خيانة الشركاء:
بعد انقلاب 23 (ﺸﺒﺎﻁ) 1966 الذي خططه وأداره الأسد وجديد من الخلف ونفّذه حاطوم في الواجهة، والذي أطاح برئيس الجمهورية أمين الحافظ ومؤيديه وكذلك مؤسسي حزب البعث ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، شنّت السلطة الانقلابية الجديدة حملة أخرى من التصفيات في أوساط الضباط من غير العلويين، وعلى إثر الانقلاب إيّاه عقد حزب البعث مؤتمراً قطرياً استثنائياً تم بموجبه إحكام السيطرة العلوية على السلطة، حيث عُيّن حافظ الأسد وزيراً للدفاع، وتولّى جديد مسؤولية الحزب بالكامل مع احتفاظه بولاءاته العسكرية، وأقرّت سلسلة ترفيعات كبيرة لضباط علويين استلمت أهم القطاعات في الجيش، فيما تمّ تنصيب الدكتور نور الدين الأتاسي صُورياً كرئيس سنّي للجمهورية، وعلى غير المأمول والمتوقّع شملت التصفيات ضباطاً من طوائف أخرى، حيث تم استبعاد عدد من أهم الضباط الاسماعيليين و الدروز من الجيش، وكان من بينهم ﺤﻤﺩ ﻋﺒﻴﺩ، وطلال أﺒﻭ ﻋﺴﻠﻲ ﻭﻓﻬﺩ ﺍﻟﺸﺎﻋﺭ، وذلك بدعوى تكتلهم الطائفي الذي يناقض عقيدة البعث القومية..!!!
على أن الضحية الأكبر للانقلاب الثاني كان ﺴﻠﻴﻡ ﺤﺎﻁﻭﻡ نفسه، فبعد الإجراءات المذلّة التي تعرض لها أمين الحافظ وكتلته السنية، وكذلك ميشيل عفلق والبيطار وشبلي العيسمي وإيداعهم سجن المزة بظروف مهينة، تنبّه حاطوم إلى المخطط العلوي الذي يسير بثبات وتركيز، وتأكّد له ذلك عندما شملت التسريحات عدداً كبيراً من الضباط و أعضاء الحزب الدروز، فأعلن حاطوم رفضه لهذه الإجراءات واعتبرها طعناً شخصياً فيه، فقام وزير الدفاع الجديد حافظ الأسد بسحب صلاحياته بالكامل وسط ذهول الأخير الذي شعر بالخيانة.
نتيجة ذلك حدثت قلاقل في السويداء استنهضت الجبل، وفي برقية أُرسلت للقيادة القطرية للحزب هدد أعضاء الحزب في السويداء ﺒمقاطعة القيادة القطرية وأوامرها بالكامل ﺇﺫﺍ ﻤﺎ ﺍﺴﺘﻤﺭﺕ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺘﺼﻔﻴﺔ العناصر و ﺍﻟﻀﺒﺎﻁ ﺍﻟﺩﺭﻭﺯ من الجيش والحزب، وبعد زيادة حدّة التوترات هناك، أرسلت القيادة القطرية ﻟﺠﻨﺔ ﺤﺯﺒﻴﺔ ﻋﻠﻴﺎ ﻟﻠﺴﻭﻴﺩﺍﺀ ضمت الرئيس السوري نور الدين الأتاسي، والأمين العام المساعد صلاح جديد، فيما اعتذر حافظ الأسد عن الذهاب وبقي في دمشق، هنا ﺍﻏﺘﻨﻡ ﺤﺎﻁﻭﻡ ﻭﺃﻨﺼﺎﺭﻩ ﻓﺭﺼﺔ ﻭﺼﻭﻝ ﺍﻟﻠﺠﻨﺔ إلى السويداء ﻭﺍﻋﺘﻘﻠﻭﺍ كامل أفرادها، ظناً منه أنه يستطيع استخدامهم كرهائن في مفاوضاته ﻤﻊ حافظ الأسد في دمشق.
اتصل سليم حاطوم بالأسد الذي كان قد متّن أقدامه جيداً في الجيش والحزب، وعرض عليه شروطه التي تتلخص في إعادة اعتبار الكتلة الدرزية، وكان ردّ حافظ الأسد صادماً، فبدلاً من سعيه للتفاوض لإطلاق سراح أصدقائه الأتاسي وجديد فقد أرسل في 8 أيلول 1966 قوة عسكرية قوامها وحدات مدرّعة بالإضافة لكتيبة للصواريخ، وهدد بقصف السويداء وتدميرها فوق رؤوس ساكنيها، من غير أن يقيم أي اعتبار لغضب الدروز الذين كانوا فعلياً فقدوا أي تأثير لهم في الجيش والحزب، وكان هذا أول ظهور سلطوي عنفي واضح للأسد الذي تعوّد دوماً أن يعمل في الخفاء ويبتعد عن الواجهة.
نتيجة هذا الرد الناري تدخل "المشايخ" الدروز للإفراج عن الرهائن، وفشلت خطة حاطوم وهرب إلى الأردن ليعلن ويطلق من هناك حرباً شعواء على الأسد، فقد عقد حاطوم مؤتمراً صحفياً ﻓﻲ عمان يوم 13 ﺴﺒﺘﻤﺒﺭ (ﺃﻴﻠﻭﻝ ) 1966 قال فيه:
"إﻥ ﺍﻟﻔﺌﺔ ﺍﻟﺤﺎﻜﻤﺔ ﺘﻌﻤﺩ إﻟﻰ ﺘﺼﻔﻴﺔ ﺍﻟﻀﺒﺎﻁ ﻭﺍﻟﻔﺌﺎﺕ ﺍﻟﻤﻨﺎﻫﻀﺔ ﻟﻬﺎ ﻭﺘﺤﻝ ﻤﻜﺎﻨﻬﻡ ﻤﻥ ﺍﺘﺒﺎﻋﻬﺎ ﻓﻲ ﻤﺨﺘﻠﻑ ﺍﻟﻤﻨﺎﺼﺏ، وقد ﺒﻠﻐﺕ ﻨﺴﺒﺔ ﺍﻟﻌﻠﻭﻴﻴﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻴﺵ ﺨﻤﺴﺔ ﻤﻘﺎﺒﻝ ﻭﺍﺤﺩ ﻤﻥ ﺠﻤﻴﻊ ﺍﻟﻁﻭﺍﺌﻑ الأخرى".
وفي مقابلة صحفية خاصة نشرتها جريدة النهار في اليوم التالي لذلك قال حاطوم: " ﺇﺫﺍ ﻤﺎ ﺴُﺌِﻝ ﻋﺴﻜﺭﻱ ﺴﻭﺭﻱ ﻋﻥ ﻀﺒﺎﻁﻪ الأحرار ﺴﻴﻜﻭﻥ ﺠﻭﺍﺒﻪ بأﻨﻬﻡ ﺴُﺭﺤﻭﺍ ﻭﺸﺭﺩﻭﺍ ﻭﻟﻡ ﻴﺒﻕَ ﺴﻭﻯ ﺍﻟﻀﺒﺎﻁ ﺍﻟﻌﻠﻭﻴﻴﻥ، إﻥ ﺍﻟﻀﺒﺎﻁ ﺍﻟﻌﻠﻭﻴﻴﻥ ﻤﺘﻤﺴﻜﻭﻥ ﺒﻌﺸﻴﺭﺘﻬﻡ ﻭﻟﻴﺱ ﺒﻌﺴﻜﺭﻴﺘﻬﻡ ﻭﻫﻤﻬﻡ ﺤﻤﺎﻴﺔ صلاح جديد وحافظ الأسد".
ثم ﺒﺘﺎﺭﻴﺦ 28 من ذات الشهر صرّح لجريدة الحياة بما حرفيته: "إﻥ ﺍﻟﻤﺠﻤﻭﻋﺔ ﺍﻟﺤﺎﻜﻤﺔ ﻓﻰ ﺩﻤﺸﻕ ﻋﻘﺩﺕ ﺍﻟﻌﺯﻡ ﻋﻠﻰ ﺘﻨﻔﻴﺫ ﺨﻁﺔ ﻁﺎﺌﻔﻴﺔ ﺒﻐﻴﺔ إﻗﺎﻤﺔ ﻨﻅﺎﻡ ﺍﻨﺘﻬﺎﺯﻱ ﻴﺤﻤﻝ ﺸﻌﺎﺭ ﺩﻭﻟﺔ ﻋﻠﻭﻴﺔ ﺫﺍﺕ ﺭﺴﺎﻟﺔ ﺨﺎﻟﺩﺓ".
بعد فشل خطة خاطوم اعتقل العشرات من الضباط الدروز المتبقين بشكل وحشي، ووجهت إليهم تهم بمحاولة الانقلاب على النظام الحاكم، وتأسيس تنظيمات طائفية تعادي وحدة الأمة، وصدر حكم بالإعدام ضد حاطوم الهارب بتهمة العمالة لإسرائيل والصهيونية، وقد أثارت هذه الإجراءات الشارع الدرزي بشكل أكثر جدية هذه المرة، وهو ما دفع قائد الثورة السورية الكبرى ﺴﻠﻁﺎﻥ باشا الأطرش ﻭﺍﻟﺫﻱ ﻜﺎﻥ ﻻ ﻴﺯﺍﻝ ﻴﺤﻅﻰ ﺒﺎﺤﺘﺭﺍﻡ ﻜﺒﻴﺭ لإرسال ﺒﺭﻗﻴﺔ ﻤﻔﺘﻭﺤﺔ ﻟقيادة الجيش في كانون الأول 1966 قال فيها مهدداً: "أﻭﻻﺩﻨﺎ ﻓﻰ ﺍﻟﺴﺠﻭﻥ ﻤﻀﺭﺒﻭﻥ، وﻨﺤﻤﻠﻜﻡ ﻤﺴﺅﻭﻟﻴﺔ ﺍﻟﻨﺘﺎﺌﺞ، ﻟﻘﺩ ﺍﻋﺘﺎﺩ ﺍﻟﺠﺒﻝ ﻭﻤﺎ ﻴﺯﺍﻝ أﻥ ﻴﻘﻭﻡ ﺒﺎﻟﺜﻭﺭﺍﺕ ﻟﻁﺭﺩ ﺍﻟﺨﺎﺌﻥ ﻭﺍﻟﻤﺴﺘﻌﻤﺭ ﻭﻟﻜﻥ ﺸﻬﺎﻤﺘﻪ ﺘﺄﺒﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺃﻥ ﻴﺜﻭﺭ ﻀﺩ ﺃﺨﻴﻪ ﻭﻴﻐﺩﺭ ﺒﺒﻨﻲ ﻗﻭﻤﻪ، وهذا هو رادعنا الوحيد الآن، مبدئياً نقتصر على المفاوضات".
إثر ذلك أمر حافظ الأسد بتحويل الضباط الدروز إلى المحاكمات واستهلك الوقت بالإجراءات القضائية لحين امتصاص النقمة وتمكينه من السيطرة على السويداء، وبالمحصلة تمت تهدءة الجبل بإطلاق العديد من الضباط الدروز لكن دون أن يعودوا إلى مراكز عملهم.
هذه دلالة أخرى على أن خبث الأسد الذي كان يبني حكمه الطائفي، ويتهم الآخرين بذلك بل ويحاسبهم وينتقم منهم بناء على هذه التهمة.

يتبع.....................