كم هو جميل و رائع و معبر في زمن الرداءة هذا أن نقرأ كلاما قيما كهذا يشذ عن المألوف و المتعارف عليه و يخرج بنا من دائرة التقليد إلى فضاء الإعتزاز بالهوية و بمشتملاتها حتى صار الحديث عن الهوية مرادفا للتحجر و التخلف و الرجعية و محدودية الأفق.
كنت قبل مدة وجيزة قد تابعت شريطا وثائقيا عن اليابان التي تعتبر بحق أنموذجا للتطور و التمدن على الأقل بالمعايير المادية التي لا مراء فيها و لا إختلاف حولها ... و أكثر ما إستوقفني في هذا الشريط صورة ذلك الرأسمالي الشاب الذي يدير بنفسه شركة ضخمة و يقود سيارة ربما يتجاوز سعرها نصف مليار دولار ... ثم حين يعود إلى بيته مساء ينزع حذائه عند الباب و نكتشف من خلال الشريط أن بيته موغل في البساطة ( مع إبداع في التنظيم و الديكور ) ثم يجلس أرضا على ركبتيه ليتناول كوبا ساخنا من الشاي ..... و كنت قد تساءلت في تلك اللحظة عما يمنع هذا الشاب من أن يوفر لنفسه كل وسائل الترف و البذخ و الرفاهية التي نلهث نحن وراءها ... فجاءني الجواب على لسانه شخصيا و هو يرد على سؤال المحققةفيما معناه أن لكل أمة حضارتها و ذلك لا يمنع الإستفادة من حضارات الغير و لكن دون أن يصل ذلك إلى إستبدال حضارة مكان حضارة فأنت لا تبقى حليبا إذا كنت تقبل أن تمضخ ( بضم النون ).
حينها فقط أيقنت كيف إستطاع اليابانيون أن يبلغوا ما بلغوه في ظرف قياسي... ببساطة لأنهم ظلوا يابانيين.
أما عندنا نحن الأمم المتخلفة فمفهومنا للتقدم يقوم على فرضية ثابتة في وعينا ... حيث أننا نفترض أن هويتنا هي سبب تخلفنا ... و بالتالي لا سبيل للتقدم إلا بالإنسلاخ عن هذه الهوية و عن جميع مشتملاتها ... و حيث أن الطبيعة تأبى الفراغ ... فلا بد أن نرتدي العباءة الغربية لأنها في نظرنا تمثل التطور و التقدم و الرقي ..
نحن مثلا لا نلقي بالا لرجل يضع قرطا في إحدى اذنيه .... و لكننا نجفل من رؤية رجل ملتح .... ننظر إلى إمرأة عارية و أقصى ما نقوله أنها لا تستحي ... و تمر امامنا إمرأة أخرى منقبة فنتخذها محلا للتندر و التكنيت ....
نحتاج في مجتمعنا قبل الحديث عن كل هذه الظواهر أن نتفق قبل ذلك على سلم القيم .... لأننا حسب تجربتي الشخصية لم نعد نتقاسم الإيمان بالقيم نفسها أو على الأقل لم تعد نظرتنا للقيم متقاربة حتى لا أقول متطابقة ....و في كثير من الحالات نتعامل مع القيم بكثير من الترف.
هذا على المستوى الفردي .. أما على مستوى الدولة فالدولة قد إنسحبت كليا من ساحة العمل " الأخلاقي " ... و كثيرة هي الشواهد التي على ذلك ... و قد يكفي أن نتساءل عن مبررات الموقف السلبي الذي يلتزمه أعوان الشرطة و هم يشاهدون بأم أعينهم في شوارع مدننا مظاهر معاكسة البنات و مضايقتهن التي لا تخلو يومياتنا من أذاها.
أما عن الحجاب نفسه .. فأود القول قبل كل حديث آخر ... أننا يجب أن نناقش العري كظاهرة عامة ... فحتى الرجال في مجتمعنا مدعوون لمراعاة الآداب في لباسهم ... و هم و إن كانوا قلةإلا أن مجرد وجود هذه القلة يجعل مناقشة الموضوع أمرا مبررا.