القرار الإتهامي توطئة لحرب والعدالة لا يحققها قضاء مستعار
د. عصام نعمان
2011-07-03
العَمَى في الطب فقدانُ البصر. العمى في السياسة فقدانُ البصيرة. بعض اللبنانيين (والعرب) مصابٌ بفقدان البصيرة. فاقدو البصيرة يظنون انه بإمكان قضاء مستعار، يدعى 'المحكمة الدولية الخاصة بلبنان'، كشف حقيقة اغتيال رفيق الحريري وتحقيق العدالة. من المحزن حقاً ان ما من انسان اشد عَمَى من الذي لا يريد ان يرى.
قيل في تبرير اللجوء الى قضاء دولي مستعار إن حال لبنان، غداة الجريمة النكراء، كانت مضطربة ولا تسمح للقضاء الوطني بأن ينهض بمسؤولياته. مع ذلك، إعتمد كبير المحققين الدوليين فيتزجيرالد وبعده رؤساء لجان التحقيق الدولية، ميليس وبرامريتز وبلمار على تحقيقات أولية قام بها قضاة لبنانيون مقتدرون وسلّموا بصحتها وجديتها. لكنهم سرعان ما ضاعوا في متاهة تحقيقات اضافية مشبوهة اجراها معاونون لهم من ذوي الإرتباطات الإستخبارية وحرصوا خلالها، مع رهط من شهود الزور، على إستهداف سورية بتوقيف أربعة من قادة أجهزة الأمن اللبنانية نحو أربع سنوات بدعوى تعاونهم مع ضباط سوريين في عملية الاغتيال.
في المقابل، اشار كثيرون ابرزهم الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، الى انحراف التحقيق الدولي عن مساره المهني والعلمي بتركيزه على فرضية واحدة هي ان تكون سورية وراء عملية الإغتيال. نصرالله كشف، بمعطيات ومؤشرات وقرائن وصور وخرائط، عن ضلوع اسرائيل في عملية الإغتيال، ودعا الى اعتماد ذلك مدخلاً لفرضية اضافية في التحقيق، لكن دونما جدوى.
سعد الحريري، من موقعه كرئيسٍ للحكومة، اعلن جهاراً نهاراً ان ثمة شهوداً زوراً ضللوا التحقيق، وأساءوا الى عائلة الحريري، وخربوا العلاقات اللبنانية السورية. لكن، لا هو قام بملاحقتهم قضائياً ولا المدعي العام لدى المحكمة الدولية دانيال بلمار سمح لكبير الضباط الاربعة اللواء جميل السيد بالحصول من قلم المحكمة على المستندات اللازمة لملاحقتهم.
اذ صدّق قاضي الاجراءات التمهيدية دانيال فرانسين القرار الإتهامي الصادر عن بلمار وأبلغه، جزئياً، من المدعي العام لدى محكمة التمييز اللبنانية سعيد ميرزا لتبليغ وتوقيف اربعة اشخاص (تردد انهم اعضاء في حزب الله) متهمين بالتخطيط للجريمة والمشاركة في تنفيذها، تستبين الحقائق الآتية:
اولاً، سبق لصحيفة 'لوفيغارو' الفرنسية في آب/اغسطس 2006 وبعدها لمجلة 'دير شبيغل' الالمانية في ايار/مايو 2009 ولفضائية cbc الكندية العام 2010 ان كشفت إتجاه المحكمة الدولية الى اتهام ثلاثة من الاشخاص الاربعة الذين وردت اسماؤهم لاحقاً في القرار الإتهامي.
ثانياً، كشف رئيس اركان الجيش الإسرائيلي الجنرال غابي اشكنازي اواخرَ الصيف الماضي ان قرار الإتهام سيتناول كوادر من حزب الله، وان اضطرابات أمنية ستعمّ لبنان غداة اعلان القرار.
ثالثاً، اتضح من تصريحات بلمار نفسه ومن صحيفة 'يديعوت احرنوت' (1/7/2011) ان ثمة قرارين اتهاميين اضافيين سيصدران تباعاً، يتهم أولهما ضباطاً سوريين (تردد ان بينهم العميد ماهر الاسد شقيق الرئيس السوري واللواء آصف شوكت صهره)، بالمشاركة في عملية الاغتيال، فيما يتهم القرار الثاني كلاً من الرئيس الاسد والسيد نصرالله بالإشتراك في الجريمة سنداً لـ 'قواعد الإجراءات والاثبات' لدى المحكمة تقضي بإدانة الرئيس عندما يكون في مركز يمكّنه من الاطلاع على نشاط المرؤوس.
من مجمل هذه الواقعات والتسريبات يمكن الإستنتاج ان القرار الإتهامي وملحقاته إن هو إلاّ حلقة في مخطط الحرب الناعمة التي تشنها دول امريكا واوروبا واسرائيل ضد سورية والمقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينينة منذ العام 2004 (قرار مجلس الامن 1559) واغتيال الحريري (2005) لإخراج سورية من لبنان، المقرونة بفصول ساخنة كحرب اسرائيل العدوانية على لبنان العام 2006، وتدميرها مبنى قيد الإنشاء قرب دير الزور العام 2007 بدعوى انه مأوى لمفاعل نووي، وحربها الوحشية على قطاع غزة اواخرَ 2008 ومطالع 2009. في هذا الإطار يمكن ايضاً وضع الصدامات الدموية التي افتعلتها مجموعات سلفية مسلحة في درعا وحمص وتلكلخ وجسر الشغور، كما محاولات ركوب الحراكات الشعبية الاصلاحية في سورية لبث الفرقة المذهبية .
اكثر من ذلك، يعتقد خبراء ومحللون استراتيجيون في بيروت أن وظيفة القرار الاتهامي الصادر والقرارات الإتهامية اللاحقة اثارةُ اضطرابات مذهبية وأمنية في لبنان وسورية لشل البلدين وإضعافهما تمهيداً لقيام اسرائيل بشن حرب صاعقة على لبنان (وعلى سورية في حال تدخلت لنجدته) بقصد ضرب المقاومة وإخراجها من حلبة الصراع، او خلق ظروف سياسية وميدانية مؤاتية، في الاقل، لتغطية الحدود اللبنانية السورية من جميع الجهات بقوات دولية أو بقوات اطلسية لعزل لبنان عن سورية وبالتالي منع المدد اللوجستي عن قوى المقاومة.
قيادتا المقاومة وسورية تعيان التحدي الإسرائيلي استراتيجياً، وقد اعدتا لمواجهته ورده الى نحور اصحابه. ماذا اعدتا لمواجهته سياسياً؟
في سورية، من الواضح ان القيادة مشغولة حالياً بمواجهة تحدي الإصلاح الداخلي بالحوار والتعاون مع قوى المعارضة الوطنية في مسار من المؤمل ان يؤدي الى قيام سورية جديدة ديمقراطية واكثر تماسكاً في وجه العدو. في لبنان، تبدو القوى السياسية المتحالفة مع الغرب الاطلسي منخرطة في مخطط الحرب الناعمة ضد قوى المقاومة والممانعة، ولن تتوانى عن تخليق ظروف نفسية وسياسية ملائمة لمساعدة القوى المعادية على تنفيذ مخططها العدواني. في المقابل، يسعى إئتلاف القوى الوطنية المشارك في حكومة نجيب ميقاتي الجديدة الى ترميم الوحدة الوطنية وفق ثلاثية 'الشعب والجيش المقاومة'، واعتماد برنامج مركّز لإنهاض 'الدولة' المنهارة، ومحاربة الفساد، ومعالجة الضائقة المعيشية.
هذا البرنامج لا يكفي لصد الهجوم الامريكي الصهيوني المتفاقم. فهو برنامج دفاعي محدود وخجول في فترة حرجة تتطلب الإنتقال الى الهجوم بما هو افعل وسائل الدفاع. في هذا السياق، ثمة فائدة مضاعفة في تفعيل نهج القوى الوطنية الداعي الى رفض القضاء الدولي المستعار، وإستعادة القضاء اللبناني سيادته، وتحقيق العدالة بإعتماد سياسة وطنية متكاملة لها المرتكزات الآتية:
اولاً، إعتبار قرار مجلس الامن 1757 المتخذ في اطار الفصل السابع والقاضي بإنشاء 'المحكمة الخاصة بلبنان' منافياً للقانون الدولي لإعتماده 'الإرهاب' جريمة جنائية دولية خلافاً لنظام المحكمة الجنائية الدولية، كل ذلك بقصد استلاب القضاء اللبناني صلاحيته السيادية في محاكمة قتلة الحريري.
ثانياً، إعتبار الاتفاقية المعقودة بين حكومة فؤاد السنيورة والامم المتحدة العام 2007 التي بموجبها اقيمت 'المحكمة الخاصة بلبنان' غير دستورية لعدم اقترانها بموافقة رئيس الجمهورية ومجلس النواب سنداً للمادة 52 من الدستور، وبالتالي اعتبارها باطلة.
ثالثاً، فك إرتباط لبنان بالمحكمة الدولية والتوقف عن تمويلها بقرار من مجلس الوزراء، واذا تعذر ذلك فبتشريع من مجلس النواب.
رابعا، إحالة قضية اغتيال المرحوم رفيق الحريري وكل الجرائم السياسية ذات الصلة التي سبقتها اواعقبتها وقضية شهود الزور المتعلقة بها على المجلس العدلي بقرار من مجلس الوزراء.
خامساً، طالما فك ارتباط لبنان بالمحكمة الدولية ووقف تمويلها لن يؤديا الى إلغائها لكونها قائمة وعاملة بحكم قرار مجلس الامن 1757، فإن لبنان لن يمانع في بقاء القضاة اللبنانيين المتعاقدين معها عاملين لديها اذا رغبوا في ذلك.
إن إنهاض الدولة وتفعيلها يبدأ بإسترداد سيادتها على ارضها وعلى سلطاتها وفي مقدمها السلطة القضائية. بذلك يصبح في مقدور لبنان تحقيق العدالة الوطنية بمعزل عن قضاء 'دولي' مستعار وملغوم.
كاتب لبناني