يحمل البريد كل أسبوع نحوا من ثلاثين رسالة يبعث بها إلي سامعو أحاديثي في الإذاعة وقراء مقالاتي في الصحف ولكني لم أجد فيها كلها مثل الرسالة التي تلقيتها أمس. رسالة من أم، جاءتني في "يوم الأم" ليس فيها من فصاحة اللفظ شيء ولكنها في البلاغة آية من الآيات وهل البلاغة إلا أن تقول ما يصل بك إلى الغاية ويبلغ بك القصد؟ تقول هذه الأم أنها سمعت بعيد الأم ولكنها لم تره وعرفت شقاء الأم بالولد ولكنها لم تعرف بر الولد بالوالدة وهي لا تشكو عقوق ولديها فهما صغيران ما بلغا سن العقوق ولكنها تشكو ضيق ذات اليد وفقد المسعد والمعين، وأنها تصبر النفس حينا ويتصرم أحيانا صبرها، وتسألني أتطلق الولدين من أسر المدرسة وتبعث بهما يتكسبان دريهمات تعينهما على العيش؟ وتسأل ماذا تجني منهما إن درسا وهي لا تملك ثمن كساء المدرسة ولا نفقاتها؟ فكيف يستطيعان أن يكملا الدرس ويتما التحصيل وهما بالثوب البالي والجيب الخالي.
وما تمنيت أن أكون غنيا إلا اليوم، لأستطيع أن أواسيها باليد والمال، لا بالقلم واللسان، ولكني أديب لا يملك إلا قلبه ولسانه، وهاتان كلمتان من القلب كلمة لها هي، وكلمة للمستمعين.
أما الكلمة التي هي لك، فهي قصة ولكنها قصة لم يخترعها خيال كاتب، ولم يؤلفها قلم أديب بل ألفت فصولها الحياة وجئت أرويها كما كانت.. أرويها لتعلمي وتعلم كل أم بائسة وكل ولد نشأ في الفقر أن المجد والعلاء رهن بأمرين: بتوفيق الله أولا، والله يوفق كل عامل مخلص، وبالعلم والجد ثانيا. واسمعي الآن القصة: كان في دمشق نحو أربعين سنة عالم جليل القدر كريم اليد موفور الرزق داره مفتوحة للأقرباء والضيوف وطلبة العلم وموائده ممدودة، وكان من ذوي المناصب الكبار والمكانة في الناس. ونشأ أولاده في هذا البيت لا يعرفون ذل الحاجة ولا لذعة الفقر ولكنهم أصبحوا يوما – الولد الكبير البالغ من عمرة ست عشرة سنة، وإخوة له تتراوح أعمارهم بين عشر وبين شهر- أصبحوا وقد توفي والدهم. وارتفع الستر فإذا التركة ديون للناس فباعوا أثاث الدار كله ليوفوا الدين ثم تركوا الدار الفسيحة ونزلوا تحت الرصاص يفتشون عن دار يستأجرونها فوجدوا داراً ... أعني كوخا .. زريبة بهائم، مخزن تبن في حارة قرب المكان الذي يسميه الناس من التوائه وضيقه " محل ما ضيع القرد ابنه" هذا هو اسمه صدقيني. في غرفتين من اللبن والطين، في ظل دار عالية لأحد موسري الحارة تحجب عن الغرفتين الشمس والضياء فلا تراهما قط الشمس، ولا يستطيع أن يدخلهما الضوء، ليس فيهما إلا ماء ساقية وسخة عرضها شبران وعمقها اصبعان، تمشي مكشوفة إلى هذه الحارة تتلقى في هذا الطريق الطويل كل ما يلقى فيها من الخيرات الحسان ... وليس فيها نور إلا نور مصباح كاز نمرة ثلاثة ... يضيء تارة ويشحر تارات.. والسقف من خشب عليه طين، إن مشت عليه هرة ارتج واضطرب، وإن نزلت عليه قطر مطر وكف وسرب. هنالك على أربعة فرش مبسوطات على الأرض متجاورات ما تحتهن سرير، تغطيهن البسط والجلود كان ينام هؤلاء الأولاد الذين ربوا في النعيم وغذوا بلبان الدلال، تسهر عليهم أم مثلك حملت ما لم تحمله أم، تدرأ عنهم سيل البق الذي يغطي الجدران وأسراب البعوض التي تملأ الغرفة والماء الذي ينزل من السقف. تظل الليل كله ساهرة تطفئ بدمع القلب حرق القلب، تذكر ما كانت فيه وما صارت إليه، والأقرباء الموسرون الذين لم يكونوا يخرجون من دار الوالد كيف تخلو عن الأولاد وأنكروهم حتى جاءوا يوما يزورون جار الدار الموسر يهنئونه بالعيد ولم يطرقوا والله عليهم الباب، لم يعنها أحد ولم يسعدها إلا أخ لها في مصر أمدها بجنيهات مصرية قليلة لم يكن يطيق أكثر منها. في هذا الجو يا سيدتي .. وماذا تظنين هذا الجو؟ فيه أقبل الولد واخوته على الدرس والتحصيل ... وكانت أطراف البلد للثوار، ليس للفرنسيين إلا وسط المدينة. فكانوا يمرون على الموت في طريقهم إلى المدرسة كل يوم يخترقون جبهة الحرب القائمة، وصبروا ووثقوا بالله وأعانهم الله ووفقهم حتى صاروا.. ما تقدرين أنهم صاروا الآن؟ صار الولد الثاني قاضيا، وصار أديبا شاعرا مصنفا، والثالث أستاذا كبيرا موفقا وداعية وأديبا، أما الولد الأكبر فلا أقول عنه شيئا لأن شهادتي فيه مردودة فهو الذي لا أفارقه أبدا، والذي أكون معه ليلي ونهاري وأراه كلما نظرت في المرآة وهو فوق ذلك يحمل اسما مثل اسمي. وما قصصت هذه القصة إلا تسلية لك وتهوينا عليك ولتوقني أنه ربما كان ينتظر ولديك هذين اللذين لا يجدان الغذاء والكساء، ينتظرهما مستقبل يحسدهما عليه أبناء الأغنياء. فقولي لولديك ألا يخجلا إن لم يجدا الثوب الأنيق، أو الكتاب الجديد، أو المال الفائض، فإن أكثر النابغين كانوا من أبناء الفقراء.. وكاتب هذه السطور وإن لم يكن من النابغين الذين تضرب بهم الأمثال كان يجيء إلى المدرسة الثانوية بالبذلة التي فصلتها له أمه من جبة أبيه، وقد عجز عن أداء رسم شهادة الحقوق فساعده عليه بعض المحسنين. وأنا أعرف والله في أعلام البلد اليوم من نشؤوا في أشد الفقر، ثم نالوا بالعلم أوسع الغنى، وأعلى المناصب. وأنا أعرف محكمة صار ابن آذنها قاضيها، وابن رئيسها شيئا كالآذن فيها.
أما الكلمة التي هي للمستمعين الذين كانو الليلة البارحة - عندما أرعدت السماء وأبرقت وأمطرت – كانوا على المقاعد المريحة في الغرف الدافئة فلم يعرفوا ما حال الفقراء في تلك الليلة. إني أقول لهم: إن في البلد في حيكم بين جيرانكم كثيرات من أمثال السيدة التي كتبت إلي... وإن في البلد من يرتجف هذه الليلة من البرد في البيوت التي ثلجها الشتاء، وإن هنالك تلميذات وتلاميذ يقرؤون بعيون تزيغ من الجوع والقر، ويكتبون بأصابع محمرة من البرد. وإن في هؤلاء من لو أمد بالطعام واللباس وأعين على الدراسة لكان عبقريا تعتز بمثله الأوطان وتسمو الأمم، واذكروا أن بين أجراء الخبازين وصبية المحامين من خلق ليكون من كبار العلماء وأفراد النابغين ولكن الفقر عطل مواهبه وسد أمامه طريق النبوغ فلم يجد ذكاؤه مسربا يسرب منه إلا الإجرام. إن الذي ينفقه الأغنياء على الترف والسرف يكفي لتعليم كل ولد في البلدة وإطعام كل جائع وإسعاف كل فقير. إن عرسا واحدا من إعراس الموسرين الكبار تكفي نفقاته لإطعام عشر عائلات شهرا كاملا، وما ينفق في الجنائز يفتح كل سنة مستشفى مجانيا للفقراء، وأثمان الحلوى في أعياد الميلاد تنشئ كل سنة مدرسة تتسع لخمسمائة تلميذ، وما تشترى به هذه الثريات الفخمة أو في الملاهي والموبقات يكفي لسد حاجة كل محتاج.
وأنا لا أقول دعوا هذا كله ولكن اجعلوا من أموالكم نصيبا لهؤلاء المعذبين في الأرض، فإنكم لا تدرون هل تدوم لكم أو تذهب عنكم، وإذا وثقتم ببقاء المال فهل تثقون ببقاء الصحة أتأمنون الأمراض والنوازل والنكبات؟ فاستنزلوا رحمة الله بالبذل وادفعوا عنكم المصائب بالصدقات. لو أن كل امرئ يعطي من هو أفقر منه لما بقي في الدنيا محتاج. فيا أيها المستمعون أسألكم بالله لا تدعو كلمتي تذهب في الهواء، فإني والله ما أردت إلا الخير لكم، ويا أيتها الأم التي كتب إلي، ثقي بالله فإن الله لا يضيع أحدا أبدا.