السؤال (2) : « هل يستطيع المؤرخ أن يتجاوز العوائق التي تمنعه من تحقيق الموضوعية فيالتاريخ؟
الدرس : العلوم الإنسانية والعلوم المعيارية
المقدمة:إذا كانتالمعرفة العلمية متوقفة وملتزمة بشروط . والموضوعية إحدى هذه الشروط والتي نجدصعوبة في تفسيرها لعدم تخلص المؤرخ من نظرة الذاتية التي يفرضها عهده أو ظنه أوالطبقة التي ينتمي إليها فهو لا يستطيع أن يعيش الحادثة الماضية إلا من خلال القيموالاهتمامات السائدة لديه والسؤال الذي يطرح نفسه فهل بإمكان المؤرخ أن يتجاوزالعوائق التي تمنعه من تحقيقها؟
الموقف الأول:إن المؤرخ عندما يكتب التاريخلا يستطيع أن يتخلص من التعسف في الاختيار الذي يخص به بعض الحوادث دون بعضها إذمعياره الوحيد في التمييز بين المهم والأهم إنما الاهتمام الذي يوليه لنوعيتها وهذاالاهتمام نفسه قد يكون شخصيا وقد يكون جماعيا بحيث أن قيمة الحوادث التاريخية إنماتستمد حقيقتها من القيم التي يؤمن بها المؤرخ على حدة أو التي يفرضها عليه المجتمعالذي ينتمي إليه فقد أصبحنا اليوم نهتم بالحوادث التاريخية ذات الطابع الجماعي الذييتجلى فيها مفعول الجماعة كلها بينما كان أسلافنا يولون اهتمامهم الأكبر إلى أعمالالأفراد من ملوك وأمراء كما صرنا اليوم نميل إلى العناية بالحوادث الإقتصاديةبالماضي في حين كان الجل من أسلافنا لا تلفت أنظارهم إلى الحوادث الدينية ولعلنا لانخرج عن جادة الصواب إذا ما قلنا أن المؤرخين الاستعماريين الذين كتبوا تاريخالمستعمرات إنما كتبوا في الواقع تاريخ النظام الاستعماري الحاكم فقد سجلوا آثارالنظام الاستعماري مما سجلوا تأثر المستعمرين المحكومين بهذا النظام ومعاناتهم لهكما أنهم عمدوا إلى إبراز مزايا النظام الاستعماري وأهملوا بصفة شعورية أو لاشعورية معاناة المحكومين لهذا النظام والصعوبات التي وضعت أمامهم للتحرر من السلطةالأجنبية في حين أن أهالي البلاد المستعمرة لا يرون في مراكز التعمير ومظاهره إلاوسائل مشؤومة لإخضاعهم والسيطرة عليهم فهذا المثال البسيط يعطينا فكرة واضحة عنحدود الموضوعية في التاريخ و يبين لنا أنها حدود ضيقة جدا حتى إذا ما تجاوزنا هذاالنوع من الأمثلة إلى النظرة العامة التي ينظر بها المؤرخ إلى الحوادث التاريخيةوجدناه لا يستطيع أن يأخذ من التاريخ أي عبرة لأنه لا يستمد فلسفته ولا قيمه منالتاريخ بل هو الذي يضفي هذه الفلسفة وهذه القيم على التاريخ مما جعل النازيينوالصهيونيين يرون أن لكل جيل الحق في النظر إلى التاريخ نظرة تتفق مع حاجاتهالوطنية وفي هذا دلالة كافية على الدور الهام الذي تقوم به النزعة الذاتية في النظرإلى الحوادث التاريخية مما يتعين معه على المؤرخ النزيه أن يكون أشد يقظة وانتباهاإلى المزالق التي تعترض سبيله .
النقد: صحيح أن المؤرخ تعترضه بعض الصعوباتوالعقبات في سبيل تحقيق الموضوعية لكن لماذا لا تكون هذه العقبات حافزا له يدفعهإلى الحذر واتخاذ الاحتياطات اللازمة لبلوغ الهدف مجردا من كل طابع ذاتي ثم إن تطورالمناهج قلل من شأن هذه العوائق وصارت الموضوعية أمرا ممكن التحقيق.
الموقفالثاني :إذا كانت الحادثة التاريخية تفلت من الملاحظات المباشرة فإنها تترك آثاراًووثائق يستطيع بها المؤرخ أن يبنيها من جديد وغالبا ما تكون هذه الوثائق متملكة فيالأخبار قدوتها الأجيال السالفة غير أن الأخبار كما يقول إبن خلدون " إذا اعتمدفيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوالفي الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لا يؤمنفيها من العثور وزلة القدم والحيدة عن الجادة " ومعنى هذا أن المؤرخ لا يقبلالشواهد الماضية منها المباني والأدوات والأسلحة وقطع النقد....إلخ وحتى يتحققالمؤرخ من صحة الوثائق التي يعتمدها يجب عليه أن ينقدها نقدا خارجيا يتناول صورةالوثيقة لمعرفة ما إذا كانت الوثيقة محتفظة بهيأتها الأولى وإذا لم يحدث بها أيتغيير ولمعرفة الطريقة التي تم بها صنعها من أجل الوصول إلى مصدرها وينصب هذا النقدعلى الخط واللغة والأشكال
والمصادر إلى ....إلخ ،ثم يتعين عليه أن ينقدهاداخليا ليتناول مضمون الوثيقة ويستعمل فيه المؤرخ القياس التمثيلي الذي تستمدمقدماته الكبرى من علم النفس العام للوصول إلى الأحوال النفسية التي يكون قد مر بهاواضع الوثيقة يجب التساؤل أو أراد صاحبها أن يقول ؟ وهل كان اعتقاده صحيحا؟ إلى غيرذلك ويكون المؤرخ في كل ذلك محتاجا إلى الاستعانة ببعض العلوم المساعدة كعلومالآثار وعلوم الكتابات القديمة والحديثة ومعرفة اللغات القديمة والحديثة ورغم قيامالمؤرخ بهذين النوعين من النقد يبقى معرضا لمزا لق أخرى منها وحدة المصدر وحدةالمشرب .استبعاد بعض الحوادث فقدان الوثائق الهامة وأيضا النزعة الموضوعية التي قدتمنع المؤرخ من التعاطف مع الحادثة التي يدرسها والنزعة الذاتية والتي تبالغ فيالتعاطف مع الحادثة إلى درجة تجعل المؤرخ يضفي عليها ميوله ورغباته .
النقد: لكن هذه الموضوعية مهما تحققت ووصل إليها المؤرخ فإنها لن تصل إلى الموضوعية فيالعلوم الطبيعية وهذا راجع لعوائق ومصاعب كثيرة.
التركيب:إن تجاوز العوائقوإن كان الجميع يدرك مدى صعوبته لكن ذلك ليس مستحيلا على المؤرخ الذي تبقى المعرفةالعلمية دوما ضالته وهو يدرك أنه لا يمكنه بلوغ ذلك إلا إذا تحلى بالروح العلميةوفي مقدمة ذلك الموضوعية.
الخاتمة:ومنه فرغم محاولة الالتزام بالحيادالمنهجي إلا أن الموضوعية في التاريخ تبقى نسبية وتتفاوت من مؤرخ إلى آخر.