بسم اللَّهِ الرحمن الرحيم
أحمد الله مولي النعم، ومقدرها في القدم، الموصوف بالعطاء منا منه والكرم.
وصلواته على محمد النهاية في العظم، وخاتم الرسل إلى الخلائق والأمم،
وعلى آله المخصوصين بأحسن الشيم وأحكم الحكم،
وصحبه ناصري الإسلام ومظهريه في العرب والعجم.
السلام عليكم و رحمة الله وبركاته
حامد المهيري
الثقافة ملكة ومعارف، لا معنى لها إن فقد منها التقويم، والفهم الصحيح، والحذق والذكاء لتحقيق الظفر والفلاح، هي سعة علمية، يستطيع من بلغ مرتبتها أن يدرك الحقائق، في دقة وتفصيل، وأن يشارك في أمور الحياة، بوعي وبصيرة، ولكل أمة من الأمم في ثقافتها أصل وركيزة، فهي تمضي في طريق ثقافتها وعلمها، مرتبطة على الدوام بالمنبع الفكري الذي تستمد منه وتصدر عنه، وأساس الثقافة عند الأمة الاسلامية المؤمنة هو تنزيل العليم الحكيم "كتاب فصّلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون" "فصلت آية 3"، هذا الكتاب "منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا" "آل عمران آية 7".
كما أوجب الاسلام على أبنائه أن يفقهوا اللغة العربية، ما استطاعوا لأنها لغة قرآنهم ونبيهم وأجدادهم وأسلافهم الذين نشروا الاسلام، كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام، "ليفقهوا في الدين" "التوبة آية 122". والتنزيل كتاب يعمل ويقوّم ويهدي ويرشد ويذكّر ويطمئن، تتغيّر الشرائع وهو لا يتغيّر وتتبدّل الأنظمة وهو ثابت لا يتحوّل وتختلف المفاهيم وهو الحكم المفحم. قال الله تعالى "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "الحجر آية 9".
فالقرآن أساس الثقافة العامة الانسانية، إذ يعنى بالثقافة العقلية، فيحدثنا عن التشريع والتاريخ ومشاهد الطبيعة، وما وراء الطبيعة، ويستثير العقل للنظر، والتأمل والاستنباط والإدراك والاعتبار، وينوّه بمكانة العقل المؤدي إلى دقة الفهم، وصدق العلم، "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" "العنكبوت آية 43". وهو يعنى بالثقافة النفسية، فيتحدث عن القلوب والمشاعر وعن الأهواء والشهوات وعن دقائق النفوس وأغوارها وطرق تهذيبها، "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" "الذاريات آية 21"، "ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها" "الشمس آيات 7- 10". ويتحدث عن الثقافة المادية التي تيسّر مطالب الحياة ومصالح البشر فيذكر ما أنعم الله به على الانسان من نعم خافية وبادية "وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة" "لقمان آية 20".
ويدعو الانسان إلى تحصيل هذه المنافع عن طريق أسبابها ووسائلها "ولا تنس نصيبك من الدنيا" "القصص آية 77". كما تكلّم عن العقائد والعبادات والمعاملات والأفراد والأسرة والمجتمع والأخلاق والسلوك ومختلف العلاقات بين الناس، فضرب أمثلة عن كل ذلك للتذكير "ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون، قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون" "الزمر آيتان 27- 28".
لا شك أن القرآن سبب نشأة العلوم الاسلامية والعربية، فالمسلمون وضعوا النحو ليتجنبوا بالتزام قواعده اللحن في القرآن، وعنوا بالتفسير الذي نشأ ليفصّل وجوه الاعجاز والتشريع فيه، واهتموا بالحديث الذي صار علما، ليحفظ سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، التي تعتبر مذكرة تفسيرية للقرآن، واعتمدوا الفقه الذي نشأ ليستمد الأحكام من القرآن..
ولو تعمقنا في البحث لوجدنا أن مجموعة المعارف التي تتكوّن منها ثقافة الأمة كان الينبوع الذي تفجرت عنه مباشرة أو بطريق غير مباشر هو القرآن، الذي حثّ على المعرفة، وحرّض على طلب العلم، والتوسّع فيه إلى أبعد مدى. فالفرقان يذكّرنا بخلوّنا من المعرفة منذ ولادتنا، ويرشدنا إلى الوسائل التي ينبغي استخدامها في التعلم "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" "النحل آية 78".
وموقف القرآن من العلم يفسّره القرآن نفسه فإنه في موطن يخبرنا بأن ما بلغناه من العلم ضئيل قليل "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" "الإسراء آية 85" ثم يرشدنا في موطن ثان إلى أن الله هو المعلم الأكبر فتجب الاستعانة به "وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما" "النساء آية 113". ثم يحرّض على طلب المزيد من العلم والتبحّر فيه "وقل ربي زدني علما" "طه آية 114"، فالقدر الذي نحصل عليه مكن العلم قليل لا يجوز أن أن نقتصر عليه بل علينا أن نتلمس المزيد منه فأمرنا الله بالقراءة والكتابة للتعلم والثقافة وذلك اقتداء بمثلنا الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له الله تعالى "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم" "العلق آيات 1- 5".
بدأ نزول القرآن بكلمة "اقرأ" والقراءة أوسع أبواب العلم، ثم ذكر خلق الانسان، فبدأه من علق، وهي حيوانات منوية، تعد بالملايين وقد تعجّب من ذلك أهل العلوم التجريبية، وقالوا: إن الإنسان يتخلّق من نطفة، لا من العلق، ولما اخترعوا المنظار الطبي "الميكروسكوب" واكتشفوا الحقيقة اعترفوا "بأن القرآن أفضل كتاب أخرجته القدرة الأزلية لبني البشر" كما ذكر الدكتور "موريس" الفرنسي.
فالإنسان خلقه الله أطوارا سبعة، قال الله تعالى "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين" "المؤمنون آيات 12- 14" هذا لفت للبصائر إلى أطوار الانسان عند التكوين لكي يتأمل الباحث حتى يعرف ويتعلم ففي القرآن شواهد متناثرة على حديث العلم، سواء ما تعلق منه بالحياة الانسانية "فلينظر الإنسان ممّ خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، إنه على رجعه لقادر" "الطارق آيات 5- 8" أو ما تعلّق بالأرض وحركتها "وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب" "النمل آية 88"، أو ما يتعلق بالآفاق العليا "والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدّرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون" "يس آيات 38 -40".
لا يقبل عقلا أن يذكر القرآن سائر التفاصيل في العلوم والسنن الكونية، والظواهر الطبيعية، وإلا كان ذلك تعطيلا للعقل البشري عن البحث والتأمل والاستنباط، مع أن الاسلام قائم على تحريك العقل؛ ومن هنا جاءت آيات تدعو إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض "قل سيروا في الأٍرض فانظروا كيف بدأ الخلق" "العنكبوت آية 20"، وقوله تعالى "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها" "الحج آية 46".. وكثير من الآيات الكونية والعلمية في القرآن تميل إلى التعميم وتترك التفصيل والتحديد، لينشط العقل بعد إرشاده وتوجيهه، "ولقد صرّفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا" "الكهف آية 54"..
يقينا من النزاهة العلمية أن يكون المثقف مسلّحا بثقافة قرآنية عميقة شاملة، تؤهله لأداء الأمانة العلمية الثقيلة على وجهها الحقيقي السليم، ليحصل النفع والانتفاع والصلاح والإصلاح والخشية والهداية "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ" "فاطر آية 28" ثم تكون الرفعة والسمو في الحياة، إلى أعلى المراتب عن طريق العلم والثقافة "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير" "المجادلة آية 11".
إذن الثقافة حذق وفهم وفطنة وذكاء، والثقافة هي حصيلة علوم، وسعة معارف، تخرج الانسان من الظلمات إلى النور، تفتح العقول من منغلقاتها، وتشرح الصدور من مضايقاتها وتطهّر النفوس من دنساتها وتكشف الأغطية عن القلوب فيصبح بصرها حديدا. كل ذلك بفضل القرآن وإشاراته للتعقل والتدبّر والتفكّر.
المصدر