السجود لغير الله هل هو شرك أم حرام
روى عبد الله بن أبي أوفى قال: (لمّا قدم معاذ من الشّام سجد للنّبي صلّى الله عليه وسلّم ،قال: ما هذا يا معاذ،قال: أتيت الشام فوافيتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددتّ في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم <لا تفعلوا ، فإنّي لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) رواه ابن ماجه 1853وابن حبّان 1290والبزّار 1055-1057وجمع طرقه الألباني وصحّحه في الإرواء 1998
"فهذا معاذ رضي الله عنه يسجد للنّبي صلّى الله عليه وسلّم تعظيما له لما رآه من حال أهل الكتاب مع علمائهم ، لكن معاذ رضي الله عنه لم يكن يقصد قطعا عبادة النّبي صلّى الله عليه وسلّم والتقرّب إليه كما يتقرّب إلى الله بالسجود ، فلمّا علم الرّسول صلّى الله وسلّم أنّه إنّما أراد التعظيم ولم يرد العبادة ، نهاه عن تعظيمه بالسجود له ، فكان ذلك نسخا لسجود التعظيم والتحية ، فقد سجد أبوا يوسف وإخوته له ، بل أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم وليس ذلك سجود عبادة وإنّما هو سجود تعظيم وتكريم"
ضوابط التكفير عند أهل السنّة والجماعة 216
قال ابن كثير رحمه الله "قال قتادة في قوله تعالى{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته، قال بعض النّاس كان هذا تحية وسلام وإكرام، كما قال تعالى { ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجّدا ، وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربّ حقّا } وقد كان هذا مشروعا في الأمم الماضية ولكنّه نسخ في ملّتنا "
تفسير ابن كثير 1/67
قال ابن العربي رحمه الله "اتفقت الأمّة أنّ السجود لآدم لم يكن سجود عبادة، وإنّما كان على أحد الوجهين: إمّا سلام الأعاجم بالتكفّي والإنحناء والتعظيم، وإمّا وضعه قبلة كالسجود للكعبة وبيت المقدس وهو الأقوى "
أحكام القرآن 1/16
قال ابن كثير رحمه الله "وفي هذا التنظير نظر، والأظهر أنّ القول الأوّل أولى، والسجدة لآدم إكراما وإعظاما واحتراما وسلاما وهي طاعة لله عزّ وجل لأنّها امتثال لأمر الله تعالى" تفسير ابن كثير 1/67
"وبهذا يتبيّن لنا أنّ السجود لا يستلزم العبادة، وأنّ من سجد لغير الله لا يلزم أن يكون عابدا له، ولا يكون مشركا إلاّ إذا قصد بسجوده العبادة والتقرّب لغير الله، أمّا مجرّد السجود للتّعظيم فهو بعد نسخه حرام لكنّه ليس شركا لأنّ الشرك لا يحتمل الجواز والنّسخ، وإنّما يكون ذلك في الشرائع"
ضوابط التكفير عند أهل السنّة والجماعة 216
قال أحمد بن محمّد بن علي الوزير رحمه الله < فما كان ثابتا في الشرائع على جميع ألسنة الأنبياء فلا يجوز نسخه، وتوضيح هذا أنّ الشرائع الأهلية فيها واجبات وآداب لا تختلف باختلاف العصور كوجوب الإيمان بالله ورسله وبرّ الوالدين والصدق في القول وتحريم الكفر والإلحاد والظلم والكذب، وفيها واجبات تختلف باختلاف الأزمنة والأحوال والأمم تبعا للمصالح المناسبة لكلّ عصر، فهذه يجوز نسخها ممّا صحّ وثبت بوسائل صحيحة، أمّا الأولى فلا يدخلها النّسخ فهي ثابتة في كلّ شريعة سماوية {شرع لكم من الدّين ما وصّى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه }
المصفى في أصول الفقه 791
إذن مجرّد السجود لا يستلزم العبادة،
ومن سجد لغير الله ليس بالضرورة أن يكون عابدا له، ولا يكون مشركا إلاّ إذا قصد بسجوده العبادة والتقرّب لغير الله، ولذلك فالتمييز يكون بالقصد والنّية.
قال وليّ الله الدّهلوي رحمه الله "ولمّا كان سجود التحية من الملائكة لآدم عليه السلام ومن إخوة يوسف ليوسف عليه السلام ، وأنّ السجود أعلى صور التعظيم وجب أن لا يكون التمييز إلاّ بالنّية"
حجّة الله البالغة 1/115
وقال شيخ الإسلام رحمه الله "
فكيف يقال يلزم من السجود للشّيء عبادته وقد قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم ( ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقّه عليها ) ومعلوم أنّه لم يقل ( لو كنت آمرا أحدا أن يعبد ) مجموع الفتاوى 4/360
هذا … ولمّا كان السجود لغير الله في الظاهر غير دالّ قطعا على عبادة غير الله، بل قد يحتمل غيرها فإنّه لا يمكن تكفير المعين بأمر محتمل، بل لابدّ من التبيّن في مثل هذه الحالة، لكن من عبد غير الله بسجود أو غيره فإنّه يكون مشركا ،فلا بدّ من التفريق بين ما هو خاص لله تعالى بحيث يكون صرفه لغيره شركا وبين ما يجوز لغيره.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في ذلك فيما يتعلّق بالسجود "أمّا الخضوع والقنوت بالقلوب والاعتراف بالرّبوبية والعبودية فهذا لا يكون على الإطلاق إلاّ لله سبحانه وتعالى وحده وهو في غيره ممتنع باطل، وأمّا السجود فشريعة من الشرائع إذ أمرنا الله أن نسجد له، ولو أمرنا أن نسجد لأحد من خلقه غيره لسجدنا لذلك الغير طاعة لله عزّ وجل إذا أحبّ أن نعظّم من سجدنا له، ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب البتّة فعله، فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له ، وقربة يتقرّبون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم، وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام، ألا ترى أنّ يوسف لو سجد لأبويه تحية لم يكره له"
مجموع الفتاوى 4/363
هذا وذهب بعض أهل العلم إلى أنّ السجود لغير الله كفر ولا يُحتمل غيره، وإنّما عذر النبي صلّى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه
بسبب جهله بالحكم.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله "وهذا الحديث دليل على أنّ من سجد لغير الله جاهلا لم يكفر"
نيل الأوطار 6/363
وقال أحمد فريد "وفي الحديث دليل واضح في أنّ من سجد لغير الله جاهلا – لأنّ السجود عبادة ينبغي أن لا يكون لغير الله – لا يكفر بذلك ويقاس عليه غيره من الكفر العملي"
العذر بالجهل والرّد على بدعة التكفير ص 24
وقال شريف محمّد فؤاد الهزاع "هذا صريح في أنّ الفعل كفر ومع هذا فقد عذر النبي صلّى الله عليه وسلّم معاذ ولم يكفّره بل لم يطلب منه أن يتوب لأنّه حين فعل لم يفعل معصية ولا كفرا لأنّه لم يكلّف بذلك لجهله هذا الحكم حتّى بيّنه له النّبي صلّى الله عليه وسلّم فلو فعله بعد ذلك لكفر" ا
لعذر بالجهل عقيدة السلف ص 58 -59
لا شكّ أنّ ما ذهب إليه هؤلاء من أنّ السجود لغير الله كفر بإطلاق مجانب للصواب، والحق ما بينّاه من أنّ السجود لا يستلزم العبادة، وأنّ من سجد لغير الله ليس بالضرورة أن يكون عابدا له إلا من سجد للصنم فإنّه يكون بذلك كافرا وهذا مجمع عليه والله أعلم.
وكتبه عبد الحفيظ بن علي المدني