لقد كانت المهمّة الأساسية الّتي تأسّس لأجلها حزب جبهة التحرير الوطني هو قيادة الثّورة الجزائرية ضدّ الاحتلال الفرنسي، و احتواء الخلافات القائمة قبيل اندلاعها بين مختلف تيارات الحركة الوطنية في الجزائر، و بالرغم من كلّ ما شاب مسار الجبهة في طريقة تعاملها مع هذه التيارات في خضم مواجهة الآلة الاستعمارية الفرنسية، إلاّ أنّ لا أحد يستطيع أن ينكر جدارتها في تحقيق الهدف الأسمى و هو انتزاع "حرية الجزائر" و "استقلالها" الّذين تحقّقا في جويلية 1962.
و لكن جبهة التحرير الوطني استمرت في الوجود و بقيت في الممارسة، بل و احتكرت الساحة السياسية و الإدارية و الاقتصادية في الجزائر و فرضت نفسها الممثّل الوحيد للشّعب و الناطق باسم إ{ادته و أفكاره و طموحاته، و كأنّ الجزائريون كلّهم منطقهم واحد و طريقة تفكيرهم و وجهات نظرتهم واحدة.
استمرّ الامر إلى غاية 1989 موعد فتح المجال أمام الأفراد لإنشاء أحزاب سياسية فتأسس منها ما تأسس، و لكن لحدّ اليوم أي بعد مرور نصف قرن بالتقريب عن "الاسقلال" لا تزال الجبهة في الواجهة تحتكر البرلمان و الحقائب الوزارية و المناصب و الوظائف العليا في الدّولة مع إشراك خليلها التجمع الوطني الديمقراطي الّذي لا يمثّل إلاّ وجها آخر لها.
بعد كلّ هذه المدّة و الجزائر لا تزال بالرغم من إمكانياتها و ثرواتها دولة متخلّفة على كلّ المستويات و شعبها فقير إلى أدنى الدّرجات، فكيف لجبهة التحرير الوطني أن تشهد الواقع و تتحدث عن النجاح في قيادة بلد بحجم الجزائر و الواقع نفسه هو شاهد عليها و ليس لها؟
كان الأجدر بجبهة التحرير الوطني أن تنسحب من الممارسة السياسية بعد "الاستقلال" مباشرة، أو على الأقلّ بعد فترة انتقالية ريثما تترسّى قوانين الجمهورية و مؤسّساتها، و تفسح المجال أمام الجزائريين لتسيير أنفسهم وفق منطق آخر تغيرت فيه الظروف و المعطيات التي ولدت فيها هي، و كان ذلك سيحفظ لها مكانتها في قلوب الجزائريين كرمز مقدّس صنع لهم تاريخهم المجيد و حقّق لهم نصرهم العظيم، و لكن أن تستمر لغاية اليوم و تسير الجزائر بمنطق الثورة و شعارات القرن الماضي فذلك ما لم يعد له مبرر و سبب، و لا يزيدنا إلاّ تقدّما إلى الوراء.