هذا المبحث تم جمعه سنة التسعينات لما كنت في نقاش مع بعض أصحاب الهجرة والتكفير في مسألة العذر بالجهل في أصول الدين، وقد تأوّلوا الأحاديث التي تدلّ على العذر بالجهل في من شكّ في صفة من صفات الله تعالى يجهلها، كصفة القدرة والعلم وغيرهما, ولأنّي أرى أنّ فيه بعض الفوائد خاصة وأنّي قرأت في هذا المنتدى الغالي من ينكر الإعذار بالجهل في اصول الدين نسأل الله التوفيق والسداد.
حكم من شكّ في صفة من صفات الله تعالى.
هذه المسألة استدلّ لها علماء السنة والجماعة ببعض الأحاديث منهاحديث: الرجل الذي أوصى أهله بحرقه ثم قال: "فو الله لئن قدر عليّ ربّي ليعذّبني عذابا ما عذّبه أحدا من العالمين "
تفصيل هذه المسألة:
أخرج البخاري وغيره عن حذيفة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول "إنّ رجلا حضره الموت فلمّا يئس من الحياة أوصى أهله: إذا أنا متّ فاجمعوا لي حطبا كثيرا وأوقدوا فيه نارا ، حتّى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت فخذوها فاطحنوها ثمّ انظروا يوما راحا فذروه في اليم ففعلوا فجمعه الله فقال له لما فعلت ذلك , قال من خشيتك ، فغفر الله له، قال عقبة بن عمرو وأنا سمعته وكان نبّاشا" وفي رواية أخرى " فو الله لئن قدر عليّ ربّي ليعذّبني عذابا ما عذّبه أحدا من العالمين " البخاري 3481 ومسلم 2756 – 2757 والنّسائي بشرح السيوطي 4/113 وغيرهم.
هذا الحديث وغيره من الأدلة التي استدلّ بها أهل العلم على عدم تكفير من شكّ في صفة من صفات الله تعالى يجهلها،
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله "من شكّ في صفة من صفات الله تعالى ومثله لا يجهلها فمرتد، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتد، ولهذا لم يكفّر النّبي صلّى الله عليه وسلّم الرّجل الشّاك في قدرة الله وإعادته لأنّه لا يكون إلاّ بعد الرّسالة ، ومنه قول عائشة رضي الله عنها {مهما يكتم النّاس يعلمه الله، قال : نعم} الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام بن تيمية للدمشقي ص 182 وانظر الفتاوى الكبرى 4/606
هذا وقد اعترض بعض العلماء على هذا الحديث باعتراضات نجملها فيما يلي:
أوّلا: قالوا: هذا الحديث لا يدلّ على أنّ الرّجل شكّ في قدرة الله لأنّه جاء في بعض الروايات قوله بعد أن أمر أولاده بإحراقه ورميه "فو الله لئن قدر عليّ ربّي ليعذّبني عذابا ما عذّبه أحدا من العالمين " وقدر هنا بمعنى ضيّق كما في قوله تعالى "من قدر عليه رزقه"
قال الإمام أبو عبد الله محمّد بن يحي بن هشام الأنصاري رحمه الله "قوله {فو الله لئن قدّر الله عليه ليعذّبنّه} يروى بتخفيف الدّال وتثقيلها، فمن ثقل فمعناه لئن قضى علي ولم يسامحني، ومن خفّف فيحتمل أن يكون قدر بمعنى قدّر وقد جاء به، ويحتمل أن يكون معناه ضيّق كقوله تعالى { فظنّ أن لن نقدر عليه} وكقوله {ومن قُدِر عليه رزقه} يقال: قدر يقدر قدرا أي قدر وضيّق، ويحتمل أن يكون من قَدَر يقدِر بمعنى غلب واستولى... إلى أن قال: وأمّا قول من قال: إنّ الرّجل كان يجهل هذه الصفة من الله تعالى وهي القدرة فبعيد لما في الحديث من قوله { قال : لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا ربّ" المفصح المفهم والموضح الملهم لمعاني صحيح مسلم ص 372 - 373
[color="rgb(46, 139, 87)"]وقال الإمام أبي عبد الله محمّد بن علي المازري رحمه الله [/color]< لا يصحّ حمل الحديث على أنّه أراد بقوله {قدر عليّ} من القدرة لأنّه من الشك في كون الباري سبحانه قادرا عليه فهو كافر غير عارف به، وقد ذكر في آخر الحديث أنّ الله قال له {ما حملك على ما صنعت، قال: خشيتك يا ربّ أو مخافتك فغفرله بذلك } والكافر لا يخشى الله ولا يغفر الله له، فإذا ثبت أنّه لا يصحّ حمل الحديث على هذا المعنى فيُحمل على أحد وجهين، إمّا أن يكون المراد به لئن قدر عليّ بمعنّى قدّر عليّ العذاب، يقال: قدر وقدّر بمعنى واحد، أو يكون أراد قدر عليّ بمعنى ضيّق عليّ، قال الله تعالى {فقدر عليه رزقه} وهكذا القول في قوله تعالى{فظنّ أن لن نقدر عليه} المعلّم بفوائد مسلم 3/189
[color="rgb(46, 139, 87)"] قال ابن الجوزي رحمه الله[/color] "جحده صفة القدرة كفر اتفاقا وإنّما قيل إنّ معنى قوله {لئن قدر علي الله} أي ضيّق وهي كقوله تعالى {ومن قدر عليه رزقه} أي ضيّق " [color="rgb(46, 139, 87)"]فتح الباري لابن حجر رحمه الله 7/435 [/color]
هذا غاية ما في الاعتراض الأول. حيث أوّلوا معنى قدر من القدرة إلى قدر بمعنى ضيّق، أو بمعنى قدّر علي العذاب، لأنّ الشك في القدرة كفر وهو قد غفر الله له، والكافر لا يغفر له.
وأمّا الاعتراض الثاني الذي تمّ الاعتراض به على هذا الحديث هو قولهم: أنّ الحديث يدلّ حقيقة على أنّ الرّجل شكّ في قدرة الله، ولكن ظاهره أنّ هذا الرّجل قاله وهو غير ضابط لكلامه ولا قاصد لحقيقة معناه وأنّه قال ذلك لما غلبه من الخوف وغطّى على فهمه من الجزع والدّهشة حتّى ذهب بعقله.
قال ابن الملقن رحمه الله "إنّ الرّجل قال ذلك لما غلبه من الخوف وغطّى على فهمه من الجزع فيُعذَر في ذلك" [color="rgb(46, 139, 87)"]فتح الباري لابن حجر رحمه الله 12/267[/color]
[color="rgb(46, 139, 87)"]وقال الإمام النّووي رحمه الله [/color]"وقالت طائفة: اللفظ على ظاهره ولكن قاله هذا الرّجل وهو غير ضابط لكلامه ولا قاصد لحقيقة معناه ومعتقد لها، بل قاله في حالة غلب عليه فيها الدّهش والخوف وشدّة الجزع بحيث ذهب تيقّظه وتدبّر ما يقوله فصار في معنى الغافل والنّاسي، وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها وهو نحو قول الآخر الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته أنت عبدي وأنا ربّك، فلم يكفر بذلك الدّهش والغلبة والسهو" شرح صحيح مسلم 17/71
[color="rgb(46, 139, 87)"] وقال الحافظ بن حجر رحمه الله [/color]"وأظهر الأقوال أنّه قال ذلك في حال الدّهشة وغلبة الخوف عليه حتّى ذهب بعقله لما يقول، ولم يقله قاصدا لحقيقة معناه بل في حالة كان فيها كالغافل والذّاهل والنّاسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه " [color="rgb(46, 139, 87)"]فتح الباري 7/435 – 436[/color]
هذا غاية ما ذكره من اعترض على دلالة الحديث في عدم تكفير من شكّ في قدرة الله جاهلا، وهي اعتراضات لا تقوى مع ما سنبينه فيما بقي من البحث إن شاء الله تعالى.
كتبه عبد الحفيظ بن علي المدني