة قلب المؤمن:
((هي الصَّفاء و الرِّقَّة، فيرى الحقَّ و الهدى بصفائه و تحصل منه الرَّأفة و الرَّحمة و الشَّفقة برقَّته، ويجاهد أعداء الله تعالى و يغلظ عليهم و يشتدُّ في الحقِّ و يصلب فيه بصلابته، ولا تبطل صفة منه صفة أخرى، ولا تعارضها بل تساعدها و تعاضدها{ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29])).
فقد بان موضع الشِّدَّة و موضع الرَّحمة.
وقد كان رسول الله صلَّى الله عليه و سلَّم يقول:
((أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)).
وقال فيما عامل به ابن أبي من الكرامة

( رجوت أن يؤمن بذلك ألف من قومه فحقَّق الله رجاءه)) ـ(الصَّارم المسلول){ص:828}.
فعلينا اعتبار هذه الحكمة، و الإحسان إلى الرُّؤوس في الخطاب و تليينه معهم رجاء نفع أتباعهم و إبلاغهم الهدى و الحقّ.
مع العلم أنَّ القتل جنسٌ يقع تحته أنواع من القتل، فالواحد منَّا إذا صار يذمُّ أصحابه أمام النَّاس، و يشهِّر بهم بأسمائهم، و يعيب عليهم أخلاقهم، أو أقوالهم،و لا يترك لهم مكانة عند النَّاس، بل يسلِّط عليهم الجهَّال ،فإنَّ ذلك ولابدَّ أن يعود عليه بالأثر السَّيِّئ،فيصير النَّاس يخشون من مقاربته و مخاطبته و مجالسته وغير ذلك.
و إذا حصل مثل هذا لأحدنا بالحقِّ، لأنَّه تكلَّم بحقٍّ في مقال ضالٍّ ، فهذا مثله مثل عمر ـ رضي الله عنه ـ لم يترك له الحقُّ أصحابا، وهذا فضل و جهاد وقوَّة لا تجدها إلاَّ عند الصديقين، ولكن يفرق بين الكلام عن المقال و بين الكلام في صاحب المقال الَّذي له أخطاء، له عليها حجج و أدلَّة أو شبهات علميَّة أو أقوال مرجوحة،و لكن يصعب علينا إقامة الحجَّة عليه بشكل قاطع ،و نعرف منه حبَّ السُّنَّة و الذَّود عنها ،و القول بالحقِّ ،فمثل هذا الإبقاء عليهم، و حسن مخاطبته، و اللِّين معه هو الأفضل وهو المشروع، و الله اعلم.
ومن لاحظ هذا المقام و الَّذي قبله هان عليه كلَّ ما يلقى من الأذى في الله تعالى، وربَّما دعا لمن آذاه كما قال ذلك صلَّى الله عليه و سلَّم لما ضربه قومه فجعل يمسح الدَّم عن وجهه ويقول

( ربِّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون)) .
و بكل حال فتبيَّن الرِّفق في الإنكار، قال سفيان الثَّوريُّ:
(( لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلاَّ من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر عدل بما ينهى، عالم بما يأمر عالم بما ينهى)).
و قال أحمد:
(( النَّاس محتاجون إلى مداراة ورفق الأمر بالمعروف بلا غلظة إلاَّ رجل معلن بالفسق فلا حرمة له)).
قال: وكان أصحاب ابن مسعود إذا مرُّوا منهم ما يكرهون[أي مرُّوا بأصحاب المنكر] يقولون:
((مهلا رحمكم الله، مهلا رحمكم الله)).
و قال أحمد:
(( يأمر بالرِّفق و الخضوع فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب، فيكون يريد أن ينتصر لنفسه)).
لقد نفع الحوار الهادئ كثيرا من النَّاس عبر التَّاريخ الإسلاميِّ، فانتفعت به طائفة عظيمة من الخوارج ناظرها ابن عبَّاس فعادت إلى الجادة، وكذلك عمر بن عبد العزيز، وهذه قصَّة إمام من أئمَّة الحديث كان على رأي يعدُّه بدعة، نفعه الحوار العلميُّ الهادئ فها هو يتكلَّم عن قصَّته فلتكن لنا عبرة و مثال في الدَّعوة إلى الله:
جاء في ( تاريخ بغداد){68/6}:
(( وذكر جماعة من العراقيين: ما تركنا بدعتنا حتَّى رأينا الشَّافعيَّ
قال أبو عثمان: و حدثنا أبو عبد الله النَّسويُّ عن أبي ثور قال: لما ورد الشَّافعيُّ العراق جاءني حسين الكرابيسي و كان يختلف معي إلى أصحاب الرَّأي، فقال:قد ورد رجل من أصحاب الحديث يتفقَّه فقم بنا نسخر به، فقمت وذهبنا حتَّى دخلنا عليه فسأله الحسين عن مسألة، فلم يزل الشَّافعيُّ يقول: قال الله و قال رسول الله صلَّى الله عليه و سلَّم حتَّى أظلم علينا البيت فتركنا بدعتنا و اتَّبعناه)).
قلت: هذا هو منهج أهل السُّنَّة قد يخالفه بعضهم لأسباب لا يعلمها إلاَّ الله، و لكن الحجَّة في النَّقل عنهم و إسناد الأقوال، و بعد هذا لا يهمُّك من خالف، و قد يطعن عليك، فاعمل بنصيحة الشَّافعيِّ ـ رحمه الله ـ:
((قال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشَّافعيُّ: ليس إلى السَّلامة من النَّاس سبيل فانظر الَّذي فيه صلاحك فألزمه)).
و لا خير في الوقيعة في النَّاس إن لم يكن نصيحة لدين الله بالعدل و الإنصاف، وعدم تجاوز الحدِّ، فالأصل في المسلم أن يعمل صالحا،و يقول طيِّبا، فإن هو تكلَّم في النَّاس لغرض النُّصح و التَّحذير فليتحرَّ الدِّقَّة و الصَّواب و عدم تجاوز الحدِّ، ولا يجعل همَّه و نهمته في الكلام في النَّاس فيأتي يوم القيامة و ليس في صحيفته إلاَّ الكلام في النَّاس، فإن هو أصاب فقد نجا، و إن لم يصب ولو كان مجتهدا مغفورا خطاه يجد صحيفته خلوا من العمل الصَّالح ، قال الشَّافعيُّ:
(( بئس الزَّاد إلى المعاد العدوان على العباد)).
و إنَّ رجلا تعلِّمه سنَّة و تهديه إلى خير أو تنزع عنه شركا و بدعة بكلمة طيِّبة و صحبة صادقة تعينك على ذلك، لهو خير لك من حمر النَّعم و من الدُّنيا و متاعها،و الله اعلم.
أمَّا دعوى إجماع السَّلف على الشِّدَّة على المبتدعة فنشرحها من وجه آخر لكن لننتبه هنا أنَّ الدكتور رسلان شديد على أهل السُّنَّة أمَّا المبتدعة فلم يسمع بهم ولا يعرف طريقهم.
للاحتجاج بالإجماع شروط فإنَّ كثيرا من النَّاس يدَّعي الإجماع في مسائل فيها خلاف أو هو إجماع على حال لم تبق ، يعني تغيَّرت، و أكثر من نقل الإجماعات أخطأ في بعضها.
إذا كان كلام السَّلف أو بالأحرى إجماعهم حقًّا، كما أن القرآن حقٌّ و السُّنَّة حقٌّ، ولكن هذا إثبات مجمل لا يعين العبد إن لم يحصل له هدى مفصَّل في كلِّ ما يأتيه من جزئيات، فالنَّاس و إن بدت منهم التقوى في أعمال الظَّاهر، فإنَّ أكثرهم قد غلبته الشُّبهات و ركبته الشَّهوات فيكون الإشكال معهم في فهم النُّصوص وكلام أئمَّة السُّنَّة وليس في توثيقه.
لابدَّ أن ننتبه عند دعوى الإجماع إلى معنى الإجماع،ونحترز من ضعف الإجماع المركَّب،وضعف استصحاب حال الإجماع في كلِّ حال،ودعوى الإجماع مفتقرة إلى فهم ضروريٍّ ، فهذا الإجماع نحن لا نكذِّبه، ولكن نشرحه بنفس قول من نقله وذكره، أمَّا هم فيبنون هنا ويهدمون هناك.
ومن هنا نقول :لا يعرف الإجماع من قصَّر في النَّقل والاستدلال: فمن قصَّر في النَّقل والاستدلال، ولم يعرف موارد النِّزاع لا يعرف الإجماع ، قال شيخ الإسلام في " المجموع"{29/7}

(وَ " الْإِجْمَاعُ " هَلْ هُوَ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ أَوْ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ؟ . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُطْلِقُ الْإِثْبَاتَ بِهَذَا أَوْ هَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ النَّفْيَ لِهَذَا وَلِهَذَا. وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُقْطَعُ بِهِ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَيُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مُنَازِعٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَصْلًا؛ فَهَذَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ حَقٌّ؛ وَهَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا بَيَّنَ فِيهِ الرَّسُولُ الْهُدَى))
ثمَّ هل يجوز انعقاد الإجماع على مخالفة خبر صحيح، وقد ثبت اللِّين في القرآن و السُّنَّة و في كلام السَّلف، ممَّا يعني أنَّ المحتَّج بالإجماع لم يفهم أقوالهم؟
وليس أدل من ذلك ما نقله البغويُّ في "شرح السُّنَّة"{188/1}: ((و اتَّفق علماء السَّلف من أهل السُّنَّة على النَّهي عن الجدال و الخصومات في الصِّفات، وعلى الزَّجر عن الخوض في علم الكلام و تعلُّمه)).
فيأتي الشَّيخ ربيع وعصبته كرسلان فيستدلُّون بهذا الإجماع على ذمِّ و هجر علماء السُّنَّة في قضايا ليست من علم الكلام بل هي من الأحكام، أو ممَّا هو من جنس الأحكام كقضايا أصول الفقه كحمل المجمل و غيرها ؟
دعوكم من الدكتور رسلان الآن فإنه لم يحقِّق منهج أهل السُّنَّة نسأل الله تعالى أن يبصِّره و يهديه إلى القول الحقِّ.
أرزيو/ الجزائر في،01/02/2014م
مختار الأخضر طيباوي