الخامس: الاقتصاد في الطاعات، وهو مقيد بأمرين:
الأول: أنه في النوافل دون الفرائض.
الثاني: أنه خاص بأصحاب الهمم العالية دون الساقطة.
ولسائل أن يسأل: لماذا الاقتصاد في الطاعات من أعظم أسباب الثبات على الهداية؛ لأن العبد إذا أجهد نفسه فوق طاقتها وحملها من الأعمال ما لا تطيق وأكثر عليها ملَّ وتعب، وترتب على ذلك أن يضيع حقوقًا كثيرة من الواجبات، وتعب وتشوش فكره وسئم ومل، وربما كره العبادة.
ومن هنا لما قال عبد الله بن عمرو: «لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت» قاله رغبة في الخير، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أنت الذي قلت كذلك؟» قال: نعم، قال: «إنك لن تطيق ذلك»، ثم أمره أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فقال: أطيق أكثر، فأمره يصوم يومًا ويفطر يومين، فقال: أطيق أكثر، فقال: «صم يومًا، وأفطر يومًا»، فقال: أطيق أكثر، قال: «لا أكثر من ذلك، هذا صيام داود»، ولكن لما كبر عبد الله بن عمرو بن العاص شق عليه الصيام فقال: يا ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صار يصوم خمسة عشر يومًا سردًا ويفطر خمسة عشر يومًا سردًا.
ومن هنا: كان الاقتصاد في الطاعات منهجًا ربانيًا نبويًا عظيمًا راعى فيه طبائع النفوس ومصالح الدين والدنيا، وأحوال الناس، وكله من تيسير الدين، ففي الحديث: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا» [رواه البخاري عن أبي هريرة].
ولذلك نقول للجميع: اجعل لك برنامجًا في نوافلك مشتقًا من يسر الدين، فقد نظم الشرع حياة الناس، وراعى ترتيب الحقوق حتى يعطي كل ذي حق حقه، ففي البخاري: «لما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع طعامًا له، فقال: كُل فإني صائم، قال: لا آكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال له: نم، فنام ثم ذهب يقوم، فقال له: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا جميعًا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: صدق سلمان».
ففي هذا دليل على أن الإنسان لا يجهد نفسه بالطاعة وكثرة العمل؛ لأنه إذا فعل ذلك أضاع الحقوق الأخرى، وتصور لو قام الليل كله لاضطر إلى نوم النهار، أضف إلى هذا أنه ربما يملّ، وكونه يبقى على العمل قليلاً لكنه لن يستمر إلا ما شاء الله، ولذلك لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة وعندها امرأة فقال: «من هذه؟» قالت: فلانة، وذكرت من صلاتها وأنها تصلي كثيرًا، فقال: «مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا»، وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه.
فلئن أصلي ركعتين بحب ونشاط ورغبة أحب إلي من مائة ركعة، وينصرف العبد وقد ملها وسئمها. ومن هنا راعى أصحاب المسلسلات والتمثيليات أن تُنهى الحلقات على أحسن مشهد يشد المشاهد، فإنه لا يزال بشوق لها حتى اليوم الآخر، لكن تصور لو أنهيت بعد أن سئمها الناس هل يمكن أن يكون عندهم شوق؟ الإجابة واضحة.
فالاقتصاد في الطاعات وفي جميع الأمور فيه خير كثير؛ لأنه إن قصر فاته خير كثير، وإن شدد سوف يمل ويعجز، فكان الغلو مذمومًا حتى في الأشياء المحمودة، ولذلك لما جاء ثلاثة نفر يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالّوها، فقال أحدهم: أنا أقوم فلا أنام، وقال الآخر: أنا أصوم فلا أفطر، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم الذين تقولون كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» [متفق عليه].
ومن هنا: قال السلف ما سبق أبو بكر الصحابة بكثرة صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكن بشيء وقر في قلبه الإيمان والتقوى، وهي أداء الفرائض والوقوف عند المحارم، فقد تجد إنسانًا عنده كثرة صلاة، ولكنه لا يقف عند حدود الله فيأكل حرامًا وينظر إلى الحرام ويسمع حراما.
فليست التقوى كثرة القيام والصيام ولكنها أداء الفرائض والوقوف عند المحارم، ولهذا تقاّل أولئك النفر عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فأقسم أنه «أخشى الناس لله وأتقاهم له»، وهذا هو الشأن كله، فربَّ رجلٍ عنده صلاة كثيرة ولكنه لا يقف عند حدود الله.