اخوة الاسلام
أحييكم بتحية الإسلام
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
تحس بالراحة والطمأنينة عند تمسكها بالدين ولكن أصدقاءها يبتعدون عنها فما الحل
السؤال
أنا أمريكية مسلمة منذ المولد ، وأجد نفسي مؤخرا قريبا جدا من ديننا ، فقد توقفت عن الاستماع للموسيقى والذهاب لمشاهدة الأفلام ، وحتى عن الخروج غير الضروري دون وجود والد أو أخي
أو جماعة من أصدقائي ، ولا يزال أمامي الكثير للقيام به. وكنت أشعر براحة كبيرة وسعادة بالغة بنمط حياتي الإسلامي الجديد لبعض الأشهر ما شاء الله
لكن رغبتي في زيادة تقواي أدت إلى بعض المشاكل ، حيث أشعر بالملل كثيرا الآن ، وأصدقائي يبتعدون عني شيئا فشيئا ، وأقاربي يستاءون إذا لم أرغب في أن أنضم إليهم في تجمعات مختلطة .
وعندما أمارس الرياضة أستمع للقرآن ، أو الأناشيد ، بينما كنت أقوم قبلا بالاستماع للموسيقى ، وأجد نفسي الآن أُقلل من ممارستي للرياضة
. وبعبارة أخرى : ففي الوقت الذي تنعم فيه روحي بالشعور بالرضا والطمأنينة ، فإن جسدي واهتماماتى الدنيوية في تراجع ، وأنا أشعر كما لو أنى ولدت في زمان أو دنيا خاطئة
فهي كالسجن بالنسبة لي . فهل بوسعكم نصحي بنظام أو روتين أو دعاء للتخفيف مما أعانيه ،
وأيضا كلمات أو عبارات يمكنني قولها لأصدقائي وأقاربي يمكنهم من خلالها معرفة قصدي ؟ وسأقدر تماما جميع المعلومات التي ستقدمونها لي ، وجزاكم الله خيرا .
الجواب
الحمد لله
أولا :
أيتها الأخت الكريمة ، هنيئا لك طريق الهداية الذي وجدتيه ، هنيئا لك راحتك بالطاعة ، هنيئا نفرتك من المعاصي ومن كل ما يبعدك عن دينك
فماذا فاتك بعد ذلك ، وأي شيء يستحق أن تتأسفي عليه ، إذا وجدت راحة قلبك ، وسعادتك بإيمانك وطاعتك
. قال الله تعالى : ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) الأنعام/125 .
قال الشيخ السعدي رحمه الله :
" يقول تعالى -مبينا لعباده علامة سعادة العبد وهدايته ، وعلامة شقاوته وضلاله- : إن من انشرح صدره للإسلام ، أي : اتسع وانفسح
فاستنار بنور الإيمان ، وحيي بضوء اليقين ، فاطمأنت بذلك نفسه ، وأحب الخير، وطوعت له نفسه فعله ، متلذذا به غير مستثقل، فإن هذا علامة على أن الله قد هداه ، ومَنَّ عليه بالتوفيق ، وسلوك أقوم الطريق .
وإن علامة من يرد الله أن يضله ، أن يجعل صدره ضيقا حرجا ؛ أي : في غاية الضيق عن الإيمان والعلم واليقين ، قد انغمس قلبه في الشبهات والشهوات ، فلا يصل إليه خير، لا ينشرح قلبه لفعل الخير
كأنه من ضيقه وشدته يكاد يَصَّعَّدُ في السماء، أي: كأنه يكلَّف الصعود إلى السماء، الذي لا حيلة له فيه !! "
انتهى من " تفسير السعدي" (272) .
ثانيا :
ليس من شك في أن طريق الجنة ليس ميسورا لكل أحد ، يستوي الناس في سلوكه ، بل لا بد من تعب وابتلاء ، ونصب ومشقة ، ليتبين الصادق في إيمانه من الكاذب
وليعلم العقلاء أن الراحة الكبرى والنعيم المقيم ، لا بد له من قدر من التعب والمشقة ومجاهدة النفس والهوى:
روى البخاري (6487) ومسلم (2823) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ) .
والمعنى : أن سالك طريق الجنة لا بد وأن يواجه قدر من المشقات والمكاره التي تصعب على النفس ، وأن طريق النار مليء بما تشتهيه النفس وتميل إليه .
ولهذا قال الشاعر :
بَصُرْتَ بالراحةِ الكُبرى فلم تَرَها ... تُنالُ إلا عَلَى جِسْرٍ من التّعَبِ
إن إشكالية التعارض بين راحة الدنيا وراحة الآخرة ، بين متع الدنيا ونعيم الآخرة ، هي إشكالية تتكرر كثيرا ، لكنها محسومة بالنسبة للمؤمن الموفق :
روى أحمد في مسنده (22392) ـ وصححه الألباني ـ أَنَّ أَبَا مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ
: يَا سَامِعَ الْأَشْعَرِيِّينَ ؛ لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( حُلْوَةُ الدُّنْيَا مُرَّةُ الْآخِرَةِ وَمُرَّةُ الدُّنْيَا حُلْوَةُ الْآخِرَةِ ) .
قال ابن القيم رحمه الله :
" المصالح والخيرات ، واللذات والكمالات ، كلها لا تُنال إلا بحظ من المشقة ، ولا يُعبر إليها إلا على جسر من التعب ؛ وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يُدرك بالنعيم ، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة
وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة ؛ فلا فرحة لمن لا هَمَّ له ، ولا لذة لمن لا صبر له ، ولا نعيم لمن لا شقاء له ، ولا راحة لمن لا تعب له ؛ بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا
وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد ، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة
والله المستعان ، ولا قوة إلا بالله "
"مفتاح دار السعادة" (2/15) .
ومن هنا علم العقلاء أن الدنيا دار نصب وتعب ، فمهما كان فيها من النعيم والراحة ، فهي أشبه بالسجن ، بل هي سجن حقيقي ، ما دامت تحبسه عن نعيم الجنة :
روى مسلم (2956) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ ) .
غير أن العاقل الموفق يوازن بين حاجات الدنيا ، ومصالح الآخرة
فيعطي كل ذي حق حقه
كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ويضبط سيره بحدود الله التي حدها لعباده ؛ فما فاتك من الدنيا لأجل ما أنت فيه من التزامك بأمر دينك
فاعلمي أن الله تعالى بمنه وكرمه يعوضك من نعيم الدنيا والآخرة ، ما هو خير منه وأعظم قدرا .
وليس هناك ما يمنعك من أن تمارسي الرياضة التي تناسبك وأنت في بيتك ، أو في حديقة منزلك ، أو في مكان خاص بالنساء ، لا يدخله ، ولا يطلع عليه أحد من الرجال .
كما أن قيامك بواجبك في المنزل ، وحرصك على صلواتك ، والإكثار من نوافلها ، كل ذلك من شأنه أن يعطي لبدنك راحة ، ويعوضك عما فاتك من شغل الجسد .
وأما أن أصدقاءك قد بدؤوا يملونك ، ويتركون صحبتك ، فاعلمي ـ يا أمة الله ـ أن من وجد الله ، فقد وجد كل شيء ، ومن فقد الله ، فقد فقد كل شيء ؛ فلا قيمة لشيء
أو لأحد تجدينه ، إذا كان يبعدك عن الله . ثم اعلمي أن القلوب بيد الرحمن جل جلاله ، يقلبها كيف يشاء
فاطلبي ما عنده سبحانه ، وسوف تجدين القلوب الصالحة تطلبك أنت وتبحث عنك ، وأما غير الصالحين : فلا تأسي عليهم ، ولا تحزني على فراقهم .
روى الترمذي (2414) ـ وصححه الألباني ـ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنْ اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلَا تُكْثِرِي عَلَيَّ !!
فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ : سَلَامٌ عَلَيْكَ
أَمَّا بَعْدُ ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ ) . وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ .
ولا تنسي أن راحتك ، وهناءة بالك تحصلينها ، أعظم ما تحصلينها ، بذكر الله : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) الرعد/28 .
نسأل الله أن يزيدك إيمانا ويقينا وهدى ، وأن يثبتك على الحق ، ويشرح صدرك بنور الإيمان ، ويوفقك لما يحب ويرضى من القول والعمل .
والله أعلم .