الفرع الثالث
الحالات الممتازة للدفاع الشرعي
( المادة 40 ق ع ج)
وهي حالات منقولة حرفيا من نص المادة 329 قانون عقوبات فرنسي، ويسمها الفقه الحالات الممتازة للدفاع الشرعي أو الدفاع الشرعي الممتاز، دلالة على افتراض المشرع فيها توافر شروط الدفاع الشرعي كقرينة قانونية قاطعة لا تقبل إثبات العكس، غير أنه من الفقه من يرى العكس، وهو أيضا موقف القضاء الفرنسي[1]، وبالتالي نرى أنه لا مجال اليوم لتسميتها بالحالات الممتازة للدفاع الشرعي، وإنما الحالات الخاصة للدفاع المشروع. وقد نصت المادة 40 من قانون العقوبات الجزائري على هذه الحالات بنصها:" يدخل ضمن حالات الضرورة الحالة للدفاع المشروع:
1- القتل أو الجرح أو الضرب الذي يرتكب لدفع اعتداء على حياة الشخص أو سلامة جسمه أو لمنع تسلق الحواجز
أو الحيطان أو مداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء منها أثناء الليل،
2- الفعل الذي يرتكب للدفاع عن النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أو النهب بالقوة."[2].
ونلاحظ على المشرع الجزائري أنه استعمل لفظ " تدخل ضمن حالات الضرورة للدفاع الشرعي " بمعنى افتراضه لشرط اللزوم كوننا فسرنا عبارة الضرورة الواردة بنص المادة 39 على أنها تقصد اللزوم، لذا فهنا أيضا باستعمال نفس العبارة يعني أن المشرع افترض دخولها في حالات اللزوم. ثم أن المادة ذاتها تميز بين فرضين، فرض ورد فيه نوع الجرائم ونوع الاعتداء الذي يوجبها، وهو ما ورد بالفقرة الأولى من المادة 40، حيث أجاز أقصى الجرائم جسامة، وهي القتل والجرح والضرب[3]، وحصر الاعتداءات في الاعتداءات ضد الحياة أي ضد جرائم القتل، وسلامة الجسم، ويعني الضرب والجرح، أو مجرد تسلق الحواجز والحيطان ومداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء منها[4]. بشرط أن يكون كل ذلك أثناء الليل[5]. كما يمكن أن ننبه أن الشخص يمكنه أيضا دفع التسلق والكسر لملاحق المنازل ومداخلها وأسوارها وحيطانها، إذا كانت متركبة إثناء النهار، لكن في هذه الحالة لا يكون الدفاع شرعيا ومشكلا لسبب من أسباب ألإباحة، بل يكون مشكلا لعذر معفي من العقاب، وهو عذر شخصي لا موضوعي، وهو الأمر الذي قضت به المادة 278 من تقنين العقوبات الجزائري[6]، بينما بينت الفقرة الثانية، وبصيغة عامة إباحة كل فعل أي كان نوعه الذي يرتكب لدفع الاعتداءات على النفس أو عن الغير ضد مرتكبي السرقات أو النهب بالقوة، وهنا لم يشترط التناسب. كما أنه لم يشترط الليل، فيمكن أن يكون ذلك أثناء النهار، مما يجعل هذه الفقرة تتشابه في حكمها مع الحكم العام الذي جاءت به الفقرة الثانية من المادة 39، وكل ما في الأمر أنه في هذه الأخيرة حددت الاعتداءات بصيغة عامة وهي الجرائم الواقعة على النفس أو على الغير أو مال الشخص أو المال الغير، والفقرة الثانية من المادة 40 تتعلق فقط بالسرقات والنهب بالقوة.
وإن كانت الأسباب السابقة، هي أسباب الإباحة التي يأخذ بها المشرع الجزائري، وغالبية القوانين الجنائية المقارنة، فهناك أسباب أخرى تأخذ بها بعض الدول دون البعض الآخر، وهي رضاء المجني عليه وحالة الضرورة، وسبق لنا القول في تمهيد هذا الفصل أن قلنا بأننا سنتناولها في مبحث مستقل، وذلك لتعميم الفائدة، فقد يأتي تعديل ويدخلها في القانون الجزائري، كما قد يجد رجل القانون الجزائري نفسه ملزما للتعامل معها في حالات تنازع القوانين، وبخصوص الطلبة الأعزاء قد تكون موضوع امتحان أو مسابقة- وحدث فعلا أن كانت حالة الضرورة موضوع مسابقة ماجستير بجامعة البليدة منذ سنتين- لذا وإن التمسنا العذر في الإطالة غير المعتادة في إعداد المحاضرات المطبوعة، فإن لهذا العذر مبرراته التي تفوق في مصلحتها كل الانتقادات، وهي تعميم الفائدة العلمية للطلبة. وهنا فقط يمكن الاستعانة بالبيت الشعري المتعلق بالمذمة التي تأتي من جاهل" ..........".
المبحث الثالث
أسباب الإباحة في القانون المقارن
من أسباب الإباحة أيضا، رضاء المجني عليه، وحالة الضرورة التي تأخذ بها بعض القوانين دون البعض الآخر، ومنه القانون الجزائري الذي لا يأخذ بها، لذا ارتأينا تناولها في مبحث مستقل، نتناوله من خلال مطلبين، نخصص الأول لحالة رضاء المجني عليه كسبب من أسباب الإباحة، لنخصص الثاني لحالة الضرورة.
المطلب الأول
رضاء المجني عليه ( صاحب الحق) كسبب من أسباب الإباحة
في حقيقة الأمر المشرع لما يجرم فعل من الأفعال، فإنه يكون قد قدر أن يضر بمصلحة من المصالح، وفي الكثير من الأحيان يتحقق المساس بمصالح المجتمع بالمساس بمصلحة الفرد، ولذا الأصل أنه لا شأن لإرادة الفرد في تجريم الفعل أو إباحته، لذا فاعتراض الشخص على الجريمة لا يعد ركنا في الجريمة، كما أن رضاءه بها لا يعد سببا لإباحتها، غير أن إرادة الفرد أو رضاءه قد يؤدي في بعض الأحوال دورا في مجال قانون العقوبات، وهو الدور الذي قد يكون من شأنه التأثير في قيام الجريمة أو في إباحتها، وهو استثناء عن الأصل، وفي حدود هذا الاستثناء ينحصر اثر الرضا كسبب من أسباب الإباحة.
لكن قد يبدو من الوهلة الأولى أنه متى رضي المجني عليه بارتكاب الجريمة التي تنال حق من حقوقه أو مصالحه، فإن هذا الرضا يبيح الجريمة، لكن هذا القول غير صحيح كون أسباب الإباحة تقتضي سبق تجريم الفعل بنص من نصوص قانون العقوبات، ثم وجود نص آخر يبيح الفعل في الظروف التي ارتكب فيها، والأمر ليس كذلك مع رضاء المجني عليه، حيث يمنع من قيام الجريمة ابتداء، كدخول الشخص منزل آخر برضائه، لذا كان يجب تمحيص الحق المعتدى عله بدقة للقول ما إن كان رضاء المجني عليه يبيحها أم لا، كون رضاء المجني عليه يختلف حكمه باختلاف طبيعة الحق المعتدى عليه. ولا يمكن بأي حال من الأحوال بالقول بهذا السبب في مجال الجرائم التي يعتدى فيها على الدولة كشخص معنوي، ولا على المجتمع كمؤسسة اجتماعية، كما لا رضاء كسبب للإباحة في الجرائم التي تمس بالأسرة كنظام، وما القيود الموجودة على بعض الجرائم الأسرية سوى قيود إجرائية تحول دون تحريك الدعوى العمومية ولا تبيح الفعل في حقيقة الأمر، بل وان الزوج إذا رضي بزنا زوجته ليس هناك ما يمنعه من تقديم الشكوى فيما بعد. وبالتالي البحث ينحصر فقط في الجرائم التي تمس حق الفرد، وحق الفرد بدوره قد يكون حقا مزدوجا، يمس المجتمع والفرد معا، ومثاله حق الحياة، وسلامة البدن، وهنا يجب أن يرجح حق المجتمع ولا يعتد بالرضا الفرد، فمن يطلب من غيره قتله لتخليصه من آلامه التي سببها له مرض خطير أصابه ولا يرجى شفاءه لا يعد رضاؤه سببا لإباحة القتل[7]. لذا فإن بحث مسألة رضاء المجني عليه كسبب من أسباب الإباحة، تقتضي منا أولا، أن نتناول دور الرضاء في قانون العقوبات، وتحديد طبيعته القانونية بخصوص التجريم والعقاب، وذلك في فرع أول، لنتناول في الثاني، الجرائم التي يعمل برضاء الشخص فيها في أهم القوانين المقارنة.
.
الفرع الأول
دور الرضا وتحديد طبيعته القانوني في قانون العقوبات
الرضاء في مجال قانون العقوبات غير الرضاء في مجال التقنين المدني، لذا فالبضرورة أن تختلف طبيعته القانونية في القانون الأول، وبناء على ذلك يظهر دوره في مجال أسباب الإباحة.
أولا: دور الرضا في قانون العقوبات
في بعض الأحوال الضيقة، يشترط المشرع لقيام الجريمة أن يقف المجني عليه منها موقف الرفض، أي أن ترتكب بدون رضاه، وفي مثل هذه الأحوال الضيقة يكون عدم الرضا عنصرا لقيام الجريمة ذاتها، وذلك يوجب نص يقرر المسألة كونها استثناء عن الأصل العام، بمقتضى الحاجة إلى المانع لا تطرأ إلا إذا وجد المقتضى بتمامه، وهنا يكون الرضا يتمم الجريمة، وأهم الجرائم التي يشترط لقيامها عدم رضا الشخص، وقاع الأنثى بدون رضاها ( 267 تقنين عقوبات مصري)، هتك العرض بالقوة أو بالتهديد ( م 268 قانون عقوبات مصري)، القبض والحجز والحبس دون وجه حق ( 280 قانون عقوبات مصري)، خطف الإناث ( المادة 290 قانون عقوبات مصري) وكذا النصب وانتهاك حرمة منزل.. لذا ففي بعض الأحوال يكون الفعل مستجمعا للشروط التي تجعل منه جريمة، فيتدخل رضاء المجني عليه فيجعله مباحا، مثل عمليات الإتلاف، العمليات الجراحية، وإن كان ليس هناك نص صريح يبيح الجريمة برضا المجني عليه، غير أن الأصول القانونية توجب التسليم بهذه الحقيقة، فمن غير المنطقي إذا أباح القانون في فرع من فروعه حق التصرف في حق معين، أن يمنع قانون العقوبات هذا التصرف، لأن ذلك يعطل حرية التصرف، خاصة وأن القانون يعاقب على العدوان وفي مثل هذه الحالة يغيب عنصر الاعتداء لأن الرضا موجود[8]. لكن ذلك لا يعني أنه سبب للإباحة، بل الجريمة لا تقوم لتخلف أحد عناصرها القانونية، الأمر الذي يقودنا بحث طبيعة الرضاء القانونية.
ثانيا: الطبيعة القانونية للرضا
يذهب الفقه إلى اعتبار الرضا تصرف قانوني تحكمه قواعد القانون الخاص، بينما يعتبره البعض تصرف قانوني تحكمه قواعد القانون العام، في حين يرى اتجاه ثالث أنه واقعة قانونية لا تصرف قانوني، في حين يرى البعض أنه تصرف قانوني يخضع أساسا لقانون الحق، لذا فهو يخضع تارة لأحكام القانون الخاص، وتارة أخرى لأحكام القانون العام، ويرجع إلى قانون العقوبات في حالتين، حينما ينص هذا القانون صراحة على حكم خاص بشأن الرضا، وهنا يطبق النص الجنائي مباشرة، والثانية حينما يخلو القانون الخاص من حكم ينظم الرضا في بعض جزئياته، وهنا يستنبط الحكم من المبادئ العامة لقانون العقوبات، وهو ما يتعلق بالسن مثلا، ففي الحالة التي يحدد فيها قانون العقوبات السن المشترطة يعمل بأحكامه، لكن إذا تضمنها النص الخاص المتعلق بالرضا فيحكمه السن القانوني التي نظمها هذا النص، ورغم الخلاف السابق، فإنه يمكن القول بأن الرضاء في قانون العقوبات، عنصر من عناصر قيام الجريمة، حيث أن اشتراط الجريمة للقوة أو العنف أو الخلسة أو دون الرضا، يعني بداهة في حال توفر الرضا تنتفي هذه العناصر وبالتالي لا تقوم الجريمة، مما يجعلنا نقول وبنوع من التحفظ، أنه حتى في القانونين التي لا تنص صراحة على الرضاء كسبب من أسباب الإباحة، فهو ضمنيا سبب أو عنصر يمنع من قيام الجريمة متى تمت الإشارة إليه، لكن في هذه الحالة الفعل يباح لا لأنه ارتبط بسبب من أسباب الإباحة، وإنما لتخلف عنصر من عناصر الجريمة.
الفرع الثاني
الجرائم التي ينتج فيها الرضا أثره المبيح
هي مسألة من أدق المسائل الجنائية، واتفق الرأي على أن الرضا لا ينتج أثره بالنسبة لكافة الجرائم، وإنما يقتصر أثره على طائفة محدودة منها، وهو ما نتناوله في نقطة، لنتناول في الثانية شروط الرضا المبيح للفعل. لنتناول في الثالثة حقيقة الرضا كفعل مبيح للجريمة.
أولا: الجرائم التي يعتد بالرضاء فيها
وهي الجرائم التي يكون فيها العدوان منصبا على حق يقبل التصرف فيه، مما يعني أن اثر الرضا يتوقف على طبيعة الحق، وهي الحقوق التي لا تكون فيها منفعة مباشرة للمجتمع وإنما حقوق تقرها الدولة وتحميها لصالح صاحبها، بقصد تمكينه من الانتفاع بها، غير أن المسألة تحتاج إلى تبيان معيار يعمل في الحياة الواقعية، لذا كان الاتفاق أنه لا أثر للرضا في الجرائم التي تقع مباشرة على حق من الحقوق الخالصة للمجتمع، كالصحة العامة والأخلاق العامة أو الجرائم الماسة بالدين، ولا أثر للرضا في الجرائم التي تقع على الدولة، ولا تلك الواقعة على الأسرة، لتبقى باقي الجرائم الأخرى التي يتعين فيها البحث عن طبيعة الحق، ومنها الحقوق المالية وغير المالية، وهناك اتفاق بخصوص الحقوق المالية التي تقبل التصرف فيها عن طريق الرضا، كرضاء الشخص بقطع الأشجار لبناء جاره عليها، في حين الحقوق غير المالية التي تتصل بذات الإنسان أي بعناصر شخصيته، والتي تسمى بالحقوق الشخصية أو اللصيقة بالشخصية، والمنقسمة إلى ثلاث مجموعات، حقوق تتصل بالكيان المادي للشخصية– مثل الحق في الحياة والحق في سلامة البدن-، وأخرى بالكيان المعنوي لها- الحق في الشرف والعرض والعفة وحرمة الحياة الخاصة والمراسلات والمكالمات والمسكن-، والثالثة تتصل بنشاط الشخصية ذاتها- والتي تضم مجموعة من الحريات، مثل حرية التنقل وحرية الاعتقاد وحرية العمل والتعبير...-، والأصل في هذه الحقوق أنها غير قابلة للتصرف فيها كونها من لوازم الشخصية غير القالبة للانفصال، وبالتالي لا مجال للرضا في الحق في الحياة، بينما يمكن في بعض الحقوق الأخرى أن يتم المساس بها سواء عن طريق الاتفاق، مثل عقد الزواج، أو عقد العلاج إذ يبيح القانون للطبيب الاطلاع على عورة المرأة، كما أنه قد يعتد بالرضا حتى في مسائل هتك العرض والعلاقات الجنسية أو الوقاع، والرضا بالتفتيش وإباحة إفشاء السر، وكشف المراسلات والأحاديث الخاصة.
غير أنه من بين الحقوق الأكثر إثارة للجدل، هو الحق في سلامة البدن، كونه حق للمجتمع مثلما هو حق للفرد، لذا فقدرة الشخص على التصرف في بدنه محدودة للغاية، لذا فهناك مجالات يعتد فيها بالرضا مثل العلاج والتجميل كونها تصرفات تحقق نفعا للشخص وللمجتمع، لكن الإشكال حينما يقرر الشخص التصرف في بدنه تصرف ينتقص من كفاءة الجسم، وهنا اتفق الفقه أنه تصرف جائز بشرط ألا يكون يهدد الحق في الحياة أو المساس بنحو خطير أو دائم بالحق في سلامة الجسد، على نحو يهدد بعدم قدرته على أداء وظيفته الاجتماعية على الشكل المعهود، لذا يجوز للشخص التصرف بالهبة أو البيع لعضو من أعضائه مما لا يعرض فقدها جسم الإنسان للخطر[9].
ثانيا: شروط الرضا المبيح
بما أن الرضا موقفا إراديا، لذا بحثت مسألة ما إن كان يكفي فيه أن يكون ضمنيا أو صراحة، بين نظريتين إحداهما سميت الاتجاه المجرد للإرادة والأخرى سميت نظرية إعلان الإرادة، غير أن الغالبية رأت أنه يمكن للرضا أن يكون ضمنيا، بل أنه يصح أن يكون مفترضا، وهي الظروف التي يستحيل فيها الإفصاح عن الرضا لكنه من المحقق أن الشخص لو كان حاضرا أو قادرا على الإفصاح لأعلن عن رضاه، لكن يجب أن تكتمل شروط الرضا حتى ينتج أثره كسبب مبيح، وهذه الشروط هي:
1- الصـــــفة:
وهو أن يصدر الرضا عن صاحب الحق، وهو الشخص المجني عليه في الجريمة، أو من كان مرشحا لأن يكون مجنيا عليه لولا رضاه، وإذا تعدد أصحاب الحق وجب رضائهم جميعا، فإذا رضي البعض دون البعض الآخر كان الرضا غير كاف ليكون سببا من أسباب الإباحة، لكن وإن كان الأصل أن يصدر الرضا من صاحب الحق نفسه، فإنه يجوز أيضا أن يصدر من نائبه، خاصة وأن الإنابة في التصرف في الحقوق المالية جائزة، سواء كانت الإنابة قانونية أو اتفاقية أو قضائية، غير أن الحقوق غير المالية فلا إنابة فيها بالنظر لطابعها الشخصي الشديد، عدا الحالات التي تكون فيها الفائدة التي تعود على صاحب الحق مؤكدة، مثلما هو الشأن بالنسبة للعمليات الجراحية بغرض الشفاء.
2- الأهلـــــية:
الرضا لا يمكن أن يعتد به إلا إذا كان صادرا من شخص آهل قانونا، والأهلية مناطها الإدراك والتمييز، وأن تسلم الإرادة من العيوب.
3- معاصرة الرضا للفعل:
يجب أن يكون الرضا قائما وقت إتيان الفعل، فإذا تراخى عنه كان عديم الأثر، حيث أن الفعل حينما اقترف كان غير مشروع فلا يقلبه الرضا اللاحق عملا مشروعا، وإذا تحقق الرضا قبل الفعل فيجب أن يظل قائما حتى يدركه الفعل، فإن رضا الشخص بإجراء عملية جراحية له ثم عدل فالطبيب الذي يجري له هذه العملية بعد العدول يعد مرتكبا لفعل غير مشروع.
ثالثا: حقيقة الرضا كسبب من أسباب الإباحة
ثار التساؤل عما إن كان الرضا سببا قائما ومستقلا بذاته من أسباب الإباحة، أم مجرد تطبيق من تطبيقات الإباحة الأخرى، وتوصل البعض أنه مجرد علاقة بين الرضا والإباحة، وحقيقة الرضا أنه تصرف قانوني يرتب للغير حق أو رخصة أو يفرض عليه واجبا، ومباشرة الحق أو أداء الواجب هو الذي يجعل الفعل مباحا، فرضا المريض بالعلاج أنشأ للطبيب حق في علاجه، ولجوء الشخص لقسم الشرطة هربا من خصوه هو الذي أنشأ لهم حق باحتجازه لتأمينه، وهو واجب عليهم يجعل من فعلهم مباحا، لذا فالرضا منظورا له بذاته لا يدخل ضمن أسباب الإباحة، بل هو مصدر للحقوق ونشأة بعض الواجبات، لذا الفقه رتب الإباحة على الرضا بغير وجود نص يقرره.
المطلب الثاني
حالــــة الضرورة
حالة الضرورة من النماذج الجديدة للتنازع بين المصالح المتعارضة، عندما يجد الشخص نفسه مضطرا لارتكاب جريمة لغاية حماية نفسه أو غيره من ضرر جسيم، مثل الأم التي تسرق لإعالة أولادها، وسائق السيارة الذي يصدم سيارة أخرى لتفادي دهس المارة، ومن يخرج عاريا للطريق العام تهربا من حريق شب بالمنزل، والطبيب الذي يجري عملية استعجاليه لمريض عجز عن أخذ رضائه.ويعالج البعض حالة الضرورة كسبب من أسباب الإباحة، كونها تستند للتضحية بحق رعاية لحق أكثر أهمية، مما يجدر معه إضفاء صفة الإباحة عليها. خاصة وأن شرعت لحماية مصلحة الغير أيضا وليست لمصلحة المضطر فقط، مما يعني إقرار لحماية الحق الأجدر بالحماية، وأن الفقه الفرنسي في مجمله يجعلها سببا من أسباب الإباحة، في حين الفقه المصري يرى أن المشرع المصري اعتبرها مانعا من موانع المسؤولية بالنظر لصيغة نص المادة 61 من قانون العقوبات. التي استهلت بعبارة " لا عقاب" وهو ما يعارضه البعض ويرى عدم ضرورة التقيد بعبارات النص. وحالة الضرورة كسبب من أسباب الإباحة قريبة جدا من حالة الدفاع الشرطي، إذ تتطلب شروطا في الخطر( المقابل لفعل العدوان في حالة الدفاع الشرعي)، وشروطا أخرى في فعل الضرورة ( المقابل لفعل الدفاع في حالة الدفاع الشرعي). وهو ما نبينه باختصار من خلال الفرعين التاليين.
الفرع الأول
الشروط المتطلبة في الخطر
حالة الضرورة تتطلب خطرا يحل بالشخص حتى يمكنه اللجوء لفعل الضرورة الذي يشكل في الأصل جريمة لرد الخطر السابق، لذا فالخطر الذي يبرر اللجوء إلى هذا الفعل المجرم، الذي يباح بسبب خصائص الخطر، يوجب أن يستجمع الأخير جملة من الشروط، هي التي نتناولها في النقاط التالية.
أولا: خطر جسيم
يشترط في الخطر الذي يبرر حالة الضرورة أن يكون خطرا جسيما، وهو ما لم يشترطه قانون العقوبات الفرنسي الجديد في المادة 122/7، وشرط الجسامة صفة موضوعية لصيقة بالخطر من حيث مساسه بالمصلحة المحمية، ويقدر القاضي في تقديره الظروف التي أحاطت بالمتهم في ظل الظروف الموضوعية التي أحاطت به، دون أن يشترط فيه أن يكون جريمة مثلما هو الشأن بالنسبة لحالة الدفاع الشرعي، لذا فيمكن أن يكون مصدر الخطر فعل إجرامي أو غير إجرامي، أو قد يكون واقعة طبيعية كالفيضان والزلزال وهبوب العواصف، أو خطر مادي مصدره الآلات الصناعية والتوصيلات الكهربائية
أو سبب نفسي كالجوع والمرض وخشية الفضيحة والعار[10].
ثانيا: خطر مهدد للنفس
المشرع المصري قدر بأن الأخطار المهددة للنفس هي الجديرة وحدها بالرعاية في حالة تصارعها مع المصالح الأخرى، لذا في مصر لا مجال لحالة الضرورة إذا كان الخطر مهددا للمال، مهما بلغت جسامة هذا الخطر، وهنا لا يجوز لربان السفينة إلقاء البضائع في البحر لإنقاذ السفينة من الغرق، على عكس التشريعات الأخرى مثل القانون السويسري والنرويجي والسوري واللبناني والأردني التي سوت بين الأخطار المهددة للنفس وتلك المهددة للمال، وأهمها المادة 122/7 من تقنين العقوبات الفرنسي.
ثالثا: خطــر حــــــال
وهو أن يعرض الخطر بطريقة حالة ومباشرة المصالح المحمية في قانون العقوبات للضرر، فلا يبرر حالة الضرورة الخطر المستقبلي ولا الخطر الذي انتهى، ويتحدد موضوع حيلولة الخطر وفقا لمعيار موضوعي كذلك الذي تناولناه في مجال الدفاع الشرعي، ويجب أن يكون خطر حال حقيقي لا توهمي وهنا كل ما يحدث انتفاء القصد الجنائي ويسأل الشخص عن جريمة غير عمدية إذا كان القانون يعاقب عليها بهذا الوصف، كمن يرى دخان يتصاعد من نافذة جاره فيكسر الباب ويتضح أنها اشتعلت بفعل أصحاب المنزل للشواء، وعلى عكس ذلك، يرى البعض قيام حالة الضرورة بالخطر الوهمي، غير أن أنصار هذا الاتجاه يصنفون حالة الضرورة من بين موانع المسؤولية ويستوي بعد ذلك المصلحة التي يهددها الخطر كأن يكون السمعة والشرف، كما يستوي أن يكون مصدره عمل الإنسان أو الطبيعة.
غير أن المشرع يشترط ألا يكون مصدر الخطر المتهم ذاته، وهو ما بينته المادة 61 من تقنين العقوبات المصري، التي تبعها الفقه على اعتبار حالة الضرورة مانع من موانع المسؤولية، غير أن البعض يرى أن ذلك لا يستقيم مع النظرة الصحيحة لحالة الضرورة كسبب من أسباب الإباحة، غير أن الخلاف لم ينحصر عند هذا الحد، بل امتد لمناقشة ما إن كان دور المتهم في إحداث الخطر عن عمد أو عن طريق الخطأ، فاتفق على أنه لا ضرورة في حالة العمد، كمن يشعل النار في مسرح ثم لينجو يدوس على طفل فيقتله، والقضاء الفرنسي ينفي حالة الضرورة حتى إن كان دور المتهم في إحداثها كان على سبيل الخطأ، في حين لا يوافق البعض ذلك، إذ يمكن إن تسبب الشخص بإهماله في إحداث خطر أن ينقذ مصلحة أجدر بالرعاية، مثل سائق السيارة الذي يسير بسرعة ولتفادي الاصطدام بسيارة تسير في الاتجاه المنعكس أن ينحرف يسارا ويصدم أحد المارة فيقتله، وربان السفينة الذي بإهماله توشك السفينة على الغرق لكن لإنقاذ نفسه والغير يلقي البضائع في البحر[11]. وبتوفر هذه الشروط في الخطر، يستوي أن يكون من تعرض له مرتكب الفعل الضروري أو غيره من الناس، ولا يشترط أن يكون هذا الغير من أقارب الجاني، بل يكفي مطلق الغير.
الفرع الثاني
الفـعل الضروري ( فعل الضرورة)
يشترط في الفعل الضروري الذي يرتكبه الشخص المضطر، مثلما يشترط في فعل الدفاع في حالة الدفاع الشرعي، وهما شرطي اللزوم والتناسب، وهما الشرطين الذين نتناول كل منهما في نقطة مستقلة.
أولا: شرط اللـــــــزوم
وهو أن يكون اللجوء إلى الجريمة التي تشكل الفعل الضروري التي يكون غرضها دفع الخطر الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف، إذ إن كانت أمامه وسيلة أخرى مشروعة لا يعد فعله ضروريا[12]، واللزوم يقاس بمعيار موضوعي يتعلق بالشخص العادي المحاط بنفس الظروف التي يوجد بها المضطر. ومن توفر لديه الهرب فيجب أن يسلكه ولا يلجا لارتكاب الجريمة، وهنا تختلف حالة الضرورة عن حالة الدفاع الشرعي، ويستوي أن تكون الجريمة اللازمة لدرء الخطر الذي يتهدد المضطر جريمة عمدية
أو جريمة غير عمدية، مثل سائق سيارة الإطفاء الذي يسير بسرعة لإنقاذ الناس فيصطدم بالغير، أو من يصعد بسيارته على الرصيف هروبا من دهس أطفال أمامه فيصدم شخصا آخرا[13]. بينما ترى محكمة النقض الفرنسية في هذا الشرط، أن تكون الجريمة هي أحسن وسيلة لتفادي الخطر، لا أن تكون الوسيلة الوحيدة. ويضاف لكل ما سبق ألا يكون الشخص ملزما قانونا بتحمل الخطر الذي يعترضه، مثل الجندي في ميدان القتال، ورجال البوليس في ممارستهم لمهامهم، والمتهم المقبوض عليه، والمحكوم عليه بالإعدام، وربان السفينة عندما تتعرض للغرق، فكل هؤلاء يتعرضون لخطر جسيم على النفس، ولكنهم ملزمين بتحمل هذا الخطر بحكم وظائفهم التي تقتضي بحكم طبيعتها التعرض لمثل هذه الأخطار[14].
ثانيا: شـــرط التناسب
حالة الضرورة تقتضي شانها شأن الدفاع الشرعي التناسب، سواء كان عاما وهي ارتكاب جريمة من حيث الجسامة بأنها الوحيدة الممكنة من بين الجرائم التي كان يمكن ارتكابها، أي لا يمكن للشخص النجاة من الخطر الذي يتهدده إلا بتلك الجريمة التي ارتكبها، ويتحدد هذا التناسب وفقا لمعيار موضوعي واقعي قوامه الشخص المعتاد الذي مر بنفس الظروف التي مر بها الجاني[15]. كما تشترط حالة الضرورة أيضا التناسب الخاص، في الحالات التي يلجا فيها لجريمة القتل، فهنا لا يجب أن يحدث الجاني ضررا يفوق الضرر الذي أراد تجنبه، على عكس التناسب الخاص في مجال الدفاع الشرعي، فالطبيب الذي يجري عملية جراحية لولادة عسيرة ليس له أن يضحي بحياة الأم لينقذ الجنين، ولا يجوز لشخص ينحرف بسيارته لتجنب قتل شخص أن يقتل عدد أكبر من الأشخاص[16]. وتدق المسألة بخصوص مدى توفر حالة الضرورة في حالة قتل إنسان لأجل إنقاذ حياة إنسان آخر، فهنا يرى البعض أنه في حالة تساوي المصالح يجب تفضيل مصلحة البريء الذي لم يصدر عنه أي خطر، مثل حالة من أراد تجنب صدم أحد المارة فيصدم الآخر، ولا يجب أن يقتل الشخص غيره لإنقاذ حياته[17].
وفي حالة تجاوز الضرورة يعتبر الشخص مرتكبا لجريمة عمدية إذا كان القانون يعاقب عليها بهذا الوصف، وإذا كان التجاوز مبنيا على أسباب معقولة انتفت كل مسؤولية، وغن كان التجاوز عمديا اعتبر المتجاوز مسؤول مسؤولية جنائية كاملة.
هذا وبعد ان تناولنا في فصلين متتاليين الركن الشرعي للجريمة، وأسباب الإباحة كأسباب تنفي هذا الركن أصلا وتعطل مفعوله، سنتناول في الفصل الموالي، أهم ركن من أركان الجريمة، ألا وهو الركن المادي على اعتبار الجريمة أفعال وسلوكات نهى عنها النص القانوني، أي الركن المادي تجسيد للركن القانوني.
الفصل الثالث
الركن المادي للجريمة
الركن المادي للجريمة يقصد به تطابق الفعل الذي أتاه الجاني مع النموذج القانوني للجريمة، كون القانون يحدد أركان وشروط الجريمة وبها يتحدد النموذج القانوني لها، أو المظهر القانوني لها، ليأتي المظهر المادي الذي يتحدد بالواقعة التي حدثت في العالم الخارجي من قبل الجاني، ويشترط فيه أن يتطابق مع المظهر القانوني الذي بينه المشرع. لذا فالركن المادي للجريمة، هو وجهها الخارجي الظاهر، وبه يتحقق الاعتداء على المصلحة المحمية قانونا، وعن طريقه تقع الأعمال التنفيذية للجريمة، إذ لا وجود لقانون عقوبات في الدول الديمقراطية يعاقب على مجرد النوايا. فكل جريمة لا بد لها من ماديات تتجسد فيها الإرادة الإجرامية لمرتكبها، فالقانون الجنائي على عكس قواعد الأخلاق ليس له سلطان على ما في ضمائر الناس من أفكار شريرة ومن نوايا إجرامية، حتى ولو وصلت مرحلة عقد العزم والتصميم ما لم تخرج لعالم الماديات التي تجسد هذه النوايا وتصبح تعرض المصالح والحقوق للأخطار، فهنا يتصدى لها القانون الجنائي يعاقب عليها. وبالتالي الركن المادي هو ما يدخل في البناء القانوني للجريمة من عناصر مادية ملموسة يمكن إدراكها بالحواس.
أهمية اشتراط الركن المادي لقيام الجريمة:
إن أهمية اشتراط المشرع للركن المادي للجريمة، تكمن أساسا في كونه الركن الذي يجسد ما يعرف بمبدأ " مادية الجريمة Le Principe de la matérialité de l’infraction"، فالقانون الجنائي لا يهتم بالبواطن والنوايا، وإنما يهتم فقط بالظاهر المادي الملموس، وهو أمر لا يخلو بأي حال من الأحوال من فعالية قانون العقوبات وتحقيقه للعدالة المنشودة، فمن العدالة ألا يحاسب الأفراد على نواياهم، متى لم تتجسد في نشاط مادي خارجي ملموس يلحق أضرارا بالمصالح المحمية قانونا، أو مجرد تهديدها بأخطار، مهما كانت هذه النوايا والنوازع حافلة برغبة مخالفة القانون – كون قانون العقوبات يحمي الحقوق والمصالح من الاعتداءات الفعلية الواقعة عليها، أو مجرد تهديدها أي احتمال الإضرار بها-.
كما انه ليس من الجدوى والفعالية تجريم النوايا والعقاب عليها، كون هذه النوايا ليست ضارة في حد ذاتها، بل أن تجريمها قد يشجع الأفراد على تجاوز مرحلة النوايا والإقدام فعلا على ارتكاب الأفعال، متى كانوا في الحالتين معرضين لعقاب القانون، مما يجعل عدم العقاب على النوايا يعد في حد ذاته ضمانة من الضمانات المكرسة لحقوق وحريات الأفراد[18].
وتظهر أهمية اشتراط الركن المادي أيضا، في تسهيل عملية إثبات الجريمة، لأنه إن كان من اليسير إثبات وقوع ماديات الجريمة، التي تجسدت في أفعال خارجية ملموسة أحدثت أثارا في العالم الخارجي،
أو على الأقل يمكن إدراكها بالحواس حتى وإن لم تصل لحد ترتيب آثارها، فإنه من العسير جدا إثبات النوايا، في الحالات التي يرتأى فيها المشرع تجريم هذه النوايا، وبذلك يكون القانون منفذا لإفلات الجناة من العقاب[19]. وقانون العقوبات في غالب الأحوال لا يشترط مجرد السلوك، بل يتطلب تحقق نتيجة معينة تكون أثرا لهذا السلوك، وأن يكون الأخير مسببها، لذا فالركن المادي للجريمة التامة يتحلل في العادة إلى ثلاثة عناصر، هي: السلوك، النتيجة، وعلاقة أو رابطة سببية تربط بين هذا السلوك والنتيجة التي تحققت، وهو ما الوضع العادي والمألوف للجرائم التامة ، غير أن هذه العناصر قد لا تتحقق مجتمعة ومع ذلك يتدخل المشرع بالعقاب، وذلك في الحالات التي يأتي فيها الشخص بالسلوك إلا أن النتيجة تتخلف، وهو ما يسمى بالشروع أو المحاولة، وهو موضوع بحث في المبحث الثاني، كما أن الوضع العادي والمألوف للجرائم أن فعلا واحدا مجرما يسهر على تنفيذه فاعل واحد، غير أنه يمكن أن تتضافر جهود العديد من الأشخاص لاقتراف الفعل، وفي هذه الحالة نكون أمام مشروع إجرامي لأطراف متعددة، وهي صورة خاصة من صور الركن المادي للجريمة، وتسمى بالمساهمة الجنائية أو الاشتراك، الذي يكون موضوع بحث في المبحث الثالث.
.
المبحث الأول
تحليل الركن المادي للجريمة
عناصره في حالة الجريمة التامة
الركن المادي للجريمة، وفي غالبية الجرائم، يتحلل – مثلما سبق القول- إلى ثلاثة عناصر، هي السلوك سواء تمثل في فعل أو مجرد امتناع، ونتيجة يكون سبب حدوثها هذا السلوك، سواء كانت نتيجة مادية يمكن إدراكها في العالم الخارجي أو مجرد نتيجة بالمفهوم القانوني، وأن ترتبط هذه النتيجة برابطة أو صلة أو علاقة سببية، بمعنى أن يكون السلوك سبب في حدوث وتحقق النتيجة، والعناصر الثلاثة السابقة، هي العناصر العامة للركن المادي لكل جريمة تامة وقعت طبقا للنموذج القانوني أو التشريعي المرسوم لها من قبل المشرع، مع ملاحظة أنه هناك من الجرائم ما لا يشترط فيها المشرع تحقق نتيجة معينة، أي لا تعد النتيجة عنصرا لازما في ركنها المادي، وهي ما تعرف بجرائم السلوك المجرد أو السلوك المحض، كما تسمى أيضا بالجرائم الشكلية، كجريمة حيازة سلاح بدون ترخيص، ومثل هذا النوع من الجرائم يقوم على مجرد إتيان السلوك المجرم، دون اشتراط ترتب نتيجة عليه.
كما أنه هناك جرائم يتطلب البناء القانوني لركنها المادي ، وبالإضافة للعناصر العامة الثلاثة السابقة، عناصر أخرى خاصة تستخلص من نص التجريم ذاته، والتي يتوقف على توفرها اكتمال الجريمة قانونا من الناحية المادية، من أمثلة هذه العناصر الخاصة، ما يتعلق بمحل العدوان الذي ينصب عليه السلوك، مثل الإنسان الحي في جريمة القتل ( المادة 254 قانون عقوبات جزائري)، والمال المملوك للغير في جريمة السرقة ( المادة 350 قانون عقوبات جزائري)، والمحرر المكتوب في جريمة التزوير ( المادة 214 وما بعدها من قانون العقوبات). وقد يتعلق العنصر الخاص بصفة في الشخص، سواء كان جاني أو مجني عليه، ومن أمثلة الصفة المتطلبة في الجاني، صفة الموظف في جريمة الرشوة، وجريمة الاختلاس[20]، وصفة الزوج أو الزوجة في جريمة الزنا ( المادة 339)، ومن العناصر الخاصة المشترطة في المجني عليه، القاصر ( المادة 236 وما بعدها)، وصفة الموظف أو الهيئة النظامية في جرائم الإهانة والتعدي على الموظفين ومؤسسات الدولــة ( المادة 144 وما بعدها)، وترك الأطفال والعاجزين ( المادة 314 وما بعدها)... وقد ينصب العنصر الخاص بالوسيلة المستعملة في ارتكاب الجريمة، مثل السرقة باستعمال السلاح ( المادة 351 ق ع ج) ، وجريمة القتل بالتسميم ( المادة 260 ق ع ج). كما قد يتعلق العنصر الخاص بزمان أو مكان ارتكاب الجريمة، ومن أمثلة اشتراط زمن معين في بعض الجرائم، الجرائم التي ترتكب في زمن السلم ( المادة 74 وما بعدها)، ومن أمثلة الجرائم التي تتعلق بالمكان، جريمة القذف التي تشترط العلنية في مكان عام ( المادة 296)، وجريمة السكر العلني، والمخالفات المتعلقة بالطرق العمومية ( المادة 444 مكرر وما بعدها). غير أن موضع دراسة هذه الأركان الخاصة هو القسم الخاص لقانون العقوبات، لذا تنحصر دراستنا في هذا الموضوع على العناصر العامة للركن المعنوي فقط، ونتناول كل منها في مطلب مستقل من المطالب الثلاثة التالية.
المطلب الأول
السلوك الإجرامي ( أو الجرمي أو المجرم)
مبدأ: السلوك مادة الجريمة وأداة مخالفة القانون
يعد السلوك الإجرامي من أهم مكونات الركن المادي للجريمة، وأكثر هذه العناصر إفصاحا عن مخالفة الجاني لأوامر ونواهي قانون العقوبات، ويعرف السلوك باختصار، بأنه ذلك التصرف أو الفعل
أو الموقف الذي إذا أتاه الشخص عوقب، لذا كان من الطبيعي أن يحدد سلوك كل جريمة من قبل المشرع تطبيقا لمبدأ الشرعية الجنائية، لأن الجرائم أفعال تطبيقا لمبدأ " لا جريمة دون فعل"[21]، وهو الفعل الذي قد يكون إيجابيا يأتيه الشخص بالمخالفة لنواهي قانون العقوبات، وقد يكون سلبيا يأتيه الشخص بالمخالفة لأوامر هذا القانون، وهما صورتا السلوك المؤثم قانونا، الأولى – الفعل الإيجابي- وهي الصورة الشائعة التي تستوعب غالبية الجرائم، والثانية – السلوك السلبي- أقل مقارنة بالأولى، وتسمى الجرائم في هذه الحالة بالجرائم السلبية أو جرائم الامتناع وأحيانا جرائم الترك، وهي قلة قليلة مقارنة بالجرائم الإيجابية أو جرائم الفعل. لذا سنحاول أن نتناول صورتي السلوك من خلال الفرعين التاليين.
الفرع الأول
السلوك الإيــجابي ( الفعـــــــل)
وهي صورة من السلوك المشكلة للركن المادي لغالبية جرائم قانون العقوبات، ويسميها الفقه أيضا:
" النشاط" أو "السلوك"، ويتمثل في الغالب في حركة أو مجموعة حركات عضوية إرادية تحدث تغييرا في العالم الخارجي الملموس، ويكون السلوك فعلا إذا استخدم فيه الجاني أعضاء جسمه، كما لو استعمل يديه في الضرب أو القتل، أو لسانه في جريمة القذف أو السب أو التهديد الشفوي أو تحريض الغير على ارتكاب الجرائم، أو استعمال رجله في جريمة التعدي على الملكية العقارية واغتصابها واحتلالها، لذا فمن أهم خصائص السلوك الإيجابي هي:
أولا: السلوك الإيجابي حركة أو عدة حركات عضوية
السلوك الإيجابي أو الفعل، يعد عبارة عن حركة أو مجموعة حركات عضوية، يأتيها الجاني لتنفيذ جريمته، فقد تكون حركة واحدة كتوجيه ضربة للمجني عليه أو إطلاق رصاصة عليه، أو توجيه إهانة واحدة له، أو مجموعة حركات عضوية تستند إلى قرار جرمي واحد، كاستمرار الجاني في طعن المجني عليه بعدة طعنات متتالية، أو إطلاق العديد من الرصاصات نحوه، في حين السلوك السلبي أو الامتناع فهو إحجام عن الحركة، في أوضاع كان يتعين على الشخص إتيانها، وتسمى الجرائم التي تقع بالسلوك الإيجابي بالجرائم الإيجابية، في حين تسمى الجرائم التي تتحقق بالامتناع، بالجرائم السلبية.
ويجب أن تكون الحركة أو مجموعة لحركات العضوية، عبارة عن حركات مادية مصدرها عضو من أعضاء جسم الإنسان، دون اعتداد في ذلك – في غالبية الأحوال- بالوسيلة المستعملة في تحقيق هذا السلوك، على اعتبار أن الوسيلة ذاتها، تسيرها الحركة الصادرة عن عضو الإنسان[22].
.
ثانيا: السلوك حركة إرادية هادفة لتغيير وضع قائم
يشترط في السلوك الإيجابي، زيادة على كونه حركة أو مجموعة حركات عضوية مادية صادرة عن عضو أو أكثر من أعضاء جسم الإنسان، أن تكون القوة الدافعة لهذه الحركة هي الإرادة، بمعنى أن تكون الحركة إرادية صادرة عن وعي وإدراك وحرية اختيار، وبعبارة أخرى يشترط أن تكون هناك صلة نفسية بين الحركة والإرادة، كون الحركة اللاإرادية حتى وإن ترتب عنها النتيجة المجرمة قانونا، إلا أن مسؤولية الشخص عنها منتفية، والإرادة هذه يجب أن تهدف إلى تغيير وضع قائم، والمقصود بذلك أن يكون هذا التغيير متمثلا في الاعتداء أو الإضرار أو مجرد احتمال التهديد للمصالح والحقوق المحمية بموجب قانون العقوبات.
الفرع الثاني
الســـلوك السلبي
( الترك أو الامتناع أو عدم الفعل[23] )
القانون الجنائي لا يعاقب فقط على السلوكات الإيجابية المتمثلة في حركة أو مجموعة حركات عضوية مادية إرادية – وإن كان ذلك الأصل-، بل هو يعاقب أيضا على بعض التصرفات والسلوكات السلبية الضارة، وذلك كاستثناء، والسلوك السلبي يتمثل في موقف سلبي يتخذه الشخص إزاء قاعدة قانونية تطالبه بالقيام بعمل ما، فيمتنع عن القيام به، أو يقوم بعمل مضاد للعمل الذي أمرت به القاعدة القانونية، لذا فالامتناع بدوره عبارة عن عمل إرادي واعي مصدره الإرادة الحرة المختارة لا مجال فيه للقول بقيام المسؤولية الجنائية للممتنع في حال ما إذا دفعته قوة قاهرة أو أكره عليه.
ومن أمثلة جرائم الامتناع في قانون العقوبات الجزائري، امتناع الشاهد عن الحضور أمام الجهات القضائية الجزائية ( المادة 89 من قانون الإجراءات الجزائية بخصوص الامتناع عن الحضور أمام قاضي التحقيق، والمادة 222 من ذات القانون بخصوص امتناع الشاهد عن الحضور أمام جهات الحكم الجزائية، والمادة 299 من ذات القانون بخصوص امتناع الشاهد عن الحضور أمام محكمة الجنايات)، وامتناع الموظف عن تطبيق ما أمر به القانون ( المادة 109 قانون عقوبات)، وامتناع الشخص الذي يعلم بالشروع في ارتكاب جناية أو وقوعها ولا يخبر السلطات المختصة بها فورا ( المادة 181 ق ع ج).
وفي كل هذه الحالات نكون أمام جرائم امتناع، لأن النص الجنائي ألزم الشخص بالقيام بعمل معين تحت طائلة توقيع جزاء جنائي ولم يقم به، لذا فجرائم الامتناع عبارة عن جرائم محددة العناصر في النصوص الجزائية، تطبيقا لمبدأ الشرعية الجنائية، لذا فلا يجوز اللجوء للتفسير الواسع ولا القياس فيها، والقانون في العادة ما يعاقب على مجرد السلوك السلبي فيها، دون أن يشترط تحقق نتيجة معينة تترتب عن هذا الامتناع، مما يجعل غالبيتها من جرائم السلوك المحض. غير أن الفقه أوجد طائفة جديدة من الجرائم سماها جرائم السلوك بالترك، أو الجرائم الإيجابية التي تقع بجريمة امتناع، أين يكون السلوك مجرد امتناع لكنه يقترن بتحقق نتيجة مادية معينة، مثل امتناع الطبيب عن القيام بعلاج المريض مما يؤدي لموت المريض، أو امتناع الأم عن إرضاع ابنه مما يؤدي إلى إهلاكه.
المطلب الثاني
النتيجة الإجرامية ( أو المجرمة)
يقصد بالنتيجة كأحد العناصر المكون للركن المادي للجريمة، الأثر الطبيعي المترتب عن السلوك المجرم قانونا، وهو المفهوم المادي للنتيجة المتمثل في وجود أثر مادي أو تغير يحدث في العالم الخارجي الملموس، في حين المفهوم القانوني للنتيجة، فيتمثل في الاعتداء على المصالح والحقوق المحمية قانونا.
وقد يظهر أن النتيجة أمر لا ينفصل عن السلوك المادي، بحيث يقوم الجاني بعمل واحد تعد النتيجة آخر حلقاته، غير انه في الواقع، النتيجة تعد العنصر الثاني المستقل والمنفصل من عناصر الركن المادي للجريمة، وما يدل على ذلك تمييز المشرع بين الجريمة التامة ومجرد الشروع- وهو موضوع دراسة مستقلة لاحقا- فلو كانت النتيجة عنصرا ملازما للسلوك لما قام المشرع بهذه التفرقة، ولما كانت هناك أصلا حاجة للعقاب على الشروع، ما دامت النتيجة ملازمة للسلوك، لذا فالسلوك أمر مستقل عن النتيجة. لذا فالنتيجة عنصر من عناصر الركن المادي، يتمثل في التغيير الذي يحدثه السلوك في العالم الخارجي الملموس، والذي قد يكون أثرا ماديا، مثل حدوث الوفاة في جريمة القتل، والاستيلاء على مال الغير في جريمة السرقة، وقد يكون مجرد أثر نفسي، مثلا كالحط من قيمة ومكانة الشخص في وسط أقرنائه في المجتمع كجرائم القذف والسب، لذا نرى أن النتيجة المعتد بها قانونا، ليست النتيجة الواقعية التي حدثت في العالم الخارجي، أو ما يعتبره المجني عليه أنه نتيجة أضرت به، وإنما النتيجة هي ما يعتد به القانون ويعتبره تغييرا قانونيا.
والنتيجة عنصر لازم في معظم الجرائم، خاصة تلك التي يرتب فيها المشرع على تحقق النتيجة أحكام قانونية، تتعلق أساسا بالشروع والاشتراك والقصد الجنائي، غير أن النتيجة قد لا تكون عنصرا لازما في الركن المادي لبعض الجرائم، التي تقوم ويكتمل ركنها المادي بمجرد إتيان السلوك، وتسمى الجريمة في هذه الحالة، بالجريمة الشكلية أو جرائم الخطر أو جرائم السلوك المحض، مقارنة بالجرائم المادية أو جرائم الضرر، التي تتطلب نتيجة[24]. لذا نرى بأن دراسة فكرة النتيجة كعنصر عام وهام في الركن المادي للجرائم، تقتضي منا تناول موضوع التفرقة بين النتيجة المادية والنتيجة القانونية، وذلك في فرع، لنتناول في الثاني التمييز بين الجرائم المادية ذات النتائج، والجرائم الشكلية التي لا يشترط فيها المشرع تحقق نتيجة معينة.
الفرع الأول
التمييز بين النتيجة المادية والنتيجة القانونية
النتيجة بين المفهوم المادي والمفهوم القانوني[25]:
النتيجة عموما هي الأثر الطبيعي الذي يتمخض عن السلوك ويعتد به القانون، وهو التعريف الذي يشتمل على ثلاثة عناصر، أن النتيجة أمر واقعي له وجود خاص وذاتية مستقلة، وهي في حقيقة الأمر تتميز عن السلوك مهما كانت مرتبطة به، والقانون أحيانا قد يتطلب حدوث نتيجة معينة، وأحيانا يكتفي بالنص على صلاحية السلوك لإحداثها، أما العنصر الثاني للنتيجة فهو ارتباطها بالسلوك برابطة سببية، وهي الرابطة
أو العلاقة التي تعد بالغة التعقيد والأهمية، والعنصر الثالث هو اعتداد القانون بالنتيجة، إذ الفعل الواحد قد يرتب نتائج متعددة، وهي النتائج التي قد تولج نتائج أخرى، غير أن القانون يهتم بالبعض دون البعض الآخر، والمشرع قد يجعل بعض النتائج عنصرا لازما لوقوع الجريمة والبعض الآخر من نتائجها المشددة، أو ظرفا مؤثرا في عقوبتها فحسب، مثال الأول حدوث الوفاة في جريمة القتل، ومن أمثلة الثانية العاهة المستديمة في جريمة الضرب، وفي هذا المقام تهمنا النتيجة كعنصر لا كظرف، غير أن النتيجة تعد أحيانا من عناصر الجريمة إذ لا تقوم هذه الأخيرة دونها، في حين قد يكتفي المشرع بالسلوك وحده في بعض الأحيان، وفي هذا الصدد قسمت الجرائم حسب الفقه، إلى جرائم نتيجة وجرائم سلوك محض.
أولا: المفهوم المادي للنتيجة
النتيجة بالمفهوم المادي تتحقق بكل تغيير يحدث في العالم الخارجي كأثر للنشاط الإجرامي[26]، ووفقا لهذا المفهوم للنتيجة أهمية قانونية في موضوعين، الأول بخصوص اكتمال الجريمة وتمامها، والثاني كمعيار لتحديد العقوبة، ووفقا للأهمية الأولى تقسم الجرائم على جرائم مادية ذات نتيجة، وأخرى شكلية كل ما تتطلبه مجرد السلوك، وهو ما نبينه في الفرع الثاني. بعد أن نتناول المفهوم القانوني للنتيجة.
ثانيا: المفهوم القانوني للجريمة
وهي النتيجة المتمثلة في العدوان على الحق أو المصلحة المحمية قانونا، سواء تمثل هذا العدوان في إصابتها بضرر أو مجرد تعريضها للخطر، لذا فهي وفقا لهذا المفهوم، لا تعد تغييرا في العالم الخارجي يمكن للحس أن يدركه ويميز بينه وبين سلوك الجاني، وإنما هي تقدير قانوني للسلوك أو حكم على هذا السلوك من وجهة نظر المشرع، وبهذا المفهوم النتيجة موجودة في كل جريمة، كون كل جريمة تقوم على سلوك، في حين المفهوم المادي للنتيجة المقابل للمفهوم القانوني هو ما يترتب عن السلوك من اثر مادي في العالم الخارجي المحسوس.
الفرع الثاني
التمييز بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية
( الجرائم ذات النتائج والجرائم ذات السلوك المجرد المحض)
سبق القول بأنه ليست كل الجرائم مما يتطلب فيها المشرع تحقق نتيجة مادية تحدث تغييرا ملموسا في العالم الخارجي، بل هناك من الجرائم ما يقوم ركنها المادي على مجرد إتيان السلوك بغض النظر عما إن رتب هذا السلوك نتيجة من عدمه، وبناء على ذلك تنقسم الجرائم من هذه الوجهة، إلى جرائم مادية ذات نتائج، وجرائم شكلية ذات سلوكات فقط، لذا سنحاول أن نتناول معنى النوعين كل في نقطة، لنتناول في نقطة مستقلة أهمية التفرقة بين النوعين
أولا: الجرائم المادية
الجرائم المادية، هي جرائم يتطلب المشرع فيها أن يترب السلوك نتيجة مادية كأثر ملموس في العالم الخارجي المحسوس، أو على الأقل مجرد احتمال حصول هذه النتيجة كأثر مباشر عن السلوك، مثلما هو الشأن بالنسبة لجرائم الشروع، وهذا النوع من الجرائم هو الأكثر شيوعا في القوانين العقابية، إذ غالبية الجنايات والجنح تشترط وقوع نتيجة كأثر مباشر عن السلوك المجرم، سيما في السلوكات الإيجابية. لذا يسمى هذا النوع من الجرائم أيضا " الجرائم ذات النتائج"، أو " جرائم الضرر"، لأن النتيجة في حقيقتها ضرر أصاب مصلحة أو حق محمي قانونا، حتى وغن تجسد هذا الضرر في مجرد احتمال أو تهديد مثلما هو الأمر بالنسبة لجرائم الشروع.
ثانيا: الجرائم الشكلية
في مقابل الجرائم المادية ذات النتائج، توجد هناك جرائم شكلية لا يشترط المشرع لقيامها حدوث نتيجة كأثر مباشر مترتب عن السلوك المجرم، لذا فهي تسمى أيضا " جرائم السلوك المحض" أو " جرائم السلوك المجرد"[27]، ومن أمثلة هذه الجرائم، عرض الرشوة على موظف عام، تزوير أو تزييف النقود دون ترويجها، تزوير الأوراق دون استعمالها، حيازة الأسلحة بدون ترخيص ودون أن تستعمل في ارتكاب جرائم، حمل الأوسمة أو ارتداء الأزياء الرسمية بدون وجه حق.
ثالثا: أهمية التفرقة بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية
للتفرقة بين الجرائم المادية والجرائم الشكلية، أهمية قانونية بالغة الآثار، وذلك بالنظر للنتائج القانونية المترتبة على هذا التمييز أو هذه التفرقة، خاصة بخصوص علاقة السببية، وفي مجال الشروع، وبخصوص العدول الاختياري. فبخصوص العلاقة السببية، لا مجال للبحث عنها في مجال الجرائم الشكلية، فهي صلة أو رابطة متطلبة فقط في الجرائم المادية ذات النتائج، كونها علاقة أو رابطة تفترض أصلا وجود عنصرين، هما السلوك والنتيجة، وتكون هي الرابط بين هذين العنصرين، وإن كان يجب قيامها وإثباتها في مجال قيام الركن المادي في الجرائم المادية ذات النتائج، فالأمر غير ممكن بخصوص الجرائم الشكلية، وذلك لانعدام النتيجة التي يبحث عن علاقتها بالسلوك، إذ هذا الأخير كاف لوحده لقيام الركن المادي.
وأما بخصوص الشروع – الذي سيكون موضوع دراسة مفصلة- فلا يمكن تصوره في الجرائم الشكلية، إذ السلوك المجرم إما أن يأتيه الشخص وإما أن لا يأتيه إطلاقا، على عكس الجرائم المادية ذات النتائج فهي جرائم تشكل مجالا خصبا لجرائم الشروع، هذه الأخيرة التي تتمثل في إتيان السلوك في بعضه
أو في كله من قبل الجاني، وبالرغم من ذلك لا تتحقق النتيجة لظرف أجنبي خارج عن إرادة الجاني.
وأما بخصوص العدول الاختياري، وهو فكرة قانونية تتعلق بنظرية الشروع، فلا يمكن تصوره إلا في الجرائم المادية ذات النتائج، دون الجرائم الشكلية ذات السلوك المجرد، كون العدول يفترض البدء في تنفيذ الفعل والتوقف قبل تحقق النتيجة، وبالتالي عدم تحقق النتيجة معيار القول بوجود العدول الاختياري من عدمه، وما دامت النتيجة غير موجودة في الجرائم الشكلية فلا مجال للقول فيها لا بالشروع ولا بالعدول الاختياري، فالجريمة الشكلية إما أن تقع تامة وإما ألا تقع إطلاقا.
المطلب الثالث
علاقة ( صلة أو رابطة) السببية
Le lien de causalité
مؤدى التصور القانوني لعلاقة السببية، هو أنه لكي يكتمل البنيان القانوني للركن المادي للجريمة، لا بد أن يرتبط السلوك، فعلا كان أو امتناعا، بالنتيجة المحظورة التي تحققت، أي ارتباط السبب بالمسبب[28]، وبعبارة أخرى، يجب أن يكون السلوك مسبب النتيجة، فإن أمكن رد هذه النتيجة إلى عامل آخر غير السلوك الذي أتاه الجاني، انقطعت الصلة السببية وانتفت مسؤولية الجاني عن النتيجة التي تحققت، لذلك، وحتى يسأل الشخص يجب أن يكون سلوكه سبب حدوث النتيجة المحظورة قانونا، إذ المنطق واعتبارات العدالة تقتضي مسائلة الشخص فقط عن النتائج التي كانت ثمرة أفعاله المحظورة، لا النتائج التي كانت ثمرة عامل أو عوامل أخرى.
ويجب ألا نخلط بين صلة السببية التي تعد من عناصر الركن المادي للجريمة، وبين النية الإجرامية التي تعد من عناصر الركن المعنوي للجريمة – في بعض الحالات الضيقة-، حيث هذه الأخيرة عبارة عن مسألة نفسية أو شخصية، تتعلق بالموقف النفسي للجاني من النتيجة التي تحققت، وما إن كان يريدها أم لا، في حين صلة السببية من الأفكار الموضوعية اللصيقة بماديات الجريمة لا بجوانبها النفسية أو المعنوية.
غير أنه في الواقع توجد حالات يتضح فيها بما لا يدع مجالا للشك، أن الفعل الذي أتاه الجاني هو سبب النتيجة المجرمة التي تحققت، وفي هذه الحالة لا إشكال، حيث يعد الركن المادي بأكمله منسوبا للشخص، غير أنه وفي حالات أخرى كثيرة، قد تتداخل عوامل كثيرة بين سلوك الجاني والنتيجة التي تحققت، سواء كانت هذه العوامل سابقة أو معاصرة أو لاحقة لفعل الجاني، وهو ما قد يعدل أو يؤخر حدوث النتيجة، أو يجعلها تتحقق على نحو مخالف لما ارتآه وأراده الجاني، وبالرغم من أن هذه العوامل فيها الخفي والظاهر، المألوف والشاذ، المتوقع وغير المتوقع، القوي والضعيف[29]... فكيف لنا أن نحدد سبب النتيجة في مثل هذه الحالات؟ وبعبارة أخرى: كيف لنا الحكم بأن سلوك الجاني هو سبب النتيجة؟ وما الحل القانوني لذلك في غياب النص التشريعي؟
في ظل المشاكل العملية التي أظهرتها مشكلة البحث في علاقة السببية، وفي ظل سكوت المشرع عن توضيح معيارها الدقيق، حاول الفقه إيجاد حلول ففقهية لها، محاولا في بداية الأمر أن يعطي لها مفهوما علميا، قائلا أنه للسببية مدلول علمي قبل أن يكون لها مدلول قانوني، لذا يجب استخلاص معيار علمي لها لا استنادا للتصور القانوني، مستندين في ذلك لنظرية العالم " جون ستيوارت ميل" الذي عرف السبب علميا، بأنه: مجموعة العوامل الإيجابية والسلبية التي يستتبع تحققها حدوث النتيجة على نحو لازم، لذلك فالسبب من الناحية العلمية، يعني احتواءه على شرطي اللزوم والكفاية في إحداث النتيجة، أي احتوائه على المقومات اللازمة والكافية لإحداث هذه النتيجة، غير أن هذا المفهوم العلمي صعب التطبيق في مجال العلوم الإنسانية عموما، والعلوم القانونية خصوصا، والقانون الجنائي بالأخص، كون السبب في هذا القانون عبارة عن سلوك إنساني لا يمكن عزله عن الأسباب الأخرى المعاصرة أو السابقة أو اللاحقة له، ولا يمكن تجريده والحكم عليه بمعزل عن مجمل الظروف والملابسات المحيطة به، لذا فالسببية في المجال الجنائي لا يمكن أن تخلو من الجوانب الشخصية والنفسية، لذلك من الصعب بمكان الحكم عن مدى صلاحية السلوك في إحداث النتيجة دون الأخذ بعين الاعتبار الموقف النفسي للجاني، لذلك فشل هذا الاتجاه، وظهرت محاولات فقهية أخرى بنت حلولها على العديد من النظريات الفقهية، نذكر أهمها في النقاط التالية.
الفرع الأول
نظرية تعادل الأسباب
( نظرية الأسباب المتكافئة)
نادى بهذه النظرية فريق من الفقه الألماني وعلى رأسهم الفقيه " فان بورغ Van Burg"، ومقتضاها أن جميع الأسباب التي تساهم في إحداث النتيجة تتعادل وتتساوى ويكون كل من ساهم في إحداث إحداها مسؤولا مع البقية، أي أن كل الأسباب والعوامل التي تتدخل إلى جانب فعل الجاني تعد مسببة للنتيجة متى ساهم معها فعل الجاني في إحداث النتيجة، بغض النظر عن دور باقي الأسباب الأخرى، وسواء كانت سابقة عن فعله أو معاصرة له أو لاحقة عليه، ولا تهم طبيعة هذه العوامل، وما إن كانت مألوفة أو شاذة، قوية
أو ضعيفة، أو حتى ولو تداخل معها خطا المجني عليه[30]، أو خطا الغير[31]، أو القوة القاهرة[32]، أو حتى ولو كانت راجعة لفعل الطبيعة كالزلازل والفيضانات والعواصف، لأن فعل الجاني في مثل هذه الحالات، يصبح جزءا من سبب آخر" سبب السبب"، أي العوامل الأخرى ما كانت لتحدث النتيجة لولا فعل الجاني، حتى ولو كان ضعيفا مقارنة بها، أو دوره ضئيلا مقارنة بدور باقي الأسباب والعوامل الأخرى، إذ فعل الجاني وفقا لهذه النظرية، يكفي أن يكون موجودا ضمن طائفة من الأسباب الأخرى، حتى يمكن القول بأنه سبب في حدوث النتيجة، لأنه لولا فعله لما تعاقبت الأحداث على هذا النحو. ووفقا لهذه النظرية تترتب العديد من النتائج القانونية التي تنعكس على باقي أفكار قانون العقوبات، تقتضي منا تناولها قبل الخوض في تقدير النظرية ككل.
أولا: نتائج نظرية تعادل الأسباب
يترتب على منطق نظرية تعادل الأسباب العديد من النتائج القانونية التي يمكننا أن نوجزها في النقاط التالية:
1- الجاني مسؤول دوما عن الجريمة حتى ولو تداخلت إلى جانب سلوكه أسباب أخرى ساهمت معه في إحداث النتيجة، حتى وإن كانت غير متوقعة ولا مألوفة، كالحالة الصحية السيئة للمجني عليه، أو انهيار المستشفى الذي كان يعالج به المجني عليه،
2- لا تنقطع الصلة السببية بين فعل الجاني والنتيجة حتى ولو تداخلت العديد من الأسباب الأخرى معه، سواء كانت معاصرة لسلوكه أو سابقة له أو لاحقة عليه، كتأخر المجني عليه في عرض نفسه على الطبيب، أو خطا هذا الأخير في علاج المجني عليه.
3- لا تنتفي صلة السببية بين سلوك الجاني والنتيجة المحظورة، حتى ولو كانت النتيجة ستتحقق حتما، إلا أن سلوك الجاني عجل بحدوثها أو ضاعف في حجمها.
ثانيا: تقدير نظرية تعادل الأسباب
جاءت نظرية تعادل أو تكافؤ الأسباب بمعيار سهل ويسير الإثبات في استخلاص علاقة السببية، إذ يكفي أن يكون سلوك الجاني قد ساهم في تسلسل الوقائع ليعد الفعل الذي لولاه لما وقعت النتيجة، إلا أن الفقه وجه سهام النقد لهذه النظرية، لأنها تنطوي على إثقال كاهل الجاني وتشدد عليه المسؤولية، وهو أمر مخالف للعدل والمنطق، وإعمالها أيضا يؤدي إلى نتائج في غاية الغرابة، وكذا من الناحية القانونية، إعمال هذه النظرية يؤدي إلى إلغاء فكرة الاشتراك في الجريمة. كما قيل بأن هذه النظرية تتناقض مع نفسها، فتقر بداية التعادل بين الأسباب، ثم تختار من بينها سبب الجاني فقط وتلقي عليه كامل المسؤولية، وتحمله المسؤولية حتى عن الأسباب النادرة الحدوث، مثل الحريق الذي يهب في المستشفى، أو تهدمه، أو وقوع زلزال...
الفرع الثاني
نظرية السبب المنتج
( السبب المباشر أو الفعال )
وهي نظرية من ابتكار الفقه الأنجلوسكسوني[33]، وتسمى أيضا نظرية السبب الفوري أو السبب النشيط أو السبب الأقوى، والتي ترى وجوب اتصال النتيجة اتصالا مباشرا بفعل الجاني، كونه السبب الأقوى
أو المباشر أو الأساسي في إحداث النتيجة مقارنة مع الأسباب الأخرى، بمعنى أن الفاعل يسأل عن النتيجة الضارة التي جرم المشرع حدوثها، متى كان فعله سببا قويا وأساسيا لإحداثها وفقا للمجرى العادي للأمور، ومؤدى هذه النظرية باختصار، هو أن نطرح السؤال التالي: هل الفعل الذي ارتكبه الجاني، باستبعاد العوامل الأخرى التي تظارفت معه، قادر لوحده على إحداث النتيجة الضارة التي وقعت؟. فإن كان الجواب بالإيجاب، فإن الجاني يعد مسؤولا عن النتيجة التي حدثت، كما يعد مسؤولا عن كل النتائج الأخرى المحتملة، سواء توقعها أو لم يتوقعها، ما دام أمر حدوثها وفقا للمجرى العادي للأمور ممكن التصور، وإن كان الجواب عن السؤال السابق بالنفي، فالجاني لا يسأل عن النتيجة كون فعله لم يكن سببا في حدوثها.
أولا: معيار النظرية
يتضح مما سبق، بأن أنصار هذه النظرية أخذوا بمعيار مادي موضوعي، لا معيار شخصي، لأنها نظرية تأخذ بتقدير الأسباب، وهي أمور موضوعية لا دخل لشخصية الجاني فيها، ومعيار كل ذلك، معيار الرجل العادي الذي يوضع في نفس الظروف التي تواجد بها الجاني.
ثانيا: تقدير النظرية
بالرغم من وجاهة النظرية، إلا أنها لم تسلم بدورها من سهام النقد، وأهم الانتقادات التي وجهت لها، هو عدم وضوح معيارها، أي المعيار الذي يمكن من تحديد السبب المباشر والأساسي من بين سائر الأسباب الأخرى غير المباشرة، وأن القول بوجود سبب واحد للجريمة في ظل تعدد مسبباتها هو قول تعوزه الدقة[34]، لذلك نجد الفقه قد جاء بنظرية أخرى، تعد لغاية اليوم، وبإجماع الفقه، أفضل النظريات التي قيل بها في صدد بحث مشكلة صلة السببية، والتي أخذت بها معظم التشريعات الجنائية، سواء بصفة صريحة أو بصفة ضمنية، كما تبناها القضاء في العديد من الدول، وهي نظرية السبب الملائم، التي نتناولها في الفرع الموالي.
الفرع الثالث
نظرية السبـــب الملائم
وهي نظرية، على عكس النظريات السابقة، أقامها أنصارها على معيار بسيط يشبه نوعا ما المعيار الذي تبنته النظرية السابقة، ومفاد هذا المعيار طرح السؤال التالي: هل باستطاعة فعل الجاني بحسب المجرى العادي للأمور، إحداث النتيجة بالرغم من تداخل عوامل أخرى معه؟[35]. وهي بذلك نظرية لا يأخذ أنصارها بكل العوامل مثلما فعلت النظرية الأولى، ولا تستبعد كل العوامل مثلما فعل أنصار نظرية السبب المنتج، بل تأخذ فقط بالعوامل المألوفة التي يعلم بها الجاني أو يتوقعها على الأقل، ومعيار التفرقة بين العوامل المألوفة والعوامل الشاذة غير المألوفة، هو معيار العلم، أي متى كان يعلم الجاني أو يتوقع بعض العوامل المصاحبة لنشاطه كان العامل مألوفا ولا يمنع من مسائلته، وإن كان يجهل ذلك، عد العامل غير مألوف ويقطع اللصة بين النتيجة وفعله.
غير أن أهم انتقاد وجه لإعمال هذا المعيار، أنه معيار شخصي ونسبي ينقلنا من إطار الركن المادي إلى إطار الركن المعنوي، في حين صلة السببية عنصر هام من عناصر الركن المادي يجب أن يستبعد من محيطها كل العوامل النفسية والشخصية، ويركز فيها فقط على المسائل والأمور المادية الموضوعية. كما أنه لا وجود لضابط يمكن من الحكم بعلم الجاني بالعوامل من عدمه. لذا صحح أنصار هذه النظرية موقفهم، وقالوا بمعيار الرجل العادي[36]، عوض معيار العلم، وهو التصحيح الذي جعل منها من أكثر نظريات السببية قبولا، وأخذت بها غالبية التشريعات بما فيها المشرع الجزائري في نظرنا.
غير انه يمكننا القول كخلاصة، بأن أي من النظريات السابقة، وبالرغم مما قدمته من إضاءة لكثير من جوانب رابطة السببية في مجال الركن المادي للجريمة، إلا أنها لم تحل بصفة نهائية وحاسمة مشاكل هذه الفكرة القانونية، ودليل ذلك هو تشتت الفقه بالرغم من ثراءه، واضطراب القضاء بالرغم من اجتهاده، لذا فتردد المشرع عن تكريس معيار واضح ودقيق لرابطة السببية، لا يخلو من دلالات، وذلك بالنظر لأسباب التالية:
1-إن رابطة السببية ذاتها تستعصي عن التعريف وفق مفهوم مطلق ومجرد، لأن الفعل أو السلوك الإنساني يصعب تجريده بمعزل عن الظروف والعوامل المختلفة المحيطة به، لذا فمثل هذا السلوك يتميز بطابع خاص نسبي وشخصي أيضا تجعله يختلف من شخص لآخر، بل لدى الشخص الواحد من حالة لأخرى، ومن هذه العوامل والظروف، طبيعة الفعل نفسه وزمان ومكان ارتكابه، ووسيلة تنفيذه، والمحل الذي يرد عليه... لذا يجب الخروج من إطار المفهوم المطلق المجرد لعلاقة السببية إلى إطار الفهم الواقعي النسبي لها، وذلك لا يمكن إلا بتبني معيار واقعي ونسبي لهذه العلاقة، يأخذ بعين الاعتبار ظروف كل واقعة على حدة، وذلك لا يمكن أن يتأتى إلا بإعطاء القاضي سلطة تقديرية تمكنه من استخلاص هذه الرابطة من خلال الوقائع المعروضة عليه والظروف والملابسات المحيطة بها.
2- انطلاقا من التصور الواقعي النسبي لعلاقة السببية، يجب البحث فيما إن كان السلوك هو مسبب النتيجة في إطار كل قضية على حدة، وعلى أن يكون هذا السلوك متفوقا نسبيا على باقي العوامل الأخرى التي سبقته أو صاحبته أو تلته، وهذا التفوق النسبي لا يستخلص استخلاصا مجردا، بل يستخلص واقعيا بالنظر لكافة الظروف والملابسات المحيطة بالسلوك، وعلى ضوء دراسة كل العوامل بما فيها الشخصية، ومن أهم المعايير التي قد تعين القاضي في ذلك: طبيعة الجريمة وما إن كانت من الجرائم العمدية أو جرائم الخطأ، بحيث ما قد يصلح لاستخلاص العلاقة السببية في النوع الأول، قد لا يصلح لاستخلاصها في النوع الثاني. شخصية الجاني، وبحث مدى قدرته على التقدير ومدى قدرته على العلم بما يتعين عليه أن يعلمه، لأن سلوك الإنسان يصعب تقديره بمعزل عن صاحبه. مراعاة زمان ومكان ارتكاب الجريمة، لأن ما يمكن أن يكون سببا للجريمة في النهار في ظل الحركة والازدحام، قد لا يمكنه أن يكون كذلك في الليل، وما يمكن أن يصلح لأن يكون سببا للجريمة في مكان قد لا يصلح لأن يكون كذلك في مكان آخر. شخصية المجني عليه وسنه وظروفه الصحية والنفسية لها دور كبير في تقدير ما إن كان فعل الجاني هو السبب المباشر في إحداث النتيجة الضارة.
وبعبارة أخرى، يجب الخروج بصلة السببية من إطار المفهوم المجرد المطلق إلى رحاب الفهم الواقعي النسبي، كون النظريات السابقة، وإن أضاءت جوانب هذه الفكرة القانونية المعقدة، غير أن أي من هذه النظريات لم يحل بصفة نهائية مسألة السببية، ودليل ذلك أن أحكام القضاء لا تزال مترددة ومن العسير ردها إلى نظرية من النظريات، وذلك داخل البلد الواحد، إذ في الدولة الواحدة يتراوح القضاء أحيانا من النقيض إلى النقيض. لذلك يمكن القول بفإن المشرع الذي يعزف عن تكريس معيار للسببية له ما يبرره، كون صلة السببية تستعصي أحيانا على التعريف وفق مفهوم مجرد مطلق، كون الفعل الإنساني يصعب تجريده من ظروف وعوامل شتى تعطي له خصوصيته وطابعه النسبي. لذا فمن الضروري الأخذ بعين الاعتبار كل العوامل والظروف المحيطة بسلوك الإنسان، وعلى ضوئها يتم تقدير علاقة السببية، لذا يجب أن يكون السلوك المسبب للنتيجة متفوق نسبيا عن باقي العوامل الأخرى، وهو التفوق الذي يستخلصه قضاة الموضوع واقعيا ومن خلال كافة الظروف والملابسات المحيطة بهذا السلوك، في كل قضية على حدة وعلى ضوء شخصية الجاني ذاته. كما تختلف باختلاف أنواع الجرائم، فما قد يصلح معيار لاستخلاص علاقة السببية في جريمة قتل عمدي، قد لا يصلح لأن يكون كذلك في جريمة قتل خطأ، وأنه لا يمكن إعمال المقومات المادية على حساب المقومات الشخصية، فيجب أن تقدر صلة السببية بناء على مقومات السلوك المادية، ومقومات شخصية تستفاد من علم الجاني أو بما ينبغي عليه العلم به، لذا فعلاقة السببية تقوم على الفهمين المادي والشخصي، أي على الركنين المادي والمعنوي، فالسلوك الإنساني مهما كان ليس مادة مخبرية يتم إخضاعها للتجارب في المخبر. لذا يجب إعطاء القضاء سلطة في استخلاص صلة السببية، كون الحكم الذي يأتي خاليا من بيان البناء القانوني للجريمة يكون مشوبا بالقصور ويتعين نقضه، والدفع بانتفاء صلة السببية من الدفوع الجوهرية التي يتعين على المحكمة تمحيصها والرد عليها، لكن القول بوجود أو انتفاء الصلة السببية من المسائل الموضوعية التي تستقل محكمة الموضوع بتقديرها دون رقابة من محكمة النقض، غير انه لهذه الأخيرة رقابة على المعيار المعتمد من قبل محكمة الموضوع لاستخلاص هذه الصلة.
المبحث الثاني
المحاولة أو الشروع كصورة ناقصة للركن المادي
عادة ما يكتمل البنيان القانوني للجريمة بتوافر أركانها الثلاثة العامة، الركن الشرعي والركن المادي والركن المعنوي، وهو الوضع الغالب والطبيعي لكل الجرائم، غير أن المشرع يتدخل أحيانا ويجرم بعض المظاهر السلوكية التي لا تكتمل لها كل هذه الأركان والعناصر، سيما ما يتعلق منها بالركن المادي للجريمة، فإن كان الأصل أن المشرع لا يعاقب إلا على الأفعال التي اكتملت ورتبت النتائج التي يعتد بها قانونا، إلا أنه يتدخل أحيانا بالعقاب دون أن يصل هذا الركن لهذه المرحلة، وهو الوضع في حال بعض الجرائم الناقصة التي تسمى شروعا. لذا قلنا بأن للركن المادي للجريمة صورا خاصة، تخرج عن إطار النموذج القانوني المكتمل والعادي للجريمة، والمتمثل في ارتكاب شخص لجريمة تامة فيعاقب عليه، وهو وضع جريمة الشروع وفكرة المساهمة الجنائية، التي نتناول كل منهما في مبحث مستقل.
وقد سبق القول بأن الركن المادي للجريمة – سيما في الجرائم المادية ذات النتائج- يتطلب أن يترتب عن سلوك الجاني نتيجة محظورة قانونا، وأن تربط بينهما رابطة سببية ليكتمل الركن المادي قانونا، لكن قد يحدث وأن يقوم الجاني بسلوكه المحظور كاملا، غير أن النتيجة لا تتحقق، أو أن يبدأ في سلوكه هذا ولا يكمله، سواء من تلقاء نفسه، أو نتيجة تدخل عوامل أخرى خارجة عن إرادته، وفي كلتا الحالتين يعد الجاني قد شرع في فعله المجرم كله أو بعضه دون أن يكتمل الركن المادي للجريمة، وهو ما يسمى الشروع في الجريمة أو المحاولة فيها. وهو وضع يعني انه شرع في ارتكاب الجريمة، غير أنها لم تكتمل، مما يجعلها عبارة عن جريمة ناقصة أوقفت في مراحها الأولى، أو استكمل السلوك فيها وخاب أثرها لسبب خارجي لا دخل لإرادة الجاني فيه. وذلك حتى نكون بصدد جريمة الشروع المعاقب عليه، لأنه لو كانت لإرادة الجاني دخل في وقف الجريمة، لكنا أمام فكرة العدول الاختياري التي تنفي جريمة الشروع أصلا. لذا سنحاول أن نبين معنى الشروع وأنواعه والعلة من العقاب عليه، في هذا التمهيد، لنخصص المطالب لأركان جريمة الشروع فقط، بالنظر لخصوصية هذه الأركان في هذا النوع من الجريمة.
أولا: مفهوم جريمة الشروع
عرف البعض الشروع بأنه: الحالات التي يفشل فيها الفاعل في تحقيق جريمته، أي لا تتحقق النتيجة المادية المطلوبة لقيام الجريمة، ورغم ذلك تم تعريض المصالح والحقوق المحمية قانونا للخطر، لأن الشروع ينطوي على احتمال الإجهاز عليها في حال البدء في تنفيذ الجريمة. لذا يمكننا القول، أن الشروع اعتداء محتمل على مصلحة أو حق محمي جنائيا، والمشرع يحمي هذه الأخيرة من الاعتداءات الفعلية ومن مجرد احتمال وقوع مثل هذه الاعتداءات[37]، لذا فالشروع جريمة توافر فيها الركن المعنوي ولكن تخلف فيها اكتمال الركن المادي فقط، سواء كان هذا التخلف بصورة جزئية أو كلية ونكون أمام جريمة ناقصة، وهذا النقص في البنيان القانوني للركن المادي للجريمة ينصب تحديدا على عنصر النتيجة القانونية التي لم تتحقق لسبب لا دخل لإرادة الجاني فيه، وبالتالي تصوير جريمة الشروع على النحو السابق، يستدعي إدراج الملاحظات التالية:جوهر الشروع أنه جريمة ناقصة، وهذا النقص ينحصر فقط في تخلف تحقق النتيجة، رغم ارتكاب السلوك المجرم كله أو في جزء منه.وتبعا لما سبق، الشروع لا يثور كأصل عام، إلا بالنسبة للجرائم المادية ذات النتائج، وبالتالي فهو غير ممكن التصور في الجرائم الشكلية ذات السلوك المجرد المحض – وقد سبقت الإشارة لذلك- كونها في جوهرها جرائم تمثل مرحلة الشروع، وبالتالي لا يمكن تصور الشروع في الشروع. الشروع جريمة لم يكتمل ركنها المادي، لكن الركن المعنوي فيها يبقى ركنا أساسيا لا يمكن تصور قيامها بدونه، وتلك إذن الحكمة من العقاب على الشروع، وبالتالي يمكن القول مبدئيا، بأنه لا شروع في الجرائم غير العمدية.
ثانيا: الهدف أو العلة من العقاب على الشروع
في حقيقة المر ثار السؤال في بعض الدول عن العلة من العقب عن جريمة الشروع، خاصة وان المشرع يعاقب على الاعتداءات الفعلية على المصالح والحقوق المحمية قانونا، كما ثار تساؤل آخر حول قدر العقاب عن جريمة الشروع، وما إن كان يجب أن يكون مساويا للعقاب عن الجريمة التامة أم اقل أم أكثر ؟
فبخصوص العلة من العقاب[38]، يرى الفقه أن الشروع كجريمة وإن كان قد خاب أثرها ولم تعد تشكل اعتداء فعليا، فإنها تحولت إلى اعتداء محتمل أو خطر يهدد المصالح والحقوق المحمية قانونا، وأن المشرع مثلما يحمي هذه الحقوق من الاعتداءات الفعلية، فإنه يحميها أيضا من الاعتداءات المحتملة، والشروع جريمة تهدد بالخطر، ومصدر هذا الخطر أفعال مادية ملموسة والتي حتى وإن كانت ناقصة، إلا أنها تعد بادرة لارتكاب الجرائم وتنبئ بخطورة إجرامية لدى فاعلها أو القائم بها. لذا يعبر بعض الفقه في هذا النوع من الجرائم، بأنه بالرغم من تخلف النتيجة المحظورة قانونا، إلا أن الجريمة قد تمت من الناحية الشخصية، لكنها خابت من الناحية المادية، وأن الاضطراب الذي تحدثه الجريمة الخائبة في المجتمع، أشد خطورة من الاضطراب الذي يحدثه الشروع البسيط، الذي يقصد به عدم اكتمال السلوك.
ثالثا: أنواع الشروع ومجال تطبيقه
نصت المادة 30 من قانون العقوبات الجزائري، على أنه: " المادة 30 :" كل المحاولات لارتكاب جناية تبتدئ بالشروع في التنفيذ أو بأفعال لا لبس فيها تؤدي مباشرة إلى ارتكابها، تعتبر كالجناية نفسها إذا لم توقف أو لم يخب أثرها إلا نتيجة لظروف مستقلة عن إرادة مرتكبها حتى ولو لم يمكن بلوغ الهدف المقصود بسبب ظرف مادي يجهله مرتكبها." ، ونصت المادة 31 :" المحاولة في الجنحة لا يعاقب عليها إلا بناء على نص صريح في القانون. والمحاولة في المخالفة لا يعاقب عليها إطلاقا.". من نص المادة 30 يتضح أنه للشروع صورتين، صورة الجريمة الخائبة التي يفرغ فيها الجاني كل نشاطه المادي ورغم ذلك لا تتحقق النتيجة المحظورة قانونا، لظروف مستقلة عن إرادة الجاني أو لظروف مادية يجهلها أصلا، وهو ما بينته الفقرة الثانية من المادة 30. مستعملة عبارة " لم يخب أثرها"، بينما بينت الفقرة الأولى صورة الشروع الناقص أو الجريمة الناقصة أو الجريمة الموقوفة، وهي الصورة التي لم يكتمل فيها السلوك أصلا، كون الجاني أوقف- لم يتوقف بمحض إرادته- لذا استعملت المادة عبارة " إن لم توقف" المقصود بها الإيقاف الاضطراري، لكون العدول الاختياري يخرجنا أصلا من نطاق جريمة الشروع.
وبالتالي يمكننا القول بأن الشروع إما أن يكون تاما وتقابله الجريمة الخائبة التي لم تتحقق فيها النتيجة المحظورة قانونا، لكنها تبقى ممكنة الوقوع، والجريمة المستحيلة، وشروع ناقص وتقابله الجريمة الموقوفة لأن السلوك فيها أوقف قبل اكتماله، وقبل انتظار تحقق النتيجة من عدمه، على أن يكون هذا التوقف اضطراريا لا اختياريا، لأنه سبق القول أن العدول الاختياري ينفي جريمة الشروع تماما. وبالتالي الشروع نوعان، شروع تام وشروع ناقص وهما نوعا أو صورتا الشروع.
أما فيما يخص مجال تطبيق نظرية الشروع، فيمكننا القول من خلال استقراء المادتين 30 و31 من تقنين العقوبات الجزائري، بأن الشروع متصور في كل أنواع الجنايات بحسب المادة 30 ق ع ج، وفي الجنح في الحالات التي يوجد فيها نص صريح يعاقب على الشروع بحسب المادة 31/1[39]، ولا شروع إطلاقا في مجال المخالفات التي إما أن تتم كاملة أو لا تتم أصلا بحسب المادة 31/2 ق ع ج. وعلة عدم العقاب على الشروع في المخالفات هو أنها جرائم بسيطة لا تنطوي على خطورة إجرامية كبيرة لدى الجاني، في حين أن العقاب على الشروع قرر أصلا لمواجهة الخطورة الإجرامية لدى الجناة. كما أن المخالفات في العادة عبارة عن صور سلوكية تقع بالمخالفة لأمور تنظيمية وإدارية، ارتأى فيها المشرع العقاب على السلوك ذاته، لا النتائج المترتبة عنه.
وعموما يمكن القول أن الشروع عبارة عن جريمة شأنه شأن الجرائم التامة، وكل ما في الأمر أن الركن المادي فيه غير مكتمل العناصر، لذا لا بد وأن تكتمل هل باقي الأركان اللازمة لقيام الجرائم، وهي الأركان العامة الثلاثة المعروفة، الركن الشرعي والركن المادي والركن المعنوي، وإن كان الركن الشرعي لا يثير أي إشكال، بحيث القاعدة العامة في العقاب على الشروع في الجنايات هي المادة 30، وفي الشروع في الجنح نص المادة 31/1 بالإضافة إلى النص الخاص الذي يعاقب على الجنحة، كما لا يثير الركن المعنوي أي إشكال، بحيث هو نفسه الركن المعنوي المشترط في الجرائم التامة- ولنا عودة إلى ذلك- ويبقى الركن المادي هو الذي يثير بعض الصعوبات، بحيث سبق القول بأن معيار التفرقة بين الجرائم التامة وجرائم الشروع هو عدم اكتمال الركن المادي في الأخيرة، الأمر الذي يثير بعض الصعوبات حول المرحلة التي يجب أن يصل فيها التنفيذ المادي للسلوك، ومعيار التفرقة بين المراحل المعاقب عليها من المراحل غير المعاقب عليها، وكذا معيار التفرقة بين العدول المعاقب عليه والعدول غير المعاقب عليه. والموقف من نوع من الجرائم تسمى :" بالجرائم المستحيلة" لذا فالمطالب التي سنتناولها في حقيقة الأمر تخص عناصر الركن المادي غير المكتمل في جريمة الشروع، لأنه سبق القول بان الركنين الشرعي والمعنوي لا يثيران أي إشكال، وإن كنا سنعود للركن المعنوي في الأخير بنوع من التفصيل المختصر، لتبيان بعض الأوضاع
الخاصة.