مقدمـــة
تعتبر حرمة الإنسان وسلامته من أهم الحقوق التي يتمتع بها الفرد والمجتمع على حد سواء، إذ لا يمكن للمجتمع أن يحتفظ بوجوده كمجتمع له مستواه الخاص من التقدم والازدهار إلا إذا كان هذا الحق محاطا بحماية كاملة.
ونظرا لهذا كان جسم الإنسان يشكل وبحق المحور الأساسي لهذه الحماية، لذلك أردنا جلب الرؤى إلى هذا الموضوع الذي رغم أنه كان محلا لاهتمام الكثير من التشريعات القديمة إلا انه مازال يتداول في الخفاء وفي الأوساط الطبية ذاتها. ولهذا فإن اهتمامنا في هذا الموضوع ينصب حول حرية التصرف في جسم الإنسان الذي تظله الحرمة و القداسة لرسم حدود التصرف فيه ضمن أطرها القانونية. ومما لا يخفى أن هذا الجسم كان ومنذ وضع أولى لبنات التقنين لدى البشر محل اهتمام كتابات فلاسفة العصور القديمة إذ سطر القانون الطبيعي حقوقا هامة كحق الإنسان في المحافظة على جسده ودفع الضرر عنه في حال وجود أي خطر يتهدده.
وأنه لا ريب في أن أول تشريع جنائي نظم مبدأ حرمة الكيان الجسدي، وأعطاه الحماية هو قانون حامورابي، الذي كان أول قانون يعرف تطورا في الميدان الجزائي ففي سنة 1792 – 1850 وضع حمورابي قانون الشهير وأورد فيه فصلا كاملا تحدث فيه عن الجرائم ضد الأشخاص فأورد جريمة القتل في المواد 197 -2001 وجريمة الضرب والجرح في المواد 206 – 214 وأقر بحماية جسم الإنسان، إذ يعاقب هذا القانون الطبيب الذي يخطأ في علاج رجل حر فيموت أو يفقآ له عينه بقطع يده بينما إذا كان عبدا فإنه يلتزم بتعويض قيمة النقص منه كما أقر عقوبة القصاص في حال قتل إنسان عمدا. والدية في الجرائم غير العمدية إلى أن المجتمع المصري القديم بدأ يعرف القيمة الخاصة للجسم البشري كعامل من عوامل نمو الدولة. وهو ما نلمسه من خلال التخفيف من حدة المعاملات القاسية للجسد، ويظهر ذلك من خلال قانون بوخوريوس الذي ألغى قانونا ظالما وخطيرا جدا على الحريات الفردية الجسدية لأفراد المجتمع ألا وهو القانون الذي جعل جسم الإنسان المدين ضمانا للوفاء بديونه، إذ أصبحت أموال المدين لا جسمه هي ضمان الوفاء بدينه دون المساس بكيانه المادي.
وتجدر الإشارة إلى أن الحضارات الغربية القديمة لم تكن بمنأى عن هذا الموضوع، ففي التشريع اليوناني نجد نفس الخصوصية الموجودة في المجتمع الفرعوني إذ أن كلا التشريعيين يوفران حماية هامة للجسد فيرتب الجزاء الجنائي في حال ما إذا أخطأ الطبيب المعالج في العلاج أو وصف الدواء فأنتج ذلك الخطأ ضررا.
كما صدر قانون الألواح الإثنى عشر بمدينة روما عام 450 ق .م تضمنت من خلاله الألواح 8-9-10 نظام الجرائم والعقوبات، إذ كان يعاقب على الجرائم الماسة بالجسم بشكل أقرب ما يكون إلى الانتقام منه إلى تطبيق جزاء عادل ذلك أن تطبيق العقاب كان مخولا إلى المجني عليه أو عشيرته.
غير أن ما يمكن قوله، أن في ظل هذه التشريعات ورغم مالها من مساوئ ولا عدل في تطبيقها وأحيانا القساوة والتمييز، فإن ذلك لا يمنع من القول أن الجسم البشري بدأ يعرف نوعا من الكرامة والحرمة هذه الأخيرة لم تتجسد أواصرها إلا بمجيء الإسلام الذي أعطى للجسد مكانة، واعتبر أن المحافظة على النفس البشرية جسدا وروحا من المصالح الخمس الواجب مراعاتها انطلاقا من قـوله تعـالى
(ولقد كرمنا بني آدم)) و (( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )) وانطلاقا من ذلك فقد قومت الشريعة الإسلامية حماية الجسد على فكرتين أساسيتين، هما عدم جواز الاعتداء على الجسم، مقسمة هذه الاعتداءات إلى الجنايات على النفس، والجنايات على مادون النفس، والفكرة الثانية هي وجوب حفظ النفس من الاعتداء عليها وعدم تعريضها للمخاطر والأمراض المستعصية. إذ منع سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجيش الإسلامي الفاتح بقيادة الأشم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه من دخول الشام لأجل طاعون عمواس1 أما القوانين المقارنة فقد عنيت بهذا الموضوع أيما عناية إذ أوجدت دول العالم الكثير من التشريعات لحماية الجسم من خلال نصوص القوانين والدساتير وهو نفسه ما تظمنته المعاهدات الدولية والبروتوكولات المتعلقة بحقوق الإنسان.
غير أنه ونتيجة للتطورات الاجتماعية السياسية والعلمية التي طرأت على المجتمعات بصفة عامة، فإن التصرف في جسم الإنسان أخد منحي آخر، أكثر تقنية وعلمية، لذلك فقد كان هدفنا من وراء هذا الطرح تناول هذه التصرفات التي ترد على الجسم البشري أيا كانت طبيعتها، سواء التصرفات القانونية أو التصرفات الطبية، سيما بعدما توصل البحث العلمي لإمكانية إزالة أمراض العقم بواسطة عمليات التلقيح الاصطناعي، وكذا إلى استنساخ البشر والذي يعد قفزة نوعية في مجال هذه التصرفات، ومعرفة ما مدى حرية التصرف في هذا الجسم وهل القيام بهذه التصرفات يرد بشكل مطلق، سيما إذا علمنا ما للجسد من حرمة وقدسية، أم هناك ضوابط وقيود ترد على المساس بهذا الجسم تحكم القائم بهذا التصرف وحتى الشخص المتصرف في جسده، وهل هذا الشخص يملك الحرية المطلقة في التصرف في جسمه كيفما يشاء على أساس أن هذا الجسد هو ملك له أم أن جسده ملك للمجتمع، وأي تصرف يقره الشخص على جسده يجب أن لا يمس بحق المجتمع فيه، لذلك نحاول تناول هذا الموضوع من خلال الفصلين التاليين:
الفصــل الأول: ماهية جسم الإنسان، ونتناول فيه معنى الجسم ومكوناته، وبداية حياة هذا الجسم، ونهايته مشيرين بدلك إلى مسألة صعوبة تحديد لحظة بداية الجسم ونهايته.
الفصــل الثانـي: التصرفات الواردة على جسم الإنسان، ونتناول فيه التصرفات القانونية الواردة على الجسم من بيع وهبة ووصية، تم التصرفات الطبية الحديثة الواردة على جسم الإنسان، ومدى تأثيرها على نطاق الحماية القانونية للجسم.