قصة قارون
قال تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:76-83].
قارون
فتح الله عليه أبواب النعيم، وسبل الرزق، وطرق الكسب، فعظمت أمواله، وكثرت كنوزه، وفاضت خزائنه، وأوتي بسطة في الرزق، ورخاء في العيش، وكثرة في المال؛ فعاش في ترف وبذخ، وكبرٍ وبطرٍ، وفخر وخيلاء. طغى وتجبّر، فسق وتمرّد، تطاول وتمادى، زاد نهمه، وكثر خدمه، وعظم حشمه، حتى ظن أن لن يقدر عليه أحد، عميت بصيرته، وعظم زهوه، وزاد غروره، واغتر به كثير من الناس، ورنت إليه بعض الأبصار، وتمنت مكانه فئام من البشرية. فلما بلغ الأمر مبلغه، والفتنة أشدّها، والتمادي منتهاه، حلت العقوبة، وكانت الفاجعة، ونزلت الكارثة، وعظمت العبرة.
فمن هو هذا الغني، ومن يكون ذلك الثري، وما هي قصته، وكيف كانت نهايته؟!!
استمع الآن إلى البيان المعجز، والخبر الصادق، والنبع الصافي، ليروي لك القصة، ويسرد لك الحكاية، ويُعلمك بالنهاية:
قال الله تعالى: إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة[القصص:76].
بدأت القصة بتحديد البطل؛ فبطل القصة: قارون، وحددت قومه من قوم موسى، ويقال ابن عم موسى عليه السلام، وقررت مسلكه مع قومه، فهو مسلك البغي، وقررت سبب ذلك البغي، وهو الثراء وكثرة الأموال.
فقارون موجود في زمن نبي من أنبياء الله وهو موسى عليه السلام، وهنا إشارة إلى أمرين مهمين:
الأمر الأول: أن قارون لم يستفد من وجود هذا النبي الكريم، ولم يتعظ بمواعظه، ولم يستجب لدعوته، ولم يتخلق بأخلاقه.
والأمر الثاني: الإشارة إلى أن قرابته لموسى، وصلته به، لم تغن عنه شيئاً من عذاب الله تعالى.
فبغى عليهم فلم يحدد نوع ذلك البغي، وهذه إشارة على عظمته وشناعته وتنوعه. بغى عليهم بالكبر، بغي عليهم باغتصاب أموالهم، بغى عليهم بمنعهم حقوقهم في هذا المال، بغى عليهم بالظلم بغى عليهم بكل ما تحمله كلمة البغي من معانٍ.
وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، آتيناه فالرزق من عندنا، والمال من لدنا، وليس بمهارة قارون، ولا بعلمه، ولا بأفضليته، فالأرزاق بيد الله، وهو الذي يقسم أرزاقه على عباده، وليس في إعطائه للعبد دلالة على رضاه عنه، وليس في منعه عن العبد دلالة على سخطه عليه، بل قد يكون الأمر على العكس من ذلك.
هو الرزق لا حل لـديك ولا ربط ولا قلم يجـدي عليـك ولا خط
فطير يطوف الأرض شرقاً ومغرباً وآخر يعطى الطيبات ولا يخطو
يقال: إن مفاتيح خزائن قارون إذا انتقل من مكان إلى مكان كانت تحمل على ستين بغلاً أغرّ محجلاً.
هذا هو المشهد الأول من مشاهد القصة، رجل من قوم موسى وصل إلى قمة الثراء، بغى على قومه.
المشهد الثاني: مشهد أهل الخير الصلاح، والنصح والإرشاد، والعلم والهدى، قاموا بمسؤولية البلاغ، وواجب النصيحة، فحينما رأوا قارون تمادى في طغيانه، وزاد في بغيه، مع غرور واستئثار، وبطر واستكبار، حاولوا أن يثيروا فيه روح الخير، وينبهوه من غفلته، فنصحوه أن لا يغويه المال، ولا يغره الثراء، فيحول بينه وبين الإحسان إلى قومه، والمراقبة لربه، والأخذ من الدنيا بنصيب، ومن الآخرة بنصيب فإن لله حقاً، وللناس حقاً، وللنفس حقاً، وللزوجة حقاً، فيجب أن يعطى كل ذي حق حقه. ونهوه عن الفرح الذي يدفع إلى الزهو والغرور، وبينوا له أن الله تعالى يمقت الفساد والمفسدين، وأن هذا المال ظلّ زائل ووديعة مستردة، فلا يفرح ولا يغتر، بل يجب أن يتخذه وسيلة لقضاء مآربه في الدنيا، وطريقاً لسعادته في الآخرة. وقد أوجز القرآن لك الموعظة البليغة التي وعظ بها قارون، فقال تعالى: إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين [القصص:77].
فماذا كانت ثمرة الموعظة ونتيجة النصيحة؟ أجابهم بجملة واحدة ولكنها تحمل شتى معاني الفساد والإفساد، جملة تحمل في طياتها الكبر والبغي والطغيان قال إنما أوتيته على علم عندي.
أوتيته بعلمي، بمهارتي، بقدراتي، بأفضليتي واستحقاقي لهذا المال، فكان متطاولاً في كلامه، جافياً في رده، جريئاً في مقولته؛ مقولة المغرور المطموس الذي نسي مصدر النعمة، وتنكر لصاحب الفضل، وكفر بمن يستحق الشكر.
ولذلك جاء التهديد والإشارة بالوعيد، والرد على مقولته الفاجرة، جاء ذلك قبل تمام الآية، ونهاية القصة، فقال تعالى: أولم يعلم أن الله أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون[القصص:78].
كانت المشاهد الأولى تحكي البغي والتطاول، والإعراض عن النصح، والتعالي عن العظة، والإصرار على الفساد، والاغترار بالمال، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران.
ثم يجيء بعد ذلك مشهد من مشاهد القصة، وهو المشهد الذي يخرج فيه قارون على قومه في زينته، وكأنه بذلك يكيد للذين نصحوه ويستخف بمشاعرهم، ويبالغ في إيلامهم، فيخرج في منتهى الزينة، وغاية الكبر، ونهاية الغرور، فتطير لذلك قلوب فريق من القوم، وتتهاوى أنفسهم لمثل ما أوتي قارون، ويرون أنه صاحب حظ عظيم، وخير عميم، وذلك لأنهم أصحاب نظرية مادية، وأفكار دنيوية.
فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم[القصص:79]. وهنا يتدخل أهل العلم والحكمة مرة أخرى، ويتأنقون في النصيحة، ويجتهدون في الموعظة، قال تعالى: وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون[القصص:80].
فذكّروهم بالرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثوابه، والفرح بعبادته، فجيب أن يكونوا أعلى نفساً، وأكبر قلباً، ولا يلقاها إلا الصابرون الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم، الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الفقر ومعاناته، الصابرون على شظف العيش ومقاساته، الصابرون على الحرمان من كثير من متع الدنيا، لأنهم علموا أن الصابرين يوفّون أجورهم بغير حساب.
ثم يجيء المشهد المرعب في القصة، مشهد الخاتمة المشينة، والمصرع الوخيم، والانتقام العظيم فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين [القصص:81].
هكذا كانت النهاية بعد أن عظمت الفتنة، واشتدت المحنة. هذه نتيجة الكبر والبطر والغرور والخيلاء، والجحود والإصرار، والتألي على عباد الله، ابتلعته الأرض، وساخت فيها أمواله وقصوره.
يقول : ((بينا رجل فيمن كان قبلكم خرج في بردين أخضرين يختال فيهما، أمر الله فأخذته، فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة)) [رواه أحمد].
وبعد هذه النهاية الخاسرة، أصبح الذين تمنوا مكان قارون يحمدون الله أن منَّ عليهم ونجاهم من الخسف، قال تعالى: وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون [القصص:82].
ثم تختم القصة بهذا المقطع الجميل الذي يؤكد أن الفوز والفلاح هو في الدار الآخرة وأن الله تعالى يجعل جناتها ونعيمها، وأنسها وسرورها وأنهارها وحورها، لأهل الإيمان والتواضع والتقوى والإحسان، والبعد عن الفساد، قال سبحانه: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين [القصص:83].
بعض الدروس المستفادة من القصة:
1- أن نسب الإنسان وحسبه لا يغني عنه من الله شيئاً.
2- أن الرزق هو من عند الله تعالى فهو مقدر الأقدار، ومقسم الأرزاق.
أما ترى البحر والصياد منتصبٌ لرزقـه ونجـوم الليـل محتبكـه
قد غاص في لُجة والموج يلطمه وعينه لـم تزل فـي كلكل الشبكة
حتى إذا بات مسـروراً بليلتـه بالحوت قد شق سفّود الردى حنكه
شراه منه الذي قـد بات ليلتـه خِلْواً من البرد في خير من البركه
سبحان ربي يعطي ذا ويحرم ذا هـذا يصـيد وهذا يأكـل السمكه
3- عدم الفرح بالدنيا، فرح زهو وكبر وغرور، فإن هذه هي المهلكة الكبرى، والداهية العظمى، فالكبر والغرور عاقبتها وخيمة.
يقول أحد المتكبرين:
أتيه على جن البلاد وإنسـها فلو لم أجـد خلقاً لتهت على نفسـي
أتيه فما أدري من التيه من أنا سوى ما يقول الناس فيّ وفي جنسي
4- مقياس السعادة والسرور في الدنيا هو بطاعة الله تعالى والإحسان إلى عباده، وليست السعادة ولا الريادة بكثرة الغنى.
5- أن الإسلام يدعو إلى إعمار الأرض والسير في مناكبها، والأخذ بنصيب من الدنيا، ولكن يجعل ذلك كله طريقاً إلى الدار الآخرة، ويحسن الإنسان كما أحسن الله إليه.
6- أن الفساد وأهله ممقوتون بعيدون من محبة الله. فويل لمن سخّروا أموالهم لإفساد عباد الله، أين يذهب أصحاب الأموال الطائلة من ربهم، وقد سخروا أموالهم في إفساد الناس، ونشر الفاحشة، والدعوة إلى الرذيلة؟!
7- يجب على أهل العلم والخير أن يقوموا بمسؤولية الدعوة وواجب النصيحة.
8- أن الصبر سبب للخير والفلاح، والتوفيق والنجاح في الدنيا والآخرة.
9- أن العاقبة للمتقين، والفوز للصالحين، والآخرة للمؤمنين المجتهدين المتواضعين.
قارون ...دروس وعبر
لنشرع في شرح الآيات الكريمات، فإنها أقوى تأثيراً، وأقوم قيلاً، يقول تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ [القصص:76]، قال القرطبي : إن قارون كان من قوم موسى، قال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا [القصص:60] فبين أن قارون أوتيها، واغتر بها، ولم تعصمه من عذاب الله كما لم تعصم فرعون.
يقول: ولستم أيها المشركون! بأكثر عدداً ومالاًمن قارون وفرعون، فإنه لم ينفع فرعون جنوده وأمواله كما لم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه.
قال النخعي وقتادة وغيرهما: كان ابن عم موسى.
وقال ابن إسحاق : كان عم موسى لأب وأم، وقيل: كان ابن خالته.
ونحن نقف مع التنزيل حيث أوقفنا، فليس هناك دليل على ذلك، فنقول: إنه كان من قوم موسى، ولا نجزم بشيء لم يأت في القرآن، ولا صحت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر وصايا ونصائح قوم قارون لقارون
قال القاسمي : إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى [القصص:76] أي: من شاكلتهم في الكفر والطغيان، وقوم موسى: هم جماعته الذين أرسل إليهم وإلى طاغيتهم فرعون.
فَبَغَى عَلَيْهِمْ [القصص:76] أي: بالكبر والاستطالة عليهم؛ لما غلب عليه من الحرص ومحبة الدنيا، ولغروره وتعززه برؤية زينة نفسه، وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ [القصص:76] أي: من الأموال المدخرة، مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ [القصص:76] أي: مفاتيح صناديقه على حذف المضاف، ولا ملابسة في ذلك، وقيل: خزائنه.
لَتَنُوءُ [القصص:76] أي: تثقل، بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76] أي: الجماعة الكثيرة من الرجال والبغال، إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ [القصص:76] أي: بزخارف الدنيا فرحاً يشغلك عن الشكر فيها والقيام بحقها، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76] لما فيه من إيثار الدنيا على الآخرة والرضا بها عنها والإخلاد إليها، وذلك أصل كل شر ومبعث كل فساد.
قال الزمخشري : وذلك أنه لا يصلح للدنيا إلا من رضي بها واطمأن، وأما من قلبه معلق بالآخرة فإنه يحن ويعلم أنه مفارق ما هو فيه عن قريب لم تحدثه نفسه بالفرح، وما أحسن ما قيل:
أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالاً
أي: يعيش في نعيم، ومع ذلك فإنه يوقن بأنه سيفارق هذا النعيم، وهذا يورثه شيء من الغم، فإن الإنسان في زينة في الدنيا وفي راحة، فإذا أيقن بأنه سوف ينتقل من هذه الزينة والراحة، حصل له شيء من الغم، أما في الآخرة يبشر أهل الجنة بدخول الجنة والخلود فيها، فلا يتكدر عيشهم، ولا يخرجون من هذا النعيم.
قوله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
قال الرازي ما ملخصه: ثم إنه تعالى بين أنه كان في قومه من وعظه بأمور:
أحدها: قوله تعالى: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76] والمراد: ألا يضحك ولا يبطر، ولا يلهيه تمسكه بالدنيا عن أمر الآخرة.
وثانيها: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ [القصص:77] والظاهر: أنه كان مقراً بالآخرة، والمراد: أن يصرف المال في السبل التي تؤدي به إلى الجنة، وأن يسلك طريق التواضع.
ومعلوم أنه ليس كل من يقر بالآخرة يكون من أهل النجاة؛ لأن الإنسان قد يقر بالآخرة ولكنه لا يعمل لها، فهذا لا ينفعه الإقرار.
ثالثها: قوله تعالى: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] فيه عدة أوجه:
الوجه الأول: لعله كان مستغرق الهم في طلب الدنيا، فلم يتفرغ للتنعم والالتذاذ، فنهاه الواعظ عن ذلك وقال: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]؛ لأن كثيراً من الناس يجمعون المال، وتجده فعلاً لا يتمتع بالدنيا، مثل كثير من الأطباء الذين يعملون في المستشفيات، فإن الواحد منهم يمتلك عدة عبادات وينشغل بعدة عمليات جراحية، فتجده يشتغل في الدنيا وفي جمع المال، فيومه كله جمع للمال، فمتى يستفيد بهذا المال ويتمتع به؟
فلعل قارون أيضاً كان مستغرق الهم في جمع المال، فلم يجد فرصة للتمتع بهذا المال؛ ولذلك قال له الناصح: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] يعني: تمتع بهذا المال قبل أن تتركه.
الوجه الثاني: لما أمره الواعظ بصرف المال في سبيل الآخرة بين له أنه لا بأس بالتمتع به في الوجوه المباحة، فالإنسان يعمل للآخرة ولكنه لا يحرم نفسه زينة الدنيا، بل يجوز له أن يتمتع بهذه الدنيا في حدود ما أباح الله عز وجل وشرع.
الوجه الثالث: المراد من قول الواعظ: الإنفاق في طاعة الله عز وجل، فإن ذلك هو نصيب المرء من الدنيا دون الذي يأكل ويشرب.
رابعها: قوله تعالى: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77] أمره بالإحسان بالمال، وأمره بالإحسان مطلقاً، فقوله: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ [القصص:77] يعني: من المال، ثم أمره بالإحسان مطلقاً في كل أمر من أموره، ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر، فإن الله سبحانه يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] يعني: إذا أحسنت أحسن الله عز وجل إليك، فإن هذا الشكر يستوجب المزيد من الخير والنعمة.
خامسها: قوله: وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ [القصص:77] والمراد: ما كان عليه من الظلم والبغي، وقيل: إن هذا القائل هو موسى عليه السلام، وقال آخرون: بل هو مؤمن قومه.
ومع كل هذه النصائح أبى قارون أن يقبل، بل زاد كفراً بالنعمة فقال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، فلم ينسب الفضل إلى الله عز وجل، بل قال: عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، قيل: كان عنده علم الكيمياء وحصل به هذا المال، أو أن الله عز وجل أعطاه، وهو على علم بأن الله سيعطيه لاستحقاقه هذا المال.
أقوال المفسرين في قوله تعالى (إنما أوتيته على علم عندي)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبراً عن جواب قارون لقومه حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] أي: أنا لا أفتقر إلى ما تقولون، فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني أستحقه ولمحبته لي، والتقدير: إنما أعطيته لعلم الله في أني أهل له، وهذا كقوله تعالى: فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ [الزمر:49].
فالإنسان إذا أعطاه الله نعمة اعتقد أن الله عز وجل أعطاه لأنه يعلم حاله، فأعطاه هذا من باب التكريم.
فقوله: عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] أي: على علم من الله بي، كما قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي [فصلت:50] أي: أستحقه.
وقد روي عن بعض المفسرين في قوله: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] أنه كان عنده علم الكيمياء، وهذا القول ضعيف؛ لأن علم الكيمياء في نفسه علم باطل؛ وقلب الأعيان لا يقدر أحد عليه إلا الله عز وجل.
وقال بعض المفسرين: قارون كان يعرف الاسم الأعظم، فدعا الله به فتمول بسببه، أي: حصل له هذا المال العظيم، وهذا القول ضعيف أيضاً.
والقول الصحيح هو المعنى الأول: على علم عندي؛ ولهذا قال الله تعالى رداً عليه فيما ادعاه من اعتناء الله به: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا [القصص:78].
فكل من عنده مال ليس معناه: أن الله عز وجل يحبه، وأنه أعطاه هذا المال على علم منه بأنه يستحق هذا المال؛ لأن الله تعالى يقول: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا [القصص:78]؛ أي: قد كان من هو أكثر منه مالاً، وما كان ذلك من محبة منا له، وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم؛ ولهذا قال: وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78] أي: لكثرة ذنوبهم.
وقال القاسمي : وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78]؛ أي: لا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤال يعتذر عنه، بل متى حق عليهم القول لفسقهم أهلكهم بغتة بلا معاتبة وطلب عذر.
إعجاب قوم قارون بزينة قارون وإهلاك الله له
ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بذلك، ولا بنصيحة قومه، فقال سبحانه: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:79-80].
قال ابن كثير : ذكر كثير من المفسرين: أنه خرج في تجمل عظيم من ملابس ومراكب وخدم وحشم، فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا تمنوا أن لو كانوا مثله، وغبطوه لما عنده، فلما سمع مقالتهم العلماء وذوو الفهم الصحيح من الزهاد قالوا لهم: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص:80] أي: ثواب الله في الدار الآخرة خير وأبقى وأجل وأعلى.
وهذه الهمة إلى الدار الآخرة عند النظر إلى زهرة الدنيا لا يلقاها إلا من استنار قلبه، وثبت فؤاده؛ لذلك قال تعالى: وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80] يعني: لا يعطى هذا العلم وهذا الفهم، وهذا النظر الثاقب والمعرفة بحقارة الدنيا وقيمة الآخرة إلا الصابرون الذين هداهم الله عز وجل ووفقهم، وما أحسن ما قال بعض السلف: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات.
قوله تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81].
قال الشوكاني : فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص:81] يقال: خسف المكان يخسف خسوفاً: ذهب في الأرض، وخسف به الأرض حتفاً أي: غاب فيها، والمعنى: أن الله سبحانه غيبه وداره وماله في الأرض، فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [القصص:81] أي: ما كان له جماعة يدفعون ذلك عنه، وما كان هو في نفسه من المنتصرين، أي: من الممتنعين مما نزل به من الخسف.
قوله تعالى: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:82] قال الزمخشري : قد يذكر الأمس ولا يراد به اليوم الذي مضى، وإنما يراد به: الماضي، فقوله: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ [القصص:82] أي: في الوقت الماضي وهذه الجملة تحتمل الاستعارة، يعني: كأنه قال: في الماضي القريب كانوا يقولون: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79] فعند ذلك حمدوا الله عز وجل، وعرفوا أن الدنيا يبسطها الله عز وجل لمن يشاء من عباده، ولولا أن الله رفق بهم لخسف بهم؛ لأنهم تمنوا ما هو فيه.
وقوله: مَكَانَهُ بِالأَمْسِ [القصص:82] أي: منزلته في الدنيا، قوله: يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ [القصص:82] (وي) مفصولة عن كأن، وهي كلمة تشير إلى الخطأ والتندم، والمعنى: أن القوم قد تنبهوا لخطئهم في تمنيهم وقولهم: لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79] فندموا على هذا التمني، ثم قالوا: وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:82] أي: ما أشبه الحال بحال الكافرين الذين لا ينالون الفلاح وهو مذهب الخليل وسيبويه فقال كقول القائل:
ويكأن من يكن له نشب يحبب ومن يفتقر يعش عيش ضر
وحكى الفراء أن أعرابية قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت.
وعند الكوفيين: ويك بمعنى: ويلك، والمعنى: ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون، فعلى قولهم تصير الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى وي، كقول عنترة بن شداد :
ويك عنتر أقدم
وقال القاسمي : وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [القصص:82] أي: من شقي وسعيد، ويقدر أي: يقبض، فلا دلالة في البسط على السعادة، ولا في القبض على الشقاوة، بل يفعل سبحانه كلاً من البسط والقدر بمحض مشيئته، لا لكرامة تقتضي البسط، ولا لهوان يقتضي القبض، فالمال لا يدل على الرضا ولا على غضب.
فقد يكون الإنسان تقياً وعنده مال كثير، وقد يكون تقياً فقيراً جداً، وقد يكون فاجراً وليس عنده مال، وقد يكون فاجراً وعنده مال كثير، فالله عز وجل يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ولا علاقة في ذلك بالصلاح أو بالمحبة من الله عز للشخص الذي له بسط له في الرزق.
قال تعالى: لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا [القصص:82] أي: بعدم إيتائه متمنانا، لَخَسَفَ بِنَا [القصص:82] كما خسف به، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:82] أي: الكافرون بنعمة الله في صرفها في غير سبيلها، أو المكذبون برسله اغتراراً بدنياهم.
ثم عقب الله عز وجل هذه القصة بالعبرة الظاهرة، وذكر السنة التي لا تبدل والقانون الذي لا يتغير ولا يتحول، فقال: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
فالدنيا أصلاً ليست هدفاً للمؤمن، فهو لا يطلب الدنيا لتعلم العلم، أو للحصول على الشهادات العالية، ولا يطلبها لكي يكون إنساناً مشهوراً، أو غنياً، فهي ليست مقصوده.
فالآخرة هي مقصود المتقين وهدفهم، إذ إن المتقي يريد أن يعلو في الآخرة، سواء ارتفع في الدنيا أو لم يرتفع؛ لذلك يقولون: من أحب أن يذكر في الدنيا لم يذكر، ومن كره أن يذكر في الدنيا ذكر.
قال القرطبي : تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ [القصص:83] يعني: الجنة، قال ذلك على جهة التعظيم لها، فكلمة تلك تشير إلى البعيد؛ لقوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] أشار إلى علو منزلة جميع الرسل. فمعنى قوله: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ [القصص:83] تلك التي سمعت ذكرها وبلغك وصفها، نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ [القصص:83] أي: رفعة وتكبراً على المؤمنين، وَلا فَسَادًا [القصص:83] أي: عملاً بالمعاصي. قاله ابن جريج ومقاتل . وقال عكرمة ومسلم : الفساد: أخذ المال بغير حق، وقال الكلبي : ضاف إلى غير عبادة الله، وقال يحيى بن سلام : هو قتل الأنبياء والمؤمنين. وعاقبة المتقين قال: الجنة.
وقال ابن كثير : ثم أخبر تعالى أن الدار الآخرة هي دار القرار وهي الدار التي يغتبط من أعطيها، ويعزى من حرمها، إنما هي معدة للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، فالعلو: التكبر والفخر والأشر والبطر، والفساد: عمل المعاصي اللازمة والمتعدية من أخذ أموال الناس وإفساد معيشتهم، والإساءة إليهم وعدم النصح لهم، قال تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، فهذه بعض الفوائد الإيمانية في قصة قارون .
اختلاف أقوال المفسرين في قوله تعالى (وابتغ فيما آتاك الله...)
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] أي: اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة، فإنه من الواجب على المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في التجبر والبغي.
ولذلك يقول بعض السلف: نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن وذلك لأنه عمل فيها قليلاً وأخذ منها زاده إلى الجنة، وبئست الدار الدنيا كانت للكافر والمنافق؛ وذلك لأنه أضاع فيها لياليه وأخذ منها زاده إلى النار.
وقوله تعالى: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] اختلف تفسيرها، فقال ابن عباس والجمهور: لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملاً صالحاً في دنياك، إذ الآخرة إنما يعمل لها، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح.
فالكلام على هذا التأويل فيه شدة في الموعظة.
وقال الحسن وقتادة : معناه: لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك في عاقبة دنياك.
فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به، وإصلاح الأمر الذي يشتهيه. وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة، قاله ابن عطية .
فهو إن كان من أهل الدنيا والرغبة فيها يبين له الناصح أنه لا يطلب منه أن يترك كل ما في الدنيا، وألا يتمتع بشيء من طيباتها.
قلت: وهذان التأويلان قد جمعهما ابن عمر في قوله: أحرز لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، وهذا القول يرويه بعض الناس مرفوعاً، أي: منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الواقع: هو من كلام ابن عمر رضي الله عنهما، وأحياناً يضع أناس في الأسانيد، أو يظنون أن شيئاً من كلام السلف وحكمهم هي أحاديث مرفوعة، فينسبونها ظلماًً وزوراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مثال ذلك: ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه، هذا من كلام بكر بن عبد الله المزني ، والناس ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن الحسن قال: قدم الفضل، وأمسك ما يبلغ، يسألونك ماذا ينفقون، فالإنسان ينفق الفضل من ماله، وينفق ما يبلغه قدر الكفاية.
وقال مالك : هو الأكل والشرب بلا سرف.
وقيل: أراد بنصيبه الكفن، وهذا فيه موعظة، كأن المعنى: لا تنس أنك ستترك جميع مالك إلا نصيبك من هذه الدنيا وهو الكفن، ونحو هذا قال الشاعر:
نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط
فالحنوط: الطيب الذي يوضع للميت، وكأنه يقال للإنسان: لن تأخذ من الدنيا إلا الكفن والحنوط.
وقال آخر:
هي القناعة لا تبغي بها بدلاً فيها النعيم وفيها راحة البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن
والأفضل أن يقول: بغير الزاد والكفن.
قال ابن العربي : وأبدع ما فيه عندي: قول قتادة : ولا تنس نصيبك الحلال، فهو نصيبك من الدنيا.
ذكر قارون في القرآن الكريم والسنة وذم الله له
قال ابن كثير : وقد ذكر الله تعالى فذم قارون في غير ما آية من القرآن، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر:23-24].
فقارون كذب بموسى وكذب بالآخرة فهو كافر، كذلك النصارى يكذبون بالآخرة فهم كفار، فليس كل إنسان يقر بالآخرة يكون بذلك محسناً.
وقال تعالى في سورة العنكبوت بعد ذكر عاد وثمود: وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:39-40].
فالذي خسف الله به الأرض قارون -كما تقدم- والذين أغرقهم الله فرعون وهامان وجنودهما إنهم كانوا خاطئين.
كذلك روى الإمام أحمد قال: حدثنا أبو عبد الرحمن قال: حدثنا سعيد قال: حدثنا كعب بن علقمة عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: (من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)، انفرد به الإمام أحمد .
ولذلك يقولون: من شغله المال كان مع قارون ، ومن شغله الحكم أو السلطان كان مع فرعون ، ومن شغلته الوزارة كان مع هامان ، ومن شغلته التجارة كان مع أبي بن خلف .
قال الدكتور أحمد جمال العمري : تمثل قصة قارون في القرآن الكريم جانب الطغيان بالمال، والغرور بالعلم، وكيف مآلهما إلى الفناء إذا تطوقت الأهواء، وسيطرت الأطماع، وتحول الإنسان من مجرد مخلوق من مخلوقات الله إلى متجبر متكبر يعلو بنفسه فوق الناس، ويزهو ويتعالى عليهم، وينظر إليهم بمنظار الاستعلاء والاستكبار.
وقد وردت هذه القصة في القرآن على سبيل العظة والعبرة في إثبات أن كل شيء مآله إلى الزوال، وأن الباقي هو وجه الله ذو الجلال والإكرام.
ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: في كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب، ويظهر الذين يريدون الحياة الدنيا، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها، فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته، ولا بأي وسيلة نال ما نال من عرض الحياة من مال أو منصب أو جاه، ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها.
إن الكثير من أصحاب الأموال يصلون إلى الملك بطرق محرمة، فهم يستبيحون لأنفسهم أشياء حرمها الله عز وجل، إما بتجارات محرمة، أو بالظلم والبغي أو بالنفاق.
قال: فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم حياتهم، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع، وهم أعلى نفساً وأكبر قلباً من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعاً، ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد، وهؤلاء هم الذين أوتوا العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم.
قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80].
يقول: ثواب الله خير من هذه الدنيا، وما عند الله خير مما عند قارون ، والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلا الصابرون .. الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم، الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون، وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة، درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض، والتطلع إلى ثواب الله في رضا وثقة واطمئنان.